المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 525 - بتاريخ: 26 - 07 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٢٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 525

- بتاريخ: 26 - 07 - 1943

ص: -1

‌حكمة الصين

للأستاذ محمود عباس العقاد

في الحروب شر يتبعه أو يتخلله بعض الخير

فالشر المحض ليس له وجود، ولا سيما في الحوادث الكبيرة، ومن الخير الذي في الحروب أنها تعين على تعريف الأمم بعضها ببعض، وتعليم الناس ما لم يكونوا يعلمونه من شئون البلاد الأخرى. فلا تنتهي حرب بين أمتين أو أمم شتى إلا تركتها وهي أعرف بأحوالها ورجالها مما كانت قبل اشتعالها، ومصداق ذلك ظاهر في الحروب الأوربية القريبة، وفي كل حرب من الحروب الموزعة في جوانب الكرة الأرضية

ومنها حرب الصين واليابان

فالأوربيين كانوا يذكرون الصين في القرن الماضي فلا يذكرون بها غير الأفيون والخطر الأصفر، والحائط الأعظم الذي يحيط بها منذ قرون. وقد يذكرون الرسوم والنقوش والآنية وطرفا من الحكمة التي تنسب إلى كنفشيوس، فإذا بهم قد ذكروا عنها كل ما يعرفون، أو كل ما أرادوا أن يعرفوه!

أما اليوم فالصين بلاد مكشوفة يكتب عنها في لغات العالم كما يكتب عن البلاد الأوربية، ويقرأ الناس ما يكتبه أدباؤها وما يكتبه أدباء العالم عنها، ويحسب جمهور القراء في المسائل الصينية بمثابة الألوف بين جميع الأجناس والألوان

وأشهر أدباء الصين الذين عرفناهم بعد حربها الأخيرة هو لن يوتانج غير مدافع

آخر ما قرأناه له مقال في مجلة أمريكية عنوانه (ما بالك لست بفيلسوف؟):

خلاصته أن الشرق والغرب يجب أن يلتقيا، أو هما قد التقيا، وأن التقاءهما ضروري لأن إدراك العقل لطبيعة الإنسان قد تغير، كأنك قد عمدت إلى بناء فحطمت قواعد فهو لا يتماسك ولا يعاد تعميره ليسع العالم الجديد حتى يشترك في بنائه كل من سيأوي إليه، وهم الشرقيون والغربيون

قال ما فحواه: لما قرأت أن وندل ويلكي كان في شنكنج يوم الجمعة وعاد إلى أمريكا يوم الاثنين ذعرت!. . . أهي فسحة آخر الأسبوع بين قارتين؟ إن الشرق والغرب إذن لملتقيان

وستطرد قائلاً: إن عالماً جديداً ينبغي أن يسبك من عناصر الثقافات الإنجلوسكسونية

ص: 1

والروسية والشرقية؛ وأن حكمة الشرق هنا غناء كبير

وراح يسأل: هل للصين فلسفة أو مذهب فلسفي كمذهب ديكارت مثلاً أو كانت أو غيرهما من المذاهب التي تقيم لنا بناء منطقياً شامخاً للتعريف بأسرار الكون؟

ثم أسرع يجيب: كلا، مع الفخر!

فأما (كلا) فهذا صحيح وينطبق على الصين كما ينطبق على بلاد شرقية كثيرة

وأما (مع الفخر) فهذا الذي فيه قولان أو أكثر من قولين

والواقع أن فلسفة الصين كلها تنحصر في موضوعين متقاربين: أحدهما آدب السلوك، والآخر رياضة النفس على علاج الأهواء ومسايرة الحياة

ومن كلام لن يوتانج هذا: (إنني - حين أتكلم بلسان الرجل الصيني - لا أحسب أن حضارة من الحضارات تسمى كاملة ما لم تنتقل من التكليف إلى رفع الكلفة، وترجع عن. وعي وشعور منها إلى بساطة التفكير والمعيشة، ولا أصف رجلاً بالعقل ما لم يكن قد تقدم من حكمة الحصافة إلى حكمة الحماقة، وأصبح فيلسوفاً يشعر بمأساة الحياة ثم يشعر بمهزلتها إذ لابد لنا من البكاء قبل الضحك، لأن الحزن يصير إلى اليقظة واليقظة تصير إلى ضحك الفيلسوف، وملء هذا الضحك ولا ريب الرحمة والسماحة

وهذا الذي يقوله فيلسوف الصين الحديث هو إعادة عصرية لما كان يقوله فيلسوفها القديم كنفشيوس، أو هو إعادة لكل فلسفة صينية حفظت لنا مسطوراتها إلى اليوم، وخلاصة رياضة النفس والتغلب على الأحزان

ففي بعض أيام كنفشيوس بلغت به المحنة أن أهدر دمه بين أميرين متنافسين، كلاهما يقصده بالسوء وليس منهما من يحميه. ومضت عليه سبعة أيام بغير طعام غير حساء الأعشاب التي تجمع من الخلاء، فشحب وجهه وهزل بدنه ولكنه لم يزل في مجلسه يترنم على قيثارة. فلما تبرم تلاميذه بهذه المحنه، دعاهم إليه وناداهم:(ما هذا الذي تقولون!. . . إن المصاعب هي التي تعلمنا الهداية إلى الطريق، وإنما في صبارَّة الشتاء تعرف حق المعرفة نضرة الربيع. وإن هذه الفتنة بين الأميرين لهي حظي السعيد) واستدار مترنما إلى كوخه وهو محبور الفؤاد

هذه هي الحكمة الصين بحذافيرها: آداب سلوك ورياضة نفس وخروج من ذلك كله

ص: 2

بالصبر على مصاعب الحياة

ولم انحصرت حكمة الصين في هذين الموضعين؟

لأن (البلاط الملكي) فيها قديم، وما زال البلاط الملكي هو المصدر الأول لآداب السلوك وأصول الكياسة ورياضة النفس على السمت اللائق والعرف الجميل

فأصبحت القدوة المطلوبة هي الأخلاق التي تحمد في معاشرة الملوك، وأصبح قوام الحكمة كلها هو السلوك والرياضة، بل أصبح الرجل الذي يروض نفسه على مسايرة الناس واحتمال سيئاتهم مرشحا للأمارة والملك، حيث يخفق الرؤساء والكبراء

ومن نوادر التي تساق في معرض هذا المعنى نادرة في كتابهم المشهور (سفر الأسانيد) تجري على النحو الآتي: قال الأمير: من يجد لي رجلاً أرفعه إلى مرتبة الوكالة عني؟ فقال له بعض الحاشية: ابنك يا مولاي تلوح عليه مخائل الذكاء قال الأمير: كلا فإنه شكس عنيد. أتراه يصلح لما نعهده إليه؟

وقال غيره من رجال الحاشية: إن الوالي فلانا يصلح لها

فقال الأمير: كلا. لأنه يتكلم عن الأعمال العظيمة ولا يعمل شيئاً، وأمانته ظاهرة ليس لها قرار

قال بعضهم: ليس لها إلا (كون) المدير القدير

فأجابهم الأمير: كلا. كلا إنه يحيد عن القانون ويبني القناطر لنفسه إذا عم الفيضان. يعني أنه يجر النفع إلى ناحيته ولا يحفل بمصالح الناس

وعاد يسألهم أن يجدوا له رجلاً قديراً على ما يرجوه منه ولو لم يكن من النابهين الذين تقلدوا المناصب واشتهروا بين ذوي المقامات

فذكروا له رجلا من عامة الناس

قالوا للأمير حين سأل عنه إنه ابن رجل ضرير من الأجلاف أمه صخابة سبابة، وأخوه صلف شديد الخيلاء، ولكنه عاش معهم ووفق بينهم وأبطل شكايتهم ونزع منهم داعية الشر، فهم هادئون وادعون

قال: إنه طلبتي، وعلي اختباره

فحكمة الصين برعت في أدب السلوك ورياضة النفس لأنها نشأت من البلاط العريق ولم

ص: 3

تزل منذ نشأتها تدور حوله وترجع إليه

لكن هذا يفسر لنا نشأة الفلسفة السلوكية ولا يفسر لنا امتناع الفلسفة الكونية، فلماذا امتنعت الفلسفات التي تبحث في نظام الكون وسر الحياة وموضع الإنسان من هذا الوجود؟

لماذا لم توجد في الصين فلسفة أو مذاهب فلسفة كمذهب ديكارت وكانت وهجل وبرجسون وغيرهم من فلاسفة أوربا في العصر الحديث؟

الكهانة العريقة إلى جانب البلاط العريق

فالكهانة العريقة تفسر لنا امتناع الفلسفة الكونية، لأن الكهانة تستأثر بأسرار الخلق وعبادة الخالق ولا تطيق المزاحمة من المفكرين في هذه الصناعة

وقد امتنعت الفلسفة الكونية في أوربا حين قامت الكهانة ودانت لها الشعوب بالصولة ورجع إليها الأمر كله في العلم والتعليم والبحث عن حقائق الأشياء

فلما زالت هذه الصولة ظهرت الفلسفات الكونية بمقدار زوالها، واشتهر القرن الثامن عشر وما بعده بتلك الفلسفات لأن العقول انطلقت في القرن الثامن عشر من حكم الكهانة العريقة واستباحت البحث فيما كان قبل ذلك حكراً موقوفاً على رجال الدين

وعلى هذا ليست المسألة مسألة فخر للصين أو لغير الصين لأنها برعت في حكمة السلوك ولم تبرع في الحكمة الكونية؛ وإنما هي مسألة موانع طبيعية عاقت الوظائف العقلية عن غايتها التي ينبغي أن تتجه إليها ولا تحتبس دونها، فهي نقص وليست بكمال، وهي ضرورة مفروضة وليست بالمزية المقصودة، كما أراد أن يصورها فيلسوف الصين الحديثة

وفي العهد الذي تتعاون فيه العقول على بناء العالم الجديد من عناصر الثقافات المختلفة ينبغي أن تتمثل لنا هذه الحقيقة ولا نغفل عنها

ينبغي أن نعلم أن حكمة السلوك ورياضة النفس إنما هي حكمة تراد لتيسير (المعيشة) أي للمنفعة والراحة

ولكن (المعيشة) ومنافعها دون (الحياة) ودوافعها

فنحن نحسن السلوك ونروض النفس لنعيش في سلام

ولكننا نفسر نظام الكون ونستجلي أسرار الطبيعة لنفقة نصيبنا من الحياة، ونتجاوز تيسير

ص: 4

المعيشة إلى تحقيق معنى الوجود

والعالم الجديد ينبغي أن يكون عالم معيشة وحياة، وأن يسمو فيه الإنسان عن طلب الراحة إلى طلب الكمال، وعن تهدئة خواطره إلى توسيع تلك الخواطر وتقريب ما بينها وبين المثل الأعلى

وإلا فهو عالم (مادي) محدود وإن تظاهر بالزهد والحكمة، ولا فرق في الجوهر بينه وبين النازية والفاشية والعسكرية اليابانية، وهي العلة التي من أجلها نلتمس الخلاص من العالم المتداعي إلى العالم الجديد

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

إلى الأستاذ إبراهيم المازني

صديقي

حدثتنا مجلة آخر ساعة أنك سئلت عني فأجبت (لو أخلى زكي مبارك كتابته من الحديث عن زكي مبارك لكان أحسن مما هو الآن)

وبمثل هذا أجاب الأستاذ عباس العقاد حين سألته مجلة الاثنين، فكيف تم التوافق بينك وبين صديقك فيما كتبتما عني؟

أهو من باب توارد الخواطر، ووقوع الحافر على الحافر، كما كان يقال؟ أم هو موصول بقصة المسيو ديبون؟. . . ومن ديبون؟ هو رجل فرنسي صنع شراباً سماه باسمه وأعلن في جميع البقاع الفرنسية، فما تسير في شارع ولا تدخل قهوة ولا تركب قطاراً إلا وجدت اسمه مسطوراً بأحرف كبيرة تبهر العيون. ولم يكتف بذلك، بل وضع لوحة مسجوعة بهذا الوضع الطريف

،

وقد هالني هذا الإسراف في الإعلان فسألت صديقاً فرنسيا عن السر فيه فأجاب:

ذلك الرجل يعرف العادة المتبعة في القهوات الفرنسية، العادة التي توجب أن يسألك غلام القهوة عما تطلب قبل أن تجلس، فتنطق بأكثر الأسماء وروداً على بالك وهو ديبون!

والأمر كذلك فيما يتصل بحياتي الأدبية، فقد قال الدكتور طه حسين مرة: إن أكثر أديب زكي مبارك في الحديث عن زكي مبارك. فلما سئل الأستاذ العقاد عني وجد هذه العبارة في باله فأجاب. ولما سئل الأستاذ المازني عني وجدها في باله فأجاب

وكذلك تعاد قصة المسيو ديبون في القاهرة بعد أن سئمها الناس في باريس

وهنا مشكلة لا أكتمها عنك، وهي الخوف منك، ولكن كيف؟

أنا لا أبالي نقد الدكتور طه حسين إياي، لأنني نقدته بمائة مقالة ومقالة، فمن السهل أن يقول الناس إنه ينتقدني وفي نفسه أشياء

وأنا لا أبالي نقد الأستاذ العقاد إياي، لأن بيننا أحقاداً تنشر في حين وتطوى في أحايين

ص: 6

الخوف كله من نقدك، لأنك صديق حميم، ولن أجد من يتهمك بالتحامل حتى أطمع في أن يكذب الناس ما تقوله عني

يضاف إلى هذا أنك مسموع الكلمة، وأن الجمهور لا يفطن إلى قدرتك على قلب الحقائق. وهل أنسى ما صنعت بنفسك وبصديقك العقاد؟

كانت العيون ترى قبل عشرين سنة أنك طويل جداً، وأن العقاد قصير جداً، فشاء برك بصديقك أن تزعم أنك القصير وأنه الطويل، وما زلت تبدي وتعيد حتى آمن الناس بقولك وظنوا أنك قزم وأن العقاد عملاق!

وبنوا آدم يصدقون ما يسمعون وما يقرءون، قبل أن يصدقوا ما تحدثهم به العيون والقلوب

من أجل هذا أنقض حكمك علي، وأرجو أن تكف عني شرك وإن لم تكففه عن نفسك، فما بي حاجة إلى صديق يسير على طريق المسيو ديبون

وماذا تنكر من حديثي عن نفسي؟ وماذا ينكر صديقك العقاد؟ وماذا ينكر الدكتور طه حسين؟

هل كان أدبك يا صديقي المازني إلا دوراناً حول نفسك؟ وهل كتب الأستاذ العقاد مقالاً أقوى من مقاله الأخير في مجلة الرسالة عن الأزمة التي صاولت روحه يوم احتلال العلمين؟ وهل كتب الدكتور طه أقوى مما كتب في الحديث عن طفولته وصباه؟ إن تصوير هموم النفس وما يحيط بها من مخاوف وآمال هو أدب صحيح جعلته الكتب السماوية من شمائل الأنبياء، فما العيب في أن يكون الحديث عن النفس من خصائص أدبي؟ وهل يمكن أن أتعرف إلى الوجود قبل أن أتعرف إلى نفسي؟

وهل كانت روائع الأدب في جميع الأمم إلا أحاديث نفسية؟

ما هو سفر أيوب الذي ترجم إلى اكثر اللغات؟

ألم تكن أصالته في التعبير عن المخاوف الروحية؟

وهل كانت أكثر القصائد الخوالد إلا إفصاحاً عن عواطف ذاتية؟

قال ديكارت: أنا أفكر، فأنا إذاً موجود

،

ومن معاني هذه العبارة أن الشعور بالنفس هو أساس الشعور بالوجود

ص: 7

لا موجب للمداورة في محاورتك، فأنت لم تنكر علي الحديث عن النفس بمدلوله المعروف عند رجال الأدب، ولا كان هذا ما أنكره الدكتور طه والأستاذ العقاد، وإنما تنكرون الثناء على النفس، وهذا يقع من حين إلى حين، والثناء على النفس يضايق الناس حين يكون ثناء بالحق، وإلا فمن الذي استطاع أن يكذبني حين أثنيت على نفسي؟

ولكن هل جال في خاطرك أن تبحث عن السر في هذه النزعة النفسية؟

هل حاولت إدراك الأسباب للتكبر الذي أقع فيه كارهاً غير طائع؟

لو أنك فعلت لعرفت أني لا أتكبر إلا متحدياً، والتحدي نزعة طبيعية تطوف بالنفس حين تفكر في دفع الجحود والعقوق

وإليك شاهداً من مقالك بجريدة البلاغ في مساء هذا اليوم (18 - 7 - 43)

في كلامك عن (قصة الأدب في العالم) أثنيت على رأي المؤلفين الفاضلين أحمد أمين وزكي نجيب حين قررا أن عمر بن أبي ربيعة لم يقتصر على معشوقة واحدة، وإنما تبع الحسن أنى كان، بخلاف ما كان عليه أمثال قيس وكثير وجميل

ثم تحمست للأمانة الأدبية والتاريخية فقلت:

(وهذا تفريق سبق إليه العقاد في كتابه (شاعر الغزل) وقد بسطه بسطاً وافياً وتوسع في بيانه. ولست أقول إن المؤلفين الفاضلين أخذا هذا التفريق عنه، فليس ما يمنع أن يتنبها إليه، ولكني أقول إن الأستاذ العقاد سبقهما اليه، فمن الإنصاف أن يذكر له فضل السبق ويسجل)

وهذه حماسة مشكورة، وهي من بعض صفاتك الطيبات، ومن الواجب أن نتلقاها بالترحيب، ولكن هذه الحماسة نفسها تقابل بالإنكار حين تصدر عني، كأن أقول بالرد عليك إن أول من سجل هذا الرأي في كتاب طبع ثلاث مرات هو المبارك لا العقاد

إن كتاب (حب بن أبي ربيعة وشعره) طبع أول مرة أوائل سنة 1919، وهذا الرأي مدون في أول طبعة، فهل تكره أن أثني على نفسي فأقول إني سبقت العقاد إليه بأكثر من ثلاثة وعشرين عاما؟

وما أقول إني كنت في بالك حين سجلت للعقاد ذلك السبق، فمن المحتمل أن يغيب عنك أني أول من أصدر كتاباً عن شاعر الغزل، وأن كتابي كان المنار لكل من تحدثوا عن ذلك

ص: 8

الشاعر الفنان.

وأنا في الواقع أتعجب من استهانه الباحثين بالأمانة العلمية في هذا العهد، فما يمر أسبوع بدون مفاجئات غريبة تتمثل في سرقات جريئة من مؤلفاتي ومقالاتي، وأنا مع هذا أسكت لئلا يقال إني أكثر من الحديث عن نفسي!

وإصرارك وإصرار صديقك على أن هذا من عيوبي لن يصدني أبداً عن النص الصريح بأن خلائق كثيرة تنهب آرائي علانية وتعيش بها عيش السعداء

هل تذكر ما قال بعض الناس حين جازيت العقاد قتالاً بقتال؟

قالوا إنني أثنيت على العقاد من قبل، فكيف أهدم ما بنيت بالأمس؟

والاعتراض صحيح، ولكن المعترضين غفلوا عن أسباب ذلك الثناء، فقد أردت أن أشرح لطلبة السنة التوجيهية عناصر الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، وعند ذلك تذكرت أني مدرس يعلم تلاميذ، ومن واجب المدرس أن ينزه أحكامه عن الأهواء

وأثني على نفسي فأقول إن تلك الدراسات نفعت المتسابقين اجزل النفع، وقد شكا الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ إبراهيم مصطفى من تأثير تلك الدراسات في عقول الطلاب، وقالا في دعابة إنهما سيرجوان المعارف أن يشير بأن لا تعاد تلك الدراسات في مجلة الرسالة، بعد أن ظهر أنها تكثر من عدد الفائزين!

بهذا الصدق في الأحكام الأدبية أنصفت نحو عشرين باحثاً من رجال هذا الجيل، وفيهم خصوم ألداء يشرفون بريقهم حين يسمعون اسمي

فأين من يملك من الصدق بعض الذي أملك؟

المازني وحده يستطيع أن يجاريني صدقاً بصدق، فقد وقف بجانبي وقفة كريمة، يوم الدكتور طه على صفحات الرسالة إن كتاب النثر الفني كتاب من الكتب أخرجه كاتب من الكتاب

ولكن هل يستطيع الأستاذ المازني أن ينصف خصومه كما انصف أعدائه؟

لقد يئست من إنصاف الناس، فكيف نفسي؟

في كتاب (ملامح المجتمع العراقي) ثناء على الأستاذ المازني والأستاذ الزيات، فهل قدمت نسخة من هذا الكتاب إلى أحد هذين الرجلين؟

ص: 9

عز علي أن أظهر بمظهر من يمن على الصديق، واستغنيت عن تقريظ الرسالة وتقريظ البلاغ، اكتفاء بما أثنيت به على نفسي في مقدمة الكتاب!

وأعجب العجب أني أهديت كتابي إلى رجل لا ينتظر مني أي معروف، ولا أنتظر منه أي جزاء، ليكون في عملي شيء لوجه الله والوجه الوطنية، وهو رجل سبقنا إلى التشرف بخدمة العلم في العراق، ولم يحفظ له مواطنوه بعض ما حفظ له العراقيون

وأنا بعد هذا أسأل من يؤذيهم ثنائي على نفسي، أسألهم متى يجاهدون في الأدب كما أجاهد؟ ومتى يعانون في سبيل الأدب ما أعاني؟

أين الزميل الذي يقول إنه أحرص مني على الوفاء بحقوق القلم البليغ؟

أين الشخص الذي يملك الزعم بأنه نفعي؟ ومن هو المخلوق الذي يتوهم أن له ديناً في عنقي؟ ومن هو الروح الطاهر الذي يطمع في السيطرة على شيطانية روحي؟

كانت الغاية عندي أن أقيم الدليل على أن لوطني وجودية تحميه من الأباطيل، وكانت حياتي شاهداً على صحة ما ابتغيت، فما استطاعت قوة أن تهد مني، ولا جاز في وهم مخلوق أن يراني من أتباعه، ولو كان أعظم العظماء

أنا أخاطب رجلاً هو الأستاذ المازني، أخاطب رجلاً يسره أن يعلم أني أسيطر على شآبيب من الدواهي المواحق، وسأصبها على أعدائي حين أشاء

إن أدبي من صنع الله، وثقة الجمهور بأدبي من فضل الله، ولن أرتاب لحظة في أني أول كاتب وأول مؤلف وأول شاعر في هذا الزمان

هاتوا برهانكم يا خصومي إن كنتم صادقين!

هاتوا برهانكم، هاتوه، إن استطعتم الاعتصام بخيوط الأحلام أنا أثني على نفسي؟؟

هو ذلك، لأني أسهر الليل في مسامرة قلمي، ولأني أومن بأن الاعتماد على الماضي هو ثروة السفهاء من الوارثين

سنلتقي غداً وبعد غد، وسيكون صرير الأقلام أخطر من قعقعة السيوف

وإلى اللقاء، ولعله قريب!

زكي مبارك

ص: 10

‌2 - المسرح المصري

وكيف نشيده على دعائم ثابتة

للأستاذ دريني خشبة

بينا في الكلمة السابقة ما ينبغي توفيره لجميع رجال المسرح من الكرامتين المادية والمعنوية، وبينا نصيب كل من وزارتي المعارف والشئون من مهمة إنهاض المسرح المصري وموالاة العناية به حتى يقوى عوده ويشتد ساعده؛ لأنه بذلك يكفل لنا نهضة اجتماعية ونهضة إصلاحية ونهضة في اللغة ونهضة في الأدب ونهضة في الأمن ونهضة في الذوق العام ونهضة في جميع فروع الحياة المصرية، بل نهضة الأمم العربية قاطبة في كل فروع حياتها

وبينا كذلك ما يجب على بلديات المدن المصرية جميعاً أن تساهم به مهمتهم لا تقف قط عند حدود مراعاة النظافة في مدنهم وتجميل شوارعها، وغرس الأشجار على جوانب الطرقات، وما إلى ذلك من عمليات الكنس والرش والإضاءة وتوفير المياه المرشحة وإنشاء المجاري. . . كلا. . . إن مهمة أعضاء البلديات لا تقف قط عند حدود هذا الجهاد الأصغر، كما قال مرة أحد مشجعي النهضة المسرحية في ألمانيا. . . بل إنها تتعدى تلك الحدود إلى جهاد أكبر يفوقها قيمة وجدوى. . . ذلك هو العمل على رفع مستوى الشعب وحياته الاجتماعية. . . فيجب ألا يقتصر الكنس على شوارع المدينة وحاراتها، بل ينبغي أن يتناول القاذورات المختبئة في نفوس الأفراد أيضاً. . . وإذا نجحنا في إزالة هذه القاذورات استطعنا أن نضاعف نظافة المدينة وأن نزيد في جمالها ورونقها. . . والحمد لله، فلقد تنبهت بلديات كثيرة مصرية إلى واجبها نحو الثقافة العامة، فأنشأت دور الكتب والمسارح التي اقتصرت إلى الآن على عرض الصور المتحركة، فلتكن هذه باكورة نهضة مسرحية إقليمية نحكي بها ما قام في إنجلترا من المسارح المتنقلة، الـ ومسارح المدن الخاصة التي سمينا الكثير منها في الفصول السابقة عن المسرح في أوربا

فإذا وجد المسرح المصري على هذا النحو، فلا مندوحة من أن يبدأ حياته على صورة ما من صور مسارح المستودعات، وذلك إلى أن توجد الدرامة المصرية الحقة التي يمكن أن تأخذ مكانها بين الدرامات العالمية المثالية، والتي نستطيع إخراجها على صورة تمثل مصر

ص: 11

تمثيلاً صادقاً لا بهرج فيه ولا تهريج

ولما كانت مسارح المستودعات الـ تعنى بتمثيل الدرامات العالمية - أو الوطنية - التي سبق تمثيلها قبل عنايتها بإخراج روايات جديدة فسيواجه مسرحنا مشكلة نقل طائفة كبيرة من أشهر الدرامات الأجنبية إلى اللغة العربية. . . وقد عرضنا في كلمة سابقة لهذه المشكلة وأثبتنا تقصير الهيئات جميعاً في معالجتها. . . ونحن ما نزال عند الذي قلناه في هذا الصدد، ولن يضيرنا أن ينقم علينا من ينقم ما دمنا نقول الحق وننشد الخير. . . فالدولة - ممثلة في وزارة المعارف - لم تتناول بعد مشكلة الترجمة بما ينبغي لها من عناية ورعاية. . . وتقصير الدولة في ذلك يؤخر نهضتنا ويقعد بها ويؤذيها، كما يؤخر الأدب واللغة ويقعد بهما ويؤذيهما. . . وإن تأخرت نهضتنا وتأخر أدبنا ولغتنا تأخرت عجلة الحياة في مصر بل في الشرق العربي عامة

إنه لابد من حركة ترجمة واسعة شاملة للأدب الأوربي بوجه عام، وللآداب المسرحية بوجه خاص. . . يجب أن تتصل نهضتنا بأقطاب الفكر العالمي عن طريق ترجمات عربية قوية لروائعهم التي تمد مكتبتنا بثروة ليست بعدها ثروة، فيجد شبابنا ما يثقف به نفسه من ذلك الغذاء الروحي العظيم الذي سيظل محروماً منه ما دام محبوساً عن لغتنا. . . يجب أن تعرف المكتبة العربية جميع روائع شكسبير ومارلو وبن جونسون وتشايمان وشريدان وكونجريف وباري وشو وجولذورثي وويلد وباركر وما سفيلد وسينج وبيتس وروبنسن وغيرهم من أساطين الدرامة الإنجليزية

يجب أن تعرف المكتبة العربية جميع الطرف السامية التي أنتجتها قرائح آلهة المسرح الفرنسي من أمثال: موليير وراسين وهاردي وكورني وجان روترو وكوينولت وكريبلون وهوجو وسكريب وروستان

إلى متى تحرم المكتبة العربية من درامات المسرحيين الأسبان أمثال: ناهارو، ولوب دي رودا، ودي أرجنسولا، وما أبقت عليه يد العفاء من درامات سرفنتس، ثم لوب دي فيحا العظيم الذي يؤثر أنه ألف للمسرح ألفاً وثمانمائة درامة بقي منها أكثر من أربعمائة إلى يومنا هذا، ثم تروسو دي مولينا، وكالدرون، وألاركون، وزورللا، ودي جويفارا، ودي موراتان، وتامايو، وجوسي إشجاري، وبلايو، وبلاسكوإباني

ص: 12

ومتى يستطيع القارئ العربي أو المسرح العربي الاستمتاع بدراما المسرحين الإيطاليين أمثال: ترسينو، تاسو، أريوستو، مكيافللي، جواريني، مافي، زينو، ألفييري، جولدوني، كارلو جوزي، متاستاسيو، مونتي، فوسكولو، مانزوني، نيكوليني، كوسا، داننزيو وبيراندللو؟

ولنذهب برقشة مقالنا بأسماء المؤلفين المسرحيين في الأمم المختلفة إلى حد المغلاة، فنذكر والحسرة تملأ جوانحنا أن المكتبة العربية محرومة من ترجمات لدرامات النوابغ الجرمانيين: يعقوب ومفلنج، وستلتس، كرشماير، لسنج، ويس، إشنبرج، جوته، كلنجر، مللر، شللر، كوزنر، شليجل، جرلبارزر، هيل، جراب، موسن، لدفج، هالم، رايموند، لوب، أنزنجروبر، سودرمان، هرشفلد، ويلدنبروخ، هوبتمان؛ كما أنها محرومة حتى من نموذج واحد من الدرامات التعبيرية التي وضعها جورج قيصر، وأرنست تللر، وسترنهايم، ويولنبرج، وهاردن، وبول إرنست، وفرانز ورفل

وماذا نقل إلى اللغة العربية من درامات المسرحين الهولنديين هامسن، وشمل، ونوهانز، ودي كو، وهايرمانز، وسيمونز ميز، وألفونس لودي؟

وماذا تعرف العربية من درامات هولبرج، وإبسن، وهيبرج، وكجار، وبراتمان، وهانز كنك النرويجيين؟

وهل تعرف المكتبة العربية درامات بلانشن، وسترند برج السويديين؟

وهل تعرف مكتبتنا الدراميين الروس ماياكوفسكي، وترتياكوف، وليولنتس

وهل نقل إلينا شيء من درامات التشكيين لفوفيك، ودفوراك، وفشر، وكارل كابل الذي مثلت جميع دراماته في جميع مسارح العالم؟

وبعد:

فلقد تعمدت أن أسلم القارئ العربي لهذا التيه المضل من أسماء كتاب الدرامة وشعرائها ليعلم إلى أي حد نحن محرومون من هذه الثروة الذهنية الهائلة التي ينعم بها أهل اللغات الأخرى لأنها مترجمة إليها. . . وأننا محرومون منها بسبب إهمال وزارة المعارف وتكاسل الجامعة وكبار الأدباء الذين لا يجدون تشجيهاً ولا حافراً

لقد أهملت مئات من كتاب الدرامة فلم أذكرهم لأنهم ممن كتبوا أقل من عشر روايات. . .

ص: 13

ومع ذاك فقد ذكرت أشهر المكثرين فقط، ولو أراد أحد سرد أسمائهم جميعاً لضاق بهم نطاق أعداد عديدة من هذه المجلة. . . وكنت أوشك أن أسرد عشرات من كتاب الدرامة اليابانية التي لا تقل رونقاً عن الدرامة الأوربية، إلا أنني حسبت حساب تلك الابتسامات المرضية المتورمة التي تؤول ما أردت من ذكرها أسوأ تأويل. . . ولهذا أيضاً غضضت الطرف عن أبطال الدرامة الأمريكية في ممالكها

إن في عالم الأدب دنيا بأكملها من الررامة الراقية واكبت كل عصور التاريخ. . . فمتى تكون لنا درامة عربية ياترى؟ وكيف تكون لنا درامة عربية ونحن لم ننقل مائة أو مائتين من عشرات آلاف الدرامات العالمية لينسج كتابنا على منوالها، وليكب شبابنا على قراءتها فتترك في قرائحهم خمائر التفكير اللازمة للإنتاج الذي نطمح به ونفكر فيه، ثم هي تعلمهم كيف يقسمون فكرة الرواية إلى فصول، وكيف يقسمون الفصول إلى مناظر، وكيف يمهدون للمفاجئات، وكيف يسلسلون الحوار. . . ثم كيف يخلقون لنا درامة مصرية تعالج مشكلاتنا وتتناول قضايانا وتسلك أدبنا في كوكب الآداب العالمية الراقية التي يمثلها الأدب المسرحي أحسن تمثيل وأصدقه

إلى متى يا ترى يظل أدبنا يباباً فارغاً هكذا؟

على رسلك أيها القارئ الذي يظن بي الظن، فأنا لا أقل عنك غيرة على الأدب العربي، وبالأحرى على الأدب المصري؛ وأنا أقدر لغتي العربية بل أقدسها، لكني مع ذاك أعترف بأن الأدب العربي سيظل وسوف يظل وراء الآداب العالمية قاطبة، ما لم نسلك فيه الأدب المسرحي وآداباً أخرى غير الأدب المسرحي ليس هنا مقام ذكرها. . . والسبيل إلى أن نسلك في أدبنا هذه الألوان من الأدب لابد أن تبدأ بالترجمة. . . لنترجم عن أدباء إنجلترا وأيرلندة وفرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وأسبانيا والسويد والنرويج وتشكو سلوفاكيا وبولندة وروسيا وأمريكا. وعن أدباء اليابان والصين إن وجدنا إلى الترجمة عنهم من سبيل لنترجم عن هؤلاء وهؤلاء، فلقد أصبح لكل أمة أدب قومي مستقل كما أصبح لكل أمة مسرح قومي مستقل. . . إلا مصر وإلا الشعوب العربية قاطبة، فأدبها ما يزال أدب تراجم وقصائد ومقالات. . . وإن شدا من القصة نصيباً ضئيلاً لا غناء فيه نعد

وما دامت الترجمة هي السبيل الوحيد الآن أمامنا لنخدم أدبنا المصري وأدبنا العربي

ص: 14

ولنخدم مسرحنا ولنخدم لغتنا، فماذا يقعدنا عن التوسع فيها توسعاً لا نبخل عليه بجهد أو مال، ولا يصح أن نبخل عليه بجهد أو مال، وإلا أثبتنا أننا أمة من الأميين. . . ممن يفكرون كثيراً وينفذون قليلاً. . . بل لا ينفذون شيئاً

كيف يستكثر علينا مستكثر أن نصرخ في آذان وزارة المعارف لكي تقوم بواجبها في هذه السبيل فتولي عنايتها إدارة الترجمة بها وتشجع المترجمين بالمبالغ الضخمة التي تحفزهم وتشحذ همهم

لماذا لا ترفع عدد المترجمين الفنيين إلى مائة أو مائتين بدل هذا العدد الذي لم يرتفع إلى عشرة بعد؟

لماذا لا يتنوع المترجمون فينقلون من الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية واليونانية القديمة ومن اللاتينية والروسية؟

لماذا لا ترصد المبالغ الضخمة لهذه الإدارة التي لا تقل فائدتها للبلاد واللغة والأدب والعلم عن الجامعة ولا عن مجمع اللغة ولا عن مصلحة الآثار؟

ومتى يتاح لوزارة المعارف عصر كهذا العصر الديمقراطي الذي يعنى بصالح الأمة فيهيئ لأدبها ولغتها هذا الإصلاح؟

ومتى يتاح لوزارة المعارف رجلان كالرجلين اللذين يرسمان سياستها ويقودان سفينتها، فتكون فرصة إدارة الترجمة، وفرصة الأدب العربي، وفرصة اللغة، وفرصة المسرح، وكل فرص الحياة الثقافية العامة في وجودهما، ولتعز إدارة الترجمة، وليعز الأدب العربي، ولتعز اللغة العربية، وليعز المسرح المصري ورجاله الشهداء الأوفياء؟!

. . . ليقل جاهل أو غبي كما قال من قبل، إن هذا كلام له ما وراءه. . . لا. . . فنحن بحمد الله مستعدون للارتداد إلى خطوطنا الأولى. . . ولذلك فإنا لا نبالي بأن نلاحظ على وزارة المعارف تقصيرها في العمل للنهضة الثقافية بمصر، بالرغم مما هيئ لها من زعامة أدبية خالصة كانت لمصر فيها آمال كبار؛ وما تزال لها فيها تلك الآمال الكبار. وإنا لن نمل من الكتابة في هذا والتبشير به والإلحاح فيه، حتى تبلغ منه نهضتنا ما تريد

على أن التفكير في إنشاء معاهد كثيرة للتمثيل، لابد أن يسبقه تفكير في نقل عدد كبير من الدراسات الأجنبية الرائعة لأشهر الكتاب الدراميين كي تجد المعاهد ثروتها من الروايات

ص: 15

التي تتخذ نماذج لتطبيق دراساتها كما تجدها مهيأة للتمثيل. . . وإلا فهل نحن معتزمون أن تكون الدراسة في تلك المعاهد بالعربية ثم يكون التطبيق العملي بلغة أجنبية؟

وإذا نحن سلمنا بهذا ونقلنا عدداً كبيراً من الدراسات الأجنبية، لزم أن نلخص تاريخاً عاماً للمسرح في الممالك المختلفة ليلم الممثلون بتاريخ المؤلفين وتاريخ التطور المسرحي في كل منها. والقيام بعمل هذا الملخص لتاريخ المسرح يصح أن يوكل لهيئة من المترجمين، أو أن يكون قسمة بين إدارة الترجمة ومدرسي معاهد التمثيل.

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 16

‌كيف بدأ الإصلاح في الأزهر

وكيف نصل الآن إليه

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

كلما صرفت نفسي عن الكلام في إصلاح الأزهر عاودها الحنين إليه. وكيف أنسى عقيدة أشربت حبها منذ الطلب، ومضى على جهادي فيها أكثر من عشرين عاماً، ولقيت فيها من العنت ما لقيت، وبذلت من التضحية ما بذلت، خالصاً لوجه الإصلاح، لا أبتغي بذلك عوضاً، ولا أقصد أن أجرب مغنماً

وقد قرأت ما كتبه صديقي الأستاذ الجليل محمد المدني تعليقاً على محاضرة صديقي الأستاذ الكبير محمود شلتوت، فوجدتهما يرجعان بقاء الأزهر على جموده في هذا العهد إلى الكتب القديمة، لأن الأزهريين لا يزالون يعولون عليها في جميع مراحل التعليم، ولا تزال الدراسة في المعاهد الدينية متجهة إلى شرح ألفاظها، وتضيع الزمن في مماحكاتها اللفظية التي لا طائل تحتها. وقد ذكرني هذا بما نشرته في أوائل هذا العهد على صفحات مجلة الرسالة وغيرها، وذلك حين قمت بنقد ما يشكوان الآن منه بعد فوات الوقت، فغضب لذلك من كان يناصر هذا العهد لغير الإصلاح، وكان لهذا الغضب أثره في حرماني من بعض حقوقي، فقبلت ذلك راضياً، وصبرت عليه إلى وقتنا هذا في غير شكوى ولا تألم، لأن من ينصب نفسه للجهاد لا تؤلمه التضحية، وقد يسر بها كما يسر أصحاب اللبانات بقضائها. ولو أن الصديقين الفاضلين ضما صوتيهما إلى صوتي في ذلك الوقت لكان لذلك منا شأن آخر، ولم ينظر إليه تلك النظرة التي قوبل بها صوتي، لأنهما كانا محل الثقة من رجال هذا العهد، وكانت كلمتهما مسموعة عندهم

وما علينا من هذا كله، فما نريد الآن إلا أن نبين كيف نصل الآن إلى إصلاح الأزهر، وقد مضى على معالجته نصف قرن أو أكثر، وهو ما يقرب إلا ليبعد، ولا يسهل أمره إلا ليعسر. وهانحن أولاء الآن لا نزال كما كنا قبل معالجة ذلك الإصلاح، نألف الجمود ونعض عليه بالنواجذ، ونقف من الإصلاح الذي يقضي على هذا الجمود موقف المعارض المعاند. ولا يزال اللذين يؤمنون بيننا بهذا الإصلاح يعدون على الأصابع، وليس لديهم من القوة ما يمكنهم أن يقضوا به على ذلك التعصب للجمود، وقد بذلوا من التضحية في

ص: 17

الإصلاح ما بذلوا، ولكن التضحية وحدها لا تفيد في القضاء على التعصب، وإنما يفيد في ذلك القوة الغالبة، والسلطان القاهر، والتاريخ على ذلك شاهد عادل

ومن ينظر إلى بدء الإصلاح في الأزهر يجده لم يتم إلا بتلك القوة، ولم يأخذ سبيله فيه إلا بعد أن تدخلت الحكومة في أمره، وقد كان تدخلها في ذلك بعد أن لجأ إليها المصلحون من رجال الأزهر، وأقنعوها بصواب ما يدعون إليه من الإصلاح، ولولا تدخلها في ذلك ما خطا الأزهر في الإصلاح تلك الخطى، ولبقى إلى وقتنا قابعاً في عزلته، راضياً بالانكماش الذي كان راضياً به، ولم يكن هذا الانكماش في شيء من ديننا، وإنما هو من الرهبانية التي أباها الإسلام لأهله

وكان الذي قام بإقناع الحكومة بذلك هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فقد ذكر السيد محمد رشيد رضا في تاريخه أنه لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال، وتوجهت إلى أعمال يقصد منها إزالة الاحتلال، وكان الشيخ محمد عبده يرى أن إزالة الاحتلال لا يمكن أن يحل بوسيلة السياسة إلا باتفاق الدول، وأن الرجاء في اتفاقهم على ذلك بعيد، فأراد أن يكون حظه من حب الخديو للعمل السعي في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف، فاتصل به وحظي عنده وكاشفه برأيه في إصلاحها، فقال له: إن لدى أفندينا هذه المصالح الثلاثة العظيمة، فيمكنه أن يصلح الأمة كلها بإصلاحها، وهي دينية ويجب المبادرة بإصلاحها. ثم ذكر له كليات هذا الإصلاح، ولم يخرج من عنده حتى أقنعه به

فمن هذا الوقت أخذت الحكومة في إصلاح الأزهر، وقد بدأت أولاً بتأليف مجلس إدارة للأزهر مؤلف من أكابر علماء المذاهب الأربعة، وأضيف إليهم الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان على أنهما عضوان من قبل الحكومة، فسار هذا المجلس بهمه صادقة في إصلاح الأزهر، وسلك في ذلك سنة التدرج ليأمن الاصطدام بأعداء الإصلاح، ويأخذ الأزهريين به شيئاً فشيئا، وكانت الحكومة من ورائه ترعاه بالمساعدة، وتصد عنه كيد هؤلاء الأعداء، وتأخذهم بالشدة إذا جنحوا إلى الثورة، حتى لانوا واستكانوا. ونجح هذا المجلس في إقامة الدعائم الأولى للإصلاح، فألف أهل الأزهر النظام في أعمالهم ودروسهم، وأقبلوا على دراسة العلوم الحديثة التي كانوا ينفرون من دراستها

ص: 18

وكان الشيخ محمد عبده يرى أن ما نجحوا فيه من ذلك يجب أن يكون وسيلة لا غاية، لأن الإصلاح الحقيقي لا يصح أن يقف عند هذه الحدود، بل يجب أن يتعداها إلى فتح الأذهان المقفلة في الأزهر، وكسر قيود التقليد في العلوم القديمة، حتى تدخلها آثار التجديد، وتخلع تلك الأثواب البالية، وتعود إلى ما كانت عليه علوماً تفتح العقول، وتربي العلماء المجددين، والأئمة المبرزين. وقد سأله السيد محمد رشيد رضا عن رأيه فيما قاموا به من إصلاح الأزهر، فذكر أنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر إلى ذلك الوقت، وأنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتناماً للفرصة، فأشير عليه بوجوب التدرج في الإصلاح، وأنه لابد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة بما يسمونه التدرج

وقد أتى القوم بعد الأستاذ الإمام فساروا في ذلك على أنه غاية لا وسيلة، ووقفوا عند هذه الحدود التي لا يصح أن يقف عندها الإصلاح، فلم ينهضوا بالأزهر إلى ما يرجى له في هذا العصر، وبقيت علومه القديمة في أثوابها البالية التي تزهد الناس فيها، وتجعلها مماحكات لفظية لا فائدة في دراستها. وقد نبهتهم إلى ذلك بكتابي (نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف) فقامت علي قيامتهم، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن أنزلوا بي من العقاب ما أنزلوا، وكانوا يريدون عزلي من المعاهد الدينية، فتداركني لطف الله تعالى، وبقيت إلى وقتنا هذا مخلصاً لعقيدتي لا يثنيني عنها ما يفوتني بسبب إخلاصي لها

وقد أراد أستاذنا الشيخ المراغي في عهده الأول أن يصل بالإصلاح إلى هذه الغاية التي أرادها الأستاذ الإمام، وأن يخطو في الإصلاح خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصريخ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة، ولكنه اعتزل منصبه بعد فترة وجيزة

وهاهو ذا قد عاد إلى منصبه مرضياً عنه كل الرضا من ولي الأمر، فما عليه إلا أن يستغل الفرصة السانحة كما استغلها الأستاذ الإمام، ويستدرك بها ما فاته في المرة الأولى، وقد هيئت له أسباب النجاح، ومد له في منصبه حتى ذلت له العقبات، وزال ما كان يعترض تلك الخطوة الجريئة في الإصلاح

عبد المتعال الصعيدي

ص: 19

‌أقوياء الأبدان في العصور الإسلامية

للأستاذ كوركيس عواد

للمؤرخين روايات ونوادر كثيرة بشأن بعض جبابرة الناس الذين أوتوا من ضروب القوى البدنية، ما أبقت لهم ذكراً وشهرة في صحائف الكتب. ونحن نأتي في هذا المقال بشيء مما انتهى إلينا من طرائف أخبارهم في ميادين البطولة. فمن ذلك ما ذكر عن مبلغ قوة الأمين، سادس خلفاء بني العباس (193 - 198=809 - 813 م) من أنه كان (في نهاية القوة والشدة والبطش والبهاء والجمال، إلا أنه كان عاجز الرأي ضعيف التدبير غير مفكر في أمره، ويروى أنه اصطبح ذات يوم وقد كان خرج أصحاب اللبابيد والحرب على البغال، وهم الذين كانوا يصطادون السباع، إلى سبع كان بلغهم خبره بناحية كوني والقصر، فاحتالوا في السبع إلى أن أتوا به في قفص خشب على جمل بختى، فحط بباب القصر وأدخل، فمثل في صحن القصر والأمين مصطبح. فقال شيلوا باب القفص وخلوا عنه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه سبع هائل أسود وحش، فقال: خلوا عنه، فشالوا باب القفص، فخرج سبع أسود له شعر عظيم مثل الثور، فزأر وضرب بذنبه الأرض، فتهارب عنه الناس، وغلقت الأبواب في وجهه، وبقى الأمين وحده جالساً في موضعه غير مكترث بالأسد، فقصده الأسد حتى دنا منه، فضرب الأمين بيده إلى مرفقة أرمنية وامتنع منه بها، ومد السبع يده إلى الأمين، فجذبها الأمين وقبض على أصل أذنيه وغمزه ثم هزه ودفع به إلى الخلف، فوقع السبع إلى مؤخرة ميتاً. وتبادر الناس إلى الأمين، فإذا أصابعه ومفاصل يده قد زالت عن مواضعها، فأوتى بجابر، فرد عظام أصابعه إلى مواضعها، وجلس كأنه لم يعمل شيئاً. فشقوا بطن السبع، فإذا مرارته قد انشقت على كبده)

ونظير ذلك ما عرف من تناهي قوة الخليفة العباسي المعتصم (218 - 227=833 - 842م)، فإنه (لم يكن في بني العباس من قبله أشجع منه ولا أتم تيقظاً في الحرب ولا أشد قوة. قيل أنه اعتمد بإصبعه السبابة والوسطى على ساعد إنسان فدقه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقا، ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته)

ومثل ذلك ما تناقله بعض المؤرخين بصدد قوة المعتصم ومتانة جسمه، وإليك الخبر: (قال ابن أني دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلى ويقول: يا أبا عبد الله، عض ساعدي بأكثر

ص: 20

قوتك، فأقول: ولله يا أمير المؤمنين، ما تطيب نفسي بذلك، فيقول: إنه لا يضرنين فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان)

وزاد السيوطي على الخبر المتقدم ما هذا نصه: (وقال نفطويه: وكان (المعتصم) من أشد الناس بطشاً، كان يجعل زند الرجل بين إصبعين فيكسره)

وروي الخطيب البغدادي أن المعتصم (انصرف يوماً من دار لمأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظما بالخيم فيها الجند. فمر المعتصم بامرأة تبكي وتقول: ابني ابني! وإذا بعض الجند أخذ ابنها. فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها، فأبى. فاستدناه فدنا منه، فقبض عليه بيده، فسمع صوت عظامه، ثم أطلقه من يده فسقط، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه)

ومما حكاه ياقوت الحموي عن ابن زهر الطبيب الأندلسي الشهير، المتوفى سنة 595 أو 596هـ (1198 - 1199م)، أنه (كان شديد البأس، يجذب قوساً مائة وخمسين رطلاً بالاشبيلي، وهو ست عشرة أوقية). وهذا الخبر عينه نقله ابن أبي أصيبعة بأن زاد في التعريف أن (كل أوقية عشرة دراهم)

ونظير ذلك ما روي عن بكتمر السلاح دار الظاهري المنصوري، المتوفى سنة 703هـ (1303م) من أنه كان (حسن الرمي، يرمي على ستة وثلاثين رطلاً بالدمشقي)

ومثلهما في هذا الباب، أنس بن كتبنا الملقب بالمجاهد، المتوفى سنة 723هـ (1323م)، فقد (عانى الفروسية ورمى النشاب، حتى صار أوحد عصره فيه، يقال رمى على قوس زنة مائة وثمانين رطلاً)

وقد عرف غير واحد من هؤلاء الأبطال الأشداء، فكان من جملتهم كستاي أمير السلاح المتوفى سنة 720هـ (1320م)، فأنه (كان شديد البأس قوى البدن، كان يأخذ العظم الكبير من الشاة فيكسره بيده قطعتين) ومن الغرائب في هذا الباب، ما حكي عن قطيلجا بن بلبان الجوكندار، المتوفى سنة 720هـ (1320م)، من أنه (كان فارساً بطلاً خفيف الحركات، يقال أنه ساق فرسه، فأخذ نصف سفرجلة من غصنها، وبقى نصفها الآخر مكانه)

ومثله في هذا الميدان ما نقله ابن رافع السلامي في ترجمة عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمر بن شهاب بن علي الواسطي، الذي كان حياً سنة 728هـ (1327م) من (أنه قوي شديد البطش، يضرب الأجرة بيده فتصير فلقاً، ويضرب الجوزة يكسرها. . . قال أبوه:

ص: 21

ودخل اللصوص داره وأخذوا المتاع، فتركهم حتى خرجوا ومشي خلفهم إلى الصحراء فعقر منهم واحداً وهرب الباقون)

وممن وهب قوة بالغة واشتهر بأمور من هذا القبيل، أحمد ابن أبي بكر بن محمد بن محمود الحلبي، المتوفى سنة 754هـ (1353م) فقد (كان قوي اليدين جداً، حتى كان يأخذ الحية فيحملها بذنبها ويرفعها إلى فوق ويقصفها إلى أسفل ويرميها وقد انقطع وسطها وانخلعت فقرات ظهرها)

ونظيره في هذا الأمر، أبو بكر زكي الدين الخروبي رئيس التجار بالديار المصرية، المتوفى سنة 787هـ (1385م)، فقد كان أبداً شديد القوى. حكى لنا أنه كان يقبض على الركب الحديد فتتعصر رجل الراكب)

(بغداد)

كوركيس عواد

ص: 22

‌من ميدان الحياة

للأستاذ شكري فيصل

هذه الأماني التي تعتادني اليوم. . . ما بالها تزدهر في خاطري من جديد، وكنت أحسب أنها الفرقة التي لا رجعة وراءها، والهجر الذي لا لقاء بعده، والأسباب التي انقطعت فلا سبيل إلى صلتها؟ وما أنا وهذه الأماني التي تتفيح في أعماقي من جديد مع الورد الناشيء، وتنطلق في عالمي مع الربيع الطلق، وتتألق في دنياي مع الزهر النير، وكنت حسبتني انصرفت من دنياي الكبرى لأعيش في دنيا الناس الضيقة، وخرجت من عالمي الفسيح لألقي هذا العالم المتقارب، وهجرت الأرض الخصبة ليدمى كفاي وقدماي بالفأس القاسية والأرض الغليظة. . . وما رجعتي إلى رؤاي هذه؟!. . . كانت لي معها ليال أزهى من النور وأوضح من الصبح. . . وأيام أنضر من الورد وأحلى من الربيع. . . لكأني أذكر الساعة أوديتها الخضر العامرة، وجنباتها الغر الزاهرة. . . وهذه الفضة فيها كالحصى. . . وهذا الصليل كالأمواه. . . وهذا الذهب المنتشر كأنه أوراق زهر الدراق. . . وذلك الزمرد الذي يطرز حواشيها كأنه أعشاب الجنة. . . لكأني أثب معها الساعة في تطواف بعيد، لا أحس له الجهد، ولا ألقى فيه العناء، ولا أكاد أمس الأرض إلا المس الهين الرقيق. . فأجوز السهل والجبل، وأمر بالهضبة والوادي، وأطوي البيد الفساح، ويحملني النهر على سرير ناعم من نسماته اللطاف، ويصوغ لي البحر فلكا طيعة من أمواجه الخفاف، وينشر لي الأفق بساطه المسجدي. . . أكان الجبل إلا السبيل المذلل المنقاد. . أكانت الصحاري إلا المسالك المذهبة المبسوطة؟ أكان العالم إلا جنة من السحر الحلال؟!

تلك ليال وأيام. . . ما أمرها، تطرقني مبكرة، وتسعى إلي هذا السعي الهادئ مع مولد الفجر. . . تنشر لعيني الصور، وتلقي في أذني الأحاديث، وتفجر في قلبي الأصم ينابيع متدفقة من الذكريات. . . أتراها تريد أن تفسد علي حياتي بالنعيم، وتثير مني عاطفتي بالذكرى، وتنال من بعضي ببعضي. . . أتراها تود أن تطفئ ظلماتي السود بمشاعلها المتقدة، وتخفت أنفاسي الخرس بأغانيها العذبة، وتطمس أنفاسي الباردة بأنفاسها المشتعلة؟

. . . وما أنا وهذه المواكب التي تتهادى من أمامي، وهذه الحسناء التي تنظر إلى. . . لكأني عشت معها دهراً طويلاً. . . أذكر. . . لقد كان بيني وبينها عهود! وكان لها في

ص: 23

عنقي ذمم، وكان لي في رقبتها وجائب. . . ثم. . . ألم تكن من بيننا فرقة، فتتاركنا على غير شيء. . . كأنما لم ترع طفولتي بالهدهدة الناعمة، ولم ترف على فتوتي ظلالها الهادئه، ولم تكسب في قلبي خمرها المسكرة. . . وكأن لم يكن بين دمشق والقاهرة أنيس، ولم يسمر في مرابع الجيزة سامر، ولم تهتف في دمشق هواتف، ولم تثر في الغوطة أصداء. . . فما بالها اليوم: هذه المواكب توحش صمتي السادر بالنشيد، وتفزع أمني القلق بالسلام، وتعشي عيني المظلمتين بالجمال، وتفسد علي مقامي الخشن بالموكب اللاهي؟!. . . أتراها تبتليني من جديد بسحرها العابث؟! تلك كواكب وأغان وأناشيد قد خلت. . . فما مثارها عندي اليوم، ومالي من موكب وأغنية ونشيد. . .؟

وهذه الذكريات التي تغزوني فتلح علي وتأخذني من بين يدي وخلفي. . . ما أنا وهي وقد استرقني حاضري، فإذا هو علي مطبق لا ينفرج، رتق لا ينكشف، ضيق لا يكاد يتسع لغير هذا الذي أنا فيه؟ وما أنا فيه إلا الآلة الصماء تغدو مطلع النهار مع الصباح لتعود في صفرة اليوم مع المساء، وتظل على ذلك تحرك في غير حراك، وتدور على غير حس، وتمضي وكأنما تدفعها يد قادرة إلى غير ما أحبت وما كانت تقدر أنها تحب. . . ما أنا وهذه الذكريات، تجد السبيل إلى كهفي العميق، ثم تتحسسني من بين هؤلاء المساكين الذين قدر لهم أن يعيشوا معي في هذا الكهف. كيف استطاعت أن تجوز هذه الأبواب الحديدية الضخمة، وأن تفلت من هؤلاء المردة الذين يحرسونها، وأن تبلغني فتمزق هذا الغشاء الصفيق الذي أسدلت بيني وبينها؟! ما شأنها، تملأ على جنبات هذا الكهف، في يديها البضتين هذه الأعواد الرقيقة المشتعلة ينتشر منها هذا الدخان اللطيف العطر الذي ينفث في روح الماضي. لكأنه هذا البخور الذي عهدته في ليالي الخاليات. إن سحبه لتتلوى هادئة رقيقة فتبدد كل ما حولي. لا الناس الهرالي الذين أعهدهم، ولا المتعبون الذين آلفهم، ولا هذه الأردية السود التي تتحرك إلى جانبي؛ وإنما هي أطياف حلوة كريمة، أحس كأنما كان من بيني وبينها سبب، ومغان رائعة بهيجة كأنما كان لي بها عهد. أتراها تود أن تلقف بسحرها الحائل هذا الواقع المتورد، وأن تطرد بأطيافها القاتمة هذه الأشباح الناعمة، وأن يذهب عطرها الهفاف بالحاضر المتماسك؟! أتراها تود أن تدير حياتها الأولى في حياتي الجديدة لتثير الأماني والأوهام؟! وهذه الأحلام التي تشق عني ظلمة الليل. . . ما أنا وهي.

ص: 24

وقد انعتقت منها وانصرفت عنها. ألست أعمل نهاري المتصل ليميتني الليل، وأجهد شمسي الطالعة ليواريني المساء، وأنطلق مع الغراب المبكر كيما أنسى بعد في العتمة كل شيء. ما شأن هذه الأحلام تراودني عن نفسي، فتطرقني منذ أيام، وتنشر في مسائي الكالح أفقاً وردياً زاهياً، وتبعث في ليلي البهيم أضواء رفافة نيرة، وترسم على غبش العتمة أنوار النجم. أتراها تود أن تؤرقني فلا أغفى، وأن تهزني فلا أغفل، وأن تعتادني فلا أجد الهدوء!. . . أتراها تملك أن تفسد علي راحتي التي لا تحس فيها بالحس الذي لا راحة معه، واطمئناني الذي لا شعور فيه بشعور لا اطمئنان معه، وما عساها تبتغي مني، وإنها لتعلم أن الدنيا قد جعلت مني غير الذي عهدت في: لا هزة الطروب، ولا رفة المرح، ولا استيفاز الشاعر. فقد ذهبت الحياة بالهزة والرفيف والحس المستوفز. وما يكون للذين تضطرهم الحياة أن تذهب بنفوسهم في سبيل العبء الذي لا بد منه، والعيش الذي لا مناص من تداركه إلا أن يرتقبوا اليوم القريب والساعة الدانية

لا يا أماني التي تزدهر الساعة في خاطري! ما كان لي أن أغفل عن ى الماضي، أو أنصرف عن العهود، أو أهدر هذه الفترة الحلوة من حياتي القريبة. وإنما هي ويلات الحاضر التي لا بد من النجاة منها، وضرورات الواقع التي لا بد من الاضطراب فيها

أن تكاتف السحاب لا تذهب بنور الشمس، وأن قتام الضباب لا يحول دون إيماضة البرق؛ وإنما يتفتح الشتاء القاسي - بإرادة الله - عن الربيع المتدفق

(دمشق)

شكري فيصل

ص: 25

‌حملة صقلية

الجبهة الثانية. أين ومتى تفتح؟

هذا هو السؤال الذي تردد على ألسنة الناس في الأسابيع الأخيرة والذي كان موضع اهتمام العسكريين وبحثهم في كلا العسكرين، وكان في غزوة الحلفاء لصقلية الجواب على هذا السؤال. وللمعركة التي تدور رحاها الآن في هذه الجزيرة أهمية كبرى للطرفين؛ فالإيطاليون من جهة، يرون أن غزو هذه الجزيرة خطر يهدد كيان إيطاليا نفسها ويجعلها الهدف التالي بعد صقلية، ويرون أن القرار الحاسم فيما يتعلق بالحرب كلها سيتخذ على سواحل صقلية؛ وهم واثقون بأن كل قوة للحلفاء ستجد مصرعها على سواحل إيطاليا. أما اهتمام الحلفاء فيتجلى في النداء الذي وجهه الأميرال كننجهام لجنوده ساعة الغزو:(إن نجاح الحلفاء في غزو صقلية يعد بمثابة فتح جبهة ثانية كما أنه سيكون الخطوة الأولى في سبيل هزيمة سريعة للأعداء)

قبيل انتصاف ليل الجمعة التاسع من يوليو أخذت جنود المظلات البريطانية والأمريكية تنهال على أرض الجزيرة وهبطت على أثرهم الجنود الذين كانت تقلهم الطائرات الشراعية وأسرعوا في الزحف لتعزيز مراكزهم وراء استحكامات المحور لتدمير منشئاته وشل حركة مطاراته حتى يحال بين المدافعين وبين القيام بعمل جوي منظم ضد القوات الكبيرة التي كانت تقلها سفن الغزو

وفي فجر يوم السبت، أي بعد هبوط قوات المظلات بساعات قليلة، أخذت السفن المحملة بالجنود والأمداد تقترب من مواني الجزيرة منتشرة في الاتجاهات التي رسمت لها من قبل.

ولم يكن غزو صقلية بالأمر المفاجئ للمحور فقد صرح الجنرال إيزنهاور منذ أكثر من شهر لمندوبي الصحف بأنه لن يمض الشهر حتى تكون الأعمال الحربية ضد صقلية قد بدأت، وكذلك كانت الغارات العنيفة التي ظلت الطائرات المتحالفة تشنها على النقط الحيوية والمواقع الرئيسية في الجزيرة بمثابة مقدمات لهذا الغزو، وهو عين ما حدث في جزيرتي بنتلاريا ولبيدوزا حين سبق احتلال الجزيرتين غارات على مثل هذه الصورة من العنف والشدة

وقد وقع الغزو بعد أقل من أسبوع لبدء الهجوم الذي قام به الألمان في الجبهة الروسية، فقد انتظر الحلفاء حتى إذا ضمنوا اشتباك القوات الألمانية في معركة الروسيا الطاحنة شنوا هم

ص: 26

هجومهم؛ وبذلك ضيعوا على الألمان فرصة تقديم مساعداتهم الجدية لإيطاليا في صقلية

أما موقع الهجوم فقد اختارها الحلفاء في جزء كان خبراء المحور يرون الحلفاء فيه أبعد احتمالاً من غيره، فاختاروا الركن الجنوبي الشرقي للجزيرة، وذلك لأن وعورة أراضيه وكثرة مرتفعاته وقربه من قواعد المحور الجوية في جنوب إيطاليا تجعل من العسير نزول قوات كبيرة من المشاة والدبابات كما تجعل القوات النازلة أكثر عرضة لضربات العدو الجوية وأقرب منالاً للقوات البرية التي تأتي عن طريق خليج مسينا. لهذه الأسباب كان نزول الحلفاء في هذا الجزء غير متوقع

وقد تطور القتال منذ بدء الغزو تطوراً يعتبر في صالح الحلفاء الذين استولوا على معظم المدن المهمة هناك ولم يبق أمامهم سوى قطانيا حيث تدور بعض المعارك في السهل الذي يحيط بها. ويرجع عدم وقوع معارك كبيرة حتى الآن إلى أن القيادة الإيطالية في الجزيرة تراقب الحالة بعين يقظة حتى تقف على المكان الذي يجب أن توجه إليه قواتها الرئيسية

وبديهي أنه يفرغ الحلفاء من هذا الركن فسيحاولون الزحف بقواتهم داخل الجزيرة للاستيلاء على المواقع الهامة التي تجعل خليج مسينا في قبضتهم، وذلك ليتسنى لهم عزل صقلية عن إيطاليا ووقف سيل الإمدادات التي يوالي المحور إرسالها، وحينئذ يسهل السيطرة على باقي أجزاء الجزيرة الغربية وتعتبر صقلية أول ثغرة يحاول الحلفاء فتحها في القلعة الأوربية، وستختبر على هذه الجزيرة قوة استحكامات أوربا الدفاعية، فإذا نجح الحلفاء ف غزوها فستخذون منها نقطة للهجوم على إيطاليا نفسها، كما أنها ستصبح أعظم قاعدة بحرية للأساطيل المتحالفة في البحر الأبيض المتوسط

ويظهر للمتتبع لسير الأعمال الحربية أن الحلفاء محتفظون بقوات احتياطية كبيرة في شمال أفريقيا حيث تصل إمدادات متوالية من بريطانيا وأمريكا

ويمكن التكهن بأن هذه القوات يحتفظ بها لغرضين: أولهما أن القيادة المتحالفة تعمل لمواجهة احتمال قيام المحور بحركة تركيز أو تطويق قد تؤدي إلى الإحداق بقواتهم، فوجود هذا الاحتياطي يمكن الحلفاء من إفساد أية محاولة في هذا الصدد

أما الغرض الثاني فينحصر في الإبقاء على هذا الاحتياطي لاستخدامه في مهاجمة جزيرتي سردينيا وكرسيكا اللتين سيكونان بلا شك الغرض التالي للحلفاء بعد صقلية، إذ أن احتلال

ص: 27

هاتين الجزيرتين لازم للهجوم المنتظر على ساحل فرنسا الجنوبي

وستؤدي الأعمال الحربية في جزيرة صقلية والمحاولات التي سيقوم بها الحلفاء للسيطرة عليها وعلى غيرها من الجزر في البحر الأبيض المتوسط إلى تطورات جديدة سيكون للقوات البحرية منها أوفر نصيب.

محمد شاهين الجوهري

بكالوريوس صحافي

ص: 28

‌تينة الجبل!

للأستاذ أحمد الصافي النجفي

(. . . وهذه طرفة ثانية من طرائف (الصافي) نقدمها للدكتور طه حسين بك. ولعل من الخير أن نذكر أن (الدكتور) ينكر على شعرائنا المحدثين فيما ينكر عليهم انعدام (الوحدة الفنية) في أكثر منظوماتهم. ولقد فهمنا من محاوراته معنا أن من أظهر خصائص الشاعر الأصيل في رأيه وضوح المثل الأعلى الذي يدور عليه فلك وحي الشاعر، واستحضاره في فترات الخلق والإنتاج. وليس هنا محل مناقشة الدكتور في هذا الرأي؛ ولكن أضع يده على هذه الطرفة البارعة التي تمثل مذهبه في الشعر أصدق تمثيل

و (تينة الجبل) شجرة عجيبة شاذة معروفة في سورية لا يطلب لها أن تنمو وتستطيل إلا في جو قاس من العزلة والتوحيد والانزواء، فتراها بعيدة عن مجاري المياه العذبة والأعشاب الندية والطيور المغردة، فهي تعيش دائماً في صمت وسكون. ولكن أي فوز تناله يوم عرض الثمار؟ هذا ما نترك الإجابة عنه لحضرات القراء وهم ينعمون بتلاوة هذه القصيدة الرمزية البارعة)

القدس - عبد القادر جنيدي

نبتتْ في الجبال دَوحة تِبنِ

وقفت مثل وقفة الجبار

أَلِفت وحشة الدجى واستمرَّت

في صراع مضنٍ مع الإعصار

فهي أخت الثلوج والأمطار

وهي نبت العُواء والتزآر

وهي تحيا كراهب في قفارٍ

دون ديرٍ يضمه أو دار

وإذا ما هفتْ لنجوى سمير

رنَّ في سمعها صدى الأدهار

أينما تلتفتْ فليس تلاقى

من سمير لها سوى الأحجار

حرمتها يد الطبيعة حتى

من غناء الحفيف في الأسحار

لم تظلَّل غصونُها ندماَء

لا ولم تُسقَ منهم بعقار

وهي لم تستمع لنجوى حبهِ

بين وما أعلناه من أسرار

لا ولا أَمَّها هزارٌ يغني

فانتشى سمعها بشدْو الهزار

ما وعتْ حين أينعت للعصا

فير سوى لحن نقرة المنقار

ص: 29

ما جلتْ جسمها ليوم أزدهاء

أو رأت وجهها بنهر جار

فهي تبدو كأشعث ذي سفار

وهي تحكى فلاّحة في القفار

أَنفت من تمايل واختيال

وسمتْ عن تجمّل وازدهار

أصبحت لا ترى سوى البرّحلياً

لا ولم تشتمل بغير الوقار

إن تردَّي دوح الرياض اخضراراً

فهي لا ترتدي بغير الغبار

لم تفاخر بالمجد دوحاً ونالت

قصب السبق يوم عرض الثمار

ولو أني أتيتللدوح باسمٍ

قلت هذي أميرة الأشجار

فهي بنت الجبال ذات وقار

وهي بنت الصخور ذات اصطبار

وهي تسعى للسيرِّ دون ضجيج

وهي تعطي الخيرات دون افتخار

وهي طيُّ الخفاء تدأب كدْحاً

مستمراً في ليلها والنهار

تصهر الشمس رأسها كل صيف

وتلاقي الشتا بجسم عار

قد تلقَّت حوادث الدهر تتري

دون أن تشتكي من الأقدار

ما الذي ساقها لنفع البرايا

دون ما دافع ولا إجبار

هم ذووها إِن أطعمتْهم وإلا

قطعوها فعذّبت في النار

كم لها من يد علينا ولكن

ما عليها يدَّ لغير الباري

لمْ تزل تأكل التراب ولكن

تطعم الخلق أطيب الأثمار

ليتنا مثلها فنعطي جنانا

لا لنفع يُرجَى ولا استثمار

وأراني كالدوح شأناً ولكن

ما جَنَا دوحتي سوى الأشعار

ولكلّ في الكون شأنٌ به خُصَّ

وخُصَّ الفناء بالأطيار

أحمد الصافي النجفي

ص: 30

‌البريد الأدبي

الوشوشة والهينمة

الكاتب الباحث الأستاذ (سيد قطب) في مقالته البليغة (النماذج البشرية المهموسة) حوط (الوشوشة) - قد توسطت الهمس والهويم - بالأقواس أو الأهلة - كأنهن تحويطة - فإن كان قد جاء ذلك لفرط اهتمامه بهذه اللفظة فلا ملام؛ وإن كانت الأقواس إعلاماً أن الوشوشة من العلميات لا من قبيل العربيات ولا من بنات المعجمات ففي (النهاية) في حديث سجود السهود: (فلما انفتل توشوش القوم) وروى القول (اللسان)؛ وفي (القاموس): (توشوشوا تحركوا وهمس بعضهم إلى بعض) وفي مستدرك التاج: (الوشوشة الكلام المختلط، وقيل: الخفي، وقيل: الكلمة الخفية)

وجاء (التهويم) بعد الوشوشة، والتهويم - كما قالوا -: أول النوم، أو النوم الخفيف، أو هز الرأس من النعاس. فهل المراد أحد هذه المعاني أو المقصود (الهينمة) أخت الهمس؟

ناقد

إصلاح التعليم في مصر

في اليوم الذي أغادر فيه مصر إلى مدينة الخرطوم بالسودان مقر عملي رأيت أن أقدم تحيتي إلى الرسالة وصاحبها الجليل لما لها من أثر في الثقافة العامة في السودان، ولما للمتأدبين وأهل العلم هناك من عناية فائقة بما تنشر الرسالة من بحوث قيمة وأدب بارع

وبينما كنت أقلب الأوراق استعداداً للسفر وقع نظري على مقال في مجلة (الاثنين) في أواخر مايو الفائت لصاحب المعالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الأوقاف بعنوان (ثورة على المدرسة المصرية) كان قد نشره قديماً وقال: إنه لا يزال عند رأيه هذا. جاء فيه (والواقع أن موقف المدرس من الطلبة كموقف (سواقي الأنفار) سواء بسواء. يرى أنه أدى واجبه حينما يقطع مقداراً معيناً من الدروس لا حينما يلمح نجاحه في تربية عدد من الطلبة وتهذيبهم، فهو بذلك خدم الدروس، ويستخدم الطلبة للدروس، ولكنه لا يخدم الطلبة)

وفي الليلة السابقة لكتابة هذه الكلمة خلوت إلى ولد من أولادي كان من تلاميذي في الفرقة التي كنت أعلمها قبل سفري إلى السودان فسألته أن يذكر لي بصراحة رأي طلبة الفرقة

ص: 31

في أبيه فقال:

كنت يا أبي توقظ أذهان الطلبة في أول السنة الدراسية، وتطيل المناقشة معهم، وتتوسع في الأدب العربي، وتكثر من تنبيههم إلى ما في أبيات النصوص الأدبية من معان وأغراض، فيشغلون بدرسك ويقدرونه، ولكن بعد أن مرت أشهر على ذلك أخذ الشك يساور نفوس الطلبة في جدوى هذه الطريقة بالنسبة لضخامة المنهج الذي يجب أن يتم قبل السنة الدراسية بشهر على الأقل، وكان من قولهم: يجب أن ننبه أستاذنا إلى ما فيه مصلحتنا بأن يقتصر على سرد ما في الكتاب، ويسألنا فيه في اليوم التالي، وهكذا دواليك حتى يتم المقرر في حينه ونكون قد استوعبنا ما في الكتاب ويكتب لنا النجاح في الإمتحان، وأن نلفت نظره إلى أنه ليس الغرض من تعليمنا أن نكون أساتذة في اللغة العربية. ولكن قبل أن تصل النصيحة إلى سمعي قبلت التعليم في السودان، وكفى الله المؤمنين القتال

هذه صورة مصغرة لميول الطلبة نحو تثقيف عقولهم وبخاصة في المدارس الثانوية، فهل لي أن أرجو وزارة المعارف في ضجة العلاوات والدرجات أن تجهز جيوشها السلمية لإصلاح التعليم، وتبسيط مناهجه وتحديد الغرض منه، وأن تغير النظم القديمة البالية في إدارة المدرسة وواجب المعلم والناظر والمفتش على أساس تكوين الملكات وتهذيب الأخلاق وتربية النفوس على حب العلم والرجولة الحق في الطلاب الذين تنشدهم مصر الحديثة ليستعدوا لحمل الأعباء المستقبلة. بل أقول إن ذوي المناصب الخطيرة في وزارة المعارف يجب أن يخرجوا من حيز الأوامر والمنشورات والرأي الواحد المقلد إلى مصابيح تشع النور في معاهد التعليم، فكل هذه الجولة والصولة الغرض منها معلم يحسن أثره في التلاميذ وأن يعالجوا الأمور في جراءة وصدق وإخلاص وهم أهل لذلك

وألا يختبئوا دائماً وراء الوزير والمستشار، فإن واجب وزارة المعارف غير واجب الوزارات الأخرى

وأذكر أن في أدراج صاحب العزة الدكتور طه حسين بك مشروعاً شاملاً لإصلاح التعليم وبخاصة في اللغة العربية أعدته لجنة برياسته منذ زمن وأرجو أن يبعث من مرقده والله الهادي إلى سواء السبيل.

حسنين حسن مخلوف

ص: 32

من رسائل الرافعي: اللفظان بمعنى واحد في القرآن.

معنى بيت للنابغة. قصة الجارية وعمر

أخذ ابن الأثير في المثل السائر على الصابي - كما بينا - أنه يرادف السجع في المعنى الواحد، وعد ذلك من عيوب البلاغة؛ ولكنه لما سئل عن قول الله:(وكان رسولاً نبياً) والرسول لا يكون إلا نبياً، رجع فقال:(إن إيراد لفظتين في آخر إحدى الفقر بمعنى واحد لا بأس به لمكان طلب السجع) ولما كان بعض الذين يدافعون عن البلاغة القرآن يقولون إنه لا توجد فيه لفظة زائدة - وهو صاحب إعجاز القرآن - أن يذكر رأيه في هذا الأمر المهم

وسألته أن يبين معنى بيت النابغة:

ولست بمستبق أخاً لا تلمعه

على شعث أي الرجال المهذب

وكان حافظ إبراهيم قد ذكر في عمريته قصة الجارية التي

كانت تضرب الدف أمام النبي وأبي بكر بغير خوف ولا وجل. فلما جاء عمر ألقت دفها وجلست، فقال له النبي: أن شيطانها قد فر منك يا عمر. وذلك حيث يقول في هذه العمرية:

قد فر شيطانها لما رأى عمراً

إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

فسألت الرافعي عن هذه لقصة التي تنبئ أن الشيطان يفرمن عمر ولا يفر من النبي فتلقيت منه هذا الجواب:

طنطا في 20 فبراير سنة 1918

أيها الأخ

بعد السلام، سرني من كتابكم أني أرى لكم شيئاً من التحقيق ودقة الفكر لم أكن أعهدها من قبل، فإذا واصلت العمل والجد واستعملت ذهنك رجوت لك اكثر من هذا ورجوت لك مظهراً إنشاء الله

أما ذكر الرسول والنبي معاً في الآيتين فأقرب ما يظن من الحكمة في ذلك أنه تأكيد لشرف الموصوف واختصاص له بالذكر لصفات مميزة، ولهذا جاءت العبارة معطوفة على صفة سابقة (وكان مخلصاً وكان رسولاً نبياً). (كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً). وقد كان

ص: 33

يتوجه الانتقاد وحقيقته لو لم يكن هذا التنوين في لفظ رسول، ولكن التنوين أضعف معنى الكلمة. والمراد من السياق أن يكون المعنى قوياً بالغاً في وصف فوجب أن يدل على كمال الموصوف بكمال المعنى؛ وليس في مذاهب التعبير عن هذا الكمال أدل ولا أبين من لفظ النبي فجاء به نكره كذلك وترك العطف فيه ليعلم أن المقصود هو إتمام المعنى لأن لفظ الرسول متضمن معنى النبوة، فذكر النبوة بعده على الوجه الذي في الآية يدل على أن المراد التوكيد في الصفة. ومن المعلوم أن التكرار يفيد التوكيد وله موضع معين في البلاغة لو ترك فها لخرجت العبارة ضعيفة أو ناقصة. لو كان لفظ الآية (وكان رسولاً من الرسل) أو (وكان الرسول النبي) أو (وكان رسولاً ونبيَّا) لسقطت العبارة عن درجة الإعجاز، ولجاز انتقادها؛ ولكن هذا التنوين في هذا السياق هو الحكمة كلها. ولزيادة الإيضاح نضرب مثلاً: لو قلت عن رجل عظيم كالشيخ محمد عبده مثلاً إنه كان فاضلاً وكان فيلسوفاً فأي شيء يفيده هذا الوصف إلا أن الرجل كأحد الرجال الممتازين؛ ولكن لو قلت كان فاضلاً وكان فيلسوفاً حكيماً شعر السامع في نفسه وشعر القائل أيضاً أنه كان رجلاً ممتازاً كاملاً لأن العبارة جاءت من التكرار الذي فيها على وجه من الكمال يفيد التوكيد، فكأن غيره من الفلاسفة يعبر عنه بلفظتين، وأما هو فيعبر عنه بثلاث تصويراً لكماله في نفسه وامتيازه عن سواه، مع أن لفظ الفيلسوف يقتضي معنى الحكيم. ولا يمكن أن تكون لفظة النبي جاءت في الآية للسجع لأنها وأن وافقت ذلكن ولكنها تكرار في الآية الأخرى ومع ذلك لم يعبها تكرارها لأن سياق الوصف اقتضاها، وما اقتضاه السياق فهو طبيعي، لأنه بنية الكلام، بخلاف ما إذا سجع الكاتب فجاء بكلمة لا يراد منها إلا السجع، وبعد سطر أو سطرين كرر السجعة نفسها لغرض السجع أيضاً فإنها تجئ أبرد كلام وأسخفه. هذا ما يحضرني وكنت راجعت أمس الكشاف للزمخشري وتفسير الطبري الكبير فلم أجد لأحدهما كلاماً في هذا المعنى، وأظن أن الفخر الرازي ربما تكلم فيها، وتفسيره عند فضيلة الوالد مع تفاسير أخرى كثيرة، ولكني لم أراجع لأن دماغي يتعب سريعاً، ولأني أرى أن ما ذكرته هو الحقيقة

وأما بيت النابغة (ولست بمستبق أخاً الخ) فضبطه لا تلمه. ومعناه أن الصاحب إذا تفرقت أخلاقه فجاء بالحسنة والسيئة ثم أرادت ألا تلم أخلاقه على تفرقها وتجمعها كما هو بل

ص: 34

ذهبت تنتقي الحسنه فقط فإنه لا يبقى لك لأن كل إنسان يأتي منه الخير والشر، فلا بد من احتمال هذا وهذا من الصديق إذا أردت أن يبقى صديقاً

وأما العمرية فإن حافظاً نظم وتصرف في عبارة التاريخ فجاء بعض كلامه موهوماً معاني غير صحيحة. والقصة التي أشار إليها يمكن أن يؤخذ منها كما هي في نظمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الغناء ويشهد الرقص النسائي. وكان أضعف في الدين من عمر، وكان وكان الخ: ولكن القصة في نفسها لا تفيد شيئاً من هذا كله. فالرواية أن جاريه سوداء جاءت النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من بعض مغازيه فقالت: أني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف. قال: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا. فجعلت تضرب، فلما دخل عمر ألقت الدف وجلست عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. فلم يفر الشيطان ولكنه خاف أو كأنه خاف. ولا يخفى أن اللهو من الشيطان؛ فهي عبارة مجازية. وأنت ترى أنها جاريه سوداء، وأنها لم تفعل شيئاً إلا الضرب بالدف. وكان هذا من عادات سائر العرب إذا انقلب أبطالهن من الغزو، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للجارية إلا لتوفي نذرها لا غير. فأي شيء في هذا كله؟

وبالجملة فإن حافظاً إنما نظم تاريخاً موضوعاً وكان خليقاً به أن يضع تاريخاً جديداً كما يكتب رجل مثل كارليل في كتاب الأبطال أو نحو ذلك

أما الكلام في باقي القصيدة فليس من شأني أن أخوض فيه. ولعل السيد البرقوقي يكفيك إذا وفى بما وعد قراءه والسلام عليكم ورحمة الله.

الداعي

مصطفى

(المنصورة)

محمود أبو ريه

نقدة نحوية

ص: 35

جاء في الشاعر محمود حسن إسماعيل (قطرة دمع) المنشورة بالرسالة الغراء (العدد 522) هذا البيت

جئتُ أرثيك فما لي (ملجمٌ)

تزهق الأنغام في عودي إذا ما

مضبوطة فيه (ملجمٌ) بالرفع والمفهوم أنها وأمثالها في هذا الموضع منصوبة على الحالية من الضمير المجرور باللام

يشهد لذلك قول فاطمة بنت طريف ترثي أخاها

أيا شجر الخابور مالك (مورقا)

كأنك لم تجزع على ابن طريف!

وقول المرحوم حافظ إبراهيم وهو يرثي الإمام الأستاذ محمد عبده:

عليك سلام الله، مالك (موحشاً)

عبوسً المغاني مُقْفر العرصات

وقد انتظرنا في العدد التالي أن يصلح الشاعر هذا الضبط فلم يفعل فصار من حقنا أن ننبه على ذلك

(الإسكندرية)

حسين محمود البشبيشي

تصويب

وقع خطأ مطبعي في أحد أبيات قصيدة (اليتيم)، للآنسة فدوى طوقان انكسر من أجله البيت وصوابه

فنضت عنها الثياب السود، لا،

لا تظنوا جرحها الدامي التأم

ص: 36