المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 526 - بتاريخ: 02 - 08 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 526

- بتاريخ: 02 - 08 - 1943

ص: -1

‌وزارة الأوقاف الجديدة

أقول (الجديدة) وأنا أعلم أن بين هذه الصفة. بين وزارة الأوقاف نفوراً لا يزول إلا بمعجزة! فهل تمت المعجزة؟ أم لا تزال الوزارة القديمة قائمة في مكانها الأثري كالدير العتيق أو كالطلل الموحش تروع النفس القوية بمسالكها الضيقة المظلمة، ومكاتبها الصامتة الرهيبة، وأضابيرها المكتظة البالية، فكأنما يجول الزائر فيها بين أجداث وأضرحة

وليست الأضرحة بالكلمة الغريبة عن لغة الأوقاف؛ فهنالك الوقفيات بشروطها العجيبة، والتصرفات بوجوهها المريبة، والأنظمة التي تعقد البسيط وتعوق السريع وتصعب السهل! وهنالك القضايا التي تماطل الحق، والشكاوي التي تنتظر العدالة، والحقوق التي تنكر المستحقين؛ وكلها راقدة في نواويسها الكرتونية رقود البلى لا تسمع دعاء الناس ولا تحس مرور الزمن!

نعم لا تزال الأوقاف القديمة تمثالاً للصدقات الجاريات والصالحات الباقيات والبر بأسمى معانيه؛ ولكن التمثال على كل حال تمثال. كل ما فيه معان من الخير نبض من جسد أصم. أما وزارة الأوقاف الجديدة أو المرجوة فهي في درج الوزير المصلح عبد الحميد عبد الحق؛ وأما المعجزة التي ستؤلف بين الجدة والأوقاف فهي عزيمة الشاب العامل عبد الحميد عبد الحق! والرجل الذي استطاع أن يجعل من العدم وجوداً في وزارة الشؤون، يستطيع أن يجعل من الفساد صلاحاً في وزارة الأوقاف. على أن الذين يعرفون في الأوقاف تلك الصخور التي. أدمت أيدي المصلحين وفلت معاول الإصلاح يقولون إن العمل هنا يختلف عن العمل هناك. كانت وزارة الشؤون أحاديث منى وأساليب بلاغة، فجعلها بثاقب رأيه وصادق عزمه حركة تجديد ونهضة إصلاح. والبناء على الجدد أسرع من البناء على الأنقاض، والتعمير الحر أسهل من الترميم المقيد. أما الأوقاف فهي أحد القروح الثلاثة التي أعضلت الأساة وظلت الدهر الطويل تمج الصديد وتوهم الجلاء أنه من الدين. ولكن المحاكم الشرعية بسبيل النهوض، والأزهر الشريف بسبيل اليقظة، فلم يبق غير هذا القرح مضموم الفم على الفساد ونغل. وقد بلغ من سوء القيام على شؤون الأوقاف أنك لا تكاد تجد في مصر كلها بائساً في بيت كريم إلا من مستحقي الأوقاف، ولا خربة في مكان (صقع) إلا من أملاك الأوقاف. وكان السفهاء من الأجانب يرجعون عيوب هذه المؤسسات الثلاث إلى الطبيعة الإسلام وهو الذي نشر العلم ورقاه، ومدن العالم وحرره.

ص: 1

ومن هدى أولياء الأمر في الدين والدنيا بالنظر في إصلاحها على هدى المدينة الحديثة لتتسق مع الأداة المصرية الأوربية في الإدارة والتعليم والحكم. فدرست العلل، وكتبت التقارير، ووضعت الخطط، وجاء دور التنفيذ فجاء معه الهوى المستبد، والطمع المتهالك، والجهل المتنطع، والتردد الخوار، والمصانعة الحقيرة؛ فانهزمت فكرة الإصلاح وعادة كما بدأت - أحاديث في المجالس، ومقالات في الصحف، وتقارير في الأدراج! فماذا عسى أن يصنع هذا الوزير الفعال وإن أول ما عليه أن يهدم المتصدع ويقطع المؤوف، وربما اتسع الأمر على معولة ومبضعة فيستنفدان جهده ويستغرقان عهده. والهدم والقطع من وسائل الإصلاح لا من غاياته. على أنني شديد الثقة بكفاية هذا الرجل أن كان الأمر كما ترى بلاء العقول الجبارة ومحنة النفوس الكبيرة. وفي يقيني أنه سيعمل لأنه يريد. وأرادته في الأوقاف مطلقة على خلاف ما كانت في (الشؤون). وإن ما كان قد وجه إليه عزيمته من تحقيق الصلاح الاجتماعي بمجاهدة الجهل والفقر والمرض، يستطيع أن يصل إليه عن طريق الأوقاف؛ لأن الأوقاف إنما حبسها المحسنون على كفاح هذه البلايا الثلاث. ولو اجتمع لهذه الأحباس التي تربى على مائتي ألف فدان وستة وثلاثين ألف عقار، الرأس المدبر ولعين الكلوء واليد المصرفة والضمير العفن لهونت على المكدودين متاعب الحياة، وسهلت على المنكودين مصاعب العيش. ولكن هذه الينابيع الفياضة بخير الله قد ردها وا أسفاه! الإهمال والإخلال والعبث إلى أوشال من الرزق لا تكاد تفي بنفقات الإدارة وتكاليف الوزارة!

وزير الأوقاف القائم على شؤونها اليوم حقيق أن يكذب ظنون المتشائمين في إصلاح هذه الوزارة. وأن في ابتدائه بتنظيم الإدارة وأحياء الثقة واستثمار المتروك وتبسيط الإجراء وتعجيل التنفيذ لدليلاً على توخيه النجاح من أقرب طرقه. ولعل الأستاذ الوزير أول من أعلن لوزارة الأوقاف رسالة. ورسالتها كما جاء في حديثه لممثلي الصحف أن تسير على هدى الروح التي تتجلى في المدية الإسلامية: مدينة العلم والخلق والتعاون، فهيئ للمساجد - وهي التي كانت في صدر الإسلام مصدراً لكل ذلك - الوسائل الصحية والدينية والعلمية، ليكون كل مسجد من مساجد الوزارة، في كل قرية من قرى مصر، مؤسسة ثقافية تدير الأبدان بالطب، الأذهان بالعلم، وتطهر النفوس بالدين، وتوثق الأواصر بين الناس

ص: 2

بالمودة والمعونة. ووسيلتها رفع مكانة العاملين ليستطيعوا أداء هذه الرسالة، وإنشاء قسم (الخدمة الاجتماعية بالمساجد) ليمهد لتنفيذ هذه السياسة. وسيجد الوزير العامل مع تراخي الزمن وتوفر المال أغراضاً شيء لرسالة الوزارة تجدد بعض ما درس من رسالة الإسلام. وسيجعل (رجل الشؤون الاجتماعية) من الأوقاف بيت مال لله يكون مثابة للفقير ومصحة للمريض ومدرسة للجاهل. وإن في شيء الأغراض الخيرية التي قصدها الواقفون البررة منتجعاً لآمال الوزير. وإن في ريع خمسين مليوناً من الجنيهات الموقوفة متسعاً لأعمال البر. ولقد كتبنا من قبل في وزارة الأوقاف القديمة ما أملاه الألم والشكوى، فسعى أن نكتب في وزارة الأوقاف الجديدة ما يمليه الأمل والثقة!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

تحول جديد في الجو المصري - بين الشيخ محمد عبده

والشيخ رشيد رضا

تحول جديد في الجو المصري

اخذ الجو يتحول في الأعوام الأخيرة بأسلوب لم تعهده من قبل، فقد صار شتاء مصر عنيفاً جداً، وصار صيفها أعنف، وأصبحنا نتذوق الطعوم المختلفة للحياة الجوية على نحو ما كان يتذوق الأباء والأجداد قبل أجيال

والمنتظر أن يكون لهذا التحول الجديد في الجو المصري تأثيرٌ يزيد في قوة الحيوية وقوة الشعور بالوجود، فقد كاد اعتدال الجو في مصر يخلق ألواناً من البلادة، وكاد يضعف الإحساس بتغير الفصول

والمنتظر أيضاً أن يكون لهذا التحول فضل في التشويق لمعرفة الأجواء المختلفة بالديار المصرية، فسيصير من المألوف أن تكون لنا مواسم في الجنوب أيام الشتاء، كما صارت لنا مواسم في الشمال أيام الصيف، وسيكون من الحتم أن نعرف الأقصر وأسوان كما نعرف الإسكندرية ودمياط

والواقع أن إقبال المصريين على مصايفهم الجميلة ليس إلا وثبة جديدة في تذوق الحياة، فما أعرف أنفي الدنيا مصيفاً يشبه مصيف الإسكندرية، ولا أعرف أن في الدنيا بقعة يتجمهر فيها الجمال كما يتجمهر في ذلك المصيف. والذي يقدر على قضاء أيام بالإسكندرية أو بور سعيد أو دمياط ثم يبخل على نفسه بذلك النعيم فهو من أعيان السفهاء!

صار الاصطياف بحمد الله من صميم التقاليد المصرية، وصار من منهاج الحياة في مصر أن يدخر الناس ما يعين على الاصطياف، ولم تعد الشواطئ مقصورة على من يعرف فضلها من الأجانب، فقد أضجت ملاعب مصرية تحت سيطرة الشبان المصرين، وصار من السهل أن ترى من كبار الرجال من يرتاد تلك الملاعب في الضحى والأصيل

هل شهدتم ملاعب التنس فوق الشواطئ!

ص: 4

إنها مواكب من الحياة البهيجة تهادي في كل صيف، وتشهد بأن مصر مقبلة على فتوة مرحة سيزدهر بها الشعر والخيال

في هذه اللحظة صلصل الهتاف من الإسكندرية يحمل صوت الأستاذ محمد على حماد محرر مجلة الشعلة، وهو يستعجل مقالاً وعدته به عن الديوان الجديد للشاعر على محمود طه فابتسمت وقلت: وحي الشاطئ هو الذي أثار العطف على الملاح التائه، لطف الله به وهداه إلى الشاطئ الأمان!

إن مصر ديار بحرية، ديار تحيط بها البحار من أكثر الجوانب، وتجري بها الأنهار في كل جانب، ومع هذا تقل فيها الآداب البحرية والنهرية، فما هذا الجمود!

إن أسلافنا عاشوا بأفضل مما نعيش، فقد كانت في مدينة القاهرة مشابه من مدينة البندقية، يوم كانت القاهرة تتماوج بين الخلجان، ويوم كانت الملاهي بتلك الخلجان في أصائل الجمع والآحاد تزعج رجال الدين فيفتون بأن النزهة في السفائن حرام لا حلال!

كانت حياة أسلافنا شعراً في شعر، وكان للنيل في حياتهم وجود، ألم تسمعوا أنهم أحاطوه بطرائف من الأقاصيص؟

ومع هذا رأينا من يقول بأن (عروس النيل) أسطورة خلقها العرب لا الفراعين، وحجتهم أنها لم توجد في غير الكتب العربية. فإن صح ما قالوه فالعرب أبلغ في الشعر والذوق، لأنهم تخيلوا النيل فتى لا يعيش بلا عروس، وتلك وثبة من وثبات الخيال.

في القاهرة حي اسمه (بركة الرطلي)، فما تلك البركة في التاريخ؟

نقل الدكتور عبد الوهاب عزام في (مجالس السلطان الغوري) أن وصلها بالخليج الحاكمي في أيام الفيضان كان يوجب إعداد عروس تزف فيه نساء جميلات، وأن السلطان الغوري قد أستفتى الشيخ البلقيني فأفتى بأنها بدعة، وكل بدعة ضلال

ألا تكون عروس البركة صورة جديدة من عروس النيل؟

والشيخ البلقيني كان من ظرفاء المشايخ، وهو الذي قال بأن الميت يسال في القبر باللغة السريانية لا العربية، وفي هذا قال أحد الناظمين

ومن عجيب ما ترى العينانِ

أن سؤال القبر بالسٌّرياني

أفتَى بهذا شيخُنا البُلقَيْني

ولم أرهْ لغيرهِ بعَيْني

ص: 5

وقبر البلقيني معروف بالقاهرة، وهو قريب من قبر الشعراني، عليهما أطيب الرحمات!

قال الأستاذ حماد وقد راعه أن يعرف أني أكتب مقالاً في ظهيرة هذا اليوم القائض: في مثل هذه اللحظة تكتب؟

فقلت لأنها أنسب اللحظات لموضوع هذا الحديث، فما كان أدبي إلا صورة من شعوري بالوجود

قال: متى تزورنا في الإسكندرية؟

قلت: أنا أقضي في الإسكندرية عشرة أيام من كل أسبوع

قال: ولا نراك؟

قلت وهل أزور الإسكندرية لأراك؟

في الإسكندرية ذخائر وجدانية يعرفها من يمشي على قدميه من محطة الرمل إلى المحطة الفلانية، وفي صحبة الروح التي أوحت رسالة (غناء وغناء)، وهل كانت (جنية الشاطئ) إلا مصدر نعيمي وعذابي؟

رواد الإسكندرية غرباء ولست فيها بالغريب، فلي هناك تلك الروح

ومن بينات الحب أنْ كان أهلُها

أعزَّ على قلبي وعينيَّ من أهلي

رواد الإسكندرية غرباء، أما أنا فإسكندرية داري، بفضل تلك الروح

أيجوز الارتياب في القوة الربانية، ومن أبدعها ذلك التمثال من الجمال؟

تبارك من هذا فنه في تحويل الأنوار إلى شخوص تصافحها القلوب!

أن إبداع الشمس والقمر والنجوم لا يدل على قدرة الله بأقوى مما يدل عليها إبداعه الفائق لتلك الروح، بذلك اللطف الوهاج

وهي آية من آيات الله، آية أعظم من البحر ومن السماء، وأنظر من جميع ما في الوجود

أيكون الله أراد أن يجزيني جميلاً بجميل؟

أيكون الله أراد أن يجعل ثوابي في الثناء عليه بخلق تلك الشواطئ الملاح ثواباً روحيا يمثله تفردي بالسيطرة على ذلك الروح المليح

ومن كان له في الإسكندرية رمال وأمواج، فلي فيها أرواح وأضواء

في هالة ذلك القمر أجد مؤلفاتي ومقالاتي وأشعاري، وأجد حول كل سطر شروحاً تفضح

ص: 6

المكنون من أسراري، وأجد حول كل حرف نيرانا رثها أشواقي، فأومن بأن لله فضلاً عظيما في وصل روحي بتلك الروح

كان من حظ الشعر أن يكون لي في الإسكندرية مكان، وأين الشاعر الذي يستطيع الإجادة وهو لم ير الإسكندرية في الصيف؟

يا مدينة أحلامي ويا دار هواي، متى نلتقي؟

وهل افترقنا حتى نفكر في التلاقي؟

وهل فارقتني تلك الروح حتى أفكر في اللقاء؟

هي في رحابي ولو مضت لاستكشاف أقطار السماء

روح الشيخ رشيد

حول إلى سعادة الأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق خطاباً وصل إليه من السيد عبد الرحمن عاصم بطرابلس الشام. وصاحب الخطاب يعترض على ما نشرناه من حديث دار بيني وبين الشيخ مصطفى حول تأثير الشيخ رشيد رضا بروح الشيخ محمد عبده، وحول الدقة في ترجمة الأستاذ الإمام، رحمه الله

وأقول إن ما نقلته من حديث الشيخ مصطفى راعيت فيه الأمانة العلمية، فلم أضيف إليه أي حرف، ولم أشبه بأي عدوان، لأني أعرف فضل السيد رشيد في إحياء مآثر الشيخ محمد عبده، ولأن هذا الرجل كان من أعز أصدقائي

إن لهذه المسألة وضعاً آخر، وهو تجري الصدق في تقدير الرجال، وما كان يجوز أن أطوي حديثاً للشيخ مصطفى يزن به الصلة بين روح الشيخ عبده وروح الشيخ رشيد، مع العلم بأن الشيخ مصطفى حجة في وزن هذين الرجلين، لأنه تلميذ الأول وزميل الثاني ولأنه معروف بكراهة التزايد على الناس

والذي عرفته وتحققته أن روح الشيخ رشيد شابته شوائب من العنف، شوائب خلقها اتصاله بالمجتمع في نواحيه الصواخب، فلم تكن عنده تلك البشاشة الروحية التي اتصف بها الأستاذ الإمام في جميع العهود

وإليكم النادرة الآتية:

قبل أن أكتب هذه الكلمة رأيت أن أحادث جماعة من محبي الشيخ رشيد، عساني أعرف

ص: 7

من أحواله في التسامح الديني ما لم أكن أعرف، وكانت النتيجة أن يقول فلان وهو رجل حصيف: كيف يجوز لسعادة مصطفى باشا أن يرتاب في تسامح الشيخ رشيد مع أن له حكاية تنقض ذلك الارتياب؟

فما تلك الحكاية؟

قال الأستاذ أسعد داغر للشيخ رشيد: أنا نصراني يحترم الفضائل الإنسانية ويروي أن محمداً آية في الكرامة الأخلاقية، فكيف يجوز أن تغلق أبواب الجنة في وجهي؟

فأجاب السيد رشيد: ستدخل الجنة يا أسعد قبل كثير من فقهائنا

ذلك هو تسامح الشيخ رشيد في نظر ذلك الرجل الحصيف. وأنا أرى في هذا التسامح دليلاً على التحامل، التحامل على الفقهاء وكانت بينهم وبين صاحب المنار ضغائن وحقود

ولأجل أن نفهم هذه الحقيقة يجب أن نرجع إلى مقالين في رثاء الشاعر عبد المحسن الكاظمي، المقال الأول في مجلة (الرسالة) بقلم الشيخ عبد القادر المغربي، والمقال الثاني في مجلة المنار بقلم صاحبه السيد رشيد

في المقال الأول عطف ورفق، وفي المقال الثاني قسوة وعنف، فقد قال الشيخ الرشيد في الكاظمي كلمات لا تليق، وسلقه بقلم دونه بأس الحديد

أكانت إهانة الكاظمي بتلك الصورة فرضاً يوجبه التاريخ؟ وما الذي يعكر التاريخ الأدبي لو بقى الكاظمي كما صوره الشيخ عبد القادر المغربي؟

الأمر كله يرجع إلى أن الشيخ رشيد عانى من معاصريه، متاعب ثقيلة جداً، فقد كان الناس يستكثرون عليه أن يتفرد بإعلان مآثر الشيخ محمد عبده والإفصاح عن آرائه الدينية والاجتماعية، وكانوا يرون ظالمين أن الأمر لا يعدو المهارة في الاستغلال

من خطاب السيد عبد الرحمن عاصم عرفت أن فضيلة الشيخ محمد شاكر كتب إلى الشيخ محمد عبده يدعوه إلى كف يده عن رعاية الشيخ رشيد، وأن الأستاذ الإمام أجاب:

(كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني وهو ترجمان أفكاري؟)

وأنا أعرف الشيخ محمد شاكر جيداً، فقد كان على جانب من العنف، وكانت عداوته مرة المذاق، وكان يحارب خصومه في الرأي محاربة المستميت، فمن المؤكد أن خصومته تركت في نفس الشيخ رشيد عقابيل

ص: 8

أما جواب محمد عبده فهو جواب محمد عبده، جواب فلاح مصري شريف يؤازر أنصاره ولو تألبت عليهم الأرض والسماء

مضيت عصر يوم لتنسم الهواء بحديقة الجزيرة فوجدت الشيخ عبد الرحمن قراعة هناك، وكانت الشيخوخة لا ترحم يديه من الارتعاش، فدار بيني وبينه حديث وأحاديث، وجاءت قصة الشيخ محمد عبده فقال:

- هل تعرف أن الشيخ عبده لم يعز أحداً كما أعزني؟

- وكيف؟

- لأني زرته أيام اعتقاله بعد انهزام الثورة العرابية

- ولتلك الزيارة تلك هذه القيمة؟

- أنا وجهت إليه هذا السؤال فكان جوابه أن هذه التفاتة لا ينساها كرام الرجال

ماذا أريد أن أقول؟

زيارة عابرة للشيخ محمد عبده في معتقله تقرر في نفسه هذا الحق، فكيف يكون نصيب الشيخ رشيد من نفسه وهو يرفع العلم لآرائه في كل مكان؟

أترك هذا وأذكر أن قول الشيخ مصطفى بأن تاريخ الشيخ عبده لم يدون على الوجه الصحيح ليس معناه اتهام الشيخ رشيد، ولكن معناه أن تاريخ الشيخ عبده روعيت في تدوينه أشياء من الاعتبارات السياسية، وهي اعتبارات يراعيها أكثر الباحثين في التاريخ الحديث، وعلى الأستاذ مصطفى باشا أن يحررها بقلمه إن تناسى أنه من السياسيين!

أما قول السيد عاصم بأن السيد رشيد لم يجد من يترجم له بعد أن يموت فجوابه حاضر: ذلك بأن الشيخ رشيد رضا ترجم لنفسه بنفسه، ولم يمت إلا بعد أن إن كتب سطور حياته في صفحات الخلود.

زكي مبارك

ص: 9

‌3 - المسرح المصري

لغته وماذا تكون؟

للأستاذ دريني خشبة

الذين يزعمون أن اللغة العربية هي لغة أجنبية عن هذه البلاد هم قوم متعصبون يتجنون على الحقيقة كما يتجنون على أنفسهم، ويسيئون إلى الحقيقة بقدر ما يسيئون إلى بلادهم. . . فلقد أثبتت اللغة العربية حيويتها وصلاحيتها لسكان وادي النيل فلم يمضي قرن أو قرنان بعد فتح العرب مصر حتى كان المصريون جميعاً. . . بما فيهم سكان الأديرة والواحات، يتكلمون اللغة العربية ويعجبون بطواعيتها، وقيامها بأغراض حياتهم قياماً كاملاً غير منقوص، فأنسوا لغتهم الأصلية وآثروا عليها اللغة اللينة السهلة التي مرت بها ألسنتهم في غير مشقة، وأسلست لهم في غير عسر. . . ولتكن أسباب انتشار العربية في مصر ما تكون، فما لا جدال فيه أن المصريين لم يرغموا على التكلم بها وأنهم لم يتعاظمهم أن يهجروا لغتهم إلى لغة الغزاة الفاتحين برغم ما في هذا الترك من مرارة على أنفسهم، وبالرغم مما في تعلم لغة جديدة من عنت وإرهاق

إن انتقال أمة بأكملها، بل أمم كثيرة، من لغة إلى لغة هو ضرب من السحر لا يفسره إلا امتياز اللغة الجديدة وتفردها بفضائل ليست للغة القديمة. وإذا احتج أحد بالعامل الديني لم يستطع تعليل إبقاء الملايين من مسلمي الهند والترك وغيرهم على لغاتهم، ثم لم يستطع تعليل فناء اللغات القديمة في العربية التي جذبت إليها الأقليات الدينية فعربوا كتبهم المقدسة وأغفلوا اللغات الأصلية التي كتبت بها مع ما يكنونه لأصول هذه الكتب من إعزاز وتقديس

هذه مقدمة أوشكت أن تغرينا بكسر الكلام على اللغة العربية وصرف النظر عن المسرح. . . على أننا نعود فنتساءل: هل تصلح العربية أن تكون لغة للمسرح المصري. . . ولست أدري لماذا لا نتساءل: هل تصلح اللغة العامية أن تكون لغة هذا المسرح؟

أما السؤال الأول فله أعداء كثيرون قامت عداوتهم على روح شعوبية منكرة، كما قامت على كراهية للغة العربية التي هم ضعفاء فيها أغلب الأمر، والتي لا علم لهم بأسرارها ولا ذوق أصيل يغريهم بطلاوتها وحلاوتها، وكل أولئك الأعداء هم ممن شدوا لغة أجنبية

ص: 10

فثقفوها وبرعوا فيها قبل أن يتاح لهم نصيب موفور من اللغة العربية. ومنشأ ذلك فساد نظام التعليم في مصر. . . ذلك النظام الذي أوهى من دعائم قوميتنا - ورمزها الأول اللغة - كما أوهى من عصبيتنا لكل ما هو مصري. . . فإن مصر توشك أن تكون الدولة الوحيدة - وربما يشبهها في ذلك الشام - التي تسمح لعدد ضخم من أبنائها ممن يتعلمون بالمدارس الأجنبية أن يتعلموا جميع المواد التي تدرس في هذه المعاهد بلغة غير لغة البلاد. . . فالحساب والجغرافيا والتاريخ والعلوم والرسم والهندسة والأشغال وما إلى ذلك يدرس كله بلغة أجنبية وبواسطة معلمين من الأجانب. . . وهكذا يفقد هذا العدد الجم من أبنائنا مصريتهم، وينسون لغتهم، لأنهم يذهبون إلى تلك المدارس وهم صغار لم يعدوا الرابعة أو الخامسة من عمرهم، أي في السن التي يصلحون فيها للتكييف حسبما تشاء المدرسة وعلى الصورة التي تهوى سياستها أو سبب إنشائها. . . ولقد آن أن نفهم أن الاستمرار في السماح لتلك المدارس بأن يظل منهاج الدراسة بها على هذا النحو هو أشنع ضرب من ضروب الخيانة الوطنية. ولا يقل عنه سماحنا لأبنائنا بالذهاب إلى تلك المدارس. . . وهو هذا الجزء البغيض من تلك الخيانة الذي نصنعه بأيدينا. على أن الآباء الذين يدفعون بأبنائهم إلى تلك المدارس يدفعون اعتراض كل معترض بحجج لها وجاهتها أحياناً. . . ولسنا نرى ماذا يمنع وزارة المعارف من تدارك أوجه النقص التي تعتور نظام التعليم في مدارسها حتى لا تنهض لأولئك الآباء حجة في العدول بأبنائهم عن مدارسها؟ على أن التفات المدارس الأجنبية إلى تعليم البنات وتطبيعهن على الطابع الأجنبي كان خليقاً أن يفتح أعين وزارة المعارف فتقاومه بفتح المدارس المصرية الراقية في كل مدينة بها مدرسة أجنبية تغشاها الفتاة المصرية التي لا تجد مدرسة أخرى في بلدتها لتتعلم بها. . . ولحق أنه لم يعد معنى مطلقاً أن توجه الدولة 95 % من اهتمامها إلى تعليم الذكور، ولا توجه إلى ما تبقى من تلك النسبة المئوية التافهة لتعليم الإناث. وسنظل فقراء في قوميتنا، مدخولين في مصريتنا، بائسين في لغتنا، ما دامت الدولة تقصر هذا التقصير الشنيع في تعليم الفتاة المصرية، صارفة معظم عنايتها إلى تعليم الذكور دون الأناث، مع علمها بأن البنت هي التي تصنع الأمة، وأن نصيبها في ذلك هو أضعاف نصيب الذكر

ونحن إنما نسوق هذا الكلام في معرض الحديث عن لغة المسرح لما له من الصلة الوثيقة

ص: 11

به. . . لأننا نتكلم باللغة العامية ونتعامل بها في حين أننا نقرأ الكتب والصحف ونصغي إلى الراديو والخطب الضافية في المساجد والكنائس، والمحاضرات الضافية في النوادي ودور العلم. . . ثم نحن نكتب في مدارسنا وفي معاملاتنا باللغة العربية الفصحى، أو ما يقارب من اللغة العربية الفصحى. . . وفي مصر اليوم أكثر من ثلاثمائة جريدة ومجلة تصدر يومياً أو أسبوعياً أو كل شهر وكلها مدبجة بهذه اللغة العربية الفصحى. . . من هذه الجرائد ما كان يصدر يومياً في ست عشرة صفحة وفي ثماني وأربعين صفحة محررة باللغة العربية الفصحى وندر ما كان يعثر القارئ فيها جميعاً بغلطة في اللغة. . . ومن مجلاتنا عدد لا بأس به يعني بالأسلوب فلا يسمح بركاكة أو لحن أو إسفاف أو دنو من العامية حتى في أبسط ألفاظها. . . فهل قال أحد إن أي مستمع من عامة الشعب ممن لا يتكلمون العربية الفصحى وممن لا يخطر لهم استعمالها على بال، لا يفهم ما يصغي إليه من موضوعات تلك المجلات وتلك الصحف وما يستمع إليه في خطب المساجد وعظات الكنائس ومحاضرات الوعاظ العامة وإرشادات الإذاعة وأغانيها المنظومة بالعربية من قصائد وموشحات؟

الحق أن عامة المصريين، بل عامة الأمم العربية، تجيد فهم الأساليب العربية وتسيغها. . . ولو لم تكن هذه العامة متعلمة، ولو لم يكن لها بصر بطبيعة تراكيب تلك الأساليب. . . وما دامت هذه العامة تفهم تلك الأساليب ولا تضيق بها، بل هي تلتذها أحياناً وترددها في أغاني كبار المطربين وفي أحاديث الرسول الكريم التي تحفظها عن ظهر قلب، وفي آيات القرآن التي ترددها وتمزج بها حياتها في صلواتها وأدعيتها، وفي آيات الكتب المقدسة الأخرى. . . فليس من العسير أن تحاول الدولة التمهيد لإحلال العربية الفصحى محل هذه اللهجات الدارجة المتعددة، وذلك بتعليم الفتاة المصرية وتنشئتها في بيئة مدرسية عربية لا يؤذن فيها بتعلم لغة أجنبية حتى تبلغ الفتاة الثانية عشرة على الأقل، وحتى تكون قد أنضجت فيها قوميتها المصرية التي نعتبر اللغة العربية أكرم مقوماتها. . . ونحن نلاحظ أن الطبقات المتعلمة في مصر وفي الشرق العربي عامة، أقل استعمالاً للهجات الدارجة من سائر طبقات الشعب غير المتعلمة. . . فمعظم طبقات المتعلمين في مصر وفي الشام وفي العراق يداولون أحاديثهم بينهم باللغة العربية، أو ما يقرب أن تكون لغة عربية خالصة،

ص: 12

اللهم إلا ما تقضي به العادة من استعمال العامية في مجرى الحديث في غير وعي. . . فالتعليم إذن هو الوسيلة الوحيدة لإحلال العربية الفصحى محل العامية الدارجة. . . أما عنايتنا بتعليم الفتاة خاصة فذاك أنها هي التي تتولى تربية أطفالنا في سنيهم الأولى، فهي كفيلة إذن أن تصقل ألسنتهم، وأن تفهم عن المدرسة ما تهدف إليه من مطامح وأغراض، فهي على مساعدتها أقدر من الأم الجاهلة المغرقة في الأمية، ومن الأم التي تعلمت في مدرسة مصرية عرجاء، أو في مدرسة أجنبية تعنى أول ما تعنى بمحاربة القومية المصرية في كل مشخصاتها وأهم تلك المشخصات اللغة التي لا تسيحي بعض طبقاتنا الراقية ممن تعلموا - أو تعلمن - في مدارس أجنبية من هجرها واحتقارها ومداولة الحديث بلغة أجنبية حيث لا يكون في المجلس أجنبي واحد. . . هذه كارثة اجتماعية ينبغي أن تعالجها الدولة بما يجب لها من جهد. . . وليس على الأرض قاطبة لغة أشرف من لغتنا لو وجدت من يخدمها في إخلاص ونصح. . .

وإلى أن يتم هذا الإصلاح، وإلى أن تلتفت الدولة إلى خدمة اللغة العربية على النحو الذي تراه، لا نرى مندوحة من الصراحة في القول ونحن نتحدث عن لغة المسرح المصري وما ينبغي لها أن تكون في الوقت الحاضر، من أن نوصي باللغة العامية خيراً في هذا الحديث. . . فللغة العامية محاسنها التي لا تنكر، ومن هذه المحاسن ما تتفرد به، وما لا يؤديه شيء في العربية الفصحى إلا حيثما تفشو، هذه العربية الفصحى، بين الناس بحيث تختلط بدمائهم وألسنتهم كما تختلط العامية الآن. . . وليس الخير الذي نريد أن نوصي به للغة العامية هو الخير المطلق الذي يجعلها لغة المسرح عندنا. . . كلا. . . وإلا كنا ندعوا إلى شر لا إلى خير، وإلى نكسة لا إلى نهضة، فليست لغة غير اللغة العربية تصلح للمسرح المصري خصوصاً في الروايات المترجمة التي كان يقبل الجمهور عليها إقبالاً شديداً في فجر نهضتنا المسرحية التي كان يضطلع بها الشيخ سلامة جازي وجورج أبيض وعبد الرحمن رشدي والشيخ أحمد الشامي وأحمد سماحة، والتي ازدهرت أيما ازدهار في السنوات الأولى من حياة مسرح رمسيس قبل الانشقاق المشئوم الذي مزق وحدة الممثلين المصريين البارزين والذي انتهى إلى تلك العواقب المحزنة التي لم يسلم منها إلى اليوم. ولا يفوتنا أن نذكر الفرقة القومية بهذه المناسبة. . . فقد كانت اللغة العربية هي لغتها

ص: 13

الرسمية، وكان يرجى الخير كل الخير من هذه الفرقة العتيدة التي قضت عليها سياسة قصر النظر. . . تلك السياسة المرتجلة التي كانت تريد أن تجعل من هذه الفرقة مشروعاً تجارياً فلم تعرف لها حقها الثقافي، ولم تعرف لأبطالها مقدرتهم على الاضطلاع بالنهضة المسرحية وحسن استعدادهم لأداء مهمتهم فضربت بهم عرض الأفق، وقبضت عنهم كفها؛ مما نرجو أن نعرض له عند الكلام عن فرقنا التمثيلية. . . ونأمل أن لا يغضب كلامنا هذا أحداً من أبطال التمثيل في مصر، وألا يترك ثناؤنا على زيد غضاضة في نفس عمرو. . . فقد آن أن يكون عمل الجميع خالصاً لخير المسرح

وقصار النظر هم الذين يزعمون أن تمسك المهيمنين على الفرقة القومية باللغة العربية هو الذي قضى عليها. . . بل قضت عليها عوامل أخرى سنعرض لها في حينها إن شاء الله. . . فاللغة العربية يجب أن تكون اللغة السائدة في جميع الروايات المترجمة. أما الروايات المصرية فمسألة فيها نظر. . .

وإليك أيها القارئ بعض الأسئلة التي تتبادر إلى ذهني وذهنك بهذه المناسبة:

هل يجوز أن يدير المعلم (فلان) الجزار أو البواب أو الخادم أو بائع المقانق (السجق ولا مؤاخذة!) حديثة باللغة العربية في زماننا الذي نحن فيه؟

وهل نستطيع أن نخلق جواً كوميدياً (هزلياً) باللغة العربية الفصحى دون أن تنتهي جهودنا إلى الغثاثة والسخف؟

وهل نستطيع الاستغناء في جميع رواياتنا الكوميدية عن لهجتنا المضحكة المرحة من (صعيدي وشرقاوي وبربري وشامي ومغربي؟)

وهل نستطيع الاستغناء عن أمثالنا العامية الفياضة بالحكمة وعن نكاتنا القومية التي لا يعقل أن ترسل بغير اللغة العامية؟

وهل نستطيع الاستغناء عن الفلكلور المصري كله طفرة من غير أن نمنح أنفسنا مهلة ليكون لنا فلكلور آخر لا غنى لحياتنا الأهلية عنه، إلى أن نستعرب تمام الاستعراب؟

. . . ولنسأل أنفسنا هذا السؤال أيضاً:

هل في أوربا أمة استغنت تمام الاستغناء عن لغتها الدارجة في مسرحها المحلي؟

وأحسب أن الإجابة هي بالنفي القاطع عن كل الأسئلة الأولى، ولعل السؤال الأخير فقط هو

ص: 14

الذي يحتاج لإيضاح. . .

ولا مراء في أن ولا مراء في أن جورج برنردشو هو أعظم مسرحي عرفه العالم في العصر الحديث، وأكثر النقاد على أنه من أعظم مسرحي التاريخ، ثم هو رجل تدين له اللغة الإنجليزية بفضل كبير. وهو في الوقت نفسه من أكبر كتابها حيث لا ينازعه المرتبة الأولى إلا واحد أو اثنان من أساطين كتبها. . . وقد استطاع شو أن يجعل اللغة الإنجليزية الفصحى معيناً لا ينصب من اللغة العامية، وهو يعتبر هذه اللغة ضرورة لا غنى عنها للكمال المسرحي خصوصاً لشخصيات الرعاع والغوغاء التي يصرح أنه أن أنطقها بالإنجليزية الفصحى التي لا تعرفها ولم يسبق لها أن لهجت بها فأنه يجافي الواقع وينافر الطبع ويقلق الذوق المسرحي، ولذلك تراه في عدد كبير من رواياته، خصوصاً في ملاهيه المرحة، يرسل حديث أحد أبطاله الرئيسيين بالعامية من أول الرواية إلى آخرها، كما في ملهاته كانديد حيث لا يتكلم برجس إلا بالعامية؛ وكما في روايته:(هداية الكبتن براسبوند)، حيث لا يتكلم البطل درنكووتر إلا العامية كذلك. ولو أرنا ضرب الأمثال من روايات كتاب آخرين يرتفعون إلى مستوى شو لما أعوزنا ذلك. على أن الكاتب الإنجليزي سويفت كان أول من تولاه القلق على ضياع العامية الإنجليزية، ولذلك أنشأ مجموعته الفاخرة منها، والتي تعد اليوم معيناً لا ينضب لإمداد الإنجليزية الفصحى بما تفتقر إليه من ألفاظ قد لا تستطيع نحتها فتفضل استعمال المرادف العامي من أن تأخذ عن اللغات الأجنبية مع أنها لا تأبى أن تصنع ذلك. والحقيقة أننا نغلو غلواً لا معنى له في استهجان لغتنا العامية واستقباح استعمالها مع أنها كنز لم نعرف قيمته بعد نستطيع أن نسعف منه العربية الفصحى بما لم تسعفه به بدواتها الأولى التي حرمتها من كثير من مقومات الحضارة

وقصارى القول فيما ينبغي أن تكون عليه لغة المسرح المصري هو وجوب استعمال العربية الفصحى استعمالاً مطلقاً في الروايات المترجمة، واستبقاء اللغة العامية لبعض شخصيات الملاهي ليمكن خلق الجو الكوميدي المرح، كما يجب استبقاء اللهجات العربية الفكهة التي أشرنا إلى بعضها في مجرى الحديث لتساعد في خلق هذا الجو. . . وإن كان رأينا هو أن تقوم الملهاة على موضوعها لا على نكاتها وشتائمها كما هو شائع عندنا اليوم.

ص: 15

دريني خشبة

ص: 16

‌حول الأدب المهموس

غلطة الآلهة!

وشتائم الأستاذ مندور

للأستاذ سيد قطب

شاء الأستاذ مندور أن ينقلنا من الجو الأدبي الذي كنا نعيش فيه، ومن اللغة الأدبية التي كنا نتجادل بها، إلى جو آخر كريه، وإلى لغة أخرى هابطة، يبدو أنه يهرب إليهما كلما أحرج في جدل أدبي لا يملك أدواته

وقد تحدث إلي بعض الأدباء مستائين لانحدار أسلوب الجدل الأدبي إلى هذا المستوى الهابط، فأحب أن أعتذر عندهم للأستاذ مندور:

الرجل ذو حساسية مريضة في ناحية خاصة، ولم أكن في أول الأمر أعلم موضع هذه الحساسية، وإن كان حدسي قد هداني إلى شيء منها وأنا أتتبع ميله إلى (الحنية) في الأدب، وطريقته في المناقشة.

فالأستاذ مندور معذور إذن إذا خرج عن طوقه، ومعذور إذا لم يملك قلمه عن هذا الانحدار إلى شتائم شخصية لا يعسر على أي مخلوق أن ينحدر إليها، وإن كان يعسر على بعض المخاليق أن يرتفعوا عنها لسبب من الأسباب

على أن الخرافة اليونانية التي ساقها الأستاذ مندور في العدد الأخير عن خلق الرجل وخلق المرأة تكفي وحدها لحل عقدة الخلاف بيني وبينه في فهم الأدب ودراسة الشخصيات. فيبدو أن هؤلاء الآلهة الملاعين يزيدون في نسب المزج والتركيب وينقصون في كثير من الأحوال. ويبدو أن نسبة المزج في الأستاذ مندور تختلف اختلافاً بينا عن مثيلتها في رجال أمثال العقاد وسيد قطب، فطبيعي إذن أن تختلف الأمزجة والأحكام بنسبة هذا الاختلاف!

والغلطة - كما ترى - ليست غلطة الأستاذ مندور، إنما هي غلطة أولئك الآلهة الملاعين!

وقد اختار الأستاذ الفاضل في رده علي طريقة (الملاوعة والمكايدة)، ففهم أنه (يغيظني) إذا راح يتحدث عني كتلميذ للعقاد، ويصغر من شأني في أعين القراء. فأحب أن أقول له: إنني لسوء الحظ - لا أفهم الأشياء على النحو الذي يفهمه، لأن الآلهة فيما يبدو لم تودع

ص: 17

تركيبي تلك النسبة الكبيرة من الجنس الآخر! فليس أحب إلي من أن أكون تلميذاً ناجحاً في مدرسة العقاد

وإنني لأؤكد للسيد مندور أن العقاد لو كان بين أساتذته هو أولئك الذين منحوه الدكتوراه أخيراً، فصيروه دكتوراً (في الأدب على ما أظن) لكان خيراً مما هو الآن بكثير، ولما وقف تلك الوقفة الغبية البليدة أمام مقطوعة (الكون الجميل)

ولاستطاع أن يدرك كما يدرك أصغر تلاميذ العقاد أن الشاعر الكبير حين قال:

قل ولا تحفل بشيء

إنما الكون جميل

كان يستعرض في لمحة من لمحات الحس. . . كل ما يعترض الفرد ويعترض الإنسانية من هموم وأشجان في هذا الكون، وكل ما ترمي به الحياة من تهم وشكايات، وكل ما تذخره الدنيا من آلام وأشواك؛ ويقابل هذا كله بذلك الجمال الكوني الفتان، فيقولها قولة الصوفي العابد لهذا الجمال:

قل ولا تحفل بشيء

إنما الكون جميل

قلها على الرغم من كل شيء، فإن للسكون شفاعة حاضرة من هذا الجمال، بل إن الكون لجميل على وجه القصر والتوكيد لا يغض من صنعته هذه شيء من تلك الأشياء

وهذا هو الذي يقف أمامه (الدكتور مندور) يقول في غير استحياء:

(هذه جملة مبتذلة لأنك تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء)

وبعد فلا حديث لي بعد الآن مع ضحية الآلهة اليونان

(حلوان)

سيد قطب

ص: 18

‌وفود العرب على كسرى

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

وجه إلي أستاذنا الجليل (ن) كلمة طيبة تحت هذا العنوان بشأن ما نشرته في (الرسالة) في موضوع (الخطابة بين الحرب والسياسة)

وما بال السيد الجليل (ن) يخفي عنا اسمه، وقد دلت عليه عبارته وأشارت إليه مقالته، كما يدل فسيق المسك على المسك، ونضح الإناء بما فيه. وقلنا ونحن نقرأ مقاله ونتذوق بيانه: هذه نفحة من شيخ أدباء الجارة الشرقية والشقيقة العربية؛ طالعنا بها على بعد أمد، وطول عهد والتزام صمت؛ فوردة نماذج الروح لطافة، وتجري مع النفس رقة

يتهمني الأستاذ الجليل أنني قدرت في نفسي صحة حكاية وفود العرب على كسرى، وهي تهمه يشرفني أن أكون بها مقترفاً، ولها مكتسباً؛ فقد أوردت قصة الوفود في مقام يقتضيها وسياق يستدعيها، ولم أتعرض لها من حيث صحة الوقوع وصدق الرواية؛ فذلك لم يكن سبيلي في المقال؛ ولكنني سقتها - على علاتها - كما ساقها صاحب العقد الفريد في أول الجزء الثاني من كتابه.

وكان غايتي من سوق خطب الوفود في مقالي بالرسالة أن أستشهد على حذف بعض الخطباء وحضور بدائهم وسرعة خواطرهم في المقامات الضيقة التي يفرجونها ببيان ولسان وجدل، فلم أجد أحسن في الاستشهاد ولا أطوع في الانتقاد من خطب وفود العرب على كسرى

وابن عبد ربه نفسه الذي نقل أخبار هذه الوفود يمهد لها في أول كتاب الجمانة بقوله: (. . . فأنها مقامات فضل، ومشاهد حفل، يتخير لها الكلام، وتستهذب الألفظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوفود عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته يتزعون وعن رأيه يصدون). وهذا كلام من ابن عبد ربه له خبئ. . . معناه أنه مقر بصحة ما ينقله، وأن هذه الوفود الوافدة على ملك الفرس لم تكن خبرا ًمصنوعاً ولا حديثاً موضوعاً. وأن غيرها من أخبار الوفود صحيح في اعتبار المؤلف، وخاصة بعد قوله في التمهيد المشار إليه: (وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي. . . ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقدمه مرة، ويتحفظ من أمامه أخرى، أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة، أو غريبة من

ص: 19

غرائب الفطنة؟)

ويقول الأستاذ الجليل (ن) ناقلاً كلاماً في موضوع الوفود على كسرى: (ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج، ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته). وأقول إن الأستاذ العربي الجليل قد رمى العرب في هذه المقالة بما لم يرمهم به أعداؤهم، فكيف يفوت ذلك على فطنة أستاذنا وهو يعلم أنه إذا رمى فسيصيبه سهمه، وأنه - أعزه الله وشرفه - من غزية. . . إن غوت غوى. . . وإن ترشد غزية يرشد. . .!

لقد كان النعمان من ملوك الحيرة، ولهم الملك المؤثل كما كان الغساسنة في الشام. وهذا كلام لا يغيب عن علم الأستاذ الجليل ولا يند عن أبسط معارفه، كما لا يغيب عنه شعر حسان ابن ثابت - في الجاهلية - في مدح الغساسنة وصف بياض وجوههم، وكرم أحسابهم، وشمم أنوفهم، وأولية طرازهم. . . فهل يقل المناذرة عن الغساسنة شيئاً من مكارم العرب واعتدادهم بأنفسهم في ساعة يحسون فيها انتقاص منتقص، أو اعتداء معتد مهما كان شأنه؟

وما الذي يمنع من وفود النعمان على كسرى وهو تابع له وفي ظل حمايته؟ لا شيء يمنع عقلاً من حدوث الوفادة. ونحن نرى في زماننا هذا الأمم المحمية، يفد مندوبها على الأمم الحامية القوية. . . ويجلسون حول الأنضاد الكبيرة، والموائد المستديرة!

فهل تعدم هذه الأمم المحمية اليوم رجلاً من أعز رجالاتها؛ أو بضعة من أصدق ألسنتها يقولون ما يعتقدون، ويدفعون عن أممهم وأوطانهم بحسن البيان، ما لا يستطيعون دفعه بالسان؟

اللهم إن هذا يحدث اليوم تحت سمعنا وأبصارنا، والأستاذ (ن) شاهد به هذه الوقود الحديثة والموائد الخضر نبأ يقين. . .

فلماذا ينكر هذا القلب العربي المتوثب - قلب أستاذنا الجليل ن - على النعمان بن المنذر واكثم صيفي وحاجب بن زرارة والحارث بن ظالم وغيرهم من سادات تميم، وأشرف بكر، وغطاريف عامر، وجحاجحة زيد - كيف ينكر عليهم أن يقولوا في سبيل العروبة كلمة يعتقدون حقيقتها ويؤمنون بصدقها، إيمانهم بالمصطحبات من لصاف وثبرة يزرن ألالاً

ص: 20

ويتدافعن في سيرهن. . .؟

يقول الأستاذ الجليل (ن)(كلام الذي أوفدهم ابن ماء السماء إلى سلطان فارس مزور مختلق لم يقله النعمان ولا جماعته ولن يستجرئوا على مثله)

ونحن نقول إن العربي لا يستجرئ على إعلان حميته وإبائه إلا لما أودع الله فيه صفات الأنفة العزيزة والكبرياء الرفيعة؛ حتى ولو كان في الأطمار والأسمال خاوي البطن عاري الشوى والمنكبين من الطوى. . . وهو على عنجهيته ولوثته بصير بمواطن الكلام، عليم بمرامي السهام. . .

وإني على ما كان من عنجهيتي

ولوثة أعرابيتي لأديب

وقد انتقى النعمان لوفد كسرى جماعة وظنهم بميزانه، وأنزلهم أقدارهم التي يعرفها عنهم؛ وتوسم فيهم - لطول معرفة، أو حسن سماع، أو ص دق جوار - حسن الجواب ولطف المخرج من مضايق الكلام. ولم يخترهم من أهل الغفلة والبله، والسرعة والحمق؛ وتلك حسنة أخرى من حسنات النعمان، وفضيلة من فضائله؛ فهو هنا محسن يحسن اختيار الرجال، ويتنخل أعضاء الوفود الذين يصح أن توكل إليهم المهمات وتلقى عليهم التبعات. . .

إذا كنت في حاجة مرسلاً

فأرسل حكيماً ولا تُوصه

وفعلاً وحقاً وصدقاً، لم يكذب النعمان قول الشاعر الإسلامي فأرسل مع الوفد حكيماً عربياً عرف بالصدق في الكلام وأشتهر بالقولة السائرة والحكمة المرسلة، وهو أكثم بن صيفي، فلم يعد أن يكون حكيماً في مقام المفاخرة. وتلك لطيفة من لطائف وفود العرب على كسرى؛ فقد كانوا يستطيعون أن يكونوا كلهم أبواقاً - أو بوقات - يضربون على فضائلهم، ويغنون على (ليلياتهم). . . ولكنهم قسموا العمل، ووزعوا الخطة وأحكموا الطريقة في هذا المؤتمر الذي يشبه مؤتمر (كذا) في بلاد (كذا) في عصرنا الحديث. . .

فأكثم بن صيفي حكيم ينطق بقدر، ويزن الكلام إذا نطق، فليس ثرثارة يخطب، ولا مهذاراً يكثر؛ بل يرسل الحكمة تلو الحكمة، والكلمة الصادقة أثر الكلمة، ويوجه الكلام - على حد البلاغيين - فيأخذ منه كسرى ما يأخذ لنفسه ويدع ما يدع. والحكيم في ذلك لم يغلط في قول، ولم يعنف في كلام، ولم يجهل أقدار الملوك، ولم يخرج عن جادة الاعتدال. فكيف

ص: 21

يقال بعد ذلك إن خطباء هذه الوفود لن يستجرئوا على مثل ما نسب إليهم من الكلام؟

ويقوم عمرو بن الشريد السلمي فيفخر في إيجاز؛ ويهدد في إعجاز. أما افتخاره فما كان فيه غالياً ولا مبالغاً ولا نفاجاً ولا كذباً ولا مسخطاً لكسرى ولا متنقصاً للفرس؛ فهو يقول عن العرب بارك الله فيهم: (إن في أموالنا مرتفداً؛ وعلى عزنا معتمدا، إن أو رينا ناراً أثقبنا، وأن أود دهر بنا اعتدلنا. إلا أننا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون). لا فض فوك يا ابن الشريد! فما عدوت الصدق في كلامك، ولا جاوزت الحد في افتخارك. فهو يعلن هنا في كلمته الموجزة ميثاق الصداقة مع حليفته الكبرى. . . وهذا كلام لا يؤلم الحلفاء؛ ولا يوجع الأصدقاء وترجمته في لغة السياسة الدولية الآن أنه إذا اعتدى على بلاد الفرس فإن الأمة العربية الحليفة ملزمة بتقديم المعونة لها من المال والعتاد والرجال. . .

فأين موضع الجرأة أو الكذب أو المغالاة أيها الأستاذ الجليل، في هذا الكلام الوفي الجميل؟

بقى أن ذكرت أيها السيد العربي الكريم في تساؤلك أن صانع خبر الوفود أو صائغه أو مختلقه أو مزوره هو الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي. فقد ذكر ياقوت الرومي أن من تصانيف الزبير هذا كتاب (وفود النعمان على كسرى)

وأقول أنا: إن ياقوت الرومي ذكر نقلاً عن ابن النديم صاحب الفهرست الذي عاش قبله بقرابة قرنين من الزمان. ووصفه ابن النديم بقوله: كان شاعراً، صدوقاً، راوية، نبيل القدر. فكيف يجوز لمن هذه أوصافه أن يضع الحديث الأدبي ويختلق الأخبار؟ وقد الزبير قاضياً على مكة وتوفي وهو قاض عليها. فكيف صح في القضاء رجل يتهمه أستاذنا الجليل اليوم بالوضع والاختلاق

وما حاجة الأستاذ الجليل أن يبني كلامه في اتهام الزبير بكار على الظن والفروض ما دام كتابه في وفود النعمان على كسرى لم يصل إلينا

وفوق ذلك أن الزبير بن بكار عاش في القرن الثالث الهجري ومات سنة 256هـ وفق رواية ابن النديم. فهو متأخر عن ابن القطامي والكلبي اللذين نقل عنهما ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد حكاية الوفود على كسرى. فإذا كان هناك وضع في هذه الحكاية فأولى به أن يكون صاحبه ابن القطامي أو الكلبي - سواء أكان محمدا الكلبي أم ابنه هشاما الكلبي - فلم يشتهر عنهما وضع - شهد لهما الأوائل بتقدمهما في علم الأنساب

ص: 22

أما ابن القطامي فقد اشتهر عنه الكذب المقصود والاختلاق المعمود إليه؛ مع غفلة وبلاهة وضعف في الحكم وسقم في الفهم وسرعة تصديق لما يسمع من غير تدبر وتفهم. ويجوز أن يكون هو الذي وضع أو صاغ حكاية وفود العرب على كسرى إن كان لابد في هذه الحكاية من وضع

أما رأيي أنا. . . فحكاية الوفود صحيحة وليس فيها محل للإنكار والاستنكار، وهي جائزة الحدوث علماً وعقلاً، فهي تتفق مع صراحة العرب وإبائهم وحسن قيامهم في المواقف الضيقة وصدق حكمتهم، والوفاء لأحلافهم؛ ولو أن فيها من زخرفة الرواة وتزيد أهل الأخبار.

محمد عبد الغني حسن

ص: 23

‌في الشعر المهموس

للأستاذ حسين الظريفي

ليس من البحث في شيء أن نتناول الظاهرة في العلم أو في الأدب أو في الاجتماع، ونغفل المصدر الذي انبعثت عنه كشأن الحديث الذي دار وما يزال دائراً على الشعر المهموس في (الرسالة) و (الثقافة) دون أن يصل الناقد والمنقود إلى نقطة اتصال، يتم فيها بينهما التفاهم على ما اختلفا فيه ولا يزالان على خلاف

ولو أن كلا منهما اتجه بالبحث إلى تعيين مصدر هذا الشعر في أدب المهجر، لضاقت بينهما شقة الخلاف، ولقاما بتعليل جروح كثيرة. وما كان القول بتخلف الشعر في مصر، أو بنفي هذا التخلف، إلا علة السير على الهامش وترك الصميم. وهذا ما رغبتي في أن أقول كلمتي لإملاء فراغ الموضوع

والواقع أن شعر المهجر طابعاً خاصاً يعرف به. لا من حيث مبانيه ومعانيه فحسب، ولكن من حيثية أخزى، هي ذلك الإيقاع الذي يقرع به الأسماع، أو مدى ذبذبته على حد التعبير العلمي. وهذا ما يحمل على استصواب تسمية هذا الشعر بالشعر المهموس، وتخطئة نعته بشعر الحنين. لأن هذه التسمية الأخيرة ترتكن إلى انفعال الشاعر بينما تعتمد التسمية الأولى على النزعة الشعرية العامة في قطر بعينه. فالموضوع يدور على هذه الظاهرة العامة في شعر المهجر، تاركاً وراءه البحث عن كل انفعال خاص - كالحنين - لا يقوم إلا إذا قام الباعث عليه. وما يظهر إلا لحاجة ثم يختفي

وأنا أراد نزعة الهمس هذه إلى شعر الشقيقة سورية؛ لأنها هي الأخرى تتميز بهذا الضرب من الشعر، وإن كانت تسير فيه خلف الشعر في المهجر. ويظهر أن شعراء الشقيقة وجدوا في العالم الجديد ما إذا قيهم نزعة الهمس هذه، فإذا هي علامته الفارقة في الشعر على اختلاف أغراضه وفنونه

ونحن نجد ظاهرة الهمس في النثر إلى جانب ظهورها في الشعر، ثم نجدها في فنون الغناء السوري، كما نجدها في لهجة التخاطب. فالقوة الموسيقية في الإعراب عن الخواطر والانفعالات؛ وأعني بها ما اصطلحنا عليه بكلمة (الهمس) لا تكاد تختلف في ضروب هذه الأساليب البيانية من شعر ونثر وغناء وتخاطب

ص: 24

وقد أطلت التفكير في مصدر هذه الطاقة الموسيقية فلم أجده إلا في طبيعة البلاد السورية، فإنها هي المصدر الذي صدرت عنه هذه الظاهرة وانسجمت علي كافة طرق التعبير. لقد فعلت طبيعة البلاد فعلها الخاص في أعصاب هؤلاء الشعراء وتسربت منها إلى فنون القول موزوناً وغير موزون

يقابل ذلك ما ينتج من العراق من شعر ونثرن وما يألف من ضروب الغناء؛ فإنه يقف في الطرف الثاني من المحور، حيث يقف على طرفه الآخر أدب المهجر. إن الأدب في العراق كالغناء فيه يعتمد في إيصال الشعور على قوة اللهجة؛ فإذا كان أدب المهجر يمس شعور القارئ أو السامع برفق ولين، فإن أدب العراق لا يمسه إلا بشدة. ويقف بين هذين أدب مصر، فلا هو بالضعيف ولا بالعنيف

ولا محل للقول بتخلف الشعر في مصر لأن رنة الإيقاع فيه غير هادئة؛ فالشعر لا يقاس بهذا المعيار، وإنما ينظر في مدى ارتقائه على أنه أسلوب بيان ومجموعة خواطر. أما قوة اللهجة فيه فإنها مظهر الحالة العصبية التي كان عليها الشاعر عند بنائه بيوت الشعر. وليست هذه الحالة بجزء من الشعر لتكون جزءاً مما يقاس به مدى ارتقائه وطول بقائه، ويحكم له أو عليه

وقد نرى الهمس والجرس في بعض قصائد الشاعر فلا يصطبغ شعره بهذا اللون، لأنه وليد حالة روحية خاصة تأتلف الموضوع المقول فيه. ومركز الثقل فيما دار ويدور عليه الحديث على لسان الرسالة وزميلها الثقافة، هو ندرة ما في مصر من هذا الشعر وكثرة ما في أدب المهجر منه. تلك الظاهرة التي أرجعناها إلى طبيعة البلاد. فشاعر المهجر عاش في وسط لا ترهق فيه الأعصاب، ومن ثم كان تصويره وتعبيره غير مرهق الأعصاب غيره. أما الشاعر في مصر أو في العراق فإنه محاط من حمارة الصيف بما يتعب الأعصاب ويبعد بها عن أن تنفعل إلا بأبلغ المؤثرات. وهو بمدى تأثر هذه مسوق إلى التهويل عند محاولة التأثير فيمن سواه. فكان كل من أدبه وغناه يعتمد في التأثير على ارتفاع الصوت فيه وإن صم الآذان

وأعتقد أن حالة الأعصاب هذه كانت وما تزال حائلاً دون انتشار القصة والرواية في أدب العرب، وباعثاً إلى وضع تلك القواعد الأدبية التي تقول باختيار ما قل ودل، وأن الإعجاز

ص: 25

في الإيجاز

فإذا اتفقت كلمة الباحثين على أن الشعر المهموس وليد طبيعة خاصة تفعل في نفس الشاعر، لا يبقى محل للنعي على الشعر في مصر، أو للقول بأن الهمس فيه فن من الفنون

إن الهمس أو الجهر في الشعر أو في غير الشعر، لا يمكن اعتباره مظهر تطور أو تأخر، لأنه لا يدل إلا على مقدار الطاقة التي بذلها صاحب الفن في سبيل التأثير في الآخرين

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي

ص: 26

‌برنارد شو

بمناسبة بلوغه السابعة والثمانين

في السادس والعشرين من يوليو يبلغ برنارد شو عامه السابع والثمانين

وقليل من العظماء الذين يتاح لهم أن يعيشوا ليروا أسماءهم ترتفع إلى ذروة الشهرة، وبرنارد شو هو أحد هؤلاء الذين قدر لهم أن يلمسوا شهرتهم العالمية بأنفسهم، فلم تلق مؤلفات كاتب منذ شكسبير إلى الآن ما لقيته مؤلفات شو من الرواج والذيوع. فمؤلفاته تطبع منها الملايين وتمثل على أعظم المسارح وتعرض على الشاشة البيضاء في جميع أنحاء العالم

ويعتبر شو أكبر كاتب وناقد اجتماعي وسياسي وديني. ويمتاز بنظرته النافذة وأسلوبه التهكمي اللاذع وقدرته على مهاجمة النظم القائمة في إقدام وجرأة

ولد جورج برنارد شو في دبلن في أيرلندا في السادس والعشرين من يوليو عام 1856. وكان والده سكيراً لم يصادف في عمله حظاً ولا توفيقاً

ولما كان شو الصغير في الحادية عشرة أرسله والده إلى مدرسة ابتدائية في دبلن، فلم يظهر هو الآخر نبوغاً ولا تفوقاً، بل كان كما قال أرشيبلد هندرسون مصدر قلق ومتاعب لمدرسيه وشغلاً لزملائه عن الدرس، إذ كانوا يفضلون الانقطاع لسماع ما يرويه لهم من القصص على الانتباه إلى مدرسيهم

وكانت أمه - التي أخذ عنها ابنها الشيء الكثير - ذات خلق كريم وثقافة عالية، تهوى الموسيقى، وكان بيتها ومزاراً لكبار الموسيقيين في ذلك العصر وعلى رأسهم (جورج جون فاندليرلي) وكانت نشأة شو في هذا الوسط سبباً في اكتسابه كثيراً من المعلومات في هذا الفن وهيأت له جواً من الجمال والخيال

ولما بلغ شو العشرين من عمره رحل إلى لندن حيث قضى الأعوام الستة التالية في عوز وفاقة، وأوشك أن يغلب عليه اليأس، وكاد أمله في الكتاب يتحطم إذ لم يربح من إنتاجه الأدبي طوال هذه المدة سوى جنيهات معدودة

ولما كان في السادسة والعشرين استمع إلى محاضرة ألقاها الاقتصادي الكبير هنري جورج عن الملكية الزراعية بين فيها رأيه في مشاكل العالم الاجتماعية وقال إن الحل الجيد لهذه

ص: 27

المشاكل ينحصر في جعل الأرض ملكا مشاعاً للجميع، بينما تبقى رؤوس الأموال الأخرى في يد الأفراد. فراقت شو هذه الآراء وقرر اعتناقها، ولكن ذلك لم يدم طويلاً بل تغير حين قرأ شو كتاب كارل ماركس عن الاشتراكية والرأسمالية وقد تأثر شو بهذه الآراء إلى حد جعله يقول إن كتاب كارل ماركس هو الزي الذي خلق مني رجلاً

وما حل عام 1894 حتى كانت شهرة شو قد ذاعت، فقد أضحى بعد هذا التاريخ كاتباً قصصياً يطلع برواياته على الجمهور مصدرة بمقدمات تتضمن آراء في المسائل السياسية والاجتماعية. وإذا كانت هذه المقدمات لا تتصل في الغالب بموضوع الرواية التي تتصدرها فإنها كانت لا تقل عنها قيمة إن لم تفقها

وفي عام 1898 وهو في الثانية والأربعين من عمرهن أصيب بجرح بليغ في قدمه. وقد سهرت عليه أثناء مرضه سيدة ايرلندية، وهيأت له جواً هادئاً ومريحاً، واختصته بالجانب الأكبر من عنايتها واهتمامها. وكانت هذه الراحة والعناية سبباً في أن يطلق شو مهنته السابقة كصحفي ويتفرغ للكتابة. ومنذ ذلك التاريخ كسب شهرته كأكبر ناقد اجتماعي وسياسي وديني، وكأعظم كاتب قصصي

ولنعرض الآن لبعض آرائه

لم يرق شو رؤية الكثيرين يعانون متاعب الفقر في عالم غني بمواده وثرواته، وحاول أن يجد حل لهذه المشكلة علاجاً فرأى في الاشتراكية هذا العلاج

ويقول عنه الأستاذ جود أحد أعضاء جامعة لندن في هذا الصدد: (لقد كان برنارد شو في عام 1914 القائد الذي قادنا تحت لوائه إلى عهد الاشتراكية المنتظر، كما كان اللسان الناطق بآمال من يعتقدون هذه المبادئ)

ولما بدأت الحرب الحالية أخرج شو مؤلفه (الشعور نحو الحرب) الذي حاول أن يفسر الحرب تفسيراً على ضوء الاشتراكية، ويروي أن رؤوس الأموال مكدسة في أيدي الرأسماليين الذين يستغلون بها العمال ويستعبدونهم، فيجب أن توضع تحت رقابة الشعب.

وفي عام 1921 زار شو روسيا السوفيتية وقابل ستالين، فلما عاد إلى إنجلترا أخذ يشيد بهذا الرجل وبرجال حكومته ويقول إنهم قد وقفوا لحل المشاكل التي واجهتهم

هذا طرف من آرائه السياسية. أما آراؤه الاجتماعية فتتلخص في أن ما يواجه العالم من

ص: 28

مشاكل يرجع في الأصل إلى النظام الرأسمالية الذي يجعل الكثرة الغالبة في أفراد قلائل يتحكمون في مصيرهم. وهو لا يلقي المسؤولية على عانق الرأسماليين وحدهم، بل يشترك معهم العمال الذين يضعفهم إنشقاقهم وافتراق كامتهم. ولعل رواية (فوق الصخور) خير معبر عن آراءه في هذه الناحية

وفي رواية (مهنة مسز وارن) يحاول أن يصل إلى أن وزر الدعارة وحياة الرذيلة إنما يلحق هؤلاء الذين كانوا سبباً في الفاقة التي تدفع المعدمين إلى مثل هذه الحياة، لأنه إنما يعملون ذلك مدفوعين إليها ومرغمين عليها لكسب قوتهم. ويردد شو دائماً أن (لا جريمة إلا الفقر)

وتحمل كتابات شو كثيراً من المتناقضات، فنراه يعترض على الغبن الذي يقع على العمال، ولكنه في الوقت نفسه يقر هذا الغبن إن كان لمصالح الإمبراطورية البريطانية. ونراه في قضية أيرلندا يقف إلى جانب بريطانيا مع أنه أيرلندي النشأة ومع اعتزازه بها. وبينما يتهم شو الإنجليز ويعيب عليهم عسفهم في مذبحة دنشواي، نراه يعضدهم ويؤازرهم في اضطهادهم للبوير أثناء حرب جنوب إفريقيا

وبرنارد شو مقتنع بأن الكثيرين يخالفون مذاهبه وآراءه ويقفون دونها؛ وفي هذا يقول في إحدى مقدماته: (إذا نطقت بكلمات تافهة تحت تأثير فكرة أو عاطفة سرت في صحف العالم سريان البرق؛ أما إذا قلت خلاف ما يريد الرأسماليون كان صدى قولي صمتاً وسكوناً).

محمد شاهين الجوهري

بكالوريوس في الصحافة

ص: 29

‌صورة من الأدب التركي

قبر من الأوحال

للكاتب التركي خالد ضيا

بقلم الأستاذ برهان الدين الداغستاني

قد مضى عليه الآن بعض سنوات وهو يخرج كل صباح حاملاً هذه الرسائل التي تملأ حقيبته

أنه تعب من هذه الحياة، وسئم جر ساقيه المتعبتين من كثرة المشي من إفريز إلى إفريز يتلمس الأبواب

نعم بلغ به الملل والسأم الآن حد النفور من توزيع هذه المزق من الأوراق التي تأتي من كل ركن من أركان العالم وتقتضيه الجولان من شارع إلى شارع ومن باب إلى باب

مضى عليه الآن أمد طويل وهو على حاله هذه: يحترق تحت أشعة الشمس اللافحة وتكاد أنفاسه تتقطع من حر السموم التي تقذف باللهب كأنها فيح جهنم

وفي الشتاء يتلقى ميازيب السماء التي تغسله من فرقة إلى قدمه. ويجر رجليه اللتين كاد يفتهما البرد وسط الأوحال

إنه كره التسكع في أزقة هذه المدينة العظيمة التي لا حصر لها. كما كره منظر حقيبته التي لا تفارق جنبه. نعم إنه سئم السير آلاف الخطوات كل يوم ليوصل الأخبار إلى هذا وذاك

سنين. . .! إن سلسلة أيام هذه السنين الطويلة الخالية من الإنصاف قد مرت عليه وهي تنزل به الضربة تلو الضربة في كل يوم. وتحطم آماله وتهدم صرح أمانيه وتدفنها في الرغام. مسكين! إنه لا يكاد يجد بعض الراحة والهدوء لأعصابه المحطمة في ظلمة الليل حتى تقول له الشمس التي تشرق في مطلع كل نهار:

(إنك اليوم أيضاً - كما كنت أمس وكما كنت في كل الأيام الخالية - موزع بريد وستبقى كذلك ما دمت حياً)

آه من هذه الحياة المريرة التي حكم عليه أن يقضيها متسكعاً الساعات الطوال ليجد شخصاً من الأشخاص، يبحث عن أرقام المنازل تارة، ويسأل أصحاب الدكاكين والحوانيت عن

ص: 30

اسمه تارة أخرى. ويسير بخطوات مضطربة في منحنيات هذه الشوارع والأسواق التي لا نهاية لها

هاهو ذا قد ثارت ثورته على الحياة وانفجر بركان نقمته من جراء هذا المطر الغزير الذي لا يرحم، والذي ألصق أثوابه المبللة بعظامه ونفذ من حذائه الممزق إلى جواربه

إنه لم يرى حاجة إلى الاحتماء في مكان ما ولم يحاول الهرب من هذا المطر المنهمر وكأنه يريد مطاردته - حتى يخفف بعض أذاه عنه. بل جلس على حافة أحد تلك الحوانيت المغلقة وأخذ يتأمل هذه الطبيعة الثائرة. هذا الشارع الذي يخيل لناظره - من هول المطر وشدته - أنه أمام نهر من أنهار جهنم إبان فيضانه. هذه الأوحال التي تغلي وتقذف بحباب أسود من شدة وقع قطرات المطر. وبينما هو في تأملاته رأى أولئك الذين يسيرون في سكون ودعة مستظلين بمظلاتهم من غير أن تلوث الأوحال أرجلهم، ولا أن تبلل الأمطار أثوابهم. ثم رأى تلك السيارات التي تشق الأوحال وتسير مندفعة كالسيل. لا جرم أن المطر لم يكن له أثر بالنسبة إلى هؤلاء وأولئك. إن أصحاب هذه المظلات وإن أرباب هذه السيارات هم أصحاب هذه الرسائل التي تملأ حقيبته. من يكون هو وما قيمته ومقداره بين هؤلاء وأولئك في وسط هذه الحياة الصاخبة؟ هل جاء إلى هذه الدنيا لمجرد حمل رسائل هؤلاء السادة وتبليغها إليهم؟

إنه لم يعد ينظر إلى الشارع وما فيه، بل حول نظره إلى قطرات الماء التي كانت تتساقط حوله من أطراف ملابسه الممزقة، والى حذائه الذي يخيل لرائيه أنه ينتحب تحت نقاب من الطين!. . .

آه من هذه الرسائل! هذه الأشياء التي تأتي من أي إنسان وتذهب إلى أي إنسان!. . .

كان المسكين في حاجة ملحة إلى رسالة من هذه الرسائل، لأنه لم يتلق رسالة خاصة مدة حياته كلها، بل كان مكلفاً برسائل الآخرين فقط. كان وحيداً لا أهل له ولا أقرباء فأنى له بكتاب يأتيه أو ينتظره؟

وكان كلما فتح هذه الحقيبة التي تملأ كل يوم وتفرغ أو أقفلها أرسل من أعماق قلبه آهة حزينة طويلة. كان يتحسر على هذه الأشياء التي تمر بين يديه كل يوم من سنين طويلة ويتحرق شوقاً إليها. ماذا كان يحصل لو أن أحد هذه الرسائل ـ في الفينة بعد الفينة ـ

ص: 31

كان باسمه وله خاصة؟ لا جرم كانت تكون نوعاً من التسلية تخفف بعض أعباء الحياة عن كاهله

ماذا في هذه الرسائل، وما هي الأسرار التي تخفيها في طياتها؟ إنه يعرف سيدة تنتظره دائماً في مدخل منزلها في زقاق بعيد طويل، لأنها كانت تتلقى رسائل من ولدها

ويعرف فتاة في كلية الطب تأخذ كل أسبوع ثلاث. أو أربع رسائل دفعة واحدة. وكان يراها دائماً تسارع إلى غلاف ارجواني وتفضه دون بقية الرسائل ويداها ترتعشان.

وعلى مر الأيام ألف هذه الرسائل وكسب شيئاً من المرانة من طول التكرار وكثرة الممارسة، فأخذ يفهم أسرارها ومحتوياتها المختلفة، فكان يعرف مضامينها من خطوطها تارة ومن أسماء أصحابها تارة أخرى. ومن ألوان أغلفتها والروائح المنبعثة من أوراقها المعطرة في بعض الأحيان

نعم بدأ يعرف هؤلاء الذين يتبادلون الرسائل فيما بينهم، أولئك الآباء والأبناء والأزواج والزوجات

وهؤلاء الشبان من الفتيان والفتيات الذين يتبادلون عواطف الحب ويتساقون أكؤس العشق والغرام

نعم أخذ يفهم أولئك الذين يمرون أمامه بمظلاتهم وسياراتهم من غير أن يكونوا مثقلين مثله بحقائب مملوءة برسائل الآخرين. . .

كان يفهم كل السادة أصحاب هذه الرسائل اللعينة وكان في نفس الوقت يشعر شعوراً قوياً بأنه الوحيد الذي لاحظ له من نعيم ولا نصيب من راحة وسط هذا العالم الصاخب وبين هؤلاء السادة المترفين المنعمين

كان بائساً حقاً. فلم يكن له أن ينتظر وصول رسالة باسمه من أحد في يوم من الأيام

وعند ما وصل إلى هذا الحد من تأملاته وخواطره كان المطر لا يزال يتساقط بشدة فوق طربوشه المبلل وتنحدر قطراته إلى وجنتيه فتملك هذا الموزع المسكين البائس هذا القلب الحزين. هذا الذي فقد كل أمل في الحياة تملكه شعور قوى من اليأس العميق والألم المبرح والحزن الشديد. وتمنى لو يستطيع اقتلاع هذه الحقيبة التي تحفظ رسائل الآخرين من على عنقه وقذفها في الهواء. هذه الحقيبة المعلقة برقبته بسلسة لا تطاق كأنها - لثقلها - تريد

ص: 32

أن تجتذب رأسه إلى أسفل حق تلصقه بالأرض

إنه يتمنى أن يدوس هذه الحقيبة برجليه حتى تتمزق إرباً إرباً وتنسحق سحقاً!. . .

وبعد ذلك يرجو - لينال بعض الراحة - أن ينغمس في هذه الأوحال التي تنشق كالقبر ثم تلتئم كلما خاضها خائض.

نعم هنا وفي هذه الأوحال يريد أن يمد رقبته تحت عجلات السيارات ويموت

يريد أن يدفن في هذه الأوحال

إنه يتمنى قبراً من الأوحال

برهان الدين الداغستاني

ص: 33

‌نهاية موسوليني

للأستاذ علي محمود طه

نبأ في لحظة أو لحظتين

طاف بالدنيا وهز المشرقين

نبأ، لو كان همسَ الشفتين

منذ عام، قيل إِرجافٌ ومَيْن!

وتراه أمة بالضفتين

إنه كان جنين (العلمين)

موسولين! أين أنت اليوم؟ أين؟

حلم؟ أم قصة؟ أم بين بين؟

قَصْرُ (فينسيا) إليكَ اليوم يُهدِي

لعنةَ (الشرفة) في قربٍ وبُعْدِ

عجباً! يا أيُّهذا المتحدِّي

كيف سامك سقوط المتردِّي

إمبراطورك في هَمٍْ وسُهدِ

صائحاً في ليلهِ لو كان يُجْدِي:

أين يا (فاروسُ) ولَّيت بجْندي؟

أين ولَّيْتَ بسلطاني ومجدي؟

أَعتزلت الحكم؟ أم كان فراراً

بعد أن ألفيْتَ حوليْكَ الدمارا

سقت للمجزةِ الزغب الصغارا

بعد أن أفنيت في الحرب الكبارا

يالهم في حومة الموت حيارى

ذهبوا قتلى وجرحى وأسارى

يملأون الْجو في الركض غبارا

وقبوراً ملأوا وجه الصحاري

أعلى (الصومال) أم (أديس ابابا)

ترفع الراية، أم تبنى القبابا

أم على (النيل) ضفافاً وعبابا

لمحت عيناك للمجد سرابا

فدفعت الجيش أعلاماً عجابا

ما لهذا الجيش في الصحراء ذابا؟

بخرته الشمس فارتد سحابا

حين ظن النصر من عينيه قابا

يا أبا (القمصان) جمعاً وفرادى

أحَمَت قمصانك السود البلادا؟

لم آثرت من اللون السوادا؟

لونها كان على الشعب حدادا!

جئت بالأزياء تمثيلاً معادِا

أي شعب عز بالزي وسادا

إِنه الروح شبِوباً واتقادا

لا اصطناعا ًبل يقينا واعتقادا

موسوليني قف على أبواب روما

ونأملها طلولاً ورسوما

قف تذكرها على الأمس نجوما

وتَنَظَّرْها على اليوم رجوما

أضرمت حولك في الأرض التخوما

تقتفى شيطانك الفظ الغشوما

ص: 34

أوكانت تلك (روما) أم (سدوما)

يوم ذقت بخطاياك الجحيما؟

هي ذاقت من يد الله انتقاما

لأَثام خالد. عاماً فعاما

يوم صبت فوق بيروت الحماما

لَم تذر شيخا ولم ترحم غلاما

من سفين يملأُ البحر ضاما!

ذلك الأسطول كم ثار احتداما

أين راح اليوم؟ هل رام السلاما؟

أم على الشاطئ أغفى ثم ناما؟

أي عدوان زرِي المظهر

بدم قان ودمع مُهْدَر

حين طافت بحمى (الإسكندر)

أجْنح من طيرك المستنسِر

تنشر الموت بليل مقمر!

يا لمصر! أترى لم تثأر

بيد المنتقم المستكبر؟

أترى تذكر؟ أمُ لم تذكر؟!

موسليني لست من أمس بعيدا

فاذكر (المختار) والشعب الشهيدا

هو روح يملأُ الشرق نشيدا

ويناديك ولا يألو وعيدا

موسليني خذ بكفيك الحديدا

وصغ القيد لساقيْك عتيدا

أو فضع منك على النصل وريدا

فدمي يخنقك اليوم طريدا

علي محمود طه

ص: 35

‌البريد الأدبي

القصة والتجديد

أردت أن أبعث الفعل (خرف) الذي اشتقه الإمام ابن حزم من (الخرافة) أي الأسطورة أو ممن انتسبت إليه أعني المسمى (خرافة) فقلت فيما قلت:

(إن هذا الزمان وكتاب القصة المخرفين فيه في حاجة إلى التخريف) وإنما عنيت الحداث (الذين يحكون، يقصون) واحتياجهم إلى هذا الفعل. ولقد خشيت أن يظن أني أحقر في هذه الجملة (القصة) وأنتقص كتابها، وأني أنكر (تجديداً) في الأدب. فليعلم أني لا أمقت القصة بليغة مرصنة، لا أمقتها ولا أكره التجديد مجوداً. فمن قص وجدد وأحكم وأفاد وهدى وجود تقبلت العربية قصصه، ورضى الناقدون عن تجديده. ولم أستحدث في هذا الوقت في هذا الباب لي مقالة، فمذهبي (في المجدد، في التجديد مع التجويد) اليوم هو مذهبي في الأمس. وفي خطبتين أو رسالتين قديمتين كلام واضح مفصل، والحق لا يتحول، الحق مثل ذي الخلق المتين وذي العقيدة - لا يتبدل.

إلى الأستاذ دريني خشبة

سيدي: قرأت مقالكم العظيم المنصب في بحثه على المذهب (التعبيري) في ألمانيا، ولقد راعني أيها الفاضل أنكم تكررون لفظة (التعبيريين) في مقالكم كترجمة للفظ الإنجليزي واللفظة الإنجليزية جمع لاسم الفاعل من الفعل واسم الفاعل في اللغة الإنجليزية يصاغ بطريقتين: الأولى: من الفعل بزيادة في آخر الفعل؛ والثانية: من الاسم بزيادة والأولى مطردة، والثانية سماعية، قياسية في بعض الأسماء، وعلى هذا فالترجمة الصحيحة للجمع هي:(المعبرون - المتكلمون)، لا كلمة (التعبيريين - الكلاميين)، لأن كلمة (تعبيري) كلامي منسوبة إلى كلمة (تعبير والمنسوب كما تعلمون في القاعدة العامة، ما لحق آخره ياء مشددة مكسور ما قبلها للدلالة على نسبة إلى المجرد منها للتوضيح أو التخصيص، (والمعبر - المتكلم اسم فاعل من العبارة بزيادة في المثنى والجمع.

عبد الله الملحوق

أخطاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة

ص: 36

كنت أطالع الجزء الأول من كتاب (الإمتاع والمؤانسة) فعنت لي بعض ملاحظات أذكر طرفاً منها فيما يلي:

1 -

جاء في ص117 س17: (. . . ومثل هذا كثير، وهو كاف في موضع التكنية)، ويقول المصححان للكتاب إن (التكنية) كانت في الأصل (التبكيت) وهو تحريف لا يستقيم به المعنى فلذلك غيراه إلى (التكنية). ولكن الواقع أن عبارة الأصل هي الصواب، لأن التبكيت هو أن يغلب الإنسان خصمه بالحجة، ومن العبارات الجارية قولهم:(بكَّته حتى أسكته). وفضلاً عن هذا فقد وردت هذه الكلمة بعد ذلك بقليل في كتاب الإمتاع ص119 س15

2 -

جاء في ص149 س6: (. . أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد)، وفي الأصل (يجوز عليه) فرفض الناشران رواية الأصل، ولكن الصواب أن تثبت؛ لأن كلام التوحيدي في هذا الصدد ينصب على الفلسفة الخلقية ولذلك فقد استعمل فيه تعبيرات فلسفية. ومن الشائع في الفلسفة قولهم يجوز عليه التغير، أولا يجوز عليه التغير. (أنظر (الانتصار) للخياط (مثلاً) ص162 س18، ص170 س5 الخ)

3 -

وفي ص155 س7: (وللرأي والعقل فيهما مدخل قوي وحظ تام) ويقول المصححان الفاضلان إن (العقل) هي في الأصل (العقد) ونقول إن (العقد) صحيحة، وهي من الكلمات المستعملة في الفلسفة الإسلامية، فلا موجب لرفضها. . . يقول ابن سينا في إلهيات (الشفاء): إن الحق يفهم منه الوجود في الأعيان مطلقاً، ويفهم منه الوجود الدائم، ويفهم منه حال القول أو العقد. ومعنى العقد في عبارة ابن سينا الاعتقاد أو التصديق، وأظن أن الاعتقاد (أو العقيدة كما نقول أحياناً) من الألفاظ التي يمكن أن توضح إلى جوار لفظ (الرأي)(كما فعل الأستاذ أحمد أمين نفسه في مقالة الرأي والعقيدة بكتابه فيض الخاطر ج1)

4 -

وفي ص159 س3: (وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابراً. . . يضبط ويحتد)، ويقول المصححان الفاضلان إن يحتد أصلها يحقد، ونقول إن الأصل هو الصواب وإنهما أخطآ في التصحيح: لأن المراد أن الإنسان إذا غلب عليه مزاج (اليبوسة) فإنه في هذه الحالة يضبط نفسه ويكظم غيظه أو حقده (دون أن يحتد أو يظهر غضبه)

ص: 37

5 -

وفي ص219 س3: (لذلك عرفت الحكمة في الكائنات الفاشيات) ويقول المصححان إن (الفاشيات) هي في الأصل (الفاسدات) ونقول إن عبارة الأصل هي الصواب: (أنظر ص220 س12)، والفاشيات هنا لا معنى لها

هذه هي بعض الملاحظات التي عنت لي أثناء قراءتي للجزء الأول من كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، وكلها تندرج تحت ضرب واحد من ضروب التصويب هو العودة إلى رواية النص إذ لا موجب لرفضها والتحكم في لغة الكاتب الأصلي. أما الملاحظات الأخرى التي طويتها عن القراء فهي أدخل في باب الذوق والاجتهاد، وليس هذا مجالها

(مصر الجديدة)

زكريا إبراهيم

ص: 38