المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 527 - بتاريخ: 09 - 08 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٢٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 527

- بتاريخ: 09 - 08 - 1943

ص: -1

‌النظام والتربية القومية

للأستاذ عباس محمود العقاد

عاقبة موسليني السياسية لا تعنينا في هذا المقال، لأن لها مجال غير هذا المجال، وإنما تعنينا هذه العاقبة هنا من حيث تتصل بالفلسفة الاجتماعية ومذاهب التربية القومية، لأنها من هذه الناحية قد شغلت أناساً لعلهم مخلصون في نياتهم وتفكيرهم ولعلهم لا يخدمون غرضاً من الأغراض الموقوتة بما اعتقدوه ونزعوا إليه، ترسما الخطوات موسليني، ثم خطوات التابعين له في مضمار السلطان والاستبداد

بعد قيام النظم الفاشية في إيطاليا كثر القائلون بفائدة هذه النظم للأمم التي أصابها الانحلال على التخصيص، وجنح بهم إلى هذا القول أن الفاشية ظهرت في زمن خيفت فيه أخطار الشيوعية أشد خوف، فجعاها بعض الباحثين الاجتماعين (جبيرة) لعظام الأمم المهيضة التي يخشى أن تصاب في حياتها القومية، فتنقلب من الإيمان بالوطن إلى الإيمان بالشيوعية

وكان هذا وهما من الأوهام

لأن النظام وحده لا يخلق القوة، وطنية كانت أو غير وطنية والنظام وحدة لا يجبر كسر الانحلال إذا كانت له أسبابه المتغلغلة في تكوين الأمة

فالسجناء أكثر الناس نظاماً في معيشتهم المفروضة عليهم، لأنهم ينهضون من النوم في موعد، ويأكلون الوجبات الثلاث في موعد، ويخرجون إلى الرياضة في موعد، ويذهبون إلى النوم في موعد، ويتناولون من طعام واحد ويلبسون من نسج واحد وزي واحد، ويزاولون عملا واحداً في مكان واحد، ولا يأتون بحركة من الحركات العامة إلا على نظام مفروض لا اختلال فيه

فلا يطمع أحد في بلوغ النظام بين جماعة الناس مبلغاً أدق وأوفى من مبلغه بين جماعات السجناء في العالم بأسره

ومع هذا لا يتخذهم أحد من الباحثين ولا غير الباحثين قدوة في أخلاق اجتماعية ولا أخلاق فردية، ولعلهم على نقيض ذلك مثل فيما يحذره الباحثون وغير الباحثين من مساوئ الأخلاق؛ لأن النظام وحده لا يغني في تقويم فرد ولا في إصلاح جماعة. ولابد مع النظام

ص: 1

من عقيدة صالحة لإحياء القوى الإنسانية.

فهل كانت للفاشية هذه العقيدة الصالحة؟

كلا!

والاكتفاء بالنتيجة هنا أقرب وأجدى من متابعة الأقوال الفاشية والعقائد الفاشية والتعليقات الفاشية التي ملئوا بها المجلدات الضخام على غير طائل

فالنتيجة أن الفاشية ما تكن قط جبيرة لخلق مهيض، ولم نعلم جباناً واحداً كيف يصبح من الشجعان وذوي البسالة والمفاداة

فبعد تربية طويلة تبتدئ من الخامسة إلى العشرين لم يزل الجبناء الأولون على جبنهم القديم يفرون من الميدان بعد الصدمة الأولى، وقد يفرون منه قبل اللقاء

فالحركة الفاشية مفلسة في العقيدة التي تجبر كسر النفوس أو تبعتها من جديد في حياة جديدة، وهي لا تزود أصحابها بشجاعة أدبية أو شجاعة عسكرية، ولا تبث فيهم الإيمان الذي يغلبون به الجبن ويأنفون من عار الفرار

لأنها عقيدة تليق بالحيوان ولا تليق بالإنسان

أو لأنها عقيدة ترجع بالإنسان إلى الوراء وتلغي ما عمل لنفسه أو عملته له الطبيعة عشرات الألوف من السنين

فهي عقيدة قائمة على تقديس السلطة الفردية، وتقديس القوة المادية التي تشبه القوة الحيوانية، وكلاهما شوط تجاوزه الإنسان منذ أجيال، ولم يتجاوزه عبثاً ليعود إليه بعد هذا الطواف الطويل

بل نحن نؤمن أن تقديس السلطة الفردية لم يوجد قط في أبعد العصور الهمجية فضلاً عن عصور الحضارة والنور

لأن السلطة لم تقم قط على إرادة فرد من الأفراد باعتباره فرداً من الأفراد، وإنما كانت تقوم على إرادته لأنه يمثل إرادة الأرباب التي تؤمن بها الشعوب، وكان الكهان هم الذين يترجمون الإرادة الإلهية فتصبح هي إرادة الشعب من هذا الطريق

فالسلطة الفردية - حتى في أبعد العصور الهمجية - لم تكن خلوا من الاعتراف للأفراد بحرية اختيارهم لمن يحكمونهم، وهي - أي السلطة الفردية - خليقة من أجل ذلك أن

ص: 2

تفشل في خلق العقيدة الصالحة بها بين أهل الحضارة من أبناء الزمن الحديث

أما الإيمان بالقوة المادية - قوة السيف والنار - فهو شوط تجاوزه الناس كذلك منذ عهد بعيد

تجاوزوه منذ عرفوا كلمة الحق أو عرفوا كلمة العدل بين الأقوياء والضعفاء

وقل ما شئت في (الحق) أنه كلمة من الكلمات

وقل ما شئت في (العدل) أنه لفظ من الألفاظ

فمهما يقل القائلون في ذلك فالواقع الذي لا شك فيه أن الناس عرفوا كلمة (الحق) بعد أن جهلوها

فلماذا كانت هذه المعرفة وكيف جاءت إلى الألسنة أو إلى الضمائر؟ ولماذا لم تظل كما كانت مجهولة لا يفهم الناس منها هذا المعنى الذي يفهمونه الآن؟

أعن حاجة عرفوها أم عن غير حاجة إليها؟

إن كانوا قد عرفوها عن حاجة إليها فالويل لمن ينكرها ويقف في طريقها. وغير عجيب إذن أن تحق الخيبة على الفاشيين لأنهم يعارضون التيار الذي يندفع إليه الإنسان بوحي من طبائع الأشياء

أما أن الناس قد اخترعوا كلمة الحق وتشبثوا بها لغير حاجة إليها ولا لأنها تمثل شيئاً قائماً في الحياة الإنسانية فهذا عجب لا يصدقه عقل عاقل. ولنا حين يزعمه الزاعمون أن نسأل: ما بال أنصار القوة المادية يكتبون ويصنعون ما يصنعون وينفقون الملايين فوق الملايين ليثبتوا أنهم على الحق وأن خصومهم هم المبطلون؟

إن وهماً من الأوهام التي لا حاجة إليها لن يستحق كل هذا العناء ولا بعض هذا العناء

ولقد كانت القوة المادية أقدم شيء عرف في هذه الدنيا، وكانت بين أيدي الناس يستطيعون أن يعبدوها كما يشاءون وأن يؤمنوا بها كما يحبون، فلو كان في الإيمان بها غنى عن غيرها لما تركها الناس ليتحولوا إلى كلمة جوفاء أو إلى خيال ليس له قوام

إن الذي يدين بها بعد أن عرف كلمة الحق لا يفهم معنى ما يقول

والفاشيون لا يفهمون معنى ما يقولون، بل لا يفهمون معنى ما يصنعون، سواء رجعت من قبل إلى الرأي والبرهان أو رجعت الآن إلى الوقع والعيان

ص: 3

إنهم يقفون في وجه التيار

ومن وقف في وجه التيار أضاع الحق وأضاع القوة المادية معه، إذ ليس في الأرض قوة مادية تقاوم التيار الذي تندفع به طبائع الأشياء.

ومن مبادئ السخف التي يبشر بها (الفلاسفة) الفاشيون أن الإخاء العالمي خرافة لا يرجى لها تحقيق، وأن الحقيقة التي قامت ولن تزال قائمة في كل زمان هي سيادة شعب على سائر الشعوب

والعجب أن سيادة شعب على سائر الشعوب هي الخرافة التي لم تصدق قط في زمن مضى، ولن تصدق يوماً في زمن مقبل؛

والناس لا يملكهم واحد

مهما علا في ملكه واستطال

كما قلنا في أعقاب الحرب الماضية متخذين العبرة منها ومن حوادث التاريخ التي تقدمتها. وأن العبرة بهذا كله لأولى أن تتخذ من حوادث الحرب الحاضرة والحوادث التي تليها، ولما تزل في عالم الغيب

فالعالم لم يحكمه المصريون كله، والرومان لم يغلبوا قرطاجة حتى تصدى لهم من الشرق من ينازعهم، ثم تصدى بعضهم لبعض فانقسموا على أنفسهم. وهكذا حدث لمن بعدهم حينما ظهرت في العالم قوة تنذر بالسيادة عليه

فالسيادة العالمية هي المذهب الذي شاخ ولم يثبت له وجود

والإخاء العالمي - أو على الأقل تمرد العالم على الخضوع لحكم واحد - هو المذهب الصادق الذي سبقت به البشائر وآذن في هذا العصر بمولود مرتقب

نعم إن الإخاء العالمي كلمة قديمة، ولكن الوحدة العالمية لم تصبح حقيقة من الحقائق الملموسة قبل هذا الجيل

ففي هذا الجيل الذي نحن فيه تقاربت أجزاء العالم حتى تسنى لمن في الشرق الأقصى أن يسمع من في أقصى المغرب بإدارة لولب

وفي هذا الجيل تم السفر من أطراف العالم إلى أطرافه في أقصر من الوقت الذي كان أبناء القطر الواحد يسافرون فيه من إقليم إلى إقليم

وفي هذا الجيل أوشك الناس أن يتعاملوا بعملة مشتركة وأن يعتمدوا على سوق واحدة أو

ص: 4

أسواق كأنها اجتمعت في سوق

وفي هذا الجيل أصبح الخطر من العدوان على أمة خطراً على الأمم كافة، يتبينه الغافلون عنه بعد فترة تحسب وبالشهور وقد تحسب بالأيام

فالوحدة العالمية الآن مولود مرتقب يستقبل الحياة ليدرج من الطفولة إلى الفتوة

والذي شاخ وعفى عليه الزمان هو سيادة شعب على سائر الشعوب، أو هو استسلام العالم الحاكم واحد متفق عليه، كأننا ما كان الحاكمون

والفاشيون هم أصحاب أقدم كلام قيل ووجب أن يتبدل لأنه قد شاخ وهجره الناس والتفتوا إلى غيره وأوشكوا أن يحققوا ما التفتوا إليه

ولذلك فشلوا ويفشلون

وهذه هي عبرة الخاتمة التي ختمت بها دعوة موسليني ثم ختم بها حكمه، وأنها لتساوي في حساب الإنسانية ثمنها المجموع من الدماء والأرواح، إذا هي حرصت عليها وفزعت من التجربة فيها.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الصيد في الأدب العربي

للدكتور عبد الوهاب عزام

أريد في هذا المقال التنبيه إلى موضوع من موضوعات أدبنا لا أعرف له نظير في الآداب الأخرى، موضوع يجمع بين أوصاف الطبيعة وأعمال الفروسية، وحركات الرياضة، ويعرضها صوراً متتابعه كأنها مناظر السماء. ذلكم الصيد كما وصفه شعراؤنا وكتابنا منذ عصور الجاهلية. وسأعرض في هذه الصفحات صورة منه مجملة

- 1 -

عرفت الأمم كلها الصيد في بداوتها وحضارتها يدعوهم إليه ضرورات العيش وحاجاته، ليأكلوا لحم الحيوان ويتخذوا جلده ألبسة وأدوات ويسخروه في منافعهم، ويدعوهم كذلك إليه اللهو والمتاع. والأمم فيه مختلفة اختلاف أراضيها واختلاف أطوارها في الحضارة، وله في تاريخ الأمم فصول طويلة لسنا في مقام بيانها وللفرس صلة الجوار والمخالطة بالأمة العربية؛ فقد عنى العرب بذكر ما أثر عن الفرس من رسوم الصيد وأخباره فوصلوه بالأدب العربي؛ فلا بأس أن نخصهم بكلمة قبل الإبانة عن موضوعنا:

قال الجاحظ: (وزعموا، وكذلك هو في كتبهم، أن ملوك فارس كانت لهجة بالصيد، إلا أن بهرام جور هو المشهور بذلك في العوام. . .

قالوا: وكان الملك منهم إذا أخذ عيرا أخدريا، فإذا وجده فتيا وسمه باسمه، وأرخ في وسمه يوم صيده وخلى سبيله. وكان كثيراً إذا ما صاده الملك الذي يقوم بعده سار فيه مثل تلك السيرة وخلى سبيله. فعرف آخرهم صنيع أولهم، وعرفوا مقادير أعمارها)

ولبهرام جور سيرة في الصيد ذائعة، وقد أضيف اسمه إلى حمار الوحش وكان كلفا بصيده. وهو بالفارسية (كور) فعرب إلى جور. وكان لسيرة بهرام في الصيد وما أثر عنه من العجائب أثر في الأدب الفارسي والتصوير، فكثيراً ما وصف الشعراء وصور المصورون بهرام في أحوال مختلفة من مطاردة الحمر الوحشية والغزلان. وإذا عرفنا أن الروايات الفارسية مجمعة على أن بهرام نشأ في الحيرة بين العرب وتأدب بآدابهم، وجدنا في سيرته صله أخرى تصل الصيد عند الفرس بالصيد عند العرب

- 2 -

ص: 6

للعرب في البوادي وفي البراري المتصلة بالمدن والقرى ولع بالصيد منذ عصور الجاهلية. وقد عنى شعراء الجاهلية بوصف الصيد، أدواته وحيوانه وحركاته. فأما أدواته فالقسى والسهام والشباك والحبائل وغيرها. وأما الصيد فكل دابة وطائر، ولكن معظم عنايتهم كانت مصروفة إلى الحيوان الكثير اللحم. فعنوا بحمر الوحش وبقره والغزال. وضربوا المثل بحمار الوحش فقالوا:

(كل الصيد في جوف الفرا)

ولسنا في حاجة إلى ذكر طرف مما وصفوا به الخيل أو القسى والسهام، فقد كانت حاجتهم إليها شديدة في الدفاع عن أنفسهم فوصفوها في مقامات مختلفة أوصافا ذائعة معروفة

وإنما أذكر من الحيوان الذي يصاد به، الكلب. وقد افتن العرب في تعليم الكلاب ووسمها، ووصفوها وصنفوها ونسبوها وسموها. قال الجاحظ:(ولكرامها وجوارحها وكواسبها وأحرارها وعتاقها أنساب قائمة، ودواوين مخلدة، وأعراق محفوظة، ومواليد محصاة، مثل كلب جذعان، وهو السلهب ابن البراق بن وثاب بن مظفر بن محارش. وقد ذكر العرب أسماءها وأنسابها). وقال في موضع آخر: (والكلاب أصناف لا يحيط بها إلا من أطال الكلام. وفي الجزء الثاني من كتاب الحيوان فصل طويل عنوانه: (صفة ما يستدل به على فراهة الكلاب، وشياتها وسياستها). وفي هذا وغيره مما نقل عن العرب دليل على عنايتهم بالصيد وكلابه عناية كبيرة. وقد أثبت الجاحظ في الجزء الثاني من الحيوان قصيدة لمزرد بن ضرار فيها أسماء الكلاب وأنسابها وأوصافها. وسيمر القارئ بنبذ في وصف الكلاب أثناء وصف الصيد

وقل أن نجد في الشعر الجاهلي وصف الصيد في قصائد خاصة به كالطرديات التي ذاعت في العصور الإسلامية؛ ولكن يذكر حين تذكر الفروسية والشجاعة، وحين يذكر الشباب ولهوه. وعجيب أن أكمل الصور في وصف الصيد جاءت استطراداً في وصف الإبل؛ يذكر الشاعر السفر ويصف ناقته فيشبهها بحيوان سريع قوي كحمار الوحش وثور الوحش، وأحياناً يشبهها بالغزال والنعامة. ولا يكتفي بهذا التشبيه حتى يصف هذا الحيوان القوي السريع وهو يعود فزعاً من الصيادين فيصف ما يقع بين الصيادين وكلابهم وبين الحمار أو الثور. وقد ألف شعراء الجاهلية هذا الوصف حتى توسلوا إليه بالصلات

ص: 7

الضعيفة وأطالوا فيه على غير ما ينتظر القارئ أو السامع

وأمرؤ القيس أكثر الجاهليين وصفاً للصيد استقلالاً غير استطراد في وصف الإبل. ولكنه يجمع بين وصف الصيد ووصف الحصان الذي يصيد عليه. ومن هذا قوله في المعلقة:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

ويصف حصانه إلى أن يقول:

فعنِّ لنا سِرب كأن نعاجه

عَذاري دَوار في الملاء المذّيل

فأدبرن كالجزع المفصَّل بينه

بجيد مُعم في العشيرة مخُول

فألحقنا بالهاديات ودونه

جَوا حرها في صَرّة لم تَزّيل

فعادى عداءّ بين ثور ونعجة

دراكا ولم يَنضِحِ بماء فيُغسل

وظل طهاة اللحم ما بين مُنضج

صفيف شِواء أو قَدير مُعجَّل

يصف صيد بقر الوحش. والبقر الوحشي أشبه بالغنم منه بالبقر الأهلي؛ ولهذا سميت الأنثى نعجة. وقال امرؤ القيس: وعادى عداء بين ثور ونعجة. وقد شبه شرب البقر بعذارى غليها ملاء تجر ذيوله ويدرن حول صم؛ ثم شبهها حينما ارتاعت بالجزع المفصل لاختلاف ألوانها. وقال أن الحصان لسرعته أدرك الهاديات أي السابقات منها وترك المتأخرات حيارى لها صياح فأدرك ثوراً فنعجة ولم يعرق. وعكف الطهاة على اللحم، منهم منم يشوي، ومنهم من يطبخ في قدر

وقد أجمل وصف الصيد في قصيدة أخرى إذ قال:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

لغيث من الوسمّى رائده خال

ومعظم الشعراء الآخرين يستطردون في وصف الناقة إلى تشبيهها ببقرة وحشية أو حمار في قوتها وسرعتها، ويصفون الحيوان المشبه به في حال ذعره من الصيادين حين لا يدخر قوة ولا إسراعاً للنجاة. ويجمع الشاعر أحياناً بين تشبيه الناقة بالحمار وتشبيهها بثور الوحش، وبصور حال كل منهما حين يروعه الصيادون كما فعل لبيد في المعلقة. وقد ألف الشعراء هذا الاستطراد حتى سار عليه أبو ذؤيب الهذلي وهو يرثي أولاده فقال إن الدهر لا يبقى على حدثانه ثور الوحش ولا حماره. واستطرد فوصف كيف انتهى الجلاد بين الحمار والصيادين بأن أصابه سهم أرداه، وكيف كان العراك بين الثور وكلاب الصيد فقتل

ص: 8

بعضها حتى أدركها صاحبها فرمى الثور بسهم قتله.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 9

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

الوساطة بين الدكتور طه والأستاذ المازني - عناصر الهجوم - كلمة الدكتور طه - حل الألغاز - غمزات الدكتور طه - الدكتور طه في الأعمال الحكومية والأدبية - المازني ضحية الأدب، ولكنه لن يضيع - كلمه صريحة إلى الدكتور طه حسين

الوساطة بين الدكتور طه والأستاذ المازني

لم يعد القراء يلتفتون إلى ما يقع في الجرائد اليومية من المصاولات الأدبية، فقد صنعت أزمة الورق في صد الجرائد عن الآداب والفنون، وبهذا أصبح مجال الأدب مقصوراً على المجلات الأدبية، فمن الخير أن نحدث قراء الرسالة عما يفوتهم الاطلاع عليه، مما يقع من الصيال الأدبي فوق صفحات الجرائد اليومية من حين إلى حين

وكلمة اليوم في شرح مناوشة عنيفة بين الدكتور طه والأستاذ المازني على صفحات جريدة البلاغ، وهي مناوشة تمثل التجني والتظالم على أعنف ما يكون بغي الرجال على الرجال. وسنقف من هذه المناوشة موقف القاضي العادل، فقد ساءنا أن يتقارض هذان الرجلان الظلم والعدوان بلا ترفق ولا استبقاء، بعد أن ظلا صديقين حيناً من الزمان

والذي يهمني من هذه الكلمة هو أولاً تسجيل حادثة أدبية لا ينبغي أن تضيع، وهو ثانياً إنصاف رجلين عزيزين على الأدب وقد بغى كلاهما على أخيه بتحامل وإسراف. وهو ثالثاً توضيح لألغاز ساقها الدكتور طه بك مع اعترافه بأن فهمها لا يتيسر لأكثر القراء

وأصل القضية أن الأستاذ عزيز بك أباظة مدير البحيرة أصدر مجموعة شعرية سماها (أنات حائرة) مع تصدير بقلم الدكتور طه حسين. فلما بدا للأستاذ إبراهيم المازني أن يتحدث عن تلك المجموعة بدأ بالهجوم على صاحب التصدير، فغضب الدكتور طه وكتب رداً أراد به دفع العدوان بما هو أقسى من العدوان

ولأجل أن يدرك القراء حيثيات الحكم في هذه القضية أسوق إليهم كلمات الخصمين قبل الشروع في الحساب

قال الأستاذ المازني بعد التمهيد:

(وتوكلت على الله فقرأت التصدير الذي كتبه الدكتور طه حسين بك فقلت لنفسي: لا حول

ص: 10

ولا قوة إلا بالله! هذا طه حسين يخسره الأدب ولا تكسبه الحكومة، فما خلق لها بل للأدب. وإنه ليضيع نفسه في هذه المناصب التي تشغله وتستنفذ جهده ووقته، فإذا كتب جاء بماذا؟ جاء بمثل هذا الكلام الذي لا محصول وراءه، ولا أعرف له رأساً من ذنب. فلماذا لا يستقيل ويريح نفسه من هذا العناء الباطل ويتفرغ للأدب؟ ماذا يفتنه من هذا العرض الزائل والذي أهمل أو ترك أبقى؟ كيف يستطيع بالله أن يواظب على التحصيل وتغذية عقله ونفسه - وهو ما لا غنى بأديب عنه - وكيف يتسنى له التجويد حين يكتب وهو مشغول في ليله ونهاره بهذا الذي لا آخر له من شؤون الوظيفة واللجان وما إليها. . . وهو يتولى أعمالاً كل واحد منها كاف للإرهاق: فمن جامعة فاروق إلى منصب المستشار الفني لوزارة المعارف إلى عشرات من اللجان يشارك فيها وتأبى له كرامته أن يكون صفراً، ولو اقتصر على الجامعة لكان خيراً، ولو نفض يده من هذا كله لكان أفضل)

عناصر الهجوم

وخلاصة هذه الكلمة:

1 -

أن الدكتور طه خسره الأدب ولم تكسبه الحكومة، ومعنى ذلك أنه يتولى عملاً لم يخلق له. وسنرى كيف ثار الدكتور طه على هذه العبارة وعدها تحدياً لقدرته على الأعمال الحكومية

2 -

وأن الدكتور يضيع نفسه في مناصب تشغله وتستنفذ جهده ووقته، فإذا كتب جاء بكلام لا محصول من ورائه ولا يعرف له رأس من ذنب

3 -

وأن الأفضل للدكتور طه أن يستقيل ويريح نفسه من العناء الباطل (وهو عمله في الحكومة) ويتفرغ الأدب

4 -

وأنه لا يمكن للدكتور طه أن يزود نفسه بالتحصيل، أو يتفرغ للتجويد حين يكتب وهو مشغول ليله ونهاره بأعمال كل واحد منها كاف للإرهاق.

كلمة الدكتور طه

وجه الدكتور طه كلمته إلى صاحب البلاغ ثم قال بعد التمهيد:

(أؤكد للأستاذ المازني أني آسف أشد الأسف لأن الأستاذ عزيز أباظة لم يطلب إليه هو

ص: 11

كتابة هذا التصدير، إذن لكان له المحصول كل المحصول، ولكان له رأس كقمة الجبل وذنب كالذي خوف به المنجمون المعتصم حين هم بفتح عمورية. وآس أشد الأسف لأن الحكومة لم تكل إلى الأستاذ عملي في وزارة المعارف وفي جامعة فاروق، إذن لكسبته الحكومة والأدب جميعاً. والأستاذ المازني يعرف أن لأبي العلاء قصة مع الشريف المرتضى، وأظنه يأذن لي في أن أسرق من هذه القصة شيئاً، فالسرقة في الأدب مباحة، ولا سيما حين تكون في العلن لا في السر، وهي حينئذ أشبه بالسطو. فأنا أرجو أن يقرأ الأستاذ سورة الفلق، وأن يقرأ مطولة لبيد ومطولة طرفة وعينية سويد أبي كاهل التي مطلعها:

بسطت رابعة الحبل لنا

فبسطنا الحبل منها ما اتسع

ورائية الأخطل التي مطلعها:

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر

وإن كان حيَّانا عِدا آخر الدهر

ولامية المتنبي التي مطلعها:

بقائي شاء ليس هُمُ ارتحالا=وحُسنَ الصبر زمُّوا لا الجمالا

وسيقول القراء أني ألغز بهذا الكلام، ولكني أعتذر إليهم، فإني لا أكتب لهم وإنما أكتب للأستاذ المازني. وأنا أسلك في ذلك طريقة الأستاذ نفسه؛ فمن المحقق أنهم لم يفهموا عنه ما قال أمس، لأنهم لم يقرءوا التصدير الذي لا محصول وراءه والذي لا رأس له ولا ذنب. . . وأحبب إلي بأن أستقيل وأفرغ للأدب، ولكني أود أن أستيقن قبل ذلك بأن الحكومة ستضع الأستاذ المازني مكاني لنرى أيكتب كلاماً كالذي أكتبه أم يكتب كلاماً خيراً منه. . . أما بعد فأنا ضامن للقراء إحدى الحسنيين: فإما أن يسكت الأستاذ المازني فيستريح من هذا السخف الذي نحن فيه، وإما أن يكتب الأستاذ المازني فيجدوا شيئاً يرفه عليهم من هذا الفيظ المهلك، ويقرءوا كلاماً له الرءوس كل الرءوس، والأذناب كل الأذناب)

حل الألغاز

ونسارع فنذكر أن الإشارة إلى سورة الفلق منصبة على آية (ومن شر حاسد إذا حسد) وأن الإشارة إلى مطولة لبيد تتجه إلى هذين البيتين:

فاقنعْ بما قَسم المليك فإنما

قَسمَ الخلائقَ بيننا علاّمُها

ص: 12

وإذا الأمانة قسَّمت في معشر

أوفى بأعظم حظنا قَسَّامُها

وأنه يريد من مطولة طرفة هذان البيتان:

فلو كنت وغلاً في الرجال لضرني

عداوة ذي الأصحاب والمتوحد

ولكن نفى عني الأعاديَ جرأتي

عليهم وإقدامي وصدقي ومحيدي

ومن عينية سويد أشار الدكتور طه إلى هذين البيتين:

رُبَّ من أنضجت غيظاً قلبه

قد تمنَّى ليَ موتاً لم يُطَع

ويراني كاشجا في حلقهِ

عَسِراً مخرجُه ما يُنتزَع

وأراد من رائية الأخطل هذين البيتين:

تَنِقُّ بلا شيء شيوخ محاربٍ

وما خلتُها كانت تريش ولا تبري

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبتْ

فدلَّ عليها صوتُها حيةَ البحر

ومن لامية المتنبي أراد هذين البيتين:

أرى المتشاعرين غروا بذمي

ومن ذا يحمل الداء العُضالا

ومن يكُ ذا فم مُرٍّ مريضٍ

يجد مُرّاً به الماء الزلالا

وما أردت تبليغ هذه التعاريض إلى الأستاذ المازني، وإنما أردت منفعة القراء، والشر يتسم بالخير في بعض الأحايين!

غمزات الدكتور طه

1 -

كان يستطيع أن يقول إنه (يستعير) قصة أبي العلاء مع الشريف، و (يستعير) هي اللفظة المطلوبة في هذا الموقع، ولكنه قال إنه (يسرق) ليندد بالأستاذ المازني. ولم يكتف بذلك، بل جعل سرقته علنية، وهي (حينئذ أشبه بالسطو) كما قال

2 -

صور الأستاذ المازني بصورة الحاسد لمن كتب تصدير الديوان

3 -

وصورة بصورة من يعجز عن عمل المستشار الفني بوزارة المعارف، ومن يعجز عن إدارة جامعة فاروق

الدكتور طه في الأعمال الحكومية والأدبية

لقد فصلنا الخصومة بين الرجلين بوضوح، ولم يبق إلا أن نكف شر الأستاذ المازني، لأننا

ص: 13

نكره أن تختل الموازين في هذه البلاد

وإذا كان الأستاذ المازني هو البادئ بالظلم فأنا أبدأ بالدفاع عن الدكتور طه، والهجوم عليه ذو شعب: فهو تارة أديب أضاع نفسه بالأعمال الحكومية، وتارة موظف لا يحسن إدارة الأعمال، وتارة حائر لا يهتدي إلى ساحل الأمان

وأشهد أن الدكتور طه من أقدر الرجال على إدارة الأعمال الحكومية، فما تولى عملا أقبل عليه بهمة وقوة، ولا سما إلى مطلب إلا وصل إليه بأيسر أو أعسر مجهود. والدكتور طه مثال نادر من أمثلة البراعة في الشؤون الإدارية، وهو مفطور على سرعة التصرف، وأخطاؤه القليلة أو الكثيرة لا تقاس إلى صوابه في الابتكارات الديوانية

وما الذي يمنع من الحكم بأن الدكتور طه دفع عن رجال الأدب قالة من أسوأ القالات، فقد مرت أزمان والناس يتوهمون أن رجال الأدب لا يصلحون للأعمال الإدارية، وكان من أثر هذا التوهم أن لم نر لأحدهم مكانا في المناصب العالية من الوجهة الرسمية، فجاء نجاح الدكتور طه رداً حاسماً على أوهام أولئك المتوهمين

وكذلك يقال في تولي الدكتور طه إدارة جامعة فاروق، فذلك مغنم عظيم لرجال اللغة العربية، وكانت الحكومة لا تكل إلى أحد منهم إدارة مدرسة ابتدائية. وهل ننسى أن مدرسة دار العلوم ظلت آماداً طوالاً تحت نظارة رجال من غير أبنائها، مع أن فيهم كثيراً من الأكفاء؟

ويسرني أن تشهد البواكير بأن الدكتور طه سيفلح في إدارة جامعة فاروق، كما أفلح من قبل في إدارة كلية الآداب بجامعة فؤاد، وكما أفلح في أعماله بوزارة المعارف

أما قول الأستاذ المازني بأن شواغل الدكتور طه تصرفه عن تزويد عقله بالمطالعات والمراجعات فهو قول صحيح، ولكنه لا يؤذي الدكتور طه في شيء، لأن الدكتور طه قد اختار لنفسه أن يكون من رجال الدولة لا من رجال الأدب، وهو لن يزاحم أحداً من الباحثين، ولن يقول إنه أوحد الناس في جميع الفنون، فما يجوز لمن يكون في مثل حصافته أن يتناسى أن الأستاذية في الأدب توجب الانقطاع إلى الأدب، وتفرض الخلوة إلى النفس ساعات من كل يوم، وذلك لا يتيسر لمن تكون الأعمال الإدارية عناءه بالنهار وهمه بالليل.

ص: 14

المازني ضحية الأدب، ولكنه لن يضيع

من التقاليد الموروثة بمصر احترام الوظائف والموظفين، وقد كان الآباء في عهد الفراعنة يوصون أبناءهم بطاعة الرؤساء، ويحضونهم على تنفيذ الأوامر بلا اعتراض، ليظفروا من مناصب الدولة بأكبر نصيب

وأنا لا أرى في هذا شيئاً من الذلة في طلب المجد، كما رأى بعض الناس، وإنما أراه شاهداً على أصالة المصريين من الوجهة النظامية، فطاعة المرءوس للرئيس يوجبها نظام الأعمال إذا حسنت النيات وزال معنى الخضوع الممقوت

- واحترام الوظيفة في مصر له أصل، فقد كانت الوظائف من أنصبة الأغنياء والأقوياء، وكان مفهوماً أن الرجل لا يظفر بوظيفة إلا إن كانت له عصبية تحميه من الكائدين، أو تعينه على تحقيق السيطرة في الإقليم الذي يشرف عليه بأي صورة من صور الإشراف

ونحن اليوم نخضع لتلك التقاليد خضوعاً يعترف به القلب وإن أنكره اللسان، فمن السهل أن يسأل سائل عن مكانه الأستاذ المازني في الدواوين الحكومية، وكان قبل ثلاثين سنة أستاذاً في مدرسة من كبريات المدارس الثانوية، ومن زملائه من وصل إلى مكانة تضيفه إلى المحسودين بين كبار الموظفين، فماذا صنع المازني بنفسه حتى تخلف هذا التخلف وحتى صار من حق أي إنسان أن يقول له: داعب هذا المنصب إن كنت تستطيع؟

حظ المازني يظهر واضحاً إن تذكرنا ما صار إليه ناصحه الأمين، وهو الأستاذ عبد الفتاح صبري وكيل المدرسة السعيدية، يوم كان المازني أستاذاً بالسعيدية، فقد خضع الأستاذ عبد الفتاح صبري للأنظمة الإدارية خضوعاً وصل به إلى أرفع منصب في وزارة المعارف، وثار المازني على الأنظمة الإدارية ثورة وصلت به إلى العيش من سنان القلم في الجرائد والمجلات

فما النتيجة وما الغاية في حياة هذا وذاك؟

مات عبد الفتاح باشا صبري ميتة الغريب، فلم تبكه وزارة المعارف، ولم يحزن عليه مخلوق، ولن يذكر بغير الملام إن تسامح معه التاريخ!

أما المازني فلن يموت أبداً، وهل يموت رجال الأقلام والآراء؟

المازني من أمجاد مصر الأدبية، وصفحة واحدة من أصغر كتاب ألفه المازني أبقى على

ص: 15

الزمن من جميع المناصب، والله عز شأنه أقسم بالقلم ولم يقسم بالجاه ولا بالمال

وهل كانت مصر ترضى أن يصير المازني إلى وظيفة تقبره كما قبرت الوظائف مئات من المفكرين بهذه البلاد؟

اقترحت مرة على صفحات الرسالة أن تقرر الدولة معاشاً الأستاذ المازني، بحجة أنه أدى للأدب خدمات لم يؤدها من تمتعوا بكرم الدولة باسم الأقدمية في الوظائف

وأنا في هذه اللحظة أسحب ذلك الاقتراح، فلن يجوع المازني وفي يده قلمه، ولن يشيخ قلم المازني ولو صار صاحبه في ضمور طيف الخيال.

كلمة صريحة إلى الدكتور طه حسين

ولكن ما الذي آذاك أيها الأستاذ الجليل من تلك الغمزة المازنية؟ ما الذي آذاك منها وهي حق في حق؟

أتريد أن نعفيك من النقد الأدبي؟

أتريد أن نتوهم أنك كنت معنا فطرت عنا؟

أيرضيك أن تتناسى اسمك في المناوشات الأدبية؟

إن كان هذا ما تريد فأنت وما تريد، ولكننا لن نحترم إرادتك إلا كارهين، لأننا نرفض تسليمك إلى الحكومة بأي ثمن، وسنجاهد إلى أن نستردك، فجهز نفسك لوصل حاضرك بماضيك، في خدمة الأدب الرفيع.

زكي مبارك

ص: 16

‌4 - المسرح المصري

والدرامة المنظومة

للأستاذ دريني خشبة

كان شوقي العظيم - عليه رحمة الله - لا يعجبنا!

وكنا نتهم شوقي بأنه كان يعيش معنا بجسمه، ومع شعراء الأجيال السابقة بروحه وفنه. . . فهو يردد أوزانهم ويقلد قصائدهم، ويتخذ مطالعهم، ويغزل في أول منظوماته كما كانوا يغزلون، ويعارض الحصري والبوصيري وأبا تمام والبحتري

كنا نعيب شوقي لأنه كان يصنع هذا، وكنا نعيبه لأنه لم ينظم للمسرح، فلما سمع إلينا ونظم المسرح أخذنا عليه المآخذ، وعددنا عليه الهفوات. . . والرجل العظيم عليه رحمة الله يصبر على ذلك ويبتسم، فلا يضيق بالنقد، ولا ينقم على النقاد، بل يبطل حجتهم بإخراج القطعة بعد القطعة، ونظم الغرة تلو الغرة، والنقاد الظالمون، لا غفر الله لهم ولا سامحهم، وإن كنت منهم، يلجون في غيهم، ولا يعجبهم من شوقي العظيم العجب، حتى أراحهم الله من شوقي، فنظروا حولهم، فإذا هم لم يستريحوا، وإذا هم يشعرون بفدح الخسارة التي منى الأدب العربي بها، والتي لم يستطيع أن يعوضها هذا الجيش العرمرم من الشعراء والشويعرين والمتشاعرين بمن فيهم من زيد ومن عمرو، ومن فيهم من هذا الذي كنا، في نوبة من الحماسة، نفضله على شوقي، ونزيف له أكاليل الغار، فلما مات شوقي، إذا إكليل الغار تمسخه الأقدار فيكون حزمة من القش. . . وإذا نحن نعترف في ذهول وحزن بأن الشعر العربي - أو الأدب العربي - قد أصيب بنكسة شديدة وارتكاس مؤلم، لأن النهضة التي بدأها شوقي وتركها وهي في المهد، لم يهيأ لها الشاعر الذي يرعاها ويبلغ بها شأو الطفولة. . . ولا نقول الصبا ولا نقول الشباب. . .

تلفتنا حولنا فرأينا الشعر العربي يعود إلى حدوده الضيقة التقليدية، ورأيناه لا يعدو القصائد والمقطوعات والموشحات، ورأينا تلك البداية المباركة التي بدأها شوقي تنطوي على نفسها فتصبح من المخلفات الأثرية في المسرح المصري، حتى أوشك الممثلون الأفذاذ الذين أدوا الشوقيات الرائعة ينسون أدوارهم، وحتى أوشك الناس ينسون تلك الشوقيات

ومع هذا فما زلنا نسمع من يجرؤ على التشدق بأنه أشعر الشعراء وسيد الأدباء، لا لشيء

ص: 17

إلا لأن شعره يعجبه هو وإن لم يرق أحداً من الناس، فان سألته وهل حاولت ما حاول شوقي؟ سألك وماذا حاول شوقي؟ شوقي المقلد. . . شوقي الرجعي. . . شوقي الصدى. . . شوقي الذي لم تكن فيه روح الشعر وإن جاء بهرج النظم. إلى آخر تلك المهاترات الأدبية التي لم نتورع من إهدائها إلى شاعرنا العظيم حتى بعد أن ترك لنا الدنيا لنملأها نحن بالكمال الذي طالبناه به. . .

ولست أدري ماذا يصرف شعراؤنا - أصلح الله بالهم - عن النظم للمسرح، ومنهم طائفة مثقفة واسعة الاطلاع عظيمة الدراية بالأدب الأوربي، اطلعت من غير شك على درامات شكسبير وبن جونسون ومارلو وغيرهم من الشعراء المسرحيين، وعرفت ما أفادته اللغة الإنجليزية من الدرامات المنظومة، وما فتح الله على أيديهم للشعر الإنجليزي وغير الشعر الإنجليزي من هذا الفتح العظيم الذي كانت آيته ذلك الشعر الحر الذي لا يعرف القافية ولا يتقيد بها، بل ينطلق من الروح أنغاماً سحرية مشرقة ذات بهاء وذات لآلاء، دون أن تذهب بهجتها في هذا الاطراد الطويل الممل الذي تجلبه القافية العربية

وقد يعترض معترض بأننا ندعو إلى شيء فرغ غيرنا منه، حينما ندعو شعراءنا إلى نظم الدرامات للمسرح المصري. . . إذ ما حاجة هذا المسرح إلى الدرامات المنظومة في عصر سار فيه الأدب الواقعي، وتحرر فيه التأليف المسرحي من القيود المادية التي كانت تجعل أداءه بطيئاً وحواره مملولاً فيه كلفة وفيه تصنع. وهو اعتراض مردود. . . ويرده أن الأدب المسرحي الذي ندعو إلى إدخاله في الأدب العربي يجب أن يدخل إلى هذا الأدب بكل أنواعه التي عرفها الأدب الأوربي، ثم نحن ندعو إلى وجوب نهضة الشعر العربي وتوسيع آفاقه. . . ولن تتسع هذه الآفاق ما دام الشعر العربي بعيداً عن المسرح، إذ الدرامة المسرحية هي المجال الذي يتسع لأخيلة الفحول من الشعراء فيفيضون فيها من آرائهم في الحياة وآرائهم في الفن وآرائهم في الجمال وآرائهم في السلوك، ويبدعون ما شاءت لهم تلك الأخيلة من الصور التي يعالجون بها جراح الإنسانية ويهذبون بها انحرافاتها. . . كل ذلك في الدرامة. . . هذه القطعة الحية المتحركة فوق المسرح بأشخاصها الكثيرين، ذوي المشارب المختلفة والميول المتباينة، وبمناظرها الرائعة التي يكسبها الشعر جوها الساحر الجميل الخلاب. . . نريد إذن أن يجد شعراؤنا وأن يوسعوا آفاقهم، وأن يجعلوا للدرامة

ص: 18

المنظومة شطراً من جهودهم التي ينفقونها كلها في الهنات الهينات من قصائدهم وموشحاتهم التي شبعنا منها إلى حد التخمة. . . ومعاذ الله أن يظن أحد أننا نعرض بأحد من شعرائنا أو من شعراء العالم العربي. . . فنحن إنما يتهم هؤلاء وهؤلاء بأنهم كسالى. . . وأننا حينما كنا ننقد شوقي ونهاجمه إنما كنا نتجنى على سيد شعرائنا غير مدافع، وكنا نغمط حقه ونظلمه. . . وإلا فأين من شعرائنا من استطاع أن يسمو إلى أفق شوقي أو أن يملأ هذا الفراغ الهائل الذي تركه وراءه؟

لابد إذن أن ينفض شعراؤنا غبار هذا الكسل، ولابد أن يحاولوا مثل الذي حاوله شوقي من قبل، والذي حاوله، ونرجو أن يستمر فيه، الشاعر الشاب الأستاذ محمود غنيم اليوم. فإن لم يفعلوا فلسوف يظل الشعر العربي جامداً في دائرته القديمة وهم بحمد الله لن يأتوا في حدود تلك الدائرة بعشر معشار ما أتاه الأولون من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين وأمويين وعباسيين وأندلسيين. ونحن إن كان لنا أمل في أحد من شعرائنا المصريين أو الشعراء العرب عامة، فالشعراء الشباب هم مناط ذاك الأمل. وكم كنت أود أن أوثر الفريق الذي يجيد اللغات الأجنبية منهم على الفريق الآخر الذي لا يجيدها، لو لم يبرز الأستاذ غنيم في الفريق الثاني، فذهب بالفضل، واستحق الثناء، وجعلنا نتشوق إلى محاولاته التالية. . . أما شعراؤنا الذين يجيدون إحدى اللغات الأجنبية ويقعد بهم الكسل دون محاولة النظم المسرحي، ففي مقدمتهم الشاعر الرقيق النابغة الأستاذ علي محمود طه؛ ثم الأستاذ الشاعر المطبوع محمود الخفيف، ثم الأستاذان أحمد فتحي ومختار الوكيل. ثم الشعراء الجامعيون وشعراء المهاجر. . . إن هؤلاء هم المسئولون قبل غيرهم عن نهضة الشعر العربي وفتح الميدان المسرحي له على مصراعيه، لأنهم أعرف من غيرهم بماهية المسرح وما يستطيع أن يؤديه للغة والشعر من أمجاد، وذاك أنهم تأثروا بروح الغرب وأساليبه، تلك الروح العالية نلمسها في أشعارهم فنلمس فيها أثر بروننج وشلي وكيتس وبيرون ووردذورث ودي موسيه وليل وج. ب. روسو وليبران. . . فمتى يا ترى نلمس فيهم اثر بن جونسون وشكسبير وراسين وكورني؟ إنهم يعرفون من تاريخ الآداب الأوربية كيف ثار الشعراء الإنجليز على القوافي الشعرية وكيف أفاءت عليهم عرائس القرائح بنعمة الشعر الحر التي اهتدى إليها مارلو الإنجليزي، فأتى فيها بالأعاجيب، وفتح باب جنتها الفيحاء لشكسبير

ص: 19

العظيم الذي ذلل قطوفها تذليلاً. . . فمتى يثورون في الشعر العربي مثل تلك الثورة التي لا يحسن أن يقوم بها غيرهم، لما تستلزمه من ذوق خاص أولاً، ووقوف على تاريخ الآداب الأوربية ثانياً، حتى يخطوا خطواتهم عن بصيرة وحسن دراية، مهتدين في ذلك بما تم من مثله في الآداب الأخرى التي يثقفونها

أما شباب شعرائنا الذين لا يجيدون إحدى اللغات الأوربية بل لا يعرفونها، فقد جنوا على أنفسهم وعلى ثقافتهم بإهمالهم تعلو إحدى تلك اللغات مع ما كانت تبذله لهم دار العلوم من العون والتشجيع. ولعل دار العلوم هي التي جنت عليهم في ذلك، لأنها جعلت تعلم اللغة الأجنبية اختيارياً ولم تفرضه على أبنائها فرضاً، ولو أنها قسرتهم على تقلمها لحمل أبناؤها اليوم عبء الثورة على تقاليد الشعر العربي العتيق، ولأتوا في ميدان النظم المسرحي بالأعاجيب. على أنني لا أدري ماذا يمنع شعراء دار العلوم من الإكباب على لغة أجنبية يدرسونها ويتثقفون آدابها. ولست أدري أيضاً ماذا يمنع هؤلاء الشعراء، في مقدمتهم الأساتذة محمود حسن إسماعيل ومحمد عبد الغني حسن واحمد مخيمر ومن إليهم من أن يحتذوا حذو الأستاذ غنيم في النظم المسرحي؟ وللأستاذ محمد عبد الغني حسن إلمام لا بأس به بالإنجليزية، فما له لا يساهم في النظم الدرامي بنصيب؟

إننا حين نحاول سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، لا بد لنا ن خلق حركة أدبية إبداعية لا يحسن أن ينهض بها غير شعرائنا الشباب. والأدب الإبداعي (الرومانتيكي) هو أدب الخيال والجمال والسحر والشعر والخلق والابتكار. . . هو الأدب الذي يلون الحياة ويمد في طرفيها ويزيدها علواً وسفلاً، ويجعلها أعمق وأوسع آفاقاً. . . إنه الأدب تتضافر فيه جهود الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين ورسامين وصانعي ملابس. . . أنه أدب الألوان والعواطف والبرق والرعد والدموع والعواطف والأشجان. . . إنه الأدب الذي لا يجيده غير الشعراء الموهوبين الذين يستطيعون أن يخلقوا لنا دنيا أجمل من الدنيا التي نعيش فيها. . . دنيا ذات ألوان صارخة تتسع لأحلامنا التي نعجز عن تحقيقها في عالم الواقع. . . دنيا الشعر والموسيقا والغناء. . . دنيا نتفيأ فيها ظلال الرحمة والمحبة والحنان كلما بهظتنا دنيا الشقية بالآلام والنكبات. . . دنيا نتنفس فيها صعداءنا هانئين سعداء، لا نخاف رهقاً ولا نخشى عنتاً ولا نفزع من شجو ولا نضيق فيها بأنفسنا كما نضيق بها في

ص: 20

دنيا الواقع

إن القصائد والموشحات وحدها لا تستطيع أن تصنع لنا من ذلك كله إلا لحظة عابرة ثم نتردى من جديد في هوة آلامنا. . . أما الدراما المنظومة الإبداعية فكفيلة بأن تخملنا إلى السموات ساعات وساعات، وكفيلة بأن تخفف من أعباء قلوبنا، وما تنوء أرواحنا به من ضيق. . . ما هذا؟ أكلما أراد القارئ العربي المسكين أن يتسلى بشيء من الدرامة الإبداعية اضطر اضطراراً إلى اصطحاب شيكسبير ورهطه إن كان يحسن الإنجليزية، أو راسين وكورني إن كان يجيد الفرنسية، أو سرفنتس ولوب دي فيجا إن كان ملماً بالإسبانيه، أو شيلر ولسنج إن كان يعرف الألمانية، أو يقعد حزيناً محسوراً إن كان لا يعرف لغة أجنبية؟. . .

ألا إن هذا لهو أشنع الخزي في أدبنا العربي، وفي شعرنا العربي بوجه خاص. . . إننا لن نغتفر مطلقاً لأدبائنا الكتاب تقصيرهم في إمداد المسرح المصري بدرامات مصرية، وأننا لن نغتفر مطلقاً لشعرائنا الكهول تقصيرهم في إمداد هذا المسرح بدرامات منظومة تغني الأدب المسرحي وتمد الأدب العربي بثروة طائلة لا تعد لها تلك الثروة التي تشبه الفقر من القصائد والمطوعات والموشحات. . . إننا نتساءل فيم أنفق شعراؤنا الكهول أعمارهم؟ لقد أنفقوها في نظم القصائد والمقطوعات، والقصائد والمقطوعات فحسب. . . فلن تجد في دواوينهم التي تعد بالعشرات ملحمة تشجيك ولا قصة تصيبك ولا درامة تسليك، ولا تمثيلية، ولو فصل واحد، يوسع بها أحد هؤلاء الشعراء حدود الشعر العربي في عصرنا الذي اتسعت فيه حدود كل شيء. . . الحق أن حالة دواوين الشعر العربي محزنة جداً، وهي محزنة بنوع خاص في دواوين شعرائنا المعاصرين الذين عرفوا أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية والأدب الأوربي. . . وإن مقارنة سريعة بين ديوان شاعر أوربي مثل بيرون أو روبرت بروننج وبين أي ديوان من دواوين شعرائنا، (فحلاً أو نصف فحل أو إمعة!) لتظهرك على هذا الفقر الشنيع في إنتاجنا الأدبي، وهو فقر يحسن الإنسان منه الخزي الشديد، فينصرف عن الشعر العربي والشعراء العرب وفي نفسه ما فيها من الحسرة والألم. . . فماذا في جميع دواويننا مما في ديوان بيرون مثلاً؟ إنك تقرأ في بيرون تلك الملاحم الطوال والمنظومات القصصية الرائعة، والتمثيليات الإبداعية الشائقة. . . إنك

ص: 21

تقرأ دون جوان. . . تشيلد هارولد. . . بو. . . الجزيرة. . . الجياؤور. . . القرصان؛ ثم تمثيليات مارينو فالييرو، ورنر، قايين، مانفرد. . . إلى آخر تلك الروائع التي تكون ثروة بيرون الأدبية الهائلة، وإنتاجه الشعري العظيم. . . وكل من تلك الملاحم أو التمثيليات يصلح لأن يكون مجلداً ضخماً يزري وحده بأي ديوان من دواويننا. هذا عدا قصائده التي لا تعد. . . وبيرون مع ذاك مات شاباً كما مات شلي وكيتس، فلم تحل حياته القصيرة دون هذا الإنتاج البارع الغزير السامي. . . ومن الشعراء الإنجليز والفرنسيين والأسبان عشرات يفوقون بيرون غزارة إنتاج ويرتفعون إلى أفقه إن لم يفوقوه جودة. . . فمتى نفتح دواوين شعرائنا العرب فنباهي بها ولا يتولانا هذا الخزي؟ ومتى يتعاون شعراؤنا الكهول مع شعرائنا الشباب في رأب الصدع في شعرنا ولا يستعلون عليهم؟

دريني خشبة

ص: 22

‌مواكب الأعراس في عهد بني العباس

للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني

من الحوادث التاريخية ما يبعث اللذة ويسلي في أوقات الفراغ. ونحن في درسنا للتاريخ نضيف إلى حياتنا اليومية ذكريات من الماضي تبعثنا إلى التأمل والمقايسة بين أمسنا وحاضرنا فيختار القارئ من هذه الصفحات ما تصبو إليه نفسه وما يسمو به عقله وما تنتعش به نفسه. وهذه صفحة من صفحات تاريخ الدولة العباسية التي شغلت العالم الشرقي والغربي قروناً كانت فيها أدوار عز وفخر. ولقد اخترنا لموضوعنا هذا ثلاث حفلات من أفخم الحفلات التي جرت في عهد بني العباس من أوائل أدواره وأوسطها وأواخرها فنقول: كانت أيام المأمون أيام عز وجاه ورغد ورخاء وتفوق وانتصار دونها المؤرخون بما فيها من الحلل القشيبة التي رفلت بها الدولة العباسية واعتزت أيما اعتزاز، حيث كانت مناراً للعلوم وينبوعاً للثروة والمال. فبذخ الخلفاء والأمراء وأصحاب المناصب العالية. وتخرقوا بما يفوق وصفه في كل حال من الأحوال. فكانت الحفلات والولائم والاحتفالات ذات مظهر فيه كل البذخ والإسراف يفوق ما يقوم به ملوك الأطراف تعزيزاً لهيبة الخلافة وعنواناً لسلطانها وجبروتها. ومن هذا ما جرى في حفلة زواج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل الذي كان وزيره آنذاك. وهانحن أولاء نسرد ما جرى في تلك الحفلة التاريخية التي فاقت الحفلات التي تقام عادة بين الملوك والأمراء. وقد جرت تلك الحفلة في منازل الحسن بن سهل السرخسي التي كانت بفم الصلح بالقرب من مدينة واسط. وفم الصلح اسم نهر كبير كان فوق واسط بينها وبين جيُّل، عليه عدة قرى، وفيه كانت دار الحسن بن سهل وزير المأمون، وفيه بنى المأمون ببوران، تزوجها المأمون لمكانة أبيها عنده، واسمها الحقيقي خديجة، وبوران لقبها. احتفل أبوها وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من عصور الجاهلية والإسلام. فقد سافر المأمون وحاشيته ورجال دولته من القواد والكتاب والوجوه إلى فم الصلح فنثر الحسن بن سهل بنادق المسك على رؤوسهم فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما فيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو فرساً أو جارية أو مملوكاً. ثم نثر بعد

ص: 23

ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه وكانوا خلقاً لا يحصى حتى على الجمالين والمكارية والملاحين وكل من ضمه عسكر. ولم يكن في المعسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه. وذكر الطبري أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً يعدُّ له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه. وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم. وكان رحيل المأمون نحو الحسن أبن سهل أي إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان سنة عشر ومائتين. وفرش الحسن للمأمون حصيراً منسوجاً بالذهب؛ فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلئ كثيرة. فلما رأى تساقط اللآلئ على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحال حين قال في وصفه الخمر والحباب الذي يعلوها عند المزج:

كأن صغرى وكبرى من فواقعها

حصباء درٍّعلى أرض من الذهب

وقال الطبري أيضاً: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله إلى فم الصلح، فلما جلس معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد الدر كم؟ فقالت: ألف حبة؛ فوضعها في حجرها، وقال لها: هذه نحلتك وسلي حوائجك. فقالت لها جدتها: كلمي سيدك فقد أمرك. فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي عمه، والسماح لأم جعفر، وهي الست زبيدة. فقال: قد فعلت. فألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية؛ وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عبر وزنها أربعون مناً في تور من ذهب. فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: هذا إسراف. وقد قالت الشعراء والخطباء في ذلك فأطنبوا. ومما يستظرف فيه قول محمد بن حازم الباهلي:

بارك الله للحسن

ولبوران في الختن

يا ابن هرون قد ظفر

ت ولكن ببنت مَنْ

فلما نمى هذا الشعر إلى المأمون، قال: والله ما ندري أخيراً أراد أم شراً؟ وقد أمر المأمون للحسن عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه. وقد كان الحسن كثير العطاء للشعراء وأنشده:

تقول خليلتي لما رأتني

أشد مطيتي من بعد حل

ص: 24

أبعد الفضل ترتحل المطايا؟

فقلت نعم إلى الحسن بن سهل

والحكاية الثانية زواج الخليفة المقتدى بأمر الله بابنة السلطان ملكشاه السلجوقي، وهي من حوادث سنة ثمانين وأربعمائة، على ما رواه ابن الأثير، قال: في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخليفة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي. وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة، وثلاث عماريات، وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة، لا يقدر فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرساً من الخيل الرائعة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهر آتين، والأمير برسق وغيرهما. ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب. وكان السلطان قد خرج من بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك. وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً. وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره؛ فأجابت بالسمع والطاعة. وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير. وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم، كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشموع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان. ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة. وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها. فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله، حكي أن فيه أربعين مناً من السكر، وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان والى الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك

والحكاية الثالثة وهي من أواخر عهد الدولة العباسية أي من حوادث سنة أربع وثلاثين وستمائة، ذكرها ابن الفوطي قال: في هذه السنة وصل الأمير عز الدين قيصر الظاهري

ص: 25

مخبرا بوصول ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وكان قد نفذ لإحضارها لتزف على زوجها مجاهد الدين أيبك المستنصري المعروف بالدويدار الصغير. فخرج إلى تلقيها بدر الظاهري المعروف بالشحنة - أي رئيس الشرطة - أحد خدم الخليفة وفي صحبته ثلاثون خادماً، والأمير بدر الدين سنقر جاء أمير اخور الخليفة وجماعة من المماليك والحاجب أبو جعفر أخو أستاذ الدار ومؤيد الدين محمد بن العلقمي فتلقاها بدر الشحنة في المزرفة وعاد والجماعة معه وانحدرت هي في شبارة حملت لها إلى هناك في جماعة من خدمها وجواريها وصعدت في باب البشرى ليلاً وقد أعد لها بغلة فركبت واجتازت دار الخلافة وخرجت من باب النوبي إلى دار زوجها مجاهد الدين بدرب الدواب وهي الدار المنسوبة إلى احمد بن القمي فنثر عليها خادم لزوجها ألف دينار عند دخولها الدار. وفي رابع جمادي الآخرة خلع الخليفة على مجاهد الدين بين يديه وقدم له مركوب بعدة كاملة فخرج وقبل حافره وركب من باب الأتراك ورفع وراءه أربعة عشر سيفاً إلى غير ذلك من الحراب والنشاب واشتهرت السيوف من باب دار الضرب وخرج معه جماعة من خدم الخليفة والحاجب أبو جعفر بن العلقمي أخو أستاذ الدار ومهتر الفراشين وحاجب ديوان الأبنية وغيرهم. وتوجه إلى داره فلما اجتاز بباب البدرية نثر عليه خادم من خدم الشرابي أربعة آلاف دينار. ولما اجتاز درب الدواب نثر عليه في عدة مواضع من دار الأمير جمال الدين قشتمر ودار ابنته زوجة الأمير نصرة الدين كنج أرسلان وكان وراءه الأعلام والطبول والكوسات. وفي عشية هذا اليوم نفذ له أحد عشر طبلاً للخلق وأحد عشر قصعة وزوج صنج برسم طبل النوبة في الصلوات الثلاث. وزفت عليه زوجته فاجتمعت له فرحتان فرح الأمارة وفرح العرس. ولم يبلغ أحد من أبناء جنسه مع حداثة سنه ما بلغ. ومن الغد عرضت عليه الهدايا من رقيق الترك والخدم والجيوش وأنواع الثياب والطيب والخيل وآلة الحرب وغير ذلك من جميع الزعماء وأرباب الدولة وخدم الخليفة وسائر المماليك؛ ثم الوزير والشرابي وأستاذ الدار والدويدار الكبير، ولم ينفذ له أحد شيئاً إلا وخلع على المنفذ على يده ثم ركب وبين يديه الأمراء والمماليك ورفع وراءه السلاح وقيدت بين يديه الخيول المجنونة وشهرت حوله السيوف وسعى الكيانية وبأيديهم الحراب والأطيار والجاووشية وبأيديهم الجوالكين الذهب والفضة وقصد دار الخلافة فخدم وعاد ثم ركب عشية هذا اليوم

ص: 26

وقصد دار الخليفة فخدم وخرج وقت العشاء الآخرة في الأضواء الشموع واستمر دخوله إلى دار الخليفة في كل يوم بكرة وعشية على هذا الوضع

(بغداد)

يوسف يعقوب مسكوني

ص: 27

‌تطهير العقائد وتحرير العقول

أساس الإصلاح الاجتماعي

للأستاذ محمود أبو رية

انبعث في السنين الأخيرة بين جوانب البلاد صيحات مختلفة تدعو كلها إلى الإصلاح الاجتماعي، وتسابق من ينشدون الخير لبلادهم فرادي وجماعات إلى المساهمة في ذلك الإصلاح. ولما كان فريق قد اتخذ لنفسه مذهباً خاصاً لا يشاركه فيه سواه ولم يذهب إليه بعد درس أو تمحيص، فأن طرق العلاج قد تعددت ومذاهبه قد تفرقت. وقد وجد أدعياء الإصلاح بين زحمة هذه الفوضى طرقاً ميسرة ليظهروا بين الناس أنفسهم وينالوا مآربهم فيقف الواحد منهم على رأس طريق يتخذه لنفسه بعد أن يفتلذ من جسم الأمة فلذة ليكون مرشداً لها وهذا هو كل همه فلا تجد له ولا لمن حوله من عمل بعد ذلك إلا دعاوى ينشرونها ومزاعم يبثونها

وهذه لطوائف هي التي تعرف بين الناس باسم الجمعيات، وما هي في الحقيقة إلا (فرق) قد زادت في تمزيق الأمة وتشتيت شملها بعد أن أصبح صدر البلاد ضيقاً حرجاً بتلك الفرق التي تعرف (بطرق الصوفية)

وإن قيام هذه الفرق المختلفة بيننا وما يدب بينها من عقارب الشنآن وما أصاب الأمة بوجودها من داء التفرق ومرض التشيع ليعيد إلينا ولا جرم عهد الفرق الإسلامية لتي ذر قرنها في صدر الإسلام فكانت من أسباب ضعفه وذهاب ريحه

على أنك لو بحثت عن عمل لهذه الفرق المستحدثة لما وجدت إلا صيحات عن بعض الذكريات الدينية ترسل بين الناس الفينة بعد الفينة ويحسبون أنها مجدية وهي لا غناء فيها

هذا هو كل عملها فلا تراها قد ظهرت من أدران الوثنيات ولا فكت عن القول أغلال الخرافات، ولا أصلحت من الناس ما غشيهم من شيء العادات، ولا حسرت عنهم ما غمرهم من أمواج المنكرات؛ بل أنك لترى عللنا الاجتماعية قد زادت واشتدت، وأمراضنا الاجتماعية قد عمت وانتشرت؛ حتى لقد أصبح جسم الاجتماع المصري بهذه الفرق - القديم منها والحديث - كمثل رجل ألحت على جسمه العلل وانتابته الأمراض فسعى لمداواته الطبيب النقريس والدعي الجاهل، هذا، يدس له ما يضره، وذاك يقدم له ما ينفعه؛

ص: 28

ووراء هذا وذاك أولياؤه وأقرباؤه يدخلون عليه من كل باب يحملون إليه من مختلف الهدايا ما يظنون أنه من دوائه، وما هو في الحقيقة إلا من بلائه، فلا يلبث هذا المسكين أن تشتد عليه الأدواء، وأن مصبح في حال لا يرجى له معها شفاء

مما لا ريب فيه أن جسم الأمة مريض بعلل شتى قد غيرت القرون عليها حتى أعضل أمرها، ولكن مما لا خلاف فيه كذلك أن لكل داء دواء يستطب به، على أن يتولاه بالعلاج طبيب نظامي يقوم عليه وحده، ولا يشاركه في تمريض المريض غيره

وإذا كنا ندعو بكلمتنا هذه إلى اتباع تلك الطريقة القويمة التي لا يؤخذ بأسباب أي إصلاح إلا باتباعها، فإنا نذكر قومنا بأن لكل إصلاح (أساساً ثابتاً) يقوم عليه، وأساس الإصلاح الاجتماعي - بل والديني - في بلادنا إنما يقوم على (تطهير العقائد من دنس الوثنيات، وفك العقول من أغلال الأوهام والخرافات)؛ وهذا الأساس لم نفتجره من عندنا، ولا هو ببدع جديد لنا، وإنما وضعه من قبلنا الأنبياء المرسلون والزعماء المصلحون. وبحسبك أن تعلم أنه لما قام رسول الله (ص) بدعوته جعل همه كله في القضاء على البدع والوثنيات التي تدسست إلى العقائد فأفسدتها، والأوهام والترهات التي غشت الأفهام فكبلتها، وقد جعل هذا الجهاد أساس دعوته فلم يأت للناس بشيء من التكاليف الشرعية ولا أمرهم بأداء فرض من الفروض الدينية، إلا بعد أن خلصت العقائد من لوثاتها، ونشطت العقول من أغلالها، وأصبحت الأمة كلها على دين واحد من التوحيد الخالص. وأنه صلوات الله عليه لم يفعل ذلك إلا لأن التوحيد الخالص هو كما قال الأستاذ الإمام:(كمال الإنسان، وأنه إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل)

وإذا أنت رميت إلى تاريخ (لوثر) مصلح أوربا العظيم تجد نور هذه الحقيقة أمامك ساطعاً، إذ أنه بعد أن قام بدعوته وطهر المعتقدات مما كانت قد تلوثت بها، دخلت أوربا في طور جديد من الإصلاح ظل يؤتى ثمره حتى صارت على ما هي فيه آلات مدنية وحضارة وعزة وقوة. ولقد قال توماس كارليل في تاريخ لوثر في كتاب الأبطال: إن على دعوته قد قامت دعائم الدستور الإنجليزي وبرلماناته والحرية الأمريكية واستقلالها والثورة الفرنسية ونتائجها

إن كثيرين ممن يتصدون للإصلاح (الكلامي) يستهينون بأمر البدع والخرافات، وبعض

ص: 29

هؤلاء يجعل من إصلاحه أن تظل هذه العلل تنخر في عظام الأمة، لأنها (بزعمه) مما ينفع العامة. ولو هو تدبر الأمر بفكر الحكيم لعلم أنه ما أنهك جسم الأمة، ولا قضى على كل فضيلة فيها إلا تلك البدع والخرافات. ولقد أصاب السيد جمال الدين الأفغاني في قوله:(إن خرافة واحدة قد تقف بالعقل عن الحركة الفكرية وتدعوه بعد ذلك أن يحمل المثل على مثله فيسهل عليه قبول كل وهم وتصديق كل ظن، وهذا مما يوجب بعده عن الكمال، ويضرب له دون الحقائق ستاراً لا يخرق)

وإن للأستاذ الإمام محمد عبده لحكمة جليلة يجب على كل مصلح أن يتبعها ويسير على هداها وهي (إن نجاح هذه الأمة إنما يكون بحسن التربية، ولا سبيل إلى التربية فيها إلا بإصلاح معتقداتها وتصحيح ملكتها حتى تستقيم بذلك أعمالها وتصلح أحوالها)

ولشيخه السيد جمال الدين منهج في إصلاح الاجتماع وإسعاد الأمم جعل الأمر الأول منه (صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام، فإن عقيدة وهمية لو تدنس بها العقل لقامت حجاباً كثيفاً يحول بينه وبين حقيقة الواقع، ويمنعه من كشف نفس الأمر. وأول ركن يبنى عليه الدين الإسلامي (هو) صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام، فمن أهم أصول العقائد أن الله منفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الفواعل والأفعال؛ وإن من الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد علويا كان أو سفليا بأن له في الكون أثراً بنفع أو ضر أو إعطاء أو منع أو إعزاز أو إذلال)

ومن أجل ذلك كان أول عمل قام به السيد بمصر أن (وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول فنشطت لذلك ألباب واستضاءت بصائر)

ومن كان رحمه الله في جميع أوقات اجتماعيه مع الناس لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل أو يطهر العقيدة أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور)

هذا هو أساس الإصلاح الذي يكون كل ما يبنى عليه قوى الأركان شديد البنيان، وكل إصلاح يقوم على غير هذا الأساس فإنما يكون مصيره ولا ريب الإخفاق والخيبة

وإنا نرسل اليوم هذه الصيحة من فوق منبر الرسالة لكي تبلغ المسئولين في بلاد الشرق كافة، فينهضوا جميعاً في حزم وقوة، وفي غير هوادة ولا لين، ليضعوا هذا الأساس بأيديهم ثم يقيموا عليه بعد ذلك ما يقيمون من إصلاح وما يبنون من أعمال

ص: 30

هذه هي صيحتي التي أبعثها إلى قومي. وأرجو أن أكون قد بلغت، وأن أكون قد ذكرتهم بما فيه الخير لهم، والذكرى تنفع المؤمنين

(المنصورة)

محمود أبو رية

ص: 31

‌أنات حائرة

للمدير الشاعر عزيز أباظه بك

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

خطر لي موضوع هذا المقال وأنا أقرأ ديواناً من الشعر الحزين الرصين أهداه إلى الشاعر عزيز بك أباظة

وكثير من الناس لا يعرفون شيئاً عن قصة هذا الشاعر، ولا قصة ديوانه الجديد الذي أتحف به باب المرائي في الشعر العربي

أما الشاعر فقد سمعت عنه من بعض أفراد أسرته الكريمة فقلت في نفسي: قريب يحابى قريباً، ونسيب يزكي نسيباً؛ ولكنني لما قرأت ديوان، استصغرت ما سمعت من الأخبار

وأما قصة الديوان، فهي قصة الدموع والأحزان والهموم والآلام نظمها الشاعر في سلك وأهداها إلى من يجدون فيدموع غيرهم شفاء لغليلهم، وراحة لصدورهم

والديوان كله دموع ذرفها الشاعر على زوجته التي اختطفها الموت أنضر ما تكون شباباً. وكل بيت من الديوان يحمل ذكرى. وكل قصيدة تحمل أثراً

وهذا شيء جديد في الأدب العربي؛ فما رأينا قبل اليوم - فيما نعلم - شاعراً عربياً اختص زوجته بديوان كامل من شعره يقدمه تذكاراً لأيام سعيدة وبشاشات من العيش مضت إلى غير رجعة

وأكثر المراثي في الأدب العربي هي من الرجال إلى الرجال؛ اللهم إلا مراثي الخنساء لأخويها صخر ومعاوية وأولادها الأربعة. فهي هنا الشاعرة الوحيدة التي تفردت بالبكاء حياتها.

ورثاء الرجال للنساء في الشعر العربي قليل، وأقل منه رثاء الرجال لزوجاتهم. ولعل ذلك محمول على المحافظة على صيانة المرأة وبعدها أن يكون أسمها مضغة في الأفواه، وسيرة على الألسنة.

وليس في ذلك مناقضة لورود المرأة في شعر الغزل؛ فإن موضوع الغزل ليست محرما للرجل وليست من أهله، ولا يعيب الرجل أن يتحدث الناس عنها. أما الزوجة المرثية، فهي لزوجها أهل وأم أبناء، فيجد من الحرج أن يذكرها في شعره حتى ولو كان ذلك في

ص: 32

مقام الرثاء وموضع البكاء. ودليلنا على ذلك أن الطغرائي أَنِفَ أن يذكر زوجته في معرض رثائها فعبر عنها أكثر من مرة بقوله (ستيرته) والستيرة هي المرأة المستورة. وهذا الوصف يوحي بأن الشاعر قصد أن يجعل زوجته في ستر حتى على صفحات ديوانه المنشور

واشتهر من الأزواج الراثين لزوجاتهم مسلم بن الوليد. ويظهر أنه كان ينوي أن يعرض عن رثاء زوجته - على عادة الشعراء قبله - ولكن حادثاً معيناً أغراه برثائها وهاج أحزانه فسجلها في أبيات رائعة. ويلخص هذا الحادث في أن أصحابه لاحظوا عليه بعد دفنها شدة ألمه واستسلامه لأحزانه، فأرادوا لأن يحملوه على الشراب حتى يتسلى بالخمر عن مصابها فرد عليهم بقوله:

بكاء وكأس كيف يتفقان

سبيلاهما في القلب مختلفان

دعاني وإفراط البكاء فأنني

أرى اليوم فيه غير ما تريان

غدت والثرى أولى بها من وليها

إلى منزل ناء بعينك دان

فلا حزن حتى تنزف العين ماءها

وتعترف الأحشاء بالخفقان

وكيف بدفع اليأس والجد بعدها

وسهماهما في القلب يعتلجان

ولابن الزيات الكاتب الشاعر وزير المعتصم والواثق العباسيين أبيات يرثي بها زوجته ويصور حال ولده منها وقد تركته طفلاً صغيراً، يقول فيها:

ألا من رأى الطفل المفارق أمه

بُعيد الكرى عيناه تنسكبان

رأى كل أم وابنها غير أمه

يبيتان تحت الليل ينتجيان

وبات وحيداً في الفراش تجنُّه

بلابل قلب دائم الخفقان

فلا تلحياني إن بكيت فإنما

أداوي بهذا الدمع ما ترياني

ومن الشعراء من يتخذ له جارية أو أكثر وفق ما كان مألوفاً في زمانهم وجارياً عليه عهدهم؛ فإذا ماتت جارية من هؤلاء وكانت عزيزة على الشاعر حبيبة إلى نفسه رثاها كما نرثي الزوجة، وقد يذرف عليها من ساخن عبراتهما يعبر عنه شعره. كما فعل أبو تمام في رثاء جارية له يقول فيها:

أصبت بخود سوف أغبر بعدها

حليف أسى أبكى زمانها

ص: 33

عنان من اللذات قد كان في يدي

فلما قضى الألف استردت عنانها

منحت الدُّمى هجري فلا محسناتها

أود ولا يهوى فؤادي حسانها

يقولون هل يبكي الفتى لخريدة

إذا ما أراد اعتاض عشراً مكانها

وهل يستعيض المرء من عشر كفه

ولو صاغ من الحر اللجين بنانها؟

وأبو تمام هنا يؤمن بالفردية وعدم القابلية للتعويض، فقد يكون من الجواري من يزدن حسناً على جاريته المرثية، ولكنه لا يجد فيهن العوض منها لخصائص فيها ليست لواحدة منهن

والشريف الرضي يرثي (بعض أهله) بأبيات فيها أثر اللوعة والحزن الشديد؛ ولعل بعض أهله زوجة له، لأن العرب تعبر عن زوجة الرجل بأهله. قال الشريف:

ذكرتك ذكرة لا ذاهل

ولا نازع قلبه والجنان

أعاود منك عداد السليم

فيا دين قلبي ماذا يدان

ونابي الجوى أن أسر الجوى

إذا ملئ القلب فاض اللسان

وما خير عين خبا نورها

ويمني يد جذ منها البنان

فيا أثر الحب إني بقيت

وقد بان ممن أحب العيان

وقالوا تسل بأترابها

فأين الشباب وأين الزمان؟

والشريف صادق في البيت الأخير؛ فأين الشباب المسعف على اصطناع الحب من جديد؟ وأين الزمان المعين على ذلك بعد أن ضاع من العمر غير قليل؟

وأكثر الشعراء رثاء لزوجته في الأدب العربي (الطغرائي) فيه أكثر من خمس قصائد مختلفات في الوزن والقافية. وكلها تدل على شديد حرقته. ولعله بذلك مهد السبيل لمحمود سامي البارودي باشا الذي رثى زوجته بقصيدة تعد أطول ما رثيت به امرأة في الأدب. فقد بلغت أبياتها سبعة وستين بيتاً

وقصيدة البارودي هذه لا تمتاز من مراثي النساء بطولها فحسب، بل تمتاز بتعبيرها عن أحزان البارودي ونفسه المحطمة أصدق تعبير، فقد كان منفياً بجزيرة سرنديب يوم ورد إليه نعيها. ولكنه على عزيمته القوية لم يستطع احتمال الصدمة فيها فيقول:

أيد المنون قدحت أي زناد

وأطرت أية شعلة بفؤادي

ص: 34

أوهنت عزمي وهو حملة فيلق

وحطمت عودي وهو رمح طراد

ويقول:

يا دهر فيم فجعتني بحليلة

كانت خلاصة عدتي وعتادي

إن كنتَ لم ترحم ضناي لبعدها

أفلا رحمت من الأسى أولادي

ولكنه بعد أن يذيب قلبه حسرات عليها يعود فيرضى بقضاء الله الذي لا مرد منه ولا محيص عنه فيقول:

كل امرئ يوماً ملاق ربه

والناس في الدّنيا على ميعاد

أما الطغرئي فكان على إكثاره من القصائد غير مرتفع إلى مستوى البارودي في مرثيته الخالدة. وإذا كان الطغرائي هو شاعر الشكوى من الزمان، فلم يستطع أن يكون بحق شاعر الرثاء. وأحسن أبياته في رثاء زوجته قوله:

إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ

فلا تجرعت غير الصاب والصَّبِر

وإن نظرتُ من الدنيا إلى حسن

مذ غبت عني فلا متعتُ بالنظر

صحبتني والشباب الغض ثم مضى

كما مضيت فما في العيش من وطر

سبقتماني ولو خيرت بعدكما

لكنتُ أول لحاق على الأثر. . .

وقوله:

وا بؤس منفرد عمن يضاجعه

مشرد النوم بين الأهل والمال

يزيد حر حشاه برد مضجعه

ويملأ القلب شجواً ربعه الخالي

يبكي ويندب طول الليل أجمعه

فلا يقر ولا يهدا على حال

هذه خواطر أملتها عليَّ قراءتي لديوان (أنات حائرة) الذي نظمه عزيز أباظة الشاعر لذكرى زوجته. ومن حق ناظمه الكريم - بعد تعزيتنا له - أن يفاخر بأن ديوانه الجديد هو أول ديوان في الشعر العربي يعمل برمته في رثاء زوجة.

محمد عبد الغني حسن

ص: 35

‌الله!.

. .

للأستاذ أحمد الصافي النجفي

بلغت ما يصبو إليه الورى

وغير ذا ما أتمناه

أرضيت بالشعر البرايا وما

أرضاه إن لم يرضه الله

الله أستاذي وكل الذي

خطَّ يراعي فهو أملاه

لا مبدع إِلاَّه، لا ناقد

سواه، ما يأباه آباه

أخجل من عرض قنوتي له

وإن تكن بعض عطاياه

أبدلت فني بخشوعي فأن

يُقبَل فذا ما أتوخاه

شوَّهتُ فنَّ الله إذ رمتُ أن

أريد بالفن مزاياه

أحتقر الناس وإعجابهم

ومن هُم؟ لا شيء إلاه

لولا تجلّيه على خلقه

لقلت هم والوهم أشباه

الله نور الأرض نور السما

ما أنا، ما العالم، لولاه؟

أعمى الورى من لا يرى نوره

ألم يشاهد؟ أين عيناه؟

أعمته عيناه وأغفى على

عمى فلم تَصدُقه رؤياه

تاه من النور وكم معشر

إن تزد النور لهم تاهوا

كم تكذب العين بما تدعّي

فأوضح العالم أخفاه

أراه في الكون بعين الحجى

لا أشرك العين بمرآه

إذا ادعَّى عقلك إنكاره

فأنكر العقل ودعواه

معْظِمي كونيَ من فيضه

مصغّري فهميَ إياه

عجبت من ساع إلى غيره

والكلّ لفظ هو معناه

تألّه البعض شعوراً به

فصاح في جبّتيَ الله

ولو رآه لهوى مثلما

موسى هوى من طور سيناه

أعْرَف بالله امرؤ شاعرٌ

يدرك في الكون خفاياه

آمنت بعد الكفر مستغفراً

عن جهل عقلي وخطاياه

يأخذ مصنوع على صانع

ما أحقر العقل وأغباه

ص: 36

وعدت للخالق أدعوه أن

يزيد نوري يوم ألقاه

كهولتي بالله قد آمنت

ضلَّ شبابي ودعاواه

فإن تجد ذا شيبة جاحداً

فقل إلى الموت أحلناه

روح المعرّي فيَّ آمنت

فأبصرتْ في الموت عيناه

عاشت بروحي روحه ترتقي

فمذ سمتْ لاح لها الله

بدأت تلميذاً على عقله

ثم اعتلى عقلي فأعلاه

أنضجت روح الشعر في روحه

فاستيقظت في العقل رؤياه

واستيقظ العقل بما قد رأى

واتحد الرائي ومرآه

وضلَّ أتباع المعّري إذ

ظنّوه قد ظل على ما هو

خالوه من جمودهم جامداً

لقد أساءوا لمزاياه

ما هو إلا فكرةٌ تعتلي

حتى ترى في الكون أعلاه

أفكارنا أفكار قوم مضوا

يتَّصل الأعلى بأدناه

مراحل الفكر بهذي الدنى

مراحل العمر بدنياه

آخرة المرء كدنياه

ومنتهى الفكر كمبداه

كانت بذوراً وغدت دوحة تثمر ما البذر خفاياه

ما نحن إلا فكرة لم تزل

ترقى إلى ما قدّر الله

رسالة الغفران لم تغتفر

للشعر كفراناً به فاهوا

وجئت في شعري مستغفراً

عن المعرى وخطاياه

ص: 37

‌أنة محزون

للدكتور محمد عبد المجيد القاضي

(بمناسبة مرور الأربعين على وفاة المغفور له نيازي باشا)

قوضت يد المنون بالأمس - ويد المنون قوية لا ترحم - ركناً شديداً من أركاننا له في طوايا القلوب مركزه المنبع، وبين حنايا الضلوع مكانه الرفيع

عدت المنون عليه رجلاً كامل الصحة، كامل الرجولة، كامل الخلق

وما زال حديثه العذب يرن في أذني، ودرره الغوالي تتردد إلى ذهني، وصورته الحبيبة ماثلة أمام عيني، وروحه القوية متغلغلة بين وجداني. لك الله أيها الوالد! فقد تركت في القلوب جرحاً لا يندمل، وفي النفس لوعة لا تخفف. لك الله أيها الوالد الكريم! فقد كنت لربك مخلصاً تقياً، ولوطنك باراً وفياً، ولأصحابك صديقاً ولياً، ولمرءوسك رحيماً رضياً، ولزملائك مكرماً حفياً! لك الله أيها الوالد! فهذه سيرتك عاطرة، والحياة بين الناس سير. وهذه ذكراك باقية والحياة على ممر الأيام ذكرى

ففي ذمت الله أيها الراحل الكريم! وفي جنات الخلد والفردوس مقرك ومقامك.

ص: 38

‌البريد الأدبي

لجنة لدرس حالة الكليات والمعاهد الأزهرية

أصدر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بتاريخ 26 يوليه سنة 1943 قراراً بتأليف لجنة لدرس حالة الكليات والمعاهد الأزهرية هذا نصه:

(ظهر هذا العام وبعض الأعوام الماضية ضعف نتائج الامتحانات في الكليات والمعاهد وذلك يستدعي بحث حالة الكليات والمعاهد من جميع نواحيها. لذلك قررنا تأليف لجنة من:

أ - حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية رئيساً

ب - حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:

1 -

شيوخ الكليات الثلاث 2 - الشيخ إبراهيم الجبالي 3 - محمود الغمراوي 4 - الشيخ محمود شلتوت 5 - الشيخ حامد محيسن 6 - الشيخ عيسى منون 7 - الشيخ عبد العزيز مصطفى المراغي 8 - الشيخ عبد الحميد ناصف 9 - الدكتور محمد البهي قرقر

ومهمة هذه اللجنة المسائل الآتية:

1 -

النظر في أسباب ضعف نتائج الامتحانات في الكليات والمعاهد

2 -

النظر في المناهج والكتب في الكليات والمعاهد

3 -

بيان طريق العلاج لهذه الحالة بما يحقق للأزهر دراسة مجدية تكفل الإحاطة بالعلوم وتحقق للطلاب ملكة البحث والتحصيل معتمدين على أنفسهم

4 -

النظر في أقسام تخصص المادة ووضع النظم الكفيلة بتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئت هذه الأقسام

(وللجنة أن تدعو من تشاء من حضرات أصحاب الفضيلة شيوخ المعاهد لأخذ رأيهم عند الحاجة)

شيخ الجامع الأزهر

محمد مصطفى المراغي

ولاشك أن كل مخلص للأزهر يرجو لهذه اللجنة الموقرة التوفيق في عملها والوصول إلى ما يصلح شأن الأزهر وينقذه مما ألم به وشكا منه أهل الغيرة عليه، ويهيئ له - كما يقول

ص: 39

القرار - دراسة مجدية في كلياته ومعاهده وتخصصاته، ويحقق الغرض المرجو منه للدين والثقافة الإسلامية

ولا شك أيضاً أن الناس جميعاً في الأزهر وفي غير الأزهر سينظرون إلى هذه اللجنة الموقرة نظرة ملؤها اليقين والثقة في إخلاصها وصدق عزيمتها راجين أن تسرع بقدر الإمكان في أداء مهمتها. وإن لجنة تتألف من هؤلاء الأساتذة الأجلاء وعلى رأسها هذا الرجل المخلص الغيور على مصلحة العلم والدين لجديرة بما يعقده عليها الناس من الآمال، والله ولي التوفيق.

(م. . .)

وشاية

دكتورنا (المبارك)

لا أدري أي شيطان يحركني لأوقع بينك وبين أديب كبير تحبه أعنف الحب، وتعجب به أبلغ الإعجاب، ويخلع عليه قلمك الصوال أبلغ آيات الثناء

وأحب - قبل كل شيء - أن أطمئنك فأؤكد لك أني مثلك (لا أستسيغ مذهب المجلات التي ترى من البراعة أن تؤرث الخصومات بين رجال الأقلام ليتفرج القراء) وأني أيضاً لا أحب أن يختصم الأدباء فيما بينهم ليقدموا النداء لأهل الفضول. ولكني مع ذلك لا أتردد مطلقاً في أن أنقل إليك هذه الوشاية التي أزعم أنها تمسك من قريب أو بعيد

في بهو (الملك داود)، وفي متوع الضحى من كل يوم ينتثر على الموائد الأنيقة المترفة فريق من صفوة الشباب المتنور الراقي، ينعمون ساعة بحديث الأدب والسياسة، ثم يتفرقون على غير ميعاد. ومن عادتي كلما رأيت الأستاذ الكبير إسعاف النشاشيبي بك أن أتسلل إليه برفق وهوادة، و (أطب) على مائدته بدون بلاغ أو استئذان. وسرعان ما ينطلق لساننا في التحدث عن الأدب والأدباء. وسرعان ما يجري في كلامنا أسماء المازني والعقاد وطه حسين والزيات وزكي مبارك

وأشهد أن الأستاذ النشاشيبي محب للدكتور مبارك معجب بأدبه ونشاطه، ولكن الشيء الذي يبلبل بالي ويحير لبي أن هذا الباحث اللغوي الجليل لا يذكر اسم زكي مبارك إلا مقروناً

ص: 40

بكلمة (الخبث)

أقول له. الدكتور مبارك شعلة نشاط يا سيدي. فيجيبني: أجل، أنا معك بأن (الخبيث) زكي مبارك شعلة وهاجة من النشاط. فكنت أعجب لذلك وأذهب من توّي أفتش على معاجم اللغة لأطمئن على أن لفظة (الخبيث) ترادف لفظة الدكتور أو تدل على معنى يقاربها فلا أرجع من هذه المعاجم بطائل، ولا أرى فيها إلا ما يمزق الأحشاء ويفتت الأكباد

فما رأي سيدي الدكتور؟

هل يجوز أن يكون عندك تخريج لمعنى هذه الكلمة التي يطيب لعلامة فلسطين أن يلصقها أبداً باسمك؟

أما أنا فقد أقسمت أن لا أجلس إلى مائدة أستاذنا النشاشيبي في بهو الفندق حتى أنقل لك هذه الوشاية وأسمع رأيك في الموضوع. والسلام عليك من الصديق الجاد في حديثه إليك:

(القدس)

عبد القادر جنيدي

حاشية: يهم الدكتور مبارك أن أعلن أن الأستاذ النشاشيبي قد استبدل بالكوفية والعقال عمامة كبيرة ترف على رأسه تشبه عمامة السيد جمال الدين الأفغاني. ولعلي بهذا الخبر الطريف الذي أزفه للأندية الأدبية أكون قد قدمت للدكتور مبارك مادة غزيرة لجوابه المنتظر

إلى الأستاذ عبد الله الملحوق

ليست اسم كما تنسب إلى وقد تواضع أصحاب المذاهب على النسبة إلى المصدر فيقولون مثلاً:

1 -

التصوّريون وكان يسميهم أبن رشد المشبهة فعدل المحدثون عنها لأنها اسم فاعل

2 -

التجريبيون: أي أصحاب المذهب التجريبي ولم يقولوا المجربون بصيغة اسم الفاعل

3 -

التجريديون: أي أصحاب المذهب التجريدي ولم يقولوا المجردون

4 -

التغّيرون: أي أصحاب مذهب تعدد الأغراض ولم يقولوا المتغيرون أو المغيرون مثلاً

ص: 41

5 -

التطوريون: أي أصحاب مذهب التطور ولم يقولوا المتطورون

6 -

التشبيهيون: أي القائلون جروا على هذا حتى في غير المصادر، فيقولون:

1 -

الإداريون أي الذين يقولون نحن ندري كل شيء:

2 -

آخر تعبيرات أصحاب المذاهب، وإليك تحيتي

دريني خشبة

ص: 42