الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 528
- بتاريخ: 16 - 08 - 1943
نهاية أستاذ.
. .
مئات من المدرسين وآلاف من الطلاب يعرفون الأستاذ. أحمد عثمان المهدي مدرس الفرير المثابر خمسا وثلاثين سنة. ولكن معرفتي إياه رفيقاً في الدراسة، وزميلاً في التدريس، تجعلني أقدر من عرفوه جميعاً على حكاية مأساته، وكشف ما خفي من أسرار حياته ومماته.
عرفته سنتين طالباً في الأزهر يعني بتجويد الخط، ويحاكي (أبناء البلد) في لرواء والسمت. ومنى كان ربيب أسرة المهدي المترفة كان خليقاً أن ينشأ على حب الجمال في الزي والمنظر
وزميله سبع سنين مدرساً في كلية الفرير بالخرنفش يعلم العلوم العربية في فصولها المختلفة، وينسخ (للأخ بلاج) المفتش أصول (مؤلفاته) في النحو والبلاغة والأدب. وما كان أحذق المتنبئين ليستطيع حينئذ أن يتنبأ لهذه النفس الراضية والطبع المرح والثغر الضحوك واللسان الداعب، بهذه الكهولة الأليمة والعاقبة المحزنة. نعم كان المتفطن المستبصر يخشى أن تكون له في بعض الأزمان زوجة وأولاد؛ فقد كان يعيش عيش السمك في الماء، لا يكاد يعرف له مستقراً ولا غداً ولا غاية. كان يقضي فراغه كله في المقاهي بين زمرة الشباب المملق المتملق؛ وكان العرق التركي الذي فيه لا يزال يضرب عليه الشموخ والأبهة، فلا يسمح لأحد من الجلاس أن يدخل يده في جيبه. وكان فضلاً عن ذلك مخروق الكف والكيس فلا يمسكان على ما يكسب، ولا يبقيان على ما يملك. كان لا يسأله أحد إلا أعطاه، ولا يعرض عليه شيء إلا اشتراه. وكان أكثر ما يشتريه لا يحتاج إليه، كأداة المطبخ وليس له بيت، أو حاجة المرأة وليست له زوجة. إنما كان مولعاً بمساومة الباعة الجوالين، ويسره أن يعلموا أنه خبير بالصنف فلا يغش، عليم بالثمن فلا يغبن. وقد فطن الخبثاء إلى هواه فكانوا يتغالبون له ويتشاكون منه، وهو يشتري ويشتري ثم يودع ما اشتراه صاحب القهوة ولا يطلبه!
وكان لحبه الخير والشهامة يتمدح بما فعل ما لم يفعل منهما. ولخياله الخصب في هذا الباب حوادث وأحاديث يكون هو فيها البطل المرموق. وكان يكفي أن تحسن الاستماع وتظهر الاقتناع لتسلبه الإرادة وتقوده إلى حيث تريد. وضعف إرادته إنما كان يظهر في نواحي المروءة والرحمة، أو في أمور المال والمعيشة. فكان لا بد له من قيم يدير ماله وينظم
أمره. ولكمه مع ذلك كان يعيش أرغد العيش، لأنه كان يخلف ما يتلف. كان يكسب من الدروس الخصوصية لليهود أضعاف ما يأخذ على عمله اليومي في المدرسة. وكان من الجائز أن يقضي العمر في ظلال هذا العيش الغرير لولا أن وقع المحذور وتنبهت عيون الحوادث. تزوج المسكين!! وكانت زوجة لسوء حظه صورة مؤنثة منه. بل زادت عليه أنها من قوم فقراء يحبون الرفد والمعونة. وكانت كما شاء القضاء ولوداً، فلم يأت على زواجهما بضع سنين حتى كانا في بضعة أولاد. وتظاهر ضعف الزوجين وإسرافهما الشديد ونزاعهما المتصل على حياة هذه الأسرة البائسة فلم تنعم بهدوء ولم تظفر بتربية. وأصبح كدح الرجل قليلاً على تسعة أفواه لا تحسن غير الخضم والهضم؛ فكان يكد ويحتال ويتصرف ويقترض. ولكن الأمر كان فوق طاقته، ومن المحال أن بتعادل دخل المبذر وخرجه. والماء مهما زخر وارتفع لا يبقى إذا ما انتهى إلى بالوعة!
وتسابقت الأحداث إلى المسكين ففدحه الدين، وركبه الهم، وغاضت بشاشة وجهه، وذهبت أناقة هندامه. وقسا عليه الدهر ذات مساء فانتحر ابنه البكر تحت الترام وهو معه ينظر إلى أشلائه المبددة، ويستمع إلى أناته المرددة!
ثم جاءت هذه الحرب بما نعرف من بلاء وغلائها، وكانت عوارض الوهن والانحلال قد ظهرت على المعلم المكدود فاضطرب تفكيره وفتر نشاطه. وصعب على (الفرير) خدام الدين والعلم أن يمشوه عظماً كما نهشوه لحماً، فأخرجوه بعد أربع وثلاثين سنة قضاها معهم في جهاد العجمة واللكنة لا يدخر جهداً ولا يبالي مشقة. أخرجوه وكل ما في يده مائه وخمسون جنيهاً كافئوه بها على ما أفنى من صحته وشبابه. وكانت هذه المكافأة طعام أشهر معدودة كان في أصباحها وأمسائها يطرق الباب بعد الباب عسى أن يجد السبيل إلى رزقه الهارب، أو الوسيلة إلى عيشه المفقود. وتصام أكثر الأصدقاء فلم يستجيبوا لطرق الأنامل النحيلة على الأبواب الصقيلة. . . فباع الرجل فضول المتاع ثم باع حاجاته. وكادة الأسرة الشريدة تجوع وتعرى لولا أن قيض الله له صديقاً من ذوي الجاه والفضل فرشحه للتدريس في المدرسة الملكية بالمنصورة. ولهذه المدرسة شهرة بحب الجمع وكراهة القسمة، فرتبت له ثمانية جنيهات في الشهر. وحاول البائس المضطر أن يسد بهذا المرتب أجرة مسكنه ونفقة عياله، فاستحال ذلك عليه إلا أن يسكنوا نصف السكن، ويأكل بعض الأكل،
ويخلصوا من عقابيل السرف القديم. فكان يقترض من المدرسة سبعة جنيهات في كل شهر على حساب الشهر المقبلة، حتى جاء شهر مارس الماضي وليس له مرتب العام كله غير خمسة جنيهات! نعم خمسة جنيهات هي كل ما تبقى لسبعة الأشهر الباقية! إذن ماذا يصنع؟ لم يبق في المنزل ما يباع، ولا في الناس من يعين، ولا في الغد ما يرجى!
وهاهو ذا بعد أن نيف على الخمسين في خدمة اللغة والأدب يجد نفسه على شفا الهاوية ممنوع الرزق مقطوع الرجاء لا منصب يظل ولا ثروة تغل ولا ولد يعول ولا عشيرة تؤوي ولا أمة تساعد!
وفي هوادي ليلة سواء من ليالي مارس انفرد به الهم الملازم في ركن منعزل من البيت النائم، وكان مستقبله القريب الداهم قد تمثل في ذهنه وبرز في عينيه حجاباً من الظلام الكثيف يتدّجى بالمخاوف واليأس، فلم يستطيع أن يتبين من خلاله غير صحيفة من البترول صبها عليه، وغير ثقاب من الكبريت أشعله فيه! فلما شاعت النار في جسده خرج يعدو إلى الشارع وهو يستغيث بأبنائه واحداً بعد واحد فما أصاخت أذن ولا تنبهت عين. وسقط المسكين صريعاً أمام كنيسة المارون في الحسينية، وكان الصراخ الهالع قد أيقظ قسيسها فخرج يستطلع الخبر وانحنى القسيس على المحترق يتأمله، ورفع نظره إلى المنحنى يتبينه، فإذا كلاهما يعرف الآخر، وإذا القسيس تلميذ من تلاميذ الأستاذ القدماء!
- ماذا صنعت بنفسك يا شيخ عثمان؟
- تلك مشيئة الله!
ونقلت المحتضر عربة الإسعاف إلى المستشفى ليلفظ آخر أنفاسه حين تنفس صباح الجمعة. وأبطأت إجراءات النيابة والصحة حتى دخلت ليلة السبت. ولم يكن حاضر أمره غير ناظر المدرسة ووكيله. فاقترح الوكيل أن يبقى في المستشفى إلى الصباح ليشيعه زملاؤه وتلاميذه؛ وصمم الناظر أن يقبر في الليل، لأن النهار يقتضي قماشاً وفراشاً وقهوة!!
وشيعت في ظلام الليل وسكون الناس جنازة جندي باسل من جنود الأدب المجاهدين، وليس أمامه إلا الناظر والوكيل، وليس وراءه إلا أولاده وزوجته!
أحمد حسن الزيات
2 - الصيد في الأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام
يصف لبيد صيد بقرة وحشية تخلفت عن القطيع تطلب ولدها وقد أكلته الذئاب، ثم لجأت إلى شجرة مفردة في الرمال في ليلة مظلمة ماطرة. ولما أسفر الصبح شرعت تعدو حائرة، فظلت سبعة أيام حتى يئست من ولدها وقطيعها، فسمعت حس الإنس فخافت وترددت بها الحيرة بين العدو أمام وخلف. وأرسل الصيادون كلابهم فكانت معركة قتل فيها كلب وفرت البقرة. وهي أبيات جيدة لا يملك قارئها إلا الإشفاق والحزن لهذه البقرة وولدها.
وهذه أبيات للنابغة الذبياني يصف معركة بين الثور والكلاب، وهي تشبه في الصورة العامة أبيات لبيد:
كأنما الرحل منها فوق ذي جُدَد
…
ذَبّ الرياد إلى الأشباح نظَّار
مُطرَّد أُفرِدت عنه حلائله
…
من وحش وَجرة أو من وحش ذي قار
مجرَّس، وَحَدَ جأُب أطاع له
…
نبات غيث من الوسمى مِبكار
سَرته ما خلا لبانَه لَهق
…
وفي القوائم مثل الوشى بالقار
بانت له ليلة شهباء تسفعه
…
بحاصب ذات إشعان وإمطار
وبات ضيفاً لأرطاة وألجأه
…
مع الظلام إليها وابل سار
حتى إذا ما انجلت ظلماء ليلته
…
وأسفر الصبح عنه أي إسفار
أهوى له قانص يسغى بأكلبه
…
عاري الأشاجع من قُنَّاص أنمار
محالف الصيد هبَّاش له لحِم
…
ما إن عليه ثياب غير أطمار
بسعي بغُضف براها فهي طاوية
…
طولُ ارتحال بها منه وتسيار
حتى إذا الثور بعد النقر أمكنه
…
أشلى وأرسل غُضفاً كلها ضار
فكرَّ محمية من أن يفر كما
…
كر المحامي حفاظاً خشية العار
فشك بالروق منه صدر أولها
…
شك المشاعب أعشاراً بأعشار
ثم انثنى بعد للثاني فأقصده
…
بذات ثغر بعيد القعر نعار
وأثبت الثالث الباقي بنافذة
…
من باسل عالم بالطعن كرار
وظل في سبعة منها لحقن به
…
يكرُّ بالروق فيها كرَّ أُسوار
حتى إذا ما قضى منها لبانته
…
وعاد فيها بإقبال وإدبار
انقض كالكوكب الدري منصلتاً
…
يهوى ويخلط تقريباً بإحضار
لا يتسع المقال لتفصيل الصورة التي صورها النابغة وتفسير الألفاظ فحسبي أن أبين الصورة إجمالاً:
في الأدبيات الأربعة الأولى شبه الشاعر ناقته بثور وحشي، ووصف لون الثور في ظهره وقوائمه: ظهره أبيض وفي قوائمه خطوط سود، وبين أنه قوي سمين قد رعى نبات الوسمى، وأنه أفرد عن البقر فهو نفور قلق
وفي الأبيات الثلاثة التالية بين أن المطر والريح ألجأ الثور إلى شجرة من الأرطي فبقى عندها حتى الصباح
وفي الأبيات الأخرى وصف الصائد وكلابه وما وقع بين الثور والكلاب العشرة؛ قتل الثور منها ثلاثة، ودفع السبعة التي لحقت به حتى:
انقض كالكوكب الدري متصلتا
…
يهوى ويخلط تقريباً بإخصار
ثم أراد وصل الكلام بأوله فرجع إلى ذكر الناقة قائلاً:
فذاك شِبه قلوص إذ أضرَّ بها
…
طول السُّري والسري من بعد أسفار
وينتهي الوصف بنجاة الحيوان لأن مقصد الشاعر أن يشبه ناقته به وهو يجد في الهرب، إلا أبا ذؤيب ومن نهج نهجه فهم يختمون المعركة بقتل الحيوان لأن قصدهم أن يبينوا أن حوادث الدهر تنال حتى هذا الحيوان الوحشي القوي السريع
وقد وصف أحبحة بن الجلاّح صيد الظباء والأرانب بالكلاب وأثبت الجاحظ قصيدته في كتاب الحيوان
في العصور الإسلامية
أباح الإسلام الصيد وأحل لحم الحيوان الذي يقتله السهم أو كلاب الصيد. وفي القرآن الكريم: (اليوم أحل لكم الطيبات، وما عَّلمتم من الجوارح مكلَّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه) واستمر العرب على ما ألفوا من سنن الصيد في الجاهلية؛ وزادوا ضروباً من السلاح ومن الحيوان الذي يستعينون به على الصيد. زادوا قوس البندق وغيرها، وعلموا الفهود كثيراً من الطير الجارحة. واحتفي
الأمراء الكبراء بالصيد وأعدوا له عدده من الرجال والحيوان والسلاح. وعنوا بتربية الحيوان وتضريته، ووضعت الكتب في هذا الفن الذي عرف باسم البيزرة أخذاً من كلمة (بازيار) الفارسية ومعناها القيم على البازي أو البزاة. ولكشاجم الشاعر كتاب المصايد والمطارد. وبالرجوع إلى هذه الكتب أو كتب الأدب الجامعة مثل نهاية الأرب يتبين عناية العرب بهذا الفن وولع الشعراء به
افتن الشعراء ثم الكتاب في وصف الصيد آلاته وحيوانه وحركاته ووصف المصايد. وقد استقل وصف الصيد في الأراجيز والقصائد التي عرفت بالطرديات فصار فناً أدبياً متميزاً.
ومن الشعراء المفتنين فيه أبو نواس. نظم فيه تسعاً وعشرين أرجوزة وأربع قصائد. وأبدع في وصف كلاب الصيد وطيره. قال الجاحظ في كتاب الحيوان عن أبي نواس:
وأنا كتبت لك في رجزه هذا الباب لأنه كان عالماً راوية. وكان قد لعب بالكلاب زماناً وعرف منها ما لا يعرفه الأعراب وذلك موجود في شعره، وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه. هذا مع جودة الطبع وجودة السبك، والحذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
عروس النيل
(رسالة مهداة إلى روح الأب العظيم عبد السلام مبارك)
للدكتور زكي مبارك
في هذه السنة تخلَّف النيل، وتخوف الناس عواقب الصدود من النهر الوفي المحبوب، فتذكرت ما وقع في أيام سيزوستريس، وتمنيت لو رجعنا إلى عهود الوثنية، فأهدينا إليه صبية، لينشرح فيعود!
وقبل أن أسوق الحديث عن عروس النيل أذكر أشياء من الحياة المصرية قبل إنشاء خزان أسوان، وهي حياة تختلف عن حياة اليوم كل الاختلاف
لم يكن النيل يغمر أرض مصر أكثر من شهرين، ثم ينحسر بعد أن يضيع منه في البحر ما يضيع، ولكنه مع ذلك كان يترك ثروة عظيمة من المياه الجوفية، المياه المخزونة في جوف الأرض، وكانت تلك المياه زاد المصريين إلى أن يعود النيل من جديد
ولهذه الأسباب كانت مصر أقدم أمة أجادت طي الآبار والسواقي، فكان في كل بيت بئر، وفي كل مزرعة ساقية، وكان في منازل المياسير ما يسمى بالصهاريج، وهي أحواض مسحورة تحفظ كميات عظيمة من الماء الزلال
والذين زاروا المعابد الفرعونية يذكرون أن بها آباراً في أكثر الجوانب، وكذلك كان الحال في العهد الإسلامي، فلا تزال في منزل السحيمي بالقاهرة ساقية، وإن طال على هجرها الزمان
وغيبة النيل شهوراً طوالاً من كل سنة لم تكن تؤذي المصريين بعد أن أجادوا على طي الآبار والسواقي، ولو شئت لقلت إن غيبة النيل كانت أداة من أدوات التحصين، فقد كانت المواصلات في العهود القديمة تعتمد على الملاحة، وكان من العسير على من يغزو مصر أن يتجه إلى الجنوب مع تعذر الملاحة في النيل، بسبب الجفاف أيام التحاريق، وخوفاً من عنف التيار أيام الفيضان. . . وهذا في نظري أهم الأسباب في ميل الفراعنة إلى أن تكون عواصمهم بالصعيد، فقد كان لهذا المعنى أمنع من نواصي الجبال
هل قرأتم في أي كتاب أن الفراعنة أجادوا تعبيد الطرق الزراعية؟
لقد تركوا هذا الجانب من النظام عامدين معتمدين، ليكون التوغل في بلادهم باباً من العناء
وبمناسبة الآبار أذكر ما شهدت منها بمعبد الكرنك، فقد كان المهندسون يثقبون الأحجار الكبيرة بنسبة معلومة، ثم يضعون حجراً فوق حجر، كما يوضع الطوق فوق الطوق، لصير الآبار في أمان من الاختلال
وكان للآبار في مصر منزلة شعرية تفوق المنزلة النفعية، فقد كان مفهوماً عند الجمهور أن لكل بئر ملائكة تختلف باختلاف المكان، فهذا البئر مسكون بأرواح لطاف، وذاك البئر مسكون بأرواح كثاف، وباختلاف الروح يختلف طعم الماء في الملوحة والعذوبة والكدر والصفاء
وكانت هذه العقيدة ملحوظة في تقدير السواقي من الوجهة الروحية، فلا خطر من نزول هذه الساقية لأنها مسكونة بأرواح خيرة، أما تلك الساقية فمسكونة بأرواح شقية، ألم تسمعوا أنها قتلت فلاناً حين تجاسر على يزولها بالليل؟
ومياه الآبار والسواقي باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فما سبب هذه الظاهرة الغريبة؟
يقول العلم إن مياه الآبار والسواقي بعيدة عن التأثر بالأحوال الجوية، فهي لذلك باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فهل كان هذا هو الرأي عند أهالي الريف؟
كان الرأي عندهم أن للأرض وجهاً آخر، وجهاً يعاني برد الشتاء حين نعاني حر الصيف، ويعاني حر الصيف حين نعاني برد الشتاء، وكان مفهوماً أن السيخ الذي يفجر العيون في الآبار والسواقي يخرق القبة القائمة بيننا وبين البحار التي تسقي الوجه الثاني من الأرض، وكان ذلك هو السر في أن يختلف الماء بالحرارة والبرودة باختلاف الجو هنا وهناك
هذه الأخيلة الطريفة كانت الزاد لأهل الريف منذ زمن وأزمان، والفلاح المصري شاعر بالفطرة والطبع، فما كانت الدنيا عنده إلا ميدان قتال بين الملائكة والشياطين
إن الأمم لا تعرف الأساطير إلا في عهود الفتوة، فإذا اكتهلت عرفت الحقائق، وسعادة الكهول بالحقائق لا تقاس إلى سعادة الفتيان بالأباطيل
كان أهل الريف سعداء بالجهل، لأنه طوف بهم في آفاق شعرية، فما فائدة العلم الذي يواجه أهله بحقائق أقسى من الجلاميد؟
وهل أسعد العلم كبار أهله حتى يسعد صغار الفلاحين؟
ما القيمة الصحيحة لأن نعرف أن الزهرة مجموعة جراثيم، وهي في نظر الجهل خد
وهاج؟
أين من يردني إلى العهد الذي كنت فيه أجهل الجاهلين؟
ليت الحوادثَ باعتْني الذي أخذت
…
مني بحلمي الذي أعطت وتجربي
عروس النيل
تضاربت الأقوال في الأسطورة الشعرية، أسطورة عروس النيل، وانتهى الأمر بوزارة المعارف إلى حذفها من الكتب المدرسية، لتصون الأبناء من السخرية بالأجداد. ولكني مع هذا أرى من الخير أن يعرف أبناؤنا جميع الأساطير، ليعرفوا حيرة الإنسانية بين الحقيقة والخيال
وسأسوق هذه الأسطورة كما رأيتها في كتاب مخطوط لمؤلف مجهول، ففيها طرافة فنية، وفيها لفتات جديرة بالتسجيل:
في العام الثالث من حكم رمسيس الثاني وهو عام 1327 قبل الميلاد تخلّف النيل، فلم تظهر طلائعه في شهر أبيب ولا في شهر مِسْريَ، وامتدّ به التخلف إلى شهر توت، فجأر المصريون بالشكاية، وتجمهروا حول قصر الملك صارخين ضارعين
وماذا يصنع الملك؟ ماذا يصنع والشعب يطالبه بما لا يطيق؟ هل يصدّق الخرافة التي ذاعت في ذلك الوقت عن أسر النيل بأمر ملك الأحباش؟ وهل يستطيع ملك أن يأسر النيل. وهو ملك الملوك؟
إن النيل لا يقهره قاهر، إن أراد الوفاء، فما الذي صدّه عن الوفاء؟
ثم دعا الملك أقطاب السَّحرة ليرى ما عندهم في حل هذه المعضلة، فكان هذا الحوار الطريف:
الملك - ماذا ترون في تخلف النيل؟ أتظنون كما يظن الجمهور أنه في أسر ملك الأحباش، وأن من الواجب أن نجرد حملة لتأديب ذلك الطاغية؟
الساحر الأول - وماذا يملك عاهل الحبشة من أمر النيل؟
الساحر الثاني - هو يملك الخاتم السِّحري؟
الملك - وما ذلك الخاتم؟
الساحر الثالث - هو خرافة منقولة عن أساطير الأولين!
الساحر الثاني - أتكذبني يا زميلي في حضرة الملك؟
الساحر الأول - إن تفضل جلالة الملك فأنا أفضي إليه بالسر في تخلف النيل
الملك - من أجل هذا دعوناك
الساحر الأول - النيل عاشق غضبان
الساحر الثاني - النيل عاشق؟ ما سمعنا بمثل هذا الكلام قبل اليوم!
الساحر الأول - أتظن أن النيل يوحي العشق وهو يجهل العشق؟
الساحر الثاني - العشق يصدر عن أهل الذوق، والنيل بلا ذوق
الساحر الأول - وما برهانك على أن النيل بلا ذوق؟
الساحر الثاني - لأنه لا يستقيم في سيره أبداً، ولو كان من أصحاب الأذواق لعرف قيمة الطريق المستقيم، وهو كما نرى غاية في التخبط والاعوجاج
الساحر الرابع - لولا هيبة الملك لرميتك بالجهل
الملك - هيبة الملك لا تمنع من كلمة الحق
الساحر الرابع - إن زميلي يطالب النيل باستقامة الضعفاء وليس النيل بالضعيف
الملك - ماذا تريد أن تقول؟
الساحر الرابع - أريد أن أقول إن استقامة الأقوياء في ضمائرهم لا في ظواهرهم، واستقامة النيل تتمثل في ذلك الاعوجاج
الملك - إن كلامك يحتاج إلى توضيح
الساحر الرابع - لن أوضح كلامي لجلالة الملك، لأنه أقدر الملوك على فهم الرموز والتلاميح
الملك - أوضح لزميلك
الساحر الرابع - ما كان لي بزميل، وهو بين السحرة دخيل
الملك - دعوا هذه اللجاجة وارجعوا إلى الحديث عن العاشق الغضبان
الساحر الأول - إن النيل لا يأخذ زاده من العواطف
الملك - كيف تقول هذا والصبايا يتهادين إليه في الفجريات والعصريات، وقد سقط النَّصيف، وغفل الرقيب؟
الساحر الأول - هو ذلك يا جلالة الملك، ولكن الجمال المصري جمالٌ لئيم؟
الملك - ما هذا الذي تقول؟
الساحر الأول - المقام لا يسمح بالرياء، وكيف نرائي سيزوستريس وهو أصرح الملوك؟
الملك - هات ما عندك يا كبير السحرة، فقلبي مصغ إليك
الساحر الأول - أنا رأيت وما سمعت
الملك - وماذا رأيت؟
الساحر الأول - رأيت النيل هام بصبية. . .
الملك - ثم؟
الساحر الأول - ثم مد إليها ذراع الموج ليجذبها إليه
الملك - ثم ماذا؟
الساحر الأول - ثم نفرت الصبية ولاذت بالشط، فهو لذلك عاتب غضبان
الملك - العلم الذي ورثناه عن الكهنة يحصر الحياة في النبات والحيوان. فكيف يهيم النيل بصبية وهو ليس من الأحياء؟
الساحر الأول - إن الله جعل من الماء كل شيء حي، فكيف يكون الماء سبب الحياة إذا كان من الأموات؟
الملك - ومعنى هذا أن الماء يعشق؟
الساحر الأول - ويُعشَق
الملك - ومن عاشق الماء؟
الساحر الأول - تحدث عنه شاعرنا بنتاءور حين قال في الصهباء:
مقطَّبةٌ ما لم يزرها مزاجُها
…
فإن زارها جاء التبسُّم والبِشرُ
فيا عجباً للدهر لم يُخلِ مُهجةً
…
من العشق حتى الماء يعشقه الخمر
الملك - لن أكذب الكهنة في قولهم بأن الماء جماد
الساحر الأول - أنا أوافق مولاي على أن الماء جماد، ولكني أرجوه أن يتفضل فيتذكر أخطار الجمال المصري
الملك - وما أخطار ذلك الجمال؟
الساحر الأول - لو صوّب الجمال المصري ناره إلى هضاب الحبشة لأحالها إلى قطرات من الماء المبذول بغير حساب
الملك - وترى أن نداعب النيل بالجمال؟
الساحر الأول - أرى أن يكون للنيل في مصر هوى وميعاد، فما يعود حي إلى بلد إلا إن كانت له فيه أهواء ومواعيد
الملك - وعند النيل هذا الذوق؟
الساحر الأول - وعنده الحقد على أهل العقوق!
الملك - وماذا يقول الشعب إن أقررنا مبدأ الاعتراف بالعشق؟
الساحر الأول - سيقول الشعب إنه يعيش تحت راية العدل
الملك - والعشق عدل؟
الساحر الأول - العشق من نتائج العدل
الملك - أوضح ثم أوضح يا أعظم حكيم رآه سزوستريس
الساحر الأول - العشق يا مولاي هو انجذاب روح إلى، ولا صفاء بين عاشق ومعشوق إلا بحفظ الحقوق، ولو وجه العاشق إلى معشوقه كلمة تغض من جماله لكان الفراق إلى آخر الزمان
الملك - أهذا هو العدل عندك يا كبير السحرة؟
الساحر الأول - العدل هو مصدر الحب لجلالة الملك، ولولا قولك بأن شعبك خلق للسيادة على الأقطار الأفريقية والأسيوية لتخاذل الشعب عما أردت من الغزوات والفتوحات
الملك - الشعب يحبني؟
الساحر الأول - الشعب يحبك لأنك تحبه، وأهل مصر يقولون:(إن أحبتك حية فتطوق بها)، ولهذه اللفتة صلة بوجود الحيات حول تيجان الفراعين!
الملك - أنت ساحر، يا ساحر!
الساحر الأول - وعن لطف جلالة الملك أخذنا السحر والفتون
الملك - عنكم نأخذ الطرائف المعاني يا أدباء وادي النيل، وعنكم تلقى الروح فلاسفة اليونان
الساحر الأول - ماذا يرى جلالة الملك في اجتذاب العاشق الغضبان؟
الملك - آه ثم آه بلاد لا يستقيم فيها شيء بغير الحب والجمال
الساحر الأول - تلك طبيعة بلادك يا مولاي
الملك - وإذن؟
الساحر الأول - وإذن نترضى النيل بصبية مليحة لنروضه على الوفاء
الملك - صبية تغرق فتموت؟
الساحر الأول - إن من يصدق في حب النيل لا يغرق ولا يموت
الملك - وماذا تكون الحال إذا ترضينا النيل بصبية مليحة ثم أصر على الجفاء؟
الساحر الأول - نظرة واحدة من فتاة مصرية تزلزل رواسي الجبال
الملك - وأنا أرفض أن يكون الجمال المصري من أدوات الاستغلال
الساحر الأول - الصبية المنشودة لم تعانق غير أبيها، والنيل هو الأب الأول لجميع الأبناء بهذه البلاد
ثم نادى المنادي في اليوم التالي بأن النيل لن يعود إلا إن ضمن الظفر بعروس خمرية اللون، عروس عيونها عسلية، عروس تؤمن بأن الفناء في الواجب هو طريق الخلود
وبعد يومين تجمعت عرائس تفوق الإحصاء، فما يمكن أن تخلو مصر في أي وقت من عرائس جميلة تعد بالألوف وألوف الألوف. فوقف سيزوستريس وقفة الحيران، في تخير ما يشتهي العاشق الغضبان
ثم التفت فرأى صبية تلقي بنفسها في اليم. وما كاد يتبين هوية الصبية حتى رأى النيل يتناغى بالأمواج في كل مكان
من تلك الصبية؟ لم يستطع أن يعرف، بهذا كانت مصر أول من ابتكر فكرة الجندي المجهول
ومضى سيزوستريس إلى المعبد فترنم بصلوات على روح تلك المليحة السمراء، وسمع النيل صلواته فقال: الترحم لا يكون إلا على ميت، ولا يموت من يكرم النيل
وتسامع المصريون بأخبار سيزوستريس وهو رمسيس الثاني فأقاموا له في كل بلد عدداً من التماثيل، ودام ملكه ستين سنة أو تزيد بفضل عروس النيل
أما بعد فأنا لا ادعوا وزير الأشغال إلى استعطاف النيل بضحايا الجمال؛ وإنما ادعوا وزير المعارف دعوة فنية، ادعوه إلى إقامة تمثال سيزستريس في ميدان باب الحديد، وهو تمثال لم يجد بمثله الفن في شرق ولا غرب، وهو الآية الخالدة على أن مصر دار الفنون
وإذا قيل إن الحفاوة بتمثال سيزستريس تنافي الدعوة إلى الوحدة العربية فسيكون جوابي أنه يشهد بقدرة العرب على امتلاك بلاد الفراعين
متى أرى تمثال سيزستريس في ميدان باب الحديد؟
ومتى يرى كل قادم عظمة مصر في ذلك التمثال؟
ومتى نفهم أنه أولى بالحفاوة من المسلة المصرية بميدان الكونكورد في باريس؟
لن أنسى أبداً أن بلدي أفضل البلاد، وأنه المعلم الأول لجميع الشعوب
زكي مبارك
على هامش الخصومات الأدبية
أيها الأدباء أعصابكم!
للأستاذ دريني خشبة
الحكومة مسئولة عما شجر من الشر بين الأدباء. . .
ونحن نلقي تبعة هذا الشر على الحكومة لأنها مقصرة في حق الأدباء، فهي لم تدبر لهم مصيفاً جميلاً في رأس البر أو الإسكندرية كما دبرت لنفسها ذلك المصيف الجميل في بولكلي تختلف إليه كلما شاءت؛ وهي لم تبح لهم حمامات السباحة يغشونها بالمجان لتعينهم على حر القاهرة القائظ الذي ترك أدمغتهم تغلي وعرقهم يسيل؛ وهي لم تفتح لهم خزائنها ينتهبون منها ما يشاءون ويريغون منها ما يريغون؛ وهي لم تبح لهم قطراتها وسياراتها يجيئون بها ويروحون دون أن تكلفهم التنقل السهل الرخي إلا ملأ استمارة سفر لا ترهق جيوبهم ولا يثقل تحريرها على أقلامهم؛ وهي لم تخاطب الدولة الحليفة في شأن تلك الحدائق التي كانت تفرج كروبهم وتشرح صدورهم، وهي لم توزع عليهم الحلوى والمرطبات التي تختص بها نفسها في المواسم والأعياد وهم إليه ناظرون وإلى القليل منها يتلمظون. . .
الحكومة لم تصنع شيئاً من هذا. . . بل هي تؤثر نفسها بكل مناعم الدولة من دون الأدباء، وهي تتركهم لقيظ يوليو وأغسطس يشوي جلودهم ويذيب أعصابهم. . . ثم يتلاعب بأقلامهم فيشرعونها لمحاربة أنفسهم لأنهم لم يفطنوا لما صنعت الحكومة بهم فلم يطالبوها بشيء، ولم يصرخوا في آذانها كما صرخ الموظفون المنسيون، وكما صرخ رجال التعليم الإلزامي والمدرسون المنقولون من مجالس المديريات. . . وهم يخدعون أنفسهم حين تملأهم صاحبة الجلالة الصحافة غروراً وكبرياء، وحين تصور لهم أنهم ملوك، بل قياصرة غير خليق بهم أن يبثوا شكاة أو يظهروا أحداً على بلوى
لهذا خلا الأدباء إلى شياطينهم وفرغوا إلى أنفسهم. . . فهم منقسمون إلى معسكرين. . . معسكر الشباب ومعسكر الشيوخ. ومعسكر الشباب منقسم على نفسه لأن أجناده ثوريون، فإن لم يجدوا ما يثورون عليه ثاروا على أنفسهم، كالنار التي تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله
ومعسكر الشيوخ منقسم على نفسه أيضاً، إلا أنه غير ثائر، لأن الغالبية من أجناده تعرف الرزانة وتؤثر النظام، إما للسن المتقدمة التي يتعبها الجلاد ولا تصبر على الوغى، وإما إيثاراً للعافية، واعترافاً بما فطرت عليه من ضعف
والحكومة مع ذاك تنظر إلى كل هذا لاهية ساهية، لا ترى أن تشغل الأدباء المسلطين على أنفسهم برحلة جميلة تدبرها لهم في مواقع العلمين أو بين أطلال ستالينجراد. . . ولا ترى، إن يسعها الترفيه عنهم بالمصيف والمرطبات وحمامات السباحة، أن تجندهم تجنيداً إجبارياً ليدرسوا لها مشكلات الأدب بعد الحرب، بما تشمله تلك المشكلات من مسائل اللغة والتعليم والكتابة والتأليف والزواج والطلاق والهجرة والحد من نشاط المهاجرين إلى مصر من شذاذ الأمم ولصوص البحار
الحكومة تنظر إلى الأدباء ساهية لاهية، لا ترى أن تشغلهم بشيء من جد الحياة أو من لهوها. والأدباء مسلطون على أنفسهم تشغلهم السفاسف، وتنتهب فراغهم الهنات الهينات، كأن هدير المدافع وقصف الطرابيد وأزيز الطائرات لا يصل إلى أسماعهم، وكأن الدنيا التي تجد في أوربا وفي المحيط الهادي تهزل في مصر، وكأننا فرغنا من علاج مشكلاتنا فلم يبق إلا أن نهدم أنفسنا!
فريق من أدباء الشباب برم ساخط ضائق بنفسه وبالدنيا لأن شيوخ الأدباء بارزون في الحياة المصرية وهم غير بارزين، ولأن القراء مقبلون على هؤلاء الشيوخ الأدباء ولا يقبلون على أولئك الشباب، فلا بد لهم إذن من أن يشبوها جذعة عليهم، ولا بد لهم إذن من أن يخلو الدنيا من أولئك الشيوخ الذين بنوا النهضة الأدبية والنهضة الفكرية في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية، ولا بد من أن يخلو لهم وجه الأرض في مصر وفي الشرق العربي يصولون وحدهم فيه ويجولون
ولكي يتم لهم ذلك فليس لهم بد من أن يكيلوا التهم لشيوخ الأدباء. فالعقاد عاجز ولا شأن له بالشعر، وطه حسين له كتب ركيكة محشوة بالأغاليط، والزيات يكتب بأسلوب معقد يعلو على أفهام القراء، وأحمد أمين رجل مصنف لا شأن له بالأدب ولا مذهب له في الكتابة. . . والمازني يلفق مقالاته من التفاهات. . . وعنان يسطو على جهود المؤرخين ويعزوها إلى نفسه، والجارم ينتهب معاني الشعراء وينظمها لنفسه ومع ذاك فهو يسفل بها ولا يعلو،
وهيكل مؤرخ عقيم لا يصبر على مرارة التمحيص، ثم هو داعية متحمس، والعلم ينافي الدعاوة وينافي التحمس. . . . . .
هكذا يقول أدباء الشباب، وهكذا يكتبون في صحفهم، ويتحدثون في مجالسهم، ويسمرون في نواديهم. والمدهش حقاً أنهم من كثرة ما يرددون هذا اللغو أخذوا يظنون أنه الحق بل أخذوا يعتقدون أنه الحق
أما الأدباء الشيوخ فيغمزون الشباب دائماً ويلمزونهم دائماً ولكنهم قلما يصرحون بشيء فيما يردون على به تلاميذهم البرمين الثائرين المتسخطين، وهم يلتزمون الصمت ويلوذون به لأن هؤلاء التلاميذ الخصوم لم يعودوا يعرفون التأدب والاحتشام في مخاطبة أساتذتهم أو في مقارعتهم، فهم لا يبالون أن يقولوا إن هؤلاء الشيوخ أصبحوا أصناماً للأدب في مصر يعكف القراء على عبادتهم، وأنهم لا يتركون للشباب من الأدباء متنفساً من الهواء، لا في مصر ولا في الشرق العربي، وأن لا مخرج لهم من هذا الضيق ولا منفذ من هذا الحرج إلا بتحطيم تلك الأصنام الطاغية العاتية. . . ليخلو لهم وجه الأرض فيبيضوا ويصفروا!
وهذا التعبير القاسي هو من أيسر ما يقولون قدحاً في الرجال الذين بنوا لنا نهضتنا الأدبية والفكرية. وهو دليل على أن المعركة بين الشيوخ والشباب قد انحرفت عما كنا نرجو من ورائها من خير
على أن واحداً أو اثنين من شيوخ الأدباء لم يصبروا على أن يبسط الشباب ألسنتهم على هذا النحو. وأحد هذين هو الأستاذ العقاد، فقد كتب في هذه المجلة كما كتب في غيرها يرد على هؤلاء الشباب فرجمهم رجماً موجعاً. . . وأحسب أن الصيف كان يفعل أفاعيله في أعصاب الأستاذ الجليل فانحرف به القيظ عن الجادة، إذ راح يتهم هؤلاء الشباب بأنهم شيوعيون هدامون، وأنهم يحسدون شيوخ الأدباء الذين يغمرون السوق الأدبية بالكتب، والصحف والمجلات المحترمة بالمقالات. . .
وتهمة الشيوعية هنا تهمة باطلة لا أساس لها من الحق، وقد أرسلها الأستاذ إرسالاً لا تثبت فيه ولا روية، وأكبر الظن أنها صائرة إلى ما صارت إليه تهمة الإلحاد القديمة التي سمجت حتى قضت على نفسها القضاء المبرم. ونحن نتمنى أن ألا نتراشق بالتهم، وألا نبتدع فيها تلك الألوان المهلكة التي تنافي ثقافتنا وديننا وتضر نهضتنا وبلادنا. . . وقد
قرأت في إحدى مجلات الشباب رداً على الأستاذ العقاد يشبه الهوس، فقد ترك الكاتب الشاب موضوع النقاش وتناول العقاد جملة وتفصيلاً، فنفى عنه أنه كاتب، ونفى عنه أنه مفكر، ونفى عنه أنه مؤلف،. . . ثم ضحك ممن يقولون عنه إنه شاعر! وكل هذا هو الهوس بعينه. . . ولن ينفى كل هذا أن العقاد كاتب كبير جداً ومفكر خصب التفكير جداً، ومؤلف له كتب كثيرة جيدة جداً. ولن ينفى عنه أنه شاعر من أرق شعرائنا خيالاً وأخصبهم معاني وأدقهم تصوراً، وإن لم يحدث في الشعر العربي، على حد ما بينا في مقالنا السابق، ثورة أو حدثاً كثيراً ذا بال
وقرأت في المجلة نفسها إنذارات موجهة إلى طه حسين وأحمد أمين، وهي إنذارات تدل على عدم نضوج الأقلام التي سودتها، فهم ينذرون طه حسين بإظهار القراء على الأغلاط الواردة في كتابه الأيام (الجزء الثاني!) كما ينذرونه بتعقب أغلاطه في كتبه الأخرى، وهذه هي المهاترة التي لا تليق بنا لأننا لن نكسب شيئاً قط إذا هدمنا العقاد وطه حسين وأحمد أمين والزيات والمازني. . . وهذه الطائفة التي أقامت نهضتنا الفكرية والأدبية وعلمتنا وسبقتنا إلى الميدان. . . وقبل أن نحاول هدم هؤلاء جميعاً فواجبنا ألا نكون ولا نضع شيئاً. بل نهدم ولا نبالي ماذا يكون بعد الهدم. . . يجب أن نفكر طويلاً في خطتنا قبل تنفيذها. فكروا أيها الشباب فيمن يخلف العقاد قبل أن تهدموا العقاد، إن استطعتم إلى هدمه سبيلاً. فكروا في كاتب منكم يستطيع أن يتثقف بما تثقف به العقاد ويستطيع أن يكون عصامياً في ثقافاته. . . وفكروا قبل أن تهدموا طه حسين في الرجل الذي يستطيع أن يتزعم نهضة أدبية في أمة بأكملها فيسهر عليها ويشقى في سبيلها ويقامر من أجلها بسعادته وسعادة أهله كما صنع طه حسين. . . ولتكن لطه حسين عيوبه التي تشق المراثر كما تزعمون، ولكن للرجل ماضيه، وله حاضره أيضاً، وأنتم أنفسكم ثمرات ذلك الماضي فلا تتنكروا له، فإن رأيتم فيه اعوجاجاً فقوموه بالحسنى، وأمامكم ميدان البريء فخوضوه أبرياء واشتدوا فيه كما تشتهون
وأما محاولتكم هدم أحمد أمين فصغار لا يليق بكم أيضاً، فقد أصبح أحمد أمين إماماً من أئمة نهضتنا، وأستاذاً من أساتذة الجيل، أعجبكم هذا الكلام أو لم يعجبكم، ثم هو كان إماماً هادئاً متزناً رزيناً، فهل فكرتم في أحد منكم يستطيع أن يصنف ما صنف ويؤلف مثل الذي
ألف ويجاهد في سبيل النهضة الفكرية كالذي ناضل وجاهد؟
وأما الزيات الذي تزعمون أنه يبرقش ويزركش، ويتخذ (الكليشيهات) لأسلوبه فعذره أنكم لم تنضجوا بعد، ولم تدركوا من طلاوة البيان العربي ما أدرك. . . ذلك البيان الذي جدد الزيات شبابه وتزعم مدرسته وخلق لها مما كتب وما ترجم التلاميذ والحواريين. وهاهو ذا يكتب آياته في الدفاع عن البلاغة فينشئ لكم ما أنشأ سانت بيف وهازلت وأرنولد وغيرهم من زعماء النقد. على أن هذا الضيق الذي أحرج صدور بعضكم من الزيات ليس من صنعكم، فقد صنعه لكم - وا أسفاه - أحد شيوخ الأدباء، وهذا هو انشقاق الشيوخ على أنفسهم. . . ذلك الانشقاق الذي أفادكم في خصومتكم غير المبصرة، والذي أفاد نهضتنا الفكرية بقدر ما أضرها. وحسبنا هذه الإشارة اليوم!
وأظرف ما في معسكر الشيوخ من فتنة مكبوتة تلك النذر الضاحكة التي يلوكها الدكتور زكي مبارك، والتي لا تجد لها صدى قط على صفحات الجرائد. . . فزكي مبارك تجرئ على المازني جراءة لا حد لها، والمازني لائذ بأذيال الصمت. . . والمازني بهذا الصمت يمكر بزكي مبارك الذي لا ينال منه إلا صمت مناوشيه، ولا يريحه إلا أن يردوا عليه فيرد عليهم حتى يخيل لنا أن المعركة لن تنتهي. . . أما مع العقاد فلست أدري لماذا تقدم زكي مبارك ثم تأخر ثم تقدم ثم تأخر. . . هذاإن دل على شيء فهو إنما يدل على شيء يشبه الإشفاق أو يشبه الخوف، أو يشبه حاله بين الإشفاق والخوف، فقد نادى زكي مبارك مرة بأعلى صوته فقال: أنا أكتب منك يا عقاد، وأنا أشعر منك يا عقاد، ومؤلفاتي لا تسمو إليها مؤلفاتك. . . ثم لم يلبث أن ختم صيحته بكلمات هن إلى الملاينة والاسترضاء. . . ثم عاد في كلمة أخرى فسأل بعض القراء ألا يوقعوا بينه وبين العقاد ليقعدوا هم ويتفرجوا! ولست أدري العلة في جراءة زكي مبارك على المازني وإشفاقه من العقاد على هذا النحو المكشوف؟ أفصح يا دكتور زكي. . . أفصح. . . أفصح ولا تحسبن أحداً قد صدقك حينما رفعت عقيرتك بأنك أشعر شعراء هذا الزمان. . . وإن كنا يسرنا جدّاً أن تكون كذلك. . . يا دكتور زكي: أنت لست أشعر أهل هذا الزمان ولا أكتب أهله. . . بل أنت أجرأ كاتب في الشرق العربي فما علة إشفاقك من العقاد؟
أما انشقاق معسكر أدباء الشباب فقد كان على أحره في الملحمة الأخيرة التي دارت عن
القضية التي لم أفهمها إلى اليوم على وجهها، وهي قضية (الأدب المهموس)، فقد نزغ شيطان الجدل بين الأديبين المتحاورين، إذ رمى أحدهما الآخر بما لا يليق أن يرمي به رجل رجلاً أبداً. . . وقد ألفيت تلك الغمزة غير اللائقة في أسلوب مكشوف لا يصعب فهمه على أحد. . . وقد جاء رد الأستاذ الأديب الآخر ردّاً مرناً مضحكاً، فلم يضيق بما رُمى به، بل أجازه، ثم علله تعليله العلمي اللبق الظريف، إلا أنه لم ينس أن يجرح فرماه بالسماجة والصفاقة في معرض الرد عليه بعدم استحباب أن يستشهد الأديب بكلامه من نظم أو نثر. ولو وقف الرد عند هذه الملاحظة لملك الأستاذ الدكتور (. . .) ناصية الحق، إلا أنه برهن على صدق نظريتنا المتعلقة بأعصاب الأدباء في الصيف، فرمى مناظره بالسماجة والصفاقة. . . ونحار نحن في التعليق على ما حدث: أي المتناظرين جار قبل أخيه عن القصد، وأيهما بدأ بالعدوان. . . ولعل الذي سب أخاه في كمال رجولته أظلم، ولعله هو الذي انحرف أولاً فسبب انحراف صاحبه، ثم زاد الطين بلة فسخر من كفايات زميله وهو ما لا يوافقه أحد عليه، وهو أيضاً ما نرجو أن نتعالى في جميع مناقشاتنا عنه. . .
ولا بد من كلمة هنا نوجهها إلى رؤساء تحرير مجلاتنا. . . والكلمة وجاء مخلص نأمل أن يحققوه، ونرجو أن يحققوه سريعاً وقبل أن يتصرم الصيف. وذلك ألا يسمحوا بنشر الفِقر الحارة والساخنة التي ترد في سياق المناظرات والتي تهبط إلى مستوى الشتائم وتخرج عن دائرة الأدب. . . ونحن بالطبع لا نعني بدائرة الأدب دائرة الأخلاق
وبعد. . . فلست أدري لماذا لا يعالج الأدباء شباباً وشيوخاً أعصابهم؟ ولماذا لا يذكرون أن الحكومة تركتهم وشأنهم فلم تتخذ أي أجراء للترفيه عنهم ولم تدبر لهم مصيفاً ولم تبح لهم القطارات والسيارات التي تنقلهم ولو إلى شواطئ المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط. . . وإن كان يسر الحكومة أن يشتغل الأدباء بأنفسهم عنها، فلتشغلهم هي عن نفسها بالمفيد المجدي. . . لتجندهم تجنيداً إجبارياً ليبحثوا لها كل ما يهمها البحث فيه من مسائل ما بعد الحرب، وليدرسوا لها مشكلات الأمية وإصلاح البرامج والبطالة ومحاربة الفقر وهبوط الميزانية إلى حالتها الطبيعية في السلم وإصلاح الكتابة العربية. . .
وبعد أيضاً. . . فهذا حديث من لغو الصيف، نرجو ألا نلغو بحديث مثله.
دريني خشبة
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
(أخرج هذا الكتاب الفريد شيخ المربين الأستاذ أبو خلدون ساطع الحصري، وقدم له بهذه المقدمة الشارحة، فرأينا أن ننقلها إلى القراء ليتبينوا منها منطق الأستاذ في تعليل الأشياء، ومنهجه في تحرير هذا البحث.)
- 1 -
دراسات عن مقدمة ابن خلدون. . .
أسطر هذه الكلمات، وكأني أسمع همس معترض يعترض عليَّ، قائلاً:
دراسات عن مقدمة ابن خلدون؟. . . ولماذا اخترت هذا الموضوع المبتذل المعاد؟ إن مقدمة أبن خلدون منتشرة بين أيدي جميع المستنيرين من الناطقين بالضاد. وقد كتب الدكتور طه حسين أطروحة عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) كما نشر الأستاذ عبد الله عنان. كتاباً عن (ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري). . . وقد نشر عدد غير قليل من المفكرين والكتاب، عدداً لا بأس به من البحوث والفصول والمقالات عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون، في مختلف الكتب والجرائد والمجلات. فلا نعدو والحقيقة إذا قلنا: ما من مفكر ولا مؤرخ عربي، حظي من كثرة الذكر وذيوع الصيت بما حظي به ابن خلدون. فما الفائدة من العودة إلى هذا الموضوع بعد جميع هذه الكتابات والنشرات؟. ألم يكن من الأجدر بك، ومن الأفق لمصلحة قرائك، أن تنتخب موضوعاً آخر أكثر جدة وطرفة من هذا الموضوع؟
غير إني لم أسلم بوجاهة مثل هذه الاعتراضات والملاحظات؛ لأنني أعتقد بأن الطرافة في الدراسات لا تأتي من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضاً. . . وأنا، مع احترامي للكتب والمقالات والدراسات التي نشرت بالعربية عن ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون، أرى أنها ظلت بعيدة عن استيفاء البحث في هذا الموضوع الخصب الهام من نواحيه المختلفة، فأعتقد بأن هناك حاجة ماسة إلى إكمال تلك الأبحاث والدراسات وإتمامها؛ كما أن هناك ضرورة قصوى لإعادة النظر واستئناف البحث في معظم بلك الدراسات، وبطرق وأساليب أخرى وفق وجهات نظر جديدة
ومما يظهر هذه الحاجة بجلاء أعظم، ويبرهن على هذه الضرورة بوضوح أتم، أن الأبحاث والدراسات المنشورة عن ابن خلدون باللغة العربية، قليلة جداً، بالنسبة إلى ما نشر عنه في اللغات الأخرى، ولا سيما في اللغات الأوربية. وهناك عدد غير قليل من الدراسات العلمية القيمة عن ابن خلدون وآرائه المختلفة، لم تنقل بعد إلى العربية
ومن الغريب أن أهم الدراسات التي كتبت بأقلام بعض الشبان العرب أيضاً. ظلت خارجة عن نطاق (المطبوعات العربية) إلى الآن؛ فقد نشر الدكتور كامل عياد - من الشام - أطروحة باللغة الألمانية، سنة 1930 عن (نظرية ابن خلدون في التاريخ والاجتماع)؛ كما نشر الدكتور صبحي المحمصاني - من بيروت - أطروحة باللغة الفرنسية، سنة 1932، عن (آراء ابن خلدون الاقتصادية). . . وكلتا الأطروحتين لم تترجم إلى العربية، بالرغم من مرور اثنتي عشر سنة على نشر الأولى، ومرور عشر سنوات على نشر الأخرى؛ فاستفادة مستنيري العرب من الأطروحة الأولى لا تزال موقوفة على معرفة الألمانية، كما أن الاستفادة من الثانية لا تزال تتطلب معرفة الفرنسية. . .
وإنني أعتقد، لذلك، كل الاعتقاد بأن الجيل المثقف الحاضر مقصر في أداء واجباته نحو هذا المفكر العربي العظيم تقصيراً كبيراً
إن هذا التقصير الكبير، لا يتجلى في (ضآلة الدراسات) فحسب، بل يظهر في (رداءة الطبعات) أيضاً: فإن جميع طبعات المقدمة التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي، مشوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة
ذلك لأن جميع هذا الطبعات منقولة عن طبعة بولاق التي قام بأعبائها الشيخ نصر الهوريني في القاهرة، قبل مدة تزيد على ثمانية عقود من السنين. والشيخ الهوريني كان بعيداً - بطبيعة ثقافته - عن إدراك المبادئ الأساسية التي يجب مراعاتها في نشر مثل هذه المؤلفات القديمة.
فجميع الطبعات الشرقية تكاد تكون خالية من الشروح والتعليقات: فإن الشروح القليلة المبعثرة فيها لو جمعت في محل واحد لما ملأت أكثر من ثلاث صفحات. زد على ذلك أن هذه الشروح قلما تحرج عن نطاق (الإيضاحات اللغوية) فإنها لا تستهدف - على الغالب - شيئاً غير ذكر معاني بعض الكلمات. هذا مع أن الترجمة التركية موشاة ببعض الإيضاحات
المطولة؛ والترجمة الفرنسية مملوءة بمئات ومئات من الشروح والتعليقات التي تحوم حول المعلومات اللغوية والأدبية والجغرافية والتاريخية الضرورية لفهم أبحاث المقدمة حق الفهم
ومما يلفت الأنظار في هذا الصدد، أن الطبعات المتداولة مشوبة بعدد غير قليل من الأغلاط المطبعية التي تغير معنى العبارات تارة، وتجردها من كل معنى معقول تارةً أخرى، وتقلب معناها رأساً على عقب في كثير من الأحوال
مثلاً: إن بعض الطبعات مسخت كلمة (اليقين) إلى شكل (أينين) فابتدعت هذه العبارة الغريبة: (قال كبيرهم أفلاطون إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين). كما أنها حرفت (الحقيقة المتعقلة) وجعلتها (الحقيقة المتعلقة)، واستبدلت بعبارة (يحلق فوقها) عبارة (يلحق فوقها). إنها مسخت (العلوم الآلية) مسخاً غريباً، حولها إلى (العلوم الإلهية)؛ وحرفت تركيب (سن بكره) وجعلته (بين نكرة) فجردته بذلك عن كل معنى معقول: كما حولت (عالم القردة) إلى (عالم القدرة)، فغيرت المعنى المقصود تغييراً هائلاً
وقد تطفلت بعض الطبعات بزيادة أداة (إلا) في جملة نافية، فقلبت معناها رأساً على عقب؛ وبعكس ذلك قد حذفت كلمة (ليس) من عبارة أخرى، فجردتها من كل معنى مفهوم، كما أنها أسقطت عدة كلمات من بعض العبارات، من غير أن تنتبه إلى أن ذلك قد جعل العبارة عديمة المعنى
ومن الأمور الغريبة أن الطبعات المصرية والشامية ناقصة من حيث المتون والفصول أيضاً: فإذا قارنا إحدى هذه الطبعات بطبعة باريس التي تعهدها المستشرق (كاترمير) - في نفس السنة التي كان قد أتم فيها الشيخ نصر الهوريني طبعة بولاق في مصر - نجد أنه ينقص منها أحد عشر فصلاً كاملة من الفصول المهمة، كما ينقص منها عدد غير قليل من الأبحاث والفقرات من الفصول المختلفة. وإذا أحصينا مجموع صفحات هذه الفصول والفقرات الناقصة نجدها تزيد على الستين
ومن الغريب أن طبعات مقدمة ابن خلدون المنشورة في العالم العربي ظلت على هذه الحال من النقص المعيب منذ مدة تزيد على ثلاثة أرباع القرن. . . ومن الأغرب أن الأبحاث والدراسات المنشورة بالعربية عن مقدمة ابن خلدون لم تنتبه إلى هذا النقص فلم تعمل على تلافيه، ولم تلفت الأنظار إليه إلى الآن
هذا وإنني أرى أن هناك قضية هامة أخرى تستحق الملاحظة والعناية أكثر من جميع الأمور التي ذكرتها آنفاً:
إن الذين يطالعون مقدمة ابن خلدون يقرءونها عادة كما نقرأ الكتب الحديثة، وينتقدونها بوجه عام كما تنتقد المؤلفات العصرية. ومعظم الذين يكتبون عن المقدمة أيضاً ينحون هذا المنحى نفسه، ويميلون إلى وزن الآراء الواردة فيها بموازين المكتسبات العالمية الحالية، من غير أن يلتفتوا إلى القرون الني تفصل بيننا وبين تاريخ كتابه المقدمة المذكورة، في حين أن قيمة المؤلفات القديمة، ومنزلة المفكرين القدماء - في تاريخ العلوم والأفكار - لا يمكن أن تقدر على هذه الطريقة
ذلك لأن كل عالم ومفكر يشترك - بوجه عام - مع معاصريه في معظم آرائهم، فيشاطرهم أكثر أخطائهم، ولا يمتاز عنهم إلا في (بعض الآراء) التي يوفق إلى ابتكارها، و (تعض المعلومات) التي يصل إلى اكتشافها
ولهذا السبب، نرى أن منزلة الباحث والمفكر في (تاريخ العلوم والأفكار) لا تتعين بملاحظة (جميع الآراء الصائبة والخاطئة) المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل بملاحظة (الآراء المبتكرة) التي يسمو بها على معاصريه، و (الحقائق الجديدة) التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، و (الخدمات التي يقوم بها) بهذه الصورة، في سبيل تقدم الأفكار والعلوم. . . كل ذلك بقطع النظر عن الآراء الخاطئة التي يبقى فيها مشتركا مع معاصريه بطبيعة الحال
إن عدم ملاحظة هذا الدستور الأساسي في دراسة المفكرين والعلماء القدماء، يحول دون تقدير منزلتهم العلمية حق تقديرها. ومحاذير ذلك تكتسب خطورة خاصة عندما يعود الأمر إلى عظماء المفكرين الذين يكونون في منزلة ابن خلدون، والى أمهات المؤلفات التي تكون على شاكلة مقدمته المشهورة؛ لأن مقدمة ابن خلدون من المؤلفات الجامعة التي تتطرق إلى عدد كبير من المسائل والمواضيع. إنها تتناول بالبحث مسائل كثيرة ومتنوعة جداً، من الديانة إلى التجارة، من النبوة إلى الطبابة، من الرؤيا إلى التربية، من السياسة إلى النجامة، من أوزان الشعر إلى عمران المدن، من مبادئ الموسيقى إلى أساليب الحرب، من موارد الدولة إلى أصناف العلوم. وخلاصة القول أن كل ما له علاقة بالاجتماع الإنساني والعمران
البشري يأخذ نصيباً من بحوث المقدمة. . . فلا ينظر من مؤلفها أن يكون مبتكراً ومصيباً في جميع المواضيع المتنوعة، بل لابد أن يكون ناقلاً لآراء معاصريه في معظم تلك المسائل والمواضيع
فإذا قرأ القارئ مقدمة ابن خلدون من غير أن يراعي هذا الدستور، فقد يعود بفكرة خاطئة تماماً عنها وعن مؤلفها، لأنه قد يبقى تحت تأثير مختلف الأخطاء المنبثة في صحائف الكتاب؛ والفكرة السيئة التي تستولي على ذهنه من جراء ذلك قد تؤثر على محاكمته، فتحول دون التفاته إلى الآراء القيمة المنتشرة في سائر أقسام الكتاب
إن أصول البحوث العلمية تتطلب من كل باحث يقدم على مطالعة كتاب قديم أن يتأمل في كل موضوع من مواضيعه - وكل مسألة من مسائلة - على حده. وأن يعرف حق المعرفة بأن (خطورة الأخطاء) التي تلقى في الكتب القديمة، لا يجوز أن توزن بالموازين الفكرية العصرية، بل يجب أن تقدر بموازين تاريخية خاصة. ولا حاجة لبيان أن هذه الموازين الخاصة لا يمكن أن تتقرر إلا بتتبع (تطورات الفكر البشري) بوجه عام
هذا مبدأ هام يجب ألا نهمله أبداً عند ما نقرأ وندرس مقدمة ابن خلدون. يجب علينا ألا ننسى أنه من رجال القرن الرابع عشر للميلاد؛ كما يجب علينا أن نرجع إلى تاريخ العلوم والأفكار عندما نقرأ كل فصل من فصوله، ونتأمل كل رأي من آرائه، ونستعرض ما كان يقول به المفكرون في هذا الصدد في العصر الذي عاش فيه وفي العصور التي أتت بعده
- 3 -
إنني لم أقل بهذا المبدأ ولم أضع هذا الدستور تعصباً لابن خلدون؛ بل قلت بهذا المبدأ لأنني وجدته سائداً في تاريخ العلوم والعلماء؛ وسردت هذا الدستور لأنني رأيته رائد القوم على الدوم
وأقول بلا تردد: لولا ذلك، لما استطاع أحد من المفكرين والعلماء السالفين، أن يحتفظ بمكانته العلمية والفكرية في هذا العصر، بين تطور العلوم الهائل وتقدمها المستمر
هذا أرسطو الذي يعد أكبر المفكرين الذين عرفتهم البشرية، والذي يلقب لذلك (بالمعلم الأول). هذا أرسطو نفسه، قد وقع في أخطاء وأغلاط كثيرة وكبيرة جداً في مؤلفاته المختلفة؛ فإذا أراد أحدنا أن يحصيها ويجمعها، استطاع أن يؤلف منها مجلداً ضخماً
إن بعض هذه الأخطاء والأغلاط كانت جوهرية خطيرة تتعلق بأسس العلوم نفسها
كان أرسطو يقول مثلاً - في ميدان علوم الطبيعة - بنظرية العناصر الأربعة، ويعتبر كلاً من الماء والهواء والتراب والنار عنصراً من عناصر الأشياء. . . ومن المعلوم أن علمي الفيزياء والكيمياء، قد قاما على إنكار هذه النظرية من أساسها
وكان يقول - في ساحة علم الحياة - بنظرية (التناسل التلقائي)، ويعتقد بأن الديدان والحشرات تتولد من تلقاء نفسها، من الطين والجيف. ومن المعلوم أن علم الحياة الحالي، قد برهن على بطلان هذه النظرية برهنة قاطعة
وكان أرسطو يقول - في ساحة الاجتماعيات - بضرورة الرق، ويعتقد بأن الاسترقاق من ضرورات الحياة الاجتماعية؛ وكان يعلل اعتقاده هذا، بقوله (إن بعض الناس خلقوا ليكونوا عبيداً)؛ حتى كان يرى أن (الغزو للحصول على العبيد) مشروع بقدر (الصيد لاقتناص الحيوانات). . . ومن المعلوم أن تطورات الحياة الاجتماعية سارت دائماً على أساس إنكار هذا الرأي بوجه حاسم بات
وزيادة على ذلك، فإن بعض الآراء التي قال بها أرسطو كانت من نوع السفسطات والمغالطات. فقد قال - مثلاً -:(إن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون كاملاً، بوجه من الوجوه، لأن هذا الخط المستقيم إذا كان غير متناه كان غير كامل، إذ أن الكمال في الخط لا يتم إلا عندما يكون له شكل مرسوم بوضوح. وأما إذا كان الخط المستقيم المذكور متناهياً، فلا يكون كاملاً أيضاً؛ لأنه يبقى في هذه الحالة، ما هو خارج عنه، بطبيعة الأمر. . .) ومن الواضح أن كل ذلك من لغو الكلام، وهو يدل على المغالطة في البرهنة والبيان
فإذا كان أرسطو لا يزال يتمتع بمنزلة ممتازة ومكانة خارقة، في تاريخ العلوم والأفكار، فما ذلك إلا لأن التاريخ المذكور يراعي على الدوام المبدأ الذي ذكرته آنفاً
وما قلته عن أرسطو في هذا الصدد، يصح في غيره من العلماء والمفكرين أيضاً. فليس بين هؤلاء - من سقراط إلى كونت، ومن بقراط إلى فرويد - من يعد عظيما لأنه لم يخطئ في آرائه وكتاباته قط؛ بل إنهم يعدون من العظماء، على رغم الأخطاء التي وقعوا فيها والأغلاط التي قالوا بها
- 4 -
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد، أن موقفنا - نحن الناطقين بالضاد - تجاه مقدمة ابن خلدون يختلف بطبيعته عن مواقفنا تجاه مؤلفات أمثاله من الغربيين. ذلك لأننا لا نطلع - عادة - على آراء القدماء من الغربيين إلا من خلال بعض المقتطفات والدراسات، فنتوهم بأن كل ما قاله هؤلاء وكتبوه كان على ذلك الطراز. مع أن تلك المقتطفات والدراسات، تستهدف - بوجه عام - إظهار منزلتهم العلمية، فلا تحتوي في حقيقة الأمر إلا على الجوهر الهام، والزبدة المنتقاة من آرائهم وكتاباتهم الأصلية. بينما نحن نطلع على ما قاله ابن خلدون من قراءة مقدمته مباشرة ونحيط علماً بكل ما جاء فيها من غث وسمين. . . فالمقارنة التي تحدث في أذهان بهذه الصورة، بين ابن خلدون وبين أمثاله الغربيين، تكون بعيدة عن الحق والحقيقة، بطبيعة الأمر
إن مثلنا في مثل هذه المقارنات كمثل من يريد أن يقوم بمقارنة بين المناجم المختلفة، فيقدم على الموازنة بين الفلز الطبيعي الموجود في أحدها، وبين المعادن الصافية والجواهر اللماعة المستخرجة من غيرها. . . من غير أن ينتبه إلى أن تلك المعادن والجواهر أيضاً كانت ممزوجة ومخلوطة بمواد ترابية وحجرية خسيسة، وإنها لم تظهر بمظهر الحالي إلا بعد تصفيتها من النفايات؛ كما أن الفلز الطبيعي الموجود في المنجم الأول أيضاً يحتوي على جوهر ثمين - قد يبهر الأبصار - مثل تلك الجواهر، بل أكثر منها، إذا ما عولج وصفى مثلها
من البديهي أن المقارنات يجب أن تجري تحت شروط متساوية: فعلينا إما أن نقارن الفلز الطبيعي بالفلز الطبيعي، وإما أن نقارن المعدن المستخرج والمصفى بالمعدن المستخرج والمصفى. أما مقارنة الفلز الطبيعي من منجم ما، بالمعدن المصفى المستحصل من منجم آخر، فما لا يتفق مع مقتضيات العقل والمنطق، بوجه من الوجوه
فيجب علينا أن نتجنب سلوك مثل هذه الطرق في دراسة ابن خلدون. يجوز لنا أن نقارن الآراء الثمينة المستخرجة منها بما استخرج من أمثالها. وأما المقارنة بين المقدمة بهيئتها المجموعة وبين الآراء القيمة المستخرجة من الكتب المماثلة لها، فما لا يجوز أبداً
إن المقالات التالية، ترمي قبل كل شيء إلى تطبيق هذا المبدأ في دراسة مقدمة ابن خلدون، وإظهار منزلة مؤلفها العظيم، على هذا الأساس القويم
(بيروت)
أبو خلدون
المشكلات
1 -
اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
شعر رجال التربية والتعليم في مصر منذ زمن طويل بإخفاق المعاهد المصرية المختلفة في تعليم اللغة العربية، فهبوا يتعرفون أسباب هذا الإخفاق، ويعالجونه بالوسائل التي يرونها، ألفوا اللجان، وعقدوا المؤتمرات، وبحثوا البحوث المختلفة؛ فمرة يرون الإخفاق من صعوبة النحو فينصرفون إلى تسهيله، ومرة يرونه من كثرته فينصرفون إلى تقليله؛ ومرة يرون من قلته فينصرفون إلى تكثيره، ومرة يرونه من مدرس اللغة العربية فيعمدون إلى إصلاحه وحسن اختياره والعمل على توسيع ثقافته، ومرة يرى بعض الباحثين أن هذا الإخفاق إنما هو من آثار البعد ما بين العامية والعربية فيشير بالتقريب بينهما بأن تنزل كلتاهما عن بعض خصائصها لتقرب من الأخرى. وهذا معناه إعدام اللغتين واصطناع لغة لا هي بالعربية، ولا هي بالعامية، وليس هذا إصلاحا، وإنما هو خضوع للحالة الراهنة، وإقرار الخطأ، والعجز أمام اللحن والتحريف
والاعتبارات الدينية والاجتماعية والتاريخية تقضي علينا بالاحتفاظ باللغة العربية كما هي تدب في عروقها دماء القوة والحياة
أما الاعتبارات الدينية فإنها لغة القرآن والسنة، ومنهما يأخذ المسلمون دينهم وعقائدهم وأخلاقهم وعباداتهم وأحكام معاملاتهم، وهم يحرصون على اللغة العربية أشد الحرص، ليفهموا بها كتاب الله وحديث رسوله، ويبقى ذلك الينبوع الذي يستقون منه متدفقاً ثرارا، ويخشون أعظم الخشية أن يصبح غورا فيفقدوه وهم في مسيس الحاجة إليه
وهم لا يرضون أن تبيد اللغة العربية كما بادت أخواتها من اللغات السامية كالعبرانية، فيصبح القرآن لا يتلى ولا يفهم إلا في المساجد وعند أداء الشعائر، كما صارت العبرانية لا تتلى إلا في الصوامع والبيع
وأما الاعتبارات الاجتماعية فإن اللغة العربية الآن لغة عامة، وهي لغة الشمال أفريقية
والجزء الغربي من آسيا، وسكانها يبلغون أكثر من ثمانين مليونا من الأنفس، إذ أن اللغة العربية لغة الكتابة في هذه الأقطار جميعها، ومنها تفرعت لهجاتهم، ولحرصهم على اللغة العربية دائما لا تبعد اللهجات عنها، وكذلك لا تبعد لهجات الأقطار بعضها عن بعض بعداً يجعل التفاهم بين أهلها متعذراً
وقد ربطت هذه اللغة بينهم برباط اجتماعي وثيق، وسهلت سبل التعارف والتآلف، فأصبح المصري مثلاً يسافر شرقا إلى الشام أو الحجاز أو العراق، ويسافر غرباً إلى ليبيا وطرابلس وتونس والجزائر، ويسافر جنوباً إلى بلاد السودان وما وراءها فيرى أهلاً بأهل وجيراناً بجيران، ويحل بين قوم يفهم عنهم ويفهمون عنه، ويألفهم ويألفونه، وكأنه لم يبرح بلده، ولم يفارق موطنه، ذلك بفضل اللغة العربية وما يسرت من تفاهم، وكذلك شأن السوري والعراقي والحجازي إذا حل بهذه الأقطار، وقد كان ذلك سبباً في زيادة التعاون وإحكام روابط الأخوة والحب بين شعوب الشرق العربي، وفتح طريقاً إلى الوحدة العربية التي ينشدها كل محب للشرق وللعرب، وستحقق إن شاء الله بفضل هذه اللغة
وقد أدى ذلك إلى سهولة التجارة وتبادلها بين هذه الأقطار كما أدى إلى تبادل الثقافة وسائر ألوان الإنتاج في العلم والمعرفة والتفكير، وصار المؤلف في مصر لا يؤلف لوطنه وحده، وإنما يؤلف لجميع هذه الأقطار، كما صار طابع الكتب وناشرها لا يطبع أو ينشر لمصر فحسب، وإنما يطبع لهذه الأقطار ولبلاد الهند والملايو وجاوه وسومطره وبلاد الصين، كذلك شأن المؤلفين والناشرين في هذه الأقطار، وذلك كله بفضل اللغة العربية
وأما الاعتبارات التاريخية فإن علوم آبائنا وأجدادنا وثقافتهم وتراثهم العقلي قد وضعت باللغة العربية، فنحن نحافظ عليها ما حافظنا على هذا التراث. وهذا هو أيضاً على النفر القليل الذين دعوا إلى العامية وإحلالها محل اللغة العربية
أتدرون ماذا نكون إذا نحن اتبعنا مشورة أولئك وهؤلاء ممن يشيرون علينا بأن تتنازل العربية عن بعض خصائصها لتقرب من العامية، أو أن نصطنع العامية بدل العربية؟ إننا بذلك نعمد إلى تلك الصلات التي بيننا وبين جيراننا الشرقيين فنقطعها فنصبح نتكلم بلغة لا يفهمونها ويتكلمون بلغة لا نفهمها
وإلى تلك الصلات التي بيننا وبين أسلافنا فنقطعها أيضاً ونصبح لا نتصل بعلومهم ولا
ثقافتهم، لأنها باللغة العربية ونحن نصطنع العامية؛ ونكون قد سجنا أنفسنا في سجن العامية المظلم لا يفهمنا أحد ولا نفهم أحداً بعد أن كنا في ميادين العربية الفسيحة التي تمتد شرقاً وتضرب في بلاد الهند والصين، وتمتد غرباً وتضرب في سواحل المحيط الأطلسي، وتمتد جنوباً وتضرب في المحيط الهندي، وتمتد شمالاً وتضرب في آسيا الصغرى وبلاد الأناضول، وتمتد في الماضي وتضرب في عهود العباسيين والأمويين والخلفاء الراشدين وعصر البعثة المحمدية وما قبل البعثة من عصر العرب الأولين
ومرة يرى بعض الباحثين أن يقرب بين العربية والعامية بأن يؤثر كل لهجة عربية توافق العامية، فيؤثر اللغة التي تلزم الأسماء الخمسة الألف، لأن العامية تنهج في أسلوبها هذا النهج، ويؤثر اللغة التي تعرب جمع المذكر السالم إعراب حين، لأن العامية تفعل ذلك
وهذا لا يحل المشكلة، لأن العامية لا تلتزم نهجاً واحداً خاصاً في أسلوبها ولا تلتزم لغة من هذه اللغات. وأيضاً فكثير من العامية ليس له نظير في لهجة من اللهجات العربية
ثم ماذا يفعلون؟ أيوجبون هذه اللغة ويخطئون ماعداها، أم يجوزونها ويخيرون بينها وبين اللغات الأخرى؟ فإن كان الأول أدى ذلك إلى أن المتعلم على هذه الطريقة يخطئ القرآن وكلام رسول الله وكلام العرب إذا جاءت على غير هذه اللغة. وإن كان الثاني لم يعد ذلك تسهيلاً لأنه لم يفعل شيئاً سوى أن زاد في الطنبور نغمة، فبعد ن كان يعلم لغة واحدة في جمع المذكر السالم هي اللغة العامة القياسية أصبح يعلم اللغة العامة واللغات الأخرى القليلة
ثم هذا يضيع على المسلمين الغرض الذي يرمون إليه، ويحرصون عليه أشد الحرص، وهو الاحتفاظ بلغة القرآن ولهجته وطريق أدائه
والذين يدعون إلى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة أقرب إلى الصواب؛ ونحن نؤمن كما يؤمنون بضرورة هذه الخطوة، وإن كنا نخالهم فيما ذهبوا إليه من قواعد كما بينا ذلك في حينه، ونرى من هذا كله أن المشكلة على ما هي عليه لم تحل ولم توشك أن تحل. وسنحاول إن شاء الله في الفصول الآتية أن نحل هذه المشكلة التي استعصى على الزمن حلها
محمد عرفة
عضو جماعة كبار العلماء
في استقلال القضاء
(إلى حضرة صاحب المعالي المصلح الكبير الأستاذ محمد صبري أبي علم باشا تقديراً لقانونه الفذ، وتحية لشخصه الكريم)
للأستاذ محمود الخفيف
بَشَّرْتَ باسْتِقْلَالِهِ الأجْياَلَا
…
وَجَعَلْتَهُ حَقَّا وَكانَ خَيالا
أَمَلٌ تَطلَّعَتِ البِلَادُ لِيَوْمِهِ
…
مُنْذُ احْتَوَى دُسْتُوُرُها الآمالا
ظمئت لَهُ مِصْرٌ وَطالَ أُوَامُها
…
حتَّى سَقَيْتَ بهِ العِطاشَ زلَالا
عَجِبوا لِسَعْيِكَ إِذْ بَلَغْتَ بِهِ المدى
…
ولَطَالَما ألِفوا الوُعُودَ مِطالاِ
عَدوا لَهُ الأيَّامَ فَهِيَ قَصِيرَةٌ
…
لَكِنَّهُمْ وَجَدُوا خطاَكَ طِوالا
وَتَلَفَّتَ التَّارِيخُ يَكْتُبُ صَفْحَةً
…
غَرّاَء، جَلَّتْ شَاهِداً وَمِثالا
أُسُّ العَدَالَةِ أَنْتَ بَاني رُكْنِه
…
فَابْلُغْ بِهِ هَامَ النُّجُومِ كمالا
العَصْرُ تَظْمَأُ للِعْدَالَةِ رُوحُهُ
…
لما رأَى الطُّغْيانَ سَاَء مآلا
هِيَ أَصْلُ كُلِّ حَضَارَةٍ وسكينَةٍ
…
وَهِيَ الجمالُ لِمنْ أَرادَ جَمَالا
مَا قِيمَةُ الدُّنيا وَمَا نِعَمُ الحَيَا
…
ةِ إذا الطُّغَاةُ اسْتَعْبَدُوا الأعْزالا؟
وَلِمَ التَّفاوُتُ في سُلَالَةِ آدَمٍ
…
أَوَلَمْ يكونوا كُلَّهُمْ صَلْصَالَا؟
العَدْلُ إن قَامَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
…
لَمْ تَلْقَ ذا خَتْلٍ وَلَا رِئْبَالَا
وَإذا تَنَكَّبَتِ العَدَالَةَ أُمَّةٌ
…
فَقَدْ ارْتَضَتْ هَذِى الحَيَاةَ وَبَالا
يَحيا عَلَى الطُّغْيَانِ كُلُّ مُسَلَّطٍ
…
فِيهَا وَيُنْشِبُ ظُفْرَهُ مُغْتالا
فإذا الرِّجَالُ بِهَا ضَوَارِي غَابَةٍ
…
وإذا المَدَائِنُ أصْبَحَتْ أَدْغالا
رُسُلُ العَدَالَةِ في البِلَادِ قُضَاتُها
…
أَعْلَى الرِّجَالِ مَهَابَةً وَجَلَالَا
بَذلوا لِمِصْرَ جُهُودَهُمْ مَوْصولَةً
…
وَتَحَمَّلوا في حُبها الأَثقَالا
تاَللهِ مَا وَهَنُوا ولا بَرِموا وَلَا
…
مَنُّوا ولا كانوا بِهَا بُخَّالا
لَمْ يَأْمَنْوا وَهُمْ القضَاةُ مُنَاجِرَا
…
غِرَّا، يُدِلُّ بِبَأْسِهِ إدْلَالا
أوْ يَأْمَنوا في الحقِّ صَوْلَةَ غاشِمٍ
…
لمْ يَرْضَ إلاَّ مَا يَقُولُ جِدَالا
صَبَرُوا عَلَى الأعْنَاتِ صَبْرَ أَعِزَّةٍ
…
وَلَوْ انَّهُمْ رُزِئوا بِهِ أَشْكالا
أَحْرَى بِمَنْ يَحْميِ الحقوقَ قَضَاؤهُ
…
أَلاَّ يَرَى عَنتاً وَلَا إضلَالَا
وَبِمَنْ يُخيفُ الظالِمين عِقَابُهُ
…
أَلاَّ يَخَافَ عُقوَبةً وَنكالَا
وَبِمَنْ يَفُكُّ عَنِ السَّجِينِ قُيودَهُ
…
ألاَّ يَهَابَ شَكيِمَةً وَعِقَالَا
وَبِمَنْ يُنِيرُ لَهُ السَّبِيلَ ضَمِيرُهُ
…
ألاَّ يُزِيغَ لَهُ الهوى اسْتِدْلالا
وَبِمَنْ يُدِيرُ إلى المَصَاعِبِ بالَهُ
…
ألاَّ تَكِدَّ لَهُ الشَّوَاغِلُ بالا
قُلْ لِلْوَزِيرِ فَعَلتَ فِعْلَ مُؤَسِّسٍ
…
كانَ الأصِيلَ العَبْقَرِيَّ فِعَالَا
العَصْرُ لَمْ يَعْرِفْ لِفِعْلِكَ مُشْبِهاً
…
وَتَقِلَّ، إنْ عَدُّوا لَكَ الأمْثَالا
فَضْلٌ يُضَافُ إلى مآثِر مَاجِدٍ
…
ما زال يُولي قَوْمَهُ الأفْضَالا
لِلِه إذْ يَسْعَى وَيَدْأَبُ جَاهِداً
…
مَا كانْ ذا مَنٍّ وَلَا قَوَّالا
مُتَوَاضِعٌ حَتَّى لَيُخْفِى سَعْيَهُ
…
وَتَرى الزَّمَانَ بِسَعْيِهِ مُخْتَالَا
لَوْلَا شوَاهِدُ لَا تكونُ لِغَيْرِهِ
…
نَسَبَ الرُّوَاةُ لِغَيْرِهِ الأفْعالا
وإذا الرِّجَالُ بَنَوْا حَقِيقَةَ مَجْدِهِمْ
…
تَرَكُوا الكَلَامَ وَأَنْطَقُوا الأعْمَالَا
هَذَا الّذِي هَزَّ الوزَارَةَ باسمِهِ
…
كَم جالَ أَيَّامَ الجِهَادِ وَصَالا
لبّى نِدَاَء اَلْحقِّ فيِ أَوْطَانِهِ
…
لَمَّا دَعا سَعْدٌ بهِاَ الأشْبَالَا
عَرَفَ الزَّعِيمُ لَهُ كَرِيمَ خِلَالِهِ
…
فَرَأَى الْبَشاَشَةَ مِنْهُ وَاْلإِقْبَالا
فإِذَا نَظَرْتَ إِلَى اْلعَرِينِ وَجَدْتَهُ
…
وَرَأَيْتَ مِلَْء إِهَابِهِ اسْتِبْسَالا
وَإِذا الْحَماسَةُ أَنْطَقَتْهُ سَمِعْتَهُ
…
في اَلْحقِّ أَرْوَعُ مَا يَكُونُ مَقَالا
الصّدْقٌ وَالإيمَانُ في نَبَرَاتِهِ
…
وَلَقَدْ تَمَلّكَ سَمْعَكَ اسْتِهْلالا
وَمَضَى فَهَزَّكَ بالْبَيَانِ يَسُوقَهُ
…
سِحْراً تَرَشَّفَهُ النُّفُوسٌ حَلالا
مُتَدَفِقاً كالْمَوْجِ يَهْدُرُ تاًرَةً
…
وَتَرَاهُ حِيناً هَادِئاً سَلْسَالا
نَبْعٌ تَفَجَّرَ مِنْ قَرَارَةِ نَفْسِهِ
…
فأَرَاكَ أَوْصاَفاً لَهُ وَخِسلالا
نَبُه اسْمُ صَبْرِي الشَّبَابِ فماَ ازْدَهَى
…
يَوْمًا وَلا بَاهَى بِهِ وَاخْتَالا
وَاليَوْمَ تَرْمُقُ مِنْهُ بَدْراً كامِلاً
…
قَدْ تَمَّ في أُفُقِ الْعَلاءِ خِصَالا
سِمَهُ النُّبُوغِ عَلَى كَرِيمِ جَبِينِهِ
…
مِنْ يَوْمِ أَنْ بَهَرَ الْعُيُونَ هِلالا
هَذَا خَلِيفَةُ سَعْدٍ انظُرْ هل تَرَى
…
صَبْرِي لَدَيْهِ تَقَدَّمَ الأبْطَالا
لا غَرْوَ إِنْ هُمْ قَدَّمُوهُ فَقَدُ رَأَوْا
…
سَيْفاً تَناَهَي رَوْعَتً وَصِقاَلا
مَا فَلَّ طًولْ جِهَادِهِ عَزْمَا له
…
يَوْمَا وَلا اطَّرَحَ الْجِهَادِ مَلالا
مِلْءٌ الْقُلُوبِ رَزانَةً وَجَلالَةً
…
وَحَمَاسَةً وَتَوَثَّباً وَنِضاَلا
قَدْ لازَمَ الصِّدِّيقَ في وَثبَاتِهِ
…
أَيَّامَ خَاضَ إِلى الْمُنَى الأهْوَالا
مَا كانَ إِلا الْحُرَّ يَحْمَي عَزْمهُ
…
في الحَادِثَاتِ وَقَدْ عَصَفْنَ سجَالا
لما أَدَارَ إلى القَضَاءِ جُهُودَهُ
…
نَسِى الكَلالَ فما يُحِسُّ كلالا
وَلَكَمْ تَحَمَّلَ غَيْرَ هَذا دَائِبَا
…
من قَبْلُ أَعْبَاءِ وَكُنَّ ثِقَالا
مَدَّ الرَّئيسُ له يَمِينَ مُحَرِّرٍ
…
بالأمْسِ حَطَّمَ في الْحِمَى الأغْلالا
نَصَرَ القَضَاَء وَنَاصَرَ اسْتِقْلالَهُ
…
مَنْ أَلْبَسَ الأوْطَانَ الاسْتِقْلالا
الأرْوَعُ الْمُسْتَبْسِلُ الْبَطَلُ الّذِي
…
أَعْيَتْ كِبَارُ جُهُودهِ الأقوَالا
مَاذَا أَقُولُ؟ وأَيْنَ من وَثَباتِهِ
…
شِعْرِي وَلَوْ بَلَغَ السَّمَاَء وَطَالا
هَذَا الذي لَاقَى الخُطَوبَ بِبَأْسِهِ
…
فإذا بِهَا قَدْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالا
وَإذا بِهِ الجَبَلُ الأشَمُّ وَحَوْلَهُ
…
أصْحَابُهُ وَقَفوا لَدَيه جَبالا
صَبْري إليْكَ تَحِيَّةٌ مِنْ شَاعِرٍ
…
أَمْلَي عَلَيْهِ وَفَاؤه ما قَالا
أَنَا مَنْ يُغَنِّي بالبُطُولَةِ شِعْرُهُ
…
وَأَصُوغُ غَالَيِ دُرِّهِ إِجلالا
لازِلْتَ في سَمعِ الزَّمَان قَصِيدَةً
…
غَنَّى بها الأسْحَارَ والآصَالا
الخفيف
البريد الأدبي
1 -
الشاعر ابن العرايش من هو؟؟
نشرت البرقيات الخاصة والعامة أسماء الفائزين الأول في مسابقة الشعر العربي التي نظمتها محطة الإذاعة اللاسلكية في لندن. واسم الفائز الأول في موضوع نهضة الشباب هو (ابن العريش)
وليس (ابن العريش) هذا اسماً، ولكنه كنية اتخذها الشاعر الحقيقي، أما اسمه الكامل فهو (نجيب ليَّان) من أهالي زحلة التي خلدها المرحوم شوقي الشاعر بقصيدته الفاتنة
والأستاذ نجيب ليَّان يشتغل الآن منصب مدير قلم المطبوعات اللبناني؛ ولم أعثر له على ترجمة أو (لوحة أدبية فنية) في كتاب (الرسوم) الذي ألفه الأديب اللبناني المشهور إلياس أبو شبكة. فلعل الأستاذ (أبو شبكة) يصور لنا صديقه الشاعر نجيب ليَّان في صورة طريفة لمجلة الرسالة الغراء
2 -
آباء العلاء
أنجبت المعرة شاعر الحكيم أبا العلاء المعري صاحب اللزوميات، وسقط الزند والفصول والغايات وغيرها
وهناك غير واحد من أهل المعرة سمي أبا العلاء، ومن هؤلاء من كان معاصراً لأبي العلاء المشهور ومنهم من تأخر به زمانه عنه؛ ومن (آباء العلاء) هؤلاء: أبو العلاء بن عبد الله ابن الحسن، أبو العلاء بن أبي الندي، أبو العلاء أحمد ابن أبي اليسر وأبو العلاء الحسن بن الحسين وأبو العلاء سعد ابن حماد. أما شاعرنا المشهور فاسمه أبو العلاء أحمد بن عبد الله ابن سليمان التنوخي
3 -
رباعيات الخيام
يعرف قراء الرسالة أن كثيراً من أدباء العرب ترجموا رباعيات الخيام إلى اللسان العربي؛ ومن هؤلاء المترجمين المحسنين على تفاوق في الإحسان، أحمد رامي وأحمد زكي وأبو شادي والبستاني وأحمد صافي النجفي. ولعل الأستاذ النجفي الآن على إخراج طبعة ثانية من ترجمته تكون أكثر دقة وأحسن إخراجاً. وقد نشرت مجلة (الصباح) الدمشقية الغراء -
وهي التي ننقل عنها هذا الخبر إلى قراء الرسالة - أن الشاعر النجفي قدم لطبعته الجديدة قطعتين من الشعر رداً على من أساءوا فهم فلسفة الخيام. قال لا فض فوه في أولاهما:
قد كنت من خمرة الخيام منتشياً
…
وإنما خمرة الخيام إلهام
يظنه الجاهل المسكين منغمراً
…
في الراح يطفو به في لجها الجام
فراح يدمن سكراً باسمه نفر
…
كأنهم إذ تدار الكأس أنعام
ظننت ترجمة الخيام مأثرة
…
أذابها لضعاف الرأي إجرام
إن كان هذا مآل الشعر في نفر
…
لا كان شعر ولا خمر وخيام
خالوه من شعره في الخان منطرحاً
…
وكم أساءت إلى الأشعار أفهام
ففتشوا عنه في الحانات وانصرفوا
…
وكل ما عرفوه عنه أوهام
لله درك يا خيام في كلم
…
يحييا بها الخالص بل يفني بها العام
وهذا أجمل دفاع شعري سمعناه - عن شاعر ظلمه الناس وشربوا الخمر باسمه، واحتموا في ظل رباعياته، وهو من ذلك الخمار وتلك العربدة براء.
محمد عبد الغني حسن
قضية تخسر!
ليست القضية التي انبرى الأستاذ سيد قطب للدفاع عنها بقضية خاسرة، ولكنها - مع الأسف - قد لقيت الخسران على يديه! وليس من عجب أن يجد الدكتور مندور منفذاً للطعن في رد الأستاذ سيد قطب، فإن الواقع أن هذا الرد لم يكن غرض صاحبه أن يدافع عن أباء مصر بقدر ما كان غرضه أن يعلن عن نفسه. والحق أنني ما قرأت كلام الأستاذ قطب حتى استوقفني فيه هذه الظاهرة، إذ قد فاته أن يوجه كل همه لنصرة قضيته، وإنما راح يحشد أقواله وأقوال الأستاذ العقاد، كأنما ليس في مصر غيرهما. وليست هذه هي المرة الأولى التي يسلك فيها الأستاذ قطب هذا المسلك، بل إن كل من قراء ديوانه:(الشاطئ المجهول) ليذكر جيداً كيف مهد الشاعر (سيد قطب) لديوانه بمقدمة نقدية بقلم الناقد (سيد قطب)، وكيف راح يثني على نفسه في هذه المقدمة بكلمات بعجب لها المرء عجباً يستنفد كل عجب!
أما الأستاذ العقاد الذي تصدى الأستاذ قطب للدفاع عنه فإن القصائد التي اختارها له ليست من أجود شعره، والحكم على العقاد بناء على قصيدة واحدة منها لا بد أن يكون حكماً جائراً. وفضلاً عن أن الأستاذ قطب كان سيئ الاختيار، فإنه يجب علينا أن نقرر أن الحكم على شعر العقاد إنما يكون بقراءة دواوينه كلها. لذلك أشير على الدكتور مندور بقراءة (وحي الأربعين) وخاصة القصائد الآتية:(الغزل الفلسفي)(المعاني الحية)، (ليلة البدر) فإن هذه القصائد تتضمن أشعاراً لا يمكن أن يقارن بها أي شعر من أشعار المهجر كله!
زكريا إبراهيم