المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 529 - بتاريخ: 23 - 08 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٢٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 529

- بتاريخ: 23 - 08 - 1943

ص: -1

‌من طرائف المفارقات في بلد المفارقات

للأستاذ عباس محمود العقاد

من طرائف ما يقال في بلد المفارقات كلمة كتبتها آنسة أديبة في (المصور) الأغر تقول فيها: (. . . سألني الأستاذ الكبير عباس العقاد عن رأيي في سارة فأجبته في صراحة أنه قد آن الأوان لتتحدث الأنثى عن الأنثى وتصور شعورها وتترجم عواطفها. فإن الرجل لا يعرف المرأة ولا يفهمها، ولذلك يصورها في كتابته مخلوقة أخرى غير التي نعرفها في نفوسنا ونحسها فينا. . .)

وطريف كل ما في هذه الكلمة التي تتمثل فيها شتى المفارقات في بلاد النقائض والمفارقات!

فمن طرائفها قول الآنسة الأديبة أنني سألتها رأيها في سارة، وأنا لا أعرف أنها قرأتها وأن لها رأياً فيها

ولو عرفت أنها قرأتها وأن لها رأياً فيها لما فاتحتها بالسؤال عنها، لأن أصدقائي الكتاب والقراء كثيرون يعلمون ما لم تعلمه الآنسة الأديبة، وهو أنني لم أستبح لنفسي يوما أن أفاتح أحداً بالسؤال في موضوع كتاب ألفته أو قصيدة نظمتها، لأن المفاتحة بالسؤال في هذا الصدد إما استجداء ثناء، وهو لا يحسن بالكاتب، وإما إحراج للمسؤول إذا اضطره السؤال إلى إبداء رأي لا يروق ولا يطيب وقعه في أذن السامع، وهو كذلك لا يحسن بالكاتب ولا بكائن من كان

ومن شاء إبداء رأي فله من وسائل الإبداء ما يغنيه عن هذا الحرج، وما يغني الكاتب عن سوقه إلى الكلام فيما ليس من قصده أن يفتتح الكلام فيه

والآنسة الأديبة صحفية على اتصال بالصحف اليومية والأسبوعية، فما رأيها في سؤال قراء هذه الصحف عن قارئ فرد أو كاتب فرد شغلته في مجلس من المجالس باستفساره الرأي فيما أكتب أو ما أنظم!

فلماذا أسألها هي إذا كنت لا أسأل أحداً غيرها؟

أأسألها لأسمع منها الرد الذي لا يحمد من فتاة ولا فتى في خطاب رجل يكتب قبل أن تدرج من مهدها؟

ص: 1

أأسألها لأسمع منها أن هذا شأني وليس بشأنك، وأن الأمر يعنيني ولا يعنيك أنت ولا يعني أحداً من الرجال؟

وإذا نسيت الآنسة أن هذا جواب لا يحمد من فتاة ولا فتى، فما الذي ينسيني أنا أن أرد إليها ذاكرتها في أدب الخطاب؟

طريف هذا وأطرف منه رأيها الذي بنت عليه جوابها، وهو أن المرأة لا يكتب عنها غير المرأة، وأن الرجل لا يكتب عنه غير الرجل، وأن الطفل لا يكتب عنه غير الطفل على هذا القياس

فإذا كانت عندنا، كما يقول وضاع المسائل الحسابية، رواية مدارها على زوج وزوجة، وولد وبنت، وخادم وخادمة، وحصان في خدمة الأسرة، ودجاجة وديك في فناء الدار؛ فليس في وسع كاتب واحد إذن أن يؤلف هذه الرواية الشائعة بين الروايات، ولكننا بحاجة إلى رجل في سن الزوج، وامرأة في سن الزوجة، وولد في سن الإبن، وبنت في سن الابنة، وحصان ودجاجة وديك، للتعبير عن حقائق هذه الأحياء، ويبقى بعد ذلك أن يحتج الخادم والخادمة. . . لأن الزوج لا يغني عن الخادم وإن كان رجلاً، والزوجة لا تغني عن الخادمة وإن كانت امرأة، ولا يشعر السادة بشعور الخدم ولا الخدم بشعور السادة أليس كذلك؟

بلى كذلك وزيادة! وإن كنا لا ندري كيف يكون التأليف وأين يبدأ هذا وأين يتسلم من ذاك سلسلة السطور

الآنسة الأديبة لا تعلم الحقيقة فيجب أن تعلم الحقيقة كما خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة لنا فيه

والحقيقة التي خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة فيه أن المرأة لا تفهم من شئونها شيئاً إلا كان الرجل أفهم منها لهذا الشيء ولو كان من خاصة أعمالها وشواغلها

فالطهي من صناعات المرأة القديمة، ولكن أمهر الطهاة في الدنيا رجال وليسوا بنساء

والخياطة من صناعات المرأة القديمة ولكن المرأة لا تخيط ملابسها ولا تبتكر أزياءها كما يخيطها الرجل ويبتكرها، والتوليد من صناعات النساء ولكن المرأة نفسها تثق بالطبيب المولد ولا تثق بالطبيبة المولدة

ص: 2

والمرأة تبكي منذ خلقت ولا تزال تبكي إلى يوم الدين، وترثي الموتى منذ هلك ميت إلى أن يموت آخر الهالكين، ولكنها كما قلنا مرة لم تخلد بكلمة واحدة إلى جانب الكلمات التي خلد بها الباكون والراثون من الرجال، ولا استثناء في ذلك للخنساء وهي التي كانت تفاخر النساء بالبكاء!

ونأتي إلى القصة نفسها وهي موضوع التعقيب أو موضوع الزجر والتأنيب للرجال الفضوليين الذين يدخلون فيما لا يعنيهم من شئون المرأة

فمن الحقائق التي يجب أن تعلمها الآنسة الأديبة أن الكاتبات الروائيات لم يشتهرن قط بخلق الشخوص النسائية الخالدة في عالم الكتابة، ويصدق هذا على السابقات من طراز ماري كوريلي وشارلوت برونتي كما يصدق على اللاحقات من طراز فيكي بوم وبيرل بك، بل يصدق في هذا المعنى أمر تستغربه الآنسة لو علمت به: وهو أن الرجال في روايات الكاتبات أصدق صورة من النساء، لأن المرأة على ما يظهر لا تحسن التعبير عن نفسها كما تحسن مراقبة الرجل والحكاية عنه، وإن لم تقصد التحليل والتصوير

ولست أنا القائل إن المرأة لم تفهم نفسها كما فهمتها من تصوير شكسبير لها، وإنه صور خمسا وعشرين صورة نسائية لا تختلط واحدة منها بالأخرى ولا توجد امرأة واحدة تحصيها في وجوهها وملامحها، ولكن الذي قال ذلك امرأة فاضلة هي أنا جمسن في كتابها بطلات شكسبير

ولم توجد بعد المرأة الفذة بين النساء، كما كان شكسبير الرجل الفذ بين الرجال

تلك طرائف آنسة في حديث الذكر والأنثى

ولهذا الحديث طرائف أخرى في (رجل) كشفه الأستاذ السيد قطب وقال هو عن نفسه إنه يفخر بمشابهة المرأة تكوينها

هذا الرجل يقول لنا: (وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد، أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان. . . وقديماً زعم اليونان أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها

ص: 3

فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة وليس هناك رجل كامل الرجولة. . .) إلى آخر ما قال هذا الرجل الذي كشفه السيد قطب جزاه الله

ومنتظرون نحن حتى يجشم هذا الرجل نفسه مشقة الرسالة التي بعث بها إلينا من طريق الأستاذ سيد قطب لينقلها إلينا. . .!

منتظرون تلك الرسالة منذ متى يا ترى؟

منتظروها منذ سبع عشرة سنة يوم كتبنا نقول: (لا بدع أن يكون الأمر كذلك وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة. فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس. وليس كل رجل رجلاً بحتاً ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج الصفات وتتفق المزايا ويكون في الرجل بعض الأنوثة كما يكون في المرأة بعض الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي يروونها عن اليونان ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان وكيف كان هذا الخلط بين خلق الرجال وخلق النساء. فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى وليمة الأرباب فقضي ليله يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن ثم عاد عند الصباح مخموراً دهشاً فألقي عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه ولا حيلة في تأجيله، فأقبل على العواطف والجوارح يقذف ما اتفق له منها في الأهاب الذي يعرض له، ويرمي تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل، وهكذا حتى أتم عمله. . .)

إلى أن قلنا (وكأن (أوتو فيننجر) يقول ما تقوله هذه الخرافة حين شرح مذهبه في الحب، وقرر في كتابه الجنس والأخلاق أن لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتألف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء)

فالرسالة إذن قد وصلت إلينا راجعة إلى الوراء، وقد تعاد إلى مرسلها للاستغناء، ومعها ما يستحقه من الجزاء

والجزاء الذي يستحقه أنه الآن لم يحسن أدب اليونان ولا أدب الخطاب، وأنه لو تعلم هذه الخرافة كما تعلمها قراؤنا قبل سبع عشرة سنة لما لاكها في مقالة كما يلوكها الآن، ولأكل رزقه حلالاً بتعليم الأدب اليوناني الذي يعلمنا إياه في هذه الأيام، ويريد أن يعترف له بفضل فيه، وهو ينكر فضل السبق على ذويه بلد المفارقات، وهذا الرجل كتلك الآنسة من

ص: 4

هذه المفارقات. . .!

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌3 - الصيد في الأدب العربي

للدكتور عبد الوهاب عزام

وفي ديوان أبي نواس سبع وعشرون أرجوزة في وصف الكلب، وهو تارة يصف خلقة الكلاب وطباعها، وتارة يصف سرعتها وعملها في الصيد. منها الأرجوزة:

أفعتُ كلباً جال في رباطه

جَول مصاب فر من أسعاطه

عند طبيب خاف من سِياطه

هجنا به وهاج من نشاطه

كالكوكب الدريّ في انخراطه

عند تهاوي الشد وانبساطه

لما رأى العلهب في أقواطه

سابحه ومرَّ في التباطه

كالبرق يذري المرو بالتقاطه

مثل قليّ طار في أنفاطه الخ

فهو يشبه الكلب في نشاطه واضطرابه ومحاولة الإفلات من الرباط بمجنون يستعصي على طبيبه ويفر من دوائه ومن بطشه

ثم يشبهه في انقضاضه سريعاً بالكوكب ويقول إنه حين رأى التيس البري في قطعانه عدا فمرا معاً يسبحان عدوا، واستمر الكلب يضرب الأرض بيديه فيطير الحجارة الرقيقة كما تتطاير الفقاقيع عن السمن الذي يغلي على النار. وهو وصف عجيب دقيق

ولا يتسع المجال لإثبات الأرجوزة كلها والتمثيل بأبيات من الأراجيز الأخرى

ولأبي الطيب طرديات قليلة، منها أرجوزة يصف فيها كلباً يصطاد ولم يشهد الصيد ولكن أخبر به. وهو وصف إن فاته صدق المشاهدة فهو دليل على خبرة شعرائنا بالصيد وكلابه، ومعرفتهم بحركاته معرفة تيسر لهم الوصف بالغيب. قال واصفاً الكلب:

فحلَّ كلاّبي وثاق الأحبُل

عن أشدق مسُوجَر مسَلسل

أقبَّ ساطٍ شرس شمردل

مؤجْد الفِقرة رِخو المِفصَل

له إذا أدبر لحظُ الُمقبل

كأنما ينظر من سَجَنجَل

يعدو إذا أحزن، عَدوَ المُسهل

إذا تلا جاء المدى وقد تُلى

يُقر جلوس البدوي المصطلى

بأربع مجدولة لم تُجدَل

يكاد في الوثب من التفتُّل

يجمع بين متنه والكلكل

وبين أعلاه وبين الأسفل الخ

ص: 6

فانظر كيف يصف خلقه الكلب وحركته، وتأمل الغلو في قوله له إذا أدبر الخ فقد ادعى أن الكلب في سرعة حركاته مقبل مدبر معاً فكأن الرائي يراه ويرى صورته في مرآة فيرى شكلين أحدهما مدبر والآخر مقبل

وقد افتن الشعراء في وصف حيوانات الصيد الأخرى كالفهد وجوارح الطير من البازي والباشق واليؤيؤ والعقاب الخ. ومن هذا وصف العقاب في شعر أبي الفرج الببغاء:

ما كل ذات مخلب وناب

من سائر الجارح والكلاب

بمدرك في الجد والطلاب

أيسرَ ما يدرك بالعُقاب

شريفة الصبغة والأنساب

تطير من جناحها في غاب

وتستر الأرض عن السحاب

وتحجب الشمس بلا حجاب

يظل منها الجو في اغتراب

مستوحشاً للطير كالمرتاب

ذكية تنظر من شهاب

ذات جران واسع الجلباب

ومنكِب ضخم أثيث رابي

ومَنسِر موثَّق النصاب

وراحتي ليث شرّي غلاَّب

نيطت إلى براثن صلاب

مرهفة أمضى من الحراب

وكل ما حلَّق في الضباب

لملكها خاضعة الرقاب

وأبو الفتح كشاجم من أكثر الشعراء ولعاً بالصيد، وله فيه كتاب. ومن شعره في وصف الباشق، وهو ضرب من البزاة:

يسمو فيخفي في الهواء وينكفي

عجلاً فينقض انقضاض البارق

وكأن جؤجؤه وريش جناحه

خضبا بنقش يد الفتاة العاتق

وكأنما سكن الهوى أعضاءه

فأعادهن نحول جسم العاشق

ذا مقله ذهبية في هامة

محفوفة من ريشها بحدائق

ومخالب مثل الأهلَّة طالما

أدْمين كف البازيارِ الحاذق

وإذا انبرى نحو الطريدة خلته

كالريح في الأسماع أو كالبارق

وإذا دعاه البازيار رأيته

أدنى وأطوع من محب وامق

وإذا القطاة تخلفت من خوفه

لم يعد أَن يهوى بها من حالق

ص: 7

وللأرجاني قصيدة وصف فيها من حيوان الصيد الطير والفهود والكلاب. مطلعها:

ولما نضا الأفق برد الظلام

ساروا إلى خيلهِم باللجم

وهي قصيدة ممتعة

وللشعراء أساليب في وصف آلات الصيد والحيوانات التي تصاد لا يتسع المقال للتمثيل لها

وأبرع شعر الصيد ما وصف أفعال الصيد من الإحاطة بمواضيع الصيد وحشر الوحش إلى المضايق، ثم تسليط الحيوان والآلات عليها، والعلاقة بين الصائد والمصيد، وظفر الصائد بطلبته، ونحو هذا. وفي شعرنا من هذا الضرب صور عجيبة رائعة نعرض فيما يلي صوراً منها.

(للكلام بقية)

عبد الوهاب عزام

ص: 8

‌1 - حكاية الوفد الكسروي

لأستاذ جليل

أنا ما جزمت في عزو (الخبر) إلى ابن بكار بل سألت وفرضت: جئت ب (هل) الاستفهامية، و (إذا) الظرفية الشرطية فقلت:(هل صاحب ذلك الكتاب هو الصائغ المحسن) وقلت: (وإذا ثبت قول (السليماني) في ابن بكار فمن يضع الحديث النبوي يضع الحديث الأدبي) وأوردت حديث (العلانية) وتركت القضاء للوقت حتى يثبت أو ينفي. وفي هذا الأسلوب في النقد الإنصاف كله. وبنيت على الشك والفرض لأني لم أقف على (كتاب وفود النعمان على كسرى)، ولم أجد رواية صحيحة تهديني إلى الحق في أمر النسبة. وإذا عز اليقين ظننا. وليس ظن الناقدين والباحثين في العلم من الظنون التي ذمها (الكتاب)، ولم أقصد زراية على القاضي في كل ما خططت وليست صفاته الطيبة بمانعته أن يضع، فقد كان الوضع في الحديث والأخبار والأشعار شرعة القوم. وهنالك كثيرون من الواضعين هم أقضى من الزبير بن بكار وأتقى وأكبر وأشهر. وهذا بحث طويل أدعه اليوم فله زمان سيظهر فيه إن شاء الله

وقلت: هل ابن بكار صاحب كتاب وفود العرب على كسرى هو الصائغ. ولم أقل هل ابن الكلبي صاحب (كتاب الوفود) هو الواضع لأسباب:

1 -

عبارة الخبر أقرب إلى زمان ابن بكار، وأسهل من عبارة ابن الكلبي

2 -

وضوح التسمية

3 -

تنسيق في الخبر جلبه الوقت وارتقاء التأليف فقد كاد يكون رواية تمثيلية، وقد أنشأ أديب عصري منه رواية

4 -

لم أجد الخبر في كتاب (الأغاني) ولم يرو أبو الفرج منه شيئاً، ولم يشر إليه في مكان، والظن أن لو رآه في (كتاب الوفود) وكان فاته. وقد روى من دواهي ابن الكلبي ما روى

وأما عزو الخبر إلى ابن الكلبي أو أمثال ابن الكلبي فهذا من براعة كل واضع بعده فقد اشتهر الرجل في الأخبار والأسمار والأنساب، والعنعنة أول شرط لمن يضع. والرواة المتقدمون كثيرون فلكل صائغ أن يربط خبره بمن أحب. فأبو حيان التوحيدي حين اتكل

ص: 9

على الله وزخرف رسالة أبي بكر إلى علي (رضوان الله عليهما) أسندها إلى القاضي أبي حامد المروروزي يرويها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي عبيدة بن الجراح

وهذا الإمام أبو بكر بن دريد ربط كثيراً من أساطيره المبثوثة في كتاب (الأمالي) لأبي علي القالي بابن الكلبي وربط طائفة منها بغيره. فمما عزاه إلى هشام هذا أسطورة ما وقع من المفاخر بين طريف بن العاصي الدوسي والحارث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير، وأسطورة ما وقع بين سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب من المخاصمة بمجلس مرثد الخبر وأسطورة حديث خنافر الحميري مع رئية شصار. وعزا أبو بكر غير ذلك من الأخبار إلى ابن الكلبي. ومما رواه عن العتبي عن أبيه (خبر غسان بن جهضم مع ابنة عمه أم عقبة) وهو رواية ختمت حوادثها بالانتحار كما نشاهد في روايات غريبة تمثيلية

وأساطير ابن دريد في الأمالي كلها هو أبوها وأمها. وقد قلت ذات مرة للعلامة الأستاذ الكبير أحمد أمين بك: هذه الأخبار التي أنشأها ابن دريد ورواها أبو علي في أماليه مصنوعة

فقال (حفظه الله): الذنب ذنب الناس هو قدمها أساطير وهم أخذوها حقائق أو كما قال

وأنا أسأل في هذا المقام: هل أملى ابن دريد في مجلسه هذه الأخبار على القالي وغيره من تلاميذه أساطير مصنوعة معلناً ذلك كما أملى البديع الهمداني وابن الحريري مقاماتها فلما رواها أبو علي في كتابه تلقفها الناس أحاديث صحيحة، والتبس الأمر؟

وأما الصواغ العظيم ابن الكلبي فهذا مما قيل فيه:

وهشام ابن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر الإخباري النسابة العلامة روى عن أبيه أبي النضر الكلبي المفسر وعن مجاهد. وحدث عنه جماعة. قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب نسب وسمر ما ظننت أن أحداً يحدث عنه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً قال: أسر إلى حفصة أن أبا بكر ولي الأمر من بعده وأن عمر واليه من بعد أبي بكر، فأخبرت بذلك عائشة رواه البلاذري في تاريخه. وهشام لا يوثق به وقيل: إن تصانيفه أزيد من مائة وخمسين مصنفاً، مات سنة أربع ومائتين)

ص: 10

وابن عبد ربه الذي نقل حكاية الوفد الكسروي مصدقها هو الذي روى خبري (وفود عبد المسيح على سطيح ووفود قريش على سيف بن ذي يزن) مؤمناً بهما، وهذان الخبران يوضحان حالهما، وينبئان بصدقهما. ويناديان أنهما قد سبقا في الصحة والتحقيق خبر وفود النعمان وإضامته (جماعته) التي أوفدها على شاهنشاه لتثرثر قدامه متنفحة. ومن روى غير هياب تينك الأسطورتين روى هادئ البال الأسطورة النعمانية الكسروية. وقد قلت من قبل في سطيح وصاحبه شق قولي، فليعاود من أراد تلاوته. وهذا مما جاء في قصة وفود قريش، وروايته محسبة كافية لا تسأل نقداً ولا تقييداً

(. . . ثم انتبه (سيف) إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم، فخلا به، وأدنى مجلسه، وقال. يا عبد المطلب، إني مفض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح به، ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه، فليكن مصوناً حتى يأذن الله فيه. . . إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا. . . خبراً عظيماً. . . فيه شرف الحياة. . . للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة. قال عبد المطلب: ما هو؟ فداك أهل الوبر قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة إلى يوم القيامة. قال: أبيت اللعن. لولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة. قال: هذا حينه الذي يولد فيه أوقد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه. . . والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً،. . . يفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد الأديان. . . ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمان. قال فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح، قال: والبيت ذي الطنب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب قال عبد المطلب: أيها الملك، كان لي ابن كنت له محباً. . . فزوجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب. . . فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كل ما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك، وأحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا. . .)

وسيد هذا الوجود ومعناه مستغن بالله وبكتاب الله عن تكهن المتكهنين، وصوغ الصواغين، وزخرفة محدثين

وسند ابن عبد ربه في هذا الخبر: (نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك عن

ص: 11

سفيان الثوري. قال: قال ابن عباس)

وقد روى هذه الأحدوثة أبو الفرج في أخبار أمية ابن أبي الصلت وسند (كتاب عبد الأعلى بن حسان قال حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس)، وحدث أبا الفرج به محمد ابن عمران بإسناد ليس يحفظ الاتصال بينه وبين الكلبي فيه كما قال

وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني هو الذي أفاد أدباء العرب وكتابهم وشعراءهم، وشهر أمتنا وخلفاءها ورجالها برواياته المزخرفة. (لا سامحه الله)

(ن)

ص: 12

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

جاذبية الشواطئ المصرية - أعجوبة الأعاجيب

جاذبية الشواطئ المصرية

من الواضح أني لا أستطيع الإجابة عن جميع أسئلة القراء، ولو أني استطعت ذلك لتحولت مقالاتي إلى موضوعات يغلب عليها الضجيج، ومع ذلك فسأرد على الأستاذ أحمد فتحي القاضي، لأنه احتكم إلى الشريعة في وجوب رد التحية، ولأن الرد عليه يوضح مشكلة تحتاج إلى توضيح

والأستاذ غاضب على وما وقع مني في الدعوة إلى الاصطياف، ويقول إن كلامي في التغني بجاذبية الشواطئ لم يقع من أهل الصعيد موقع القبول، ويصرح بأنه كان ينتظر أن أكون من الثائرين على حياة الشواطئ، وقد صارت ملاعب للنساء العاريات، كما قال!

وأقول إني أحترم عواطف قرائي كل الاحترام، ولكن مذهبي في الأدب يأبى عليَّ أن أبحث عما يرضي قرائي، فالغاية عندي هي الصدق في التعبير عما يختلج في صدري، ويطمئن إليه قلبي، ولو كان فيه ما يغضب جميع القراء. . . ألم أقل لكم إني لست أسيراً للوطن ولا أجيراً للمجتمع؟

وماذا أصنع إذا كنت أومن بأن الشواطئ المصرية من أجمل ما خلق الله؟

وماذا أصنع وأنا أعتقد أن زيارة الشواطئ المصرية تزيد في قوة العقل والفكر والذوق؟

وهل يرضيني أن أفعل ما يفعل الشيخ أبو العيون وهو يتوهم أن زيارة الشواطئ تفسد الأخلاق؟ إن الشيخ أبو العيون يغرق في كوز ماء فكيف نسمع كلامه في البحر المحيط؟

هل تعرفون أن الشيخ أبو العيون لم ير الشواطئ مع أنه يعيش في الإسكندرية منذ سنين، ومع أنه أبو العيون؟

آن الوقت لأن نسمع هذا الرجل الطيب كلمة الحق. آن الوقت لأن ننهاه عن الغض من حياة الشواطئ وهي نعمة عظيمة منَّ بها المنعم الوهاب على أهل هذه البلاد

هذا الرجل الطيب يتكلم باسم الدين، فهل يستطيع أن يدلني لأي حكمة خلق الله تلك

ص: 13

الشواطئ بذلك المهاد الجميل؟

هذا الرجل الطيب يعرف أن السباحة رياضة بدنية، وهو مع ذلك يعجز عن السباحة في الخيال

نفرض أن حياة الشواطئ تفتن بعض الناس، فهل يجب أن نقتلع الجذور من كل جمال يدعو إلى الفتون؟

ما رأيه في القمر وقد قيل إنه يهيج الصبوات؟

أنجرّد حملة لإسقاط القمر من أفق السماء؟

ما رأيه في الأزهار وقد قيل إن عطرها يوقظ الشهوات؟

أنجتث كل شجرة مزهرة لتنام عيون أبي العيون؟

الآذان تؤهل لسماع النمائم، فهل نصلم جميع الآذان؟

والجسم السليم يؤهل للمعاصي، فهل نحول الخلائق إلى مهازيل ومعاليل؟

كل نعمة تعرض صاحبها لمتاعب أخلاقية، فهل نطلب زوال النعم لتستقيم الأخلاق؟

إن أبا العيون الواعظ يحتاج إلى واعظ، فأنا أخشى أن يغضب الله عليه إن استمر على هذا الأسلوب، من الوعظ المقلوب

أفي الحق أن الشواطئ ليست إلا مباءة رجس وخلاعة ومجون؟

أهذا كل ما يتصور الباكون على الأخلاق بدموع التماسيح؟

أين إذاً الشعور بجلال الله وجمال الوجود عند زيارة الشواطئ؟

أنتم تدعوننا لزيارة المقابر لنتعظ، ونحن ندعوكم لزيارة الشواطئ لتهتدوا

ضميري لا يسمح بأن أرائي قرائي، فليسمعوا كلمة اللوم على غفلتهم عن الاصطياف، وليسمعوا كلمة الصدق في دعوتهم إلى تنسم هواء البحر من حين إلى حين

أما الخوف من اللؤلؤ المنثور فوق الشواطئ فعلاجه سهل، وهل يصعب عليكم أن تدخلوا الشواطئ بلا عيون؟

عندكم الأقنعة الواقية، وقد وزعتها عليكم الدولة بالمجان منذ سنتين، فالبسوها عند زيارة الشواطئ، لتكونوا في أمان من سحر الجمال ولكن تلك الأقنعة فيها ثقوب تطل منها العيون، فماذا تصنعون؟

ص: 14

الرأي أن تظلوا في مراقدكم، وأن تتركوا هواء البحر ورمال الشواطئ لعقلاء الأجانب

ماذا يقول أحفادنا إذا قرءوا هذه الكلمة وعرفوا أن الاصطياف كان معضلة تختلف فيها الآراء؟

لو كانت الشواطئ المصرية بأيدٍ غير أيدينا لأصبحت فراديس تصبو إليها نجوم السماء، فما يمكن أن تكون في الدنيا شواطئ في سجاحة الشواطئ المصرية، ولا يمكن أن تنعم بلاد بمثل ما ينعم به أهل هذه البلاد من شواطئ تفوق الإحصاء

وماذا يرى الرائي في الشواطئ؟

قالوا إنه يرى أجساماً عارية

الآن فهمت وفهمت، فقد طال غرام الناس بالتحجب والرياء، لأن اعوجاجهم في ضمائرهم فرض عليهم أن يعيشوا في أسر الأثواب

الكلمة الصريحة لا تصدر إلا عن صاحب الرأي الصريح

والجسم العاري لا يتخايل به غير صاحب الجسم الجميل

والمصريون فكروا في التزود من جميع الثقافات، وأهملوا الثقافة الجسدية، فما الذي يمنع أن يكون في الشواطئ تذكير بما للجسد من حقوق؟

في رؤية اللاهين فوق رمال الشواطئ درسٌ ينفع من تركوا أجسادهم بلا تثقيف، وهو درس يحتاج إليه الشيخ أبو العيون

يجب أن نرى العراة فوق الشواطئ لنتذكر جنايتنا على أجسادنا بترك الرياضة البدنية!

هل تذكرون السيدة التي أثنت على القرار الخاص بتخصيص أحد الشواطئ لاستحمام النساء؟

هي سيدة لا تستطيع البروز بلباس البحر ولو كان جوازاً إلى دار الخلود!

أكتب هذا الكلام وأنا أعرف أن أناساً من خلق الله سيعترضون، كما اعترض المحامي الذي يراسلني من منفلوط؛ أكتب هذا الكلام وأنا أعرف أنه يصورني ظلماً بصورة الماجنين، مع أني صادق كل الصدق فيما أقول، فالشواطئ المصرية نعمة من نعم الله، وما يقع فيها من الشر لا يقاس إلى ما تسوق من منافع الخير الصحيح

لو شئت لعتبت على قرائي: فالشاعر أحمد العجمي يقول إني مجَّدت الإسكندرية أعظم

ص: 15

التمجيد، فهل زار الإسكندرية ليراها بعيني؟ والمحامي أحمد القاضي آذاه كلامي عن الإسكندرية فهل زارها ليعرف حقيقة كلامي؟

زوروا الإسكندرية، وقفوا لحظات أو ساعات بمحطة الرمل

كان أبعد سفر عند أهل الصعيد هو زيارة طنطا في مولد السيد البدوي، فهل أستطيع نقل أهل الصعيد إلى زيارة أبي العباس المرسي؟

إن كانت الدعوة إلى الحياة خلاعة ومجوناً فأنا راض بأن أضاف إلى الخلعاء والماجنين. . . وهل يؤذيني الظن الآثم، والجهل الطائش؟

أنا أدعو إلى الحياة. أنا أدعو كل مصري إلى تذوق الجمال بكل بقعة من بقاع هذا الوادي الجميل

في السماء رزقي، فما خوفي من أهل الزور والبهتان؟

أعجوبة الأعاجيب

هي أن تكتب كلمة يفهمها جمهور القراء على الوجه الصحيح

ثم تستغلق على محرر مجلة أسبوعية فيؤولها أسوأ تأويل، وتكون النتيجة أن يبني عليها أحكاماً أوهى من بيوت العنكبوت، وهو يتوهم أنه غاية في اللذوعية والذكاء

ولهذه الأعجوبة قصة قريبة، فقد كنت كتبت في رثاء تقلا باشا سطوراً أبرزت بها خصائصه الذاتية، الخصائص التي جعلت حياته قدوة لرجال الأعمال، وكان الروح الذي يسود تلك السطور يفيض بمعاني العدل والإنصاف والإجلال، وإن خلا من الندب واللطم والصراخ، على نحو ما صنع المحرر لتلك المجلة الأسبوعية

كان الظن أن يفهم بعض خلق الله أني أرثي تقلا باشا في مجلة الرسالة، والرسالة تترجم من ترثيهم، فجوها يصلح للترجمة ولا يصلح للبكاء، وهل يحتاج تقلا باشا إلى من يبكيه؟ إنما يحتاج إلى مثل هذا الرجل إلى من يظهر الشمائل التي وصلت به إلى أن يكون في الطليعة بين رجال الصحافة في الشرق، وليس ذلك بالمجد الضئيل، حتى تكمله بالتوجع والتفجع والأنين

ولكن ذلك المحرر رأى بذهنه الثاقب أن كلمتي تحتمل التأويل، فانتهز الفرصة وتقرب إلى أقارب صاحب (الأهرام) بالشفقة المكذوبة والود المدخول، فزعم أني هجمت على ميت، ثم

ص: 16

تطاول فقال كلاماً يدل على أدبه الجميل

وأردت أن أصحح خطأه فكتبت كلمة تصحيح، ولكنه عاند عناداً يقبل ممن يكون في ملئ عقله فألقاها في سلة المهملات، لأني هددته بنشر ما اعترض عليه، عساني أجد الفرصة لتقويم بعض المحررين

وأحب أن أعرف ما هي الغاية من الإيقاع بين الناس؟

قلت لذلك المحرر: إن لي أصدقاء في جريدة الأهرام على رأسهم أنطون الجميل وكامل الشناوي وعوض جبريل، فكيف يسيغ ذهنك أني أستبيح إيذاء أولئك الأصدقاء في مناسبة لا يجوز فيها إيذاء الأعداء؟

وقلت لذلك المحرر: إني لا أهجم إلا على الأقوياء من الأحياء، فكيف أهجم على ميت لا أذكر أني عاديته لحظة من زمان؟

وقلت لذلك المحرر: إني رثيت تقلا باشا وأنا أتمثل ما عانى في حياته الصحفية، فما يجوز أن أقول فيه غير الجميل، وإن التبس كلامي عليك

وقلت لذلك المحرر: إن لتقلا باشا أقارب من أصدقائي في القاهرة وبيروت، وأنا أتحيز دائماً لأصدقائي، فليس من المعقول أن أوذيهم في مثل هذا المقام الحزين

وبرغم هذه الشروح أصر المحرر على إغفال كلمة التصحيح، فما الأخلاق عندكم يا محرري بعض المجلات الأسبوعية؟

ما الأخلاق عندكم وقد أهمل ذلك المحرر رجائي في أن لا يدس بيني وبين ناس محزونين؟ وما هذا الإفك في الإفساد بين الناس؟

أنا حاضر لمخاصمة جريدة الأهرام، ولكني أرفض أن يقال إني أخاصم صاحبها في غداة الموت، وليس لحي بقاء

وما قيمة التودد لجريدة الأهرام بمثل هذا الدس الممقوت؟

أيكون لجريدة الأهرام قوة سحرية تمنع العواقب المقدورة على الدساسين؟

القدرة الصحيحة هي قدرة الحق، فما شأنك يا كاتباً أفلس فلم يجد زاداً غير الوقيعة بين كرام الرجال؟ ما شأنك ولن تكون كاتباً ولو سودت وجهك بالمداد في ألوف من السنين؟

ما عتبي عليك، وقد نصحتك فلم تنتصح، بعد أن رأيت ما صنعت بنفسك، يوم صورت

ص: 17

شعورك بأول غارة جوية؟

ما عتبي عليك، وقد خاب أملي فيك؟

لقد فكرت في أن أشرح لك العبارة التي عجزت عن وعيها فهمك، ولكني خفت أن تعجز عن فهمها بعد الشرح

وقد فكرت في النص على المجلة التي تتسع لأوهامك وأحلامك، ولكني ترفقت فلم أدل على مجلة كان زادها ولن يزال من عبث الأطفال

إن كلمتي في رثاء تقلا باشا كلمة حق، لأني رثيته باسم الحق، فما قيمة كلماتك في رثائه وأنت ترائيه في الحياة وبعد الممات لغايات؟

عفا الله عنك يا فلاناً بالمجلة الفلانية!

ونفعك الله بهذا الدرس البليغ!

زكي مبارك

ص: 18

‌الكأس المسمومة

للأستاذ سيد قطب

أقلاكِ أقلاكِ كالشيطان أقلاك

أقلاك كالسم يسري جدّ فتّاكِ

أقلاك: إنك في نفسي وفي زمني

وفي حياتي أفعى ذات أشواكِ

سمّمت عيشي وأحلامي وأخيلتي

وأنت شيطانة في سمت أملاك

وعشتُ أرعاك في قلبي وأنت بلا

قلبٍ يحس ويرعى كيف أرعاك

من أنت؟ ما أنت؟ إني حائر قلق

أأنت أسطورة فيِ سفْرِ أفّاكِ؟

أنسى الليالي التي قضيتُها قلقاً

وأنتِ ساكنةٌ راضٍ مُحيّاك

أنسى الدموع التي أرسلتها غَدَقاً

ولست لولا هواكِ المرُّ بالباكي

وكبريائي التي ما كنت أخفضها

من قبلُ أو بعدُ في دنياي لولاك

أنسى. وأذكر أحلامي وأخيلتي

كأنهن نجوم بين أحلاكِ

وكلهن نسيجُ الوهم في خلدي

ولَسنَ غيرَ أحابيلٍ وأشواك

أقلاك؟ ليت! فإني لست أقلاك

أهواك؟ ليت! فإني لست أهواك

أهوَى وأقَلي وأيامي موزعة

بين الهوى والقِلي كالضاحك الباكي

هذا الرحيق وهذا السم قد مزجا

ولست أرْوَى بكأسٍ غير ريّاك

هاتي ليَ السمَّ صرفاً لا يمازجه

هذا الرحيقُ فإني لستُ بالشاكي

مللتُ كأسكِ لا ألتذّ نشوتها

ولا أحطِّمُها تحطيم سفّاك

ص: 19

‌الأدب والسينما

للأستاذ دريني خشبة

استدرك أحد كرام القراء فنشر في الرسالة تعليقاً على مقالي عن صحفنا الممتازة نفى فيه صلاحية السينما للأدب لانقطاع العلاقة بينهما في زعمه، وربما حدا به إلى هذا الرأي ما يظنه من أن الأدب إنما ينبغي أن يكون أسلوباً وتعبيراً كلامياً قبل أن يكون موضوعاً، وإن لم يصرح بهذا في الكلمة التي نشرتها الرسالة له. والعجيب أن يأخذ الكثيرون بوجهة النظر هذه في العلاقة بين الأدب والسينما، ولست أدري ماذا تكون الرواية السينمائية إن لم تكن أدباً يختلف في أدائه من الأدب المسرحي كما يختلف في أدائه أيضاً من أدب القصة. ومعظم المتأدبين العرب ممن لا يعرفون الآداب الأجنبية ينظرون إلى الأدب في هذه الحدود الضيقة التي لا تخرج به عن المقالة أو القصيدة أو العظة القصيرة أو الرسالة أو المقامة أو ما شابه ذلك مما تحويه كتب الأدب العربي، وقد مضت قرون طويلة قبل أن تدخل القصة في أدبنا، وإن تكن قد دخلته هذا الدخول المقدس عن طريق القرآن الكريم والأحاديث القدسية وعن طريق رواية أخبار المتقدمين، تلك الرواية التي هي إلى التاريخ أقرب منها إلى الأدب؛ قلما دخلت القصة في الأدب العربي عن طريق الترجمة في العصر العباسي بكتاب كليلة ودمنة، ثم بكتاب ألف ليلة فيما بعد، لم تحفل بها تلك الطبقة المثقفة التي كانت مشغولة بالعلوم الدينية ورواية أشعار العرب عن كل شيء والتي كانت بعد كل شيء غير العلوم الدينية ورواية أشعار العرب وكل ما يصح أن تؤيد به الكتاب والسنة من فلسفة أو أثر لغوي، عبثاً لا طائل وراءه ولا خير فيه، ولذلك فشا كتاب ألف ليلة بين العامة الجاهلة وانصرفت عنه الخاصة المستنيرة، كما حبس كليلة ودمنة على تأديب أبناء الملوك والخاصة من الوزراء، فلم ينشر في دائرة واسعة من طبقة الأدباء التي كان يحتمل أن تقلد ما فيه أو تنشى على غراره، وتولى أدباء من المصريين والمغاربة تأليف قصص على نهج ما جاء في ألف ليلة، فحشدوا لها أساطير الجن والسحر، وداعبوا بها الغرائز الجنسية، مما يفتتن به غير العامة، ويأنف من قراءته الخاصة، ثم ألفت الملاحم العربية والمصرية على نحو المبالغة والتهويل كان سبباً في استعلاء الخاصة عنها كذلك. وهكذا ظل أدب القصة غريباً على الأدب العربي حتى عصرنا الحديث الذي ترجمت فيه بعض

ص: 20

الروائع من قصص العرب فأظهرتنا على الفرق الشاسع بين أدبنا والآداب الأوربية. . . أدبنا القليل الغور. . . أدبنا الممزق الذي لا تمسك أجزاءه وحدة، والآداب الأوربية العميقة المتماسكة، ثم كان أن أقبل بعض كتابنا على تأليف القصص فنجح منهم عدد غير قليل، وإن كانت القصة الطويلة التي تضارع القصة الأوربية لم تدخل في أدبنا بعد. . . على أن الرواية التمثيلية ظلت بمنأى عن الأدب العربي على الإطلاق، إلا ما حاوله بعض أدبائنا المجتهدين إبان نهضتنا التمثيلية من تلك الدرامات الفجة المسجوعة السمجة التي كانت تؤديها بعض فرقنا الإقليمية. ثم حاول بعض أدبائنا الجدد أن يغذوا المسرح المحلي بقطع من إنتاجهم، ولم يكادوا يفعلون حتى ثبط هممهم بخس مديري الفرق لجهودهم وعدم تشجيع الحكومة لهم، ولأن الحركة المسرحية المنظمة التي من همها خدمة اجتماعنا وخدمة لغتنا وآدابنا لم تخلق بعد. فانصرف الأدباء عن التأليف المسرحي غير مأجورين ولا مشكورين، بل انصرفوا والحسرة تملأ نفوسهم، والغيظ يشق مرائرهم. وهذا كله هو الذي حفزنا إلى الدعوة للأدب المسرحي، والأهابة بكل من يستطيع مؤازرتنا أن يعضدنا في هذه الدعوة، وأن يضم جهوده إلى جهودنا، عسى أن تستيقظ وزارة المعارف وأن تنتبه وزارة الشئون، فتعلما أن النهضة المسرحية هي أساس كل نهضة اجتماعية، وأنها تخدم لغتنا وأدبنا وثقافتنا بما لا يستطيع أن يخدمها به شيء آخر. ولما كانت السينما اليوم أكثر انتشاراً في مدننا من المسارح، ولما كانت لهذا السبب أبعد خطراً في نفوس الجماهير منها وجب ألا تقل عنايتنا بها عن عنايتنا بالمسرح، ووجب أن نلفت أنظار الأدباء إلى الإنتاج السينمائي بقدر ما نلفتهم إلى الإنتاج المسرحي، لأن الغاية واحدة وإن اختلف الأداء، ولأن الأديب وحده هو الذي يستطيع أن يضطلع بتأليف القصة المحبوكة الشائقة التي هي المعين الأول للرواية السينمائية، تلك القصة التي يتولى إعدادها (عمل السيناريو منها) للسينما فنان آخر غير المؤلف، بحيث يكفيها تكييفاً لا يخرج بها عن الأصل قط وإن رتبها الترتيب السينمائي الذي لا بد منه لكمال هذه الصنعة، فالقصة السينمائية من الوجهة الموضوعية أدب محض، ثم هي أدب محض من حيث أسلوبها كذلك؛ وهي، وهم يشترطون أن يكون واضع السيناريو من القصة الأدبية أو الدرامة المسرحية للسينما أديباً واسع الاطلاع له إلمام تام بأساليب الكتابة وأساليب الحوار على السواء، كما ينبغي أن يكون قديراً في دراسة

ص: 21

الأشخاص متبحراً لذلك في علم النفس، بحيث يستطيع أن يفهم روح المؤلف الذي تعتبر القصة قطعة من نفسه ومرآة لفنه. ولذلك ترى القصة التي تعد للسينما عملاً أدبياً صرفاً من كل وجهه، بل هو عمل أدبي يصدر أولاً عن روح المؤلف، ثم يتعاون في إعداده واضع السيناريو ثم المخرج ثم المصور ثم هذا الجيش العرمرم من العمال والمهندسين الذين يحسن، بل يجب أن يكونوا ممن يتفهمون الأدب ويسيغونة لأنهم شركاء في إنضاج هذه الثمرة الأخيرة التي تعرض على الشاشة البيضاء، فإما أن تنجح كعمل أدبي وإما أن يقضى عليها بالفشل الذريع

فالمباعدة إذن بين الأدب وبين السينما وهم لا أصل له. ثم هو وهم أقصى عن التأليف للسينما كبار كتابنا وأحسن قصاصينا، وإلا فماذا كتب للسينما طه حسين ومحمود تيمور ولاشين ومحمود كامل ويوسف جوهر وتوفيق الحكيم، ومن إليهم من الأدباء الشباب والأدباء الكهول على السواء؟ لقد انصرف هؤلاء عن التأليف للسينما، فكانت النتيجة أن وكلت شركات الصور إلى مؤلفي الدرجة الثانية كتابة قصصهم، وكانت النتيجة أيضاً تلك الأشرطة المخزية بموضوعاتها وإخراجها وتهريجها. . . وغاب عن أئمة كتابنا أن أدب هذه الأشرطة هو الذي يمثل اليوم أدب القصة المصرية في الداخل والخارج أمام ملايين المتفرجين، وهو تمثيل يضع أدب القصة المصرية السينمائية في الوحل، وينشر ضدنا دعاوة سيئة بين شعوب شقيقة كانت تقدرنا أحسن التقدير فانتهت إلى الرثاء لنا إن لم تكن السخرية بنا. ومما يدعو إلى الأسف أن يضطر الإنسان إلى تسجيل انصراف طبقة كبيرة من المصريين المثقفين الممتازين عن شهود الروايات المصرية التي تعرض في دور السينما المختلفة. وذلك لما بلوه مراراً من انحطاط موضوعاتها وضعف تأليفها، وبعد الشقة بينها وبين الأفلام الأجنبية التي تغذوا سوق السينما المصرية وتنهب أموال المصريين نهباً تستحقه أحياناً ولا تستحق منه مليماً أحياناً كثيرة. . . والجيد من تلك الأفلام يفضح صناعة السينما في مصر بقدر ما يفضح المؤلفين المصريين. وهذا الجيد كثير جداً مع الأسف، وهو يعرض علينا ألواناً رائعة من الأدب الأمريكي والأدب والإنجليزي والأدب الفرنسي والأدب الروسي، ومن سائر الآداب العالمية التي اشتهرت بثروتها في القصص والدرامة بقدر ما اشتهر الأدب العربي في هذه الناحية، ذلك الفقر الذي عللناه في صدر هذا المقال،

ص: 22

والذي لا يريد كبار أدبائنا إنقاذنا منه وستر فضيحتنا فيه. . . ولست أدري لماذا لا يتصل كبار أدبائنا بالسينما والتأليف السينمائي؟ ولست أدري كذلك لماذا لا يتصل مديرو الشركات السينمائية بهؤلاء الكتاب الكبار ويغرونهم بالمال الوافر والثراء الجم والربح الكثير إذا هم كتبوا لهم قصصاً طويلة تمثل حياتنا وتصورنا التصوير الصادق الذي لا يعرف الشعبذة ولا يدنو من التهريج ولا يفضحنا بين الأمم. إن شركات كثيرة في مصر تستطيع أن تسيل لعاب أحسن كتابنا بخمسمائة أو بألف من الجنيهات ثمناً لقصة يكتبها في شهر أو شهرين أو في ثلاثة أشهر. . . ومن قصصنا الجاهزة عدد كبير يصلح جداً للعرض السينمائي، وهو غني بموضوعاته، عظيم بأسلوبه، ثم هو بحالته الراهنة يصور من الحياة المصرية ألواناً مختلفة صادقة بحيث يزري بمئات من الروايات الأجنبية السمجة التي تضر تقاليدنا، وتفتك بأخلاقنا، وتشيع في نفوس شبابنا الرخاوة والطراوة والاستخذاء. يجب أن يدرك كل أديب مصري وطأة استعباد الأفلام الأجنبية لنا، ويجب أن يتعاون الأدباء مع الشركات في إنقاذنا من نير الأدباء الأجانب الذين يفرضون ثقافتهم وأفكارهم علينا، بكل ما في هذه الثقافة وتلك الأفكار من مزايا وأضرار، والذين ينسخون أدبنا القومي الناشئ بآدابهم الفتية الناضجة. . . إننا نحمي الصناعات المحلية الناشئة بزيادة المكوس، فلا أقل من أن نحمي إنتاجنا الأدبي بإغراء كبار الكتاب عندنا بالمساهمة في التأليف السينمائي، وإقناع الشركات المصرية بمضاعفة الأجور لهؤلاء الكتاب حتى يرفعوا مستوى القصة السينمائية ويجنبوها هذا الإسفاف الذي ينتهي إلى الرثاء والسخرية، وانصراف الطبقة المستنيرة عن شهود الروايات المصرية. . . على أن داعي الوطن واللغة والأدب كان ينبغي أن يقنع هؤلاء الكتاب وتلك الشركات بأن يسووا المسألة بينهم فيخدموا الوطن واللغة والأدب مخلصين، كما كان ينبغي أن ينظر إلى القضية من زاويتها الاقتصادية أيضاً، إذ أصبح من أشد الجهل أن تتعامى الدولة وتتعامى الأمة عن هذه الألوف الضخمة من الجنيهات التي تسلك سبيلها من جيوب المصريين إلى جيوب شركات السينما الأجنبية، تلك الألوف من الجنيهات التي كان ينبغي أن يكون لأدبائنا وشركاتنا كفل كبير منها إن لم يكن ينبغي أن يكون لهم معظمها. . . إن معظم دور السينما في القاهرة والإسكندرية وفي كثير من مدن الأقاليم هي دور أجنبية ونحن نشهد تلك الجموع الزاخرة من علية المصرين التي تتردد على تلك

ص: 23

الدور يومياً، وبالرجوع إلى دفاتر ضريبة الملاهي نعلم أن متوسط دخل إحدى دور السينما بالقاهرة يرتفع مرات كثيرة إلى خمسمائة جنيه مصري كل يوم أي إلى خمسة عشر ألفاً من الجنيهات شهرياً، وفي القاهرة أربع من دور السينما يقرب إيرادها اليومي من هذا المستوى، فإلى جيوب من تذهب هذه المبالغ الضخمة؟ إنها تذهب إلى جيوب الأجانب، وقل أن ينتفع المصريون منها إلا بأجور الخدم! فأي هوان ينزل بالقومية المصرية والكرامة الوطنية بعد هذا الهوان؟ هذا في الوقت الذي يتضور فيه كثير من أحسن أدبائنا جوعاً. . . وفي الوقت الذي يهدد فيه كبار الممثلين بهجر المسارح. . . من أجل أزمتهم المالية. . . ونحن لا ننكر أننا المسئولون قبل غيرنا عن هذه الكارثة، والمسئولية موزعة على الدولة والأدباء والشركات. . . فالدولة مقصرة لأنها تهمل المسرح المصري على النحو الذي بيناه في مقالاتنا الكثيرة السابقة، والأدباء مقصرون لأنهم لا يساهمون في التأليف القصصي والتأليف المسرحي، وهما دعامتا الإنتاج السينمائي، والأدباء الكبار يتركون للكتاب الصغار الذين لا يعرفون من فن القصة ولا فن الدرامة شيئاً مهمة إمداد السينما المصرية الناشئة بقصصهم المريضة الهزيلة، والشركات السينمائية مقصرة لأنها كانت تستطيع أن تغازل أدباءنا الكبار بشطر من أرباحها الوفيرة فينتجوا لها القصص الشائقة التي تضاعف مكاسبهم وترتفع بمستوى الشريط المصري الذي أصبح الشرق العربي كله يعتمد عليه في تغذية جماهيره بهذا اللون الحبيب من ألوان المتعة الذهنية

وأخشى ما أخشاه هو أن يكون أدبائنا الكبار أيضاً ينظرون إلى السينما كشيء لا تصله بأدبهم الرفيع صلة. . . تلك النظرة الفجة التي من أجلها كتبنا هذا المقال. . . وأخشى ما أخشاه هو أن يكون الحال كذلك، لأنهم جميعاً، إذا استثنينا الدكتور هيكل، لم يساهموا قط في نهضة السينما المصرية مع أن معظم الذين جربوا كتابة القصة من هؤلاء الكتاب قادرون على تغذية السينما بالروائع التي ترتفع كثيراً إلى أفق الرواية السينمائية الأجنبية، بل إن كثيراً من قصصهم التي انتهوا منها وقدموها للسوق الأدبية صالح للسينما المصرية، وهو إن قدم للسينما يرتفع بها ويستر هذا الخزي المؤلم الذي يشيع في الأشرطة المصرية بلا استثناء. . . وإنه لمن المضحك بل أنه لمن البله ألا تخرج شركاتنا المصرية قصة لأحد من كبار أدبائنا أمثال المازني وطه حسين ومحمود تيمور ومحمود كامل ولاشين

ص: 24

وجوهر ومن إليهم، في حين أنها تنفق جهودها الكبيرة على هذه القصص الخائبة والروايات المخزية التعسة التي تؤذي الأبصار وتصدع الرؤوس وتحط من سمعة الأدب المصري في كل مكان تعرض فيه على أقل الناس بصراً بالنقد الأدبي ومعرفة بفن القصة أو الدرامة. . . لقد آن أن ننظر إلى هذه القضية من ناحية الكرامة القومية أولاً، ومن ناحيتها الاقتصادية ثانياً. . . وقبل هذا وذاك، ينبغي أن ننظر إليها من حيث علاقتها الوثيقة بالأدب وبالنهضة التمثيلية. . . فالأشرطة السينمائية أدب صرف، وهي المرآة الجديدة التي نطلع فيها على نقائصنا ومزايانا، كما تطلع فيها جميع الأمم على تلك النقائص وهذه المزايا. . . ثم هي تصح أن تكون كتباً مصورة ناطقة حية يرانا فيها أحفادنا بعد مئات السنين، فإما أن يقدروا جهودنا إذا رأوا شيئاً حسناً وإما أن يضحكوا على جدودهم هازئين مستسخرين، وأحسبهم لن يفعلوا غير ذلك إذا لم تصلهم عنا هذه الأفلام المخزية التي ألفها لنا ولهم أنصاف المتأدبين منا وأرباعهم ومن لا تصلهم بالفنون الأدبية صلة ما. . . أما علاقة السينما بالنهضة التمثيلية فلا يجحدها أحد. . . وأقسم لو أن لنا ثقافة مسرحية غبر عليها روح طويل من الزمن، وأقسم لو أن لنا مسرحاً مصرياً محترماً يضارع في رقيه المسارح الأوربية أو المسرح الأمريكي. لكانت لنا نهضة سينمائية عالية كافية لأن تلفظ من ذاتها موضوعات تلك الأفلام المصرية التي أخرجت إلى الآن في غفلة من تأخرنا في هذا الميدان

ولا يفوتني قبل أن أختم هذه الكلمة في العلاقة بين الأدب والسينما أن أنوه بتاريخنا المليء الحافل بالأحداث الجسام، فقد آن لنا أن نخرجه مصوراً ناطقاً تشهده الجماهير فيثير فيها الكبرياء الوطني، وتطلع منه على ما لم تكن تعلم من مشاهد البطولة الوطنية وأمجاد العصور الخوالي، وما عمل الآباء والأجداد في سبيل مصر الخالدة من صنائع العزة وفعال العظمة. . . نحن إن صنعنا ذلك خلقنا عملاً أدبياً جليلاً لجميع كتابنا وأدينا لتاريخنا خدمة تخلد على وجه الزمان، ثم يسرنا لناشئتنا استذكار هذا التاريخ الطويل الذي نرهقهم بمذاكرته في بطون الكتب مع ما في هذه المذاكرة الصامتة التافهة البليدة من منافاة لروح التربية الحقة، وما تنتهي إليه من قلة الغناء. . . بعكس مشاهدة التاريخ المصور الناطق السينمائي الذي يلصق بالذاكرة، ويخلد فيها، وينمي في الطالب تلك الملكات التي يفتقر إليها

ص: 25

معظم الطلبة المصريين.

دريني خشبة

ص: 26

‌المشكلات

2 -

اللغة العربية

للأستاذ محمد عرفة

لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟

بينا في مقالنا السابق جهود رجال العلم والتربية في سبيل إصلاح تعليم اللغة العربية، تلك الجهود التي إن أخطئها التوفيق فلن يخطئها أن تكون حقيقة بالشكر وعرفان الجميل

إن هذه الجهود المختلفة دليل على عنايتهم باللغة العربية، وحرصهم عليها، ومعرفتهم بقدرها، ودليل على أنهم يحبون شباب هذه الأمة، ويودون أن يسهلوا عليهم ما صعب، ويقربوا إليهم ما بعد، وأن يسهروا ليناموا، وأن ينصبوا لهم ليجدوا السعادة والراحة

وهذا وحده جهد مشكور، وصنيع غير مكفور، جدير بالإجلال والتعظيم، سواء أوفقوا فيما حاولوا أم لم يوفقوا.

ورب قائل يقول: لقد وضعت أن المعاهد في مصر أخفقت في تعليم اللغة العربية، وأخذتها مقدمة مسلمة، وكانت بحاجة إلى أن تقيم عليها الدليل، فلعلها لم تخفق في تعليم اللغة، ولعلها نجحت أعظم النجاح، ولعل ما هو مشهور بين رجال التعليم من أنها أخفقت في هذه المهمة - من القضايا التي اشتهرت لغرض من الأغراض، فإذا نقدت تبين خطؤها. فلسنا نسايرك حتى تقيم الدليل على هذا الإخفاق

وأقول إني أوافق هذا القائل أنه لابد من أن يقام الدليل على هذه المقدمة، ولا يصح أن تترك دون بيان

إن المرء يكون قد أتقن لغة ما إذا كان يتكلم ويقرأ ويكتب بهذه اللغة، جارياً على قواعدها، مراعياً قوانينها، لا يلحن فيها ولا يخطئ، وأن المدرسة تكون قد نجحت في تعليم اللغة إذا كان الذين تخرجوا فيها جميعهم أو أكثرهم على هذه الصفة، فهل من تخرجوا في مدارسنا كذلك!

أما الكلام باللغة العربية فلا تكاد تجد أحداً يتكلم بها، فالشعب كله يصطنع في التفاهم والتخاطب اللغة العامية، وليس من الناس من يصطنع اللغة العربية إلا في الندرة وعلى سبيل الشذوذ، حتى أن دروس اللغة العربية تلقى بالعامية، فقد دخلت العامية على العربية

ص: 27

حجرات دروسها، وغزتها في معاقلها، وأخص الأماكن بها

ومن المضحك حقاً أن تجد مدرس النحو أو الصرف أو البلاغة أو مفسر النصوص العربية من شعر ونثر يلقي دروسه وقواعده بلغة عامية، لا يراعي ما يقول من قوانين، ولا يقوم لسانه بما يسرد من قواعد

فأما الكتابة والقراءة بها، فلا يقرأ باللغة الفصحى ولا يكتب إلا فئة قليلة، تمكنت من حفظ لسانها من الخطأ عند القراءة والكتابة، وجمهرة المتعلمين لم يصلوا إلى هذه المنزلة، فالشاب يتخرج في المدرسة، أو في المعهد، ولسانه لا يكاد يقيم جملة، أو يعرب كلاما، ولا يستطيع أن يعبر عن خلجات نفسه بأسلوب صحيح مستقيم

وإذا لم يكن هذا إخفاقا، فماذا يكون الإخفاق؟

وكما لم توفق مدارسنا في الغاية لم توفق في الوسيلة، أو قل أنها لم توفق في الغاية لأنها لم توفق في الوسيلة؛ فالوسيلة إلى تعلم اللغة هي دروسها، ولما تستطع مدارسنا أن تحببها إلى التلاميذ، فهم يأتون إليها متثاقلين، ويستمعون إليها كارهين، وهم يبغضونها بغضاً يملأ ما بين جوانحهم. فالنحو عندهم ثقيل بغيض، وكذلك الصرف، وعلم البيان الذي قال فيه بعض العلماء - أنه لا ثواب في تعلمه - يشير إلى أنه لا مشقة فيه على المتعلم، وهو يطلب لما فيه من لذة، فجزاؤه فيه، قد بغضته إليهم هذه المدارس أيضاً؛ وليس العيب في ذلك على الشباب، لأنهم يدرسون الهندسة والحساب والطبيعة في غير ضيق ولا حرج، بل يدرسونها في شغف ومحبه، إنما العيب على دروس اللغة العربية وحدها.

فلا عجب بعد ذلك إن لم ينتفعوا بهذه الدروس، لأن الانتفاع بالشيء على قدر المحبة له، والرغبة فيه

هذا شيء مخيف حقاً، له نتائجه الخطيرة، فإما أن نعمل على تسهيل الانتفاع باللغة العربية وتيسيرها على الدارسين والمتعلمين وتزيين علومها في قلوبهم، وإما أن نتحمل أمام التاريخ والأجيال عواقب هذا التفريط والإهمال، لأن الشيء البغيض المملول لا يعمر طويلاً، ولا يمكن أن يكره الناس عليه دائماً

وهناك أمر آخر ينتج من الخيبة في تعليم اللغة العربية، يخشاه رجال الاجتماع أعظم الخشية، ويشفقون منه أشد الإشفاق، وهي بقاء الحال على ما هي عليه في مصر، من

ص: 28

اصطناع لغة للخطاب، وأخرى للكتاب، بينها وبين جمهور الشعب بون شاسع، وعقاب صعاب

وإنما كانوا يخشون، ويشفقون منه، لأن ذلك يؤدي إلى إطالة أمد جهل الأمة وتأخرها، لأن العلم والأدب قد كتبا بلغة لا يفهمها جمهور الشعب، وهي العربية، فلا سبيل إلى وصوله إليها

أما إذا نجحت المدرسة في تعليم العربية، وتكلم بها المتعلمون وهم مخالطون للشعب، فعلى مرور الزمن يسهل عليه فهم اللغة العربية ويتسرب إليه كثير من مفرداتها وتراكيبها، وربما علمها فصار لغة الخطاب، لغة الكتاب، وهذا كسب ليس بالقليل، فكل ما كتب من علوم وأخلاق وآداب يكون حينئذ في متناول جمهور الشعب، فيرقى إلى الذروة التي ينشدها له المصلحون

وهناك طائفة من رجال الاجتماع ترى أنه إذا خابت المدرسة في تعليم العربية، وخابت الأمة في اصطناعها ورفع لغة الحديث إلى اللغة التي تكتب بها العلوم والآداب، فلا مناص من كتابة العلوم والآداب باللغة التي تفهمها الأمة، لتنتفع بها، ولتبلغ الأمل المنشود، لأنه خير للأمة أن تخسر اللغة العربية وتكسب العلم الذي به نماء عقولها، والآداب التي بها تقويم أخلاقها، من أن تربح العربية وتخسر العلم والأدب

فأنتم ترون أن الأمر جد خطير، وأنه يعني حياة اللغة العربية أو موتها، ونجاح المتعلمين في تعلمها أو إخفاقهم، ورقي الأمة أو انحطاطها

لذلك يجب أن نعمل جاهدين، وأن نجهد مخلصين، حتى نعرف الأسباب في هذا الإخفاق، وأن نفعل الممكن وغير الممكن لنجعل تعليمها ناجحاً، ولنحبب درسها إلى التلاميذ، وبذلك نتقي هذه النتائج السيئة، ونوفر على الشباب وقته وجهوده ونحمي اللغة العربية من الضياع والموت

هذا ما دعا رجال العلم إلى معالجة هذه المشكلة

وهذا ما دعاني أيضاً إلى أن ألقي بدلوي في الدلا، وسأعرض بحثي على القارئين، أو أولي الأمر في مصر، ولعل هذه الدعوة تلقى ما أقدره لها من توفيق - إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله

ص: 29

محمد عرفة

عضو جماعة كبار العلماء

ص: 30

‌مقدمة ابن خلدون

للأستاذ محمود أبو ريه

كنا نسمر في إحدى الليالي مع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة، فكان من حديثه الممتع الهادئ أن العلامة المحقق ساطع الحصري قد ألف كتاباً فريداً جعل موضوعه (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) تلك التي لم تخرج القرائح العربية مثلها، وفي عبارات عذبة أنشأ الأستاذ الزيات يشيد بفضل هذا العمل الطريف. وقد أثار هذا الحديث المستوعب شوقنا إلى هذا الكتاب، وزاد هذا الشوق لما قرأناه اليوم مقدمته النفيسة في الرسالة

ولما كان العلامة الحصري قد حدثنا في كتابه (إن جميع طبعات المقدمة التي صدرت عن مطابع القاهرة وبيروت مشوبة بنواقص كثيرة وأغلاط فادحة - وإنها ناقصة - من حيث المتون والفصول معاً) فإني أنشر كلمة لها علاقة بما حقق هذا العالم الجليل وفيها نفع لمن أراد أن يقف على تاريخ هذه المقدمة

في صيف سنة 1923 قرأت بإحدى المجلات كلمة لأحمد تيمور باشا رحمه الله ذكر فيها أن كل طبعات مقدمة ابن خلدون لا تطابق الأصل الصحيح منها، وإنه يوجد بمكتبة زكي باشا نسخة خطية من هذه المقدمة صححها المؤلف بقلمه فسررت بهذا النبأ وتوجهت باستفهام إلى زكي باشا على جريدة المحروسة عما نشره تيمور باشا، وكان ذلك في 17 أغسطس سنة 1923 فأجاب رحمه الله ببضع مقالات على هذه الجريدة تكلم فيها عن طرف من تاريخ ابن خلدون ومقدمته. وأنا لا أعرض إلا لما قاله عن هذه المقدمة النفيسة، وفيه العلاج لما نحن بسبيل الكلام فيه اليوم.

ذكر رحمه الله أن هذه المقدمة الفريدة قد ظل أمرها مهملاً خمسة قرون كاملة، فقد تم تأليفها في سنة 775هـ، ولم تظهر إلا في سنة 1274هـ: سنة 1857م. وكان أول من عثر على هذا الكنز رجل نمساوي اسمه آسرلي، فقد وقف في دار كتب (ويانة) عاصمة النمسا على نسخة مخطوطة من هذه المقدمة، ونقل كثيراً من فصولها، وترجمها إلى اللغة الطليانية، ثم نشرها مع بعض ملاحظات وتعليقات في المجلة المعروفة باسم الخزانة الطليانية فكانت أبحاثه مدعاة لتنبيه علماء أوربة إلى العناية بهذا الأثر العربي الكريم (ولما جاء المسيو آسرلي إلى مصر قنصلاً لدولته لدى محمد علي باشا كان مما عمله أن حض

ص: 31

محمد علي باشا على الانتفاع بهذا الكتاب وطبعه فترجم إلى اللغة التركية ومطبع بمطبعة بولاق وكذلك طبع الأصل العربي منها

وفي الوقت الذي طبعت فيه المقدمة في مصر كان العلامة كتر مير الفرنساوي يطبعها في باريس وقد طبعت هذه المقدمة بالمطبعة الأميرية طبعة ثانية في سنة 1284هـ

وقد ذكر زكي باشا (إنه بعد ما تحقق وجود المسخ والبتر والتشويه والتحريف في جمع ما صدر من الطبعات العربية لمقدمة ابن خلدون آلى على نفسه أن يبحث عن نسخة خطية تكون وافية بالمرام حتى قيض الله له الظفر بها في خزانة المرحوم عاطف أفندي بالقسطنطينية). وهذه النسخة قد صححها ابن خلدون بقلمه، وذلك أنه لما عاد إلى القاهرة من عند تيمورلنك طاغية التتار رأى الناسخين قد شوهوا محاسن مقدمة تاريخه، فضاقت نفسه وتناول نسخة من التي أصابها المسخ وأقبل عليها بنفسه وتولى تصحيحها بقلمه، وكان من هذا التصحيح أن حذف بعض الكلمات وطائفة من العبارات ووضع هوامش كثيرة بخطه. فإذا أعوزه المكان أضاف (طيارة) أي جزازة ويلصقها بين الصفحتين ويدل على موضعها دلالة ظاهرة واضحة، وقد انتقلت هذه النسخة من مصر إلى الآستانة على أثر سقوط مصر بين يدي السلطان سليم سنة 922هـ، وقد عثر عليها زكي باشا في سنة 1910 ولم يلبث أن أخذ صورتها الفوتوغرافية وبلغ ما أنفقه عليها ستين جنيهاً كاملة، وقد كتب على هذه المقدمة العبارة الآتية:(هذه صورة المقدمة من كتاب العبر في أخبار العجم والبربر، وهي علمية كلها كالديباجة بكتاب التاريخ قابلتها جهدي وصححتها، وليس يوجد في نسخها أصح منها وكتب مؤلفها عبد الرحمن ابن خلدون وفقه الله تعالى وعفا عنه)

ولما وقفت من زكي باشا على نبأ هذه المقدمة وكان الشرق جميعا َفي حاجة إلى الصورة الصحيحة منها، رجعت إلى الأستاذ الكبير رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، راغباً إليه أن تقوم اللجنة التي من أغراضها نشر الأسفار القديمة النافعة بطبع هذه المقدمة، وهي خير ما ينشر من ذخائرنا العربية، فجاءنا منها جواب مؤرخ 16 أغسطس سنة 1927 تقول فيه: إن اللجنة ستضع هذا الاقتراح موضع البحث. ولما خاب رجاءنا لدى اللجنة رجعنا إلى وزارة المعارف فطلبنا منها مراراً أن تعنى بنشر هذا الثر النفيس فتطبعه طبعة صحيحة، ولكنها أصمت آذانها، وغبرت السنون على هذه المقدمة وهي على تحريفاتها

ص: 32

وأغلاطها

هذا ما رأينا نشره، ولعلنا اليوم - بعد أن رأينا من العلامة الحصري تلك العناية الفائقة بهذه المقدمة - نطمع في أن يزيد من فضله على العلم فيجمع بين النسخة المطبوعة بباريس وبين التي بالخزانة الزكية، وبعد المقابلة بينهما يخرج منهما نسخة صحيحة يتولاها بما تحتاج إليه من الشرح والتعليق

هل رجاءنا اليوم يتحقق لكي نظفر بما كنا نطالبه منذ عشرين سنة، وينتفع هذا الجيل المثقف بذلك الكنز الثمين، ثم ينهض فيؤدي واجبه نحو مؤلفه العظيم؟

(المنصورة)

محمود أبو رية

ص: 33

‌تصحيحات واجبة

في الأدب والأخلاق

للأستاذ سيد قطب

في عدد الرسالة الماضي تعليقان على مناقشاتي مع الأستاذ مندور، لا يخفى على القراء ما فيهما من تحامل مكشوف يرتدي مسوح النقد الأدبي

والذي يعنيني هنا هو إثبات بعض التصحيحات الواجبة لأوهام ومواضعات خاصة، تجد لها صدى في نفوس العوام وأشباه العوام

يقول الأستاذ دريني خشبة في مقال بعنوان: (أعصابكم أيها الأدباء) ضمن حديثه عن (قضية الأدب المهموس): (نزغ شيطان الجدل بين الأديبين المتحاورين، إذ رمى أحدهما الآخر بما لا يليق أن يرمى به رجل رجلاً أبداً. . . ولعل الذي سب أخاه في كمال الرجولة أظلم)

هذه المسألة تحتاج إلى تصحيح؛ فأنا لم أكن في موقف سباب حين أشرت في حديثي إلى هذا الشأن، إنما كنت في معرض تعليل نفسي لظاهرة خاصة مطردة في فهم صاحبي للأدب والشخصيات؛ وكنت ألمح آفة نفسية خاصة تجنح به إلى إيثار لون من الأدب على لون، وشخصية أدبية على شخصية في رتابة واطراد

ومما لا شك فيه أن لبعض الآفات النفسية أثراً حاسما في الحكم على الأدب والأشخاص والحياة كلها؛ ولابد من تعليل هذا الأثر الخفي وكشفه للقراء ليأخذوا حذرهم من إنسان يقف نفسه موقف الناقد للفنون والرجال، وطبعه مئوف متأثر بآفته فيما يصدر من أحكام

ففهم هذا التعليل على أنه (سب) عامية في الذهن والنفس تحتاج إلى تصحيح. والخضوع لهذا الفهم والإحجام عن هذا التفسير تبعاً لذلك - عامية في معايير الأخلاق لا أخضع لها وفي نفسي بقية من الارتفاع فوق مستوى العوام

والأستاذ دريني هو و (الأديب زكريا إبراهيم) يأخذان علي شيئاً آخر هو الاستشهاد بقطعة من شعري بجانب قطع أخرى للعقاد، مشايعين في هذا الأستاذ مندور

ولست أتردد في مجابهة هذا الوهم بأنني لا أحفله؛ لأنه نوع من عامية الذوق والتفكير. فأنا لم أكن في معرض تعداد وبيان لمزايا جميع الشعراء المصريين، وإنما كنت في معرض

ص: 34

استشهاد على وجود لون خاص من ألوان الأدب في شعر المصريين، ووجوده بصورة خير من الصورة التي يحبها الأستاذ مندور. فإذا وجدت في شعر العقاد ما يصلح لإثبات الغرض فلن يقعدني التحرج الاصطلاحي السخيف عن الاستشهاد به لمجرد أنني (تلميذ) للعقاد. وإذا وجدت في شعر سيد قطب ما يصلح لإثبات هذا الغرض فلن يقعدني التواضع الاصطلاحي الكاذب عن الاستشهاد به لمجرد أنني سيد قطب!

وهذا التواضع الكاذب وذلك التحرج السخيف نوعان من العامية في التفكير والأخلاق أرتفع بنفسي عنهما، لأنني لا أتلقى معاييري الفكرية والخلقية من العوام وأشباه العوام

وقد يحسن من باب (التصحيح الواجب) كشف الأسباب الصغيرة الخفية التي تحمل بعض الناس على أن يلبسوا هذا المسوح!

فأما الأستاذ (دريني خشبة) فلتحامله أسباب ظاهرة يعرفها قراء الرسالة، فيما شجر بيني وبينه من جدل على صفحاتها منذ أشهر، على أنه إنما يصدر في هذه المسألة عن الروح التي يصدر عنها فيما يقتحمه من مسائل النقد الأدبي كلها ولست أدري لم لا يعرف الناس أفضل مواهبهم فيستخدموها ويدعو ما لا يحسنون من الأمور؟ ولله في خلقه شؤون!

أما الأديب زكريا إبراهيم: فلست أعلم له أو عنه شيئاً سوى أنه يقول عني: (إنما راح يحشد أقواله وأقوال الأستاذ العقاد، كأنما ليس في مصر غيرهما). فقد كان يجب إذن أن أحشد أقوال الأديب (زكريا إبراهيم) هو الآخر!

وأنا أعترف لحضرته أنني مقصر في البحث، وسأسأل الإنس والجن عن شيء له ولأمثاله أحشده في بعض المناسبات! فإن لم أفعل، فهو كاسب على كل حال بمناقشته في هذا المقال!

سيد قطب

ص: 35

‌الجريح.

. .

للأستاذ محمود عماد

تَوَلّى جريحاً مِنَ المعمعَهْ

يُريقَ على دَمِهِ أَدْمُعَهْ

ويحنو بقلبٍ له موجَع

على كبدٍ دونه موجَعه

ويُخفي بيُسراه موضعَه يُمنَى

بها منه قد طاحت الموقعه

لقد غِشيَ الحربَ (كُلا) فضَيّ

عَ (بَعضاً) وعاد ببعض معه

إلى أين يمضي بتلك البقايا

وماذا انتوى اليومَ أَن يَصِنَعه؟

أللِطبِّ يُرجعُه (كاملاً)

وهل يمكن الطبَّ أن يُرَجعه؟ ِ

ألِلقبرِ والقبرُ رغمَ التأ

هبِ لم يعتزمْ بعدُ أن يَبلعَه؟

لقد عزّ حتى المماتُ عليه

وضاق به كونُه عن سَعه

ومِن بعدِ َلأيٍ هداه الوَجَى

لِصومعةٍ، فإلى الصومعى!

إلى حيث يَهربُ مِن أمسهِ

ويهجرُ في أسفٍ مدفه

ويَنْسى الذي كان فيما يكو

ن ويَسحبُ فوق الحراك الدّعه

ويَسمعُ مِن (شِعرِه) أنّ (ذِكرا)

يعوّضه بعدُ ما ضيَّعه

وأنّ على شاطْئ (الخلدِ) بيتاً

سيأخذ فيه غداً مضجعه

فأقْنِعه، أقنعه، يا شِعرَه

إذا كان في الطوقِ أن تقنعه!!

محمود عماد

ص: 36

‌البريد الأدبي

لفظتان

اللفظتان هما (الفزاعة) فزاعة الزرع، و (التحويش) تحويش المال أو غيره. وقد ظنتا أنهما عاميتان، وإنما هما عربيتان صحيحتان

جاء في (أساس البلاغة) للأمام الزمخشري: (نصب خيالاً في مزرعته وهو الفزاعة، وعن الشعبي: وجدت رجال هذا الزمان خيالات. . .)

ومثل الفزاعة والخيال (المجدار) قال الإمام التبريزي في (شرح ديوان الحماسة) في تفسير هذا البيت في باب مذمة النساء:

إصرميني يا خلقة المجدار

وصليني بطول بعد المزار

المجدار شيء ينصب في المزارع للسباع والطير يقال لها (الفززاعة)

وقد وردت هذه اللفظة الأخيرة بالقاف والراء (القراعة) في الطبعة القديمة والطبعة الحديثة التي حققها العالم الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد. وإنما هي الفزاعة. فزع الله عن القلوب

وجاء في اللسان عن الأزهري صاحب تهذيب اللغة وفي القاموس والتاج: (حوش إذا جمع، والتحويش التجميع) فيقال لكل عامل في عمل ما: اقتصد أيها العامل في معيشتك، ووفر من عمالتك، وحوش، حوش؛ إن (المال سلاح المؤمن في هذا الزمان) كما قال الإمام سفيان الثوري ومن أمثال بغداد: المال، المال. وما سواه محال

ناقد

إلى الدكتور زكي مبارك

قالوا لي يا دكتور أنك تريد أن تهجم على (حسن القاياتي) الأديب الذي خلقته الظروف، ورفعته السياسة، وجاملته الأدباء بقدر ما لبيته القديم في النفوس. وألاعيب (مصطفى القاياتي) في السياسة. . . وأنت يا سيدي الدكتور قد آذيتني أعنف الإيذاء يوم نشرت مقالك عن السهرات الأدبية في رمضان في جريدة (البلاغ) حيث قلت: إن البيت (القاياتي) قد خلا من الرائد. وعاف مجلسه الأديب. ولم يبقى فيه إلا وجه السيد (حسن) أبقاه الله!

ص: 37

وهي غمزة أعرفها منك يا دكتور وأحتسبها عليك، وأجازيك عليها جزاء من أخلص للأدب، وامتزجت نفسه به طوال أربعين عاماً بين شاعر يدرسه، أو بحث شائق في اللغة يكتبه. . . ثم ماذا؟ ثم يكون حظه من ناشئة البيان منتكساً، وقلمه بين تلاميذه منكسراً، وأدبه بين الأدباء ضعيفاً. . . مما جعل الدكتور تحدثه نفسه بالهجوم عليه، والنيل منه!

لك الله يا دكتور مبارك! فلقد كنت أود أن تكون ألاعيبك بين ناشئة الأدب فتحملهم على احترامك بالشدة، وتروضهم على مطالعة أدبك بالعنف. . . خير لك من أن تهاجم رجلاً قد هاجم شوقي وحافظ في عنفوان أدبهما، وضخامة شخصيهما، وخلود اسميهما، دون أن يتطاولا عليه ما تطاولت، أو ينالا من شخصه ما نلت. . . إن اللغة العربية يا دكتور لم تجد لها حصناً منيعاً من سنوات عديدة إلا الدار (القاياتية)، ولن تجد من يذود عن حماها إلا القلم (القاياتي) العتيد؟! فسل نفسك يا دكتور يوم أن كنت صديقاً وراوية للسيد (مصطفى) أن (حسن القاياتي) لن تنال قلمه هذه الترهات، ولن تؤثر في نفسه هذه الصراعات العنيفة التي ترسلها دون أن تذكر الدار القاياتية، ومجدها القديم في اللغة، وحاضرها الجديد في البيان. . .؟! تذكر كل هذا يا دكتور. وقد أعددت لكتابك الفريد (النثر الفني) عشرين مقالاً أرجو أن يتسع صدر (الرسالة) فتنشر لي هذه المحاولات الجريئة في النقد، دون أن تجامل (محمد عبد السلام مبارك)

علها تظهر للناس الكاتب الأول والشاعر الأول زكي مبارك؛ ولكن بعد أن أسمع منه على صفحات (الرسالة) الزهراء كلمة الحق. . . والحق أحق أن يتبع. . .؟!

(دار القاياتي)

حسن القاياتي

اللجنة التي يحتاج إليها الأزهر

ذكرت مجلة الرسالة الغراء في العدد (527) أن صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، أصدر قراراً بتأليف لجنة لدرس حالة الكليات والمعاهد الأزهرية، ولجعل مهمتها بحث الأسباب التي أدت إلى ضعف نتائج الامتحانات في الكليات والمعاهد، وإني أرى أن هذه الأسباب واضحة لا تحتاج إلى بحث، وقد بينها المصلحون فيما كتبوا عن

ص: 38

إصلاح الأزهر، ولكن علاجها شائك يتهيبه من يعرفه، لأنها ترجع إلى كتب الدراسة التي قال الأستاذ الأكبر في مذكرته المعروفة إنه لا يوجد فيها روح العلم، ومتى كانت كتب الدراسة في المعاهد بهذه الحالة فكل فساد في المعاهد راجع إليها، ولكن الذي يشارك الأستاذ الأكبر في نظره إلى تلك الكتب قليل جداً، ومن هنا كان علاجها شائكاً يتهيبه كل من يعرفه، ويحتاج كما قال الأستاذ الأكبر في تلك المذكرة إلى خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصريخ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة

فاللجنة التي يحتاج إليها الأزهر هي اللجنة التي تكون مهمتها وضع كتب يوجد فيها روح العلم، وتفتح في علومنا باب الاجتهاد والتجديد، وتقضي على ما فيها من جمود، وهنالك يصلح كل شيء في الأزهر، ويقبل الطلاب برغبة على العلم، فتحسن نتائج الامتحانات، ويعود إلى الأزهر مجده العلمي.

(ص)

حول المسرح المصري والدرامة المنظومة

إلى الأستاذ دريني خشبة

أشكرك على أنني خطرت ببالك وأنت تحث شعراء الشباب على المشاركة في نظم الدرامة، وهي إشارة منك تدل على خلتين من خلال أهل الفضل في البحث: حسن تتبعك لما ينشر ويكتب؛ وحسن ظنك فيمن تراهم موضعاً لإحسان الظن

وكم كنت أود أن لا أقول بشكر ما أوليتني من حسن ظنك، وسمتني من رقيق عتبك إلا وفي يدي مسرحية من الشعر أهديها إليك جزاء ما أوليت المسرح المصري من جميل عنايتك؛ ولكنني راجٍ أن تنظرني حتى يتهيأ من الإنتاج ما يحقق ظنك الحسن

ولقد فاتك - غير عامد - أن تذكر الشاعر العربي الحضرمي (الأستاذ علي أحمد باكثير)؛ فهو شاعر أصيل الطبع، متمكن من لغة شكسبير، وله مسرحيات: إخناتون ونفرتيتي، سلامة القس، وا إسلاماه، وقصر الهودج؛ وكلها شعر طليق أو مقيد من طراز رفيع

على أن هذه مسألة شخصية دعاني إليها أن أنصف شاعراً عربياً في معرض فتحته أنت

ص: 39

بذكر الأشخاص وأخشى أن يتسع الباب عليك. . . أما مسألة المسائل فهي أن حبك للشعر العربي والمسرح العربي هو حب يحملنا على الاستجابة لفكرتك، والإعجاب بصدق دعوتك. والسلام.

محمد عبد الغني حسن

إلى الأستاذ دريني خشبة

كنت أيها الكاتب الفنان أطالع مقالك الممتع (المسرح المصري والدرامة المنظومة)، والشاعر (حسن القاياتي) في زهو بما بلغ نقدة المسرح من الرأي السديد والنظر الثاقب. . .

ولكنك أيها الكاتب قلت: إن المسرح قد خلا من التأليف المسرحية المنظومة بعد شوقي؟! ألم تقع عينك عند الوراقين على الرواية الضاحكة التي نظمها الشاعر (حسن القاياتي)؟ فجاءت تحفة للفن، ونجعة للرائد، وهدية قدمها صاحبها إلى مسرح الخيال المنشود؟

ولكنها لم تجد من يبعثها من مرقدها، ولم تمتد إليها يد النقاد حتى يقدرها الفن، ويرجع أصداءها الفنانون!

إن رواية (القاياتي) يا سيدي الكاتب مثلتها الفرق اللاعبة في داره الأنيقة (بالسكرية) في شهر رمضان من العام الماضي. وستمثلها الفرق الحبيبة في داره في شهر رمضان من هذا العام

فهلا! تتفضل أيها الكاتب الألمعي. فندعوك لمشاهدة عرضها على المسرح (القاياتي) المتواضع، فتبعثها كما بعثت روايات عديدة حرية أن تتوارى أمام هذه المسرحية الفذة. . . التي تمثل لوناً من ألوان الخلاعة في (بلاط المأمون)

لنا أن ندعوك، ولك تجيب. قبل أن تتحدى شعراء مصر النابهين.

علي فوده

مجمع فؤاد الأول للغة العربية

المسرح المصري

ص: 40

قرأت في العدد الأسبق من هذه المجلة الزهراء مقال الأستاذ دريني خشبة عن (المسرح المصري)، فعنت لي بعض آراء أثبتها في هذه العجالة

كان مقال الأستاذ منصباً على ناحية خاصة دار الكلام حولها ولف، وهي (كسل) شعرائنا وعدم اهتمامهم بنظم المسرحيات الشعرية

صحيح إن الدرامة الشعرية لها هذا التأثير الذي تحدث عنه الأستاذ دريني، ولكن في أي البيئات والأحوال والظروف؟

عندنا الكثير من الشعراء الواقفين على أحدث التيارات الفكرية، ولكن أحدهم لم يفكر نظم مسرحية، فكل نتاجهم لا يخرج عن (القصائد والمقطوعات والموشحات) لماذا؟

لأن أغلبية الشعب - حتى المتنور منه - لا تتذوق مسرحية يتكلم أبطالها بالعربية الفصحى. . . فما بالك بالشعر؟

لنقل كلمة الحق. . . إن جمهورنا يؤثر الأدب الضحل والمسرحيات الفكاهية، على مسرحيات شكسبير وراسين وأضرابهم. وعند (الفرقة القومية) الخبر اليقين!

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن لا تحتاج هذه المسرحيات المنظومة إلى ممثلين مثقفين يفهمون الشعر - ولا أقول يتذوقونه - ليؤدوا أدوارهم على أكمل وجه؟

فأين ممثلونا من هذا؟ وهم لا يعرفون إلا مبادئ القراءة والكتابة! ثم أين التشجيع المادي والأدبي الذي يغري الشعراء ويدفعهم إلى ميدان المسرح كما فعل غيرهم من شعراء الأمم الأخرى؟ أليست هذه صعوبات تصدهم عنه؟!

(ميت غمر)

كمال نشأت

ظبي وزير الصحة

(أهدي إلى معالي وزير الصحة ظبي فشكر مهديه ورجا منه أن يترك حراً كما كان في رعاية الله، فقلت في ذلك)

أكنت ترحم لو أنه أسد

أم ضعفه شافع أم حسنه حكما

والضعف والحسن مرحومان من بطل

يمشي إلى الأسد في آجامها قدُما

ص: 41

سحر لعينه أم حسن لمقلته

أعاد عهد الهوى أم أشعل الضرما

أم خشية الله في عبد يراقبه

والله يرحم من للخلق قد رحما

عبد الرؤوف جمعة

المفتش بالمعارف

ص: 42