الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 53
- بتاريخ: 09 - 07 - 1934
بين أسلوبين
بين الإطناب الذي لم تؤثره (الوادي)، وبين الإيجاز الذي تحبه (الرسالة)، كادت تضيع صداقة رسخت قواعدها على الإكبار والحب، وتأكدت أسبابها على الخفض والشدة، وتمكنت الفتها على ربع قرن من الزمان المضطرب تغيرت فيه مودّات الأخوة، وتنكرت قلوب الجماعات، وتحللت روابط الأمم.
وجملة الأمر أن صديقي طه قد بنى قصة من الأدب الجميل على رسالتين خاصتين أرسلهما إليه الأستاذ توفيق الحكيم، ثم نشرها ونشرهما في الوادي؛ فلما أصبح كل ذلك للجمهور والتاريخ جاءت الرسالة فنشرته، لأنها كما قلت في العدد الماضي كانت مسرحاً لهذه الرواية، فمن حق قرائها أن يشهدوا فصلها الأخير، ولأنها سجلٌّ لألوان الأدب الحديث، فمن حق الأدب أن نسجل في تاريخه ما يقع بين رجاله من الخلاف الجدي فيه كاملاً غير منقوص. وإن بقي لأصحاب الظنون والفروض سبب ثالث فلن يكون غير تعصب الصديق للصديق. وكان الأستاذ توفيق الحكيم فيما بين ذلك قد نشر بيانه الذي نقلناه في الأسبوع الماضي عن الوادي بعنوان (خصومة)، فلم يُتَح لي الاطلاع عليه لحالة خاصة صرفتني عن قراءة الصحف ذلك اليوم. ولو كنت قرأته وقرأت بجانبه تعريض الدكتور بالأستاذ في مقاله (أخلاق الأدباء) لشق على فهمي أن يستنتج من المقالين عودة الصفاء وزوال الجفوة.
تصافى الصديقان إذن على غير علم من الوادي ولا من الرسالة، فلما رأى الأستاذ الحكيم عودة المقالة في الرسالة خالجته في الصفاء ريبة، وأراد صديقي الدكتور أن يجلو شبهة الأمر، ويخرج من تبعة النشر، ويترضى الغاضب المرتاب، فأرسل إلى كلمته العاتبة تتنمَّر على صفحة الوادي.
كان المألوف في مثل هذه الحال أن يقف العتاب عند الترضي والتنصل، ولكن الأسلوب المطنب الذي يؤثره صديقي من خصائصه التدفق، والتدفق لا يخلو من كدورة، فأخذ يولد من العتاب ويفرع فيه، حتى خرج به إلى التلويح والتجريح والاستعداء، لأنني نشرت ما نشرت بغير إذنه. علقت على هذا (العتاب) الموجع بأن صديقي طه استغل حيائي منه ووفائي له في إرضاء الحكيم وإنصاف الوادي، لأنه يعتقد إني إذا عاتب واشتد لا أجيب، وإذا أجبت لا أعيب؛ ولكن الأسلوب الموجز الذي اصطنعته كان على ما يظهر أقرب إلى
الإخلال والغموض، لأن صديقي لم يفهم (الاستغلال) على الصورة التي اقتضاها المقام وبالمعنى الذي قصدته، وإنما فهمه بمعناه الشنيع الذي لا يكون بين أخوين، ثم رتب على هذا الفهم في رده على تعليقي ما رتب مما لا أعده موجهاً إلى ما دام قائماً على هذا الأساس!
فأنت ترى أن أكثر ما حدث إنما نشأ من أسلوبين استعمل كل منهما في غير موضعه، وان الأمر كله ما كان ليقع لولا حرفة الصحافة التي تغري بالنشر كما يغرى على القتل حمل المسدس. فان أكثر من هذا يقع كل يوم بين الأصدقاء والاخوة فتزيله كلمة في التليفون أو تحية عند اللقاء.
قال الذين وقفوا على ملابسات هذا الأمر إني إذا كنت أخطأت في نشر المقالة وهي عامة، فان صديقي أخطأ في نشر الرسائل وهي خاصة، وما يُسَوِّغ موقفه من الحكيم يسوغ موقفي منه. ولكني لا أقول هذا القول ولا أستعين به، فإن الواقع أن ما صرفني عن الاستئذان في النشر إنما هو اعتقادي بارتفاع الكلفة بين طه والزيات، وبين الوادي والرسالة.
أما بعد، فإذا جاز لهبَّة الريح أن تزعزع الجبل، أو لحبة الرمل أن تكدر البحر، جاز لنشر مقال أدبي من غير إذن أن ينال من صداقة رفيقي الصبي وخديني الشباب، فينتزع المحبة من خلال النفس، ويقتلع العلاقة من صميم القلب، ويقتطع الماضي من حساب الزمن، بالسهولة التي تنشر بها كلمة في صحيفة!
وما كان ليقع في الوهم أن قلبين ألفت بينهما براءة النشأة، وطول الصحبة، ووحدة الهوى، وطبيعة الثقافة، يجرى بينهما من سوء التفاهم ما يجري بين القلوب المتناكرة والصلات الحديثة! كذلك ما كان ليسبق إلى الظن أن صديقي الذي لم تكشف الحوادث والأيام منه إلا شعوراً سليماً وخلقاً كريماً وذكاءً متقداً وضميراً يقظاً ونفساً طيبة، يخضع لأثر الحر وثقل العمل وعنت الظروف، فيقول في صديقه ما لا يحب، ويرميه بما لا يعتقد!
أخي طه!
إن بيني وبينك ماضياً جليلاً لا تمحوه طوارئ الحاضر الحقير، وصداقة خالصة لا تكدرها شوائب الظن السوء، وذمة وثيقة لا تخفرها بوادر الكلام السريع، وأخوَةً كراماً جزعوا لهذا الخلاف ويسرهم أن ينقضي.
وإذا أمكنك أن تجد في ذاكرتك القوية المعجزة غميزة في خلق أخيك على طول عهدك به،
كنت خليقاً أن تطيع فيه نوازي الغضب، وتقبل عليه شواهد الظن، وتسلكه في ذوى الخلق المعوج والطبع اللئيم!
أما إذا كان من طبيعة الصحافة أن تعبث بكل ما بقي بيننا وهو الود، وتعتدي على كل ما بقي لنا وهو الخلق، وتمتد إلى رأس مالنا الوحيد وهو الشرف، فادع الله لي ولك أن يخرجنا منها، ويغنينا عنها، ويحفظ البقية من عمرنا الكادح في كنف رعايته وفضله.
احمد حسن الزيات
حديث قطّين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام في موضوع الإنشاء ما يأتي:
(تقابل قطان أحدهما سمين تبدو عليه أثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حدث كل منهما صاحبه عن معيشته؟)
وقد حار التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القطين، ولم يعرفوا كيف يوجهون الكلام بينهما، وإلى أي غاية ينصرف القول في محاورتهما؛ وضاقوا جميعاً وهم أطفال - أن تكون في رءوسهم عقول السنانير؛ وأعياهم أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيمية ومن عيشها خاصة، فيكتنهوا تدبير هذه القِطاط لحياتها، وينفذوا إلى طبائعها، ويندمجوا في جلودها، ويأكلوا بأنيابها، ويمزقوا بمخالبها.
قال بعضهم: وسخطنا على أساتذتنا أشد السخط، وعبناهم بأقبح العيب؛ كيف لم يعلمونا من قبل - أن نكون حميراً، وخيلا، وبغالاً، وثيرانا، وقردة، وخنازير، وفئرانا، وقِططة وما هب ودب، وما طار ودرج، وما مشى وانساح؛ وكيف - ويحهم - لم يلقنونا مع العربية والإنجليزية لغات النهيق، والصهيل، والشحيج، والخوار، وضحك القرد، وقُباع الخنزير، وكيف نصئ ونموء، ونلغط لغط الطير، ونفح فحيح الأفعى، ونكش كشيش الدبابات، إلى ما يتم به هذا العلم اللغوي الجليل الذي تقوم به بلاغة البهائم والطير والحشرات والهمج وأشباهها. .؟
وقال تلميذ خبيث لأستاذه: أما أنا فأوجزت وأعجزت، قال أستاذه: أجدت وأحسنت، ولله أنت! وتالله لقد أصبت! فماذا كتبت؟ قال كتبت هكذا:
يقول السمين: ناوْ، ناوْ، ناوْ. . . فيقول النحيف: نَوْ ناوْ، نَوْ. . فيرد عليه السمين. نَوْ، ناوْ، ناوْ. . فيغضب النحيف، ويكشر عن أسنانه، ويحرك ذيله ويصيح: نَوْ، نَوْ، نَوْ. . . فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناوْ. . . فيثب عليه النحيف ويصطرعان وتختلط (النّونَوَة) لا يمتاز صوت من صوت، ولا يبين معنى من معنى، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا بتعب شديد بعد مراجعة قاموس القِطاط. .!
قال الأستاذ: يا بني، بارك الله عليك! لقد أبدعت الفن إبداعا فصنعت ما يصنع أكبر
النوابغ، يظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه، وما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي، ولأنني بعد محمد صلي الله عليه وسلم؛ فلا سبيل إلا ما حكيت ووصفت، وهو مذهب الواقع، والواقع هو الجديد في الأدب؛ ولقد أرادوك تلميذا هراً، فكنت في إجابتك هرا إستاذاً، ووافقت السنانير، وخالفت الناس، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي، فان هذا الفن إنما هو في طريقة الموضوع الفنية، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك؛ ولو حفظوا حرمة الأدب، ورعوا عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلاماً طويلاً بارعاً في النادرة والتهكم، وغرابة العبقرية، وجمالها وصدقها، وحسن تناولها، وإحكام تأديتهالما تؤدى؛ ولكن ما الفرق يا بني بين (ناو) بالمد، و (نو) بغير مد؟. . . قال التلميذ: هذا عند السنانير كالإشارات التلغرافية: شرطة ونقطة وهكذا. قال يا بني ولكن وزارة المعارف لا تقر هذا ولا تعرفه، وإنما يكون المصحح أستاذاً لا هراً. . . والامتحان كتابي لا شفوي. قال الخبيث: وأنا لم اكن هراً بل كنت إنسانا، ولكن الموضوع حديث قطين، والحكم في مثل هذا لأهله القائمين به، لا المتكلفين له، المتطفلين عليه؛ فان هم خالفوني قلت لهم: اسألوا القطاط؛ أو لا فليأتوا بالقطين: السمين والنحيف، فليجمعوا بينهما، وليحشروهما ثم ليحضروا الرقباء هذا الامتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه وليصفوا منهما ما يرونه، فوالذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصححين جميعا - ما يزيد الهرَّان على (نو، وناو) ولا يكون القول بينهما إلا من هذا، ولا يقع إلا ما وصفت، وما بد من المهارشة والمواثبة بما في طبيعة القوي والضعيف، ثم فرار الضعيف مهزوماً، وينتهي الامتحان!
إن مثل هذا الموضوع يشبه تكيف الطالب الصغير خلق هرتين، لا الحديث عنهما؛ فأن إجادة الإنشاء في مثل هذا البابألوهية عقلية تخلق خلقها السوي الجميل نابضاً حياً كأنما وضعت في الكلام قلب هر، أو جاءت بالهر له قلب من الكلام. وأين هذا من الأطفال في الحادية عشرة والثانية عشرة وما حولهما؛ وكيف لهم في هذه السن أن يمتزجوا بدقائق الوجود، ويداخلوا أسرار الخليقة، ويصبحوا مع كل شيء رهناً بعلله، وعند كل حقيقة موقوفين على أسبابها. وقد قيل لهم من قبل في السنوات الخالية (كن زهرة وصف. واجعل نفسك حبة قمح وقل) وإنما هذا ونحوه غاية من ابعد غايات النبوة أو الحكمة؛ إذ النبي
تعبير إلهي تتخذه الحقيقة الكاملة لتنطق به كلمتها التي تسمى الشريعة، والحكيم وجه آخر من التعبير، تتخذه تلك الحقيقة لتلق منه الكلمة التي تسمى الفن.
وقد كان في القديم امتحان مثل هذا، لم ينجح فيه إلا واحد فقط من آلاف كثيرة؛ وكان الممتحن هو الله جل جلاله؛ والموضوع حديث النملة مع النمل؛ والناجح سليمان عليه السلام (قالت نملةٌ: يا أيها النمل، ادخلوا مساكنكم، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمانُ وجنودهُ وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكاً من قولها).
إن الكون كله مستقر بمعانيه الرمزية في النفس الكاملة؛ إذ كانت الروح في ذاتها نورا، وكان سر كل شيء هو من النور والشعاع يجري في الشعاع كما يجري الماء في الماء، وفي امتزاج الأشعة من النفس والمادة تجاوب روحاني هو بذاتهتعبير في البصيرة وإدراك في الذهن، وهو أساس الفن على اختلاف أنواعه: في الكلمة والصورة، والمثال والنغمة؛ أي الكتابة والشعر والتصوير والحفر والموسيقى.
ومن ذلك لا يكون البيان العالي أتم إشراقاً إلا بتمام النفس البليغةفي فضيلتها أو رذيلتها على السواء؛ فان من عجائبالسخرية بهذا الإنسان أن يكون تمام الرذيلة في أثره على العمل الفني - هو الوجه الآخر لتمام الفضيلة في أثره على هذا العمل؛ والنقطة التي ينتهي فيها العلو من محيط الدائرة هي بعينها التي يبدأ منها الانحدار إلى السفل؛ ومن ثم كانت الفنون لا تعتبر بالأخلاق، حتى قال علماؤنا: إن الدين عن الشعر بمعزل. فالأصل هناك سمو التعبير وجماله، وبلاغة الأداء وروعتها؛ ولا يكون السؤال الفني ما هي قيمة هذه النفس، ' ولكن ما طريقتها الفنية؟ وأي عجيب في ذلك؟ أليس لجهنم حق في كبار أهل الفن، كما للجنة حق في نوابغه؛ وإذا قالت الجنة: هذه فضائلي البليغة؛ أفلا تقول الجحيم وهذه بلاغة رذائلي. وكيف لعمري يستطيع إبليس أن يودي عملهالفني. . ويصور بلاغته العالية إلا في ساقطين من أهل الفكر الجميل، وساقطات من أهل الجسم الجميل؟. .
لقد بعدنا عن القطين، وأنا أريد أن أكتب من حديثهما وخبرهما.
كان القط الهزيل مرابطاًفي زقاق، وقد طارد فارة فانحجرت في شق، فوقف المسكين يتربص بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزّها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرّج عن
نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم. وأبصر الهزيل من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلع تخلع الأسد في مشيته وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطته النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظا، وفى عصبه شدةً، وفي شعره بريقاً، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشق سِمناً وكدْنة. فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له إذ رآه نحيفاً منقبضاً، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما همت عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوى آخر. فقال له: ماذا بك، ومالي أراك متيبساً كالميت في قبره غير انك لم تمت، ومالك أعطيت الحياة غير أنك لم تحي، أو ليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد، فمالك - ويحك - رجعت صورة مختزلة من الهر؛ أفلا يسقونك اللبن، ويطمعونك الشحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتون لك الخبز في المرق، ويؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدللك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه.؟ وما لجلدك هذا مغبراً كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهد بتنظيف، وكأنك لم ترقطّ فتى أو فتاة يجري الدهان بريقاً في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؛ واراك متزايل الأعضاء متفككاً حتى ضعفت وجهدت، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدر من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدر من نعيمك ورفاهتك، وكأن جنبيك لم يعرفا طنفسة ولا حشّية ولا وسادة ولا بساطاً ولا طرازاً، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر والهشيم اليابس، فماله لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح الحمار!
قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبناً وسمكاً، وجبناً وفتاتاً، وإنك لتقضي يومك تلطع جلدك ماسحاً وغاسلاً، أو تنطرح على الوسائدوالطنافس نائماً ومتمدداً. أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معاً، وصلحت لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمن طبعاً ونقضت طباعاً، وربحت شبعاً وخسرت لذة، عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرت معهم كالدجاجة تُسمن لتذبح، غير أنهم يذبحونك دلالاً
وملالاً.
إنك لتأكل من خوان أصحابك، وتنظر إليهم يأكلون، وتطمع في مؤاكلتهم، فتشبع بالعين والبطن والرغبة ثم لاشيء غير هذا، وكأنك مرتبط بحبال من اللحم تأكل منها وتحتبس فيها.
إن كان أول ما في الحياة أن تأكل فأهون ما في الحياة أن تأكل، وما يقتلك شيء كاستواء الحال، ولا يحييك شيء كتفاوتها، والبطن لا يتجاوز البطن، ولذته لذته وحدها، ولكن أين أنت عن إرثك من أسلافك، وعن العلل الباطنة التي تحركنا إلى لذات أعضائنا، ومناع ارواحنا، وتهبنا من كل ذلك وجودنا الأكبر، وتجعلنا نعيش من قبل الجسم كله، لا من قبل المعدة وحدها؟
قال السمين: تالله لقد أكسبك الفقر حكمة وحياة، وأراني بازائك معدوما بزوال أسلافي مني، وأراك بازائي موجودا بوجود أسلافك فيك. ناشدتك الله إلا ما وصفت لي هذه اللذات التي تعلو بالحياة عن مرتبة الوجود الأصغر من الشبع، وتستطيل بها إلى مرتبة الوجود الأكبر من الرضى؟
فقال الهزيل: إنك ضخم ولكنك أبله، أما علمت - ويحك - أن المحنة في العيش هي فكرة وقوة، وأن الفكرة والقوة هما لذة ومنفعة، وأن لهفة الحرمان هي التي تضع في الكسب لذة الكسب، وسعار الجوع هو الذي يجعل في الطعام من المادة طعاماً آخر من الروح، وأن ما عدل به عنك من الدنيا لا تعوضكمنه الشحمة واللحمة، فان رغباتنا لابد لها أن تجوعوتغتذي كما لابد من مثل ذلك لبطوننا، ليوجد كل منهما حياته في الحياة؛ والأمور المطمئنة كهذه التي أنت فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فان لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة الحياة زيادة في الحياة نفسها.
وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟ إنك كالأسد في القفص، صغرت أجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصاً يحده ويحبسه، فصغر هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد، أما أنا فأسد على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي أبدا تتسع ولا تزال تتسع أبداً، وإن الحرية لتجعلني
أتشمم من الهواء لذة مثل لذة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خلتان من خلال النفس، أما واحدة فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلا، وهذه ليست لمثلي مادمت على حد الكفاف من العيش - وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليل غير قليل، وهذه ليس لها مثلي مادمت على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قبل الذات، لا منقبل الأسباب والعلل، فمن جاراها سعد بها، ومن عكسها عن مجراها فبها يشقى.
ولقد كنت الساعة أختل فأرة انجحرت في هذا الشق فطعمت منها لذة وإن لم أطعم لحماً، وبالأمس رماني طفل خبيث بحجر يريد عقري فأحدث لي وجعاً، ولكن الوجع أحدث لي الأحتراس، وسأغسثى الآن هذه الدار التي بازائنا فأية لذة في السلة والخطفة، والاستراق والانتهاب ثم الوثب شداً بعد ذلك! هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جرذ، أو أدركت يوما فرحة النجاة بعد الروغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوّ لك طفل بالضرب فهوّ لته أنت بالعض والعقر ففر عنك منهزماً لا يلوي؟
قال السمين: وفى الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري؟ هلم أتوحش معك، ليكون لي مثل نكرك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك. وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه و. . . فقطع عليه الهزيل وقال:
يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامة اسرك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيراً، وأهوى عليّ بالضرب لأنطلق حراً، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاء عليّ.
وكانت الفأر التي انجحرت قد رأت ما وقع بينهما، فسرها اشتغال الشر بالشر. . وطالت مراقبتها لهما حتى ظنت الفرصة ممكنة فوثبت وثبة من ينجو بحياته، ودخلت في باب مفتوح، ولمحها الهزيل، كما تلمح العين برقاً أومض وانطفأ، فقالللسمين: اذهب راشداً، فحسبك الآن من المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة أن الوقوف معك ساعةً هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى وبمعانيهم في الأسفل. .
مصطفى صادق الرافعي
من روائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل أعلى للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قد تفوق الحقيقة أحياناً من حيث الغرابة والروعة والميل إلى المدهش الخارق، كل ما يتصوره الخيال المغرق. وهذه ظاهرة نلمسها في كثير من حوادث التاريخ، كما نلمسها في الحوادث الفردية. ومن الأشخاص العاديين من تهيأ له حياة فياضة بالمخاطر والمغامرات المدهشةتجعل منه شخصية فريدة تخلق بذكر التاريخ، وإن لم تؤثر في مجرى حوادثه. وكثيراً ما تبدو هذه السير الشخصية العجيبة برائع حوادثها ومفاجآتها في لون خارق لا تسبغه الحوادث العظيمة على التاريخ نفسه، ولا يسبغه الخيال المغرق على القصة المبتكرة.
ومن هذه النماذج الخارقة للحياة الفردية، حياة الفنان الإيطالي بنفونوتو وهو نموذج ليس له فيما نعتقد مثيل في الغرب أو الشرق؛ ومما يزيد في قيمته وروعته انه صورة رسمتها يد ذلك الفنان البارع الذي نقرأ حياته، عن نفسه وعن حوادث حياته. وكم من تراجم شخصية بديعة انتهت إلينا لشخصيات عظيمة وبأقلام قوية ساحرة؛ ولكنا لا نستطيع أن نلمس فيها رغم روعتها، تلك الحياة المضطرمة التي تفيض بها سيرة بنفونوتو تشلليني. ومن الغريب أن تشلليني لم يكن كاتبا ولا أديبا، يسبغ من أدبه وقلمه على حوادث حياته سحراً وقوة؛ ذلك أن معظم التراجم الشخصية العظيمة التي انتهت إلينا أتيحت لها أقلام بارعة صاغتها في أوضاع أدبية باهرة، وكثيرا ما يتفوق الجمال الأدبي فيها على روعة القصة وسحر الحوادث. ويعرف الذين قرأوا (اعترافات) جان جاك روسو، أو ترجمة المؤرخ الفيلسوف جيبون لنفسه، أي جمال يسبغه القلم ويسبغه البيان الرائع على تلك الصحف الشائقة التي يقدمها إلينا كل من روسو وجيبون عن نفسه، حتى أن سحر البيان ليسمو في مواطن كثيرة، على روعة الحوادث ذاتها. ولكن تشلليني كان اكثر من كاتب وأديب؛ كان فناناً عظيماً تتجلى عبقرية الطبيعة في مواهبه، ويستمد منها سحر البيان وآية
الوصف؛ وأنا لنلمس في تلك الصحف القوية التي تركها لنا عن حياته العجيبة، روعة هذه المواهب الساذجة، وتحملنا بساطتها المؤثرة إلى أعماق هذه النفس التي تحدثنا لا بواسطة اللفظ الساحر، ولكن في نوع من الوحي والتأثير الروحي، ونكاد نشعر ونحن نتتبع تلك الصورة الحية التي يرسمها لنا تشلليني عن نفسه، إننا نرى تشلليني نفسه، لا تفصلنا عنه القرون، ونشهد معه تلك الحوادث العجيبة التي يقصها علينا، نشهد أحوال عصره ماثلة أمامنا، في ألوان ساطعة، تسبغ عليها ريشته البارعة كل ما في الحقيقة من قوة وروعة وحياة.
كان تشلليني من غرس عصر الأحياء، ذلك العصر الذي تفتحت فيه مكامن العبقرية البشرية، وأخرجت لنا ثبتاً حافلا من تلك الشخصيات التي يزدان بها تاريخ الإنسانية؛ وقد بزغ فجر هذا العصر في إيطاليا، منذ القرن الرابع عشر، وأشرقت طلائعه على يد دانتي وبتراركا وبوكاشيو وماكيافيللي، وميراندولا وجاليلو، ثم على يد رافائيل سانزيو وميشيل انجيلو وعشرات آخرين من أبطال الفن الرائع ترجمهم لنا جميعا، جورجو فازاري في أثره الضخم؛ وكان بنفونوتو تشلليني من جنود ذلك الجيش الباهر الذي لبث ضوء عبقريته يسطع في جنبات إيطاليا زهاء قرنين. ولم يكن في الصف الأول من ذلك الثبت الحافل، ولكنه يقدم إلينا بحياته الغريبة أقوى وأصدق مثل لعصره، بكل ما فيه من حسنات ورذائل؛ ولا غرو فقد عاش تشلليني في عصر البابوية الذهبي، وعصر الحروب الأهلية والغزوات الأجنبية في إيطاليا، واشترك بقسط وافر في كثير من الحوادث العظيمة التي كانت تهز أسس المجتمع الإيطالي يومئذ، وشهد عن كثب سير أولئك البابوات والأحبار الذين كانت أقوالهم ونزاعاتهم يومئذ كل شيء في الملك والحياة العامة.
ولد تشلليني في أسرة متوسطة الحال في سنة 1500 بمدينة فلورنس (فيرنتزا) التي كانت يومئذ في طليعة المدن الإيطالية الزاهرة، وكانت موئل الفنون والآداب؛ وكان أبوه مهندساً وموسيقياً يجيد العزف بالمزمار، وفناناً يقوم بصنع التحف العاجية الدقيقة؛ وكان يحاول أن يغرس في نفس طفله بنفونوتو حب الموسيقى ويرغمه على العزف والغناء. ولكن بنفونوتو كان يتضجر من الموسيقى، ويؤثر عليها الرسم. ولما بلغ الخامسة عشرة التحق على كره من أبيه بحانوت صائغ ماهر؛ وكان يهوى هذه الصناعة بطبيعته؛ ولكنه لم يلبث أن
اضطر إلى مغادرة فلورنس على أثر اشتراكه في شجار دموي وقع بين أخيه وبين جماعة من جند الأمير، وقضى من جرائه بنفي الأخوين من فلورنس؛ فسار تشلليني إلى مدينة سيينا، واشتغل هنالك حيناً لدى صائغ آخر؛ ثم سعى والده لدى الكردينال دى مديتشي الذي انتخب لكرسي البابوية باسم كليمنضوس السابع، فسمح للأخوين بالعودة إلى فلورنس؛ واقترح الكردينال على الأب أن يرسل ولده بنفونوتو إلى بولونيا ليتعلم هنالك الموسيقى على أساتذة الفن بتوصية منه، فاغتبط الأب لذلك أيما اغتباط، وقبل الفتى رغم إرادته لأنه كان يكره الموسيقى وينعتها (بالفن الملعون)، ولبث مدى أشهر يتعلم الموسيقى، ويشتغل أيضاً بصناعته المحبوبة أعني الصياغة وصنع القطع الفنية الدقيقة؛ ثم عاد إلى فلورنس يزاول صناعته حتى اشتهر رغم حداثته، وتحدث الناس بمواهبه. وهنا اتصلت أواصر الصداقة بينه وبين فتى يدعى تاسو، وهو فنان حفار؛ فاقترح عليه أن يسافر الاثنان إلى رومه؛ وكانت هذه أمنية تثير خيال فتى ذكي مخاطر مثل بنفونوتو، فقبل الاقتراح؛ وسافر الاثنان إلى رومه، وكان تشللينى يومئذ في التاسعة عشرة من عمره
وفي رومه اشتغل تشلليني لدى أقطاب فنه، وزاد كسبه، وتفتحت أمامه الآمال الكبيرة؛ وكانت رومه في ذلك العصر مدينة الأحبار، ومعقل الفاتيكان، تنثر عليها البابوية من سلطانها وبذخها وبهائها ألوانا رائعة؛ وكان الاتصال بذلك المجتمع القويالباهر أشد ما يثير طلعة ذلك الفتى الطامح؛ وكانت البابوية وأولياؤها من الأحبار الأكابر يومئذ موئل الفن الرفيع، وملاذ الفنانين الموهوبين؛ فاستقر تشلليني في رومه يرقب فرصه، ولبث إلى جانب عمله يشتغل بدراسة النقوش والصور الخالدة التي خلفها ميشيل انجلو ورافائيل، في صروح رومة؛ ولم يمض سوى قليل حتى أتيحت له فرصة الاتصال بحبر كبير هو أسقف شلمنقة أصلح له بعض التحفوسر من مهارته وعهد إليه بصنع إناء بديع مزخرف؛ وعهدت إليه زوج الأمير تشيجى بصنع حلية من الجواهر. وهنا يفض تشلليني في وصف التحف والحلي البديعة التي كان يصنعها إفاضة تدل على ما كان يجيش به من شغف بفنه ومهنته، وهنا أيضا يطلق تشلليني العنان لأهوائه المضطرمة ويصف لنا بمنتهى الصراحة والجرأة مواطن لهوه، ومواطن عبثه وفسقه مهما كانت من الوضاعة، ويقص علينا كيف أصابه الوباء الذي عصف يومئذ برومة، عقب ليلة غرام قضاها مع فتاة خادمة لبغي حسناء
جاءت لزيارة صديق له، فاختص الصديق بها، واقتنص هو الخادمة خلسة عنها. وقد قص علينا روسو في اعترافاته كثيراً من مواطن لهوه وفسقه، في أحاديث صريحة واضحة؛ ولكن روسو يسبغ من بيانه على تلك الأحاديث في كثير من الأحيان لوناً من الحشمة، وتكاد تنم عن شعوره بالآثم والندم واحتقار مواطن الضعف الإنسانية. أما تشلليني فانه يقص علينا تلك المناظر الآثمة بكل بساطة، ويصف لنا طبيعته المضطرمة الجامحة دون استحياء، ويكشف لنا عن دخائل نفسه دون تحفظ، وأخص ما يلفت النظر في ما يقصه علينا من تلك الصفات النفسية، انه
كان كثير الإفراط والعنف، شغوفاً بالمخاطرة، تواقا إلى الانتقام، كثير المجون والاستهتار.
ونجا تشلليني من الوباء، بينما احتمل كثيراً من أصحابه، ولكن رومه لم تكد تفيق من عيث الوباء حتى دهمتها مصائب الحرب والحصار، وزحفت الجنود الإمبراطورية - جنود الإمبراطور شارلكان - على رومه بقيادة الكونستابل دى بوربون (سنة 1527). وهنا يبدو تشلليني في ذروة الجرأة والمخاطرة، فنراه رئيس سرية من الجند المأجورين يتولى حراسة قصر الساندرو دلبيني، ثم يخف مع سيده إلى الأسوار المحصورة ليرى الجيش المحاصر. وفى ذلك الموطن يقص علينا تشلليني قصه لا ينقضها التاريخ؛ وهي أنه حينما اشرف على الأسوار مع زملائه ليرقب سير المعركة، رأى وسط الدخان رجلاً يرتفع عن الجميع، فصوب رصاصه نحوه، وأطلق مع زملائه في تلك الناحية عدة رصاصات، وحدثت على أثر ذلك في قلب الجيش ضجة كبيرة؛ وشاع بعد ذلك أن الكونستابل دى بوربون قد قتل من رصاصة أطلقت عليه من وراء الأسوار. ويدعي تشلليني أنه هو الذي أصاب الكونستابل برصاصه. وليس في ذلك ما ينقضه التاريخ، ولكن ليس فيه أيضا ما يؤيده. فقد سقط بوربون قتيلا في بدء القتال من رصاص الجند المحصورين؛ ولكن ليس ثمة ما يؤيد أن تشلليني هو صاحب الطلقة القاتلة. وعلى أي حال فأن الحادث دليل على جرأة تشللينيووافر شجاعته. ولم يمنع مقتل بوربون جنوده من اقتحام المدينة، فدخلوها في عدة مواضع دخول الضواري المفترسة، وأضطر البابا كليمنضوس السابع أن يفر مع بطانته إلى حصن سانت انجيلو الذي يتصل بقصر الفاتيكان بأقبية سرية؛ وكان ذلك الحصن الشهير الذي ما يزال إلى اليوم قائما في رومه على ضفة نهر تفيرى، من أمنع وأعجب
معاقل العصور الوسطى، يلجأ إليه البابوات بكنوزهم كلما دهم رومه خطر السقوط في يد العدو، ويتخذ في أوقات السلم سجناً تزج إليه البابوية أعداءها. واختار الجنرال دى مديتشى قائد الحرس تشللينلي ضمن حرس الحصن إذ كان يعرف شجاعته؛ وكان الحصن مجهزا بالمدفعية من جميع نواحيه، فانتخب تشللينيليتولى إطلاق إحدى وحدات المدفعية، ولبث مدى شهر يتولى هذه المهمة. ويقول لنا تشلليني انه أتى في ذلك بالعجب العجاب، وحصدت قنابله كثيرا من جند العدو، وباركه أكابر الأحبار وهنأوه على براعته. وفى خلال ذلك استدعاه الباباكليمنضوس، وكان قد عرفه من قبل وعهد إليه بصنع بعض التحف وأعجب بافتنانه، وطلب إليه أن يقوم باستخراج جميع التحف والحلي الرسولية من علبها وإطاراتها الذهبية؛ وبعد أن خبا البابا الجواهر في بطانة ثيابه وثياب بعض خواصه، أمره أن يصهر القطع الذهبيةسرأ؛ فأخذتشللينيواشتغل بصهرها في ركن صغير إلى جانب مدفعيته؛ ولبث أثناء العمل يطلق القنابل على جند العدو؛ وهنا يقول لنا تشلليني انه أطلق قنابله ذات يوم على فارس يسير حول خنادق العدو فأرداه وتبين انه هو البرنس دى اورانج كبير الجيش المحاصر.
وبعد أيام قلائل عقد الصلح؛ وسار تشللينيإلى فلورنس ليزور أباه وأسرته، ملئ الجيب، يركب فرساً جميلاً، وورائه خادم خاص. وبعد أن مكث قليلا سار إلى مانتوا ليزورها، واتصل بأميرها دوق مانتوا، وصنع له بعض التحف الجميلة. ثم عاد إلى فلورانس، فألفاها تتاهب للدفاع عن نفسها ضد جنود البابا كليمنضوس، فاعتزم أن يشترك في الدفاع عن وطنه، ولكن البابا كليمنضوس أرسل يستدعيه إليه، ويعده بوعود حسنة، فعاد إلى رومه، واستقبله البابا مراراً، وعهد إليهبصنع حلي وتحف خاصة بثيابه وتاجه، ثم عهد إليه بصنع نماذج للنقود تستعمل في دار الضرب البابوية، وأبدى تشللينيفي ذلك كله من المهارة والدقة ما جعل البابا يضاعف له العطف والبذل ويعينه ناظراً لدار الضرب. وهنا وقع حادث جديد يدل على صرامة تشللينيوعنفه؛ ذلك أن أخاه الأصغر جوفانيالذي كان يومئذ في رومه ضمن جند الدوق الساندرو دى مديتشي اشتبك وبعض فتيان من صحبه ذات مساء مع جماعة من الحرس كانت تقود إلى السجن صديقاً لبعض أولئك الفتيان، فأصيب جوفانى خلال المعركة بجرح خطير، وحمل مغشياً عليه إلى قصر الدوق الساندرو، فهرع إليه
بنفونوتو، ولكنه أسلم الروح بين ذراعيه؛ وعرف بنفونوتو الرجل الذي طعن أخاه الطعنة القاضية، فسار إلى منزله ذات مساء، وكان الرجل يتنزه أمام داره، فطعنه بخنجره طعنة نجلاء خر لها صريعاً، وبذا انتقم لأخيه وشفى نفسه. وعاد إلى عمله كأن لم يحدث شيء. وكان القانون يومئذ صريع الجاه والهوى، فمن كان ذا جاه أو حماية استطاع أن يجري القصاص لنفسه وأن يستبيح دم خصومه
واستمر بنفونوتو حيناً يقوم بخدمة البابا، فأعاد صنع التحف الرسولية كما كانت قبل الحصار، وكلفه البابا بصنع تحف أخرى، فوضع رسومها ونماذجها، وكان البابا دائماً فارغ الصبر يستحثه على السرعة، وبنفونوتو لا يدخر وسعاً في العمل، وأصابه ذات يوم مرض في عينيه، وعاقه عن العمل حيناً، فغضب البابا واعتقد البابا انه يتقاعد عن إتمامه قصداً، وكان ثمة بعض رجال البطانة ممن يحقدون على بنفونوتو، ويستكثرون عليه هذه الرعاية، يدسون دائماً حقه ويلتمسون الفرص لإحفاظ البابا عليه بحجة انه مقصر في أعمال قداسته وانه كثير الحب للمال لا يقنع أبداً بما يدفع إليه من الأجور والهبات، وأنه كثير الادعاء والغرور؛ فأثمرت هذه السعاية ثمرها، وطلب البابا من بنفونوتو ما لديه من تحفه، فامتنع من بنفونوتو من تسليمها بحجة أنها لم تتم وانه لم يقبض أجرها، فقبض عليه بأمر البابا، وأخذت التحف قسراً عنه، ثم أطلق سراحه؛ بيد أنه كان قد فقد عطف البابا. فحاول أن يجد يومئذ عزائه في الحب وكان قد تعرف بسيدة صقلية ذات ابنة حسناء، هام بحب الابنة، واعتزم أن يختطفها ويفر بها إلىفلورنس.
ولكن الأم شعرت بمشروعه، فسافرت مع أبنتها خلسة إلى صقلية؛ ولجأ بنفونوتو إلى ساحر في رومه ليعاونه على الاجتماع بحبيبته، ولبث أياماً يحضر الجلسات السحرية خارج رومه؛ ولكنه لم يفز طبعاً ببغيته. ثم نسى غرامه، ووجد عزاءه مرة أخرى في فنه وفي التماس صنعبعض الحلي والتحف النادرة التي تدلل على أنه أستاذ عصره، وانه لا يجارى في ابتكاره وبراعته.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي
دق على الخشب
أو (بص وراك)
من عبارات الدعاء والتشميت لجلب الخير وطرد الشر عند الإنجليز قول الواحد منهم (مس الخشب) أو (دق على الخشب) كما نقول نحن (بص وراك) كأن هذا المس أو هذا الدق يطرد الشيطان أو العفريت الذي يتحفز غير منظور وغير مشعور به لقطع الخير عن أهله. يراد به أن يكون كالبسملة عند المسلمين أو كذكر الصليب عند المسيحيين ضماناً لحسن البدء وحسن الختام.
وقد رأينا مقالاً لعالم إنجليزي بهذا العنوان حاول فيه تعليل هذا المس وتسلط الخرافات على الناس قال:
(كلما مر يوم رأى العالم وقد عراه الدهش انه لا يزال في القرن العشرين أناس يؤمنون بالسحر. أما أنا فلا أفهم قدرة الناس على أن تدهشهم هذه الحوادث التي تتكرر في مدة قصيرة).
ففي سنة1921 كان حديث القوم عندنا ذلك المنزل المسحور الذي كانت فيه قوى غير منظورة تبعثر الأثاث والرياش في جميع جوانبه، وفي سنة1926 اتهم بعضهم بالسحر في محاكمة ملون، وفى سنة1928 روع الناس بوقائع سحرية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
هذا بعض من كل، وهم كلما سمعوا بحادثة من هذا النوع دهشوا لها أيما دهش وقالوا إنها مستحيلة، ومن التخرص والأحاديث الملفقة. ثم تراهم يدقون على الخشب ويحاذرون المرور تحت السلالم الخشبية ويلقون الملح من فوق أكتافهم إلى غير ذلك، هذا كله مع علمنا بان السحر خارج عن دائرة العقل والحقائق العلمية.
فان كان ذلك كله مستحيلاً وخارجاً عن دائرة العقل فكيف قوى على البقاء آلافاً من السنين، على حين أن خصوم السحر والسحرة جعلوا ديدنهم في كل زمان ومكان القبض على السحرة وحرقهم أينما وجدوهم. فهل هذا كله مناقض للعقل؟
كنا منذ مئة وخمسين سنة نقول إن طيران الإنسان مناقض للعقل، وكنا منذ عشرين سنة نقول أن من مناقضات العقل جلوس امرئ في منزله بلندن ينصت إلى عزف الموسيقى في برلين.
وقد علل بعضهم هذه الغرائب بقوله إنها من فئة الحقائق التي تخضع لناموس طبيعي
مجهول، ومتى يعرف هذا الناموس تصبح الغرائب حقائق لا علاقة لها بالسحر، لأن السر لا يخضع لنواميس الطبيعية.
وقد تكون هنالك نواميس نجهلها، ومع ذلك فهي تعمل عملها كل يوم أمام عيوننا.
وفى سنة1770 كان الناس يسمون التنويم المغناطيس سحراً أي ضبط إنسان لحركات إنسان آخر وأعماله وهو يجهله تمام الجهلفلا يمكن أن يقال أن بينهما تواطؤاً وتدبيراً سابقاً.
ثم جاءت سنة1778 فسموه بالمسمرزم وسلموا به جدلا وعلى كره منهم كما نسلم نحن الآن بالتليباتي أي انتقال الأفكاروننتظر ناموساً طبيعياً لتعليله، ولكن هذا الناموس لم يكشف بعد ونحن نسميه في هذه السنة، سنة1934 بالهبنوتزم. فهل نستطيع أن نعلل بناموس طبيعي كيف يتمكن بعض الناس وفى أيديهم غصن من شجر البندق من أن يدلونا على ينابيع ماء تحت الأرض التي يقفون عليها وذلك بانحراف الغصن فجأة في أيديهم؟
وهل نستطيع كذلك أن نعلل تعليلاً طبيعياً حوادث شفاء المرضى والمفلوجين والمقعدين والمبتلين بسائر العلل في كهف لورد وتريبيه (في فر نسا) فان كنا لا نستطيع ذلك؟ وجب علينا الأيمان بالسحر ونبذ القول إننا نرفضه لأنه لا يعلل بناموس طبيعي نعرفه.
ثم ما هي هذه التي يسمونها حقائق علمية. أنا لا أعرف كثيراً منها، وإنما أعرف كثيرا من المذاهب والآراء العلمية. ففي أيام تلمذتنا كان من الأوليات أو البديهيات قولهم (إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين). ولكننا بعد مذهب آينشتين نعلم علمًا ليس بالظن أن ذلك ليس صحيحاً.
وكان من الحقائق العلمية في حداثتي أن أهل الكيمياء القديمة كانوا جهلاء وحمقى لأن القاعدة التي كانوا يبنون عليها تجاربهم وامتحاناتهم كانت فاسدة. فقد كانوا يقولون إن عناصر معدن من المعادن يمكن تحويلها إلى عناصر أخرى يركب منها معدن آخر. وعليه استدلوا أنه يمكن تحويل معدن ما ذهباً أو فضة باستعمال الوصفة الصحيحة لذلك. وبالفعل استحدثوا الذهب من النحاس، ولكن نفقات التجربة كانت اعظم من الانتفاع بها عمليا كما أن استقطار الزيت من الفحم كان إلى عهد قريب عظيم النفقة بحيث لا يمكن استخدامه تجارياً.
وبعد ما تقدمت في السن وجد العلماء أن تحويل المعادن بعضها إلى بعض حقيقة علمية كما
ظن أهل القرن الثامن عشر لا خداعا كما ظن أهل القرن التاسع عشر بعده. فصار العالم بعد ذلك أكثر إجلالا لأهل الكيمياء القدماء وصرت أنا أكثر شكاً في الحقائق العلمية.
أما المذهب السحري فخلاصته هي أنه كما أنه حولنا قوى عظيمة الفعل كالكهربائية، وهذه القوى تنتج أشياء لا نزال نجهلها إلى الآن كذلك في داخلنا قوى عظيمة الفعل كالهبنوتزم و (التبصير) نستطيع بها بعد تربيتها وإتقانها أن نأتي أفعالا لا تخطر لنا الآن على بال.
ويقول الخبيرون بالسحر إننا نستطيع بهذه القوى أن نخضع جميع الأشياء المادية التي نراها حولنا من شفاء الأمراض والتكهن بالمستقبل. والمعيشة بلا طعام. والعوم في الهواء كما صنع الوسيط دوجلاس هوم في القرن الماضي بشهادة الشهود العدول. ونحكم الإنسان في مصيره.
وقد قسم المعاصرون الأعمال السحرية قسمين: سموا ما يراد به الخير والرشد السحر الأبيض، وما يراد به الشر والنكد السحر الأسود. فمن قبيل الأول الشفاء بالإيمان وهو الشفاء الذي يجرى على أيدي أئمة التبت. ومن قبيل الثاني سحر سحرة أفريقية بين قومهم السود. ومن غريب ما يذكر في هذا الصدد أن الموظفين الإنجليز والمبشرين في أواسط أفريقية يعودون منها وهم يعتقدون أن لأولئك السحرة قوة خارقة وإن لم يدركوها ويعرفوا لها تعليلاً.
وغاية (علم) السحر إن صحت تسميته علماً هي إضعاف شهوة الجسم بسلسلة من أعمال التمرين والرياضة والتقشف اعتقاداً أن (إماتة ما هو مادي إنما هي إحياء ما هو روحاني وما وراء الطبيعة فينا. وهكذا نتمكن بالأشياء غير المنظورة من إخضاع الأشياء المنظورة والتحكم فيها).
ولا نستغرب أن يصدق أهل أواسط أفريقية سحر سحرتهم وكهانة عرافيهم وكهنتهم ونحن نرى الأوربيين الذين يعيشون بينهم مبشرين وتجاراً ومستعمرين يحارون في تعليل بعض الحوادث التي يخبرونها بأنفسهم ويرونها بعيونهم، فما كدنا ننتهي من نقل مقالة العالم المتقدمة حتى قرانا حكاية لضابط إنجليزي فحواها أن بعض الأقوام الذين يعيشون حول بحيرة البرت نيانزا في أعالي النيل يقدسون التمساح ويقدم كاهنهم قرباناً له من آن إلى آن - فتاة صغيرة من فتياتهم لرد غضب الآلهة إذا أنسوا غضبها.
وقد روى هذا الضابط انه أنقذ فتاة أعدت طعاما للتمساح المقدس بترويع التمساح من غير أن يلحق به أذى. وأرسلها الضابط إلى مكان بعيد تشفى فيه من الروع الذي أصابها.
وفي اليوم التالي علم الكاهن بما صنع الضابط فجاءه معاتباً وقال له في جملة ما قال:
(أتظن الفتاة تنال الشفاء. لن يمضي عليها شهر من هذا التاريخ حتى تموت). وكان ما قال الكاهن
وقد روى الضابط ما حدث وعلق عليه بقوله: (ومما كان سببا في أسفي أنه مع كل ما بذل من الجهد لشفاء الفتاة ماتت في خلال شهر كما أنبأ الكاهن. أفكان موتها من لعنة الآلهة أم من تأثير الروع؟ ذلك ما لا يستطيع أحد معرفته)!
ق. س
مصطفى كمال وموسوليني
كيف أجاب بطل تركيا على تهديد بطل إيطاليا
منذ بضعة أسابيع وقف دكتاتور إيطاليا وباعث نهضتها ليلقي خطبة من خطبه النارية على شباب إيطاليا الفاشيست ليزيدهم حماسة ووطنية فوق ما خلق فيهم منها كما هي عادته منذ أن تقلد زمام أحفاد الرومان، فرأى أمامه بحرا زاخرا من ذوى القمصان السود وكلهم ممتلئون حرارة وحماسة، ومتعطشون لليوم الذي تتاح لهم الفرصة فيه لإبراز مقدرتهم الجسمانية، ومهارتهم في فنون الحرب والفروسية، فغره ذلك: نعم، غر الدوتشي ذلك الجمع المحتشد وتلك الصفوف المتراصة، الثابتة كالبنيان. وخيل إليه في تلك اللحظة أن العالم كله قد ارتدى القمصان السود وجاء ليقدم آيات الخضوع وفروض العبودية لموجد إيطاليا الأوحد، ليزداد كبراً على كبريائه.
وهنا لعب الغرور دوره وزلت بموسوليني القدم زلة سياسية فظيعة. أجل، فقد أوحى الغرور إلى هذا الجبار أن يميط اللثام عن أمور كان حريصا على كتمانها حتى تلك اللحظة حرصه على حياته. . فأشار في سياق كلامه إلى رجاله، شباب إيطاليا الحاضرين ساعتئذ، أن أرض القياصرة لم تعد تسعهم وأن عليهم بعد الآن أن يتطلعوا بأبصارهم نحو الشرق ونحو الجنوب. . .
(تلك البلاد التي غدا أحقر علوج الغرب يمني النفس بالسيادة عليها؟!. .)
لقد غفل عن نفسه موسوليني هذه المرة وارتكب في غفلته هذه خطأ سياسيا لا يمكن تلافيه بالسهولة التي كان ظنها. ذلك انه قد تحرش وبالأحرى صوب سهام كلامه، بقصد أو بغير قصد لذلك الذي أثبت مراراً لأوربا، المفتونة بنارها وحديدها، انه مستعد دائما وأبداً لأن يعطيها درسا جديدا أقسى وأمر من كل الدروس القاسية التي أعطاها إياها في الماضي القريب فقط. . .
وما كاد الأثير يحمل صدى هذه الخطبة إلى قاعة مجلس الأمة الكبير ويوصله إلى آذان جبار تركيا العتيد، حتى أوعز إلى سفيره في روما أن يقابل الدكتاتور ويستوضحه عن كلمة (الشرق) التي قالها وأومأ إليها في عرضخطبته تلك. وما كاد موسوليني يعلم أن سفير تركيا يريد مقابلته حتى انتبه للغلطة التي وقع فيها. فأسرع للقاء الوزير وأكد له بأنه ليس
إلا محباً لتركيا ومعجبا بغازيها الأعظم. ولم يقصد قط الأراضي التركية فيما أراد من (الشرق) في خطبته. وانه لا يضع تركيا في مصاف الأمم الشرقية، بل يعتبرها دولة أوربية من صديقات إيطاليا. . .
فبمثل هذه التأمينات ظن موسوليني انه يستطيع اليوم أن يلعب مع الكماليين (أو ليسوا هم في الحقيقة شرقيين أيضاً؟؟) الدور الذي لعبته إيطاليا بالذات مع حكومة (الباب العالي) في حرب طرابلس وبنغازي بالأمس القريب، فلذا شعر كأن الكابوس الذي ضايقه من يوم إلقائه الخطبة المذكورة - وربما كان لأول مرة في حياته الدكتاتورية - قد زال بانصراف سعاد بك من لدنه، فوجئ على حين غرة بضربات سياسية قوية متتالية من منقذ تركيا العظيم.
قلنا لم يكد موسوليني يضحك من تحت شاربيه الحليقين بعد انصراف الوزير الشرقي حتى ذهل ووقف واجما، إذ علم أن قيامة الجيش التركي قد قامت، ذلك الجيش الذي لم تكن كتائبه قد تنفست بعد من غمار الحرب الكبرى في وجه أوربا العاتية، قبل عشر سنوات فقط، وهددت جيوش أقوى دول العالم على أبواب الآستانة في الوقت الذي كان قد خيل إلى العالم أن حملة الـ (آل سنجاق)(العلم التركي الأحمر) قد اصبحوا في خبر كان ودخلت سلطنتهم وسيادتهم فيما قدر لها من صفحات التاريخ. .
وقف اليوم هذا الجيش اللجب، الشاب القوى، المزود بأحدث معدات الحرب الآن، وقف ليستعرضه وليرد له تحياته العسكرية الصميمة المشير (الغازي مصطفى كمال باشا)، قائده العام بالأمس القريب - يوم أن كانت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء في الجبهة الغربية من بلاد الاناضول - ورئيسه الأعلى اليوم الذي اخذ يزور الأماكن التي قد يغر ضعف في استحكاماتها أو عدم اعتناء في حراستها من يسوقه سوء حظه من جيوش الغرب إلى أن يشتبك معها. .
وعلى اثر عودة الغازي إلى الآستانة من طوافه لغرب الأناضول ومن استعراضاته لحماة سواحل تركيا الغربية والجنوبية دوى في قاعات عصبة الأمم والقاعات السياسية الأخرى في أوربا خبر التوقيع على معاهدة أصبحت بموجبها دولالبلقان - كلها تقريباً - كتلة واحدة بزعامة سيدة البوسفور، وأعقب ذلك اتفاق بين فرنسا وروسيا السوفيتية حليفة تركيا القوية.
ومن ثم اعتراف شبكة بلقان بروسيا نتيجة للمساعي التي بذلها في ذلك السبيل توفيق رشدي بك (ساعد الغازي السياسي). .
وليس هذا كل ما فعله الأتراك على أثر غلطة (الدوتشي) الزعيم الإيطالي الأعلى، تلك الغلطة التي ألقت في يد الكماليينسلاحاً قوياً ليستعملوه إلى أقصى حد ممكن؛ فرصة انتهزها الأتراك واستغلوها لصالحهم إلى ابعد الحدود المستطاعة. .
أمر داهية تركيا أن يخصص فورا - بحجة الخوف من غارة إيطالية - ثلث الميزانية العامة لهذه السنة لإعلاء شان الدفاع القومي وأوصى اليابان - صديقته الجديدة - بصنع بوارج وغواصات ونسافات وطرادات وغيرها من معدات القتال البحري، كما أوعز في الوقت نفسه إلى وزير خارجيته وممثله في عصبة الأمم أن يطلب إلى ممثلي الدول ان يأذنوا لتركيا لتلحق القسم المعتل الوحيد من معاهدة لوزان بأمثاله من مجموع فصول معاهدة (سيفر) التي كان توقيع الكماليين عليها قد جرى، لا كما جرى عليها توقيع باقي دول الاتفاق الرباعي، إنما برؤوس الحراب المسمومة التي مزقتها إرباً إرباً وقبرتها في مهدها فيما يتعلق بتركيا، بينما ألمانياالهتلرية الآرية العظيمة لا تزال إلى يومنا هذا تعمل المستحيل للتخلص من بعض أغلال تلك المعاهدة. وعلى ذلك تقدم ممثل تركيا إلى مجلس جنيف وأبلغ أعضاءه رغبة الأمة التركية في تحصين المضايق وتسليحها، إذ أن هذا القيد الوحيد الذي أجبرت ظروفه الدقيقة تركيا أن ترتضي به كتذكار - وقتي على الأقل - لمعاهدة لوزان التي اعترف فيها باستقلال تركيا المطلق، لم يعد الآن يقوى على نمو ساعد تركيا الفولاذي.
إن هذا القيد قد أكله الصدأ وتصدع من جوانبه كلها، ولا يلبث حتى يتفتت من تلقاء نفسه إن لم يسرع ممثلو الدول في التقاط أوصاله التي ستتطاير في القريب ليحتفظوا بما ضحوا في الدردنيل. .
(ولو أن السير جون سيمون صرح حديثاً وهو، مسرور، في مجلس العموم (أن توفيق رشدي بك قد وعده أخيراً بأن تركيا سوف لا تصر على هذا الطلب في الوقت الحاضر؟!. .)
وها هي ذي الأسلاك أخذت تنبئنا الآن بأن صاحب الجلالة رضا شاه بهلوي إمبراطور
إيران العظيمة قد ترك بلاده لأول مرة في أيام حكمه، واجتاز الحدود التركية ووصل بموكبه الشاهاني المؤلف من (40) وزيراً وقائداً واختصاصياً ومرافقاً إلى (أنقرة) عاصمة الكماليين، محروساً طول الطريق بقوات مضيفه من البر والبحر والجو، ومستقبلاً ومشيعاً حيث ما مر من بلاد جارته العزيزة بهتاف الشعب التركي بحياة جلالته الغالية، وذلك إجابة منه لدعوة بلغته من زميله الحاكم الشرقي الكبير، وجاره القوي العزيز، الذي أقام على أنقاض حكومة (الرجل المريض) البائدة، هذا الصرح الشامخ، وهذا السد المنيع في وجه أوربا كلها، والذي دعاه ليرتبط وإياه بروابط ستهلع لها قلوب الكثيرين من طغاة أوربا المتجبرين. ومن بينها، على كل حال قلب الدكتاتور الإيطالي، صاحب التهديد، الذي لا بد وقد بلغته أيضا الخطب الشديدة والكلمات النارية التي ألقاها أخيرا في المجلس الوطني الكبير نواب الأمة التركية، جواباً على تهديداته المعروفة، وكذلك التصريحات الرسمية التي ختم بها هذه الجلسةشكري قايا بك بالنيابة عن زميله وزير الخارجية الغائب، عن موقف تركيا في الحرب المقبلة والتنويه الصريح الذي نوه به هذا إلى المصير السيئ المنتظر على حدود تركيا وسواحلها الصلدة الصلبة المهلكةلكل من تحدثه نفسه بأن ينظر خلسة أو بأن يمد في ساعة جنون أو غرور يده إلى الأرض التي يفتديها في كل لحظة 17 مليون تركي وتركية، من اعظم الأمم وطنية وشجاعة، وعلى رأسهم وفى مقدمتهم صناديد تركيا العظام الذين باعوا النفس في سبيل هذه التربة عشرات المرات: وهم الغازي وجماعته من كبار القادة.
وعلى كل حال فلسنا هنا في معرض الانتقاص من قدر موسوليني إنما أردنا أن نبين أن الشرق مهد البطولة والأعمال الخالدة ومهبط الوحي ومنبت العلم والمدنية لا يعدم في أيامنا أيضاً أن يرد الغرب على أعقابه خاسراً نادماً، ويرفعرأس الشرق والشرقيين عالياً.
وقد أردنا بهذا المقال إن نبين بصورة خاصة كيف أجاب جبار الشرق على تهديد جبار الغرب، وكيف أن القوة وحدها هي التي يحترمها الأقوياء ويهابون جانبها، وكيف إن القوي وحده هو الذي يطلب وده وتلتمس صداقته.
بغداد
ج. مولود
الأدب كما ينبغي أن يكون
بقلم الأستاذ أحمد أحمد بدوي
ما غاية الأدب؟ وما رسالته في الحياة؟ سؤالان إذا نحن استطعنا الإجابة عنهما أفلحنا إلى حد كبير في تحديد ما ينبغي أن يكون عليه الأدب، وما يجب أن يأخذ به الأدباء أنفسهم حتى يصلوا أو يقاربوا المثل العليا التي ننشدها في الحياة، ولا تظنوا أن الإجابة عن هذين السؤالين هينة يسيرة، بل هي عسيرة جداً، ومع عسرها تختلف باختلاف العصور إن لم تختلف باختلاف الأفراد، ولكنى أستطيع أن أقول: إن الأدب الخالد، أو بعبارة أخرى ما يجب أن يكون عليه الأدب ليكون خالداً، هو تصوير المثل العليا للإنسانية، ونشدان هذه المثل، إذ أن غايتنا في الحياة هي السير إلى المثل العليا بجد وعزيمة حتى نحققها أو نقاربها، وبما أن الأدب هو المعبر الدقيق عن عواطف الإنسانية وآمالها وأحلامها، فلتكن مهمته في الحياة هي تصوير المهمة الملقاة على عاتق الإنسانية وإن الإنسانية لتسير إلى المثل العليا على قدمين: العلم الذي يحقق الناحية المادية للمثل العليا، والأدب الذي يحقق منه الناحية الروحية. وقد فرغ العلماء من إثبات ما بين الناحيتين من تآزر وارتباط، وليس منواجبي الآن أن أتحدث عن المثل العليا للإنسانية فذلك يحتاج إلى كتب تؤلف فيه، ولكنني فقط أحدثكم عن بعض هذه المثل مصورة في الأدب ومقتبسة من حياتنا المصرية الحاضرة
- 1 -
إذا نحن ذهبنا إلى الشعر العربي وجدنا فيه القيم الخالد، وإلى جانبه الكثير من الرديء البائد، ولن أحدثكم عن رداءة الشعر أو جودته من الناحية اللفظية، ولكن من الناحية الروحية وناحية ما يبعثه في النفس من وجدان وشعور، يسمو بنا إلى حيث نحقق ما خلقنا له ونعيش من أجله.
في الشعر العربي صور لا أغالي إذا قلت أنها ضعيفة لا تستحق خلوداً، ولا ينبغي أن نلقنها نشأنا، ونؤدب بها أبناءنا، لأنها تنأى بنا عن بلوغ غاياتنا، وسأعرض طرقا من هذه الآداب مقتصداً في إيراده ما استطعت. ففي الأدب العربي كثير من الشعر الذي أسميه شعر الضعف والاستسلام للواقع؛ فتسمع فيه تلك النغمة التي تحقر العمل وأرباب العمل، وتدعو
بملء فيها إلى الرضا وإلى الاستسلام، ومنشأ هذه النغمة على ما أرى هو إيمان أصحابها بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً؛ إذا هم قد حسبوا، وهم مخطئون فيما حسبوا، أن القضاء أو القدر لهما تأثير فعلي في فعل الإنسان وإرادته، وإذا كان الأمر كذلك فما قدره الله جل وعلا لابد واقع لا محالة، سواء أعمل المرء ، أم لم يعمل، وإذا كان العمل، وترك العمل سواء، فمن العبث البين أن يكلف الإنسان نفسه مؤونة الجد والجهاد والمزاحمة في تلك الحياة، لأنه لن ينال على ذلك أجراً، غير ما كان يناله لو كف عن جده وجهاده، وليس غرضي الآن أن أبين خطأ ذلك التفكير، فانه من البين الواضح أن القضاء والقدر ليسا إلا علم الله فحسب بما سيكون، والعلم ليس من صفات التأثير بل هو من صفات الكشف والإيضاح لا دخل له في قدرة الإنسان وإرادته
الإيمان بالقضاء والقدر على تلك الصورة التي أسلفت ذكرها هو إيمان بالجبر، وإيمان بالحظ على الصورة السطحية التي لا تتغلغل في حقيقة الأشياء، فأنكرت قدرة الإنسان وإرادته ودعتنا إلى الضعف والاستسلام وأنتجت لنا هذا اللون من الأدب الضعيف قال الشاعر:
وما فسدت أخلاقنا باختيارنا
…
ولكن بأمر سببته المقادر
وفى الأصل غش والفروع توابع
…
وكيف وفاء النجل والأب غادر؟
فقل للغراب الجون إن كان سامعاً
…
أأنت على تغيير لونك قادر؟
وقال أيضاً:
ويجرى قضاء مالكم عنه حاجز
…
فألقوا إلى مولاكمو بالمقالد
وقال أيضا:
وجبلة الناس الفساد وفضل من
…
يسمو بحكمته إلى تهذيبها
وقال أيضا:
لا تمدحن ولا تذمن امرأ
…
فيها، فغير مقصر كمقصر
وقال غيره:
عزت مطالب دنيا كل ذي أدب
…
وهان مطلب دنيا الأحمق الخرق
وقدر الله فيها أن يذللها
…
فهان مطلبها للجاهل الحمق
فليس ينفك ذو علم وتجربة
…
من مأكل جشب أومشرب رنق
وذو الجهالة منها في بُلَهنية
…
من مسمع حسن أو منظر أنق
تبارك العدل فيها حين يقسمها
…
بين البرية قسماً غير متفق.
ذلك شعر ينبع كله من واد واحد ومعين واحد، هو الجبر والإيمان بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً، والإيمان بالحظ إيمانا ساذجاً، وسأترككم إلى أنفسكم تحكمون على هذا الأثر الذي يتركه ذلك الشعر في النفوس، وهل يقربها إلى مثلها العليا؟! أو هو على العكس من ذلك يؤخرها ويسير راجعا إلى الوراء، إنكم رأيتموه يدعونا إلى الرضا بفساد أخلاقنا؛ لأن الفساد ليس باختيارنا، ولكن بأمر سببته المقادر، ونحن عاجزون تماماً عن تغيير أخلاقنا عجز الغراب عن تغيير لونه، ورأيتموه يدعونا إلى الضعف والاستسلام للقضاء والإلقاء إليه بالمقالد، ورأيتموه يسوي بين الناس مقصرين وغير مقصرين، فكلهم لا يستحقون مدحاً ولا ذماً، لأنهم لم يأتوا ما أتوه بقدرتهم واختيارهم، بلمجبرون على أن يفعلوا ما فعلوا، ورأيتموه يقرن الرزق الواسع بالجهل، والرزق الضيق بالعلم، لأنه يؤمن بالحظ، وإذن فعلى العلم والتعلم السلام، لأن أحداً من الناس لا يرضى برزقه مقتراً، ورأيتموه يؤمن بالحظ ويزرى بالعمل والجد، فقدروا بأنفسكم ما يبعثه هذا الشعر في النفوس من ضعف واستكانة واستسلام تبعد بنا عن المثل العليا التي لا تثبت ولا تقوم إلا على دعائم من العمل ثابتة وطيدة، حقاً أنا أومن بالقضاء والقدر، وأنا شخصياً أومن بالحظ، ولكنه إيمان ليس كإيمان هؤلاء، إذ أني اعتقد أن الإيمان بذلك كله لا يحول بين المرء وعمله، لأنه ما يدريه أنه قد كتب له الشقاء وقدر عليه التعس، وأن حظه بائس منكود، وما يدريه أنه على العكس من ذلك قدر له السعادة، وكتب له النجح وان حظه حظ السعيد الموفق؟
وبعد ذلك آخذ بيدكم لأريكم أدب القوة والهمة والإرادة وهي هي التي تأخذ بيدنا إلى بلوغ المثل العليا، قال الشاعر:
ذريني من ضرب القداح على السرى
…
فعزمي لا يثنيه نحس ولا سعد
سأحمل نفسي عند كل ملمة
…
على مثل حد السيف أخلصه الهند
فان عشت محموداً فمثلي بغى الغنى
…
ليكسب مالاً أو ينث له حمد
وإن مت لم أظفر فليس على امرئ
…
غدا طالباً إلا تقصيه والجهد
وقال غيره:
ذريني أنل مالا ينال من العلا
…
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
…
ولابد دون الشهد من إبر النحل
وقال أيضاً:
يهون على مثلي إذا رام حاجة
…
وقوع العوالي دونها والقواضب
ويعجبني هنا ما قاله أحد شعراء الإنجليز وترجمه إلى العربية بعض أدباء الشباب قال:
ليَ قلب لا يهاب
…
فزعت منه الصعاب
بين أيامي وبيني
…
حادثات وغلاب
لست أشكو إنما الش
…
كوى من الحر تعاب
أنا ربان سفيني
…
هاج أو قر العباب
فلْيلنْ أو يقس دهري
…
إن قلبي لا يهاب
فافرقوا بين ألاحساسين اللذين يبعثهما هذان الشعران المختلفان مورداً وينبوعاً، وإني واثق الثقة كلها من أن الإحساس الذي يبعثه فيكم الشعر الثاني هو الإحساس بالقوة والإحساس بالإرادة، وأنا نطلب من الشاعر أن يحدثنا دائما عن قوة إرادتنا، وأنا نستطيع فعل كل شيء لأن ذلك يبعث فينا إيمانا جديداً وعزيمة جديدة بل ويخلقنا خلقاً جديداً، وإن قوة الإرادة هي المنبع الفياض والمعين الذي لا ينضب للنجاح في الحياة وبلوغ المثل العليا، أما الشعر الأول فشعر ضعيف مستسلم لا ينفعنا ولا يهذب من إرادتنا.
ولون آخر من ألوان الأدب الضعيف يتصل بالأدب الجبري، وقد يكون خدينه وشقيقه لأنه يستقي من معينه وينبع من ورده، وأعني بهذا اللون أدب الزهد والقناعة، ويطول بي الحديث إذا حدثتكم عن العوامل التي أنتجت لنا هذا النوع من الأدب، وإن كنت ارجع جل هذه العوامل إلى سوء فهم الشرقي للدين، فقد فهمنا وكنا مخطئينحين فهمنا أن الدين الإسلامي هو دين العمل والجهاد ودين الرفعة والطموح - يدعونا إلى الزهد في الدنيا والقناعة بما نصيبه منها من صبابة قليلة، فهمنا ذلك، ووجدت هذه التعاليم التي أخطأنا فهمها مرعى خصباً من قلوبنا الضعيفة الخائرة، وآنست من قلوبنا ضعفا وقلة ثقة بالقدرة على الجهاد، والتغلب على ما يعترض سبيل الحياة وسبيل النجاح من صعاب وعقبات،
فقنعنا بما في أيدينا من قليل لا يرضى به إلا ضعاف النفوس ضعيفو الهمم، فكان ذلك أكبر عامل في خلق هذا الأدب الزاهد القنوع، فأصبحت تسمع كثيراً من مثل قول الشاعر:
نبغي من الدنيا الكثير وإنما
…
بكفيك منها مثل زاد الراكب
وقوله:
أيها الباني قصورا طوالا
…
أين تبغي؟ هل تريد السحابا؟
أأمنت الموت والموت يأبى
…
بك والأيام إلا انقلابا
أبت الدنيا على كل حي
…
نالها إلا أذى وعذابا
إنما داعي المنايا ينادي
…
احملوا الزاد وشدوا الركابا
وقول الآخر:
مرحبا بالكفاف يأتي هنيئا
…
وعلى المتعبات ذيل العفاء
ضلة لامرىء يشمر في الجم
…
ع لعيش مشمر للفناء
دائبا يكنز القناطير للوا
…
رث والعمر دائباً في انقضاء
حبذا كثرة القناطير لو كا
…
نت لرب الكنوز كنز بقاء
يحسب الحظ كله في يديه
…
وهو منه على مدى الجوزاء
ليس في آجل النعيم له حظ
…
وما ذاق عاجل النعماء
ذلك الخائب الشقي وإن كان
…
يرى أنه من السعداء
حسب ذي إربة ورأى جلي
…
نظرت عينه بلا غلواء
صحة الدين والجوارح والعر
…
ض وإحراز مسكة الحوباء
تلك خير لعارف الخير مما
…
يجمع الناس من فضول الثراء
إلي غير ذلك من أدب يحمل الدعوة إلى الزهد والقناعه، وإذا نحن أردنا أن ندرك آثار هذا الأدب فانه يجب علينا أن نتصور شعباً نائماً كسلاً، لا يجد ولا يعمل إلا بقدر ضئيل، وماله يجد وماله يعمل، وقد وجد ما يمسك حوباءهووجد قوته الضروري؟ وإني أكاد اعتقد أن تأخر الشرق في ميادين الاختراع وفي ميادين العمل يعود كثير منه إلى خلق الزهد وخلق القناعة الذي غرس في قلبه وأثر في كل عمله، بل إني أكاد أعتقد أيضاً أن استغلال الغرب للشرق يعود إلى هذا الخلق الوبيل الذي يجرنا إلى الفناء، فلندع القناعة بمعناها الذي ضرنا
وأخرنا، ولنتقبلها بمعنى ألا نطمع فيما في يد غيرنا، أما بمعنى الرضا بالقليل فيجب أن نذهب بها إلى قبرْ لا تخرج منه لترى ضوء الحياة، ولنقبل على أدب الطموح وأدب الآمال الذي يسمو بنا عن الرضا بالقليل نناله من غير أن نبذل عناء في نيله ولا تعباً، - ولنكرر دائماً مثل قول الشاعر:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
…
وقد يدرك المجدّ المؤثل أمثالي
وقول الآخر:
ذريني للغنى أسعى فأني
…
رأيت الناس شرهم الفقير
وأضيعهم وأهونهم عليهم
…
وإن أمسى له حسب وخير
يحقره الندىُّ وتزدريه
…
حليلته وينهره الصغير
ويلقى ذو الغني وله جلال
…
يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه، والذنب جم
…
ولكن للغنى رب غفور
وقول الآخر.
من الناس من يرضى بميسور عيشه
…
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكنّ قلباً بين جنبيّ ماله
…
مدى ينتهي بي في مراد أحده
وقول غيره:
يا شباب الغد وابناي الفدا
…
لكمو، أكرم وأنعم بالفداء
لا تقولوا حطنا الدهر، فما
…
هو إلا من خيال الشعراء
واطلبوا المجد على الأرض فان
…
هي ضاقت فاطلبوه في السماء
وإني مع شوقي يوم قال واصفاً شباب مصر:
شباب قُنَّع لا خير فيهم
…
وبورك في الشباب الطامحينا
ولكنه من الواجب ألا نلقي العبء كله على الشباب، بل هو ملقى على التربية والآداب، فالأدب الشعبي الدارج مليء بالقناعة والأدب المدرسي مثله.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي
زرياب
بقلم محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب
رجل من رجال الفن، خلق له وفطر عليه، لعل في سيرته الطريفة مثلا للموهبة الطبيعية، ترفع من شان صاحبها فتبلغ به الذروة وتجعله شيئاً مذكورا، يتحكم في حياة أمة بأسرها، فيبدل فيها ويغير منها، ويؤثر وحده في طبائع أهلها وما ورثوه من تقاليد، ويخلق فيها من العادات والفعال ما لم يكن بها وما ليس يخطر لأهلها على بال.
هو أبو الحسن علي بن نافع مولى المهدي الخليفة العباسي كان أسود اللون، حلو الشمائل، وكان شاعراً مطبوعاً فصيح اللسان، لقبه قومه بزرياب تشبيهاً له بطائر عندهم أسود اللون، عذب الصوت، حلو التغريد، وكان زرياب رقيق الحس، دقيق الشعور، له حنجرة لم تخلق لغير الغناء، وأنامل كأنما أعدت للعود، ونفس تميل إلى الفن، وروح يهفو إلى الطرب، تتلمذ لأسحق بن إبراهيم الموصلي ببغداد يدرس عليه أصول الصناعة ويتعلم منه دقائق الفن، وكان اسحق يعلمه الأغاني ويلقنه الألحان، حتى إذا خلا زرياب بنفسه خلق من فن اسحق فناً جديداً، وهداه صفاء نفسه وسمو روحه إلى كل معجب مطرب، واسحق لا يعلم من أمر تلميذه شيئاً ولا يدري أنه أخذ منه فتفوق عليه.
وذهب اسحق إلى مجلس الرشيد يبعث فيه السحر كعادته وينطق فيه العود بالغناء الشجي والنغم العذب، والخليفة مصغ إليه معجب به، تأخذه حلاوة التوقيع وتروقه عذوبة الألحان، حتى إذا فرغ اسحق من غنائه التفت إليه الرشيد يثني عليه ويمدحه ويحادثه في صناعة الغناء، فما هو إلا أن يتشعب بهما الحديث حتى يقترح عليه الرشيد أن يسمعه مغنياً غريباً يجيد فنه ويحسن صنعته ممن لم يشتهروا عنده ولم تبلغ مكانتهم إليه، فيذكر له اسحق تلميذاً له قد علمه وأعجب به يتوسم فيه الإجادة وعلو الكعب في صناعة الغناء.
مثل زرياب أمام الخليفة فسأله عن معرفته بالغناء قال (نعم! أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه. . . فان أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك) وأخذ يصف له عوده وما ركب عليه من أوتار لها في الترنم والصفاء والعذوبة ما ليس لغيرها وما أن يأذن له الرشيد حتى يوحي إلى عوده فيغنى معه:
يا أيها الملك الميمون طائره
…
هرون راح إليك الناس وابتكروا
ويظل يغنى والرشيد يسمع حتى يتم أبياته في نغم لم يسمع الخليفة مثله، ولحن لم تردد نظيره جنبات القصر، ويطير الرشيد طرباً ويسمع من الأنغام جديداً لم يُسمعه اسحق مثله فيعاتب اسحق كيف ترك الرجل من قبل فلم يعلمه به، ثم يأمره أن يأخذه لديه فيعنى به حتى يفرغ هو له.
أما اسحق فأسرها لتلميذه، ولم يكد يخلو به حتى عنفه واشتد في تعنيفه وصارحه بما هاج به من الحسد له والغيظ منه، وخيره بين اثنتين لا ثالث لهما، فأما أن يغادر تلك البلاد فلا يراه بعد ذلك أبداً ويعطيه على ذلك أغلظ الأيمان وأوثق العهود وله عليه ما يريد من مال أو عطاء، وإما أن يقيم على كره منه وشركة له في الصناعة وعند ذلك لن يأمن غدره ولن يغنيه الحذر شيئا، وأما زرياب فلم يكد يرى أستاذه ينفس عليه رضاء الخليفة، ولم يكد يسمع منه هذا الوعيد المخيف حتى قام من فوره يبغي بلاداً غير هذه وناساً غير هولاء، وأما الرشيد فانه لم يكد يفرغ من بعض شؤونه حتى سأل عن زرياب أستاذه فزعم له اسحق أنه رجل غر أحمق ما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين حتى رحل غضبان ينعى على الأيام أن أوقعته فيمن لا يقدرون النبوغ ولا يكرمون النابغين ولا يعرفون الغث من السمين فسكن الرشيد إلى قول اسحق.
سار زرياب إذن من المشرق وكان المغرب قبلته فولى نحوها وجهه، وراح في الأندلس يلتمس ما لم يظفر به في العراق من بعد الصيت ورفعة الشأن، وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم يعلمه بمكانه من الصناعة ويسأله الأذن له في الوصول إليه، وما هو إلا أن يقرأ عبد الرحمن الكتاب حتى يرحب بصاحبه ويوصي عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وفى قرطبة يبدع زرياب ويملك على الأمير نفسه فيطرح كل غناء سواه ويقدمه على جميع المغنين ويقطعه الأرض ويمنحه المال ويبلغ إعجابه به حداً لا مثيل له، فيفتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده، وزرياب يذهب في الغناء كل مذهب ويضرب في التجديد بسهم وافر: هذه أعواد القوم لها أوتار أربعة، فليزد هو عليها وتراً خامساً يستهوى النفس بما يحدثه من النغم، وهاهي أعواد المغنين كبيرة الحجم ثقيلة الوزن فليكن عوده خفيفاً مرهفاً دقيق الصنع، وهذا مضراب العود قد استعمله الناس من خشب فهو ثقيل
في اليد قاس على الأوتار ما يلازمها قليلا حتى يقطعها أو يفسدها، فليكن مضراب عوده من قوادم النسر فهو خفيف على الأنامل رفيق بالأوتار وان طالت ملازمته لها، وهاهي ألحان القوم معدودة وأغنياتهم معروفة فليجدد هو في اللحن، وليأت من النغم بكل طريف وليُسمع القوم من أغانيه وألحانه ما يعد بالآلاف.
وكان زرياب أيضاً قد جمع إلى براعة الفن وحلاوة الترجيع سلامة الذوق وترتيب الذهن فهو سمير إذا جالس الأمير أو أشراف الأمير، وهو طيب الحديث إذا تحدث، ماهر في خدمة الملوك، يجيد استقبال الضيوف والزائرين، متأنق في ملبسه يعني بزينة نفسه حتى صار مثالاً في الأناقة يحتذى، أخذ عنه أهل الأندلس وحاكوه، فلم يعودوا إلى إرسال الشعر مفروقاً وسط الجبين مسدلاً إلى الخدين والحاجبين وإنما فعلوا كما يفعل زرياب ونساء زرياب، فحذفوا شعورهم وقصروها دون الجباه وسووها مع الحواجب ودوروها إلى الآذان وأسدلوها إلى الخدود ولم يعودوا إلى ملاحف الكتان يلتحفون بها، وإنما فعلوا كما يفعل زرياب فآثروا على الكتان أنطاع الأديم الناعمة، ولم يبق الناس على ما هم عليه من خلط بين ملابس الشتاء وملابس الصيف، وجهل بما يلائم الربيع وما يناسب الخريف، وإنما علمهم زرياب أن لكل زمان ثيابا، فللربيع الملون الزاهي، وللخريف الخفيف الملون، وللشتاء الثياب الكثيفة ذات الحشو والفراء، وللصيف البياض من الثياب، وكذلك عرف الناس مذ جاءهم زرياب صنوفا من الطعام لم تكن لهم بها دراية ولا بطعمها علم واستعمل القوم في الأندلس من العطور ما لم يألفوه من قبل، وفضلوا آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة لأن زرياباً كان يؤثر الزجاج ويتناول شرابه فيه.
وكان زرياب أيضاً قد علم بناته وجواريه أحسن الأغاني وأدبهن بأدبه فبرعن في الغناء وأتقنَّ الصناعة، فكانت حمدونة ابنته عند أهل بيتها في الصدر، وكانت أختها علية كذلك، وتزوجت من الوزير هشام بن عبد العزيز، أما جاريته مصابيح فقد جمعت إلى جمال الصوت جمال النبل كتب صاحب العقد الفريد إلى مولاها وقد حجبها عن الناس واختص بها مجلسه يقول له:
يا من يضن بصوت الطائر الغرد
…
ما كنت أحسب هذا الضن من أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة
…
أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
فادخله مولاها إلى مجلسه وأذن له في سماعها.
ووضع زرياب المراسم لافتتاح الغناء فما يفتتح غناء في الأندلس إلا وأوله النشيد وآخره الاهزاج فأكسب زرياب المحافل روعة وأهدى المجالس باقات من الفن زاهيات، وكان وحده فناً انتقل إلى الأندلس، وحضارة عمت قرطبة.
محمد قدري لطفي
فن البناء عند المصريين والإغريق
بقلم محمد علوي
لا شك أن أهم مظاهر الحضارة الفرعونية هو فن العمارة.
ولما كان للدين عند الفراعنة المنزلة العليا نجد أن درجة اهتمامهم به ظهرت جلية في معابدهم، وهي أهم ناحية ضرب فيها الفنان المصري بسهم. ولم تكن مصر هي البلد الوحيد الذي اهتم بأمر المعابد، فقد تبعها في ذلك الإغريق أيضاً، وكفاهم فخراً معهد (البارثينون) في (الاكروبوليس) بأثينا، فلقد كان هذا المعبد ولا يزال آية في الجمال، أجمع جميع الفنانين على أنه - لا يوجد له في العالم مثيل. فقد راعى فيه بانيه خداع النظر في الأجسام المنظورة فتلافاه بكل الوسائل، فكان معبده أشبه ببلورة طبيعية جميلة. ومع كل ذلك فإن الفنان المصري قد سبق زميله الإغريقي في تصميم معبد؛ فانك إذا وقفت أمام المعبد الإغريقي لاشك تشعر برهبة وذهول. ولكن هذه الرهبة ليست إلا نتيجة لقوة الجمال وحسن التنسيق، أو بمعنى أقرب إن تأثير هذا المعبد كتأثير حسناء كملت فيها معاني الجمال. فكأنما فن البناء الإغريقي أراد أن يأسر لب المتعبدين بسلطان الجمال. ولكن ليس هذا هو الغرض الذي من أجله كلف بتصميم المعبد، وفي رأيي أن هذا خروج عن الموضوع الديني، ولو أنه خروج لم يخل بقيمة المعبد من حيث جماله.
أما المعبد الفرعوني فهو يشعر بالهيبة والعظمة فالخضوع والرهبة، ولكن هذا الخضوع ناشئ عن الشعور بالضعف أمام القوة والرهبة الدينية، وهذا ما أحسه أنا الآن وأنا بعيد عن البيئة التي كانت تحيط بالمعبد في حداثته، وبعيد عن العقيدة الدينية التي كانت تتملك شعور أسلافنا.
إن الفنان المصري كان أعظم مما نقدره به وأوسع خيالاً، فنراه قد راعى في معبده صلاحيته للعبادة من جميع النواحي، فجعله لا يصلح إلا للعبادة، بل والعبادة لا تصلح أن تقام إلا بين جدرانه. فتصميم المعبد واختيار موقعه في مكان بعيد عن الحياة المادية الدنيوية، والبيئة الدينية التي أحاط بها الفنان البارع معبده، كل هذا يفصل المتعبد عن العالم المادي فيحصر ذهنه في دائرة روحانية بحتة.
لست أريد أن أحكم على مقدرة هذا المهندس البارع، بل سأوضح عمله، وأترك لكم الحكم
على كفايته وموهبته.
اختار هذا الفنان لجميع معابده أن تقع في نهاية طريق مستقيم جداً ومتسع، بحيث ينتهي هذا الطريق بواجهة المعبد الشامخة، يتوسطها بابه الصغير، وقد خصص هذا الطريق مهما بلغ طوله، (وقد يصل إلى ثلاثة كيلومترات) للمعبد فقط، فلم يسمح بإنشاء أي نوع من المصالح أو المباني على الجانبين، بل أنشأ على حافتيه وعلى مسافات متساوية تماثيل ضخمة متساوية ومتماثلة لمعبود معروف رأسه رأس كبش، وجسمه جسم أسد. فتصور تأثير هذين الصنفين من التماثيل المتوازية المتماثلة، والأفريزين الممتدين بجانبي الطريق، تلك المستقيمات المتوازية تظهر للرائي كأنها تتقابل وتتجمع في نقطة واحدة كما تجمع العدسات الأشعة الضوئية في نقطة واحدة، وهذه النقطة هنا هي باب المعبد الصغير الذي يظهر عن بعد. وكما أن النظر تقوده تلك المتوازيات إلى النقطة، كذلك يكون التأثير على الأذهان الشاردة، فهذا يساعدها على أن تتجمع وتتركز في العبادة. هذا بخلاف ما كان يعتقده الفراعنة من أن هذا الطريق مقدس لا يطؤه غير المطهرين الأبرياء، وأن تلك التماثيل الجانبية كانت تراقب حركات المارة وأفكارهم طوال الطريق. وكان المصريون يتوجهون إلى المعبد تحت هذه التأثيرات في موكب تتمثل فيه معاني الخشوع، يتقدمه غالباً الفرعون وحاشيته، حتى إذا اقتربوا من المعبد يمرون تحت قوس نصر فخم أشبه ببوابة شامخة يبلغ طولها نحواً من ثمانية وثلاثين متراً في معابد الكرنك. فتصور كيف يشعر المار من تلك البوابة بضآلته أمام هذا العلو الشاهق وهو يعتقد انه بمجر مروره منها تطهر نفسه مما قد يكون عالقاً بها من الأدران، فيصبح طاهراً يصلح لأن يقترب من المعبد، وبعد ذلك يمر الموكب بين مسلتين شاهقتين، كتب عليهما تاريخ إنشاء المعبد وبعض الرموز التي تمثل شارة المعبود الذي في المعبد، وهنا يجد الموكب نفسه أمام بناء شامخ مثال للقوة والبطش والجمال، وهذا هو المعبد ذو الواجهة الجرانيتية الضخمة التي تتكون من هرمين شامخين ناقصين متقاربين، يتوسطهما باب المعبد الصغير، وعلى جانبيه تمثالان عظيمان (يصل طول كل منهما إلى عشرين متراً كما في معبد (أبي سمبل شمال الشلال الثاني)، وهذان التمثالان يمثلان فرعون، ويرى الواقف بباب المعبد عدة أبواب متتالية ومتساوية الاتساع، تقع جميعها على محور واحد عمودي على الواجهة غالباً، وقد تصل المسافة بين
المدخل والباب الأخير إلى ثلثمائة متر، وهذا الباب الأخير هو باب مخدع الإله الأعظم.
وأول ما يلفت نظر الداخل في المعبد هو البهو الكبير ذو الأعمدة الضخمة، وقد بلغت مساحة ذلك البهو الفخم في معابد الكرنك ثلثمائة متر في خمسين مترا، وهذا البهو مسقف بكتل عظيمة من الأحجار يحملها أربعة وثلاثون ومائة عمود، مصطفة في ستة عشر صفاً، وطول أعمدة الوسط منها ثلاثة وعشرون متراً وقطرها ثلاثة أمتار ونصف. فتصور بهواً يحوي هذا العدد من هذه الأعمدة التي بلغ ارتفاع الواحد منها ارتفاع عمارة مكونة من سبع طبقات تقريباً. كيف يكون تأثير مثل هذا البهو الرهيب الفخم في نفوس المصلين؟ ألا يمكننا اعتبار هذا البهو رمزاً للقوة والبطش كما أنه مثال العزلة والرهبنة؟ إن طول قامة البشر في هذا البهو لا يتجاوز قاعدة العمود. وبين تلك الأعمدة يقوم الشعب بتأدية الصلاة، أما فرعون وحاشيته فيستمرون في موكبهم مخترقين الردهات والدهاليز حتى يصلوا إلى مخدع المعبود، وهو مظلم لا يصله الضوء إلا من فتحة واحدة في السقف، قد وضعت بهندسة خاصة بحيث لا تضيء من المكان سوى تمثال الإله، حتى يخيل للرائي أنه يشع الضوء من جسمه. وأمام المعبود وتحت قدميه يوجد نضد عظيم من الحجر ليضع عليه فرعون قربانه بين التراتيل والتعاويذ الدينية ذات الأنغام الساحرة الرهيبة.
ولو كانت لي موهبة في الإيضاح أرقى من ذلك لاستطعت أن أضع لكم صورة اقرب للحقيقة للمعبد والدرجة، التي وصل إليها من الإبداع، ولكن عظمة ذلك الفن وروعته فوق أن يصفها قلمي الضعيف.
وهنا اقف بسيدي القارئ لأساله: هل يوجد مكان انسب لبناء المعبد من المكان الذي اختاره الفنان المصري؟ هل يوجد بناء تتمثل فيه معاني القوة والخشوع والرهبة اصلح للعبادة من تصميم هذا الهيكل الفرعوني؟ وهل يمكن إيجاد بيئة تحيط بالمعبد من الوجهة المعنوية والفنية أقرب للكمال من تلك البيئة التي هيأها هذا الفنان الحاذق؟ أظن أنه لا يمكن أن نجيب على تلك الأسئلة إلا بالنفي. ولقد أجمع عظماء الفنانين في العالم على أن المعبد المصري هو صاحب المنزلة الأولى بين معابد العالم، وإذا أمكن تصور منزلة أسمى من الأولى لكانت هي منزلة معبدنا، وبالتالي فن عمارتنا الذي نفر ونهرب منه، ونتناسى منزلته حتى في هذا العصر الذي هو عصر تجديد وانقلاب، لم يفكر أحد من كبار الفنانين
المصريين في إحياء هذا الفن الجميل، أو إدخال روحه في المنشآت الحديثة، إلا إذا استثنينا بعض الشواذ.
محمد علوي
قسم العمارة - مدرسة الفنون الجميلة العليا
10 - بين المعري ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود أحمد النشوي
تحدثنا معك في المقال الماضي عن ابن القارح، وتوسله بالسيدة فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من أمر هذا التوسل والأذن له بدخول الجنة
والآن ماذا صنع ابن القارح؟ أنه تعلق بركاب سيدنا إبراهيم عليه السلام حتى بلغ الصراط، وأشير إليه بأن اعْبرْهُ، فلما وجد نفسه لا يستمسك قالت الزهراء لجارية من جواريها يا فلانة أجيزيه. فجعلت هذه تمارسه وهو يتساقط عن يمين وشمال، فقال لها: يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل:
ست إن أعياك أمري
…
فاحمليني زقفونه
فقالت: وما زقفونه؟!
فقال أن يطرح الإنسان يديه على كتف الآخر ويمسك بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعت بقول الجلجلول من أهل (كفر طاب)
صلحت حالتي إلى الخلف حتى
…
صرت أمشي إلى الورى زقفونه
فقالت: ما سمعت بزقفونه، ولا الجلجول، ولا كفر طاب إلا الساعة!!!
ثم تحمله وتمر به كالبرق الخاطف حتى يبلغ الجنة، فيمنعه رضوان طالبا منه جواز المرور، فيطلب ابن القارح ورقة من صفصاف الجنة ليرجع بها إلى الموقف، ويأخذ عليها الجواز، ولكن رضوان يأبى عليه هذا، فيقول ابن القارح أنا لله وأنا إليه راجعون، لو أن للأمير أبي المرجي خازناً مثلك، ما وصلت أنا ولا غيري إلى قرقوفمن خزانته.
ولا يطول بينهما الحوار، حتى يرجع إليه إبراهيم عليه السلام فيجذبه جذبة شديدة يحصله بها في الجنة. . . أفرأيت إذاً كيف كان سبيل المعري إلى الفردوس مليئاً بالدعابة وبالمرح حين سقوط صك التوبة من ابن القارح، وحين تدخله في فض النزاع بين أبي على الفارسي ومشاجريه، وفى دعابته مع الجارية، وهو على الصراط في أحرج المواقف وأدقها. فهل كان طريق دانتي كطريق المعري، كله دعابة وظرف؟ لا. فقد كان طريق دانتي على العكس من طريق المعري، آلام وأوصاب، وأهوال وعذاب. . . لقد كان طريق
دانتي على النار يعيرها أولاً ثم (المطهر) بعدها حتى يصل إلى الفردوس. فما ظنك بذلك الطريق الشائك المترع بالأهوال والآلام؟!
فبينا هو في غابة موحشة إذا به يتخلص منها إلى أكمة تكلل هامتها شمس الصباح فيهم بصعودها حتى إذا سار قليلاً رأى نمراً قبيحا يسد عليه شعاب طريقه، ثم يرى أسداً مخيفاً وذئبة قاحلة حدقته بنظراتها، فكر راجعاً إلى سفح الأكمة فرقاً ورعباً، فثار في نفسه اضطرابها حتى أتاه (فرجيل) فاستغاثه فهدأ روعه، وحدثه بأن سبيل النجاة من هاتيك المخاطر هي رحلة في أعماق الجحيم، ومنها، إلى الأعراف، ثم إلى الفردوس. ثم حدثه بأن بياتريشي أوفدته لإنقاذه مما هو فيه من أخطار. فاطمأن قلبه وهدأ روعه وعقد عزيمته على اجتياز الجحيم فاجتازها بين أنين العصاة وعويل المذنبين، مما حدثتك عن كثير منه في المناسبات الماضية. حتى إذا انتهت رحلته من جهنم أمسك فرجيل بابليس، وأمسك دانتي بعنق فرجيل، وساروا قليلاً حتى خلصوا من الجحيم، وأسلمت الجحيم دانتي إلى الأعراف فدخلها وسار في جنباتها يتحدث مع العصاة الذين يتطهرون من ذنوبهم ومن آثامهم، حتى إذا قارب نهايتها رأى نهراً ينفرج عن ماء رقراق، فبصر بالنهر وبفتاة على سيفه الآخر، وهي تغرد بصوت مطرب وتقطف الزهرات، فطرب دانتي واقترب منها فقصت عليه حديث النهر، وأن اسمه نهر ليتي نهر التوبة، من أغتسل منه طهر من ذنوبه، وبرئ من آثامه، ثم عاودت الفتاة الغناء، وعاد له من الفتاة الطرب.
ثم تراءت أمام عينيه أضواء تشع في أرجاء الغابة، وتواردت على سمعه نغمات حلوة لم يكد يطرب لها حتى تراءت له من بعيد سبعة أجسام كأنها شجرات من خالص الذهب، تبينها فإذا هي مصابيح تحمل أضواءها كل ألوان الطيف، ويتلوها أربعة وعشرون شيخاً يجللهم وقارهم، وتلقي عليهم الهيبة رداءها، وتكلل رءوسهم زهرات الزنبق وتتبعهم عربة يقودها حيوان يشبه الأسد، بيد أن له رأساً، وأن له أجنحة كأجنحة الطيور ورءوسها.
تلك العربة كانت تحمل بياتريشي جاءت تستقبله لتكون دليله في جنبات الفردوس المحرمة على فرجيل أن يلج بابها. وقد افتن شاعر الطليان في وصف بياتريشي وعربتها، وما احتف بها من راقصات، ومن سحائب الزهور افتنانا جعل ذلك الوصف في طليعة كوميديته إبداعاً وفتنة. وكذلك نرى فيرسالة الغفران وصف الطريق إلى الفردوس، وامتداح
رضوان وزفر، ودعابة الجارية على الصراط ناحية جد مخصبة من خيال أبي العلاء ومن إبداعه.
ذلك هو طريق الفردوس، وهاهو ذا وصفه في الروايتين، فأما الفردوس وطبقاته وأقسامه وما تخيله المعري من حيات يسبحن في الخلد فوق كثبان العنبر. وقد كان منهن في الدار العاجلة من تسكن في جحر بدار حمزة بن حبيب أمام القراء.
ونقمت عليه قراءته واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام (بخفض الأرحام) بعد أن كانت تسكن من قبل في دار الحسن البصري. ثم تحولت عنه لأنها رغبت عن بعض حروف في قراءته حين يقرأ الإنجيل. وفالق الأصباح (بفتح الهمزة فيهما). فأما الحديث عن تلك الحيات والرد على المعري في تخطئته حمزة فموعدنا به العدد القادم.
(يتبع)
محمود أحمد النشوي
شركة مصر للغزل والنسيج
المحلة الكبرى منشستر مصر
لمندوب الرسالة
لا يتم استقلال سياسي صحيح لأمة من الأمم ما لم تستقل استقلالاً اقتصادياً أولاً. تلك حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان. والاقتصاد في كل الأمم هو العمود الفقري لحياتها، والمقياس لعظمتها وتقدمها، حتى أضحى شغل العقول الكبيرة إلتي تخلص لأوطانها، وتعمل لرقيها بإخلاصها وإيمانها
ولقد ظلت مصر ردحاً من الزمن تضع السياسة في المنزلة الأولى من تفكيرها، وفى غمرات ذلك الاضطراب السياسي ساءت الأحوال المالية فيها، وامتدت الأيدي إلى المصارف الأجنبية التي استغلت الفرص احسن استغلال، وأخذت تضيق على من يقع في حبائلها الخناق، حتى ضج الناس وغمرهم الذهول. هنالك تفتحت الأذهان، وحدقت العيون إلى نصير منهم يأخذ بأيديهم ويهديهم صراطاً اقتصاديا مستقيما. عندئذ قام ذلك الوطني المخلص (طلعت حرب باشا) ووضع هو وصحبه الأكرمون نواة ذلك الصرح الوطني الشامخ، فخر مصر وعنوان مجدها الاقتصادي، ووجه ذهنه الخصب، وعقله الجبار، لإنجاح ذلك العمل القومي العظيم، حتى صافح الفوز وتجاوز حد الثقة وأصاب مشاكلة الغرض
وبعد أن وصل ذلك المشروع إلى الحد الذي يحسد عليه ضاق علي جسامته وخطورته بنشاطهم وبنتاج هممهم فأخذوا ينشئون الشركة تلو الشركة، والمصنع تلو المصنع، ومن بين هذه المشروعات الجليلة التي قام بنك مصر بتأسيسها (شركة مصر للغزل والنسيج) التي أقيمت في المحلة الكبرى
نما غرسها منذ سنوات ثلاث، وأخذت أغصانها تزداد قوة وامتدادا، وتؤتي أكلها جنياً شهيا، كلما زادت الأمة في الإقبال عليها وتشجيعها، وأبواها بنك مصر و (طلعت حرب) يتعهدانها ويؤازرانها بإدخال كل مستحدث من الآلات، وكل جديد من الفن، حتى كان آخر ذلك هذا التوسع الكبير الذي يجري اليوم فيها على قدم وساق، والذي شاء لنا حسن التوفيق أن نشهده تلبية لدعوة وجهها إلينا رجال الشركة
كان يوم الخميس الماضي يوماً حافلاً حقاً، فقد شهدنا فيه بأعيننا صرحاً من صروح قوميتنا العزيزة، وغرساً من غراس تلك الأيدي العاملة الكريمة
كان في انتظارنا رتل من السيارات أمام دار بنك مصر أقلتنا إلى المحلة الكبرى، فلما دخلنا المدينة وبلغنا مقر دار الشركة كان في استقبالنا رهط من موظفيها الكرام على رأسهم مدير الشركة العام الدكتور محمد عبد الطيف محرم، فطافوا بنا أقسام المصنع يشرحون لنا مختلف آلاته ومتنوع غاياته
تبلغ مساحة الأرض التي شيدت عليها مصانع الشركة مائة فدان، وقد بنيت كلها على أحدث النظم الصحية وجميع العمال والمديرين والمهندسين من المصريين إلا اثنين من الأوربيين دعت الضرورة القصوى إلى استخدامهما
وقد افتتحت مصانع الشركة لأول مرة في 23 إبريل سنة1931 وعدد أنوالها 448فزيدت في عام 1932 إلى 1200ولن يأتي العام القادم حتى تبلغ 4000، أما المغازل فكان عددها 12000 مغزل في عام 1932 فزاد حتى بلغ الآن50000 مغزل وسيزداد إن شاء الله باطراد كل عام
وكان عمل الشركة في بادئ الأمر قاصراً على غزل القطن ونسجه، ولكن ما وافى عام 1933 حتى أدخلت فيها صناعة غزل ونسج الكتان، وفي عامنا هذا أنشئت مصانع لغزل الدوبارة والفانلات والجوارب وبكر الخيط وغيرها، ويعدون العدة منذ الآن لكي يقوم مصنع الصوف في عام 1936بصنع البدل الصوفية ولوازمها من الصوف كذلك
وإن الذي يزيد في سرور كل مصري وابتهاجه أن يعلم أن عمال الشركة الآن يبلغون 6000 عامل سيزاد عددهم بعد عامين على الأكثر إلى 18000 عامل، ولحرص الشركة على أن يكون كل شيء مصرياً أنشأت مصنعاً كبيراً لصنع ما تحتاج إليه من الآلات، ولكي لا تضطر إلى استخدام أجانب فيه أوفدت عدة بعثات إلى أوربا من خريجي المدارس الصناعية. وتخرج الشركة الآن أنواعاً عديدة من الأقمشة معروفة في سائر الأسواق: منها (التيل الكاكي) و (فولار) و (دبلان) و (تيل المراتب) و (زفير) و (سكروته) و (فوط للوجه) و (بشا كير) إلى غيرها مما لا يتسع المقام لذكره
هذا قليل من كثير مما قام به بنك مصر من جسيم المشروعات التي سار بها من نجاح إلى
نجاح بفضل إخلاص أولئك المجاهدين القائمين على أمره، وبفضل الأمة المقبلة على تعضيده وشد أزره.
7 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري
احمد أبو الفرج الدمنهوري الشاعر الأديب، ظريف الجملة والتفصيل، حلو النادرة والفكاهة، انجذبت إليه النفوس وألفته القلوب على دمامته وغرابة شكله. ولد بدمنهور ونشأ بها في ضنك وحرقة حال، ولم يكن مشتغلاً بالأدب في أول أمره، ثم لازم الشيخ محمداً الوكيل القباني أحد أدباء دمنهور المشهورين وعليه تخرج في النظم، وصحب أيضاً الشيخ حميده الدفراوى، وهو أديب لكنة لا يبلغ درجة الوكيل، ولم يحضر المترجم العلم على شيخ، بل كان يلازم مجلس الوكيل ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فيكتب عنه كل ما يسمعه من شعر ونثر ونادرة ثم يستظهره، أخبرني ثقة أنه اجتمع بدمنهور حوالي سنة 1285 فرآه شاباً نيف على العشرين مخفوض الجانب كثير التواضع لا يستنكف من خدمة الوكيل المذكور وحمل المصباح أمامه إذا سار ليلاً.
ثم نظر المترجم في كتب الأدب ودواوين الفحول وبدأ ينظم الشعر فكان يعبث بالبيت والبيتين، ثم نظم بعد ذلك القصائد والمقطعات، إلا أنه كان قليل الإجادة كثير الخطأ واللحن، يتكلف التجنيس والتورية، وأحسن شعره ما نظمه في المجون وضمنه ألفاظ العيارين والشطار. وكان حضوره إلى القاهرة صحبة الوكيل، فأوصله إلى السيد عبد الخالق بن وفا شيخ السادات الوفائية فأعجب بظرفه ومجونه، وكان ينزل عنده كلما حضر إلى القاهرة، وهي إذ ذاك غاصة بالأدباء والأعيان وفي الناس بقية، فكانوا يهشون له ويتهادونه إذا حضر، ويراسلونه إذا غاب، فحسنت حاله قليلا بما كان يناله من هباتهم. ثم اتصل بشاهين باشا كنج في طندتا لما كان مفتشاً على الأقاليم سنة 1293 فانتظم في حلبة ندمائه، واختص به وواساه وجعله طرفة مجلسه، وجمع له من أغنياء البلاد مبلغاً وافراً اشترى به عقاراً ورمم داره بدمنهور، واجتمع عند شاهين باشا بعبد الله أفندي نديم الشهير وغيره من خاصة أهل الفضل والأدب، ثم نقل شاهين باشا إلى منصب آخر بالقاهرة فصار المترجم يتردد عليه ويقيم عنده الأيام والأشهر يجتمع في أثنائها بغيره من الكبراء وذوي الوجاهة فيهدي إليهم مدائحه ويتحفهم بطرائفه
وكان على قلة إجادته في شعره مفتوناً به مبالغا في تقريظه وقت إنشاده، يمزج ذلك بإشارات وحركات تستظرف منه، ولا يكاد يقر لأحد بالتقدم عليه في النظم، ولعمري لا أرى عبارة تفي بوصفه ووصف حركاته عند الإنشاد وقيامه وقعوده والتفاته واستدعائه الحاضرين إلى استماعه، فانه كان إذا أراد إنشاد قصيدة من نظمه بدأ أولاً بتقريظها ونبه الحاضرين إلى مواضع الإجادة منها، فإذا ألقوا إليه بسمعهم أنشد المطلع وسكت هنيهة كالمأخوذ من جودته، ثم التفت يمنة ويسرة مستطلعاً خبيئة رأيهم فيه، واستحلفهم بالله وبأنبيائه هل طرق، آذانهم مثله في عمرهم، وهل تهيأ لشاعر قبل ما تهيأ له فيه من رشاقة المبنى وغرابة المعنى وتناسب الشطرين، ثم يمضي في البيتين والثلاثة ويعود إلى الصمت والتفكر. ويقول سبحان المانح! كمترك الأول للآخر! وأمثال هذه الجمل التي اشتهرت عنه وصارت من لوازمه، ثم يمضي في الإنشاد، فإذا مر بتجنيس أو تورية وثب من موضعه وتمايل طرباً، ثم نظر للحاضرين وقال لهم اسمعوا من الفتى العربي اللعوب، تُفّ على المتنبي وسحقاً له، أين له السلاسة والسهولة؟ وهكذا حتى يتم القصيدة، فان رأى من السامعين استحساناً تمادى في غلوائه وأعجب وأطرب، وربما عارضه بعض من يحضره استجلاباً لطرائفه واستئناساً بمحاورته، فتصدر عنه النوادر ومحاسن الأجوبة الحاضرة. بلغني أنه حضر مرة مجلساً جمع لفيفاً من أهل الأدب فأنشدهم قصيدة من نظمه، وبالغ في استحسانها كعادته، وأخذ يستطلع طلع آرائهم فيها. فأنتبذ له صديقنا العالم الفاضل، والشاعر المجيد، الشيخ عبد الرحمن قُرَّاعة مداعباً، وقال له أخطأت في بيت منها فأدخلت حرفاً على حرف وهو مما لا يجوزه النحاة، فإما أن تسقطه أو تأتينا بشاهد على صحة قولك، ووافقه الحاضرون ومالوا معه على المترجم، فنكس رأسه هنيهة، ثم نظر إليهم كالمتعجب وقال يا ليت قومي يعلمون! وكان كثير الاجتماع بشيخ أدباء العصر الشيخ أحمد أبي البقاء الزرقاني، فلا يخليه مرة من شعر له ينشده إياه، ويعرض للشيخ ما يشغله عن الاستماع فيستلفته ويكثر من الإلحاح عليه بترك ما هو فيه والاصاخة إليه ويضايقه بذلك مضايقة شديدة، ولكن لا يكاد الشيخ يعرض عنه حتى تصدر منه نادرة ينقلب لها المجلس ضحكاً، فكان يقول فيه إن أبا الفرج عندي مشكلة من المشاكل لا أدري أهو ثقيل أم ظريف.
وكان أول اجتماعي به في مجلس أحد الأعيان وأنا شاب يافع متعلق بالأدب وأهله، ولم اكن لقيته من قبل، بل كنت اسمع به وأشتاق رؤيته فرأيت عجباً: رأيت شيخاً قصيراً دميم الوجه قد ذهبت إحدى عينيه، عليه جبة واسعة الأكمام وهو جالس في زاوية من المكان يملي على شخص حسن الخط دالية من الطويل منصوبة الروى جعلها تهنئة للخديو محمد توفيق باشا بقدومه من الإسكندرية، فكان منه من الوقوف عند كل بيت والإعجاب به على ما تقدم ذكره ما نبهني للالتفات إليه، ثم مر ببيت قافيته لفظة (ومعضداً) فوثب من مكانه ونبه الحاضرين إلى أنها تورية باسم الخليفة المعتضد بالله فلم يوافقوه، فاعرض عنهم واقبل على الكاتب يشرح له حسن هذه التورية وأنها لم تتهيأ له إلا بعد إعمال الفكر والروية حتى أضجره ورمي الدرج من يده، فغلبني الضحك واستظرفته وقصدت محادثته، فقلت لعل سيدي الأستاذ عارض بهذه القصيدة قصيدة أبى الطيب التي يقول في مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
…
وعادة سيف الدولة الطعن في العِدا
فسكت ثم نظر إلي شزراً ولم يزدني على قوله: تِفّ على المتنبي، فاستغربت في الضحك وسألت عنه بعض الحاضرين فخبرني به فكدت أطير سروراً بلقائه، وأقبلت عليه امدح القصيٍدة وأذكر مواضع الإجادة فيها وأستعيدها منه، فأبرقت أسرته وأقبل علي أيما إقبال واسمعني بعض مقطعات من شعره، فقلت له: أما كان الأولى بهذه اللآلئ أن تنظم في سمط؟ فقال نعم يا سيدي إني مهتم بذلك وسيكون ديوانا مرقصاً، وامتد بنا المجلس فرأيت منه ما لو أردت إثباته برمته لطال بنا المقال. ثم فارقته وأنا أشوق الناس إليه، وكأني به أحد أبناء المنجم الذين ذكرهم الثعالبي في اليتيمة وأورد فصولا للصاحب بن عباد في وصفهم.
ومن غريب أمر المترجم أنه كان يستملح منه ما يستثقل من غيره، فقد رَوَوْا عن بشار أنه كان يصفر ويصفق ويتفل عند إنشاده وعن البحتري أنه كان يتقدم ويتأخر ويتلفت إعجاباً بشعره، وقد عيبا بذلك وعد من سقطاتهما التي نعاها عليهما الناعون بخلاف المترجم.
ومن غرائبه أنه كان معجباً بكنيته وكثيراً ما كان يتدرج بها إلي الانتساب لمن تكنى بها من الفضلاء المتقدمين كأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الفرج الاصبهاني صاحب الأغاني وغيرهما، فلا يدع أحداً من المتكنين بها إلا وينتسب إليه، تارة لهذا وتارة لذاك، ثم ارتقى
درجة فادعى الشرف ولاث على رأسه عمامة خضراء، ووسع أكمامه وسعى حتى جعلوه نقيباً للأشراف بدمنهور. حدثني صاحبنا الأديب الفاضل محمد شكري أفندي المكي قال: لقيته مرة وكنت علمت بأمر تلك النسب وأردت مداعبته فقلت: يا أبا الفرج إن كنيتك تنبئ عن شرف عظيم فلعلك من نسل أبي الفرج بن الجوزي، فقال نعم يا سيدي صدقت وأصابت فراستك، ثم لقيته بعد ذلك بأيام وقد نسى ما دار بيننا فأعدت عليه الحديث وقلت له إجادتك في الشعر مع هذه الكنية تدلني على انك من نسل أبي الفرج الببغاء، فقال أي نعم وهو الواقع أ. هـ. ولا خلاف في انه كان يعلم قصد محدثه في أمر نسبه، إلا أنه كان يخرجه مخرج الجد حتى مع أخص الناس به ويغضب ممن ينكر عليه فتستظرف منه.
وادعى مرة أنه نال نصيباً وافراً من اللغة بحيث أصبحت لا يشذ عنه شيء من مفرداتها، وتمادى في هذه الدعوى وتبجح بها في المجالس، وتصدر للإجابة عن كل سؤال فيها يطرح عليه فتوالت عليه الأسئلة وهو يجيب عليها خابطاً خبط عشواء لا يبالي بمن يحتج عليه بكتب اللغة. وصار الأدباء من أصحابه يرتجلون له الفاظاً يسألونه عنها فيخترع لها معاني يجيب بها، وربما أحال تخرصاً على كتب لغوية يعينها، ونظم له بعضهم بيتاً كبيت الخنفشار وسأله عن معناه في جمع كبير من الأدباء وهو:
وبِخرْنقِِ الأقيال عاثت فالتثت
…
وركاء تعترض الأكام بشيظم
فقال نعم! هذا بيت لعنترة، ذكره له صاحب الأغاني وهو يصف به حمامة، والخرنق شيء يشبه نسج العنكبوت وليس به، يكون بين أغصان الأشجار، فيقول إن هذه الحمامة عاثت بين الأقيال، أي الأشجار الكبيرة فالتثت قدماها بالخرنق أي اشتبكت به، وأما الشيظم، وأراد أن يفسره فقطعته أصوات الضحك من جوانب المجلس.
وبالجملة فقد كان خفيف الروح محبباً إلى القلوب أديباً ظريفاً حاضر الجواب حلو النادرة، وكانت وفاته فجأة بدمنهور في ثاني ليلة من شهر ربيع الثاني سنة 1310 بعد أن صلى العشاء، وكان آخر قوله أنا لله وأنا إليه راجعون، فشق نعيه على من عرفه وشيع جنازته الألوف تغمده الله برحمته.
الشيخ زين المرصفي الشافعي
هو من طبقة الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ سليم البشري، إلا أن الشيخ سليماً أكبر منهما سناً، حضر إلى الأزهر وقرأ على كبار الشيوخ به حتى برع وتأهل للتدريس، ثم جعله الخديو إسماعيل معلماً للعربية لولده الأمير حسين كامل باشا سلطان مصر الآن، وبسبب مخالطته له ولمن حوله ألم ببعض اللغات، وسافر مع الأمير إلى القسطنطينية وكانت أسواقها لم تزل آهلة بالكتب العربية فاقتنى هناك كتباً نفيسة غريبة عن أهل الأزهر، فصار ينقل منها في تآليفه نقولاً يُغرب بها عليهم. ثم استخدم بالمدارس وترقى إلى أن صار كبير المفتشين بها، ولم يزل بهذا المنصب حتى توفاه الله يوم الأربعاء الخامس من جمادي الأولى سنة 1300، ، فشيع جنازته لفيف من العلماء وجمع كبير من الناس، وأمر ناظر المعارف فسار فيها من كل مدرسة فريق من، تلاميذه وأناب عنه نائباً حضرها، ولما بلغوا به الجامع الأزهر للصلاة عليه وقف الشيخ حمزة فتح الله فأبنه ورثاه ببيتين من نظمه هما:
سقى الله من صوب الرضا أعظماً هوى
…
بها ركن بيت العلم إذ دكه الحين
فلا غرو إن أضحت وجوه علومنا
…
مشوهة فاليوم فارقها زين
رحمه الله رحمة واسعة.
وفى مقدمة شرح أحمد بك الحسيني لكتاب الأمّ للأمام الشافعي الذي سماه بمرشد الانام لبر أم الأمام ما نصه (زين المرصفي كان عالماً فاضلاً أخذ عن علماء وقته وجد واجتهد حتى صار من أكابر العلماء، وكان ذهب مع الرسالة المصرية إلى بلاد فرنسا زمن الخديو إسماعيل باشا وكان يجيد اللغة الفرنساوية، وله كتابات في المنطق والحكمة وكانت وفاته سنة 1300)
انتهى
شعراء الجاهلية
طرفه بن العبد
للأستاذ بشير الشريقي
مسكين طرفة! لقد ثكلته آلهة الشعر والهوى والخمور باكراً غضاً نضير العود، مسكين لم يمتع بالشباب؛ بل كان لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره حينما طوته المنون في سجل العدم ودفنت معه عبقرية فياضة، وذهنية جبارة، وشاعرية قوية حارة. خمسة وعشرون حجة، إنها لحلم قصير يا طرفة. . ولكنه حلم لذيذ، وحلم جد عجيب أيها الشاعر الاغتنامي والشاب الفيلسوف المتهتك.
على رمال الصحراء الطليقة ولد طرفة، ولكن متى؟ هذا ما لا يعلمه أحد؛ كان والده من سادة (بكر وائل) ومن ذوي الشرف الرفيع والمقام المحمود في قومه، وسمع طرفة يفتخر بأصله:
لقد علم الأقوام أنا بنجوة
…
علت شرفاً من أن تضام وتشتما
لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها
…
ويأوي إليها المستجير فيعصما
وتشاء الأقدار أن تسلب الشاعر والديه وهو لم يزل طفلاً في المهد فينشأ المسكين كما نشأ الحطيئة والأخطل وبشار وأبو نواس وابن الرومي، يتيماً محروماً من كل عطف ورعاية، لا يعرف سوى أعمامه الذين أهملوا تربيته وهضموا حقه.
لقد ثار طرفة في شبابه على هؤلاء الذين نبذوه وظلموه وكانوا علة شقائه، ثار على أعمامه وذوى قرباه، وفى ساعة ذكرى ماض محروق مهان، وطفولة نكدة محرومة، تلهم عرائس الشعر هذا العبقري الصغير أبياته الخالدة:
فمالي أراني وابن عمي مالكاً
…
متى أدن منه ينأ عنى ويبعد
يلوم، وما أدرى علام يلومني
…
كما لامني في الحي قرط بن معبد
وظلم ذوى القربى اشد مضاضة
…
على المرء من وقع الحسام المهند
ولا أعلم كيف عاب بعض النقاد الأدباء هجاء طرفة لقومه في قوله:
أسامني قومي ولم يغضبوا
…
لسوءة، حلت بهم فادحة
وكلهم أروغ من ثعلب
…
ما أشبه الليلة بالبارحة
وكيف رموه من أجل ذلك بكثرة الشر ولؤم الطبع، ما كانوا محقين وما كانوا منصفين، انهم لم يفطنوا إلى أن الشاعر ما قال بيتيه إلا بعد أن لاقى من قومه كل احتقار وقسوة؛ وكل ما من شأنه أن يجعل الشاعر يثور على البيئة التي نشأ فيها.
ثم هل تظن أن طرفة عنى قومه فقط حينما قال: (كلهم أروغ من ثعلب) أنا لا أظن ذلك بل أرجح أنه عنى الناس أجمعين، وأنه كان سيئ الظن بالبشر شديد الحذر منهم، أليس هو القائل في ذم الأخلاّء:
كل خليل كنت خاللته
…
لترك الله له واضحه
ولد طرفة عبقرياً وشب عبقرياً، فأسمعنا وهو في زهرة العمر وفجر الشباب أناشيد الحياة والموت فأطربنا بأنغامه إلى حين، نعم إلى حين، فقد أخرس الزمن لهاته قبل أن يكمل الخامسة العشرين ربيعاً؛ وكأن طرفة كان يشعر بمصيره ويعلم أن أيامه في الحياة قصيرة؛ فراح يسخر بمن يردعه عن اغتنام لذائذ الدنيا ويزجره عن الخمر والنساء واقتحام الهيجاء:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى
…
وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واعتقد طرفة أن (الكل باطل) ورأى أن هنالك شيئاً واحداً ثابتاً، هو أن الحياة تمضي، وما عدا ذلك أباطيل:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة
…
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطِّوَل المرخي وثنياه باليد
لعمرك ما الأيام إلا معارة
…
فما استطعت من معروفها فتزود
وما دام طرفة يرى أن اسمه سيمحى من سجل الوجود وأن قبر البخيل النحام في شرع الفناء كقبر الغوي الضال الذي قضى عمره في الشرب واللعب:
أرى قبر نحام بخيل بماله
…
كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ما دام يرى ذلك فقد صمم على أن يغتنم أويقات الحياة ويتمتع بكل ما تناله يده من لذائذ ومتع فعاش - وهذا طبيعي ممن مات ولم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه - صريع الكأس والأعين النجل؛ واهباً روحه للجمال وحسه للذة، أما نفسه فظلت كبيرة لم يذلها
الهوى ولم يخضها الحسن، أبداً محترمة مهيبة طموحة إلى المجد:
إذا القوم قالوا (من فتى)، خلت أنني
…
عُنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
…
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
متى تأتني أصبحك كأساً روية
…
وإن كنت عنها غانياً، فاغد وازدد
وان يلتقي الحيُّ الجميع تلاقني
…
إلى ذروة البيت الشريف المصمد
نداماى بيض كالنجوم وقينة
…
تروح إلينا بين برد مجسد
ومازال تشرابي الخمور ولذتي
…
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدى
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
…
وأفردت إفراد البعير المعبد
شعر رقيق عبر به صاحبه فأحسن التعبير، وطريقة واقعية مذهبها الإباحة والصراحة، حقاً لقد خلق هذا الصغير طرفة شاعراً فياض القريحة، انظر، إنه ما فكر في غير نفسه، ولا استمد إلا من حسه.
ربما دهشت إذا قلت لك إن هذا الشاعر الشاب الذي مات قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، والذي عاش كما قال بشار:
عشت بين الندمان والراح والمز
…
هر في ظل مجلس حسن
قد امتاز أيضاً بما نظم من الحكم البالغة والأمثلة السائرة، لا تعجب، إن طرفة لم يكن مخلوقاً عادياً، بل كان عبقرياً ملهماً، نظر بعين بصيرته إلى الحياة نظر الشيخ المجرب، فحدثنا عن الوجود والعدم حديث العارف الحكيم، وعالج لنا خلال السنوات القليلة التي عاشها كثيراً من مسائل الحياة وأحوال المجتمع وخوالج النفس. قال يطلب الغيث لديار حبيبته:
فسقى ديارك غير مفسدها
…
صوب الربيع وديمة تهمى
شعر جزل فصيح، طلب الغيث على قدر الحاجة، لأن الفاضل ضار، وقد قال محمد (ص)(اللهم اسقنا سقياً نافعاً)
أنا وأنت وكل الناس نتمثل بقول هذا الشاب:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
واسمع إنه يحدثك عن الخير والشر:
الخير أبقى وإن طال الزمان به
…
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وتأمل قوله وهو في السجن - يخاطب قاتله عمرو بن هند
أبا منذر كانت غروراً صحيفتي
…
ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
…
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ألا تشعر معي أن في قوله (أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا) نقاء وحرارة، وليناً وروعة واستعطافاً، وان قوله (بعض الشر أهون من بعض) آية يتمثل بها.
وذكروا أن من حكمه التي حملت فحول الشعراء كلبيد وجرير والأخطل على الاعتراف بفضله وتقدمه قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويروى عن عائشة رض الله عنها قولها: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا استراب الخبر يتمثل بقول طرفة (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وكان ابن عباس يقول عن هذا البيت (انه كلام نبي).
النبي محمد يتمثل بقول طرفة.!
وابن عباس يقول إن كلامه كلام نبي.
وأبو العلاء المعري يقول في رسالة الغفران (. . لو لم يكن لطرفة أثر إلا قصيدته التي على الدال لكان قد أبقى أثراً حسناً).
أما قصيدة طرفة التي على الدال فهي معلقته، اسمع مطلعها الرائع:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
…
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي على مطيّهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ونظر طرفة إلى الحياة، إلى المستقبل، بعين فيلسوف حكيم، بعين شيخ مجرب بصير بعواقب الأمور فقال:
قد يبعث الأمر العظيم صغيره
…
حتى تظل له الدماء تصبّبٌ
رحم الله طرفة شاعر الشباب والجمال والحكمة.
شرقي الأردن
بشير الشريقي
المحامي
من طرائف الشعر
البلبل المسحور
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
أَلهَمْنتيالشِّعْرَ وَأَنْغَامَهُ
…
وَحَسْرةَ الذكْرَى وَشَجْو الهَوَى
وَحَيْرَةً صَاحِبُها ذَاهِلٌ
…
مُرَوَّعٌ يُضْنِيِهِ فَرْطُ اْلأَسَى
نَاَدْتكِ رُوحي في دُجَى صَمْتِها
…
مَمْرُورَةً غَلْغَلَ فِيها الْجَوَى
وَاسْمُكِ حَوَّامٌ يُنَاغَي فَمي
…
قَلْبي طَوَاهُ وَلِساَني رَوَى
وَطَيْفُكِ الرَّفَّافُ في خاطِرِي
…
يُنَضِّرُ المَاضي وَيُحْي الْمُنَى
آمَنْتُ بالْحُلْمِ فَكَمْ مَأْمَلٍ
…
مُسْتَبْعَدٍ أَدْنَتْ خُطَاهُ الرُّؤَى
وَعَالَمٍ ضَلّلَني لُغْزُهُ
…
مَدَّ عَلَيْهِ جُنْحَهُ فَانْجَلَى
يُطْمِعُني في عُزْلَتي أَنَّني
…
أَرَى بِسِتْرِ الْغيْبِ مَا لَايُرَى
أعي حَدِيثاً حَافِلاً بالرِّضاَ
…
يُهَدْهِدُ الْقَلْبَ إِذَا مَا وَعَى
وَتَسْكُنُ النَّفْسُ إلى نَغْمَةٍ
…
هَابِطَةٍ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
كم صُغْتُ أَشَعْارِي مِنْ وَحْيهِا
…
وَكم تَغَنَّيْتُ بِهَا في الدُّجَى
قُلتُ لِنَفْسي في سُجُوِّ الرُّؤَى
…
لَمْ آتِ دُنْيَايَ لَعَمْري سُدَى
لئن شَجَاني أَنَّني مَيِّتٌ
…
لَقَدْ نَفَى شَجْوي أَنّي صَدَى
كَتَبتُ رُوحي قِصَّةً لَذَّةً
…
وَصُغْتُ قَلْبي نَغَماً يُشْتَهَى
لَيْسَ يَنَالُ التُّرْبُ مِنْ مُهْجَتي
…
وَلَا يُذِيبُ اللَّحْنَ مِنْها الْبِلَى
طَوفَتِ الأَفْلَاكَ في سَبْحِهَا
…
كَأَنَّها مَا حَفَلَتْ بالرَّدَى
أترَعَتِ الدُّنْيا شَذاً بَاقِياً
…
وَغَلْغَلتْ طَيَّ الرِّحَابِ الْعُلَى
أغاضَنَي مِنْ فَرْحَتي حَسْرَةً
…
مِنْ بَدَّلَ الضِّحْكَ بِمُرِّ الْبُكا
مَرَرتُ في دُنْيايَ مُسْتعجِلاً
…
كأَنَّني في الغُمْضِ طَيفٌ سَرَى
تُزَيِّنُ الأحْزَانَ لي عِيشَتي
…
وَتَرْسُمُ الشَّكَّ وَتَمْحُو الهُدَى
يَئِسْتُ مِنْ صَحْوي وَمِنْ غَفْلَتي
…
كِلاهُما بَعْضُ خَيَالِ الكَرَى
أَسْلو، وَمَا سَلْوايَ إِلاَّ الْبُكا
…
أَحْيَا، وَمَا عَيْشي إِلاَّ الشَّجَا
ضاَعَتْ أَمَاني وَلَمْ يَبْقَى لي
…
في عُمُري مِنْ أَمَلٍ يُرْتَجَى
وَلَمْ يَعُدْ لي مَطْمَحٌ مُشْرِقٌ
…
إِلا انتحَاهُ الَمْوتُ نَضْرَالصِّبَا
أَمْسِ صِبَايَ الغَضُّ وَدَّعْتُهُ
…
وَغَابَ عَنِّي في سَحِيقِ الْهُوَى
وَذَا شَبَابي الْيَوْمَ مُسْتَرجَعٌ
…
يَمْشي إِليَ الَمْوتِ حَثِيثَ الخُطَى
وَقَلْبي الموْجُوعُ مَا يَأْتَلي
…
يُمْعِنُ في النَّوْحِ إِذَا مَا اشْتَكى
حَنَّتْ إلى المَاضي جِرَاحَاتُهُ
…
وَجُرْحُهُ قُدِّسَ لَمَّا مَضَى
آهاً عَلَى نُعْمى تَخَيَّلْتُها
…
مَا جَزِعَتْ أَنْ هَدَّمتني ضَنَى
تَعْتَادُني الأَشْجَانُ في وَحْدَةٍ
…
لا فَرَحُ يُسْعِدُهَا أوْ سَنَا
دَاجِيَةٍ نَكْرَاَء طَفَّاحَةٍ
…
بالسُّهْدِ وَالبَلوَى وَبَرْحِ الأَذَى
العَدَمُ الرَّاعِبُ فيها لَقىً
…
تَحْسِرُ عَنْ أَسْرَارِهِ مَا اخْتَفَى
وَالوَهْمُ مَلْمُوسٌ بِهَا بَيِّنٌ
…
وَالغَيبُ فِيهَا ماثِلٌ يُجْتَلى
بُلْبُلُكِ الَمسْحُورُ يَا فِتْنتي
…
مَاتَ، وَعُشُّ الحُبِّ مِنْهُ خَلا
الوَرْدُ قَدْ جَفَّ عَلى قَبْرهِ
…
وَالنَّغَمُ المِطْرَابُ فيهِ ثَوَى
فَأَرْهِفِي أُذْنَكِ تَسَّمَّي
…
إِنْشَادِهُ مِنْ جَوْفِ هَذَا الثَّرى
يَاطَيْفَهَا قَاسَمْتَنى وَحْشَتى
…
وَظَلتَ في قُربى برغْمَ النَّوَى
عِشْ في فُؤادي بُلْبُلاً نَاغِماً
…
وَابْقَ أَنِيساً ليَ طولَ المَدَى
أَسْمِعْني الأَلحانَ عُلْوِبةً
…
وَأَنسِني الدُّنيا وَهَذَا الوَرَى
وَطُفْ بِرُوحي عَالماً سَامِياً
…
عَاشَ بهِ الحُبُّ وَمَاتَ الْقلَى
تَعْتَنِقُ الأَملاكُ في سَاحِهِ
…
وَيُسعدُ المُشتَاقَ فِيه اللقَا
دمشق
أنور العطار
من الأدب الهندي
عود إلى محمد إقبال
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت في الرسالة عام أول طرفاً من أخبار شاعر الهند العظيم، وفيلسوف الإسلام النابغة الدكتور محمد إقبال، وترجمت نبذاً من ديوانه (بيام مشرق). ولإقبال كتاب اسمه (أسرار خودي)، وهو كتاب منظوم شرح فيه (أسرار خودي) أي أسرار الذاتية، فبين بأسلوب شعري رائق أن حياة الإنسان والأمة في تقوية النفس، واستخراج كل ما فيها من قوى ومواهب، وأن الهلاك أن يغفل الإنسان عن فطرته، ويردّ د آراء الناس، ويحاكي أعمالهم. الخ
ولإقبال كتاب آخر اسمه (رموز بيخودي) أي رموز اللاذاتية، يبين فيه كيف يؤلف الإنسان نفسه القوية في الجماعة ساعياً إلى المقاصد العامة. والكتابان منظومان في بحر الرمل على القافية المزدوجة.
وسيرى القارئ في هذا المقال وما يليه نبذاً من الكتابين، على ان قارئ هذه الترجمة العربية المنثورة يفوته كثير مما يحس به قارئ شعر إقبال في لغته.
وفما لي قطعة من أسرار خودي:
(قصة شاب من مرو ذهب إلى السيد المعظم علي
الهجويريفشكا إليه حيف أعدائه عليه):
سيد هجويري قبلة الأمم الذي صار مرقده حرماً في بيرسنجر، جاب الأقطار، وقطع سلاسل الجبال، وبذر في أرض الهنود بذور السجود؛ فجدد عهد الفاروق بجماله، ورفع صوت الحق بجداله؛ عزت (أم الكتاب) بحماسته، وخربت دار الباطل بنظرته، وحيت أرض البنجاب بأنفاسه، وتلألأ صبحنا بشمسه، عاشق وهو رسول للعشق سيار، تتجلى، من جبينه للعشق أسرار.
أقص عليك من أنبائه عبرة، فأطوي بستانا في زهرة:
ورد لاهور شاب من أهلمرو مرير القوى، فأمّ حضرة السيد الرفيع ليقشع بشمسه ظلمات
نفسه.
قال: يا سيدي أحاطبي الأعداء الفجار، فأنا منهم كزجاجة بين أحجار، فعلمني يا ذا السنا والسناء، كيف العيش بين هؤلاء الأعداء.
قال المرشد العليم الذي ائتلف في نفسه الجمال والجلال:
يا جاهلاً بأسرار الحياة، وغافلاً عن مبدئها ومنتهاها؛ افرغ من هم غيرك، وأيقظ القوة النائمة في نفسك. إن الحجر الذي يتوهم نفسه زجاجة بين الأحجار، ينقلب زجاجة غايتها الانكسار. ومتى ظن المسافر الضعف بنفسه، فقد أسلم لقاطع الطريق روحه. حتَّامَ تعدّ نفسك طيناً وماء؟ أخرج من طينتك شعلة الطور ناراً وضياء. ماذا التكبر على الأصدقاء، وما هذه الشكاة من الأعداء؟ لا ريب أن عدوك صد يقك، وأن وجوده رونق حياتك. كل من وعى مقامات الذاتية يحمد الله كلما ألفى عدوه في قوة.
العدو من الإنسان كالسحاب من الأرض، يغشاها، فيوقظ من سباتها قواها. وإن حجر الطريق ليسيل كالماء، أمام الهمة القعساء. وما السهل والحزن أمام السيل المنهمر، عقبة الطريق مسن لسيف العزم، وقطع المراحل اختبار لهذا السيف، ما العيش في أكل ودعة كالحيوان الأعجم؟ وما غناء الحياة وأنت في نفسك غير محكم؟ حصن نفسك بالذاتية يسخر لك العالم كله. تجرد من نفسك إن ترد الفناء، واعتصم بنفسك إن تبغ البقاء. هل الموت إلا غفلة عن الذاتية؟ وهل افتراق الروح والجسم إلا هذه المنية؟ اتخذ من نفسك مستقرأ لتنجو من الهلك؛ ثم امض قدما - كيوسف - من الإسار إلى الملك. تفكر في الذاتية وكن رجل الجلاد السباق إلى الغايات، كن رجل الحق المليء بالآيات. هأنذا أشرح بالقصص الأسرار، وأفتح بالنفحات أكمام الأزهار. (خير أن يأتي سر الأحباب حديثاً في قصص الآخرين)
(قصة الطائر الذي أنهكه العطشى)
بلغ العطش من طائر جهده، فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء. وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس، فتوهم الحجر الصلب ماء سائلا، وغره من هذا الجوهر بريقه فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته. قالت الماسة: أيها الطائر المسحور! لشد ما ضربت بمنقار
الغرور؛ لست قطرة من الماء، ولا شربة للظماء، ليست حياتي من أجل غيري. إن محاولة التقاطي جنونوغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الطهور، إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه.
خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنيناً هذه النغمات. ثم بصر بقطرة من الطل على فننٍ من الورد، تتلألأ كدمعة في عين البلبل، ضياؤها استغراق في حمو الشمس، وهي من جوف الشمس في رعدة. كوكب خفاق ولدته السماء، فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء؛ وخدعته ألوان الأكمام والأزهار، فلم يأخذ من الحياة نصيباً، كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل.
ويسرع الطائر إلى فنن الورد فيلتقط قطرة الندى.
أيها المبتغي نجاة من الأعداء! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء؟ ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقى بحياة غيره حياته؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر. فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطرة. كن ناضج الفطرة راسخاً كالجبال، وتحمل بحاراً من السحاب الهطال. وجد نفسك بقوى نفسك، واستحل فضته بجمود زئبقك. أظهر نغمه الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسرارها.
(قصة الماس والفحم)
وهذا حديث آخر يفتح لك من الحقيقة بابا:
قال الفحم للماس وهما في المعدن: يا من أودعت هذا التجلي الأبدي! نحن رفيقان، وفى المنشأ صنوان، وهأنذا أموت في معدني ذلة، وأنت تعلو تيجان الملوك عزة، وقدري من سوء الجبلة دون الحصاة، وجمالك يصدع قلب المرآة. يضيء بظلمتي المجمر الوقاد، فإذا غاية جوهري هذا الرماد. منزلتي من الناس مواطئ الأقدام، وغايتي أن أكون طعام النيران. إنها لحياة جديرة بالبكاء، فما وجودي إلا هباء؛ موجة من الدخان مركومة، وأما أنت فكالنجم وجهك وسيمتك تفيض بالنور كل جوانبك. فأنت حيناً قرة عين قيصر، وأخرى حلية في مقبض الخنجر.
قال الماس: أيها الرفيق البصير إن التراب الأغبر إذا نضج فهو جوهر، وأنا ما زلت أجالد
ما حولي حتى أنضج الجلاد نفسي، فانقلبت صلباً كالحجر، مضيئا كالنجم، وامتلأ صدري بهذه التجليات. وأنت من حياتك النيئة ذليل، محتقر من رخاوة بدنك العليل، فرغ من الخوف والغم فؤادك، وانضج كالصخر وكن ماساً بجهادك. فكل من جاهد في الحياة صبوراً، يملأ العالمين نوراً. إن الحجر الأسود كان تراباً بالتكريم غير خليق، فصار حلية في صدر البيت العتيق، فاق الطور رفعة وصعد، حتى صار مقبل الأحمر والأسود.
إن في الصلابة ماء الحياة وسر البقاء، وإن في النيوءة الهوان والضعف والفناء.
عبد الوهاب عزام
بين الشك والإيمان
الشاعر الإيطالي (ليوباردي)
'
1798 -
1837
للأستاذ خليل هنداوي
(أيتها الشريعة الجميلة! أنت ستعيشين طويلا معصومة من كل خطأ، وإذا هاجمنا الضلال نعوج إليك ونجد الحقيقة تحت ردائك، ويدك وحدها تقودنا إلى شاطئ السلام)
(ليوباردي)
- 1 -
في نفس (ليوباردي) سكن الألم الممض والشك العنيف متجاورين. فجعلا منه - في العمر الذي يبسم فيه كل شيء - شاعراً يحمل للناس مقاطع الأحزان، ونفاثات الأشجان.
قضى أيامه الأولى يساوره الداء من ناحية، والدرس والاعتزال ينهكان قواه من ناحية ثانية، على أن الدرس برغم متاعبه كان ينفخ فيه روح النشاط فيهب، ويحى أهواءه النائمة فتحيا.
كان لوالده الكونت (مونالدو) شغف بالأدب، يعوج إلى مجالسه وندواته، وقد بعثه شغفه هذا على أن يغرس في ولده هذه الروح، وأن يسهل له إدراكه. فكان أدبه الأول أدب إيمان وتقوى، يتعصب لهذا الأدب، ويحله من صدره أسمى مكان، ويحسب من لا يؤمن به جاهلا، وهو القائل في ساعات شكه وجموده (أيتها الشريعة، انك ستعيشين طويلاً معصومة من كل خطأ، وإذا هاجمنا الضلال نعوج اليك، ونجد الحقيقة تحت ردائك، ويفر الضلال فرار الذئب من الراعي، ويدك وحدها تقودنا إلى السلام)
- 2 -
كان الدافع الأول إلى شك (ليوباردي) هو سأمه من كل شيء في بلده، قال في إحدى
رسائله (لا تحدثوني عن (ريكاناني) إنني سأحب وطني عندما أغدو بعيداً عنه، ماذا في ريكاناني؟ هل تنظرون ما أستطيع صنعه هنا؟ فالكل يجهلونني، وأنا مؤثر الحياة في هذا الوطن الذي لا تعرفونه بدون معجم جغرافي، مستخف بكل شيء. الآن صنع الإله الوجود جميلاً، والناس يصفون العظائم في كل الأنحاء، وهنالك كثيرون من الرجال يعدون بلهاء لأنهم جربوا أن يروا وأن يعرفوا! الأرض ملأى بالعجائب)
وهكذا قضى أيامه الأولي مغترباً عن أبيه الذي دعاه مراراً وتكراراً إلى العودة، وهو يأبى ويصر على البعد إصراراً. كتب له أبوه، (وما هي الحاجة الماسة التي تدعوك إلى هجرة دارك وأهلك إلى دار لا تتمتع فيها بمثل عطفي ورضاي؟) ولكن ليوباردي كان يهمل كثيراً هذه الأسئلة، وإذا أجاب أجاب بنفس ناقمة غاضبة ثائرة، يكتب إلى أحد أصدقائه (لأسهل عليك أن تحرك الجبل من أن تدفعه (والده) إلى صنع شيء من أجلي) ثم يقول:(على أنني اخترت هذه المرحلة؛ فلا آخذ منه شيئا، ولا أطلب شيئاً) وهكذا يغلب الكبرياء على ليوباردي ويصبح شقاؤه شقاء جباراً.
أوى ليوباردي إلى الدرس يجد فيه لذته النفسية، ولكن هل كان الدرس كله راحته من عنائه، وهناءه في شقائه؟ كتب في أحد كتبه يعبر عما يجد في ساعة الدرس:
(إن سبب تعسي هو عقلي، إنني أظن أنكم تعرفون، ولكني أثق بأنكم تجهلون كيف يقتل العقل صاحبه الذي يحاول أن يفكر على غير ما يفكر به الآخرون، عندما لا يكون لهذا الصاحب من لهو غير لهو الدرس. . أما العقل فقد أعطاني ويعطيني أمثال هؤلاء الشهداء، وبهذا وحده يفرض سلطته عليَّ ويكون سبب أذاتي. وسوف يقتلني إذا لم أبدل خطتي! ألا إن العزلة ما خلقت لمن يحترقون بأنفاسهم ويذوبون بأنفسهم)
بلى! ما كان أصدق ليوباردي في كلمته الأخيرة! لأنه كان معبراً عن حالة نفسية هي فيه. فقد تسرب إليه الداء حتى أنهك قواه فشح ناظراه وساءت صحته وركبته العلة إثر العلة. ووقر على ظهره عبث الحياة فقال (إنني ناضج للموت). ولكن الموت كان يرى هذه الثمرة غير ناضجة، فتركها عشرين عاما تنضج خلالها وتحمل من آلام الحياة ما ينوء بالجبابرة حمله، تائهاً ضالاً في مسارب الشك، مستجلياً الحقيقة كما استجلاها من قبله، طالبا ما تعده من وصل، ووعدها بالوصل علالة.
أما نظرته الحادة وصوته المرنان وتألق نفسه وكل تلك الملامح القوية التي مثلها - سانت بوف - قد تغيرت في أخريات أيامه وإنما غيرها وقر الهم لا وقر الهرم، وإذا بليوباردي كما يصفه (رانيري) صديقه الوفي (ذو قامة مقوسة، ولون أبيض مشرب بصفرة، وجبهة مربعة عريضة، وعينان زرقاوين ذابلتين، وأنف دقيق، ولهجة مبهمة جافة، وبسمه ترافقها العذوبة والشقاء)
وهو يكتب عن نفسه:
(وأخيراً أتعبتني تلك الأعوام التي قضيتها في الدرس وأودت بجسدي، حتى لا يرجى لي شفاء غير الموت. وهكذا حطمت رجائي لأفهم أن الطرب لا يلائم قلبي. وإذ ذاك وجب على أن أرتدي ثياب الحداد وأن أتخذ التشاؤم رفيقاً لي لا يمكن فصله عنى إلى الأبد، نظرتُ فألفيت أن حياتي لا يمكن أن تكون إلا تعسة، ولكن هذا لم يبعثني على اليأس، فحبذا لو أن قواي تحملها بدون خوف وتحولها إلى شيء مفيد بعض الشيء)
وهكذا نستطيع أن ندرك أن أهم العوامل التي تألبت على هذا القلب فبدلت إيمانه شكلاً معذباً إنما هي عوامل جسدية ونفسية تضافرت على نضاله، وما فتئت تلح عليه وتنال منه، حتى تركته لا يهديه إلا شك، ولا يقنعه إلا جحود.
- 3 -
في هذه العزلة الموحشة التي اختارها لنفسه ارتبط مع الأديب الإيطالي (بيانرو جيورداتي) بصلات مودة متينة، وكان نجم هذا الأديب متألقاً في سماء بلاده، وهو ممن طرح القديم وأعلن شكه فيه، وراقت له المذاهب الجديدة فأخذ بها، فتمنى لو يرى ليوباردي بعد أن سمع عنه الشيء الكثير، فقصده في عزلته فمال إليه وأعجب به وكتب عنه (إذا كان دانتي نجمة صبح في سماء إيطاليا، فان ليوباردي هو نجمة مسائها)
لليوباردي صفحة مؤثرة كتبها في ليلة تحت أضواء القمر والنجوم المشعة، ذاهبة نفسه في الليل العميق كل مذهب:
(وفي ذلك المساء كانت نافذتي مفتوحة، وناظري يتمتع في هذا الصفاء السماوي وشعاع القمر المتهادي. أتروّح نسيماً عليلاً، وأصغي إلى عواء الكلاب المتناوحة في مواطن قصية عني. فخيل إلى أن صوراً ترقى إلى نفسي وأن قلبي يتسلط عليه قلق غريب، فهتفت كمن
أصابه مس، طالباً رحمة الطبيعة التي خيل إليّ أنها تسمعني. في هذه اللحظة ألقيت أنظاري على ماضي، فتجمدت من الخشية أعضائي، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن الناس أن يتحملوا الحياة بدون أوهام ولا أفراح ولا عواطف، بدون خيال ولا هيام، وبدون ما كان يملأ وجودي قبل عام، ويجعلني سعيداً برغم مخاوفي، أما اليوم فإنني يابس كالقصبة، لا عاطفة تتمشى في حنايا نفسي البائسة، وقوة الحب الخالد الطلقة قد ماتت وهلكت في العمر الذي أنا فيه).
كم مرة ذكر ليوباردي هذه الليلة العنيفة! وكم مرة تمثلت له هذه الليلة وهو ينظر في المروج الفضية الهادئة يغمرها نور القمر وهو ينجلي وراء (الابينين، وقمم الألب الشامخة) أو يتهادى على حضن البحر اللانهائي، وسائق العجلة يردد أغنيته الحزينة، مودعا آخر شعاع النهار، ثم يردد الشاعر:(وهكذا يغادر الشباب الحياة ويتركها تخمد رويداً رويداً، والأوهام الجميلة تتطاير مع الآمال التي كانت مساعدة للإنسان، ولكن أنتن أيتها الروابي التي ينحدر عنها النور، أنتن لن يغشاكن الظلام طويلا. . . ولكن حياة الإنسان بعد فرار الشباب لن يُلوَّنها شيء، وستظل غريبة حتى النهاية. . . والقبر وحده هو الذي يضع حداً لليل عمرنا!)
وفي عام 1818 نظف الشاعر رأسه من كل شيء. طلق الإيمان وودع الأوهام، فبقي وحده وسط خرائب جسده وروحه إزاء عالم فارغ وتحت سماء من نحاس، ومنذ ذلك العهد لم يتغنّ الشاعر إلا بأنشودة الشك التي رافقته حتى ودَّع الحياة.
- 4 -
وأخيراً نزع عنه الشك العابس كل إيمان بالله والخلود والعناية، فتلاشى منه كل شيء وانصرف عنه كل شيء، فلا آله عنده غير الطبيعة، تلك القوة العمياء التي لا تُدرك، يسألها عن سر الأشياء فتجيبه (وأنا طائعة للمقادير، أما أسباب الأشياء فهي ألغاز، لا أنا ولا أنت نستطيع إدراكها، فالأجدر ببني الإنسان أن يصرفوا عيونهم عن هذه الألغاز التي تقلقهم، فإن حلها كما خُيِّل إلينا انه صار قريباً زاد عنا بعداً)
لننظر ما هو الإيمان الجديد الذي اعتنقه الشاعر في بعض مقطوعاته (مومياء تُبعث) بعثاً مقيداً بلحظة زمنية، يسألها فيها (كيف ماتوا وماذا وراء الموت)؟ ولكنها تجيب (اسكت! لم
يحن وقت الجواب. . .) وهكذا تكر هذه اللحظة، وتعود المومياء إلى رقادها الأبدي.
وهنالك مقطوعة صغيرة تدور حول رجل (ايزلاندي) فرّ في الأرض على وجهه من الطبيعة، ولكنه تلاقى معها في وسط الصحراء، فألح عليها بأسئلة كثيرة منها هذا التأنيب:
(لماذا قذفتِ بي في هذا العالم دون استشارتي، ولماذا بعد إيجادك لي لم تشغلي نفسك فيَّ؟ فما هي غايتك؟ وما عسى تبتغين؟ وماذا تريدين؟ هل أنت لئيمة أم عاجزة؟)
فأجابته الطبيعة: بأن ليس لها إلا سأم واحد وواجب واحد أن ، تُدير دولاب العالم دورة واحدة يناجي فيها الموت الحياة، والحياة الموت. وإذ ذاك سألها الرجل (ومن عسى يبتهج بحياة هذا العالم الذي لا يبقى ولا يدوم إلا بموت كل الأجزاء التي تولف عناصره؟ ولكن الطبيعة لم تجشم نفسها عناء الجواب. . . وإذ ذاك انقض أسدان جائعان عليه فالتهماه فهوى هيكله على التراب منتظراً أن يسقط كلاهما بدورهما على رمال الصحراء.
السكوت هو الجواب البليغ على هذه الأحاجي والأسرار، لأن المستقصي عنها لن يرى إلا جداراً يعثر به ويدفعه إلى الوراء، وإذا سار فلن يسير إلا في صحراء لا يجد منها مخرجاً.
لم يختر ليوباردي شيئاً من حياة المستقبل ولا الحاضر، ولم ينظر إلى مستقبل الإنسانية، ولم يجرب أن يقف هواه على شيء في الحياة، وإذ أراد أن يمجد وطنه فلن يرى شيئاً جديراً بالتمجيد إلا ذلك الماضي، أما الغد فهو لا يؤمن به
(أيها الأسلاف العظماء، ألا تزالون تصونون لديكم شيئاً من الرجاء فينا؟ ألم نهلك نحن جميعاً؟ إنني محطم لا أملك أية قدرة أجابه بها الشقاء، أما المستقبل فهو جهنم في عيني، والذي أتبينه هو الذي يريني الأمل حلماً أو جنوناً)
لهجته - أينما صعدت - مبطنة بالكآبة العميقة التي لا يخفف منها مجد ولا علاء. يُسألُ عن الرجل العظيم فيقول (هو اسم سرعان ما يصبح كاللاشيء. إن فكرة الجميل تتبدل دائما مع الزمن. فالمسائل العلمية سرعان ما يتفوق عليها غيرها وتصبح نسياً منسيا، وإن أدنى رجل رياضي منا يعرف أكثر مما يعرف (غاليلو ونيوتن) فالمجد ما هو إلا خيال، والبراعة التي تكون مكافأة للمجد ليست إلا حاضراً مشؤوماً لمن يتقبلها) ثم يتكلم عن دانتي ويقول. (وعلى هذه الأرض القبيحة لم يؤثر إلا الجحيم، وأي منزل في الحقيقة لا يفضل على منازلنا الأرضية، إن الشقاء الذي يؤلمنا هو أقل ثقلاً وأقل شراً من السأم الذي يخنقنا.
ألا أيها السعيد، أنت الذي حياتك في بكائك) وينظر ليوباردي إلى المستقبل نظرة سوداء ويعتقد أن الأجيال تسفل ولا ترتقي، ويسخر من المتأملين في تسامي الأحفاد
هنالك راع يخطر على قمم جبال (هملايا) متكئاً على عصاه يطيل التأمل في السكون المحيط به، وينظر إلى القمر الهائم مثله في السماء فيسأله:(قل لي أيها القمر! ما قيمة حياة الراعي، وما قيمة حياتك أنت؟ بل ما قيمة حجى الفقير وسُراك الأبدي؟ أنت أيها المسافر المنعزل الخالد والملك المفكر، ربما تفهم أنت حياتنا وآلامنا وتنهداتنا، وربما تفهم الموت والصفرة السامية، وسفر الأرض ووداع الصداقات الجميلة. انك بلا شك تفهم أسرار كل هذه الأشياء ولكني لا افهم ولا أعرف إلا شيئاً واحداً. ليأخذ البعض من هذه الحياة خير ما فيها، يستنقذونه من ثوراتها الهوجاء ومن كائناتها الضئيلة. قد يمكن لهم ذلك. ولكن الحياة هي شر من اجلي)
وهل في هذه القطعة إلا اليأس من الحياة والكفر بها في شعر جميل
يتبع
خليل هنداوي
العلوم
تغير شكل الأرض من الكروية
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
كلنا نعرف أن الأرض التي نعيش عليها كروية الشكل. وقد برهن علماء الجغرافية على صحة هذه النظرية ببراهين عديدة كانت ولا زالت موضوعاً من مواضيع دروس الجغرافيا في المدارس، من أهمها الظل المستدير الذي تلقيه الأرض على سطح القمر إذا ما حالت بينه وبين الشمس.
إلا أنه قد ظهر أخيراً بين العلماء المحدثين من يقول بأن الأرض يتغير شكها من كروي وهو ما يطلق إلى شكل هرمي له أربعة أضلاع، كل منها مثلث متساوي السيقان.
والنظرية لا تعتمد في إثباتها على براهين نظرية أو خيالية، وإنما تعتمد على حقائق جغرافية ملموسة موجودة فعلاً على الأرض، فهي براهين عملية ثابتة. وسأنقل النظرية لحضرات القراء ملحقاً كل نقطة بالتفسير الكافي وذلك لخطر الموضوع الذي نبحث فيه وخطر النتيجة التي تنتج عن إثباتها علمياً.
قال صاحب النظرية:
(هناك على سطح الأرض منخفضات لم تغمرها المياه بعد، من أهمها ذلك المنخفض العظيم الذي يقع فيه بحر الكاسبيان الذي يفصل وسط وشرق آسيا عن أفريقيا وأوربا، والذي غمرته المياه في العصور الحديثة. إذا علمنا هذه الحقيقة الجغرافية وعرفنا أن هذا اتصال بالمنخفضين اللذين تغمرهما مياه المحيطين الأطلسي والهادي سهل علينا أن نفهم أو نعرف كيف أن شكل الأرض يبعد عن الكروية بالتدريج مقترباً نحو الشكل
في هذه النقطة يمهد صاحب النظرية الطريق للفكر لتسوغ نظريته، وذلك بإلقاء حقائق جغرافية ثابتة يرى أنها تساعد على فهم نظريته إذا ما أراد البرهنة عليها. وهاهو ذا بعد ذلك يريد أن يعلل سبب اتخاذها الشكل الهرمي دون سواه مستعيناً في ذلك بحقائق جغرافية أخرى. فيقول:
(باطن الأرض لا زال حاراً منصهراً يبرد بالتدريج، وهو يقل حجماً بالبرودة. ولما كانت القشرة الأرضية صلبة لا يمكنها تقليل حجمها تبعاً لذلك فإنها تتقلص وتغير من شكلها تبعاً لانكماش باطن الأرض فتتخذ الشكل الهرمي).
أي أن باطن الأرض حارٌّ ملتهبٌ منصهر، ولكنه يبرد بالتدريج، فسيجيء وقت مستقبل يصل فيه إلى أقص درجة، أي لدرجة التجمد، وعندها يقل حجمه تبعاً لقانون الانصهار. وبما أن الحيز الذي كان شاغلاً له قبل التجمد سيكون جانب كبير منه بعد ذلك شاغراً، فان القشرة الأرضية أو الغلاف الخارجي سيضطر بفعل الفراغ الداخلي أن يغير من شكله لملئ هذا الفراغ مع عدم تغير في حجمه. وقد وجد الأستاذ صاحب النظرية أن الأرض سائرة في هذه الطريق، وأنها ستتخذ الشكل الهرمي دون سواه لحقائق جغرافية تبرهن على صدق قوله وصحة اعتقاده. ولظنه أن هذا الشكل يمكن القشرة الخارجية من التمشي مع وصول الباطن إلى اقل حجم ممكن دون المساس بحجم الغلاف الخارجي.
(ولو أنني أعرف جيداً أن المعضدين لهذه النظرية أقلية صغيرة إلا أنني أقول إن هناك حقائق جغرافية كثيرة تؤيد وجهة نظري وتبرهن على صحة نظريتي:
أولاً: تركز اليابسة حول مساحة مائية في النصف الشمالي من الأرض.
ثانياً: كل مساحة مائية في جهة يقابلها كتلة أرضية في الجهة الأخرى.
ثالثاً: وجود ثلاثة مناطق مرتفعة تكون عقداً أو أحزمة أرضية شمالية وجنوبية يفصل بعضها عن بعض منخفضات هي منخفضات المحيط الأطلسي والهادي ومنخفض الكاسبيان.
والشكل رقم (1) يساعدنا على فهم ذلك.
وتفسيراً لذلك نقول. أنه لما كانت الأرض في حالة الليونة الأولى وكانت تدور حول محورها بسرعة، أخذت الشكل الكرويكأي جسم لين يدور حول محور، وانبعجت عند خط استوائها ثم تفرطحت عند القطبين بفعل قوة الدوران.
وكانت الأرض في العصر الأيوزوي أقرب في شكها من الكروية التامة تغطيها المياه. فلما أخذت تبرد بدأت القشرة الخارجية في التقلص فظهرت أراضٍارتفعت عن المياه المغطاة بها (شكل 2 أ). وفى العصر ألباليوزوي مساحة اليابس تتزايد وأخذت الأرض
شكلاً كما يقول العلماء عبارة عن هرمين غير كاملين متصلين ببعضهماوكانت الأحزمة أو الكتل الأرضية بدلاً من اتجاهها من الشمال للجنوب (مثل الأمريكتين) كما هو حادث الآن. متجهة من الشرق إلى الغرب. وكانت عبارة عن كتلتين أو حزامين كما يطلق عليهما إحداهما شمالاً والآخر جنوبا يفصل سطحيهما مساحة مائية عظيمة. ولما كانت الأرض لازالت آخذة في البرودة بالتدريج فان الكتلة الجنوبية قد بدأت في الانكماش وكادت تختفي، وأخذت الأرض تسير نحو تكوين شكل هرمي واحد هو تكملةللكتلة الأرضية الشمالية (شكل 2 جـ)
هذا هو شرح صاحب النظرية لفكرته وهو شرح واضح وافٍ نعرف منه أن الأرض التي نعيش عليها سائرة في طريقها إلى تكوين شكل هرمي. وقد يعترض معترض فيقول لم لا تأخذ الأرض أي شكل آخر غير هذا الشكل الهرمي؟ ولم كان هذا الهرم مقلوب الوضع، أي أن قاعدته من أعلى. وردي على ذلك بسيط للغاية. لأن الحقائق الجغرافية والخرائط التي أمامنا يظهر عليها أن اليابس يتركز في الجزء الأعلى، وأنه من الممكن جداً أن ندخل شكل اليابس داخل أضلاع المثلث. وهذه الظا هرة إن دلت على شيئ فلا أقل من أن الجزء الأعلى يكون القاعدة. ثم إن هناك نقطة أخرى وهي أننا نلاحظ جميعاً أن القارات الجنوبية ينتهي أغلبها بأشكال مدببة، فأمريكا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا بمجموعة جزائرها تكون أشكالاً تنتهي بمدببات، ومن جهة أخرى فأن الشكل الهرمي كما سبق ذكره يمكن القشرة الأرضية من التشكل تبعاً لنقص حجم باطن الأرض بالبرودة دون أي مساس بحجمها هي. وفي قوله هذا شرح أو رد للاعتراض الثاني أي أن شكل الأرض الآن على ماهي مرسومة عليه في الخرائط يبين أن القاعدة من أعلى لا من أسفل.
وفى هذه النظرية يقول البروفسور و. هـ. هوبز ما معناه (إن الكرة الأرضية لا يمكن أن تعتبر بأي حال من الأحوال كرة تامة التكوير إذ لابد من أن تعاقب العصور الجيولوجية المختلفة قد أثر في شكلها التأثير البين وحور فيه. وهي تقترب في الوقت الحالي نحو الشكل الهرمي. ويجب ألا ننسى أن الزوايا الحادة قد استدارت، وأن الشكل الهرم قاعدته من أعلى، يبرهن لنا على صحة ذلك رحلتا نانس أولا، وبيري ثانيا، إلى القطب الشمالي إذ أثبتت وجود كتلة أرضية في الشمال يزيد ارتفاعها على 10 آلاف قدم عن سطح البحر
يمكن اعتبارها أكبر مساحة أرضية على سطح الأرض إذا ما ضمت إليها مساحة ثلاجاتها وجزرها.)
هذه هي النظرية أقدمها لحضرات علماء الجغرافيا في مصر راجياً الإدلاء برأيهم فيها. على أنه يجدر بي أن أذكر أن هذا التغير والتطور في شكل الأرض هو تغير تدريجي، بطيء يحتاج لآلاف السنين، وأنه لذلك يمكن اعتبار الأرض التي نعيش عليها كروية أو قريبة للكروية ولو أنها في الحقيقة سائرة في طريقها إلى تغيير شكلها الذي نعرفه.
القصص
الدون جوان
لموليير العظيم
ترجمة حامد اسعد محمد
الفصل الرابع. المنظر الثاني
(الدون جوان أحد فقراء الأشراف الفرنسيين. يغلق بابه دائما في وجه الدائنين. يحضر المسيو ديمانش بائع الملابس والخائط وهو أحد دائني الدون فيطلب مقابلته)
الخادم زجانارل: سيدي. قد حضر المسيو ديمانش وهو يريد التحدث إليك.
الدون جوان: دعه يدخل. إن التهرب من مقابلة الدائنين لا يجدي نفعاً. سأعمل جهدي لاستقباله استقبالاً حسناً دون أن أدع له فرصة الطالبة بدينه
(يدخل المسيو ديمانش)
الدون جوان: أهلاً وسهلاً بالمسيو ديمانش. كم أنا مسرور برؤيتك. وكم أنا آسف لأن الخدم تركوك تنتظر في الخارج أكثر مما ينبغي. ولكن معذرة، إذ أنني أمرتهم بعدم دخول أحد، ولكن هذا لأمر طبعاً لا يسرى عليك فان لك الحق أن تحضر دائماً دون أن يمنعك أحد.
المسيو ديمانش: سيدي. أنا عاجز عن شكرك. لقد حضرت لـ. . . .
(يقطع الدون جوان عليه حديثه فينادي خادمه)
(الدون جوان: اسرع باحضار كرسي (فوتيل) للمسيو ديمانش.
المسيو ديمانش. سيدي. لا داعي (للفوتيل). إنني مستريح
الدون جوان: لا. أبداً. يجب أن تجلس بجانبي.
المسيو ديمانش: لا ضرورة لذلك. لقد أتيت فقط لـ. . . . .
(يمنعه الدون جوان إبداء الغرض من زيارته له فيقول للخادم)
الدون جوان: خذ هذا الكرسي الصغير وأسرع بإحضار (فوتيل)
المسيو ديمانش: سيدي أنت تهزأ بي. لقد جئت لـ. . . .
الدون جوان: لا. لا أقصد السخر منك. إنني أود أن أستقبلك كما يليق بك. وأود ألا أجعل
هناك فرقاً بيني وبينك.!
المسيو ديماننش: سيدي. . . .
الدون جوان: تفضل بالجلوس.
المسيو ديمانش: لا ضرورة للجلوس يا سيدي. أريد أن أقول لك كلمة فقط. لقد حضرت لـ. . . .
الدون جوان: تفضل بالجلوس.
المسيو ديمانش: لا ضرورة لذلك يا سيدي. إني مستريح كذلك. لقد حضرت لـ. . . .
الدون جوان: لا. لا. لن أستمع إليك حتى تجلس.
المسيو ديمانش: سيدي. سأفعل ما تريد. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: ما شاء الله يا مسيو ديمانش. إن صحتك جيدة جداً!!
المسيو ديمانش: نعم يا سيدي. أنا في خدمتك. لقد حضرت لـ. . . . . .
الدون جوان: إنك في صحة حسنة حقاً. وجهك متورد. وعيناك يلمع فيهما بريق القوة.
المسيو ديمانش: أنا شاكر لعطفك يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .!
الدون جوان: كيف حال مدام ديمانش زوجك؟
المسيو ديمانش. نحمد الله، إنها في صحة جيدة يا سيدي.
الدون جوان: إنها امرأة طيبة القلب حقاً.
المسيو ديمانش. إنها خادمتك يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان. وكيف حال ابنتك كلودان؟
المسيو ديمانش: إنها على احسن حال يا سيدي.
الدون جوان: كم هي جميلة وذكية. إني أحبها من كل قلبي
المسيو ديمانش: انه لشرف عظيم لها يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: وطفلك كولان. ألا يزال يكثر من ضوضائه؟
المسيو ديمانش: نعم يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: (ضاحكا) وكلبك (برسكيه) لا يزال يعض كل من يزورك؟!
المسيو ديمانش: اكثر من قبل يا سيدي. ولكني جئت لـ. . . . .
الدون جوان: لا تعجب من كثرة اسئلتي عن أسرتك فإنني أحبها كثيرا وأود سماع كل ما يتعلق بها.
المسيو ديمانش. إننا عاجزون عن شكرك يا سيدي. لقد. .
الدون جوان: (يقف ويمد يده لمسيو ديمانش مشيراً بذلك إلى أن المقابلة انتهت)
ضع يدك في يدى كصديق
المسيو ديمانش. إني خادمك يا سيدي
الدون جوان: يا إلهي! كم أنت رقيق وظريف. إني أحبك كثيراً
المسيو ديمانش: انه لشرف عظيم يا سيدي. لقد حضرت لـ. . .
الدون جوان: إني على أتم استعداد لعمل كل ما تريد.
المسيو ديمانش: سيدي. لقد أحسنت إلي كثيراً.
الدون جوان. وكل هذا بدون مقابل
المسيو ديمانش: إني لا أستحق كل هذا العطف. ولكنني حضرت لـ. . . . .
الدون جوان: العفو يا مسيو ديمانش. هلا شرفتني بتناول العشاء معي هذه الليلة؟
المسيو ديمانش: شكراً لك يا سيدي. يجب أن أرجع إلى منزلي في الحال. لقد جئت لـ. . . . .
الدون جوان: (يقف ويمد يده للمسيو ديمانش إشارة إلى أن الأخير يجب عليه أن يستأذن في الانصراف)
أسرع يا زجانارل وأحضر المشاعل لتوصيل المسيو ديمانش. وخمسة من خدمي بأسلحتهم لحراسته أثناء رجوعه إلى منزله
المسو ديمانش: (يقف أيضا مضطراً) سيدي. لا ضرورة لكل ذلك. يمكنني الرجوع وحدي، ولكنني جئت لـ. . . .
(يأتي الخادم في الحال ويأخذ الكرسي الذي كان يجلس عليه المسيو ديمانش)
الدون جوان: كيف لا يا سيدي وأنا خادمك أو بالأحرى مدينك؟
المسيو ديمانش: (تنبسط أسارير وجهه ويقول) آه. سيدي
الدون جوان: انه فضل لا يمكن أن أخفيه. وإني لأعترف به أمام جميع الناس.
المسيو ديمانش: شكراً. إذاً لقد حضرت لـ. . . . .
الدون جوان: ألا تتنازل بالسماح لي بأن أوصلك؟
المسيو ديمانش: سيدي. انك تهزأ بي. سيدي لقد. . . .
الدون جوان: ضع ذراعك في ذراعي إذا تفضلت. أود أن تكون على ثقة من أنني خادمك. وإني على استعداد لأبذل لك كل غال ونفيس
(يخرج المسيو ديمانش ويوصله الخدم إلى بيته)
حامد أسعد محمد عاشور
قصة في رسائل
سعادة لم تتم
بقلم عبد الوهاب الخطيب
صديقي:
تسألني ما بالك كثير الإطراق، دائم التفكير، حائر البصر، مشرد اللب، بادية عليك علائم السقم؛ كأنك تعالج كتمان أمر في نفسك شديد على لسانك إعلانه. أو تشكو داء لا قبل لمثلك باحتماله. وتعلم يا صديق أنني كنت قبل ذلك كنت مرحاً غاية المرح، طروباً نهاية الطرب؛ وأنني كنت في مرحي وطربي لا أخرج عن كوني شاباً سعد حقبة من الزمان بالأمل الباسم وعين الزمان نائمة - والأمل جذوة الشباب وشعلته، وروحه وقوته، ومرحه وطربه، ولهوه ولعبه - فكنت بما بين ضلوعي من أمل أجري مع الشباب إلى تلك الغاية التي رسمتها لنفسي، مستسهلاً في سبيلها وراء الأمل كل صعوبة أمام الشباب، حتى إذا كنت من آخر المضمار قاب قوسين أو أدنى، فتح الدهر عينيه، ثم تثاءب وتمطى، ثم التفت إلي ونظر نظرة أنت تعلم ماذا كان وراءها!
يا ويحي!! لقد تأنق في مكروهي القدر، أخ في الورد من أيامه بالورد عثر، وعم ظلله المشيب ففر منه ونفر، وأمل علىآثارهما تحطم واندثر. ثلاثة أشباح كانت صروح سعادة ومنتديات أحلام، لم يفارق العين خيالها، ولم يهدأ القلب من طعناتها، ولم أفتأ اذكرها من حين إلى حين.
قلت قضاء حُمَّ، وأمر من الله نفذ، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، واستعنت الله على هذه النوازل فأعانني، واستهديته فهداني. وإن كانت في القلب جمرات من الأسى، مغطاة برماد من الصبر خفيف ضئيل. ولبثت على ذلك برهة كانت أقصر من عمر آمالي وسنات أحلامي، لم أشعر فيها بشيء من معاني الحياة، الهم إلا بذكرى في قلبي تتمثل، وخيال أمام عيني يتنقل. وكنت مع ذلك أرى كما يرى الناس، وأسمع كما يسمعون، أسير كما يسيرون. غير أني كنت انظر بعينين فيهما انكسار من بقايا آثار المدامع، وأسمم بأذنين فيهما رنين من صدى تلك الفجائع، وأمشي على قدمين يؤودهما حمل هذا الهيكل السقيم الناحل المتهدم، مشى من حنت ظهره السنون، وأثقلت كواهله الليالي والأيام!!
ثم رأيتها لأول مرة، وقد ألقى عليها بارىء النسم ثوبين ضافيين من جمال وجلال، فأحسست نحوها بحنان كأنه رقة العشق، سرى في دمي سريان الكهرباء في أسلاكها، ومكثت طول يومي أفكر فيما سيصير إليه أمري بعد تلك النظرة التي كانت توفيق أقدار لأقدار.
يا لله يا صديقي! لشد ما ملكتإحساسي وشعوري في المرة الثانية، والقلب الهواء تجد فيه كل غيداء فراغاً لها. وكان قلبي لا يزال واقفاً على أطلال الأمل، يندب شجوه ويبث لوعته. فنظر إليها نظرة كنظرة إبراهيم في النجوم وقال إني سقيم. وكأنما، أرادت أن تداويه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، فرنت إليه بنظرة جمعت شعبه ولمت شتاته، وأطفأت لهبه وأحيت مواته، فالتفت في مثل انكسار جفونها، ورفعالراية بالإذعان في شكر، والتسليم في طاعة. ثم كان بعد ذلك ما كان.
أخذ فكرى يسبح رويدا رويداً في ملكوت لا نهاية له من الخيال وراء هذه الظاهرة الغريبة التي ملكتني، وأصبحت أشعر بحياة جديدة فيها معنى حائر بين سعادة لا نهاية لها، ذلك أني احتويتها في جوانح القلب، واتخذت من عبقري جمالها ريشة لعبقري خيالي، فكان لا يرتسم في ذهني معنى إلا وفيه من حسنها مثال، ولا يقع نظري على شيءإلا وفيه منها رونق بهجة أو شعاع جمال، تلك سعادة علوية ساحرة قاهرة، تغطي على كل سعادة في الأرض لتظهر هي في صورتها البديعة اللطيفة فتنة لمن يراها أو يحس بها من الناس أجمعين.
لا أستطيع يا صديقي أن أصفها لك، فهي روح، والروح لا توصف، وهي حياة، والحياة لا يمكن إنسانا في الوجود تكييفها، وهي مع هذا وذاك سر لا يدركه غيري، ولا يحسه أحد سواي، وكل ما أستطيع أن أقوله لك إنها مشرقة الطلعة، معتدلة القامة. مطمئنة السير، فيها لمحات محدودة من الإنسانية العالية السامية. هبطت بها إلى هذا الملأ الذي نعيش فيه كدليل حسي على أسمى مراتب الجمال وأتم مظاهر الجلال.
لقد مضت علي يا صديقي مدة تزيد على ثمانية عشر شهراً،
لم أحاول فيها أن أطرق سمعها - على قربها مني - بكلمة واحدة تفهم منها ما يكنه قلبي من الحب لها والوجد بها، وكم تمنيت أن أسمع من فمها الرقيق الساهم الحالم كلمة واحدة،
فلم أجد إليها من سبيل، كما أني لم أملأ منها عيني حياء وخجلا، واكتفاء بصورتها المرسومة في حبة القلب وفوق صفحات الخيال، على أن طريقي كانت تتحول تبعاً لها على غير قصد مني، حتى إذا لم يكن من توديعها بالنظرة بد، وضعت يدي على صدري كمن يتلمس شيئا فقده، وما فقدت إلا قلباً تقطر كالدمعة الحمراء من بين أهداب الجفون.
لا يزال صولجان المقادير يقذف بقلبي في واد من الذكريات القديمة ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، كلما طال علي الأمد في لقائها، والآن يا صديقي وقد مضت علي مدة تزيد على شهرين لم المحها فيها لمحة واحدة، أقول لك إن هذا هو سر إطراقي وتفكيري، فلا تسألن عن شيء بعدها حتى أحدث لك منه ذكرا.
21 -
7 - 1932 صديقكجمال
صديقي:
أوقد فعلتها؟ يا قلبي!! ما كان أحرصني على الاحتفاظ بالسر وكتمانه، لولا أنني أعتقد أن لي من قلبك وإخلاصك ووفائك ما يجعلني أستريح إلى أن أبوح لك (في شيء من التحفظ كثير وبعد مضي زمن على كتمان هذا السر طويل) بما كنت أقاسيه أناء الليل وأطراف النهار من لواعج قلبي، وزفرات أنفاسي ودموع عيوني، ولكن غفر الله لي ولك يا صديقي ما تقدم من ذنبنك وما تأخر، فان هذه القلوب الطاهرة البريئة، المكتهله في شبابها، الرزينة في حبها، لا يمكن أن تتصل في يوم من الأيام بغير ما يماثلها شرفا وطهرا، ورزانة ونبلا.
ولئن وقع خطابي في يد غير يدها، ورأته عين غير عينها، وطرقت نبراته الحزينة سمعاً غير سمعها لخطأ في الاسم كما يقال، فانني لسعيد مغتبط، هنئ ملئ قرارة نفسي وطوايا فؤادي، ذلك أن خطابي وقع في يد شريفة وعند قلب ذي إحساس سام، يعرف المعنى المرتسم فيه كما أريد، وأغلب الظن أن الله قد يهئ لي من أمري هذا رشداً. ولعله يكون قريباً والسلام.
14 -
9 - 1932صديقك جمال
عزيزتي:
عبثا كنت أخادع قلبي بالسلو عنها أو الإفلات من براثن حبها بعد أن جاءني خطابك
الأخير، فإنها لم تدخل قلبي إلا بعد أن صهرته آلام الحياة وأحزانها، وأصبح نقيا شديد الإيمان بقضاء الله وقدره، صادق الإحساس بما يجري حوله في الحياة من مظاهر خادعة وأخرى مخدوعة، مطمئنا إلى الحياة من حيث هي وجود ناقص أحياناً وتام أحيانا، عالماً أن لكل شيء نهاية لابد وأن ينتهي إليها
ولقد أيقنت من يوم أن أحسستها تجري في دمي أن الله قدر لي أن أحبها، فأحببتها لنفسي، وأحببتها لأن الله أراد ذلك، وكان قلبي صادق الحس بها، فلم تكن خادعة ولم يكن مخدوعاً، وكان وقوراً حكيما فاكتفى بأن يحبها هو من غير أن يتساءل ما هي ميولها نحوه؟ وهل تعلم أن في العالم المحيط بها قلبا يرفرف عليها في غدوها ورواحها، في مسائها وصباحها، في يقظتها ومنامها، في دمعتها وابتسامتها؟ ومن هو صاحب هذا القلب؟ وبعد ذلك اطمأننت إلى أن الحياة من حيث هي وجود ناقص، هي تلك الساعات التي لا تجرى فيها المدامع من شوق، ولا تسيل فيها النفوس من ذكريات وحنين، وأيقنت بعد هذا وذاك أن الحب كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، ولا يقال في نقطة منها إنها نهاية إلا قيل في نفس الوقت إنها بداية
لقد ذهبت بك الظنون كل مذهب في أمري، بل أيقنت أنك قد أصبت المرمى حين أرسلت إلى خطابك المفوق، وإني أقول لك بلغة يقطر منها الشكر إن خطابك كان فيه الشفاء لقلبي من الناحية التي تريدينها، وإني ما سكت هذه المدة إلا لأختبر قلبي واستشير عقلي، أما القلب فلم يجد عنها حولا، وأما العقل فأشار بأخذ رأيك فيها من جهة ميولها نحوي، فان كنت عندها شيئاً فابسمي يا دنيا، وأشرق يا أمل
كنت في بعض الأيام اراها، فيحترق قلبي من الشوق إليها وهي أمامي، ولا يكاد نظري يلتقي بنظرها حتى ينقلب إلى خاسئاً
وهو حسير، وكنت أستجمع قواي كلما رأيتها لألقى إليها بالتحية في فيحتبس لساني من العي - لا طبيعة فيه ولكن جلالا لا أدرى له مدى، وجمالاً لا أعلم له غاية، وسحراً بين هذا وذاك قوياً شديداً، كانت ثلاثتها تقيد لساني عن النطق تقييداً أعتبر نفسي منه في حد من السعادة محدود - ولقد كان الجو المحيط بنا يمرح في عبق من أنفاسها وتحايا قلبي، غير أنها كانت كالزهرة تفوح رائحتها عند الصباح، وكان قلبي كعود الصندل، كلما لا
مستهالنار فاح.
مرت تلك الأيام كالأحلام الكبرى لذيذة مستعذبة، قصيرة كالنظرة، طويلة كالعبرة، وخلفتها أيام أعاني من مرها ما أعاني! فلقد سافرت إلى البلدة لقضاء بضعة أيام هناك، وكأنما كانت الأسقام مني على ميعاد:
يا ويح أهلي يروني بين أعينهم
…
على الفراش ولا يدرون ما دائي
ومكثت هناك بدل سبعة الأيام التي صرح لي بها سبعة عشر يوماً. ثم عدت إلى القاهرة وفارقت الحي الذي ولد فيه هواي وترعرع، إلى حيث أنا الآن، وهأنذا ابعث إليكما منه وراء قلبي بتحيات كأضغاث الريحان لا تكاد تبلل بندى المدامع حتى تجفف، بزفرات الأنفاس، والسلام.
فبراير سنة 33 جمال
صديقي:
كتب أحد الحكماء إلى صديق له يقول (يا أخي إن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر) وكنت قرأت فيما قرأت كلمة للامرتين يقول فيها (إن الحب القوي المطمئن صبور) فأنا بين هذين في حيرة، ترى متى أهتدي إلى سبيل؟.
مارس سنة34
جمال
أختي سعاد:
لماذا لا تكونين بجانبي في كل لحظة كما كنت من عهد قريب؟ أنا في شدة الشوق إليك وإلى سماع حديثك العذب الجميل، وكم أود أن أفضي إليك بسر يجيش به صدري ولا يمكن أن ينطلق به لساني لغيرك. كنت إلى الأسبوع الماضي فارغة الفؤاد، وكنت على أن أطلب إليك الحضور لأناقشك موضوعاً خطيراً قرأته ليلة أمس في رواية (مجنون ليلى) وهو لماذا حكم على ليلى بالموت قبل قيس؟ ألأنها كتمت حبها؟ إن كان الأمر كذلك فأني - خوفاً على حياتي الشابة - أقول لك يا عزيزتي - واثقة منك كل الوثوق - إنني بدأت أشعر بقلبي يميل رويداً رويداً إلى شاب كان يطالعني بعض الأحيان كئيباً حزيناً كأنه دفن
قلبه بيده، رأيته على حالته تلك منذ ثلاثة أعوام، ويخيل لي أنه محب يكتم حبه أيضاً.
ألا ما أسعد تلك الفتاة التي تتيح لها المقادير مثقال حبة من احترام هذا الفتى النبيل!!
ضعي يا عزيزتي بجانب هذه الجملة سعادة من استولت، على قلبه كله.
أرجو أن أراك يوم الخميس المقبل وإلى اللقاء.
2 أبريل سنة 34 أختك فتحية
وفى عصر الخميس تلاقت الصديقتان في منزل فتحية هانم، وكان بيد الآنسة الزائرة إحدى جرائد المساء، فجذب نظر فتحية إليها صورة شاب غضير الشباب في صدرها فتناولت الجريدة من صديقتها ورأت الصورة ورأت تحتها ما يأتي:
(المرحوم جمال الدين أفندي الموظف بوزارة المالية، علقته المنون وهو في بريق شبابه)
فامتقع لونها وأدركتها حال شديدة من الذهول والحيرة، فأقبلت عليها صديقتها تسألها ما بها، فقالت لها وهي تشير إلى الصورة الضاحكة، والخبر المبكي:
أمل لم يزدهر، وناشئة حب لم تبق، وسعادة مرجوة لم تتم!
ثم ألقت في يدها مجموعه من الرسائل البالية، وقالت والدمع
يسيل على خديها، ومرارة الأسى تجري على شفتيها: إقرئيعبد
الوهاب الخطيب