الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 530
- بتاريخ: 30 - 08 - 1943
عندما رأيت الله جهرة
للأستاذ دريني خشبة
تحدث إلى أحد أصدقائي قال:
كانت أربعون ليلة من ليالي سيناء فد مرت على قلبي المضطرب الممزق وأنا لا أنفك أحملق في ذلك الشبح المفزع. . . شبح ملك الموت عليه السلام! إذ هو يلم بالحجرة الرهيبة التي كنت أحبس فيها نفسي لأمرض أعز المخلوقات علي وأحب الناس إلى قلبي؛ وذلك أن الطبيب المعالج لم يأمن أحداً غيري على رعاية أوامره وتنفيذ إرشاداته، فانفردت بالمهمة دون إخوتي، واضطلعت بها وحدي، وإن كانت إحدى أخواتي تريحني ساعة من نهار فكنت أقضيها نائماً ذلك النوم المشرد الممتلئ بالأحلام
وكنت دائم الصلاة لله أن ينقذ والدتي، وكنت أدهش أحياناً كيف لا يجيب دعائي. . . وكنت أعتب عليه، استغفره وأتوب إليه، كيف يقضي على هذا اللسان الذي طالما لهج بذكره، وقدس له، وحمده وأثنى عليه، بهذا الصمت الطويل المؤلم الذي كان يحاول أن يتشقق عنه كي يكلمنا، فما يستطيع غير الإيماءة النحيلة يوزعها علينا في جهد وفي عناء. . . الإيماءة التي تسبح في فيض من الدمع، وهي مع ذاك تبتسم لتخفف ما يعصف بأفئدتنا من وجد، وتهون علينا ما يذيبنا من تبريح
أجل. لا أخفي عليك يا صديقي أنني كنت أشتد في مناشدة الله الذي أستغفره وأتوب إليه؛ كيف يرضى بأن ينعقد هذا اللسان الذي طالما ترطب بذكره والتسبيح له، والذي قضى خمسين عاماً يؤدي الصلوات الخمس كأحسن ما يؤديها نبي، وكأحسن ما يقوم بها صديق؛ وهو مع ذاك يؤدي النوافل على اختلاف أنواعها، ويردد الأدعية والأوراد، ويتهجد ويعتكف ويصوم رمضان وغير رمضان، ويعف فلا ينطق بهجر، ويتورع فلا يتحرك بأذى، ويدعو لنا ولجميع الناس بالخير، ويرتل آي الذكر الحكيم أناء الليل وأطراف النهار. . . فكيف يصمت هذا اللسان الرحيم الكريم، وكيف يغلبه ذاك الشلل الخبيث فينوء بالكلمة الواحدة ويعجز عن لا ونعم، ومن حوله أحباؤه الأعزاء عليه يكلمونه فلا يكلمهم، ويحاول أن يودعهم بكلمة واحدة فلا يستطيع إلى تلك الكلمة الواحدة من سبيل، وأنا مع ذاك أدعو الله وأتوسل إليه بماضي هذا اللسان أن يفك عقاله، وأن يحسن حاله، ثم يخشاني منه ما
يشبه الليل البهيم، والأشجان فتشيع ببرودة القبور في عروقي!
عجيب والله هذا الموقف من الأبالسة التي وقفت تترصد فؤادي، وتغري بالموبقات روحي، وتداعب إيماني فتهزه ذلك الهز العنيف القاسي!
ألم تعد في السموات رحمة؟ أهكذا تكون خاتمة ذاك اللسان الرطب الكريم؟ وأين إذن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وماذا وراء هذا الوجود الذي يكظ ويزحم السموات، ويملأ الدنيا والآخرة بما نعجز عن تعليله فنهم عقولنا بالقصور، ونعترف ضعفاء مخذولين بوهن أفهامنا عن إدراكه والنفاذ إلى كنهه؟!
وهكذا كانت الأبالسة ترقص في رأسي المحزون، وتوسوس في قلبي المضطرب، وتهتف في أذني الحائرين. . . وكنت أحاول أن أصرفها عني فلا أستطيع، بل كنت أتهم نفسي وأنا أحاول ذلك بالنفاق، وأرميها بالرياء الديني المصطنع، وكان غروري يأبى لي أن أكون منافقاً أو مرائياً
وسمعت أعز الأمهات تعالج في صدرها شهقات وزفرات، فأسرعت إلى سريرها وبي أنها سكرة الموت، فأسندت الرأس الكريم إلى صدري، وتناولت كوباً من الماء به قطرات من الدواء فوضعتها قريباً من شفتيها. . . ولكنها لم تحس من الماء حسوة! بل نظرت إلي بعينين تترقرق فيهما دموع الحنان، فرحت أكلمها على عادتي كلاما كله ضحك يخنقه البكاء، وكله فكاهة تلبس أردية الحزن القاتمة!
لشد ما تخنقني عبراتي وأنا أحدثك بهذا أيها الصديق!
لقد حدث هذا منذ عشر سنوات، فلم أخط فيه حرفاً، ولم أحرك به لساني لمخلوق. . . ولولا أنك جادلتني في الله لآثرت أن أطوي عليه قلبي إلى الأبد. . .
لقد كانت الأبالسة تأخذ على مشاعري في تلك اللحظة، وكانت تجمع أدلتها ضد السماء في ثورة جارفة. . . وكان فؤادي يتمزق كلما ذكرت أن أعز الأمهات ستقضي دون أن تودعني بكلمة
بيد أنني سمعت كلاماً عنيفاً يتردد في صدرها، فلما أدنيت أذني من فمها، إذا هي تردد هذه الكلمة العظيمة الخالدة:
(الله! الله! الله!)
فلما استيقنتها أخذ العرق يتصبب من جسمي كله، وعرتني رجفة قوية لم أبلها من قبل. . . ثم ذكرت أبالستي. ولما أدرت وجهي من حولي، رأيتهم. . . رأيتهم رأي العين. . . كاسفي البال، شاحبي الوجوه، وقد أخذوا ينفذون من جدران الحجرة الصماء، وكان الضعفاء منهم يثبون من النوافذ المفتحة. . . حتى لم يبقى معنا منهم أحد قط!
لقد كانت هذه لحظة من لحظات الإيمان التي انتشلت روحي من ظلمات الأبالسة. . .
لقد كانت من أسعد اللحظات في حياتي!
لقد كانت بارقة الأمل التي بدت لي في تلك الصحراء المهلكة من الشك الذي ران على قلبي وتغلغل في أعماقي!
وقد زادها روعة وجمالاً وعظمة ذلك الصوت الناعم الباغم المصقول الذي أرسله المؤذن يشق هدأة الفجر:
سبحان الكريم الحليم الفتاح. . .
سبحان من شق الفجر فلاح. . .
لقد أفاقت أعز الأمهات من سكرة الموت عندما طرق سمعها ذلك النداء الحبيب الذي لبته هذه السنين الطوال، فكانت تتجافى عن المضجع الدافئ في الشتاء. . . شتاء شمال الدلتا القارس. . . كما كانت تتجافى عنه في الصيف، لتجيب دعوة ربها الكريم الفتاح، فتتوضأ بالماء الذي يشبه الثلج، ثم تلتفع بتلك (الغطفة) البيضاء الناصعة التي تجعلها في هيئة الملائكة، ثم تكبر، ثم تأخذ في صلاتها الهادئة الساكنة المطمئنة؛ حتى إذا سلمت أخذت تدعو ربها لنا جميعاً بالخير، ولزوجها الراحل بالرحمة!
يا ويح لي يا صديقي! لقد كنت أنام معها في ذلك المصلى نفسه في سرير مقابل سنين عدداً. . . وكنت أستيقظ على صلاتها ودعائها. . . وكان ابتهالها يصك أذني صكا. . . لكني كنت مع ذلك لا أتحلحل من مضجعي، ولا أتأثر قط بتلك الصلوات وهذه الدعوات. . . بل طالما كنت أستهزئ بهذا السلطان الديني العجيب الذي يقتلع تلك العجوز من مضجعها في مثل ذاك البرد، لتتوضأ ولتصلي وتناجي ربها. . .
ما كان أبدع صوت المؤذن وما كان أرقه!
لقد كان صوته العذب يجلو الصدأ عن روحي الآثمة. . . تالله لقد كان صوت (الشيخ
البكري) رحمه الله، هو صوت الله، أليست أرواحنا من روحه تبارك وتعالى!
ورفت ابتسامة حزينة على الثغر المحتضر!
ثم استطالت تلك الابتسامة، وأروتها دموع الموت التي كانت تؤجج في أضالعي جمرات الحزن. . . وكنت في أثناء ذلك أتكلم بكلام لا أذكره. وربما كنت أهذي
ثم أسندت رأسها على الحشية، واستأذنتها في أن أدعو إخوتي، فأشارت برأسها أن لا! ففهمت أنها لا ترى إزعاجهم بما يعتريها الآن من حشرجة. . . ومن يدري. . . فربما آثرت أن تصعد روحها في غير ضجة. . . ومن يدري؟ فربما آثرت أن تنتشلني بهذه الخلوة المقدسة والسكينة السابغة مما كانت تعلم أنني أتردى فيه من ضلال وزلل، وفساد في معتقدي وخطل!
أليست كانت تلح على أن أهتدي فكنت أسخر منها
ألم أحل بينها وبين الحج إلى بيت الله بحجة أنني أحق بنفقة هذا الحج، وهو كان أملها ومتمناها؟!
ألم تكن قد فرغت من شئون الحياة كلها إلا من شأني؟
. . . وكان جحودي يتعاظمها ويشق عليها، فكانت تلجأ إلى فطرتها السليمة البسيطة التي لم تتلفها الفلسفات في الرد علي، فتربكني بهذا السؤال البسيط الذي تتخبط الفلسفات كلها في الإجابة عنه: ومن أوجدك وأوجد هذا العالم؟ ومن يسهر عليك وعليه؟ ألم تفكر قط في نفسك؟ ما هذه الجارحة الصغيرة - وتشير إلى موضع قلبي - التي تخفق بالحب وتجيش بالأمل وتفيض بالخير، والتي تربط الأسر وتخفر الذمم وتسمو بالإنسانية وتبني الملاجئ وتنشئ المستشفيات وتطعم الجائع وتنجد المضطر وتغيث الملهوف وتحرك الأيدي بالعطاء وتذيب الدموع في المحاجر، وتبسم فتبسم الحياة، وتعبس فتعبس الدنيا، وتبصر فيبصر السلام، وتعمى فيعمى العالم وتعمه نيران الحروب؟
أليس بحسبك يا بني أن تكون تلك الجارحة برهاناً على وجود هذا الإله القادر الذي تنكره وتماري فيه؟
ثم أنا. . . ثم أبوك يرحمه الله. . . ألم تفكر في صيرورتنا بعد الموت قط؟ ألا يعز عليك أن نموت فنصير إلى عدم فلا نلتقي أبداً؟! أليس أخلق أن تؤمن بما تقوله لنا السماء؟ أليس
أن نلتقي هناك. . . هناك. . . في تلك الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين؟ أليس أحجى أن نلتقي ثمة بين يدي اللطيف الحميد. . . الجنة التي لا موت فيها لهذا الموت، ولا فقر ولا مرض ولا جوع ولا شره ولا بوائق؟. . . الجنة الوارفة الظلال التي تلتقي فيها الأرواح السعيدة بعد هذا السفر الممل والغياب الطويل والنوم الهامد الخامد. . . الجنة الجميلة الخالدة التي لا تذبل فيها زهرة، ولا يظمأ فيها عصفور، ولا يحسد فيها فقير، ولا يعيش فيها بائس، ولا يشقى في رحابها يتيم، ولا يكنز المال فيها قارون، ولا يطالب فيها شيلوك برطل من لحم المدين، ولا يقتل فيها عباد الأصنام أنبياءهم الصالحين!
إن الله يا بني هو المثل الأعلى فلا يصوره لك ضلالك هولة أو غولاً أو وحشاً أو سعلاة. . . إن الذين يخافون الرحمن كما تخاف الجن والسعالي، ويخشونه كما يخشى القتلة والسفاكون، هم غير جديرين بعبادته، غير خليقين أن يعرفوه، غير أحرياء أن يهتدوا بنوره
إن الخوف من الجن والسعالي لا يعلم فضيلة، ولا يحض على خير، أما الخوف من الله فيرفع الإنسانية إلى مثله الأعلى. . . إلى الكمال الذي لا يعرف الغرائز الدنيا
احذر يا بني أن تحسب عقلك أوسع من الدنيا أو أكبر من الله! إن الجديد الذي يكتشفه بنو الدنيا من أسرارها كل يوم حريٌ أن يقتلع من نفسك الغرور، ومن روحك الكفر، ومن قلبك الضلالة
آمن بالله يا بني ولا تكن لي خزياً بين يديه يوم القيامة!
هكذا كانت تجادلني أعز الأمهات يا صديقي، وهكذا كانت تنصح لي. . . فلما رأيت الأبالسة تولي وتغور في الجدران والنوافذ، ولما رأيت الحجرة المباركة تخلو إلا مني ومن الأم المحتضرة، خيل لي أن كل نصائحها تتردد في مسمعي، وخيل لي أنني أراها ألف ألف مرة وهي قائمة تصلي في هدأة الفجر، وعليها (غطفتها) الناصعة، وخيل لي أنني أسمعها وهي تدعو الله لي ولأخوتي، ولزوجها الراحل
ثم سكت المؤذن الجليل لحظة، ثم نادى:
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فوالله يا أخي لقد سمعت قلبي الذي أخذته رجفة هائلة يردد ما أذن به الشيخ بكري عليه رحمة الله
والله يا أخي لقد تلفت حولي فتخيلت الملاك الكريم في أجمل صورة يستطيع أن يتخيلها فنان وهو باسط يديه، وقد رفت على فمه ابتسامة الإيمان التي سلحه بها ربه. . . الملاك الكريم النوراني الذي كنت أحسبه تنيناً هائلاً مفزعاً. . .
وانحنيت أقبل الجبين الذي ظل يقبل الأرض بين يدي الله خمسين عاماً، ولما رفعت رأسي، إذا نور له بهر شديد يملأ الحجرة المقدسة، وإذا يد كريمة تلمس صفحة فؤادي. . . وإذا المؤذن الجليل يملأ الدنيا بهذا النداء الرائع، يختم به أذانه
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فهلا آمنت؟! قلت: آمنت بنور السموات والأرض.
دريني خشبة
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بين القاهرة وبغداد - في رياض الزمالك - سهرة روحية - لمحة وجدانية - طبائع الأرض المصرية والعراقية - بين سنترتس ولبنان - أشجاع وأغاريد - منظر طريف - ماذا دها القمر - فائدة لغوية وتاريخية - مروءة مصرية
بين القاهرة وبغداد
سنحت فرصة ثمينة، وما كنت أنتظر أن تسنح، فقد ألفنا بخل الأيام وشح الليالي، ورضنا النفس على اليأس من كرم الزمان
وتلك الفرصة هي لقاء الأستاذ طه الراوي في القاهرة بعد فراق طال ثم طال، وبعد شوق لا يصوره القلم ولو جال وصال
قال الأستاذ الراوي عند التلاقي: ماذا أصنع معك؟ وكيف أجازيك؟ أنت تعلن شوقك إلى إخوانك في مجلة الرسالة فيصل صوتك إلى الشرق والغرب، وأنا أضمر شوقي فلا يصل إليك منه قبس، ولو أني عبرت عما في نفسي لقلت إني لم أجد أحداً غيرك يفوقني في الوفاء
كذلك كان الحديث عند لقاء الأستاذ طه الراوي صديق مصر الحميم، والرجل الذي لا ينساه من يراه، ولو طال البعاد
تلاقينا وتسامرنا، وقال وقلت: أين الأستاذ الزيات ليتم أنس الحديث؟ فقد سأل الأستاذ الراوي مرات عن الأستاذ الزيات، وكان يشتهي أن يراه ليتحدث معه في شؤون من شواجر الأدب القديم والجديد، ورجاني أن أبلغه التحية إن لم يستطع رؤيته قبل الرجوع إلى بغداد.
في رياض الزمالك
عرفت من المفوضية العراقية أن الأستاذ الراوي يقيم بفندق الكنتننتال، فطلبته بالهتاف، فرد صوت محبوب هو صوت السيد خالد الشوربجي، فعجبت من هذه المصادفة الغريبة، وسألته عن الأستاذ الراوي فقال: تجده بكلية البنات في الزمالك، ثم قال: وين الأستاذ
الزيات؟ فقلت: تجده في كلية الزراعة على شاطئ بحر شبين!
مضيت في العصرية إلى الزمالك فكيف رأيت الزمالك؟
إني لمفتون بتلك البقعة التي يطوقها النيل من أربع جوانب، إني لمفتون بما فيها من قصور وبساتين، وإنها لروضه من أنظر الرياض
أين الشاعر الذي يصور جمال الزمالك؟
وأين الروح الذي يدرك معاني تلك الجزيرة الخضراء؟
لن ينقضي فتوني بتلك الروضة المهندمة بأروع وأظرف ما تجود به الفنون، فالزمالك ترى وكأنها صبت مرة واحدة في لحظة من لحظات الصفاء
لا تجد بيتاً يبني ولا بيتاً يهدم، ولا ترى إلا سبيكة مقدودة من ضمير الحسن الأصيل
هذه كلية البنات بشارع محمد أنيس، وهذا بابها العالي، فما أسعد بلداً يكون لبناته حظ التعلم في مثل هذا المكان البهيج!
وأخطو خطوة فأجد الأستاذ الراوي في انتظاري، وأجد معه الأستاذ عبد الجبار الجلبي، وأجد وجوهاً عراقية في سمرة النيل عند الوفاء
وأقول بعد التحية: جئت أدعوكم لزيارة سنتريس، فما يجوز لمن يزور مصر أن يغفل زيارة سنتريس
فيقول السيد عبد الجبار الجلبي وهو يبتسم: إن مثل من يزور مصر ولا يزور سنتريس مثل من حج ولم يعتمر، وقد يكون حاله حال من اعتمر ولم يحج، فلا بد من زيارة سنتريس
سهرة روحية
وبعد لحظات يتفرق الجمع، لأن لجمهور الحاضرين مآرب من رؤية القاهرة بالليل، وأنظر فأرى الأستاذ طه الراوي سيبقى بلا رفيق، فأقرر البقاء لمسامرته إلى أن يعود الرفاق
قلت: أيسمح سعادة الأستاذ أن يخرج فنرتاض على ضفاف النيل؟
فقال: أنت النيل، ثم أنشد قول المتنبي:
مِن عَبيدي إن عشت لي ألف كافو
…
ر ولي من نداكَ ريفٌ ونيلُ
وانطلق فقص قصة المتنبي بعد أن رحل عن مصر، قصها بصورة خلابة كأنه كان رفيق
المتنبي حين فارق مصر في ليلة عيد
وخلاصة القصة أن المتنبي كان يعلق آماله على (فاتك) وكان فاتك يريد السيطرة على الصعيد، فبث كافور ألوف العيون ليعرف من أحواله كل شيء، وكان المتنبي يعرف هذه الحقيقة، فكان يخرج بحجة الحرص على ترويض حصانه ليلقي فاتكاً في مكان مجهول، ثم هلك فاتك فلم يبق للمتنبي غير الرحيل، ولكن إلى أين؟
رحل إلى الكوفة، وهي وطنه، ولعله كان فيها من الفقراء، فأرسل إليه سيف الدولة هدية يستعين بها على العيش، فرد المتنبي بقصيدة منها هذا البيت:
مِن عَبيدي إن عشت لي ألف كافو - ر ولي من نداك ريفُ ونيلُ
ومضى الحديث في شجون مصرية وعراقية، فكان من ذلك دليل جديد على الثقة الموصولة بيني وبين هذا الرجل النبيل
- احكي، احكي
وماذا أحكي؟
أنا تعبت من الحكي، فاحكي أنت
- ميعاد الحكي في سنتريس
وخرجت أبحث عن سيارة بعد انتصاف الليل وأنا في نشوة روحية قليلة الأمثال
رياض الزمالك وأحاديث الراوي في ليلة واحدة؟ تبارك من جعل هذه الحظوظ من نصيبي في أوقات قل فيها الظفر بأطايب الحياة.
لمحة وجدانية
وقفنا على جسر الرياح المنوفي بالقناطر الخيرية لحظات، فقلت للأستاذ الراوي: ما رأيك في أن ننزل فنقطع هذا النهر سابحين إلى أن نلقي الأستاذ الزيات؟
- إيش لون؟
- هذا النهر يسمى هنا بالرياح المنوفي، وبعد قنطرة النعناعية يسمى بحر سنتريس، وبعد قنطرة القرينين يسمى بحر شبين، ومنه تستقي مزارع الأستاذ الزيات
- أنتم تسقون من نهر واحد؟ الآن عرفت السر فيما بينكم من وفاق
- وهناك وشيجة ثانية
- ما هي؟
- هي ما يوجب العقل من تلطف الشركاء بعضهم مع بعض، فأنا أستطيع سد هذا النهر بنبابيت سنتريس
- ولا تخاف الحكومة؟
- الحكومة تركت هذا النهر في حراستنا، فنحن نملك من أمره كل شيء
- أنتم إذاً على استعداد لإساءة التصرف
ومع هذا لم نسيء التصرف، رعاية لمعنى واحد، هو البر بالصديق، ولو كان الزيات عدواً لعاملناه معاملة الأعداء، هذا مع العلم بأن الزيات صديق مضمون
- ما معنى هذه الكلمة الأخيرة؟
- إن لها معنى ومعاني، فالصديق المضمون هو الصديق الذي لا يخشى تغيره بأي حال، وإذن يجوز التحيف عليه باطمئنان، فيكون البر به غاية في الوفاء
- هذا معنى طريف، ولكنه يحتاج إلى بيان
- بيان ذلك أن من الأصدقاء من ينهاه قلبه وروحه عن مجازاة أصدقائه غدراً بغدر، وإيذاء بإيذاء. والصديق الذي يكون في مثل هذه الروحانية يلقى من أصدقائه متاعب ومضجرات؛ فالوفاء بعهده يعد أعجوبة في الحياة الأخلاقية، وأنا أطمع في الظفر بأكبر نصيب من مكارم الأخلاق
- نحن نسمع في مصر كلاماً جديداً
- ولكنه أقل من كلام العراق
- يعجبني تعصبك لأصدقائك، يا دكتور مبارك
- ولمن أتعصب إذا لم أتعصب لأصدقائي؟ لم يبق من الكرم غير حفظ العهد، وكل ما أخشاه أن يكون حظي من هذا المعنى أقل مما أريد. إن الهجوم على العدو لا يحتاج إلى عناء، لأنه ينبعث عن ثورة تعين على القتال، أما ملاطفة الصديق فتصدر عن عواطف رفيقة لا تساعد على الاستبسال
لو بذلنا في ملاطفة أصدقائنا معشار ما نبذل في محاربة أعدائنا لرضى الله عنا واصطفانا لأشرف الأعمال الأدب الحق هو أدبك في معاملة من لا تخاف أن يثور عليك
- وهذا أيضاً كلام جديد
- وهو أيضاً من وحي العراق
- طيب الله أنفاسك، يا دكتور مبارك!
طبائع الأرض المصرية والعراقية
في حديقة الدار في سنتريس بدت الطلمبة أمراً عجبا، فقد دهش الضيوف العراقيون من أن نستقي الماء بلا بئر، فقلت إن هذا يتيسر في العراق لو أردتموه. فقال الأستاذ طه الراوي: إن البئر في العراق تكون مياهه غاية في المرارة إن بعد عن الشط، لأن أرض العراق كثيرة الأملاح
عند ذلك تذكرت عبارة المسيو دي كومنين حين رأى الطلمبة في سنتريس، فقد قال إن هذا يمتنع في الأرض الفرنسية، وإن لم يذكر الأسباب
وعند ذلك فهمت كيف كانت بغداد مملوءة بالأنهار، وهي القنوات التي كانت تنقل الماء إلى المحلات المختلفة بدار السلام، فكل مجرى ماء اسمه نهر عند أهل العراق، ولو كان قناة لا يحتاج عبورها إلى أيسر مجهود، ومن هنا جاز أن نرى في كتب التاريخ أن البصرة كان فيها مئات أو ألوف من الأنهار الجاريات
لو سمعت كلام الأستاذ الراوي قبل أن أكتب مقالي عن (عروس النيل) لكان من الممكن أن أضيف إليه توضيحات، فليكن ما هنا تكميلاً لما هناك
بين سنتريس ولبنان
قال الأستاذ الراوي: للنسائم هنا مذاق لا نجد مثله في لبنان، فما الذي يمنع من أن تجعلوا بلدكم من بلاد الاصطياف؟
قلت: إن هواء سنتريس أتعب أهل سنتريس
- وكيف؟
- لأنه جعلها مراداً لأصحاب الأذواق، فهي الملتقى لأكثر سكان المنوفية، ومن أجل هذا عم فيها الغلاء
أسجاع وأغاريد
وعند تناول العشاء سمعنا طيوراً تسجع وتغرد بأنغام لا يسمع مثلها أهل العراق، فقال الأستاذ عبد الجبار الجلبي: ما هذه الطيور؟ فقال السيد عبد المجيد مبارك: هذه جماعة الكروان تصدح عند قدوم الليل
وتردد الأستاذ الجلبي في تصديق ما يسمع؛ فقال له الأستاذ الراوي: هذه بلابل تصدح بأنغام أهل سنتريس!
منظر طريف
حين مررنا بحدائق القناطر الخيرية نبهت رفاقي إلى غابة أبي قردان، وقلت إنه طائر يصادق الفلاح، فيرافقه في الحرث والسقي، ليلتهم ما في الأرض من ديدان، ولهذا يحرم صيده بأمر وزارة الزراعة المصرية
قال الأستاذ الراوي: هذا اسم عربي، فالقراد يجمع على قردان كما يجمع الغلام على غلمان، ولعل هذا الطائر سمي بذلك لأنه يطهر الأرض من الحشرات
قلت: ومن العجيب أن يكون ملتقى هذه الطيور البيض في شجرة كريمة بأحد المنازل في سنتريس، وكأنها تقول:
من علمّ الورقاء أن محلكم
…
حَرَمٌ وأنك موئلٌ للخائفِ
ماذا دها القمر؟
كانت طلعة القمر طلعة بهية، وكان لألاوه فوق بحر سنتريس غاية في البهاء، فماذا دهاه قبل أن نقترب من قليوب؟
قال السيد هاشم: القمر مخنوق
فوقفنا جميعاً وتطلعنا إلى وجه القمر فرأيناه في حال تشمت العذال!
حتى القمر تنال منه صروف الليالي؟!
وتسمع السيد عبد الجبار ما يقول أهل قيلوب ليوازن بين أقوالهم وأقوال أهل بغداد. . . وتذكرت العبارة المصرية فقلت: (يا بنات الحور، سيبوا قمرنا ينور)
فقال: إن عبارة أهل بغداد (يا حوته يا منحوته، طلعي قمرنا العالي)
وأذن تكون بنات الحور هي التي تخنق القمر في مصر، وتكون الحوته المنحوته هي التي
تخنقه في العراق
قلت: القمر عندنا معشوق تحجزه الحوريات، وهو عندكم مأسور بأيدي الحوتات المنحوتات، عليهن اللعنات!
فقال السيد عبد الجبار: لقد راعني هدوء الطبيعة المصرية، ففي كل ماء تنق فيه الضفادع بقعقعة مزعجة، إلا ماء النيل
واستطرد الأستاذ الراوي فقال: أراد صوفي أن ينظر معشوقته من ثقب الباب فرآها عارية، ولكنه أنزعج حين رأى ضفائرها تحجب عنه جسدها الوهاج، فصرخ:
يا حوته يا منحوته طلعي قمرنا العالي
قلت: وما شئن الصوفي بالأجساد العارية؟
فأجاب: هل نسيت ما قررته في كتاب التصوف الإسلامي؟ ألم تقل أن الحب الحسي قنطرة إلى الحب الروحي؟ ألم تقل أن الصوفية تبنوا أشعار الماجنين فحولوها إلى خطرات وجدانية؟
فائدة لغوية
قال سعادة الأستاذ الراوي وقد شربنا القازوزة: إن العرب عرفوا القازوزة، فقلت القازوزة التي نشربها كلمة فرنسية أصلها هي في العربية؟ فقال: وردة في قول أحد الشعراء:
أفَني تلادي وما جّمعتُ من نَشَبِ
…
قرعُ القوازيز أفواهُ الأباريق
فقلت: هي القوارير بالراء في المطبوعات المصرية، وهي أفصح لأنها كلمة قرآنية. وبعد لحظة قال الأستاذ: المفرد قاقوزة، فقلت: إذن يكون الجمع قواقيز
وبعد العودة راجعت القاموس فوجدت قاقوزة وقازوزة بمعنى واحد وهو المشربة أو القدح أو الصغير من القوارير، وعلى ذلك يمكن أن يكون البيت روي روايتين
وفائدة تاريخية
قال الأستاذ الراوي: سمعت اليوم تعليلاً أعجبني في تسمية شارع الموسكي، فقد حدثني أحد الأفاضل أنه جاء من الكلمة الفرنسية كلمة عربية الأصل معناها المسجد، وسمي الشارع بذلك لأنه يوصل إلى المسجد الكبير وهو الجامع الأزهر
فقلت: الموسكي بفتح السين نسبة إلى موسك أحد أمراء مصر في الأيام الخوالي، وسكنت السين للتخفيف
فضحك الأستاذ الراوي وقال: إذن كان ذلك المحدث من (الأفاضل) بالقول لا بالفعل
مروءة مصرية
رجعنا إلى القاهرة والقمر مخنوق، والظلام يطمس المعالم بميدان باب الحديد، ولا بد من سيارة تنقل الضيوف إلى الزمالك
- تاكسي، تاكسي، تاكسي
هتفنا بهذه اللفظة أكثر من خمسين مرة، فما سمع سامع ولا أجاب مجيب
ونظرت فرأيت فتى يخترق الظلام ليستوقف سيارة فظننته خادماً يبحث لسيده عن واسطة، أداة النقل في لغة العراق، ثم ظهر أنه بائع متجول أراد أن يريحنا من هذا العناء
هل قدمنا لهذا البائع قرشاً أو نصف قرش؟
الجواب عند السيد عبد الجبار الجلبي فقد كان في الزاوية الثانية، ولعله نفحه بشيء، وإلا فأنا حاضر لمكافأته على ذلك الصنيع الجميل.
زكي مبارك
الأعراب
نحن الذين بلغوا الرسالة
لأستاذ جليل
إلى الأستاذ صاحب مجلة (آخر ساعة)
يا أخا العرب
لكاتبين محررين في مجلتك ولكتاب في مصر وغير مصر أن ينقذوا (الأعراب)، وأن ينعوا عليهم عيوباً فيهم بل أن يبالغوا في شتمهم أو هجوهم إذا اقتضت حال سبا
إن لهم أن يقولوا: (أإسلامية وجاهلية) حين يروننا مستمسكين بعادات خبيثة بدوية، وأقضية منكرة عرفية تظاهر (الظهير البربري. . .)
وإن لهم أن يقولوا: (أمصرية وعداوة للجندية) حين نسأل أولي الأمر أن نميز، أن نستثني من سائر الأمة في الأمر العمم كأننا ضمني أو زمني يلتمسون التزمين
وإن لهم أن يقولوا: متى تتحضرون أيها الأعراب، وقد تبدلت الدنيا، وتدخلون في دين الناس، وتسكنون بيت الحجر وتتركون بيت الشعر
إن لهم أن يقولوا الحق في كل وقت، وللحق يعنو الصغير ويعنو الكبير
ومن أقوالنا قِدْما: (اشتمني واصدق أيها الشاتم)، ولكن هل يجوز لكاتب عندك اسمه (إحسان) أن يقول في مقالته (حوادث وخواطر) - في الجزء (460) ص (10) في 25 يوليو (1943):(كل هذه المدنية التي شيدناها لم تعجب الزائر الكريم وإنما أعجبه الأهرام وأبو الهول، أعجبته قطعة من الصحراء أقيمت عليها أصنام وقفت حولها حمير وإبل وأعراب. . .)
إن هذا لشيء إد، إن هذا الأمر نكر لم تقتضه حال، ولا دعا إليه داع. فما الذي دفع الكاتب إلى هذه المقولة، وما كان ضره لو ترك (الأعراب) وخطبهم ولم يقرنهم وما سماها في قرن
يا أخا العرب
أنت تدري وكل الناس يدرون أن أجدادنا كانوا البعوث (الجيوش) التي قادها صاحب رسول الله أبو عبد الله (عمرو ابن العاص) العربي المصري (رضوان الله عليه) يوم بادر إلى مصر كيما يحررها ويهديها
قائد آبائنا عمرو ابن العاص هو سيدي، وهو سيد كل مصري يقول:(لا إله الله محمد رسول الله) وهو سيد كل مصري ينطق بالعربية
من حرر مصر؟ من هدى مصر؟
عمرو بن العاص صاحب محمد، خادم دين محمد
يا أخا العرب
إن الأعراب (حيا الله ربعك) إذا تحضروا وتعلموا وتثقفوا جاءت منهم ملائكة. ومن الأعراب في هذا العصر في هذا الوقت في مصر وفي العراق والشام والجزيرة وبلاد المغرب (تونس والجزائر والمغرب الأقصى) دكاترة في العلوم والفنون، وأساتذة كبار، وزعماء عظماء، ومرشحون للزعامة. . . من الطراز الأول
أدع الانتخاء والعنجهية الأعرابية وأقول العلماء والأدباء قديماً وحديثاً فينا، ووصية سيدنا عمر (رضوان الله عليه) بنا ووصفه إيانا. وأدع أبيات المتنبي في البائية، وأبيات المعري في الرائية في تقريظنا لشهرتها. وأختم هذه الأسطر بكلام الله، وأبيات لأبي إسحق إبراهيم بن عثمان الفزي رحمه الله حتى تكون قولاً بقول، والبادئ أظلم، وقضاء الله في أمر الاعتداء هو القضاء:(. . . فمن اعتدى عليكم الآية) ولئن أساء (إحسان) - غير ناو أن يسيء - لقد أحسن (ابن عثمان)
قال الله:
(ومنَ الأعراب من يؤمنُ بالله واليوم الآخر، ويتّخذُ ما يُنفقُ قُرُباتٍ عند الله وصَلوات الرسول. ألا إنها قُربةُ لهم، سيدخلُهم اللهُ في رحمته؛ إن اللهَ غفورُ رحيم)
قال الشاعر:
يا ربعُ، فيك المها والأسد أحبابُ
…
فقل لنا: أكناسٌ أنت أم غابُ؟
بين الكثيبين حيّ لَغوُهم أدبٌ
…
محضٌ، وإيجازِهم في القول إسهاب
خطّوا وأقلامهم خَطْية سُلُبٌ
…
فهم على الخيل أميّون كتّاب
أهل الإصابة إن قالوا، وإن سمعوا
…
وللسماع كما للقول إعراب
غيرَ الهبيدِ وبَرْضِ البيد ما عرفوا
…
والعز يعذب في أكوابه الصاب
صدق الله، ولم يكذب الشاعر. . .
ناقد
المشكلات
3 -
اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
يتوقع القراء أنني سآتيهم في مشكلة اللغة العربية بحلول مطولة وآراء معقدة، تثقل على العامة ولا يستسيغها إلا الخاصة
وإنني سآتيهم بالجديد الذي لم يقرع أسماعهم، ولم يخطر لهم ببال
وأني أقول للقراء أن ما سأعرضه عليهم قسمان، الأول نقد الطريقة التي تسلكها المدارس في تعليم اللغة، والثاني نقد علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة، وإبطال الباطل من قواعدها، وإحلال الحق محله
فأما نقد أسلوب تعليم اللغة فإني أحب أن أطمئن القراء من جهته، فإن الحلول التي جئت بها سهلة لا غموض فيها، بسيطة لا تركيب فيها؛ وهكذا شأن الحقيقة تمتاز بالسهولة والبساطة، وقد أخذتها من العامة وأشباه العامة، أخذتها من الحائك إذ يعلم الحياكة، والحداد إذ يعلم الحدادة، والنجار إذ يعلم النجارة
وليس فيما جئت به في هذا الموضوع جدة، وإنما هو قول معاد مكرور، قاله علماء الشرق قديماً وعلماء الغرب حديثاً، حتى أنني ترددت في عرضة على الناس، ولكن يشفع لي في عرضة أن قومي لم يعلموا به كأنهم لا يعرفونه، فقلت لعلهم يحتاجون إلى الإقناع به، وإقامة الدليل عليه، وإدارة الكلام على البرهان والإقناع، ليوافق طبقات الناس، وكذلك فعلت
وأما نقد القواعد وبيان الباطل منها، وإحلال خير منها محلها. فهي مسائل فنية يصعب فهمها إلا على الدارسين، وهي جديدة قد نشأت عن الدرس الطويل، والتأمل والتنقيب في هذه العلوم، وفيها لذة ومتعة، فسيرى فيها القراء مصاولة العقول ومقارعة الآراء، وسيرون علوما كانت تحاط بهالة من التقديس تنهار وتهدم، وعلوما أخرى حلت محلها وأخذت مكانها، فبدت أعلى منها وأسمق، وما نهدم ما نهدم إلا عن بينة وحجة، وما نبني ما نبني إلا عن بينة وحجة. فما عدله الدليل فهو العدل الثقة، وما جرحه الدليل فهو المجرح
المدخول
فان كان ما جئت به حقاً فللقراء خيره وبركته، ولي ما كابدته من النصب والهم، وإن كان باطلاً فعلي تبعته وعاره، وخلاهم ذم
ربما لم تعن أمة في العالم بلغة ما كما عنيت الأمم الإسلامية باللغة العربية، وقد عظمت هذه العناية واتصلت وتلاحقت مدة ثلاثة عشر قرنا، فتوافر العلماء عليها في القديم يدرسونها من نواحيها المختلفة، درسوا مفرداتها وعرفوا التغيرات التي تلحق المفرد، والأوزان التي يكون عليها، وكيف تتصرف الكلمة في الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة الخ.، وعرفوا قواعد ذلك وسموه علم الصرف، وعرفوا ما تدل عليه كل كلمة من معان، والشواهد التي يستشهد بها على هذه المعاني، ودونوا ذلك وسموه علم متن اللغة، ودرسوا نظمها وتراكيبها المختلفة، وما يفيده كل نظم وتركيب، ووضعوا قوانينه وسموه علم النحو. ودرسوا فضيلة الكلام، ووضعوا القواعد التي يحسن بها الكلام وسموها علم البلاغة. ودرسوا ما في لغة العرب من شعر ونثر وبينوا معانيه. ودرسوا أوزان الشعر وأعاريضه وقوافيه. وهلم جرا
وضعوا كل ذلك في قوانين، ووضعوا هذه القوانين في كتب قد سطرت، وصحف قد نشرت، وكان كل جيل من الأجيال يزيد وينقص، ويغير ويبدل على حسب ما يتراءى له، ويضع الكتب الجمة والأسفار المختلفة، وكانوا يعكفون عليها يتدارسونها يعلمها كبيرهم صغيرهم، وعالمهم جاهلهم، وقد ورثنا نحن هذه العناية فدرسناها في جميع معاهد التعليم، فهي تدرس في وزارة المعارف، في الأقسام الابتدائية والثانوية وفي التعليم الأولي، وهي تدرس في المعاهد الدينية والأزهر في الأقسام الابتدائية والثانوية، وهي تدرس في كلية اللغة العربية من كليات الأزهر، وفي كليتي الآداب من جامعتي فؤاد وفاروق، وهي تدرس في دار العلوم ومدارس المعلمين والمعلمات، ونصيبها من الحصص في هذه المعاهد نصيب الأسد
عكفت مدارسنا على هذه القواعد التي استنبطها العلماء المتقدمون في النحو والصرف والبلاغة والعروض والقافية تدرسها وتضبط شوارد العربية على المتعلمين
وكانت تقسم القواعد على سني الدراسة قسمة تراعي فيها الحكمة، فهي قليلة موجزة في
الأقسام الابتدائية، وكثيرة مطولة بعض الشيء في الأقسام الثانوية، وهي مطولة كل التطويل ومستوعبة كل الاستيعاب في المدارس العالية
إني لأعجب كيف تخفق مدارسنا وتخفق الأجيال قبلنا في تعليم هذه اللغة مع هذه العناية وهذا الجهد
أينجح الحائك في تعليم الحياكة؟ والبناء في تعليم البناء، والنجار في تعليم النجارة، وكل ذي صنعة في الدنيا في تعليم صنعته، ويخيب رجل العلم والتربية في تعليم اللغة العربية؟
أينجح تلاميذ الصناع جميعاً إلا قليلاً، ويخيب تلاميذ رجال العلم إلا قليلاً مع أن الأولين يبذلون أقل جهد ومشقه في تعليم الصناع ولا يعللون المسائل ولا يفلسفونها، ولا يعملون شيئاً إلا أن يأخذوا المتعلمين بأعمال كثيرة من صنعتهم ويمرنوهم ويكرروا ذلك، فإذا هم قد حذقوا الصنعة وأجادوها، ومع أن الآخرين يبذلون كل جهد ومشقة، ويذكرون علل العربية ويفلسفونها، ويطلعون تلاميذهم على دقائقها وخفاياها
لعل مازحاً يمزح ويقول أن سر هذا الإخفاق في هذه العناية، وسر هذا النجاح في هذا الإهمال
وسنأخذ هذا المزاح جداً، ونرى أنه يشير إلى الطريق ونضع أن سر نجاح أولئك في طريقتهم وسر خيبة هؤلاء في طريقتهم
سر نجاح أولئك في المرانة والتكرار حتى يكسبوا الصنعة، وسر خيبة هؤلاء في الاعتماد على القواعد وترك الحفظ والمرانة والتكرار
ولو أخذ كل بطريقة الآخر لخاب الناجح، ونجح الخائب
لو علم الحائك تلميذه بطريق القواعد فحسب، وظل طول عمره يقول له شد الخيط طولاً واسلك فيها الخيوط عرضاً ليتكون منها سدى ولحمة ولم يأخذه بأعمال الحياكة الكثيرة وتكرارها والمرانة عليها، لخاب في التعليم ولم يكسبه الحياكة، ولو أخذ عالم العربية بطريق المرانة والتكرار والحفظ، فحفظ تلاميذه أساليب العربية البليغة، ومثلها الرائعة مما يعتاد في الخطاب، وأخذهم بالنسج على منوالها في الحديث والكتابة والخطابة لنجح في تعليمه
ولا عجب أن يكون هذا الصانع العامي أقرب إلى الحقيقة من هذا العالم المربي، لأن هذا
العامي يرجع إلى الواقع ويستملي منه وهذا العالم قد أغفل الواقع وقلد ما كان عليه الآباء والأجداد
هذا العامي يعلم أن قواعد الصنعة لا تعطي الصنعة، ولا يعطيها إلا تمرين المتعلم، وأخذه بنماذج كثيرة، وتكرير ذلك حتى يتقنها
وهذا العالم أغفل هذه الحقيقة وظن أن قواعد اللغة تكسب اللغة وأن قواعد البلاغة تكسب البلاغة فأخذ يبدأ فيها ويعيد، ويكرر ويكثر من التكرار، فأكسبهم ملكة في قواعد اللغة، ولم يكسبهم ملكة اللغة
سيهول هذا أقواماً ويرونه سخفاً من القول. وقياساً مع الفارق، ويقولون: إنك لم تعمل شيئاً سوى أن قست قياساً فقلت تعليم وتعليم، ولغة وصنعة، وكما أن الصنعة لا تكسب بالقواعد إنما تكسب بالعمل والتكرار كذلك لا تكسب اللغة العربية بالقواعد فحسب إنما تكسب بالعمل والتكرار والحفظ، والقياس لا يفيد اليقين، فطرق العلم مختلفة، فهذا يعلم من طريق، وذاك يعلم من طريق آخر، فالروائح تعلم بالشم، والطعوم تدرك بالذوق، والألوان تدرك بالبصر، فكما لا يصح أن يقال: إن الأحمر قد كان طريق العلم به البصر فيجب أن يكون الحامض طريق العلم به البصر كذلك لا يصح القياس الذي ذكرته، فلعل هناك فارقاً بين الصنعة واللغة يجعل أحكامهما مختلفة، فتكون الصنعة تكسب بالتكرار، وتكون اللغة تكسب بالقواعد، فالقياس لا يجدينا ولا ينفعنا، فلا بد أن تأتي بالبرهان لنصدق به، ولا نجد عنه معدي
وإني أعد القراء أن أجيء بالبرهان على أن اللغة كسائر الصنعات لا تكتسب بالقواعد، إنما تكسب بالحفظ والتكرار، وأن أدير الحديث على طرق إقناعية شتى حتى أفوز بإقناع أولي الأمر فنحل مشكلة من مشكلاتنا العديدة، لنفرغ لمشكلات أخرى.
محمد عرفة
طرائف:
عن الكتب والكتاب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
نسخ الكتب. تصحيح الكتب. سرقة الكتب. النار والمكتبات
موضوع المكتبة العربية - عامة أو خاصة - هو موضوع طريف سنعرض له بالتفصيل في العدد القادم من (الرسالة)
أما موضوع اليوم فهو توطئة للموضوع الذي اعتزمنا الكتابة فيه للأعداد المقبلة
ومن لوازم الكتب وجود عدد من (الناسخين) ومهمتهم أن ينسخوا من الكتاب الواحد نسخة أو أكثر على حسب رغبة المؤلف أو وفق مقتضيات الأمور
وأول ما عرف من هؤلاء الناسخين في الأدب العربي الجماعة الذين كتبوا المصاحف الأربعة بأمر الخليفة الثالث عثمان بن عفان؛ وهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث
أما كتاب الوحي فلم يكونوا نساخاً، بل كان الرسول يملي عليهم الآيات حين نزولها، وشرط النسخ أن يكون عن كتاب أو صحيفة مكتوبة
وليس النساخون مقصورين على الكتاب العربي وحده أو المكتبة العربية وحدها، فهناك نساخون في الكتب الأوربية وكان يطلق على هؤلاء النساخ كلمة الرهبان، لأن الرهبان والقسوس كانوا مختصين في العصور الوسطى بنسخ الكتب
وبهذه المناسبة كان عند النساخين من الرهبان قانون وضعه (تربتم) رئيس الكهنة في عصره يقول فيه: (يجب أن يقطع أحدكم الرق قطعاً، وآخر يصقلها، وآخر يسطرها، وآخر يبري الأقلام يملأ المحابر، وآخر يقرأ ويصحح كتابة الناسخ، وآخر يزخرف الكتابة بالمداد الأحمر وينقط الحروف، وآخر ينقشها، وآخر يلصق الورق ويحبك الكتب على ألواح من الخشب)
فأنت ترى من ذلك كله أن عملية نسخ الكتاب كانت عملاً منظماً توضع له القوانين وتقعد القواعد. وخاصة عند جامعي الكتب من أمراء أوربا في العصور الوسطى
ولهؤلاء النساخين - عرباً كانوا أو فرنجة - طرائف في النسخ. ولكنهم على كل حال
كانوا آفة في الكتابة العربية: ونظرة واحدة في الشعر الوارد في كتاب (فوات الوفيات) لابن شاكر الكتبي تؤيد هذا الكلام، فهو شعر مختل مكسور مسخه الناسخ. وجاء الطابع الحديث فأبقاه - لسقم ذوقه - على اختلاله وكسره. وجاء الدكتور العالم أحمد عيسى بك فنقله في كتابه الجديد (معجم الأطباء) مختالاً مكسوراً. وليس ذلك من سبيل بحثنا اليوم، ولكننا سنفرد لتصحيح هذا المعجم الجليل مقالاً طويلاً في (الرسالة)
ومن عجب أن الكتب المنسوخة لم يقم لها مصححون يعنون بمراجعة أخطاء النسخ وضبط الكتاب وتحقيقه؛ أما الكتب المطبوعة فقد قام عليها مصححون منذ عرف الكتاب العربي الطبعة العربية في مطلع القرن التاسع عشر؛ وعند صديقنا العالم الرواية الأستاذ محمود حسن زناتي أنباء كثيرة وطرائف عن هؤلاء المصححين؛ ولعله يتحف الأدباء قريباً بمقالاته في هذا الموضوع. وأشهر هؤلاء المصححين التماعاً في سماء الأدب الشيخ نصر الهوريني المتوفي سنة 1874م، كان هذا الشيخ عضواً في بعثة أرسلتها الحكومة المصرية إلى فرنسا؛ فلبث هناك مدة ثم عاد رئيساً للتصحيح بالمطبعة الأميرية؛ وله تعليقات لطيفة على هامش القاموس المحيط للفيروزبادي؛ كما أنه له كثيراً من المؤلفات أشهرها (المطالع النصرية للمطابع المصرية)
ومن المصححين المشهورين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الشيخ أحمد الميهي بن حسن عبد الصمد؛ وكان موظفاً بالمطبعة الوهبية التي أنشأها الفاضل مصطفى وهبي. وللشيخ الميهي فضل تصحيح كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة؛ وهو من المطبوعات النادرة الآن. وقد تم طبعه في سنة 1882م؛ ولم يطبع بعد تلك الطبعة إلى اليوم
ولم يكن عمل المصححين القيام على تصحيح الكتب المطبوعة فحسب؛ بل قام بعضهم بتنظيم الفهارس المختلفة للكتاب المطبوع كما صنع الشيخ البهي في كتاب طبقات الأطباء المذكور. فقد صنع فهرساً وافياً للأعلام، وآخر للبلاد والمواضع والأماكن والمياه والأنهار. وبلغت صفحات هذين الفهرسين وحدهما (121 صفحة)
وليس عمل الفهارس للكتب المطبوعة القديمة أو الحديثة عملاً هيناً يسيراً، ولكنه يقتضي دقة وبصراً من واضعه؛ واشتهر من منظمي الفهارس اليوم الأستاذ محمد شوقي أمين
الموظف بمجمع فؤاد الأول للغة العربية؛ فله فهرس منظم لكتاب البخلاء للجاحظ الذي طبعته وزارة المعارف العمومية بعناية الأستاذين أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك، وله فهرس لكتاب الحلل السندسية في الآثار الأندلسية الذي يطبعه الأمير شكيب أرسلان
وللكتب - مطبوعة كانت أو مخطوطة - آفتان: السرقة والنيران. ولقد عرف اللصوص قيمة الكتب وخاصة بعد أن اعتنى أصحابها بتجليدها وتزيينها؛ فارتفعت أثمانها عند الأمراء والأثرياء واضطر هؤلاء إلى العناية بحفظها والقيام عليها وكانوا يكتبون على أولها عبارات تتضمن لعنة السارق والسخط عليه. وقد وجد على أحد الكتب هذا البيت من الشعر على لسان صاحب الكتاب:
إذا غرك الشيطان أن تجتري على
…
كتابي فعقبى المجترين الفضائح
أما النيران فهي آفة الكتاب الكبرى وبليته. فلقد أحرقت مكتبة الأمير نصر الساماني على نفاستها. واتهم بعض ذوي الأغراض عمرو بن العاص بإحراق مكتبة الإسسكندرية وهي تهمة لا تستند إلى الحق. وأحرق التتار مكتبة بغداد وأغرقوا كثيراً منها في النهر سنة 656هـ، وكانت الكتب النفيسة في هذه الفتنة تباع بأوهى قيمة
ولما سقطت مدينة غرناطة في يد الأسبان أمر البطريق إيكزامينيس بإلقاء الكتب الإسلامية وخاصة العربية في النار. ونهب الأتراك في القرن العاشر ما وقع لهم من كتب المماليك وأضرموا النار فيها. ولا يغرب عن البال ما صنعه (كرمويل) في مكتبة اكسفورد فقد أمر بإحراقها وكانت أغنى المكتبات الأوربية في حينها
وهناك بلية ثالثة للكتب وهي العثة التي تعيث فيها وتطيل ملازمتها لها بالأخراق والثقب؛ واسمها بالإنجليزية: وقد أطلق الإنجليز على كل شخص يطيل ملازمة الكتب والتنقير فيها كلمة وهي كلمة يفتخر العلماء وأهل البحث بأنها من صفاتهم.
محمد عبد الغني حسن
الإسلام ومكافحة الأمية
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
القراءة والكتابة هما أقوم السبل للتحصيل والمعرفة. وجاء عمل النبي صلى الله عليه وسلم من افتداء أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين إشارة حكيمة إلى فائدة الكتابة وأثرها في كسب المعرفة، وعلى الأخص القرآن الكريم، مما يؤدي إلى تثبيت الدين والعمل على انتشاره.
ثم اقتضى نظام العمران بعد انتشار الإسلام واستتباب أمره في البلاد المختلفة شرقاً وغرباً، إلى ظهور الكتاتيب لتعليم الصبيان القرآن والكتابة والقراءة وبعض النحو والعربية. وتناول معلم الكتاب الأجر نظير انقطاعه لهذا العمل بعد أن كان التعليم في صدر الإسلام تطوعاً واحتساباً.
وظهور الكتاتيب الإسلامية أثر من آثار الإسلام اقتضته ضرورة الدين الجديد الذي يخاطب الناس كافة لا يقتصر على طبقة دون طبقة، ولا يفرق بين الأغنياء والفقراء، أو الأمراء والدهماء.
وكان الغرض الأول من التعليم دينياً خالصاً من شوائب الأهداف المادية التي تفسد على الناس أمورهم وتؤدي إلى الاضطراب والتنازع والفساد.
وقد سار الأمر في مكافحة الأمية مع الروح الأولى الإسلامية تلك الروح المتدفقة القوية، يصحبها العزم والإيثار والتطوع لتعليم الصغار والكبار. وليس في القرآن نص على إلزام التعليم ولم يوجب الحديث ذلك. جاء في الصحيح:(خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وهو أقوى ما يؤثر عن الرسول بصدد التعلم والتعليم. وهذا الحديث يجعل من تعلم القرآن فضيلة ولا يرتفع بها إلى مرتبة الواجبات
وقد بحث أحد علماء المسلمين هذا الموضوع، أي مكافحة الأمية، إلى أن انتهى إلى القول بها. ذلك العالم هو أبو الحسن القابسي المتوفي سنة 403 هجرية، في كتابه (المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين). قال إن الوالد مكلف بتعليم ابنه القرآن والدين، وحيث أن الوالد مشغول بتحصيل المعاش، فلا بأس أن يحمل عنه معلم الكتاب مؤونة التعليم بالأجر. وإذا مات الوالد فليبعث بالصبي إلى الكتاب وصيه إن كان للصبي
مال؛ فإن لم يكن له مال فليبعث به أحد الأقربين أو المحسنين أو يدفع له حاكم البلد الأجر من بيت مال المسلمين.
والقابسي يتلمس جميع الوسائل المؤدية إلى تعليم الصبيان. إلى أن قال: (فإذا تهاون والد عن تعليم ولده في الكتاب بالأجر، لجهل وقبح ووضع حاله عن أهل القناعة والرضا)
فهذا فقيه في القرن الرابع الهجري ينادي بالتعليم الإلزامي، ويصور وسائله، ويضع شروط الجزاء للمتهاونين فيه!
والفرق بين الإلزام الذي يقول به وبين الإلزام في العصر الحاضر، هو أن الدولة هي التي تنفق على التعليم، وأن قوانينها تعاقب من يمتنع عن إرسال أبنائه بالحبس أو الغرامة، أما القابسي فيضع جزاء أدبياً هو التجهيل والتقبيح.
على أن نداء القابسي لم يتبدد، فقد وجد آذاناً صاغية من المحسنين والقادرين الذين حبسوا أموالهم على الكتاتيب ووقفوا لها الأوقاف، وبذلك ازدهرت حياة التعليم في القرنين الخامس والسادس.
فليذكر الذين يتأثرون خطى الغربيين ويأخذون بحضارتهم أن الإسلام نادى بالتعليم العام منذ ألف عام، في الوقت الذي كانت أوربا تعيش في التأخر والجهل
وليذكر الذين يعملون في مصر الآن على (مكافحة الأمية) تلك الصفحة المجيدة في حياة الإسلام، لعلها تفيد في رجع ما انقطع.
أحمد فؤاد الأهواني
مسرحية إخناتون
تأليف الأستاذ علي أحمد باكثير
للأستاذ لبيب السعيد
الأستاذ علي أحمد باكثير شاب حضرمي طوف في الشرق ما طوف، ثم استقر في مصر يخدم الأدب والعلم. وقد بلوناه حيناً شاعراً له طابعه. وها نحن أولاء نرى فيه كاتباً تمثيلياً وقصاصاً يبشر إنتاجه بأن سيكون له في المستقبل الداني شأن أي شأن.
ترينا هذه المسرحية إخناتون أميراً شاعري الروح، قضت زوجته (تادو) فكان حزنه عليها فوق الصبر، داعياً للإلحاد والكفر، ثم انثنى يتنكر لكل شيء، ويدرس الديانات والفلسفات مما أخاف كهنة آمون على سلطانهم أن يزول حين يؤتى الأمير الملك
وتزوجه أمه من (نفرتيتي) موهمة إياه أنها (تادو) عادت إليها الحياة، ويصدق هو ذلك لاعتقاده بإمكانه، ويسعد بالزوجة الجديدة التي نسخ الحب فيها روح (تادو)، ثم يضحي الأمير من بعد ملكا رسولاً. ولكن الرسالة التي فهم أن من مبادئها السلام تجني على الملك الذي يقتضي الحرب، فتنبعث الفتنة في كل مكان، ويكيد الكهان لإخناتون، ويمضي هو مع ذلك في إخلاصه للسلم والحب، فإذا فشل أخيراً وآده اليأس ألحد في ربه، ثم يدرك وشيكا أن التسامي الشعري غير الواقعية، وأن لا مناص من السيف وحطم الظلم بالعدل. ويثوب إليه إيمانه وهو يحتضر
تومئ هذه المسرحية في ثناياها إلى أن الجمال الباهر والحزن العميق يستطيعان أن يدقا الشعور ويهيئا النفس لتلقي الرسالات
ومن حسناتها اللامعة التفاتها الخاص إلى السيكولوجية: ومن مصاديق ذلك غيرة (نفرتيتي) من مجرد ذكرى ضرتها الميتة، وأحزان (مي) أم إخناتون على زوجها بعد مماته، وحنينها المؤثر إلى أيامه، وغيرتها من كنتها، وتغير إحساسها نحوها، وموازنتها بين طاعة ابنها الذي يشفق على قلبها وطاعة زوجها الفقيد طاعة الحب العمياء، وفزع الكاهن (سادو) من ذكر الثعابين حتى ليكاد من جبنه يحس دبيب الحية في عنقه. هذه وغيرها صور وحالات استمدت جمالها وقوتها من اعتمادها على السيكولوجية
ومن أبرع وألذ ما حوت المسرحية ذكريات الأمير عن (تادو) بعد فجيعته فيها، ما كان
أمضها ذكريات! ولكن ما كان أعذبها!
ومما يظفر أيضاً من القارئ برضاه واهتمامه شخصية (أمنوفيس) أبي إخناتون، وما كان فيه من مجانة وطرب، وفلسفته الظريفة في تذوق الملاحة النسائية، وتخريجه الساخر لمعنى الوفاء للمرأة، ثم ما كان في حياة أخناتون مع زوجته (نفرتيتي) من تعاطف رائع وأنس وسعادة، ثم سذاجة (تاي) المربية المسرفة في إعجابها بزوجها، والتي تحزن لمرض (أخناتون) الأخير. ولكنها لا تتمالك إذ تراه بطالع اللانهاية في عيني نفرتيتي، أن تقول: آه. . . يا ليت (آي) يطالع في عيني شيئاً! وكذلك شجاعة القائد (حور محب) وإخلاصه، وبلاهة (سمنتارا) وحقارته!
ونزعة المؤلف في الأسلوب تظهر في المسرحية إذ تقرر أن الديانات قد يعوزها أن تحمي نفسها بالسيف، وإن الركون إلى السلام مفض لا ريب لفقد الممالك وسقوط الدين معاً
ورأي المؤلف في التناسخ طريف وجميل وليس فيه ما يتحرج منه
وبعد، فأود أن أصارح صديقي المؤلف أنه كان أولى به أن يدع الأمير (إخناتون) يحدثنا بنفسه عن الآلام التي كان يصطخب بها قلبه في أعماقه بدل أن يحدثنا بها كبير الكهنة
حقاً لقد راقب كبير الكهنة الأمير من بعيد قرابة شهر بحيث يراه ولا يدري مكانه، فهو يتحدث عنه على ضوء ما شاهد؛ ولكن هذه المراقبة إن كفلت له الحديث الصادق عن مظاهر أحزان الأمير، فليست بكافلة له أيضاً الحديث المسموع عن حشاشته التي تسيل زفرات، وصبره الصامت الذي يكبت من حزنه الصارخ، ونسيانه يومه وحنينه إلى أمسه الماضي وتفكيره في غده الآتي ووراء غده، وعن هفو أضالعه. . . الخ
وأنا بعد أفهم أن الرسول هو بطبيعته وطوال حياته آخر من تعصف المصائب بإيمانهم، ولكن إخناتون الذي تدور المسرحية على كونه رسولاً، يسرف في الكفر: يكفر عند موت زوجته الأولى كفراً هائلاً، ثم يؤمن حتى يسعد بزوجته الجديدة، ثم يضطلع برسالته مخلصاً مطمئناً، فإذا أحس الفشل عاد كافراً يتشكك، ثم تخر صاعقة بقرب القصر فيزداد كفراً، وينسى رسالته في صميمها، فإذا استمع إلى كلام (حور محب) الذي يحاوره في براعة ولطف عاد مؤمناً، فاستغفر لذنبه، وذكر أنعم ربه. . .
وأشخاص الرواية هم إخناتون وأهله ورجال القصر والكهنة فأين ابن الوطن؟ أين هو
يسمعنا آراءه تلقاء الدعوة الجديدة، ويرينا موقفه إزاء جهاد الرسول وكفاح الكهنة؟
بقى أن أقول إن الذوق العربي لا يستطيع غالباً أن يسيغ (النظم المرسل المنطلق) المصوغة فيه المسرحية لأنه لم يألفه. والذي أعتقده أن ما عمد إليه المؤلف من إرسال القافية في أغلب المسرحية وعدم المساواة في العدد بين تفعيلات الأبيات إخلال بالخواص الجوهرية للشعر العربي لا يحسن اللجوء إليه. والظن أن طريقة كتابة هذه المسرحية وهي على نسق طريقة شكسبير تحمل القارئ على بذل جهد خاص في القراءة كلما حرص على تفهم المعنى واستساغة النغم الشعري. وعندي أنه لو كتبت المسرحية كالنثر، بحيث تتصل الجمل دائماً حتى يستوفي المعنى، وبحيث تستعمل علامات الترقيم أدق وأوفى استعمال لكان ذلك أدنى ألا يجهد القارئ في الاستمتاع بما في الرواية من بيان ومعان
على أن الإنصاف يقتضينا أن ننوه بالمقدرة الممتازة التي أتاحت للمؤلف صوغ مسرحيته كلها من بحر واحد، فإن القارئ للمسرحيات الشعرية العربية التي سبقت (إخناتون) كان ينتقل فجأة من بحر إلى بحر؛ فكان ذلك قاطعاً للذته ومزعجاً لخاطره
ذلك ولأخي المؤلف الناجح شكر مصر القادرة وفاءه وشكر الأدب الذي ينوط به آمالاً كباراً
(المنصورة)
لبيب السعيد
نار. . . ونفس!!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ظَمِئَتْ نَارِي! وَللنَّار كما للنَّاسِ خَمْرٌ وَرحيقُ
ولها حَانٌ، وخمَّارٌ، وأقداحٌ، وإِبْريقٌ عَتِيقُ
ونداماها أسَى العُشَّاقِ، والأحزانُ، واسِّرُّ العميقُ. . .
وَبكتْ نفْسي! وَللنَّفس دُموعٌ حَينَ تبْكي وَشهيقُ
ولها كالحَطَب المَشْبُوب أَزٌّ في حشاهَا وحَريقُ
ولها كالأفُقِ الْغَضبان إعصارٌ وَرعدٌ وبروقُ. . .
فَسألْتُ النَّارَ: مَنْ أظْمَأ يَا نَارُ عَلَى قَلبي لَظاك؟
كيْفَ أسْقيكِ! وأيُّ الخمرِ تَرجُو مِنْ زماني شَفتاكِ؟
ما بكأسِيْ غيرُ نارٍ كالَّتي تَحْمِلُ بلواهَا حَشاكِ!
وَسَألتُ النَّفسَ: مَنْ عّلمَ دَمْعَ العَين يَجْري فيِ حِمَاكِ؟
كيف أَسْقيكَ مِن أن السُّلوانِ والسُّلوانُ مَعنًى مِن أَساك؟
مَا بكأسِي غيرُ دمْعٍ أتْرعَتْهُ مِنْ دَمِي يَوْماً يَدَاكِ!
قَالت النَّارُ: فَضحْتَ السِّرَّ، فَاصْمُتْ، لَا تُحَدّثْ عَنْ لَهِيبي!
إنْ تكن نَارُكَ مِنْ نارِي فَلا تسْألْ عَن السرِّ الرّهيبِ
وارْكبِ الرِّيحَ، وَخلّ الجِنَّ يُسْرِ جْنَ لها طَيْرَ الغيُوبِ
فإِذا شَارَفْتَ عَذرَائي تُناديكِ عَلَى شَطَّ الغُرُوبِ،
وَانْسَنيِ في جَذْوةِ الأنفاسِ لَا تزعجْ لَظى خمريْ وكُوبي
وَهفاَ بالنَّفْسِ ماَ يَهفُو بِغُصْنٍ فيِ يد الإعْصَارِ يُعْوِلْ
ثم قالت: كيْفَ عنْ دمعي ومنكَ الدَّمعُ يا حَيْرانُ تَسأَلْ؟
إِنْ أكنْ فيكَ سَكنْتُ الجِسْمَ والجِسْمُ تُرابٌ يَتنَقّلْ؟
فأنَا طَيْرٌ بِعرشِ الله لي عُشٌّ وبُسْتَانٌ وَجَدْوَلْ
إِنمَا أَبكي لِهذَا القَفَصِ الدَّاجِي الكَئيب المُتَملْمِلْ
لَمْ يَجد أَيَّ عزاءٍ في وجُودِي، كيْف يغْدُو حِينَ أَرْحَلْ؟!
محمود حسن إسماعيل
كلمة تعزية
(إلى حضرة صاحب العزة عزيز بك أباظة مدير البحيرة
شكراً على هدية ديوان (أنات حائرة))
للأستاذ خليل شيبوب
ريعَ قلبي من هذه الأنَّاتَ
…
تَتَلظَّى تَلظِّىِ اَلْجَمراتِ
نثرتها في الشعر لوعةُ شاكٍ
…
فجرت في الدموع منتظمَاتِ
أَكبَرَ العصرُ آيةَ الخير فيها
…
نزلت مثلَ مُحْكَمِ الآيات
جَدَّدَتْ سُنَّةَ الوفاءِ وأَحيت
…
عُنْصُرَ البِرِّ والهدى والثبات
بعد ما قيل نحن في عصر لهوٍ
…
حافلٍ بالمجون والشهوات
يا أليفاً يبكي فراق أَليفٍ
…
كلُّ بينٍ هَيْنٌ إِزاء الممات
تلك شمس أنارت العمرَ لكن
…
دهمتها مصارعُ النَيِّرات
راعها الخسفُ بالبدور مُلِحَّا
…
وذبولُ الغصونِ والزهرات
فهوت من سمائها وقضت في
…
موكبٍ من أَشعةٍ غاربات
ذهبت بالشباب والطهر والحسنِ
…
وخيرِ الزوجات والأمهات
بسماءِ الهدى وروض الأماني
…
ونعيمِ الهوى ومعنى الحياة
فإذا إِلفُها المحيَّرُ لا يملك
…
من أَمره سوى الأنات
مرسلاتٍ على الأسى والتأَسي
…
في قوافٍ مفجوعةِ النغمات
نَدِيَتْ بالدموع فهي أَكاليلُ
…
من الزهرِ بالأسى عَطِرَاتِ
والفؤادُ المكلومُ لا يُحسن التعبيرَ
…
إلا بساكبِ العبرات
حسبكَ اللهُ يا عزيزُ ورفقاً
…
بشبابٍ نرجوهُ للنائبات
أَنتَ من ترتجي البلادُ إذا ما
…
حَزَبتْها الأَحداثُ بالأزَمَاتِ
إِن من وَدَّعتكَ لم تمضِ حتى
…
أَنبتَتْ بعدها كريمَ النبات
فَهيَ اليومَ حَيَّةٌ فيهم لا
…
تأتلي من رَفَّافَةِ الذكريات
فَاتق الله فيهم وَتَقَّبلْ
…
من محبيكَ أخلصَ التعزيات
خليل شيبوب
ذكرياتي.
. .
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
يا ليالي النورِ في صَحْو الشَّبابْ
ما الذي أغرى بنا كأس العذابْ
فَشَربناها حنينا ًونوى
أتناسيتِ الذي ولّى وغَابْ
من نعيمٍ وفتونٍ وشراب
نتغنى كيفما شاءَ الهوى
وعيون الدِهرعنا
…
غافلاتُ
تُسكر الأروَاحَ منا
…
قُبلاتُ
وتشيع الأنسَ فينا
…
صَبَوات
وكؤوسٌ كلما نادى بها الداعي تدورُ
…
ومعانٍ من رحيق الخلد يرويها البشيرُ
كل هذا كان يا دنيا لنا
…
والليالي مثلما كُنَّا سُكارى
ما الذي أغراكَ يا دهري بنا
…
فأحلتَ العُمر همَّا وادكارا
وتوارت بسمةٌ في شفتينا
وانطوى الْحُلم وولى من يدينا
يا حبيبي هل لأيامي الخوالي
…
عودةٌ نحيي الذي ولّى وغابْ
منْ أمان باسمات وليالٍ
…
كنَّ أحلى من جني الخمرِ المُذاب
فنغُنِي مثلما كُنا نغني
فوق أغصان الشبابِ المطمئن
بين صفوٍ ونعيمٍ وشراب
مصطفى علي عبد الرحمن
البريد الأدبي
إلى السيد حسن القاياتي
قرأت خطابك إلي فوجدته دون ما يحسن صدوره عنك، وإلا فكيف جاز لك التوهم بأني أقول فيك ما دونته بقلمك نقلاً عن أراجيف المرجفين؟
أنا أقول إنك أديب خلقته الظروف، وألاعيب مصطفى القاياتي في السياسة؟
هذا الكلام لا يقوله من يعرفك، كما أعرفك، وهو أيضاً كلام لا يقوله صديق في صديق، وأنت تعرف جيداً أني لا أقبل إيذاء أصدقائي بمثل ما نقل إليك، ولا بأيسر مما نقل إليك، فأقطع ألسنة الدساسين، واحفظ ما بيننا من العهود. احفظ أنت، أما أنا فكما عهدت، ولن أتحول ولن أخون
ثم تطلب إلى أن أسأل نفسي عن الصلات التي كانت بيني وبين الدار القاياتية، وأنا أوجه مثل هذا السؤال إليك، فما أظنكم عرفتم رجلاً أصدق مني، ولا أحسبك تنسى أنني أديت للشيخ مصطفى جميلاً يفوق الوصف ويفوق الجزاء، وهو جميل سجلته أنت بقلمك في مجلة الكشكول سنة 1924 بإمضاء (العقوق) يوم كان إيذاء الشيخ مصطفى من هواك
أينما أوفي لذكرى هذا الرجل: أنا أم أنت؟
لو نطق التاريخ الأدبي لقال إني لم أكن راوية يوم عرفت داركم، وإنما كنت أستاذاً يساعد على خدمة أدبية تعرفها الجامعة المصرية، يوم اختارت الشيخ القاياتي خلفاً للشيخ المهدي
وتقول إنك أعددت عشرين مقالاً في نقد كتاب (النثر الفني) وأنك ستنشرها في الرسالة إن ضمنت أنها لا تجاملني، وأنك تنتظر مني كلمة الحق
وأقول إن الرسالة لا تجامل أحداً، فقدم إليها في نقدي ما تريد. ثم أقول إن هذه الكلمة هي كلمة الحق، فانقضها إن كنت تطيق
وجاء في كلامك أن لي في الأدب ألاعيب وترهات، فمتى كان ذلك؟
أنا يا صديقي لا ألهو في الأدب ولا ألعب، فجد الأدب جد وهزله جد، ولا يصدر عن قلمي إلا ما يرضاه وجداني
أما بعد فهذا ما تقرأ لا ما تسمع، فخذ عني ما تقرأ ودع ما تسمع، فما أذكر أني حادثت أحداً بالقاهرة منذ شهور طوال، ولا أذكر أنك خطرت في بالي قبل أن تنقل إلى (الرسالة)
خصامك العنيف، يا أعز الخصماء
أنا ما أسأت إليك، وإنما أسأت أنت إلى نفسك بكسلك. ومع هذا تقول إن اللغة العربية لن تجد من يذود عن حماها غير قلمك، ونحن نعرف طاقتك في البيان
توكل على الله وانفض الغبار عن نفسك المكسال، فقد تصبح ولك مثلي ترهات وألاعيب. وليس من العسير جداً أن تكون في منزلة الكاتب الأول والشاعر الأول.
زكي مبارك
الشعر العربي في المهجر
قرأت رأي الأستاذ الظريفي في تعليل طابع الشعر في المهجر، وأقرب إلى المعقول هو رأي قديم لي سبق أن أبديته في مناسبات أدبية لأفراد الجالية اللبنانية بكوم حماده، وخلاصته أن هذا الأدب هو صراع عنيف بين عقليتين متباينتين: عقلية الشرق بما فيها من روحانية وسمو وتوكل، وعقلية مادية قاسية لا ترحم المتواني (خصوصاً في أمريكا الشمالية حيث ظهر معظم أدباء المهجر)، وكان نتيجة هذا الاصطدام الحنين إلى حياة الشرق بما فيها من دعة وبساطة، وهذا الحنين ظاهر في حياة أقطاب مدرسة المهجر، فكتابات جبران الإنجليزية والعربية تترجم عن ذلك بجلاء؛ وكأني به يريد أن (يمشرق) أمريكا قبل أن (يتأمرك) وهو وأبناء جلدته. وقد أقبل الأمريكان على فلسفته إقبالاً لا نظير له أصاب منه ثروة لا يحلم بها أديب من أدباء العالم. ومن دواعي عظمة هذا الرجل أن طبيباً عالماً من كبار أطباء إنجلترا وفيلسوفاً يشار إليه بالبنان هو هافولك إليس كان يستشهد بأقوال جبران في كتابه العظيم (سيكلوجية الحب) ويدعوه بالشاعر النبي، ومع هذا الجاه كان جبران يحن إلى الشرق بقلبه وروحه ويود لو أمضى بقية أيامه في وطنه بين أحضان الطبيعة. وقد فاوض ذوي الشأن في شراء دير ماري سركيس بلبنان ليكون مقامه ولكن المنية عاجلته وقد نقلت إليه رفاته
مثل ذلك ما فعله ميخائيل نعيمة فقد أصاب ثروة في أمريكا ولكنه آثر الدعة والبساطة فعاد إلى وطنه وعاش في صومعة في جبل صنين
ومنذ ربع قرن زار مصر فيلسوف الفريكة أمين الريحاني وقال في حفلة تكريمه قصيدته
المنثورة المشهورة: (أنا الشرق عندي فلسفات) وقد طلعت علينا وقتئذ مجلة السفور تندد بأدبه، ومع أنه نال حظاً وافراً في دوائر الأدب والنقد في أمريكا كان يفر إلى منسكه بالفريكة كلما بهظه ثقل مادية أمريكا
هذه ظاهرة جلية لا يمكن تعليلها إلا بما أبديت من رأي. وما أشبه أدباء المهجر بروسيا فقد أخذت من الغرب مدنيته، ولكنها ظلت شرقية بروحها. وكان نتيجة هذا الازدواج أن أخرجت كتاباً ملهمين أمثال تولستوي ودستفوسكي وتشيخوف تفيض كتاباتهم بالروحانية
(كوم حمادة - بحيرة)
كامل يوسف
عضو بالمعهد البريطاني للأبحاث الفلسفية بلندن
1 -
إلى الأستاذ قطب
ألم تصدق إذن أن أعصاب الأدباء فائرة ثائرة؟ وهل عدوت الحق حين أشرت إليك تلك الإشارة اللطيفة الخفيفة فحملتك الحق فيما بدر منك في حق محاورك حين أضفته إلى سيداتنا وحبات قلوبنا (النساء). ومع هذا فقد لمتكما معاً فيما تراشقتما به من ألفاظ السماجة أو الصفاقة والمهاترة والغمز واللمز، مما كانت أجلكما عن الوقوع فيه. . . لولا هذا الصيف الجائر الذي جعلك تقول في حبيبك وصيفك - دريني خشبة - إنه رجل عامي في ذهنه وفي نفسه. . . وفي معايير أخلاقه!! بارك الله لك يا شيخ سيد في ذهنك وفي نفسك وفي معاييرك الأخلاقية. . . وبارك الله لك في هذا اللسان الطويل العريض الذي سينعقد لمحاكمته جلسة في المكان الذي تعرف، ومن الأصدقاء المحترمين الذين تعرف وأعرف، ليقفوك - أو ليقفوني! - عند الحدود التي أنساك الصيف، كما أنسى الكثيرين من الأدباء، أشراطها
2 -
إلى شعراء الشباب الاماجد
إلى أخواني المحترمين باكثير والقاياتي وفوده والعجمي، والى جميع شعراء الشباب الذين سهوت فلم أذكر أسماءهم في مقالي عن الدرامة المنظومة والمسرح أقدم اعتذاري. ولن
ينقصني جهلي بمجهودهم فضلهم الأدبي الذي لا يجحد. وأشكر الأستاذ الفاضل محمد عبد الغني حسن تلك الالتفاتة الكريمة الذي تدل على سمو إدراكه الأدبي، والتي تجلت في إشارته إلى أخي الأستاذ باكثير ذلك الشاعر المجد المجاهد الذي تفضل فكتب إلي ليرأب ما انصدع من مقالي، ولسوف أفرغ لدرامة الأستاذ باكثير في فصل أو أكثر من فصل إن شاء الله. وسيرى المظلومون كيف تنصفهم الرسالة في القريب العاجل. أما الأستاذ فوده - ذلك الصديق العزيز - فأستعيذ بالله من (مقالبه!) ومع أني أقر بفضل شاعرنا القاياتي في المنظوم والمنثور فإني آسف إذ لم أسمع عن درامته شيئاً. وأعود فأقول إن جهلي بها لا ينقص من قيمتها، والقاياتي الشاعر، وعماد الشاعر، والناشر الشاعر والصيرفي الشاعر، والأسمر الشاعر، والعشرات من شعراء الإسكندرية والأقاليم، والمئات من شعراء الإلزاميين، ليس هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى الإشادة بذكرهم في مقال لم يقصد منه إلى الحصر ولكن قصد منه إلى التمثيل. . . وأوشكت هنا أيضاً أن يفوتني ذكر الشاعر السيد قطب فتسود معي وقعته أكثر مما اسودت، وهو الشاعر الذي أحب شعره جدا بمقدار ما أمقت نثره جداً. . . متى يا ترى ينهض هؤلاء الشعراء جميعاً بحمل أعباء نهضتنا الشعرية وتزويد هذه النهضة بالدرامات والملاحم؟
3 -
إلى أخي الأديب كمال نشأت
يا أخي لقد ظلمت في كلمتك بيئتنا وظروفنا وأحوالنا وأغلبية شعبنا الذي لم تستثن منه الأقلية المتنورة. . . ولقد ظلمت أيضاً ممثلينا جميعاً فلم تستثني منهم أحداً حين رميتهم بالأمية الشنيعة. يا أخي لقد ألف شوقي رحمه الله دراماته فأقبل الشعب يجمع طبقاته على شهودها وسر منها وتقبلها أحسن القبول، والذين مثلوا تلك الدرامات أحياء غير أموات، وقد بلغوا بتمثيلها الذروة. ولم يكونوا يلحنون أبداً، ولم يكونوا يكسرون الشعر قط، ونحن حين ننكر عليهم تلك الإجادة نظلمهم ونبخسهم بطولتهم التي لو ظهرت في أمة أخرى لرفعتهم إلى عليين ولأقامت لهم التماثيل. . . يا أخي بحسبك ما يشقى به ممثلونا من شقاء مادي فلا تنكل بهم تنكيلاً أدبياً. . . يا أخي لا تنكر أن ممثلينا يوسف وهبي وأحمد علام وزكي طليمات وحسين رياض وفتوح نشاطي وأمينة رزق ونجيب الريحاني وعبد الفتاح القصري ومختار عثمان وفاطمة رشدي وأنور وجدي وغيرهم ممن تضيق تلك الكلمة عن
إحصائهم. . . أولئك الممثلون الذين لا نعرف كيف نجزيهم وهم لا يقلون عبقرية عن أحسن الممثلين العالميين. لقد ذكرت في إحدى مقالاتي أن نسبة المتعلمين في إنجلترا في عصر إليزابيث لم تكن تزيد عنها في مصر اليوم، فلم يمنع هذا من ظهور شكسبير وبن جونسون وأضرابهما، ولم تمنع من ازدهار المسرح الإنجليزي الذي كانت كل دراماته شعرية في ذلك الحين. . . يا أخي لا تكن ظالماً وأوص من حولك بالإحسان إلى الممثلين
دريني خشبة
إلى الأستاذ. . .
إلى هذا المجهول العلم الذي تفضل فنشر بالرسالة (عدد 529) كلاماً على لساني موجهاً إلى الأستاذ دريني خشبة حول مقاله: (المسرح المصري والدرامة المنظومة)
أما آرائي في بحوث الأستاذ خشبة فأحسب أن ما بيني وبينه من أواصر الصداقة والود يجعلني أوثر مشافهته
وأما أن يتفضل كاتب كريم فيذيل كلاماً باسمي وعنواني لم أقله، ولم أحرره، فقد مضى زمن - وما يزال - وهذه البراعة المبرقعة حياء في خدمة الكرام الكاتبين، وما كانت يوماً بحاجة إلى عون سواها للتعبير عن رأي لصاحبها، أو فكرة لحاملها
وأتقبل بشكر وسرور هذه المداعبة الظريفة. والى اللقاء
(المجمع اللغوي)
علي فوده
بين الشيخ شاكر والسيد رشيد
ذكر الدكتور مبارك في كلمته التي نشرتها الرسالة بالعدد (523) عن روح الشيخ رشيد أن فضيلة الشيخ محمد شاكر (كتب) إلى الشيخ محمد عبده يدعوه إلى كف يده عن رعاية الشيخ رشيد رضا، فكان جواب الأستاذ الإمام:(كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار وهو ترجمان أفكاري)
وقد ذهب الدكتور إلى أن الشيخ شاكر إنما فعل ذلك لخصومة بينه وبين السيد رشيد، ثم
أخذ يعلل هذه الخصومة ويبين ما كان عليه هذا الشيخ من العنف وشدة العداوة الخ
ولكن الأمر يرجع إلى غير ما ذهب إليه الدكتور. ذلك أن الخديو عباس كان قد غضب على السيد رشيد لأمور لا نطيل بذكرها، فكلف بطرس غالي باشا والشيخ شاكر لكي يسعيا لدى الأستاذ الإمام في أن يبعد هذا السيد عنه، فكان جوابه لبطرس باشا: (إذا كنت رجلاً ذا قيمة في الوجود فإنما ذلك بأخلاقي لا بوظيفة الإفتاء ولا بغيرها، وأي خلق يكون لي إذا تركت صحبة السيد رشيد لأجل الخديو؟ إن هذا الرجل متحد معي في العقيدة والفكرة والرأي الخ. وكان جوابه للشيخ شاكر تلك الكلمة المشهورة.
هذه هي الحقيقة نبينها للناس وما كان بين الشيخين الجليلين - شاكر ورشيد - إلا كل محبة وولاء. ورحم الله شيوخنا جميعاً
(المنصورة)
محمود أبو رية
تصحيح التصحيح!
متى كان الطعن في شخص الكاتب كافياً لهدم ما قال؟ أليس الأحرى بالأستاذ قطب أن ينصرف إلى الرد على الأقوال بدلاً من الطعن في الأشخاص؟ إن الأستاذ قطب يقول عن زكريا إبراهيم: إنه لا يعلم له أو عنه شيئاً، فهل نسى الأستاذ قول القائل:(لا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال؟) ألا فليعلم حضرة الأديب الفاضل أنه ليس يضيرني أن لا يعرفني مثله، فأنا لا أحفل بمعرفة من هو عند نفسه أكبر من نفسه؛ ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه!
ولست أدري بعد ذلك هل من قواعد المدرسة الحديثة أن يعلن الإنسان عن نفسه على حساب الأدب، فيقول في جرأة غريبة إن في نثره (معاني كبيرة، وأحاسيس عميقة). . . إلى آخر تلك الصفاقة الغريبة التي تفيض بها أيضاً مقدمة ديوان (الشاطئ المجهول)؟! أما الجواب فهو عند الأخلاق الجديدة التي يضعها (لأول مرة) أستاذنا قطب، هادما فيها التواضع الاصطلاحي الكاذب!. . . والرد حاضر أيضاً: فإن التواضع الذي ندعوك إليه - يا سيدي - ليس معناه أن ينزل الإنسان عن مستواه، وإنما معناه أن ينزل إلى مستواه!
زكريا ابراهيم