الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 531
- بتاريخ: 06 - 09 - 1943
ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأديب (إحسان) في مجلة (آخر ساعة) يروي عني أنني قلت له: (. . . يكفي أن يتمتع الإنسان بحريته ليعيش سعيداً حتى لو كان فقيراً، وأن أي نظام أو أية محاولة ترمي إلى إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات إنما هي ترمي في أساسها إلى تقيد حرية الفرد. . .)
ثم سأل الأديب: (ولكن هل يملك الفقير حريته كما يقول الأستاذ العقاد؟ هل أستطيع أنا مثلاً أن أسافر إلى الإسكندرية وألقي بجسدي المتعب على شاطئ البحر كما يفعل صديقي عادل صدقي نجل دولة صدقي باشا!. . . لا نستطيع، لأن حريتنا محدودة بجيوبنا. فالمفلس لا يملك حرية الخروج من منزله والجلوس على القهوة، والذي في جيبه نصف قرش لا يملك حرية إشباع بطنه. . .) الخ. الخ.
وفي نقل كلامي على هذه الصورة شيء من التحريف
لأنني لا أقول إن الحرية وحدها تكفي الإنسان وتغنيه عن الطعام، ولكني أقول إن المذهب السياسي أو الاجتماعي الذي يسلبنا الحرية يسلبنا أعز نعمة في الحياة الإنسانية، بل يسلبنا كرامة الإنسان ويستحق منا المقت والازدراء
وأنا لا أقول إن إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات ترمي إلى تقييد حرية الفرد، ولكني أقول إن تقييد الحرية الفردية لإزالة هذه الفوارق نقمة لا يرحب بها رجل كريم
وأنا أدافع عن الديمقراطية لأنها تؤمن بحرية الفرد وتصلح الناس إصلاح الأحرار المكلفين لا إصلاح العبيد المسخرين
ولكني أمقت المذاهب السياسية الأخرى لأنها تسلب الحرية الفردية ولا تحل المشكلة الاقتصادية، فتحرمنا الكرامة ولا تكفل لنا الطعام، وهذه هو الحرمان الذي لا عزاء فيه ولا موجب لاحتماله، والصبر عليه إلى زمن طويل
فالنازيون والفاشيون والشيوعيون يستغفلون الناس حين يقولون لهم إننا سلبناكم الحرية ولكننا أرحناكم من البطالة ودبرنا لكم الرزق بتدبير الأعمال، لأنهم في الواقع كاذبون فيما زعموه من تدبير الرزق وتدبير العمل، وإن كانوا صادقين جد الصدق فيما أعلنوه من سلب
الحرية وتسخير الكرامة الإنسانية
والنازيون اليوم يحتاجون إلى مليون عامل بل مليونين بل إلى ثلاثة ملايين لو وجدوهم من الألمان أو غير الألمان
يحتاجون إليهم ويبحثون عنهم ويغتصبونهم اغتصاباً من كل مكان حكموه أو سيطروا عليه
فهل نسمي حاجتهم هذه إلى العمال نجاحا في كفاح البطالة وتدبير الأرزاق؟
وهل هذا هو العمل الذي يريح الفقراء من أعباء الفقر ويتيح لهم الاصطياف على شواطئ الإسكندرية؟
فكفاح البطالة على هذا المنوال هو الكفاح الذي يستطيعه النازيون والشيوعيون والفاشيون، وهو الدواء الذي يربى في الشر والبلاء على عشرة أدواء
والنتيجة ماثلة أمامنا لا تذهب بنا إلى بعيد
فالحرب الحاضرة وما جلبته على الناس من الكرب والألم والضيق والغلاء هي ثروة العلاج الذي دبره النازيون والشيوعيون والفاشيون لمشكلة البطالة وأزمة الأرزاق
وقد استطاع النازيون وأمثالهم أن يديروا المصانع ويستخدموا الأيدي العاملة لأنهم أداروا المصانع جميعها على تحضير السلاح وأدوات القتال
فاستراح الشعب الألماني من مليون عامل عاطل بضع سنوات، ولكنه عرض للقتل خمسة أو ستة ملايين من أولئك الفقراء في سنة واحدة، وسيخرج من الميدان وفيه عشرة أضعاف العاطلين الذين كانوا فيه قبل دخوله، والى جانبهم عشرة أضعافهم من القتلى والمفقودين والمشوهين
أي حل هذه لمشكلة البطالة؟
أي علاج هذا الذي يريحك من مليون عاطل بخمسة مليون قتيل، ثم يصبح الشعب كله أو جله من العاطلين؟
وليست المسألة هنا مسألة النظام السياسي الذي يطلقون عليه اسم النازية أو اسم الشيوعية أو اسم الفاشية أو اسم العسكرية اليابانية، فإن النظم السياسية جميعاً تتساوى في هذه القدرة متى لجأت إلى تشغيل الأيدي في الذخيرة والسلاح، وإن الديمقراطية لأقدر من المذاهب الأخرى على تشغيل الأيدي جميعاً في إبان الحروب التي تساق إليها كما نرى الآن في كل
مكان رأي العين. فلا ينبغي إذن أن يقال إن تدبير الرزق بالإكثار من مصانع السلاح والذخيرة مزية من مزايا هذا النظام أو ذاك، فهي مزية ميسورة لكل من يختار هذا العلاج أو يندفع إليه، ولا يزال من المحقق بعد هذا كله أن الديمقراطية تفضل المذاهب الأخرى من شتى نواحيها، لأنها تعترف بالحرية الإنسانية ولا تعجز عن علاج مشكلة البطالة على هذا المنوال حين تشاء
وبعد فأين هو النظام السياسي الذي يسمح لكل من شاء أن يسافر إلى الإسكندرية ويلقي بجسده المتعب على شاطئها؟
هب الفوارق الاقتصادية قد زالت كل الزوال ولم يبق في الأرض إلا أنداد متساوون في الثروة والقدرة على المتاع وأراد هؤلاء أن يذهبوا إلى الإسكندرية فكيف يذهبون؟
أيذهبون إليها بالبطاقات على حسب الدور؟ أي يذهبون إليها دفعة واحدة في أسبوع واحد؟ إنهم على كل حال مقيدون بالإمكان الذي لا سيطرة لهم عليه، ولو استراحوا من تفاوت المراتب واختلاف الأرزاق
يروي أبناء البلد قصة طريفة عن الكلب الرومي والكلب البلدي اللذين اصطحبا على الخير والشر وذهبا إلى سوق الجزارين يبغيان الرزق من وراء الأوضام والسواطير
ذهبا أولاً إلى سوق الروم فإذا الحواجز قائمة على الدكاكين وإذا هي لا تبيح مدخلها لإنسان ولا حيوان بغير حساب، وإذا العظام فيها توضع حيث تصان عن الخطف والاختلاس
وقال لهما صاحب الدكان (إكسو) فخرجوا محرومين جائعين، وطافا النهار على الدكاكين ولم يظفرا بغير إكسو التي يعقبها نذير الخطر، أو بالقليل من العظم المنبوذ الذي لا خير فيه
ثم أصبحا من الغداة على سوق أبناء البلد فلم يحجزهما حاجز عن اللحم والعظم ولم يلبثا هنيهة حتى أصابا الشبعة من اللحم والعظم بغير نصب، وسرهما أن يسمعا صاحب الدكان يقول لصبيه (ناوله) ويشير إلى الكلب الرومي الذي أوغل في داخل الدكان بغير مبالاة لاغتراره بقلة الحواجز والحراس، فحسبا أنها مناولة إكرام وضيافة تغنيهما عن التسلل والاختلاس، وانتظرا هذه المناولة انتظاراً غير طويل، لأن الكلب المسكين لم يشعر بعد ذلك إلا بضربة من الساطور أوشكت أن تقصم صلبه، وانطلق يعوي على غير هدى وهو
يقول لصاحبه الذي طفق يناديه ويستعيده: لا لا يا صديقي. . . (عشرة إكسو ولا واحد ناوله. . .)
والدجالون أعداء الديمقراطية قد لبثوا سنين عدة وهم يرفعون العقائر بحرب البطالة وهم يزعمون أنهم خلقوا عملاً لكل مستطيع لأنهم أداروا معظم المصانع على صنع الدبابات والمدافع والطائرات وأدوات الهلاك
وانظر أيها العالم الذاهل لقد هبط عدد العاطلين من ثلاثة ملاين إلى مليون!
وانظر مرة أخرى لقد هبط العدد من مليون إلى مئات قليلة من الألوف!
وانظر مرة أخرى لقد خلص الوطن من العاطلين أجمعين، وزاد على ذلك أن استدعى إليه الملايين من عمال الأجانب المسخرين
ثم أفاق العالم من ذهوله على أضعاف أولئك العاطلين مقتولين ومجروحين ومشوهين، ولن تنقضي مدة حتى تنجلي الهزيمة عن أضعاف أضعافهم من المساكين عالة على أوطانهم وعلى العالم كله عدة سنين
وهذه هي (المناولة) التي يحسنها الدجالون من أعداء الديمقراطية، ويسمونها علاجاً لمشكلة الأرزاق، وتسوية بين الطبقات، وليست هي من ذلك في كثير ولا قليل
خير من كل علاج كهذا العلاج أن يقوم المجتمع على تعاون الطبقات فيفرض المعونة على القادرين لينتفع بها الضعفاء حقاً مفروضاً لهم في رقاب الأمة أو الدولة، وأن يفتح للفقير باب السلم فيصعد عليه إلى الذروة حيثما استطاع، وأن يتسابق العاملون في ميدان الحياة كما يتسابق الأحرار ولا يستكينوا فيها كما يستكين العبيد
فالكرامة الإنسانية تأبى أن تحل مسألة الأرزاق كما حلتها مصالح السجون في العالم المتمدن بأسره: كل مسجون ينام وهو شبعان، وكل مسجون له عمل يحرك به يديه، وكل مسجون يكسو جسده ويأوي إلى سقف يظله ويعرض نفسه على طبيب
ولكنه لا يحسد على هذا النصيب
والعقل الإنساني يأبى أن تحل مسألة الأرزاق بالإكثار من مصانع الذخيرة والسلاح، لأن علاج البطالة بالموت والخراب طب مجانين
إنما الكرامة والعقل أن نحفظ الحرية وأن نطلب الرزق مع الحرية، وأن نؤمن بأن أخطاء
الديمقراطية في تدبير مسألة الأرزاق أسلم من صواب مزعوم لا يثبت على التجربة برهة حتى يعصف بكل ما أفاد، إن صح أنه أفاد.
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
حياة الأديب - الصديق - قلدوا قلدوا - الشيخ المراغي -
النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة
حياة الأديب
دعيت لإلقاء خطبة في تأبين المرحوم عبد الحميد الديب فأجبت، وكانت نيتي أن أقول رأيي علانيةً في الحياة التي يحياها مثل ذلك الأديب، لئلا يكون الإكثار من الثناء عليه إغراء لذلك اللون من الحياة القفراء
ثم رأيت الحفلة فوق ما كنت أنتظر، فقد اشترك فيها خطباء وشعراء من الطراز الجيد، وحضرها جمهور من أفاضل الناس، وتلى فيها خطاب أرسله وزير الشؤون الاجتماعية وخطاب أرسله وزير الأوقاف. وتلك مظاهرة أدبية تمنع ما أردت أن أقوله في نقد الحياة التي اختارها ذلك الشاعر المسكين
ولكن هذه المظاهرة بدت لي باعثاً جديداً على أن أقول ما نويت أن أقول، فقد تجسم التخوف من شيوع البوهيمية بين فريق من أدباء الجيل الجديد، وخفت أن تكون هذه المظاهرة دعوة إلى تحلل الأديب من واجبات الحياة في نظامها اللائق بأهل البيان
وكذلك انطلقت فقلت: إن عبد الحميد الديب كان على جانب من الأدب والذكاء، ولكنه ظلم نفسه حين انخدع بالرأي المنحرف، وهو رأي من يتوهمون أن البؤس يذكي المواهب، ويزيد من يقظة العقول. وقد آمن بهذا الرأي إيماناً فرض عليه أن يجعل همه في الوصول إلى الظفر بلقب (شاعر البؤس)، وهو لقب لا يتمناه لنفسه إلا من حرم نعمة التوفيق. وماذا جنى عبد الحميد الديب من ذلك اللقب الطنان! كل ما جناه أن يعيش في رحمة المترحمين، ولا يحتاج إلى الترحم غير المساكين، وإذا كان الأدب لا يمتع أهله لغير المسكنة فعليه اللعنة إلى يوم الدين!
ثم قلت:
أين الشريعة التي توجب أن نذل أنفسنا في سبيل الأدب؟
وما قيمة الأدب إن لم يجعلنا أعزاء؟
وما هذه الخرافة التي تقول بأن من حق الأديب أن يعيش بلا مهنة تغنيه عن سؤال الناس؟
وكيف نهدي الناس إلى الخير ونحن نستهديهم المال؟
هل ننسى قول أبي العتاهية:
لو رأى الناس نبيَّا
…
سائلاً ما وَصَلوهَ
إن الاحتياج إلى الناس بداية الانخذال، ولو كانوا من الأهل والجيران، فإن احتاج الأديب إلى معونة إخوانه وهو قادر على كسب الرزق بعرق الجبين فهو أديب زائف لا أديب صحيح
من واجب الأديب نحو أدبه أن يصونه عن إفضال المفضلين، لينطق بكلمة الحق في حرية وصراحة وإخلاص، وهذا لا يتيسر للأديب المحتاج إلى الإفضال
هل تذكرون ألقاب شعرائنا وعلمائنا في العصور الخوالي؟
كانت ألقابهم أنساباً إلى الحرف والصناعات، ففيهم الزجاح والقفال، والتمار والوقاد، والصبان والبنان والسراج والحداد والزيات واللبان، وكانت هذه الأنساب من أجمل التشاريف، وهي باقية على الزمان
وإذا كان التاريخ سجل أسماء تكسب أصحابها بالأدب فقد كان أولئك المتكسبون من حواشي الملوك. وقد اصطلح الناس بكل زمان ومكان على أن هبات الملوك تحيات لا معونات
وهل يتقدم ملك بتشجيع أديب إلا وهو يعرف أنه يضع جوهرة جديدة بين جواهر التاج؟
وما حظوظ الأدباء الذين ظفروا بهبات الخلفاء والملوك والأمراء؟ ما حظوظهم في التاريخ؟
كانوا من الموجهين في الحيوات السياسية والأدبية والاجتماعية، وكان إليهم المرجع في تدبير شؤون الملك، وكانوا المتصرفين في شؤون السلم والحرب
فما هو حظ الأديب الذي ينتظر هبات من أدباء لا ملوك؟
أعاذكم الله من احتياج الزميل إلى الزميل!
إن قتل النفس أهون من الاحتياج إلى الأخ الشقيق، فكيف نستسيغ الاحتياج إلى الرفيق؟
وفي أدبائنا من يتوهم أن نظم أبيات في هذا الفلان أو ذلك العلان تمنحه الرزق، فإن صح توهمه فسيكون رزقه من الرزق الحرام لا الحلال
إن رزق الأديب من الذوق، واللمحة الواحدة من طلعة البدر قد تكون زاده الروحي إلى آخر الزمان
إن الأديب الحق ليس أسيراً للوطن ولا أجيراً للمجتمع، فكيف يكون أسيراً لفلان، أو أجيراً لعلان؟
وعبد الحميد الديب لم يقتل نفسه عامداً متعمداً، فأنتم خدعتموه وضللتموه، وفرضتم عليه أن يستغيث بمعروفكم يا أشحاء!
تقول العبارة المصرية (فلان يقتل المقتول ويمشي في جنازته) وأنتم القتلة لذلك المخلوق الذي وثق بكم، وأنتم حملة المصاحف أو القماقم بجنازته العجفاء، فما قيمة براعتكم في الرثاء!
إن دموعكم يا قاتليه لن تنجيكم من غضبتي عليكم
فاسمعوا هذه الكلمة، واعلموا أن بكاءكم في هذا الاحتفال سيمر بلا ثواب، وقد يكون مجلبة العقاب، لأنكم تزينون لسامعيكم حياة لا ترضونها لأنفسكم إلا مكرهين
ثم قلت: وماذا في خطاب وزير الشؤون الاجتماعية؟
إن فؤاد باشا سراج الدين يعد بأن سيضع نظاماً يقي الأدباء شر التشرد، وأنا باسمكم أعلن استقلال الأدب عن الحكومة، فما يجوز أن نطلب الاستقلال لبلادنا ونطلب الحماية لأقلامنا
إن تطوعت الدولة برعاية أديب أعجزه المرض عن طلب الرزق فذلك عمل يستأهل الثناء، ولكننا نرفض حمايتها لأديب يستطيع كسب القوت، ولو بالفأس والمحراث
نحن لا نطالب الدولة بشيء وإنما نطالب أنفسنا بكل شيء، فمن الواجب أن تكون لنا مشاركات في جميع الميادين، ومن الواجب أن نكون رجال أعمال، كالذي صنع شيخنا طلعت حرب، فقد حول ذوقه الأدبي إلى الاقتصاد. وبهذا استطاع أن ينظم أعظم قصيدة عرفتها اللغة العربية، وهي (بنك مصر) ثم أردف القصيدة بمقطوعات هي تلك الشركات
وإذا بدا لنا أن ننسحب من ساحات الثراء فليكن انسحابنا عن زهد لا عن يأس، ولنكن في فقرنا نساكاً لا عاجزين، فالنية التجرد عن الدنيا نية مقبولة، على شرط أن تكون من وحي التحليق لا وحي الإسفاف
إن الأمم القوية تستطيع تلوين الأنظمة السياسية بشتى الألوان، وتستطيع أن تبلغ صوتها
إلى آفاق الشرق والغرب، وتستطيع أن تعقد المعاهدات وتثير الحروب، ولكنها لا تستطيع خلق الأديب، لأن الأديب لا يخلقه غير فاطر السماء
الدنيا لنا، إن شئنا، فالمواهب الأدبية أعظم المواهب، ولو بذلنا في طلب الدنيا معشار ما نبذل في طلب الأدب لكنا أغنى الناس، فلتكف الدولة برها عنا، فنحن كأشجار الصحراء، لا نرجو غير ندى السماء
أيجود الله علينا بالأدب ويبخل بالرغيف؟
قولوا كلاماً غير هذا، فلن يتخلى الله عنا، وسنظل بفضله أغنى الأغنياء
الصديق
في هذه اللمحة صلصل الهتاف مؤذناً برحيل الأستاذ طه الراوي عن القاهرة بعد دقائق، فما الوسيلة لتوديع رجل كانت داره ولن تزال دار المصريين في بغداد؟
حين تقرر سفر الأستاذ صادق جوهر إلى العراق كان من الواجب أن أقابله أنا والدكتور عبد الوهاب عزام لندله على أصدقائنا هناك، وقد دللناه على رجلين: طه الراوي ورضا الشبيبي، مع حفظ الحقوق لسائر من عرفناه من كرام الرجال بوطن دجلة والفرات
وقد كان عجباً للناس أن يروني أذكر العراق بالخير في كل وقت، وفاتهم أن يعرفوا أن المصري حين يشرق لا يكون همه إلا معرفة الكنوز المجهولة من فضائل الشرق
ونحن عرفنا العراق، فهل رأينا فيه غير الجميل؟ ولنفرض أن فريقاً ممن عاشوا في العراق عانوا بعض المتاعب، فمتى خلت الحياة مما يكدر الصفاء؟
وهل نجد السعادة كاملة في أي أرض حتى ننشدها كاملة في العراق؟
إذا عز علي أن أصافح الأستاذ طه الراوي وهو راجع إلى بغداد فلن يعز علي أن أخلق ألف فرصة وفرصة للحديث عما يتحلى به من شمائل وآداب
قلدوا قلدوا
كان الأستاذ عبد الجبار الجلبي قد صارحني بأنه غير راضٍ عن القاهرة، لأنها أصبحت صورة منقولة من المدائن الأوربية، وقد أجبت بأن مزية مصر هي سرعة النقل، وقد نقلت مصر فكرة الانتفاع بالسكك الحديدية قبل أن ينقلها الأتراك، مع أنها كانت في ذلك الوقت
ولاية تركية
وحين دخلنا سنتريس قال السيد عبد الجبار: إن مدخل سنتريس مدخل قرية أوربية لا قرية شرقية، فكيف انتقل التقليد إلى الريف؟
فأجاب الأستاذ الراوي: لقد حان الوقت لتبديد النصيحة السخيفة، نصيحة من يقول: لا تقلدوا مثل القرود، فكما كان القرد أذكى من الحيوان إلا لأنه يقلد كما يقلد الإنسان، وهل كان الحمار حماراً إلا لأنه يغفل عن التقليد؟ وهل أفلحت إنجلترا إلا بتقليدها ما يجد من الاختراعات الأوربية والأمريكية؟ قلدوا مثل القرود، ولا تغفلوا غفلة الحمير، فنحن نرى قرداً يعلو ظهر حمار، ولا نرى حماراً يعلو ظهر قرد
الشيخ المراغي
في محطة القاهرة رأينا شيخاً من بعد، فقال ضيوفي؛ من هذا الشيخ المهيب؟ فقلت: هو الشيخ المراغي، فتعالوا نسلم عليه، لتقولوا إنكم سلمتم على شيخ الأزهر الشريف
وأسرعت فاستوقفت الشيخ ليسلم عليه ضيوفي، فقال الشيخ حين رآهم: هل جئتم للسؤال عن طبيب ليلى المريضة في العراق؟
فقال الأستاذ الراوي: يا سيدي، إن الناس (يقولون ليلى في العراق مريضةٌ) هم يقولون، يقولون
فهتفت: وأنا أيضاً أقول، وليلى تفهم ما أريد
وفي القطار قال الأستاذ الراوي: إن الأزهر لم ير مثل الشيخ المراغي منذ ثلاثمائة سنة. فقلت: وهل تنسى الشيخ محمد عبده؟ فأجاب: الشيخ محمد عبده شخصية دولية لا أزهرية، ولو كان الشيخ عبده في صبر الشيخ المراغي لأتى في إصلاح الأزهر بالأعاجيب. إن الشيخ عبده كان ثائراً، والثوار لا يسلمون من أذى الجهلاء، أما الشيخ المراغي فهادئ، وهدوء المصلحين يشبه هدوء الينابيع المطمورة في جوف الأرض، فهو يتحرك والناس يظنونه في سكون. ولقد قرأت له كلمات في تفسير بعض آيات القرآن تضعه في الصف الأول بين رجال الاجتهاد
قلت: والحكم بأن الأزهر لم ير مثل الشيخ المراغي منذ ثلاثمائة سنة فيه جور على أسلافه من الأكابر، وفيه جور على الذاتية المصرية، وسأدعو الأستاذ الأكبر إلى وضع كتاب
تسجل فيه المناقب الكريمة لمن تولوا مشيخة الأزهر الشريف
النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة
منذ أعوام أخرج الأستاذ إبراهيم مصطفى بحثاً طريفاً سماه (إحياء النحو) فرد عليه الأستاذ محمد عرفة بكتاب جيد سماه (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة)، ومن ذلك البحث وهذا الكتاب ظفرنا بثروة أدبية تذكر بالجهود الكريمة للنحاة القدماء
وكان المنتظر أن يتشعب الجدل بين هذين الرجلين، وأن تثور حرب نحوية تنتهي بأن يكون للمصريين مذهب في النحو ينافس مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين
ثم لاحت فرصة الجدل حول (تيسيير النحو)، فظهرت أبحاث تبشر بطلائع جديدة في الدراسات النحوية، وتبعتها تعقيبات في الجرائد العراقية والسورية
ثم ماذا؟ ثم سكتت الأصوات، وانصرف المجادلون عن حومة الجدال، مع أن النحو لن يحيا إلا إذا صيرناه من المشكلات العقلية، لنجذب إليه أنظار المتأدبين، ولننفض عنه غبار الخمول، فهل نرجو أن تثار معركة النحو من جديد؟
زكي مبارك
1 - نشأة الدرامة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
لا نرى بدا، ونحن ندعو إلى سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، من أن نضع موجزاً نافعاً عن نشأة الدرامة في كل من الممالك الأوربية بين أيدي أدبائنا الشباب الذين نعتمد عليهم في إحداث تلك الثورة في الأدب العربي، أولئك الشباب الذين لم يتيسر لهم تعلم لغة أجنبية ينفذون منها إلى الثقافات الأدبية الحديثة، أو الذين تعلموا إحدى تلك اللغات، ثم صرفتهم شواغلهم الكثيرة عن التفرغ لدراسة آدابها، وأدبها المسرحي بوجه خاص، وسنحاول في هذه الخلاصات أن نجعلها مشوقة مثيرة لحب الاستطلاع في نفوس القراء، بحيث نباعد بينها وبين الجفاء العلمي ما وسعنا إلى ذلك من سبيل. . . أما لماذا آثرنا أن نبدأ بنشأة الدرامة الإنجليزية فذلك لما لها من المنزلة التي لا تجحد بين زميلاتها من الدرامات العالمية؛ ثم لأنها في نظري على الأقل، توائم الكثير من مشاربنا في الحياة بما نتوخاه من الفضيلة، وتفيض به من الرجولة الكاملة، ولأنها في الجملة ذات أغراض عالمية، وأهداف أرفع
وقبل أن نخوض في تفاصيل نشوء الدرامة الإنجليزية، نرى أن نلم شعث هذا البحث الطويل المتشعب في عجالة قصيرة نستعين بها في ضبط الموضوع كله، وإليك هذه العجالة:
1 -
نشأت الدرامة الإنجليزية في طورها الأول في ظل الكنيسة، وكانت تنقسم في ذاك الطور البدائي إلى قسمين، أو إلى نوعين: الأول، النوع الإنجيلي، أو السمعي، وكانت موضوعاته وشخصياته مستمدة من الإنجيل أو الكتاب المقدس بوجه عام. ويسمى هذا النوع بالإنجليزية: أما النوع الثاني فهو القديسي أو الكرامي. وموضوعاته وشخصياته مستمدة من حياة القديسين المسيحيين وكراماتهم ولذلك سماه الإنجلين
2 -
أما الطور الثاني فهو الطور (النقابي)، وهو الذي كان يتولى جميع شئون التمثيل فيه أو من أصحاب الحرف المختلفة، وكانت معظم دراماتهم من النوع القديسي أو الكرامي
3 -
ثم الطور الأخلاقي، وهو الذي ينسخ الدرامات الإنجيلية والقديسية ويحل محلها درامات أخلاقية أبطالها وموضوعاتها الفضائل والرذائل، لا زيد ولا عمرو، فيلبس رجل
لباساً شنيع الهيئة ليمثل الشر، ويلبس رجل آخر لباساً جميلاً ليمثل الخير، وهلم جرا، ويدعي النقاد الإنجليز المسرحيون المحدثون أن المذهب التعبيري الذي قام في ألمانيا قبل الحرب الحاضرة إنما قام على أنقاض هذا الطور الأخلاقي من أطوار نشوء الدرامة الإنجليزية، وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا على المسرح الألماني، وسوف نعود إليه إن شاء الله في حينه. وقد نشأ إلى جانب الدرامات الأخلاقية أو ال كما يسمونها نوع مستقل فكاهي من قبيل (الفواصل) المضحكة التي تعمل في الحفلات عندنا، ولذلك فهم يسمونه: ولا بأس من الإشارة في هذه العجالة إلى أن النوع الأخلاقي إنما نبتت جذوره في النوع الإنجيلي، وذلك لأنه يمثل الجد والوقار والاحتشام الذي يقتضيه الدين ويلازم كل ما له علاقة بالكتاب المقدس. وأن نوع الفواصل إنما نبتت جذوره في النوع القديسي أو الكرامي، لأنه يمثل الهزل ويعنى بالتضحيك والسخرية
4 -
أما الطور الرابع فهو طور المأساة العظيم الذي شق للأدب الإنجليزي طريقه إلى تسنم الذروة بين الآداب العالمية جمعاء
ويلاحظ في هذا التطور أنه يشبه إلى حد بعيد تطور الأدب المسرحي عند اليونان القدماء. . . ذلك الأدب الذي لخصناه لقراء الرسالة منذ ثلاث سنوات.
الطوران الأول والثاني
لما كانت أغلبية الشعب الإنجليزي أغلبية أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولما كان كتاب هذه الأغلبية المقدس مكتوباً لها إما باليونانية أو اللاتينية، وذلك قبل أن يترجم إلى الإنجليزية، فقد كان رجال الدين يلقون الأمرين في تلقين الشعب مبادئ دينه، كما كان يتعذر تلقينهم قصص التوراة وقصص الإنجيل، مما لابد لكل شعب متدين أن يلم به، لما فيه من العبرة والموعظة الحسنة، ولما له من الأثر في غرس محبة الدين في القلوب المؤمنة، والتغلغل به في سويداءاتها. . . من أجل ذلك اضطر رجال الدين إلى استخدام التمثيل وسيلة فذة لبلوغ أربهم إلى ألباب الشعب والوصول في سرعة ويسر إلى تثقيفهم بثقافة كتبهم المقدسة فنجحوا في ذلك نجاحاً باهراً على الرغم من أن جميع الدرامات الإنجليزية التي كان يمثلها القسس أنفسهم في البيع والكنائس إنما كانت تمثل باللغة اللاتينية، تلك اللغة التي كان الشعب قليل الإلمام بها، حالة مسلمي الترك والهند والصين وجاوة اليوم باللغة العربية.
وكان القسس يحافظون بقدر المستطاع على حرفية الكتاب المقدس في التمثيل، وإن كانوا أحراراً في اختيار الملابس التي يرونها لائقة ووافية بالغرض. ولهذا لم تكن الدرامات الإنجليزية تصادف من النجاح وإقبال الشعب ما كانت تصادفه الدرامات القديسية أو الكرامية المستمدة من حياة القديسين وكراماتهم الخارقة، لما كانوا يتمتعون به من حرية في صوغ الحوار وتكييف الحوادث تكييفاً يسهل خلق الجو المسرحي، ويطلق العنان للمبالغة في الأداء لضمان السيطرة على ألباب الجماهير والضرب على أوتارهم الحساسة، ثم لما في الخوارق من عناصر الخيال والخروج على مألوف الحياة العادية مما يضمن نجاح ذلك النوع من التمثيليات بالقدر الذي لا يتفق للتمثيليات الإنجليزية. أما أمثلة الدرامات الإنجليزية فكثيرة. وهي تشمل كل ما جاء في الكتاب المقدس من قصص رائع معروف من الجميع
أما الدرامات القديسية فقد زاد في نجاحها وضاعف من إقبال الجماهير عليها أداؤها بلسان الشعب باللغة الأنجلوسكسونية، وكان ذلك لأول مرة إبان حكم الملك إدورد الثالث (1327 - 1377) أي في منتصف القرن الرابع عشر على وجه التقريب، وهو التاريخ الذي يعتبر بحق فجر النهضة التمثيلية في إنجلترا. وكان لهذه الدرامات مواسم تمثيلية تشبه ما كان عند اليونان منها. وكانت هذه المواسم هي الأعياد الدينية بوجه عام مثل: عيد الميلاد، وعيد الفصح أو عيد القيامة وأحد العنصرة أو ال وعيد الجسد أو القربان المقدس ولا غرو أنه كانت هناك مناسبات خاصة لتمثيل هذه الدرامات، فمن ذلك حفلات الزفاف واستقبال الملوك وقيام الحجاج إلى الأراضي المقدسة والمناسبات السياسية وتدشين البنايات الهامة. . . الخ. . .
ويمضي الزمن، ولشدة إقبال الناس على التمثيل، بحيث لم تعد هيئة الإكليروس كافية للقيام بتمثيل مئات الدرامات التي ظهرت بناء على قانون العرض والطلب، انتقل زمام التمثيل من أيدي القسس إلى أيدي رجال النقابات التي كانت تمثل الطوائف المختلفة للعمال. وهذا هو الطور الثاني الذي ازدهر فيه التمثيل الإنجليزي أيما الازدهار، وذلك لروح التنافس بين هذه النقابات، ولما كانت تلك الطوائف تنفقه من المال والجهد والعناية وتحري أصول الإخراج لتبلغ دراماتها القديسية حد الإتقان، ولما حدث بعد هذا من التنافس بين المدن
الإنجليزية للوصول بتمثيلياتها إلى حد الكمال. فهذه لندن، وتلك دبلن، ثم يورك وشستر وكوفنتري ولانكاستر. . . وكل المدن الكبيرة وكثير من أمهات القرى الإنجليزية، تبذل من العناية والمال في ذلك ما كانت تبذله أثينا من مدن اليونان القديمة. بل ربما زادت عليها كثيراً
وكانت كل نقابة تصنع مسرحاً متحركاً فوق عجلات أربع أو ست، مركب من طابقين يستعمل الممثلون السفلي منهما لتبديل الملابس ولعمل الدمام (المكياج) وتؤدي التمثيليات في الطابق العلوي. وكانت هذه العربة أو ال تطلى بألوان غريبة تلفت النظر، وكانوا يستعينون على تكوين المناظر بوسائل فجة، فكان السحاب مثلاً يرمز إليه بأقمشة داكنة أو بيضاء حسب المنظر المطلوب. فإذا كان المراد أن يبرز ملاك من بين السحب انفجرت سحابتان وبرز من بينهما تمثال خشبي لهذا الملاك؛ أما الشجر فكان يمثل بأشجار اصطناعية، وكذلك البيوت والمدن والقلاع والحصون. كما كان يرمز إلى الجحيم بوجه كبير مسخ، ذي أنف أحمر ضخم، وفم مهول تبرز منه أنياب مرعبة متحركة. أما العينان فكانتا كوتين كبيرتين في هذا الوجه، وكان يوضع خلفهما مشعلان فينفذ اللهب من الفجوتين فيضاعف في شناعة ذاك الوجه. وكانوا يستعينون ببرميل ضخم يطبلون داخله بآله لأحداث صوت الرعد، أما العواصف فكانوا يحدثونها بنفخ قرب كبار تشبه منفاخ الحدادين، ثم يسلطون الهواء المنبعث منها على أقمشة رقيقة فتوهم الأثر المنشود
وكانت الجياد تجر هذا المسرح من حي إلى حي، ومن ملتقى شارع كبير بشارع كبير آخر، ومن ميدان إلى ميدان. وفي كل من هذه (المواقف) تمثل رواية من تلك الروايات القديسية فيجتمع الناس، ويزاحم الشعب بالمناكب، ويتركون متاجرهم مدفوعين بعامل حب الاستطلاع، والتفرج بالمجان بهذه الفرج المليحة التي تنشر الهدى، وتسكب النور في ظلمات القلوب، وتفتح أبواب الجنة للضالين، على حد ما وصف أحد القسيسين تلك المسارح. وكان الجمهور لهذا السبب ينتظر أعياده ويرتقبها بصبر فارغ وتشوف عظيم، لينعم بشهود تلك الدرامات التي يلتمس فيها مثله. وكان التمثيل يبدأ قبيل العيد بأيام وينتهي بعيده بأيام أخرى، ولذلك فطالما كانت الأعياد الدينية تنقلب فتكون مواسم تمثيلية يتثقف بها الشعب ويتصل فيها بالقديسين والشهداء من أبطاله الدينين اتصالاً وثيقاً. وكانت النقابات
تبتكر الوسائل الممكنة للحصول على المال الذي هو عصب كل مشروع يرجى نجاحه، فلما آنست من الناس هذا الإقبال على شهود دراماتها، لم تر ضيراً في أن تنتهز تلك الفرصة لتعرض مشروع (المزاد التمثيلي!) وكان ذلك في سنة 1417 فالحي الذي يعطي مزاداً أضخم من الحي الآخر هو الذي يفوز بتمثيل الروايات فيه، والمنزل الذي يهب النقابة مبلغاً أكبر هو الذي يسعد بوقوف المسرح المتنقل قريباً منه ليسهل على أهله التفرج والاستمتاع في هدوء وراحة وإدلال على الناس
وقد وفقت النقابات إلى تنظيم العمل فيما بينها، وتقسيمه تقسيما لا يضر بكيانها، ذلك الأضرار الذي يسببه التنافس أحياناً مهما يكن تنافساً شريفاً مشروعاً. وكان يراعى في ذلك التقسيم أن تتناسب الدرامات ونوع المهنة التي تمثلها النقابة، ففي عيد الفصح تمثل نقابة الدباغين درامة (سقوط الشيطان) وتمثل نقابة تجار الأقمشة درامة (الخلق والسقوط) & في حين تمثل نقابة السقائين أو نقابة صيادي السمك درامة (طوفان نوح). وكانت بعض هذه الدرامات تنال من استحسان الجمهور ما يقتضي استمرار عرضها وتمثيلها مرات متتالية أياماً متوالية، فقد حدث أن استمر عرض رواية (أمور من قصة خلق العالم) ثمانية أيام متتالية، وذلك في عهد الملك هنري الرابع سنة 1409 في حي إسلنجتن بلندن. ولم تكن هناك أية عناية أو احتفال بالمناظر المسرحية المعروفة اليوم، في حين كانت العناية الفائقة قاصرة على الملابس، والأدوات التي لم يكن بد من استعمالها أثناء الأداء، فهنا كانت النقابات تنفق عن سعة، ففي رواية (يوم العدالة) مثلاً، وهي من أكثر الروايات في الممثلين عدداً، كان الممثلون الذين يؤدون دور (العاصين من أهل جهنم) يرتدون ملابس من الكتان صبغت بالأصفر والأسود والأحمر إشارة إلى الألوان السائدة في الجحيم. أما الممثلون الذين يؤدون دور (الأرواح السعيدة الناجية) فكانوا يرتدون ملابس بيضاً من الجلد الرقيق المدبوغ؛ وإذا تصورنا عدد أولئك الممثلين في مثل هذه الرواية، أدركنا المبلغ الضخم الذي كانت تصل إليه أثمان ملابسهم المصنوعة من تلك الجلود الغالية، وذلك بالإضافة إلى أجور الممثلين التي
كانت تتراوح بين أربعة عشر بنسا وأربعة شلنات، وهي تسوي عشرة أضعافها بعملتنا الحاضرة. . .
ومن الروايات التي كان إخراجها يتكلف كثيراً من النفقات نوع تنكري يسمى الماسك ومنه النوع التنكري الإنجليز المسمى والذي كان الممثلون يرتدون فيه أغلى أنواع الملابس وأشدها بريقاً ولمعاناً - وقد أتى هذا الطراز إلى إنجلترا من إيطاليا ثم انتشر في عصر الملك إدورد الثالث، ثم ألف فيه المسرحي الإنجليزي العظيم بن جونسون الروائع والغرر
ولعل أقدم الدرامات القديسية التي وصلتنا من هذه العصور هي تلك الدرامة المسماة (القديس نيقولا) والتي ألفها باللاتينية أديب إنجليزي من أدباء القرن الثاني عشر اسمه هيلاريوس وقد أهداها إلى كنيسة القديس المسمى باسم درامته. وملخصها: أن رجال الكنيسة في عيد هذا القديس يرفعون صورة القديس نيقولا من موضعها في الكنيسة، ثم يجلس في مكانها ممثل بارع يستطيع أن يضبط حركاته ويحبس أنفاسه بحيث يظن من يراه، بل يتأكد، أنه تمثال وضع هناك للقديس صاحب الكنيسة؛ وحينما تنتهي الصلاة وتعقبها تلك اللحظه من الصمت الرهيب، يقبل رجل كافر لا دين له من أغنياء المدينة، مختالاً في ملابسه الزاهية، حاملاً كيساً كبيراً فيه جواهره ونقوده، حتى إذا وصل إلى حرم القديس ألقى حمله عند قدمي التمثال وسأله في تأدب واحتشام أن يحرسه له حتى يئوب من سفره. . . لكن لصوصاً يسرقون ثروة الرجل. . . ويعود الكافر فلا يجدها. . . ويجن جنونه لهذا السبب، ثم يتناول سوطاً فيلهب به كتفي القديس الذي ينزل من مقامه في تؤدة ووقار على الرغم من السياط التي تمزق جلده ويذهب نحو اللصوص فيخاطبهم ويعظمهم وما يزال بهم حتى يردوا كيس الرجل. . . ويعود القديس إلى مجلسه ويتربع عليه، فيخر الكافر نادماً. . . ويؤمن من فوره.
(يتبع)
دريني خشبة
المشكلات
4 -
اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
في الأمثال العربية - قتلت أرض جاهلها، وقتلت أرضا عالمها - ومعنى ذلك أن من سلك أرضا وكان جاهلاً بطرقها ضل وهلك، ومن سلك أرضا وكان عالماً بمسالكها قطعها ونجا منها. وهذا لا يختص بالأرض والمسافر، بل يعم كل من يزاول أمراً من الأمور، فإن زاوله عالماً به تغلب عليه، وإن زاوله عن جهل خاب فيه
للعلم سلطانه القاهر، والتسلح به متسلح بسلاح الظفر، وللجهل عثراته الموبقة، والمتسلح به متسلح بسلاح مفلول. إن الأمم التي تحل مشاكلها مستضيئة بنور العلم تنجح فيما تحاول، وتتغلب على الصعاب التي تعترضها، والأمم التي لا تستهدي العلم ولا تستشيره في مشكلاتها، لا تكاد تحل لها مشكلة
وما الفرق بين الأمم المتحضرة والأقوام الهمج، إلا أن الأولى آمنت بالعلم وبسيطرته على الوجود، فسعت للكشف والمعرفة، وكلما علمت شيئاً استفادت منه في حياتها، وأن الثانية لا تؤمن هذا الإيمان بالعلم، ولا تعترف له بهذه القدرة، فهي تحل مشاكلها بما يأتيها به عفو الخاطر، فتعثر دائماً ويلج بها العثار
وخير علاج ما يكون مبنياً على طبائع الأشياء، فأول ما يبدأ به معرفة طبيعة الشيء، ثم يعالج على حسب هذه الطبيعة وبنور هذه المعرفة
وعلى هذا فخير ما يعمل لحل مشكلة اللغة العربية أن تعرف طبيعتها ومن أي جنس هي! وما خصائص هذا الجنس! وقد أدركت ذلك واقتنعت به، ونريد أن نقنع به القراء
قضيتان إن آمنتم بهما سلمتم معنا بما نريد: إحداهما أن اللغة في المتكلمين بها ملكة. ثانيتهما أن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار لا بالقواعد فحسب
إذا استطعت أن أقيم الدليل على هاتين القضيتين وصدقتم بهما وجب أن تصدقوا أن اللغة لا تكتسب بالقواعد فحسب، بل بالتكرار والحفظ والمحادثة، وسأحاول ذلك فيما يأتي:
اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. والتعبير باللغة والفهم عنها يقتضي أمرين:
1 -
السرعة؛ فكلما خطر بباله معنى خطر اللفظ الدال على مفرداته، وخطر التركيب الدال عليه في وحاء، وكلما سمع جمله فهم معاني ألفاظها وما يدل عليه التركيب
2 -
الإجادة؛ وذلك بأن يكون جارياً على قوانين هذه اللغة لا يخطئ فيها، وذلك لا يكفي في أن تكون اللغة معلومة فحسب، بل لا بد أن تكون ملكة، أي حالة راسخة في النفس، لأنها إذا كانت معلومة علماً ساذجا ولم تصر ملكة، وأراد المتكلم التعبير عن معنى، فكر وروى في اللفظ الذي يدل على ذلك المعنى، واستعرض الألفاظ المخزونة في حافظته حتى يعثر به، ثم فكر فيما يعلمه من تراكيب هذه اللغة ليختار التركيب الذي يفيد ذلك المعنى، ووضع اللفظ في هذا التركيب، وأعطاه الأحوال المناسبة، وذلك يقتضي جهداً وزمناً، وربما ينقضي بياض النهار وسواد الليل في تعبيرين أو ثلاثة، ما دامت اللغة علماً ساذجا. أما إذا عمقت إلى أن صارت ملكة، فإنه إذا أراد التعبير عن معنى انثالت عليه الألفاظ، وانثالت عليه التراكيب دون جهد ومشقة، سريعاً لا يبطئ، مصيباً لا يخطئ
وقياس ذلك قياس العامل الذي يصف الحروف للطبع، فإنه إذا كان مبتدئا واقتصر على العلم بأمكنة الحروف، وأراد بعد هذا العلم الساذج أن يصف حروف كلمة اقتضاه ذلك من التفكير والجهد والزمن ما ليس بالقليل، وربما انقضى اليوم ولم يصف إلا بضع كلمات
أما إذا تجاوز ذلك إلى أن صار ملكة، فإنك ترى يده تلقط الحروف من هنا ومن هنا، وفكره يسبق يده، ويده تسبق فكره، حتى يصف في الدقيقة عدة كلمات
وهذا شأن الملكات كلها تأتي بالشيء بعجلة وإتقانٍ، وتريك العجب العجاب، ترى الأمر الذي له أجزاء كثيرة ويحتاج إلى فكر في هذه الأجزاء يأتي به صاحب الملكة دون فكر كأنما هو ساحر يأتي بالخوارق
رآني صديق أمي، كان قد بدأ في تعلم القراءة والكتابة أقرأ فهالته السرعة والإصابة، فقال أتظنني أصدقك في أنك تقرأ من هذا الكتاب؟ لا، إنك تقرأ من حفظك. أمجنون أنا حتى أصدق أنك تقرأ ما لا تحفظ؟ أفي هذه السرعة تعلم ما هذا الحرف وما الذي يليه وهكذا وتعلم حالاته أمفتوح أم مضموم أم مكسور أم ساكن، وإن تركيب ذلك يكون كذا؟ وهبك عرفت هذه الكلمة فكيف تعرف صاحبتها بهذه السرعة، وكيف تجمع من الحروف كلمات
ومن الكلمات جملاً، منطلقاً كالسهم، مصيباً كالقضاء؟
وهذا تفكير سليم لو أغفلنا من حسابنا أمر الملكات، ولكن الملكات كائنات من كائنات هذا الوجود، ولها هذا الفعل الغريب، والسحر العجيب. إن النجار الذي اكتسب ملكة النجارة يأتي بأعمال أشد إتقاناً وأسرع ممن لم يكتسب ملكة النجارة. إنه يدق المسمار بالقدوم مائة مرة، فلا تخيب منها مرة، حتى أن صاحبه ليمسك له المسمار وهو يدق آمناً أن تفلت منه ضربة فتصيب يده، ومن لم تكن عنده ملكة النجارة يدق مائة مرة فلا تصيب رأس المسمار منها واحدة
وإن المرء ليعجب للحائك كيف يسلك الخيوط في الخيوط المشدودة بحركة سريعة وإتقان عجيب لا يدخل الخيط في غير موضعه المراد له، ولا يعقد ولا يقطع. وإن الملكة لتدخل في أغلب أعمالنا فتجعلها أعظم إتقاناً وأسرع، وتجعلنا نأتي من الأعمال ما نحتاج إلى آلاف السنين لنعمله لو لم تكن عندنا هذه الملكات. فبالملكات نكتب ونقرأ ونتكلم ونحسب ونعمل في الصناعات المختلفة من حياكة وخياطة ونجارة وحدادة وطباعة مع الإسراع والإجادة والإحسان
ولولا الملكات لما قمنا بهذه الأعمال وسواها إلا مع الخرق والإبطاء كما أريناك في صفاف الحروف الذي لم يكتسب ملكة في صنعته. وإن الزمان لأسرع من أن ينتظرنا، وحاج الحياة شديدة الإلحاح تتطلب السرعة والإجادة، وإن قوة المرء محدودة لا تفي للعمل بدون ملكة لأن ما كان من الأعمال كذلك يقتضي من المرء جهداً ومشقة وتفكيراً تستنفد من قوته ومن دمه وأعصابه ما هو بحاجة إليه
وإنها لحكمة من الله عظيمة أن يخلق فينا الملكات فتجعلنا نجيب مطالب الحياة المتعددة بأقل ما يكون من الزمن، وأيسر ما يكون من الجهد، وأسرع ما يكون من العمل، لاسيما حاجة التخاطب. فالله أرحم بعباده من أن يقف التخاطب على هذه الجهود المضنية، والمتاعب الشاقة، والتخاطب عمل دائم، لا تنقضي منه حاجة حتى تتجدد حاج، ولا يفرغ المرء من خطاب حتى يستأنف خطاباً آخر، ولا يفرغ من فهم خطاب إلا إلى فهم مخاطبات أخرى وهلم جرا. . .
لقد قلنا الآن ما يمكن قوله في أن اللغات في الناس ملكات يقتدرون بها على الإفهام والفهم،
وأظن أن القراء آمنوا بذلك لما أوردته من الأدلة
وقد بقى أن أقول في القضية الأخرى وهي أن الملكة لا تكتسب بقواعد وإنما تكتسب بالمزاولة والتكرار
إذا استقريت الملكات ولاحظت كيف تتكون علمت أن الملكات لا تكتسب إلا بالدأب والمرونة وتكرار العمل لا بالقوانين والعلم المجرد. لاحظ صناعة صف حروف الطباعة تجد أن العامل إنما يكتسبها بمزاولة صف الحروف والتقاط الحرف من مكانه المخصص له وتكرار ذلك حتى تكتسب الملكة، وليس يكسبها بالعلم المجرد بأن من أراد صف كلمة فليأخذ حروفها المتعددة من أماكنها المخصصة لها وهكذا فإذا أتم صفحة وضعها بين ضاغطتين لمنعها من الشتات والانفراط
لاحظ صناعة الموسيقى تجدها لا تكتسب بقوانينها الفنية فحسب، فلا تكتسب بقول الأستاذ اضرب بالخنصر والبنصر والسبابة وشد الأوتار؛ إنه بذلك لا يكون عازفاً ولا موسيقياً إنما يكون موسيقياً إذا زاول هذا الضرب مراراً وتكراراً، فأكسب أصابعه المرونة والسرعة والاستجابة لما رسمه في وحاء، ثم أكسب نفسه وذوقه بذلك الملكة في الموسيقى وفنها الجميل
ولو مكثت طول عمرك تقول لمتعلم الحياكة شد الخيط طولاً وأدخل فيها الخيوط عرضاً ذاهباً يمنة وذاهباً يسرة لما تعلم بذلك شيئاً من الحياكة؛ إنما يتعلمها بمزاولة هذه الأعمال حتى تكتسب يده الخفة والمرونة
ولو رددت على متعلم السباحة قولك اركض برجلك اليمنى في الماء، واضرب بذراعيك، لما تعلم بذلك السباحة، ولو سبح متعمداً على هذه القواعد لأدركه الغرق ولذهب ضحية القواعد والقوانين
الآن علمنا أن اللغة في المتكلمين ملكة، وعلمنا أن الملكة لا تكتسب بالقواعد، إنما تكتسب بالمرانة والتكرار، فليلزمنا شئنا أو أبينا الإقرار بأن اللغة لا تكتسب بالقواعد، إنما تكتسب بالحفظ والتكرار وهو المطلوب الذي حاولنا إثباته
أرأيتم أنني كنت مصيباً حين قلت يجب أن نحل مشاكلنا بالعلم، ويجب أن نعرف طبيعة الشيء وخصائصه لنبني الحل على هذه الطبيعة؟
أرأيتم كيف كنا نعلم اللغة على غير طبيعتها، أرأيتم كيف كنا نمثل دوراً مخجلاً، فكنا كمن يطرق الحديد وهو بارد فيشقى ثم يشقى والحديد لا ينطرق معه ولا يلين، فيهزأ منه من يراه، ويضحك ملأ شدقيه، ويرى كيف يشقى الجهل بطبائع الأشياء صاحبه، ثم لا يحظى بطائل ولا كبير فائدة
اكثروا من المطالعة في كتب الأدب. احفظوا الكثير من أشعار العرب. احفظوا ما تقدرون عليه من الخطب. ارووا الأمثال السائرة، والنوادر البارعة، والرسائل البليغة، والمحاورات العذبة. اخلقوا في بيئتكم المدرسية جواً عربياً لا تتحاورون فيه إلا بالعربية، فإن لم يكن ذلك في جميع الدروس ففي دروس اللغة العربية
لتقوموا بروايات تمثيلية تحفظون أدوارها، وتستظهرون محاوراتها؟ وليمثل كل منكم دوره باللهجة العربية والتوقيع الخطابي
لا تكتفوا بالعام الدراسي بحفظ مقطوعات مقطوعة أو مقطوعتين، ولا برسالة أو برسالتين، بل فلوا دواوين الأدب واختاروا واحفظوا وأسرفوا في الحفظ، وطالعوا وأسرفوا في المطالعة، واكتبوا الرسائل، وحبروا المقالات على نمط ما تحفظون وغرار ما تألفون
بذلك وبذلك وحده تحوزون ملكة اللغة، وتملكون زمام البيان.
محمد عرفة
تصويبات في الذخيرة
لأبن بسام، المجلد الثاني، طبع كلية الآداب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أخي الدكتور عبد الوهاب عزام
كان من حظي أن أكتب عن (الذخيرة لأبن بسام) في مجلة المقتطف شهر يوليو سنة 1943 كتابة سمح بها المجال المحدود. وقد أثنيت فيما كتبت على جهدك وجهد إخوانك الذين قاموا بضبط هذا الكتاب النفيس وتحقيقه، ولقد وعدت أن أبعث إليك بكتاب خاص أصحح فيه بعض أخطاء في الطبع وقعت في الكتاب على الرغم مما بذلتم من الجهد المشكور. إلا أنني فهمت من مقال لكم بالرسالة أنك بعيد عن القاهرة إلى ثغر لا أعرف عنوانك فيه، فرأيت أن ألقاك على صفحات الرسالة لقاء عاماً لا يغضبك لأنني أعرف عن رحابة صدرك وسماحة خلقك وحبك للعلم ما لا ينزلك منازل الغاضبين من أهل الادعاء ولأنني لقيت قبلك الدكتور محمد مصطفى زيادة لقاء عاماً في العدد (522) بشأن تصويبات في (كتاب السلوك) فما غضب ولا سخط كما يفعل المغرورون، ولكنه سر وفرح وسعى إلي ليشكرني أمام الأستاذ أحمد الشايب وبعض الزملاء؛ فأكبرت علمه وتواضعه. ولا شك أنك ستهلل لهذا اللقاء لأنه يسرك أن يكون العمل الأدبي الذي أشرفت عليه أنت وإخوانك الكرام في (كتاب الذخيرة) عملاً يقرؤه الأدباء والمتأدبون فيرضون عنكم ويستزيدونكم لتخرجوا كنوز تراثنا العربي سليمة مما يشوهها أو ينتقص من جمالها
ولا أحب في هذا المقام أن أكون مذيعاً، أو تفهم أنت يا أخي أني مذيع لهفوات في الكتاب لم تقصدوا إليها؛ ولكن الله شاء - كما يقول محمد بك رشدي في كتابه فن القضاء - أن يحكم على الكتاب العربي ألا يكون سليما من أخطاء الطبع وألا يخلو من جدول للخطأ والصواب، وألا يسلم من قيام بعض القراء على تصحيحه مهما بذل فيه من جهد. وذلك شيء لا يكاد يوجد في الكتب الأجنبية التي تعرف عنها كثيراً، وتقرؤها كثيراً فلا تجد وضعت موضع ولا تجد نزلت منزل كما نجد في الكتاب العربي كلمة ميزاب وضعت موضع ميراث. . . ولا أزيدك!
ورد في صفحة 10 سطر 4 البيت الآتي:
أبا لك أن تُهاض علاك عهدٌ
…
هشاميٌّ وجدٌّ هاشمي
وأبا لك هنا فعل ماضي يكتب بالياء لا الألف ومضارعه يأبى. أي أن الذي منع علاك هيض علاك علو شرف آبائك.
وفي ص 38 س 17 (أعطي الملك محبُّ) بشدة فضمة. والصواب بضمتين هكذا محبٌّ
وفي ص 39 س6 ذكرتم ابن فتُّوح بشدة على التاء. ولكن في ص 274 عدتم فذكرتموه ثلاث مرات بضمة على التاء من غير الشدة، فأيهما الصحيح؟
وفي ص 40 س 15:
لما رمته العيون ظالمةً
…
وأَثَّرْتُ في جماله الحدق
والصواب: وأَثرتْ بتاء التأنيث الساكنة لا بتاء المتكلم
وفي ص 43 هذا البيت الناقص:
. . . . . . . . . فقلت لها
…
يا قلبها أحديد أنت أم حجرُ؟
ولم تكملوا هذا البيت الناقص على كثرة المراجع في مكتبة الجامعة وقد عجزت أنا والكثيرين من الأساتذة والأدباء عن إكماله. فلعل من قراء الرسالة من يكمله؛ وهو - كما جاء في الذخيرة - للمأمون الحارثي.
وفي ص 44 س13
قتلوا قرة عيني
…
ومنْ أجلي قتلوه
ووضع السكون على من يكسر لبيت والصواب وضع فتحة على النون وجعل الهمزة في كلمة أجلي همزة وصل. ومثل ذلك ما حدث في ص 69 س4؛ فالشطر:
وخذ على الربق منْ أسبابه
صوابه: وخذ على الربق مِنَ أسبابه - يجعل همزة أسباب همزة وصل وفتح النون من كلمة من
وفي صفحة 77 س 2، ضبطتم الفعل مُت بضم الميم والأعلى كسرها كما في قراءة حفص (يا ليتني مِت قبل هذا)
وفي ص 133 س 10 (أن لم أُجد التأبينَ فأُجدْ البكاء والحنين، وأن لم أُحسن التملقَ والأطراء فأُحسنْ الخلوص والدعاء)، ولم أجد منكم تعليقاً على الفاء هنا في جواب الشرط
فليس ذلك من مواضعها، وما الذي جزم الفعلين أجدْ وأُحسنْ؟
وفي ص 215 س 16
عَساكِ بحق عيساك
…
مَريحة قلبيَ الشاكي
بفتح الميم من مريحة. والصواب ضمها لأنها اسم فاعل من الفعل أراح من الراحة
وفي ص 222 س1
فكم صافحتني في مُناها يد المنى
…
وكم هب عَرَف اللهو من عَرَفاتها
والصواب مِناها بكسر الميم، وهو المكان المشهور في الحجاز بدليل كلمة عرفات في الشطر الثاني
وفي الصفحة نفسها س 12
ولي أمل أن يُسعِدَ السعد نلتُه
…
ويَفهَم سرَّ النفس في رمزاتها
والضبط كله مختل وصوابه:
ولي أمل إنْ يُسْعِدِ السعدُ نلتُه
…
ويُفْهَمُ سرُّ النفس في رمزاتها
لأن كلمة إن في الأول شرطية، فهو يقول إن ساعدني الحظ السعيد نلت أملي. والفعل يفهم مبني للمجهول وكلمة سر نائب فاعل، والمعنى أن سر النفس يفهم مما ترمز به.
أما تعليقكم على هامش الكتاب رقم - 5 - فلا معنى له.
وفي ص 230 س 10
دَوَيْنِ الكثيب الفرد قُضبٌ وكثبان
والصواب دُوَيْنَ بضم الدال وهي مصغر كلمة (دون)
وفي ص322 س11 هذا البيت
لم أر أن أكون من رواته
…
إذ هو معدود في هناته
والبيت كما ترون مكسور في شطره الثاني، ولم أعرف صحته
وفي ص 328 س15 (ونورثها إذا مُتنا بنينا) والصواب مِتنا بكسر الميم كما تقدم
وفي ص 236 س10
لم يَحْك نائَلك السحابُ وإنما
…
حُمَّتْ به فصبيبها الرخصاء
والصواب الرحضاء بالحاء المهملة والضاد المعجمة
وفي ص 338 س1
فان كسدت أعلاق علمي عليهم
…
فلا غرو أن يكسد لدى النعم الشذر
والصواب إن يكسد لأنها إن الشرطية
وفي ص 386 س 13
أيها العائب العذا
…
ر وذو الجهل عائبه
بتنوين اللام الأخيرة من كلمة الجهل، والصواب حذف التنوين
وفي ص 391 س 15 (فشبه تبرك مُتْلُوَّا). ولم أفهم معنى هذه الكلمة ولعلها مجلوا كما في الهامش
وفي ص 394 س15
أو تباكر صَيْدَ ألمها فابنُ حَجْرٍ=أو تبكَّي الديار فابن خذام
وابن حجر هو امرؤ القيس الشاعر الجاهلي فهل هو بفتح من حجر كما ضبطتم؟ والياء في الفعل تبكي لا داعي لها لأن الفعل مجزوم عطفاً على ما قبله. والصواب كتابتها هكذا (أو تُبكِّ) ولا ينكسر البيت على هذا
وفي ص 402 س 18
قل لأبي يوسف المنتقى
…
الفاضل الأوحد في عصره
وضبط الفاء من يوسف بالفتح خطأ، لأن البيت ينكسر على هذا الضبط، والواجب أن ينون هذا العلم (أي يصرف) ليستقيم الوزن، فالأبيات من بحر السريع كما لا يخفى
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد عبد الغني حسن
من تواريخ الأدباء الشعراء في الأدب الفرنسي
جان دولافونتين
(1621 - 1695)
بنو آدم كالنبت
…
ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصند
…
ل والكافور والبان
للأستاذ محمد حسني عبد الله
تمهيد لحياته العقلية بحياته العاطفية
كان لافونتين قد أربى على الستين من سني حياته عندما صادف ذات صباح الآنسة (بوليو) وهي في جلال ربيعها الخامس عشر. فإذا ملأ عينيه من جمال لها يموج فيه الطرف، ورواء وحسن يبهران الأبصار، عرته بهتة وذهل عن نفسه، فهام على وجهه على غير هدى حتى التوت به الطريق واستغلقت عليه معالمها. وما زالت به الهيمة وقصاراه ترديد صورتها إلى أن أطبق عليه المساء وهو بعد لا يشعر أنه قطع مسيرة يوم مذ صادفها من مطلع الشمس إلى مغربها. ولم يكن يومه شاقاً ولا عسيراً. فهو يوم للحسن ملكت دولته خيال الشاعر كما في أي يوم مضى من شبابه. فقد طالما تعود أن يتذوق الجمال وأن يمضي مع أحلامه وهو يصور روائعه لخياله غافلاً عن الوقت ومره، والطريق ومعالمها، والحياة وصخبها ما التذ بالسير والخيال. وإنما كان يومه غريباً فهو لم يضل سبيلاً قبله. فكم من أرض قطع وكم من حزن أجاز وبطن هبط وهو في مسابح الأحلام، وفي كل مرة كان أهدى إلى بيته من قطاة. ولكن هزة الجمال الفتى أضلت، هذه المرة، الستين عاماً التي ينوء منكباه بحملها فما عاد يعرف سبيل الرواح حتى التقى بخادمه عند الطريق. فعاد به إلى وكره. فلم يك بعد هذا ليبرح فراشه أياماً ثلاثة وهو ما يزال متأثراً بالوجه الصبوح الذي أهلت عليه فتنته بما لم يعهده من قبل في سلطان الجمال. وهكذا ما زال شيخنا مع الستين شاب القلب فتى العواطف. ولهذا معناه فما استهللت بهذه الأقصوصة إلا لتبيان أخص ما في خلق هذا الأديب الشاعر. فقد أصبح سهلاً الآن أن نستوضح تقديره للجمال لدرجة الافتتان به مجرد الجمال، إلى جانب بوهيميته ويسر أخذه
للحياة من مجرد تصرفه حيال رؤيته للصبية ترفل في الحسن. فهو إذ رآها قنع بمرآها وبصيان صورتها في ذهنه وبالخلاص من هذا بلذة معنوية حرفة فلم يعمد إلى مجاذبتها الحديث وعقد أواصر المعرفة معها تمهيداً لحاجة مادية - فهذا أبعد ما يكون عن طبعه - فهو إذن معني بالجمال لذاته. كذلك إذ قنع بهذه الشحنة المعنوية لأحلامه، اندفع في السير على غير متجه، وخبط في الأرض خبط عشواء، وهذا يفسر جانب البوهيمية في سجاياه. ثم أمضى يومه كله معنياً بما عاين لوقته، يسرح في رياضه سائم الطرف والبال، فأضاع يومه حالماً وما أيسر تناول الحالمين للحياة. ولندع الآن يسرد بقية القصة بنفسه لعلنا ندرك في قوله مزيداً إذ فسر لصديق عاتبه، سر انحجازه عنه هذه الثلاثة أيام التي توارى فيها فقال:
(لِمَ لم تتقصى يا صديقي أسباب انحجازي عنك طيلة هذه الأيام الثلاثة فأفضي إليك بدخيلة نفسي؟. . . إذن لقلت لك بلا مواربة إنني وأنا المسن لم أملك دفعاً لإغراء صبية أغراني بالحلم فيها جبينها وربيعها الخامس عشر، وعيناها الزرقاوان، وطراوة بشرتها الوردية، وسحر قسماتها ولمحاتها الذكية. ثم لأقمتك بعد القول حكماً باسم الجمال)
إلى هذا الحد من قوله قد تشم رائحة الإعجاب البدني حرفاً ولكنه يعود فيجلو لنا الجانب الساحر الرقيق من طبعه:
(ولكن. . . لو أن هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي عكر صفو راحتي وهدوء شيخوختي قد صادف نصفه الحقيق به، لكنت أنأي الناس عن الحقد عليه. بل لكان هناءة لعيني أن أراه وحبيباً من لذاته. . . ولو أنه هزأ ضاحكاً من إعجابي به لما اضطغنت عليه. . . وإلا فلم كان أمثالي من الشيوخ الوامقين. . . أليس لإضحاك الحسان من الصبايا؟)
وههنا ما يستلفت الأنظار. فلافونتين لا تستأثر بقلبه الأثرة التي هي العنصر الغالب في عاطفة المحب. فهو يتمنى لكاعب زلزلت عنده وقار الشيخوخة وألهبت فيه برد عاطفتها كل توفيق مع حب غيره يكون أصلح وأنسب لفتاها وأليق لصباها. ثم هو يسخر من نفسه في يسر ورخاوة وقلة اكتراث كمن يهزأ من امرئ لا تربطه به رابطة أو صلة. ويصرح بعاطفة كان أولى به كتمانها في سن تدعو تجاريبها وحنكتها إلى صيان ما بالنفس للنفس والتزام جانب الصمت والظهور بالمظهر اللائق بها من الاتزان والرزانة والتعقل. وهذا
كله شيء يجعل فهمه ميسوراً لأول وهلة
فقد عاش أبداً، بوهيمياً، صريحاً، بواحاً بسره، ينكره الاستقرار وتجافيه العاطفة الراسخة رسوخ الرواسي - فركب الهوى وأعجب بمئات الحسان مثل هذا الإعجاب العارض. ولكنه لم يصادف أبداً هذا اللون العنيف من الحب الذي يقتصر فيه صاحبه على واحدة يكاد حبها يورده موارد البوار والتلف. فكان أبداً كالنحلة عسلها في كل زهرة، يرى هذه، فيعلق بها فؤاده يوماً أو يومين، يحلم خلالها أحلاماً هنية، ويرى تلك فينسى الأولى، وهو بين هذه وتلك في دولة الخيال في شاغل عن الصلة البدنية بالصلة الروحية، سعيد بصور الحسان تتوارد جملة على مخيلته. فكأن السعادة بذلك همه، وخلو البال من الأزمات المقضة للمضاجع شاغله، وكأنه من ذلك في عالمه الخاص يعد لرسالته الأدبية المتنوعة شحنة من الفكر المنطلق الحر في نأي عن حب فرد ملح يحصر مناطق الفؤاد الذكي ويحدها.
لافونتين في البحث عن لافونتين
وامرؤ لا يعرف قلبه وخياله الحد ليس من ريب في أن عقله كذلك لا يعرف الحد. فآفاق العاطفة المترامية تفسح للعقل في مدى واسع يحار فيه. لذلك جهد لافونتين في تعرف هويته العقلية. ولم يكتب لهذا السبب عن نفسه إلا متأخراً في الثامنة والثلاثين من عمره. فهو إذن قد صرف حقبة طويلة من عمره في درك الأشياء وتفهمها والإلمام بحقائق الحياة عملياً. فمال مع كل ريح، بين جد ولهو، يعني بالجد، فيكيد ويحصل ويقرأ ويدرس منقباً باحثاً، ويعني باللهو فيحياه ويفهمه ويستمرئه. والتشوف بين هذا وذاك رائده، وحب الاستطلاع يعقد رويداً رويداً الصلة بينهما ويحكمها
فلم يستمر تردد عقله بين أن يعيش للهو حريفا - وهذا شيء تدعو إليه طبيعة الحالة - فيغنم الحياة من لذتها المادية، وبين أن يعيش للعمل والجد فيغنمها من لذتهما المعنوية. وأستقر أخيراً - ولا متأخراً - على أن يمزج اللهو بالعمل وأن يجعل من شواغله مسرات ومن جهده يسرا
ولم يكن بد من مراحل يجوزها حتى يصل إلى هذه الغاية من ترك طبيعته على سجيتها وأخذها بالملاطفة واللين حتى أنتجت فيما يشبه اللعب مالا طاقة لكثير غيره على إخراج مثله للناس، وهم ألصق بالجد خالصاً، وألزم للتثقيل بمضايقة على النفس. فكانت أولى
المراحل عنده الاقتصار على تفهم ما يدور حواليه من أحداث الحياة وإعمال الفكر في ألوانها المتباينة، دون أي تفرقة منه بين هذه الأحداث وهذه الألوان تدور على مسرح الحياة وبينها تمثل على خشبة المسرح. فكأنها في عينيه وهي تأخذ مكانها من مجرى الحوادث ملهاة مسرحية تستتلي فصولها اهتمامه وتستتبع تفكيره. حتى إذا ما نال من أتحف العوارف وألطف المعارف، وأدرك ماهية الأشياء وجوامع الحكم، كانت ثم مرحلة أخرى تفتحت فيها لأحلامه دنيا ساحرة لا يطرقها غير من أمدته الطبيعية بموهبة فكرية وأعدته لرسالة سامية في هذه الدنيا: مثل مرئياته واستوعب ضروب المعاني التي مرت عليه. فإذا قرأ لمالرب ولأفلاطون ولباروك ولتاس ولبوكاس، وافته غاية المراحل تجرر أذيالها ألا وهي مرحلة الإنتاج - هذه المرحلة التي مزج فيها اللهو بالجد وقرن فيها التسلية بالعمل. وإنه ليقال أنه غدا شاعراً عندما قرأ لمالرب قصيدة تعهدها الليالي حتى حفظها عن ظهر قلب ومن ثم طفق ينشدها لكل من صادف من الأصدقاء
تيقظت إذن في لافونتين ميوله الأدبية بعد أن تذوق دنياه وأخذ للأدب عتاده من القراءات المختلفة. فشرع يبحث عن نفسه في هذه الميول. فتناول بادئ ذي بدئ (خصي تيرانس) بالتعديل والتهذيب. غير أن ذلك لم يكن إلا محاولة فاشلة إذ تراوح فيها بين الترجمة وتقليد غير محكمين ثم نظم ملحمة مثيولوجية تصويرية بذل في تأليفها من دهره ثلاثة أعوام، وفاضل فيها بين الهات الفلاحة والتصوير والعمارة والشعر إلا أنها ليست مما يعتز به الأدب كثيراً
واتجه بعد ذلك نحو (أبليه فجهد أن يقلد قصته (بسيشيه)، ولكنه تعمل فيها الأسلوب وتصنع فيها المرح الذي عرف فيما بعد في خرافاته في أكبر وضوح وسلامة وجمال فلم يكن طبيعياً مع ما تتطلبه القصة القديمة من الوقار والجلال، فإذا محاولته رواية حديثة في أردية إغريقية لم يكن همها الإضحاك فأضحكت ولكن في استخفاف وسخرية. ثم عهد إلى (أدونيس) شكسبير فتخذها موضوعاً لروايته بهذا الاسم. ولكن كل من قرأ أدونيس شكسبير فاستطعم صنوف الفكر التي تختال فيها واستلذ الألوان المضطرمة الحارة التي تمتزج بها لا ينبغي له أن يطالع (أدونيس) لافونتين
فالحق أن تصوير معالم البطولة الإغريقية وتبيان عبقريتها المستعصية وإظهار جلالها
وجمالها، كلها أعمال ليست من عمله فرشاقته وظرفه ومرحه وخفته وملاحظته السريعة، كل هذه لا تحتمل عجم عود الشخصيات الإلهية وإبرازها في ملاحم طويلة مسهبة
طال إذن ما بحث لافونتين عن استعداده الأدبي فلم يعثر عليه في كل ما ردنا من أعماله وإنما عثر عليه بعد لأي في الخرافة فوجد في قصر نفسها ما يلائم مقدرته على النظم المحدود والمفردات السهلة. وصادف في موضوعاتها ما يوائم مرحه - مرح الروح الغالية - وظرفه وأحلامه. فالتقى فيها لافونتين بلافونتين
لافونتين والخرافة
ولكن لا تقذفن في روعك - مع ذلك - إن الخرافة عمل استحدثه لافونتين من مبتكره ومبتدعه. فقد سبقه إلى هذا الضرب من الأدب أيسوب الإغريقي، وفيدر اللاتيني، وكثير غيرهما من شعراء العصور الوسطى والقرن السادس عشر عند الفرنسة، فلم يزد على أن نسج على منوالهم ودرج على آثارهم وإنما أكثر لباقة وبراعة وإبداعاً مما جعل الأذهان تنصرف - إن ذكرت الخرافة - إلى أنه مبتدعها الفرد. وليست الخرافة إلا قطعة شعرية مأخوذاً موضوعها من صميم الحياة في تصوير عابر سريع إلا أن أدوار البطولة فيها مسندة إلى الحيوان وإن قصد تطبيق حالته في القصة على حالة الإنسان في الواقع بالقياس والموازنة. وعلى الخرافة التي تستوفي شروطها أن تتضمن قصة أخلاقية. وفي مدها بهذا اللون الفني يتمايز كل هؤلاء الخرافيون فينبذهم أبو الخرافة لافونتين. فقد اهتم أيسوب وفيدر بجانب واحد من الخرافة فعنيا بالأخلاق وانصرفا عن الوقائع القصصية انصرافاً أفقدتهم خرافاتهم عنصرها الفني. كذلك شعراء العصور الوسطى والقرن السادس عشر انصرفوا عن الأخلاق وعنوا بالتفاصيل القصصية عناية سلبت الموضوع لبه وجوهره ومسخت طعمه ومعناه. ولكن لافونتين، شاعر القرن السابع عشر، ألف بين الموضوع والأخلاق تأليفاً حقيقياً بالإعجاب والإكبار إذ جعل من الخرافة ملهاة أشبه بمسرحية أخلاقية مترامية المعاني من مائة فصل في بضع أبيات من الشعر الرائع.
(البقية في العدد القادم)
محمد حسني عبد الله
بولاق
للأستاذ محمد رمزي بك
كتب المستر شارل جون هزويل الذي كان مديراً عاماً لمصلحة تنظيم القاهرة مقالة تحت عنوان القاهرة واتساع نطاقها وملاحظات عن تأثيرات نهر النيل وتغيراته وأرفق بها بعض الخريطات، ونشرها في منشورات الجمعية الجغرافية في المجلد الحادي عشر الصادر في ديسمبر 1922، وقام بترجمة هذه المقالة إلى اللغة العربية الأستاذ محمود عكوش، ونشرها هي وما معها من الخرائط في العدد السادس من مجلة الهندسة الصادرة في يونية 1923، وبالاطلاع على الخريطة رقم 2 الخاصة بتأثيرات نهر النيل وتغيراته تجاه القاهرة ظهر لي أن المستر هزويل اعتبر أن مدينة بولاق مصر كانت جزيرة في وسط النيل، وأنها كانت مشغولة بالمباني ومسكونة وقت أن كانت جزيرة. ولما كتب المسيو مارسيل كليرجيه كتابه في سنة 1934 سار على رأي المستر هزويل، واعتبر كذلك بولاق جزيرة، وأثبت ذلك على الخريطتين المواجهتين لصفحتي 27 و29 من الجزء الأول من كتاب القاهرة المذكور
وأقول أن كل ما تصوره كل من المستر هازويل والمسيو مارسيل لا أساس له من الصحة للأسباب الآتية، وهي:
أولاً: إنه لم يرد في المراجع الجغرافية ولا التاريخية القديمة أن بولاق كانت جزيرة، ولم يتكلم عليها أحد من أصحاب كتب الخطط بوصف أنها جزيرة، مثل جزيرة الروضة وجزيرة الفيل وجزيرة إروى وغيرها من الجزاير التي تكلم عنها المقريزي وغيره في كتبهم
ثانياً: اعتاد الكتاب السابقون أن يذكروا كل طرح يظهر في النيل أو على شاطئيه باسم جزيرة، سواء كان هذا الطرح منفصلاً في وسط النيل أو متصلاً بالشاطئ، ومع كل هذا فلم يذكر أحد من الكتاب أن بولاق كانت جزيرة
ثالثاً: لما تكلم المقريزي في خططه على بولاق (ص 130 ج 2) قال إن ساحل النيل كان بالمقس، وأن الماء قد انحسر حول سنة 570هـ عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل، وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس، وصارت هناك رمال وجزائر ما من
سنة إلا وهي تكثر حتى بقى ماء النيل لا يمر بها إلا أيام الزيادة فقط، وفي طول السنة ينبت فيها البوص والحلفاء وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال من الرمل. فلما كانت سنة 713هـ رغب الناس في العمارة لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها، فأقبل الناس على الإنشاء والعمارة، وجد الأمراء والجند والكتاب والتجار والعامة في البناء، وصارت بولاق الدكرور يزرع فيها القصب والقلقاس على النيل حيث جامع الخطيري، وامتدت الدور على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى ببولاق من جامع الخطيري إلى جزيرة الفيل، وتفاخروا في إنشاء القصور الفاخرة هناك، وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة
رابعاً: لما تكلم المقريزي في خططه عن جزيرة الفيل (ص 185 ج1) قال بين سطوره ما ذكره عن تلك الجزيرة: (وانحسر النيل عن جانب المقس الغربي وصار ما هنالك رمالاً متصلة من بحريها بجزيرة الفيل المذكورة ومن قبليها بأراضي اللوق فافتتح الناس باب العمارة فعمروا في تلك الرمال المواضع التي تعرف اليوم ببولاق خارج المقس)
خامساً: ذكر ابن تغري بردي في كتاب النجوم الزاهرة (ص307 ج7) أنه في سنة 68هـ تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق واللوق وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس وساحل باب البحر والرملة وبين جزيرة الفيل وهو المار تحت منية السيرج، وانسد هذا البحر ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشي
سادساً: ليس من السهل إنشاء مدينة كبيرة مثل بولاق في جزيرة بعيدة عن ساحل المقس في حين أنه لم يكن بينها وبين ذلك الساحل كوبري أو جسر تسير عليه الناس والدواب بين ميدان باب الحديد وبين شاطئ النيل الحالي حيث كانت توجد بولاق القديمة على ذات الشاطئ
ومما ذكر يتضح أن بولاق لم تكن جزيرة في يوم من الأيام
وإنما أنشئت على أرض ظهرت في مجرى النيل، وكانت تلك
الأرض في بدء تكوينها في سنة 680هـ مكونة من الرمال
الفساد اتصلت بحريها بجزيرة الفيل ومن قبليها بأرض اللوق،
ثم صار النيل يطمي عليها تدريجياً فربت وارتفعت أرضها
وصارت صالحة للزراعة والسكنى وفي سنة 713هـ أنشئ
في نهايتها الغربية الواقعة على النيل بلدة بولاق في المنطقة
الواقعة الآن حول جامع الخطيري كما هو مبين على خريطة
القاهرة رسم الحملة الفرنسية في سنة 1800 بمقياس
160001
وبالاطلاع على خريطة مدينة القاهرة رسم سنة 1868 يتبين أن بولاق كانت لغاية تلك السنة بلدة صغيرة واقعة على النيل ولم تتجاوز مبانيها المنطقة التي تحد اليوم من الشمال بشارع السبتية، ومن الجنوب بشارع اصطبلات الطرق، ومن الشرق بشوارع سيدي العليمي وعلوة الحجاج وتل نصر ووابور النور، وكانت الأرض التي بين بولاق القديمة وبين شارع الملكة نازلي كلها أرضاً زراعية وبساتين، ولم يحدث فيها البناء إلا في زمن الخديوي إسماعيل، ومن ذلك الوقت أخذت بولاق تتسع في العمارة حتى اتصلت مبانيها بمدينة القاهرة، وأصبحت بولاق قسما إداريا من أقسام القاهرة
محمد رمزي
قبل براح الشباب
للأستاذ حسين الظريفي
غيرُ مستنكر من الأيام
…
ما لها من نقض ومن إِبرام
سبقت حكمة الزمان سواها
…
وإن استبهمت على الإفهام
لم يزل ينشئ الشباب ويبلى
…
يا له من بانٍ ومن هدّام
إِنما نحن في الحياة ضيوف
…
لا يزادون حصةً من طعام
فاغتنم فرصة الشباب وبادر
…
في ذراه إلى بلوغ المرام
كل يومٍ يمرّ، لم أقض فيه
…
وطراً، لا يعدّ من أيامي
إنما العمرُ حاجةُ المرء تُقضى
…
والذي بعد ذاك طيف منام
ربَّ مستمع بفضل صباه
…
لم يكن آمنَاً من الأيام
ظل في صحة الصبا يتحامى
…
ما وراء الصبا من الأسقام
وفراراً من القلي والتجنّي
…
لم يكن بالمتيم المستهام
نظرات ضاق المجال عليها
…
وهو رحب بغيرها مترام
لستُ ممن يبكي الشباب إذا ما
…
ملك الشيب فيه كل زمام
قائلاً لو يعود يوماً شبابي
…
ليرى ما للمشيب من آثام
أنا من يترك الصبا ليس فيه
…
أمد لم يحلَّ بالأحلام
حاملاً كل ما له من حقوق
…
قائماً بالحقوق خير قيام
وفؤادي من الهوى بمكانٍ
…
لم تصله ملامة اللوَّام
أجد الغض من شبابي فيه
…
ساحباً ذيله على الأيام
لي من ميعة الصبا يقظات
…
كدن يذهبن فيه كالأحلام
ولقد راقْ شرحُ كل شبابٍ
…
متسام بثغره البسام
فيه من كهرباءة ومضات
…
دونها كل وامض من غمام
وتراه بالعبقرية يفري
…
ما نبا عنه حدُّ كل حسام
وعليه روائع من معانٍ
…
هنَّ إلهام كل ذي إلهام
شاعرٌ جاء من عيون القوافي
…
بالتي لم تكن بذات نظام
قد تجافت وزن الخليل وعافت
…
ما وراء الخليل من أحكام
كبرت أن تكون في اللفظ معنى
…
ربَّ معنى من غير لفظ مقام
قد براها من مقلة وجبين
…
وقوام يزري بكل قوام
وفؤاد ماضي العزيمة ثَبْتٍ
…
لم يعود إلاّ على الإقدام
ودم من لظى أحرَّ إذا ما
…
ثار للحق ثورة الضرغام
ميزة إثر ميزة تلو أخرى
…
لم تُجابه بالنقص بعد التمام
أيها المزدهي بشرخ شباب
…
في ثرى (مصر) أو (بدار السلام)
هذه فرصة الصبا فاغتنمها
…
وارم ما أنت في شبابك رام
وابدُ في جانب الحمى أو حشاه
…
مثل صدر المهند الصَّمصام
إنما يطلب الحمى أن يفدّى
…
في عراك السيوف والأقلام
حسين الظريفي
البريد الأدبي
وما آفة الأخبار إلا رواتها
حضرة العلامة الأستاذ صاحب مجلة الرسالة المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فلا فريق في فندق (الملك داود) في بيت المقدس يجتمع في كل يوم فيبحث في شيء كما جاء في خبر في عنوان (وشاية) في رسالة 527 ص 639 ولم يكن حديث عن أحد من السادة الفضلاء المصريين الذين وردت أسمائهم في الخبر.
محمد إسعاف النشاشيبي
1 -
إلى الأستاذ العقاد
كتبت كلاماً في مجلة (الصباح) حول بيت من الشعر قلت فيه: إن شاعرية العقاد الفذة ابتلعت هذا البيت بألفاظه ومعانيه من الأستاذ (علي طه) ولم أقرأ ردأ على هذه الكلمة من قلم (العقاد) الجبار بل قرأت كلاماً أملاه ضمير ملوث على لسان صنيعة من صنائعه. . . فهلا تتفضل أيها العملاق فتنازل (حسن القاياتي) الكاتب المكسال كما قال (زكي مبارك) ليبين للناس في هذه الساحة الكبرى لهذه الخصومة: أي الفريقين أحق؟ فريق القاياتي. أم فريق العقاد. . . آمل. . . أن يسلك الناس طريق الحق ليرفع هذا القناع الأسود الذي احتجب من وراءه أدباء رفعتهم الأمة الجاهلة وغيرتهم من دون الرحمن. . . العقول السقيمة. . .!
2 -
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت بإعجاب خطابك الأسيف الذي تواضعت (الرسالة) فنشرته لك، وهي بعد - تعرف القاياتي الذي لا يود أن يحاط اسمه بهذا السياج الباهت من الدعاية الكاذبة. ويقحم اسمه بين الأسماء الشاعرة
إن القلم القاياتي يا دكتور نسيج وحده تعرفه الأسواق الأدبية الحرة يوم يكون في مصر للقلم الكبير أسواق. . . تجزي المحسن وتلفظ المسيء
القاياتي أيها الناس نظم الشعر وكثير من أدبائنا الذين تطنطن الصحف بذكرهم اليوم أسماء
لا يحلو ترديدها إلا على ألسن اللوات في الحارة. والأتراب في القرية!!
القاياتي شاعر من شعراء المدرسة القديمة التي تلقى فيها الدكتور أول درس في اللغة وأخر درس في البيان
وليس يضير الشاعر أن يسلك به النشء هذا المسلك الذي لا يحمده الأدب. ولا تسيغه أثلات الأقلام
إن الأدب يا دكتور ليس كلاماً ترجعه الصحافة كل يوم ويطالعه النشء كل ساعة. وليست الصحف التي تملأها بالصحف التي تروق الذين نحب أن تكون واسطة عقدهم (الأدب حساس) لا يزنه إلا الحس المرهف. ولا يفيد إلا المشاعر الحية. ولا يعرف النقد إلا الحساسية في الأدب
أخال فلاناً لا أراني الله شخصه. وقد زكته نقابة الصحافة في قاهرة الفاطمي بأنه أمي متسول. ثم يكون بعد اللتيا والتي من هيئة النقابة. وواحد الصحافة. وزعيم الأغلبية. لك الله يا بلد المعز. فقد جعلت دهماء الأدب يحكمون هذا الحكم الأعرج على جماعة الأدب في الشرق ويزنون الناس بغير ميزان فتخاطبهم صعاليك الصحافة وتجهلهم الأخلاق المريضة وليس بكثير على الدكتور مبارك أن يرميني بالكسل والكسل الهازئ حتى تنجح قضيته الخلابة ويروق منطقة الساخر
أجل أنا لا أريد أن أكثر يا دكتور. وفي كل يوم لي مقطوعة ستكون الشاهد لي يوم يحتاج الأدباء إلى شهود ترفعهم إلى درجات المجد وترقى بهم إلى السماء
إن ديواني يا (دكتور) يكلم الناس من أربعين عاماً. . . وأنت بعد ما تزال حدثاً تكلم الناس بلسان الحكائين وتحدثهم بمنطق الأطفال. ثم ماذا؟ ثم تكون لي ثروة شعرية تحت يدي تقع في مجلدات ضخمة غير ديواني الناشئ وباكورتي من نصف قرن. ثم هذه الكلمات العريضة التي اعترف بها البيان. وخلدتها الصحافة. وانتفع بها شيوخ الأدب. وكانت دروساً ألقيت في مدارس البيان. (القاياتي) يا دكتور مبارك لا يعجبه هذا الأسلوب الخادع. فهو أعرف بطوايا قلمك. وخفايا نفسك ولقد توكل على الله يا ولدي العزيز قبل أن يعرفك. وكان قلمه من بين الأقلام المتوكلة عليه سبحانه فانتفع ونفع وجاهد في سبيل الأدب وخدمة اللغة وسيجاهد إلى أن يقضي الله عليه بالفناء والرسالة التي تقول عنها. أنها لا تجامل أحداً
- أعتب عليها هذا العتب البريء - فأقول: أنها تجامل كثيراً أدباء عرفتهم الصحافة لهم حاضر في الأدب يحاول الشباب أن يهدمه بالحق. وللحق - ولكنها تطوي رسائله طياً وفي هذا موت للشباب. وحياة للمصانعة الخاتلة ورب رسالة شابة خير من جهاد شيخ يتوكأ على عصا الشهرة ويمشي على سراج خافت ولقد صدق الله إذ يقول:
(تبت يداً أبي ولهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلَى ناراً ذات لَهبٍ. . .!!!
(دار القاياتي)
حسن القاياتي
عضو المجمع اللغوي
إلى الأستاذ دريني خشبة
يزعمون أن الحرب ليست شراً كلها. بل أن فيها للإنسانية خيرات وحسنات، وللمجتمع البشري (المأزوم) نفعاً وفائدة لحياته الاقتصادية والسياسية وحتى الصناعية والعمرانية. ولكن الأدب والفن. ما فائدتهما وعائدتهما منها؟؟ إن معركة حقيرة (بالنسبة للحرب الجارية) هي (حروب طروادة خلقت للأدب هرميروس وأتحفت الأجيال بالإلياذة) الباقية على الزمن. فهل تنجب هذه الحرب الطحون هرمير جديد يخلق لنا إلياذة جديدة خالدة كتلك؟ إن يكن هذا فإله الأدب والفن مستعد لمعانقة (مارس) إله الحرب اعترافاً بفضله وأياديه عنده. وإلا فهل ابتلى رحم الفن والأدب بالعقم والعقر؟ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا؟ وإلى أي الأسباب يعزو ذلك الأستاذ؟ وهلا يرى معي أن الأدب الإنساني المادي الحاضر برقوده وجموده محتاج إلى مصل (إلياذة) جديدة تسكب في عروقه عناصر الانبعاث والفن والخلق؟
ذلك ما استفتي به الأستاذ الكبير وأطلب فيه إبداء رأيه وأدلاء حكمه على صفحات الرسالة.
(حلب)
كمال الحريري