الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 532
- بتاريخ: 13 - 09 - 1943
إلى الأستاذ الزيات
آباؤنا وأمهاتنا وأبناؤنا
للدكتور زكي مبارك
بعد منتصف الليل من هذا المساء (29843) وسوس الهتاف
من جريدة الأهرام:
- ألو، ألو!
- خير، من المتكلم؟
- صالح البهنساوي، هل أزعجتك بالحديث في مثل هذا الوقت؟
- لم تزعجني، ويسرني أن أسمع صوتك، فما عندك من الأخبار؟
- عندنا خبر يقول: إن والدة الأستاذ الزيات ماتت، وأردنا أن نعرف منك مبلغ هذا الخبر من الصحة قبل أن ننشره في الوفيات
- لم أسمع هذا الخبر إلا منك، فلا موجب لنشره قبل التثبت ثم رجعت إلى نفسي أسأل عن مواساة الأصدقاء بعضهم لبعض، فقد كان يجب أن أكون أول من يعرف هذا الخبر إن كان صحيحاً، لأحضر دفن السيدة التي أنجبت هذا الصديق، ولأشترك في مواساته مع الأقربين
وحانت مني التفاته إلى الماضي يوم ماتت أمي، فقد طلبت بإلحاح أن تراني قبل أن تموت، وكان أبي يسوف لأنه يعرف أني أؤدي أول امتحان في الجامعة المصرية، وكانت النتيجة أن تدفن وأنا غائب، وأن تبقى الحسرة على أن لم أحمل نعشها على كتفي
هل كان أبي يعرف أن توديع أمي في لحظاتها الأخيرة أحب إلي من جميع المغانم العلمية؟
لو أنه عرف لأعفاني من لوعة سأعاني نيرانها إلى آخر أيامي
وقد لطف الله بأمي فماتت قبل أن يموت أخي سيد بنحو سنتين، فلن تشهد فجيعة الدار في موت فتى لم ينتصر عليه قاهر غير الموت
دخلت على أخي سيد وهو في الحشرجة فنهض من فراشه ليقبل يدي، ثم أسلم روحه إلى بارئ الأرواح
وكانت الفجيعة الأخيرة هي موت أبي، ولكنها فجيعة نفعتني أجزل النفع، فقد هونت الدنيا
في نظري حين صورتها بالصورة الحقيقية، صورة الصحراء التي لا تضمن لسكانها من الضراغم غير الفناء
وهل تعزيت عن أبي وقد طال الفراق؟
أريد أن أخفف لوعتي فأذكر أنه عاش ما عاش وهو يعتقد أنني أوفى الأبناء: فما راجعته في كلمة، ولا رفضت له نصيحة، ولا استجزت المخالفة عن أمره في شأن من الشؤون
كنت ابناً بارا بأبيه، وكان بري بأبي يتمثل في صورة لم تخف عليه، فقد سمعت أنه تحدث بها إلى بعض الأصدقاء، وهي أني أخفي عنه همومي وأحزاني، فما بات ليلة وهو مغموم بسببي، ولا وصل إليه حزن من طريقي، ولا عرف أن الأبناء قد يكدرون حياة الآباء
والحق أني كنت أراعي معنى هو غاية في الخفاء، ومراعاة هذا المعنى كانت أعظم عمل أديته في حياتي، فما ذلك المعنى الدقيق؟
كانت الأقدار قضت بأن تمزق أملاك جدي كل ممزق، فلا يبقى منها غير أوشال، وكان أبي آخر العنقود، فلم تكن له مندوحة من أن يجاهد ليستبقي ومضات من الذهب المضاع
كان أعمامي جبابرة وكانوا قساةً وطغاة، وكانوا أيضاً منجبين، فلا يمشي الرجل منهم إلا وهو موصول الجناح بأبناء أشداء، فماذا يملك أبي في مقاومة أعمامي؟
لقد ناضلهم وحاربهم، واستطاع أن يستخلص بضعة فدادين يعيش من ريعها عيش الكفاف، إلى أن يجود الله بالغنى حين يشاء
وكانت دار أبي هي الدار التي مات فيه جدي، لأن جدتي كانت آخر زوجاته الغاليات، وفي تلك الدار نشأت، فماذا رأيت؟
كنا نستيقظ على زلزال يتمثل في سقوط إحدى القاعات، فيخف إلينا الجار الأقرب وهو عمي الشيخ سيد أحمد وبيده فانوس ومعه أبناؤه ليعاونوا على رفع الأنقاض
كانت أخطر فاجعة تهون على أبي ما دامت بعيدة عني
هل أستطيع تأدية واجب الوفاء لأبي، ولو نظمت في رثائه ألف قصيد؟
وفي إحدى العصريات دخلت الدار فوجدت أمي تخرج وهي مذعورة، فماذا وقع؟
كانت أمي رأت ثعباناً في أبراج الحمام فغزته بالنار ليختنق، فامتدت النار إلى سقوف الدار فحولتها إلى نيران
وفي لحظة أو لحظتين بدت شهامة أهل سنتريس
لقد تجمعوا من كل جانب رجالاً ونساءً ليخمدوا تلك النيران بالماء والتراب
وماذا يملك أولئك الأوفياء؟
لم يكن في بلدنا غير آبار معدودات، فكان من الصعب إخماد نيران لا يخمدها غير البحر المحيط، وكانت العاقبة أن يحترق البيت من جميع الجوانب وأن يمسي بلا سقوف، مع قسوة الشتاء
ونظر أبي فرآني بعافية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على مسطبة المضيفة وهو في غاية من الاطمئنان
وفي أعقاب السهرة الجياشة بكلمات المواساة سمعنا ضجيجاً يخطر في البال في مثل تلك الحال، فما ذلك الضجيج؟
رأينا جماعة العيسوية تغزو دارنا بركائب محملة بأقوات تكفينا عشرة سنين، فوقف أبي وقال: إن باب الدار لم يحترق، وسأغلقه إن لم ترجعوا مشكورين
كان مقام أبي في تلك الليلة مقاماً رهيباً، فقد أتت النيران على جميع الأشياء، وتركتنا بلا قوت، وإن لم أذكر أني نمت في تلك الليلة بلا عشاء
ما الذي كان يمنع من أن يقبل أبي مواساة أعمامي؟
منعه الخوف من أن يمن عليه أخ أو صديق في الأيام المقبلات
كان أعمامي كراماً برغم ما أرادت الأقدار في تحيف ما ورثوا من الثراء العريض، ولكن أبي رفض معروف اخوة سيحاربهم أو سيحاربونه بعد يوم أو يومين
تمثلت لي متاعب أبي في حياته حين شببت عن الطوق، فقررت إعفاءه من التعب إلى آخر الأيام من حياته الغالية
أردت أن أكون لأبي ابناً وأخاً وصديقاً فكنت، وقد محوت عن صدر أبي تلك السطور السود، سطور الشقاء بالأهل والأقرباء
هل عرف أبي أن له أبناً تمتحنه الحياة؟
لقد أخفيت همومي عن أبي فكانت تصل إليه وهي أساطير، وكان لا يتوهم أن كيد الدنيا يصل إلى من يكون في مثل عنفواني
وأنا الرجل الذي عرفه أبي، فلتحاربني الدنيا الغادرة إن كانت تطيق
لم أنسى يوماً أن أبي تعب في شبابه حتى شبع من التعب، ولم أنسى لحظة أن تكدير كهولته بسببي قد يكون إثماً موبقاً يكدر ما أرجو لحياتي من صفاء، ولهذا المعنى حرصت على أن يراني باسماً في كل وقت، وأن يراني غنياً عن الناس في جميع الأحايين، وهل يفتقر المؤمن إلى الناس؟
لم تكن الدنيا سمحت بأن تخلو حياتي من متاعب، ومع هذا أخفيت عنه جميع آلامي، فلم يتصورني إلا رجلاً خلت حياته من المصاعب والأهوال
كان سلوكي مع أبي سلوكاً هو الصورة المنشودة لأدب النفس، ولعل الله يتفضل فيتقبل دعواته الطيبات وهو يعاني مرض الموت، فما مات أب راضياً عن ابنه كما مات أبي وهو راضٍ عني
وهنا أتذكر أشياء تعد من الغرائب، أشياء متصلة بحياة أمي، فما تلك الأشياء؟
كانت أمي تفرح بالمرض أشد الفرح، لأنها كانت تؤمن بأن دعاء المرضى دعاء مستجاب، فكانت تقضي لياليها الأليمة في دعاء الله بأن يجعلني من الموفقين. كانت تدعو الله وهي توقن أنه يسمع ويجيب، ولم يخطر في بالها أبداً شيء مما يخطر في بال أهل الارتياب
كانت أمي سيدة مؤمنة، وكان إيمانها موروثاً عن أمها وأبيها، وكانا زوجين قانتين لا يعرفان غير فاطر الأرض والسماء
ومع أن المألوف في كل أرض أن الأم لا تستريح كثيراً إلى زوجة ابنها، فقد كانت أمي تحبني في زوجتي، وتصفها بأجمل الأوصاف، وتخصها بكثير من الدعوات، بحيث عُدَّ سلوكها من أندر ما يقع في حياة النساء
وكذلك كان حال جدي لأمي، فقد كان حين يزور دارنا بعد صلاة العيد يبدأ بالسؤال عن زوجات أبي، سؤال الوفاء لا سؤال الرياء، ثم يدعو الله أن يديم عليهن نعمة العافية والقبول
أما أمر أبي في تربيتي، فكان عجباً من العجب، كان لا يتناول طعاماً بدون أن أشاركه فيه، ولو كان طعاماً أعدته له إحدى الزوجات المحظيات
كنت أدخل الدار مع الليل، والشواء يفوح والنوم في جفوني، فآوي إلى مضجعي وأنا أرجو
أن يعفيني أبي من مشاركته في عشائه المرموق، ولكنه لم يكن يتناول طعاماً بدون حضوري ولو كان تحفة عروس
من الذي أوحى إلى أبي ما غاب عن كبار المربين؟
كان أهلي يقولون إن الطفل يحتاج إلى تأسيس، وكانوا يرون أن الطفل المؤسس يعيش في قوة إلى آماد طوال
ثم دارت الأيام واستقللت عن أبي كل الاستقلال، فقد أكرمه الله بالعيش إلى أن يراني رجلاً له أهل وأبناء وأملاك، ومع هذا كان يراني ضيفه حين أزور سنتريس، ويبالغ في الكرم فلا يتركني لحسن الفهم في رعاية ضيوفي، وإنما يتقدم فيكرمهم بأسلوبه الجميل، أسلوب الرجل المفطور على السخاء الفضفاض
ولن أنسى أنه كان يناجي المسيو دي كومنين مناجاة الرفيق للرفيق، مع أن لغة التفاهم غير موجودة بأي شكل، فكان من ذلك دليل على أن الألسنة أقل إفصاحاً من القلوب
كان لي أب وكانت لي أم، وأنا اليوم يتيم كهل، واليتيم الكهل أعرف باليُتم، كما قال أخونا الأستاذ محمد الهراوي، طيب الله ثراه!
أما بعد فأنا لا أوصي باجترار الأحزان، ولا أدعو إلى أن نطيل البكاء على آبائنا وأمهاتنا، فذلك يؤذيهم في عالم الأرواح وإنما هي لوعة نزجيها كارهين لا طائعين، وهي على قسوتها دون ما يجب في تسجيل الوفاء
ثم ماذا؟ ثم يكون الحديث عما نفقد من أبنائنا، وأنا ذقت مرارة الثكل مرات، إلى أن لطف الله فأعفاني من ذلك العناء وسيتفضل جل شأنه فيرحم جفوني من دموع الثاكلين، لأنه أرحم الراحمين
ومن واجبي نحو قرائي أن أدلهم على المذهب الذي سلكته في ذلك الجحيم:
حين ذقت الثكل أول مرة رأيت له طعماً متفرداً بين طعوم الأحزان، رأيته يقلقل أضراسي ويكاد ينقلها من مكان إلى مكان، ورأيت تعزية المعزين تزيد أحزاني، فقررت أن لا يقام للطفل الميت مأتم ولا عزاء، وقرت أن لا أسمع بكاء أمه عليه، وأن لا يذكر اسمه في البيت، وأن يمضي إلى من وهبه ثم استرده بلا عويل ولا صياح
كنت أقول: هو لنا عند الله، فلنتركه ذخيرة تنفعنا يوم الحساب، إن كنا مؤمنين
والواقع أن هذه أعظم شجاعة بدت مني في حياتي، فالطفل لا يموت إلا بعد أن يتجلى تجلياً هو غاية في الفتون، فتكون حركاته وسكناته من الغرائب والعجائب، ويكون تحفة طريفة تحول البيت إلى فردوس من أجمل الفراديس، بحيث يقال في وصفه إنه كان أبن موت، وهذه عبارة مألوفة عند أهل الريف، وهي غاية في الصدق
وبقليل من التأمل نرى الطفل الذي يموت بعد سنة يكون استوفى من الحياة سنوات وسنوات، لأنه في عمره القصير يستوفي من حظوظ دنياه في المرح واللعب والابتهاج ما لا يستوفيه كبار المعمرين. وهنا تكون الفتنة الدامية، فذلك الطفل يعد أهله وعوداً لا تخطر في البال، فهو في إشاراته وعباراته يؤكد بأن سيكون أعظم العظماء في القديم والحديث
وفي أقصر من لمح البصر يختضره الموت، فتبقى له بوارق تذيب لفائف القلوب
ماذا أصنع والأطفال الذين ثكلتهم كانوا كذلك؟
قدرت أنهم عاشوا حتى شبعوا من العيش، والعيش تعب فليستريحوا آمنين
دفنت بيدي أطفالاً كانوا أعز علي من نفسي، ولكني لم أبك عليهم كما بكيت على أمي وأخي وأبي، لأنهم لا يطالبونني بالوفاء، فقد اختارهم الله إلى جواره قبل أن يعرفوا الفرق بين البر والعقوق
وما حاجة الأطفال إلى البكاء؟
ألا يكفي أن الله أنجاهم من مكاره العيش، في دنيا أتعبت الأنبياء؟
الدمع على الطفل الذاهب أغزر من الدمع على الكهل الذاهب، فما الذي فاتهم من حظوظ البكاء؟
بهذه السياسة فرضت على زوجتي أن تنسى الأطفال الذين فقدناهم في مصر الجديدة وفي سنتريس، فاكتفت واكتفيت بالشياطين الذين عاشوا، وهم أبناء لم تمنعهم الشيطنة من أن يكونوا غاية في أدب النفس وصفاء الروح
إذا راعى الابن واجبه نحو أبيه، فما يضره إن نسي الواجب في معاملة جميع الناس؟
أنا لم أفعل خيراً في حياتي أفضل من الأدب في معاملة أبي وأمي، وقد جازاني الله فجعلني في عصمة من دسائس السفهاء
الحجر الأول في بناء الوطن هو الأسرة، وأبنائي لا يحبونني متفضلين، وإنما يرون رجلاً
يدبر لهم منافع لن يحتاج إليها قبل أن يموت، ولو عاش عمر نوح. . . وهل أعيش إلى أن أنتفع بما أدبر لأبنائي؟
ليت أبنائي يتأدبون بأدبي!
أنا أرى أن حيوية الرجل فوق الحدود، والسر كله في طاعة الله، الطاعة التي يعرفها أصحاب العقول، الطاعة التي تتمثل في العمل الموصول بصدق وإخلاص
كونوا يا أبنائي مثل البحر، فهو قد يغضب في كل وقت، ولكن كل قطرة من قطراته تشتمل على حيوات عظيمات
واذكروا دائماً أني لم أنل رضا الله بالمجان، فقد نلت رضاه بكفاح يؤيد كرمه في صحة بنياني، وأنا بحمد الله غاية في صحة البنيان.
زكي مبارك
2 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
من صائغ أسطورة (الوفد القرشي) التي وردت في العقد والأغاني؟
ابن عبد ربه يرويها عن نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن ابن عباس. وأبو الفرج ينسخ الخبر من كتاب عبد الأعلى يحدثه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. . .
ابن عبد ربه أقدم من أبي الفرج؛ فقد ولد سنة 246 وتوفي سنة 328 في ذلك الإقليم النائي. وصاحب الأغاني ولد سنة 284 وتوفي سنة 356. فقد يكون صاحب العقد وقف على مصنف أسبق مما وقف عليه أبو الفرج، وربما اطلع هذا على مؤلف أثبت وإن تأخر وقته. فهل صاغها نعيم أو صائغ عزاها إليه أو زخرفها الكلبي، وإن كان سجعها يبدو بغدادياً لا كوفياً، وهل لشبل الكلبي. . . أعني ابنه هشاما يد فيها، وهل أودعها كتاب وفوده؟
نقص الخزانة العربية اليوم يصدنا أن نجيب جواباً مضبوطاً. فلعل بقيات مما نجا من الزمان والتتر والصليبيين والأسبان محرقي كتبنا ومغرقيها - يظهر فيخرجنا من ظلمات حالكات نحن فيها
ولا ضرر - وقد عرفنا ذرواً من أخبار ابن الكلبي - أن نعرف شيئاً عن أبيه الكلبي. وهذا بعض ما جاء في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ج3 ص 61:
(قال الثوري: اتقوا الكلبي. فقيل: إنك تروي عنه. قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. قال يحيى بن يعلي عن أبيه: كنت أختلف إلى الكلبي أقرأ عليه القرآن فسمعته يقول: مرضت مرضة فنسيت ما كنت أحفظ؛ فأتيت آل. . . فتفلوا في فيّ فحفظت ما كنت نسيت. فقلت: لا والله لا أروي عنك بعد هذا شيئاً، فتركته. قال يزيد بن زريع: حدثنا الكلبي وكان سبئياً. قال الأعمش: اتق هذه السبئية، فإني أدركت الناس وإنما يسمونهم الكذابين. قال ابن حبان: كان الكلبي سبئياً من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا ويملأها عدلاً كما ملئت جورا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها. التبوذكي: سمعت الكلبي يقول: أنا سبئي. ابن معين: الكلبي ليس بثقة. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال ابن حبان:
مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من يحتاج إلى الإغراق في وصفه، يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فلما احتيج إليه أخرجت له الأرض أفلاذ كبدها، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به. . .)
قولي منذ (19) سنة (ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج، ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته) - لا يدل إلا على ما يدل عليه، وهو شرح حال اقتضاء المقام؛ ونقد رهط لغوا عن الصواب في الخطاب لا يعم فصائلهم وعشائرهم، دع عنك عمومه الجيل الذي أبدع (المبدع) منه تلك الأمة. والثرثرة والهذر والنفج في أقوال الوفد الكسروي ظاهرة. فهل يعقل أن يستقبل مثل كسرى بها وهو سلطان زمانه، وأقاليم في الجزيرة من أعماله، وأمثال النعمان من عماله. وقد تفطن الصباغ لشيء من ذلك فقول كسرى في ختام الأسطورة ما قوله، وقوله حين لغا أكثم بما لغا به:(ويحك يا أكثم، ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه)
وليست خطبة أكثم من إنشاء (الواضع) ولكنها أمثال قديمة متفرقة منسوب أكثرها إلى أكثم بن صيفي هذا، وقد ألف بينها من صاغ الخبر فما تجاوبت ولا تناسبت
وأحب أن أقول اليوم: إن العربية الحقيقية بأن نستمسك بها ونتعصب لها هي التي ذكرت في (الرسالة) 221 ص1562 السنة 5:
(وإذا ذكرنا العربية فإنما نعني هذه العبقرية ذات التعاجيب المحمدية، وهذه القوة الخلقية، وهذه المقاصد القرآنية، وهذه الآداب الإلهية، وتلك الحضارة والمدنية. . . ليست العربية نسبة ولكنها جامعة تؤلف بين القلوب. . . فالعربي هو ذلك المتمدن المتحضر المهذب المثقف المتعلم العالم العزيز الأبي الناطق بلسان القرآن، وليس بعرب (خراب بادية غرتي بطونهم) ولا قراضيب في (الجزيرة) ولا مدلغفون. . .)
وقد دفع أدباء وعلماء من السلف إلى تفخيم العربية الجاهلية عصبية أو ولع بتعظيم قديم، ودعت إلى التنويه بها في هذا الزمان مقاصد خبيثة غريبة
إن العربانيين المنتمين إلى دور السياسة و (التضليل) يقولون متوهمين: كانت العرب في الجاهلية وكانت، وكان عندهم ما كان، فماذا عملت الإسلامية، وبأي شيء جاء محمد؟
(هم العدو، فاحذرهم، قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون)
خبر الوفود
إن هذا الخبر لا أصل له، فلم يقل النعمان في وقت ما قال، ولم يرسل من ذكرته القصة، ولم تتحرك الألسنة قدام كسرى بشيء مما روي قط، ولم يشر إلى هذه الواقعة مؤرخ أو أديب في مصنف عرفناه أقل إشارة. وقد زخرفه مزخرفه كما صاغ الصواغون من قبله وكما صبغ الصباغون من بعده، وقد سيطرت عليه لغته ولغة وقته، فلم تشبه نثر الجاهليين وإن كنا لا نعرفه إذا لم يثبت من النثر القديم إلا القرآن كما ذكرت ذلك منذ (19) سنة، وإن كنا نجهل ذلك النثر فإننا نتصوره، ولا ريب في أن هناك نثراً بدوياً ونثراً حضرياً وقد نزل القرآن بالنثر الحضري لأنه إنما كان لكل جيل وزمان. ولم يشبه أسلوب الخبر أسلوب الإسلاميين، ولدينا من هذا القرن ما قد يطمئن إليه بعض الاطمئنان
إن صائغه أنشأه (مقامة) لفقها ونمقها، ولم يحتط، ولم يفكر في أن يحتاط، ولم ير حاجة إلى ذلك هو في منثور ينثره هو في (البلاغة) لا في تاريخ يحققه؛ على أن التاريخ هو ابن عم الأسطورة. وفي الخبر أشياء أدل على الوضع من أشياء، وهذه طائفة منها.
(ن)
2 - نشأة الدرامة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
يحتفظ الأدب الإنجليزي من الدرامات القديسية بأربع مجموعات تنسب إلى مدن مختلفة هي يورك ويكفيلد وكوفنتري وشستر؛ كما يحتفظ بدرامة واحدة من كل من نيوكاسل ودبلن وإيست أنجليا ونورفولك. وتختلف هذه الدرامات طولاً وقصراً وجودة ورداءة، ويتركب بعضها من ثمانمائة بيت من الشعر، في حين يتركب البعض الآخر من ثمانين بيتاً فقط؛ ويتألف بعضها من نظم ونثر، أو نظم فقط، أو نثر فقط، وفي بعضها أغان جميلة كما تحوى بعضها الأغاني الغثة. على أن أجمل هذه المجموعات كلها هي مجموعة يورك لتنوع موضوعاتها وجمال أسلوب الكثير من دراماتها، والحرية الظاهرة في تناول حياة القديسين بالتصوير الجريء وكثرة الحركة التي هي حياة التمثيليات جمعاء
أما أقدم درامة قديسية كتبت باللغة الإنجليزية فهي درامة (حرث جهنم) أو (إسلاف جهنم) من سلف الأرض أو أسلافها أي أعدها للزرع بالمسلفة، وهي آلة ذات شعب ولا يعرف مؤلفها على وجه التحقيق. وقد ألفت في أواخر القرن الرابع عشر في عهد إدورد الثاني؛ وهي عبارة عن محاورات شائقة بين السيد المسيح عليه السلام وبين الشيطان عليه اللعنة تنتهي بهزيمة كبيرة الأبالسة، وتهليل البطاريق وتكبيرهم فرحاً بانتصار السيد المسيح واغتباطاً بإجاباته المفحمة
هذا، وقد كانت عناصر شتى تشترك في تأليف الدرامة، فمن ذلك الموضوع، وهو أهمها بالطبع، ثم الأسلوب، وكان يراعي فيه السهولة واليسر، نظماً أو نثراً؛ وذلك بعد أن فشلت الدرامات التي ألفها جون للي بأسلوبه الجزل وعبارته الفخمة. وجون للي هو مبتدع أسلوب اليوفوزم الرائع الأنيق المروأ في الأدب الإنجليزي. . . ثم الموسيقى والألحان والأغاني. . . بيد أن واحداً من هذه العناصر كلها يكاد يكون أهمها، لأنه يتفرد من بينها باهتمام الجماهير، إذا هو الذي يجذبهم لمشاهدة التمثيل، ثم هو بعد ذلك. أقوى الأسباب في نجاح الدرامة أو سقوطها. . . ذلك العنصر هو عنصر الهزل والتضحيك & الذي لم تكن تخلو منه درامة قديسية قط. والعجيب الذي يلفت أنظارنا نحن الشرقيين خاصة جرأة رجال الدين والمؤلفين الدراميين على السواء في إشاعة هذا العنصر في تلك التمثيليات الدينية
التي تتناول الأنبياء والقديسين ورجال الدين عامة. . . حتى الملائكة. . . فهم قد هتكوا تلك الهالة المقدسة التي ينبغي أن تكلل رؤوس هذه الشخصيات المبجلة، وهم قد هتكوها إلى حد التحقير وتهوين الشأن والزراية بما كان من شأن الدين أن يتصونوا في تناوله. . . اسمع إلى هذا الحوار الذي نقتطفه لك من درامة (طوفان نوح) لترى إلى أي حد اجترأ المؤلف على شخصية هذا الرسول الكريم، أحد أولي العزم العظماء، من هداة البشرية الأولى. . . أنظر إلى هذا الحوار لتعجب كيف أجاز رجال الدين تمثيل هذا العبث بين يدي الشعب:
- نوح: أعدت الفلك، وقد آن لنا أن نبحر، فهلمي يا زوجتي الصالحة!
- زوجه نوح: ماذا؟ أركب في هذه السفينة وأترك تلك الأرض الراسخة؟ أوه! كلا، كلا. إنها لم تصنع من أجلي؛ ومع ذاك، فلدي ما يشغلني يا صاح، فإني ذاهبة لقضاء حاجات كثيرة تلزمنا من السوق اليوم
- نوح: والطوفان؟! ألا تخافين أن تغرقي؟
- الزوجة: آه! كلا. لا عليك. إن هذا لا يخيفني!
- نوح: لقد هطلت شآبيب المطر، وتفتحت أفواه السماء، ولست أرى أنها ستقلع، فتعالي وأركبي في الفلك معي!
- الزوجة: الفلك؟ ماذا تعني؟ ما هذا السر الذي أخفيته عني؟ لماذا لم تستشر زوجتك في أمره؟
- نوح: سر؟ ليس هناك سر قط! إنني لبثت أصنع هذه الفلك طيلة قرن بأكمله. ولقد شهدتني أصنعها طوال هذه المائة من السنين ألف ألف مرة بعينيك!
- الزوجة: حسن، بيد أنني لا أحفل كثيراً بالحياة في هذا المركب، إني سعيدة ههنا، ولست أستروح الحياة فوق الماء قط. . . ثم إني. . . لا أريد أن أصحبك!
- نوح: ولكن. . . إنك تغرقين، ما من ذلك بد، إن لم تفعلي!
- الزوجة: ولكنك أفسحت في مركبك المجال لخصومي والمتقولين علي من المؤمنين بك. . . وهم حفنة! على أنني أعجب كيف تغريني باصطحابك وترك كل هذا المجتمع، لأعاشر في فلكك الوحوش والطيور والزواحف؟! أف لك! إن إغرائك إياي ليغثي نفسي ويكرب
صدري!
(وهنا تلكمه بقوة فوق أذنه)
- نوح: هدئي روعك أيتها الزوجة الصالحة. هدئي روعك! ولا يزال بها نوح حتى تستسلم وتركب آخر الأمر، ولكنها تثير الشغب في السفينة من أول الرحلة إلى آخرها، في مشاهد تضحيكية متصلة، لا نرى أنها كانت تتناسب مع الوقار اللازم للرسل
فانظر كيف تلكم نوحاً زوجته في تلك الدرامة الجريئة، كما ساط اليهودي قديس الكنيسة في الدرامة التي لخصناها لك سابقاً. . . على أننا سوف نتناول هذا النوع من الدرامات الكوميك (التضحيكية) بالتفصيل من موضعه من الطور الثالث
الطور الثالث
الدرامات الأخلاقية والفواصل &
ذكرنا في الموجز الذي وضعناه في مستهل هذا البحث، في العدد السابق، أن الدرامات الأخلاقية نسخت بالاشتراك مع الفواصل، الدرامات القديسية وحلت محلها. وفي إيراد الكلام على هذا النحو شيء من المبالغة. وربما كان عذرنا في ذلك أن خلافا شديداً قام بين المؤرخين على أصل هذه الدرامات الأخلاقية، فمنهم، وهم الأكثرية، من يقولون إنها نشأت من الدرامات القديسية. ومنهم من يعارض هذا الرأي، وينفي أن تلك فرع من هذه، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ مورلي من أساطين مؤرخي الأدب في العصر الحديث. على أنه لا مشاحة في أن الإنجيليات والقديسيات قد نشأت في الأمم اللاتينية عامة وانتقلت مع رسل الكنيسة من فرنسا إلى إنجلترا. أما الدرامات الأخلاقية فأكثر المؤرخين على أنها نشأت على أصول القديسيات، وأنها ثمرة من دوحتها الباسقة. وندع بعد هذا الناحية العلمية من مناقشة الفريقين المتناظرين، لأنها ليست من شأننا في هذا البحث. والدرامة الأخلاقية هي تلك الدرامة التي تعنى بالحقائق المجردة وفضائل ورذائل، فهي تجعلها أبطالاً وتتخذ منها شخصيتها وموضوعاتها، ويرجع هذا التجديد إلى أواخر القرن الرابع عشر حينما انتشر الشعر المجازي المشتمل على الكنايات والاستعارات المختلفة. وقد يكون لضيق الشعب بالدرامات القديسية أثر في هذا التحول، إذ أنه مل هذا النوع الواحد من التمثيليات
الدينية التي أوشك أن يحفظها عن ظهر قلب لكثرة تكرارها، فأراد المؤلفون أن يتساموا بالدرامة فاقتحموا ميدان الأخلاق، لأنهم إنما كانوا ينشدون نشر الفضيلة - بعد تلقين دروس الدين - بما يقدمون للنظارة من هذه الدرامات. ولا غرو أن فرنسا كانت قد سبقت إنجلترا في ابتكار هذه الدرامة الأخلاقية، ولا يبعد أن تكون قد اقتبستها عنها كما اقتبست الإنجيليات من قبل: أما أن الدرامات الأخلاقية قد نسخت ما قبلها، فقد حدث ذلك بالتدريج فعلاً. فهم يذكرون أن آخر درامة قديسية قد مثلت في أواخر القرن السادس عشر. أو بالضبط سنة 1598 ثم ظلت الدرامات الأخلاقية تمثل بعد ذلك إلى أن ازدهر المسرح الإنجليزي بدرامات ماريو وشيكسبير وبن جونسون. ومن هذا يفهم أن القديسات واكبت الأخلاقيات زمناً طويلاً حتى تغلبت الأخيرة وحلت محلها. وقد كانت الرذيلة أقوى شخصيات الدرامة الأخلاقية. وكانت تحل دائماً محلاً هزلياً كما كانت الفضيلة توضع في مواضع الجد. فكان يمثل الرذيلة معتوه أو ضحكة أو أبله يجيد صوغ النكات والحركات التضحيكية، وكان يبدو دائماً وفي يده خنجر من الخشب، كما كانت ملابسه تثير الضحك الشديد. ولم تكن شيمة من الشيم إلا ولها موضع من درامة من هذه الأخلاقيات التي تكون فيها الشخصيات قسمة بين الفضائل والرذائل. فمقابل الطمع توجد القناعة، ومقابل الزنا يوجد العفاف، ومقابل الكذب يوجد الصدق، وضد الظلم العدالة وهكذا دواليك. وكان مقصوداً بتمثيل هذه الرذائل أن يحدث تباين مع الفضائل حتى لا يمل النظارة من كثرة الحض على التمسك بأهداب الفضيلة. ولهذا السبب كان وكد المؤلف أن يجعل شخصية رذيلة ما من الرذائل - كالجبن أو الشح مثلاً - مثيرة للضحك الذي يهز القلب ويفجر المشاعر، فإذا نال السامعون هذا النصيب من الترويح انتقل بهم المؤلف إلى شخصيات الفضائل الرزينة العاقلة - كالشجاعة والجود مثلاً - فجعلهما يردان على الجبن والشح في وقار وهون، ثم ينتقل إلى الرذائل ليعطي النظارة نصيباً من الضحك وهكذا حتى تنتهي الدرامة
وكانت الفترة التضحيكية المخصصة للرذائل تسمى فاصلاً - أو استراحة - وظل هذا هو النظام المعمول به في مزج الأخلاقيات بالفواصل حتى جاء جون هيوود (1506 - 1565) فألف في الفواصل خاصة، وبذلك أخذت تستقل الأخلاقيات وتكون نواة للملهاة
وقبل أن نتكلم عن الفواصل نلم إلمامة ختامية بالأخلاقيات لنعطي القارئ نماذج سريعة من أنواعها ليكون لنفسه صورة من النضال المتصل والجهاد الرائع الذي مهد للمسرح الإنجليزي العتيد في عصر شكسبير العظيم. فمن هذه الدرامات الأخلاقية ما كان دينياً بحتاً مثل درامة قلعة المثابرة من عهد هنري السادس، وموضوعها الحرب بين النوع الإنساني وزملائه الفضائل السبع الرئيسية، ضد الكبائر السبع بقيادة زعمائها الثلاثة: مندس وبليال وكارو الذين يحاصرون النوع الإنساني في قلعة المثابرة، ثم نجاة النوع الإنساني آخر أمر. ومن هذا القبيل درامة (كل إنسان) وقد كتبت قبل سنة 1531 وفيها يستدعي (كل إنسان) هذا أمام محكمة إلهية ليقدم حساباً على ما قدمت يداه في الحياة الدنيا. . . وهنالك تخذله رفاقه (الزمالة والخفة والقوة والسرور والجمال) في حين لا يجد له نصيراً إلا حسناته التي تقدمه (إلى الاعتراف) الذي يبرئ ساحته
ومن تلك الدرامات أيضاً ما تلحظ فيه أثر حركة الإصلاح الديني والروح البروتستنتي الجديد، مثل درامة العرف الجديد أو درامة معركة الضمير. ومنها ما كان يتجه اتجاهاً علمياً يتمشى مع نور النهضة مثل درامة (العناصر الأربعة، وهي نضال بين العرفان وفضائله، والجهالة ومضارها؛ ونحوها درامة (الذكاء والعلم). ومنها ما كان سياسياً، مثل درامة (الفارس ألبيون) وهي تصور ذلك النضال الهائل بين الأشراف والعامة، والصدام الذي انتهى بالإصلاح الدستوري الكبير في بريطانيا. ونحوها درامة لوردات لندن الثلاثة وسيداتها الثلاث، وهي ملهاة لكاتب اسمه روبرت ولسن. وكان يحترف التمثيل. والسيدات هن المنفعة الخسيسة والحب والضمير. أما اللوردات فهم السياسة والأبهة والسرور (وأولئك هم سادة لندن) - ثم الكبرياء والطمع والظلم (وأولئك هم سادة أسبانيا) - ثم الرغبة والمسرة والولاء (وهؤلاء هم سادة لنكلن) وقد كتبت هذه الدرامة بعد تحطيم الأرمادة الأسبانية. وفيها تحقير شديد للأسبان وإشادة بالمجد الإنجليزي
هذا، وقد ألف بعد هذه المرحلة درامات لا هي أخلاقية كلها ولا هي فواصل كلها، بل كانت (بين بين) إن جاز هذا التعبير
أما الكلام عن الفواصل فيحسن أن يستقل بفصل خاص لأهميته، ولأنه كان البذرة الأولى للملهاة الإنجليزية، وهو ما سنتناوله في الفصل المقبل.
دريني خشبة
المشكلات
5 -
اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
ومن غريب الأمر أن الطريق الذي أشرنا بسلوكه، والذي أبان العلم أنه لا طريق إلى تعلم اللغات سواه، هو الطريق الذي هدت إليه الفطرة وسلكته في تعليم الولدان لغات آبائهم، وتعليم الأجيال لغة أممهم، فالفطرة اصطنعت في تعليم اللغات طريق الحفظ والتكرار، والمرانة والاعتياد
ينشئ الطفل فيسمع أبويه وأهليه يتكلمون بمواضعات خاصة فيحفظها وتتكرر على سمعه، ويعتادها لسانه فتصير ملكة، وبذلك يحذق لغة قومه
كأن الفطرة قد علمت أن اللغة في الإنسان ملكة، والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار فاستعملت ذلك في تعليم أمم الأرض لغاتها، ولم تخطئ مرة واحدة فتلجأ إلى طريق القواعد والقوانين لأنها لا تكسب الملكات
أما نحن فجهلنا ذلك، وأخذنا نعلم اللغة بالقواعد والقوانين، ولم نلجأ إلى تعليمها بالحفظ والتكرار، فكانت الفطرة أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، وأثقب فكراً، وأسد نظراً، وكنا أقرب إلى الخطأ، وأبعد عن الصواب، وأعظم خرقا. وكانت الفطرة تعلم اللغة أثناء المعاملات اليومية من لعب وقضاء حاج، وبيع وشراء؛ أما نحن فقد أحطناها بالقوانين التي يفنى العمر ولا تفنى؛ فكانت مقتصدة أعظم الاقتصاد، وكنا مسرفين أشد الإسراف. كانت الفطرة تعلمها بالتدرج من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب مراعية حال المتعلم، فتعطيه ما يناسبه ولا يجافي عقله. أما نحن فلم نراعي ذلك بل تعمدنا مضادته، فعلمنا القواعد التي هي فلسفة اللغة، تعلم بعد تعلمها، ومرتبتها في الوجود متأخرة عنها، فلم تظهر إلا بعد ظهور اللغة بأزمان. أقول علمنا القواعد قبل تعلم اللغة وجعلناها وسيلة إلى تعلمها، ولم نراع حال المتعلم فجئنا بأطفال الأقسام الابتدائية والتعليم الأولي، وأخذنا نعلمهم القواعد، ونعطيهم من العلم ما ينبو عن أذهانهم؛ فكانت جارية على مقتضى الحكمة، وكنا
جارين على غير مقتضاها، أو على مقتضى شيء آخر، وكانت ميسرة كل التيسير، وكنا معسرين كل التعسير
وكانت تعلمها أثناء سرد الحوادث اليومية، وأخبار الجيران، والأهل والخلان، والمحادثات السارة والأخبار الممتعة، وتاريخ الناس وملحهم، وفي أثناء الأغاني والمدائح والمراثي. وكنا نعلمها في قواعد جافة خالية من كل ذلك، فكانت تعلمها مع المتعة والمسرة. وكنا نعلمها مع الضيق والحرج. ولما راعت ذلك كله كانت ناجحة في تعليمها كل النجاح، ولما أهملنا ذلك كله كنا مخفقين كل الإخفاق
أراني فيما سبق قد أطلت المسافة في الاستدلال، وذكرت في البين أن اللغة ملكة، وأن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، وكنت أستطيع أن أختصر الطريق، وأقول لننظر إلى الفطرة كيف تعلم اللغة، ولنحاكها فيما تفعل، ولنعمل كما تعمل
وإذا نظرنا هذا النظر وجدناها تعلم أبناءنا اللغة العامية بالتكرار والمحادثة، وكذلك كانت تعلم أطفال العرب لغة آبائهم. كانوا يسمعون في طفولتهم من آبائهم ومخالطيهم مفردات اللغة وأساليبها، والبليغ المأثور من بيانها، ويتكرر ذلك على أسماعهم، فيحاكونه ويقلدونه ويتكلمون على نهجه، فيكتسبون الملكة في اللغة بالسماع والتكرار والحفظ؛ فإذا الطفل الناشئ ولسانه البادئ جار على هذه اللغة لا يخطئ ولا يشذ، ولو حاول جهده أن يحيد عن الصواب لاستعصى ذلك على لسانه، ولوجد في ذلك مشقة وعنتا
إن محاكاة الفطرة في أعمالها داعية إلى النجاح والتوفيق، وكلما كان المرء أقرب إليها كان أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، ويكون خطؤه بقدر بعده عنها، ومجافاته لقوانينها
ومن سوء حظ المتعلمين أن ما في المدارس المصرية مما له تعلق بالطريقة الطبيعية قد أهمل ولم يعن به، وهو فيها صورة لا معنى، وشكل لا حقيقة؛ ففي المدارس المصرية حفظ ومطالعة، ولكن التلاميذ يهملون ذلك الثمد القليل الذي فرضته عليهم المدارس المصرية من المحفوظات، ولا يحفظون إلا النزر القليل ليقولوه أمام لجنة الامتحان الشفوي. وفيها مطالعة، ولكن يمر العام كله وهم لم يطالعوا إلا صفحات معدودة، وفي الكتب المقررة شواهد على النحو والصرف والبلاغة، ولكن التلاميذ لا يحفظون شاهداً، ولا يستظهرون مثلاً
وضعت يدي على خمسة تلاميذ اتفاقا دون اختيار، وكانوا من تلاميذ الثقافة، وكان علم البيان مقرراً عليهم وفيه كثير من الأمثلة والشواهد، وسألتهم واحداً واحداً عما حفظوه من شواهد البيان، فلم يكن منهم من يحفظ بيتاً واحداً، ومن المحزن أن الممتحنين لا يقيمون وزنا لذلك، وأن المدرسين لا يقيمون له وزنا أيضاً، فلا هؤلاء يحتمون عليهم حفظ الشواهد، ولا أولئك يرون المقصر في حفظها مقصراً في الامتحان
وهذا إهمال عظيم في الحفظ والتكرار، وهو وإن كان محزنا فان لهم العذر كل العذر فيه، لأنه ثبت في أذهان الجميع معلمين ومتعلمين أن المعول عليه إنما هو القاعدة، فإذا فهمت وحفظت فما عداها من حفظ الشاهد والمثل فضل، ولا يعلمون أن هذا الفضل هو الذي إذا عني بحفظه وتكراره رسم صورة ذهنية، يكتب الناشئ على مثالها، وينسج على منوالها
وقد علمتني التجربة أن ما يؤخذ من المحفوظات في المدارس لا يغني التلاميذ شيئاً، فمن الواجب أن يكلف التلاميذ أن يعكفوا على بعض دواوين الأدب، فيقرؤوها، أو يختاروا منها، ويجمعوا ما يختارون في كراسة ويحفظوه ويفهموا معناه، وتكون هذه الكراسة بيد التلميذ عند الامتحان شاهدة على جده وعمله، فيقدمها للمتحن فيرى أهي كافية أم غير كافية، ثم يمتحنه فيها من أولها ومن وسطها ومن آخرها ليعلم هل حفظ ما اختار
وقد علمتني التجربة أيضاً أن ما يؤخذ من المطالعة في العام الدراسي أمام المدرس لا يغني عن التلاميذ شيئاً، فمن الواجب أن يكلفوا بكتب يطالعونها أثناء العام الدراسي ويكتبون آراءهم فيها ويلخصون محتوياتها، وكذلك في العطلة، ويكون لهذا وذاك دخل في تقدير الدرجات
كل ما في الوجود يشهد لي أن اللغة إنما تكتسب بالحفظ والتكرار وأن القواعد لا تغني في اكتساب ملكة اللغة فتيلا
لعلك جلست إلى بعض الممثلين واستمعت إلى حديثه فرأيته يتكلم بالعربية لا يكاد يخطئ: وينحدر كالسيل، ويهدر كالرعد
ولعلك جلست إلى بطل من أبطال اللغة العربية يعرف قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تكاد تخفى عليه منها خافية، فرأيته يتكلم بالعامية لا يكاد يقيم جملة، ولا يستطيع أن يلين لسانه بالعربية، فعجبت كيف يملك الأول هذا القدر من العربية مع جهله، وكيف يقصر عنه
الثاني مع علمه
أتدري لم هذا؟ إن الأول زاول اللغة العربية عملاً، وحفظ أدواره في الروايات، وألقاها ومرن على ذلك فاكتسب ملكتها، فإن تكلم بعد صدر عن الملكة فأجاد؛ أما الثاني فعلم قواعد النحو والصرف والبلاغة، ولم يزاول اللغة حفظاً وعملاً، فلم يكتسب ملكتها فكان هذا القصور المعيب
أجلست مع بعض العامة الذين يكثرون من قراءة الجرائد والروايات فرأيته يقيم لسانه بالعربية أكثر من ذلك النحوي الذي جعل همه في القواعد والقوانين
ولعلك رأيت بعض من لا يعرفون علم العروض والقافية، ولا يعرفون البحور وأوزانها، ولا الخبن والطي، إذا سمع بيتاً مكسوراً أدرك عيبه بمجرد سماعه، وإذا سمع بيتاً صحيحاً أدرك صحته كذلك؛ ولعلك رأيت بعض من يعرفون هذه العلوم لا يهتدون لعيب البيت أو صحته إلا إذا أخذوا يتعرفون من أي بحر هو ويجرونه على أوزانه. إن ذلك لأن الأول تربى عنده مقياس ذهني لأوزان الشعر من كثرة قراءته وحفظه، فإذا سمع شعراً اختل عن هذه المقاييس أدرك ذلك بذوقه، والآخر لم ترب عنده هذه المقاييس بل شغل بقواعد الشعر عن حفظه وقراءته والقواعد لا تربي الملكة
أن كثيراً من علماء العروض لو حاولوا نظم بيت من الشعر أعجزهم؛ وإن كثيراً ممن لا يعرفون هذا العلم يأتي لهم الشعر طيعاً منقاداً - والسر ما قلناه وكررناه من أمر الملكة والتكرار
سلوا كل كاتب يحوك الوشى، وينفث السحر، وكل شاعر يقول الشعر، وينظم الدر، في مصر وفي بلاد الشرق، بماذا نلتم هذه المنزلة ووصلتم إلى هذه الدرجة من البيان يجيبوك بأنهم لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالقراءة الكثيرة، والحفظ الكثير ومزاولة الكتابة والحديث
إن قوانين الوجود صارمة نافذة أبدية فمن سايرها وعمل على مقتضاها انتفع بها وسار على ضوئها إلى التوفيق، ومن جهلها لحقه الضرر بهذا الجهل، ومن أراد التخلص منها، وحاول أن يخضعها لإرادته عني نفسه فيما لا يطاوعه ولا يجد إليه سبيلاً
محمد عرفة
لافونتين
(1621 - 1695)
بنو آدم كالنبت
…
ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصند
…
ل والكافور والبان
للأستاذ محمد حسني عبد الله
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الخرافة وازدواج الشخصية عند لافونتين
ولقد عرف الشعراء والأقربون في هذا الشاعر، من تصرفاته وأحواله، إنساناً قليل الانتباه لمجرى الحوادث، قليل الاحتفال بوقائع الحياة، منصرفاً عن حركات الناس وسكناتهم، متشاغلاًعن حديثهم ولغوهم، شارد الفكر فيما لم يكن في مستطاعه الدلالة عليه إذا بدهه سائل بالسؤال عما يشغله ويذهب بلبه. فكان يبدو ساذجاً أشبه بأبله، من العصي عليه أن يصف لأحد مشافهة ما رأت عينه أو يعيد عليه ما وعت أذنه. فهو لم يكن يعني - فيما ظن خلصاؤه وبطانته - بشؤون الناس في شيء، عظم أم حقر - حتى ولا بشأنه؛ فكان همه في الحياة - كزعمهم - العيش فحسب؛ ومثله الأعلى - كحدسهم - الاستكانة للواقع والانصراف عن الجهاد والكفاح واستمراء للكسل مضافاً إليه قليلاً من الحب ليمد العيش بالنضارة والحلاوة كقليل الملح إذ يصلح الطعام ويجعل له طعما سائغاً
ولكن كل من قرأ دواوين خرافاته وبحث فيها تصويرها الجامع لألطف المعاني والأخيلة، الحافل بأدق الأحداث وأشدها، تطلباً لليقظة، عرف فيه كما قد عرف مؤرخو الآداب والناس عامة، يقظاً مرهف الحس، فطناً لكل ما ظن أنه غافل عنه
فللرجل إذن خلقان على طرفي نقيض: أحدهما واضح المعالم ظاهر للعيان ساخر من الحياة، غير عابئ بواجباتها حتى واجبات الأبوة والزوجية؛ والآخر خفي مستبطن، ولكنه يقظ منتبه لكل ما يدور في ملعب الحياة. وثمة انسجام وتآلف بين هذين الخلقين ساق إلى تفادي أضرار هذا التباين بالتنفيس عن الجانب المستسر من خلقه في أدب الخرافة التي
كان إخراجها للناس برهاناً على ازدواج الشخصية عنده وجمعه لعجائب الأضداد
خرافة لافونتين والناس
وكما أن إلياذة هوميروس وأوديسته هما سجل اليونان الحافل، وديوان أدبهم، المحدث في صدق عن معتقدهم، المصور في دقة لنظمهم، ومراسمهم خلال حقبة طويلة من تاريخهم القديم، فكذلك خرافات لافونتين - هوميروس الفرنسي - مرآة صادقة للحياة الاجتماعية في عصر من أحفل عصور التاريخ السياسي والأدبي عند الفرنسيين، ومعبر صريح عن الروح الغالية الساخرة العابثة الفطنة في القرن السابع عشر، إذ أراد فيها لافونتين بتصويره حاشية الأسد وجماعته من الحيوان، مجتمع معاصره لويس الرابع عشر نفسه، بلاطه وشعبه
وأما الصفات التي وزعها على الحيوان - كل بما يوائمه من صفة - كالكرم للأسد القوي، والحيلة للثعلب الماكر المستضعف، والغباء للحمار الأخرق، والطيش للأرنب المستهترة، والرياء للهر المتلون، والغرور للغراب المستغر، إلا صفات إنسانية محضة خبرها في أهل عصره وصادفها في مجتمعه فوصفه بطريقته الخاصة - الجادة إذ عبثت - متلطفاً بالمداراة والتأدب في نقد الناس إذا قدح، متحامياً الملق والتقرب من أي كان إذا مدح. فخلق بذلك عالماً في ظاهره غريب عن الإنسان، وهو في مستسره وكيد الصلة به. فتهيأت من ذلك للصغار فرصة الالتذاذ والتفكه بشؤون هذا العالم الحيواني العجيب والإفادة منه، وللكبار فرصة إعمال الذهن وكدح الخاطر في ربط الصلة بينهم وبين عالمهم واستخلاص الحقائق الواقعية التي أريد بها عصر لويس الرابع عشر خاصة ولكنها تصلح تصويراً أخلاقياً دقيقاً لكل عصره. وبهذا عدت الخرافات في مجموعها ملحمة فرنسا الكبرى فكانت تراثاً أدبياً إذا أضيف إلى الإلياذة والأوديسة والشهنامة وألف ليلة وليلة، أعز جانب الأدب العالمي.
هوميروس الفرنسي والأخلاق
ولكن يصعب على المنقب في هذه الخرافات أن يستخلص منها مذهباً أخلاقياً أو مبدأ مثالياً. فهوميروس الفرنسي قد قنع فيها بتصوير الحياة كما هي فأجملها في قصائد منظومة لا
تحسن حسناً ولا تقبح مرذولاً. وإنما هدفها رسم الأحوال المختلفة وتصوير العواطف البشرية، شرها وخيرها، إذ الأمر يتعلق بوصف الحياة لا بنقدها. فالقوة والضعف والغنى والفقر والشر والخير هذه كلها ألوان ليس للحياة منها بد. بل لا محيد للضعيف عن الخضوع للقوي، ولا مهرب للفقير من استعباد الغني، ولا حيلة للخير مع الشر
فلافونتين إذن لا يختط قواعد أخلاقية تتبع، ولا يبين أغراضاً مثالية تراعى، إذ غرضه إزاحة الستار عن حقيقة الحياة الدنيا بغير أن يتطلع إلى خير منها. فإذا عرض للضعيف المغلوب فغالباً يجرده من معونة الغير ومن القدرة على الأخذ لنفسه. وإذا تكلم عن القوي المظفر حشد في ركابه الدنيا برجلها وخيلها، وهيأ له النصر المحتوم من طبيعة الأمور. وهو يؤيد ما قيل من أن (جوبيتير) مد على البسيطة خوانين: خوانا للمجدودين أصحاب الجاه والنفوذ والقوة قد صفت عليه ألوان شهية من الطعام والشراب، وخوانا للمخذولين الخاضعين، لا يليق إليه إلا بالفضالة والفتات. بل المسألة - فيما ترى - أدهى وأمر؛ فالصغار أنفسهم هم مأكول الكبار القادرين. وأيا ما كان الأمر فالامتثال والإذعان واجب الضعيف للقوي والمسود نحو السيد. وعلى الكلب ألا يجهل من يكون السبع الملك، وأي فضائل تلك التي خص بها دون المخلوقات، ومتى ينبغي توطين النفس على الرضاء بظلمه وحيفه
على أن الحياة كما هي لا بأس بها، والألم فيها على أي حال خير من الموت. فشعار لافونتين - مع هذا - الخضوع المطلق للواقع. وهذا شعار لا يرضي الأراديين وأصحاب الخطة في الحياة
وقد عاب عليه جان جاك روسو السخرية من الضعيف المغلوب. فبالإضحاك على حسابه يدعو إلى الإعجاب بالغالب المختال، ويحث على المظلمة والجور. وذكر أن حكمه وأمثاله ليست من النبل والبطولة في شيء. فكثيرها ينصح بقبول الحياة حتى في أحط الأوضاع؛ ثم ينصح بأخذها بالملق والإذعان والدهاء. وما هذه إلا صفات الخاضع الذليل الذي لا يرجى نفعه
على أن الخرافات في الحق وإن سخرت كثيراً من الضعاف لا تخلو من الإشارة إلى الأخلاق. وكيف لا والسخرية نفسها سياط تحدو إلى التفطن والانتباه حذر الوقوع فيها
يستوعبها من الغفلة والانخذال. وهل أدل على أن لافونتين قد قصد إلى الأخلاق والنصيحة من قوله هذا (ما أردت إلا الإفادة والإرضاء بهذه الصور الوهمية التي أقدمها للعالمين، فالحكاية لمجرد التسلية شيء يبدو لي تافهاً صغيراً)
كلمة ختامية
ولئن كان أروج الأمور - فيما يرى لافونتين - التسليم للأمر الواقع فان ذلك لا يعني عنده الغفلة عن المسرة واغتنام فرص الحياة. فهو - وهو أبيقوري المذهب - جد حريص على أن يهيب بالناس إلى الاستمتاع بمسرات العيش ما أسعفت الحيلة ومكنت الفرصة. فما للإنسان سوى عمر واحد، فإن هو بذل في هم وأحزان، إن كان وضع في الدنيا موضع كد وحرمان، فوالله قد عرى من دهره وحرم نعيم الرضاء بأية حال. فالمرء لا يعدم مع الفاقة والمعسرة والإذعان للسيد المقتدر، غبطة القناعة وسرور السلام. وهل استطعمت السباع التي خلفت وراءها ما فاض من مطعمها مذاقاً غير الذي ذاقته الثعالب في هذا المخلف؟ على أن الدنيا في واقع الأمر دار ضيافة، وليس من عرفان الصنيع في شيء أن تغادرها دون الشكر للمضيف أيا ما كان القرى الذي يتيسر لنا من حكم الأقدار
تلك وأشباهها أراء لم تكن إلا صدى لحياة لافونتين نفسها. فهو قد عاش قرير العين، رخي النفس، لا منفذ إلى قلبه للهم. وكانت له الضياع والعقار في أراضي (شاتوتيري حيث ولد ودرج وشب وعاش حتى الخامسة والثلاثين من عمره - فلم يعن بالإبقاء عليها تحرزاً من غير الدهر وصروف الزمن. فلما صار إلى الفقر نتيجة التبذير والإسراف، آواه بباريس (فوكيه) وزير مالية لويس الرابع عشر، فدوقة أورليان، فمدام دولا سابليير، فهيرفار من بعد، لم يمنعه ذلك من التسليم والرضا، ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه؛ بل أطلق لهواه العنان وأخذ بأوفر سهم من لذة العيش قبل أن تولي أيامه وتنصرم مدته. إلا أنه عند دنو الأجل استشعر الندم على ما فرط منه. يتضح ذلك من هذه النبذة التي نختتم بها من كتاب له إلى صديقه الشاعر (موكروا
(ومن الإسراف يا أخي أن تخال صديقك لافونتين مريضاً بالوهم؛ فالذي لا ريب فيه أنه لم يبقى من أجله إلا أيام معدودات، ولشد ما نالت من قواه العلة طوال عامين بتمامها، لم يشد أزره على شدتهما سوى نعمة اختلافه إلى المجمع اللغوي بين الوقت والوقت. ولكن
بالأمس وهو في طريق العودة منه، بغتة ضعف ظن أنه الموت على موعد. فأخذته الرعدة لا خشية الموت ولكن خوف الحاكم العادل، جلت قدرته. فأنت تعلم بأي وجه سيلاقي صديقك ربه. . .)
وتلك الندامة لعمري حسنة تسجل للافونتين.
محمد حسني عبد الله
أعداء النساء
للسيدة وداد سكاكيني
أمر من الرجل قد وقع، وقضاء قد حم على رأس المرأة. وكأن الدهر أبى منذ الأزل إلا أن يقطع أسباب المودة والصفاء بين الرجال والنساء، فسخر من غلاظ القلب والجسد من كاد لهن وتربص بهن، وزعم متلطفاً أنهن شر لا مفر منه ولا غناء عنه، فأساء الرجل إلى جنسه، والى من خلقت من نفسه؛ فكان كمن ضل وأضل. إذ كيف جاز في شرعة الحق والرجولة أن يخلق هذا الإنسان الجبار عداوة بين الجنسين، أو في دنيا مخلوقين بديعين؟ ومذ بدرت من الطبائع بوادر الخصومة والخلاف هب نفر من الرجال، وقد حسبوا أنهم يحسنون صنعاً، فتنادوا إلى ملاحاة النساء والغض من حسناتهن، ليقال إن العالم يشقى بشرهن ويعيا بأمرهن. وأخذ المتنادون والأشياع يهتفون في كل جريمة وقعت أو خصومة قامت: فتش عن المرأة. ثم غدا الناقمون مباهين بعداوة النساء، فروعت بنات حواء وفزعن إلى أخواتهن متسائلات: - من الشاهر سيفه الكاشر عن أنيابه، الناشر لمخالبه، يريد بنا الأذى وينوي لنا الردى. . .؟
فقلن هذا (أرثور) زائغ الفكر والشعور، رفع صوته في الغرب، فثارت به المرأة تتمنى جلده وتحطيمه. وذلك (التنوخي) الضرير نفث نقمته في أرجاء الشرق، فودت له النساء كل شقاء وفناء. وخلف من بعد هذين الناقمين خلف ورثوا عنهما المكايد والضغائن وصار إليهم بحورة الماكرين. . .
وبعد فما لامرأة اليوم حيلة بالأعداء الغابرين، فقد ماتوا وخلوا للمشايعين تراث العداوة لها؟ وكانت تحسب أنها استراحت من الأعداء، فإذا هم اليوم خصوم ألداء وحقدة أشداء، يتداولون بينهم ذلك التراث البغيض. من هؤلاء الخصوم في ديار العرب توفيق بن سليمان الذي جد في عداوته للمرأة فطعن عليها، ورماها بكل نقيصة في كتبه ومقالاته. واليوم ظهر في جنبه بوادي النيل عدو جديد. على أن أكثر هؤلاء الأعداء من الكاتبين والفلاسفة والكبراء، ما شاع ذكرهم ولا ذاع صيتهم إلا حين تهجموا على النساء بالمثالب والتسفيه، فإذا بمطاعنهم تدور وتحور، ويتردد صداها في كل مكان، وينبسط مداها مع الزمان، ويقبل على بضاعتهم الشامتون بالمرأة والغاضبون عليها، فيشترون من تلك البضاعة المزجاة
ويرتأون آراءهم الفائلة، وإذا بها ترن في المسامع وتطوف بالمجامع؛ فيهتف التاريخ بأسماء: شوبنهور ونيتشه والمعري وتوفيق الحكيم وغيرهم. . .
ومن عجب أن يجور هؤلاء الأعلام على النساء بما يخالف العرف وينافي الواقع، ليكتسبوا من هذه المناوأة والمكابرة شهرة جديدة وصيتاً بعيداً. وطالما جار الثالبون على أنفسهم فتعسفوا وتكفلوا وكان خبطهم خبط أعشى. أليس منا أمهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وجداتهم، ولم لا أقول زوجاتهم وبناتهم؟ ثم أستغفر الله مما وزل به اللسان، فإن كفيف المعرة كف نفسه عن المرأة، ولعل له عذراً، فلو كان كحل عينيه بجمال الغيد ولم يكن دميما لاجتاحت قلبه واحدة من النساء غيرت معالم اللزوميات، فلم يطعن علينا فيها بالتائيات، ولما أدارها معنا وقيعة سجالا وحرباً عوانا؛ فإن في كل بيت منها لسيفاً وسنانا. ولقد بنى أبو العلاء صروح شعره على ذم المرأة وما دل عليها، وكان منها أو إليها، فالدنيا عنده أم دفر، وهو أبداً ينحت أثلتها ويبري عودها، معتقداً أن كل خطب فيها سببه المرأة؛ فهو هدام معطل، لو أوتي قوة شمشون وكان مسبل الشعور لدك بهن العالم وأقفر الوجود. ومن يدري فلعل شوبنهور أو نيتشه وسواهما من أعداء المرأة في الغرب والشرق إذ كرهوها وصفدوها، كانت وراء كل منهم امرأة أفسدت عليه نعيم الحياة، وسودت في عينيه بياض الدنيا؛ فحسب الغدر والكيد كله من شيم النساء. وإذا كان لهؤلاء الأعداء الغابرين معاذيرهم في الغضب على النساء وفي عهود كن مستضعفات، فأي عذر للناقمين منهن في عصرنا؟ وكأن هذه النقمة من أكابر الكاتبين في أيامنا خصومة بهم أو دلالة عليهم، فإذا ركد لهم صيت أو فتر من حولهم إعجاب هزوا لأنفسهم رياح الشهرة بمقال يرسلونه، أو رأي يقولونه، في شأن المرأة، فقذفوا بالباطل عليها، ودعوا الرجال إلى البطش بها، وعد الحقوق التي تطلبها ضرباً من الأوهام والأباطيل. من هؤلاء الأعداء المكابرين الكاتب المصري توفيق الحكيم الذي يجهر بعدائه للنساء في كل نهزة، ويسخر قلمه للسخر منهن ومن ثقافتهن. وما كان هذا منه إلا ألعوبة أدبية يلوح بها في وجوه الناس ليزيدهم لآثاره تقديراً وعليها إقبالاً. ولعلهم كانوا كذلك بادئ الرأي، أما وقد عرفوا أفانينه فإن توفيقاً أصبح لدى العارفين أديب تربص وانتهاز، فمنذ عهد قريب دعا قومه إلى تعدد الزوجات، وحين نشر الدكتور طه حسين كتابه الأخير (أحلام شهرزاد) ضاقت عين الحكيم عن تسريح
النظر في هذه الأحلام التي صور فيها الأديب العميد (شهرزاد) في رداء من الحصافة والذكاء. ولما رآها مرت أمامه شهرزاد التي صورها خليعة ماجنة. ومن قبل نشر الأستاذ توفيق الحكيم فصولاً عرى فيها المرأة من مواهب الفن فزعم أنها لا تحسن إنشاء القصص التمثيلية ولا تستطيع أن تكون موسيقية تبتكر الألحان، وقد فاته من أدبنا القديم براعة المغنيات في عصر بني العباس، وفي العصر الحاضر من أهل اللحون نساء في المشارق والمغارب. أما الروايات التمثيلية فعهد العرب بها جديد، ولننتظر فإن الزمان لم ينفد أمده، وما زال الإنسان حياً، فإن في مأتى الدهر نجوماً ستنجم يكون بينها مؤلفات للمسرح وموسيقيات. ومن أعجب العجب أن تسكن عداوة الحكيم للنساء أشهراً لتكون وحياً جديداً للأستاذ عباس محمود العقاد، فقد نشر هذا الأديب العظيم مقالين زعم فيهما أن المرأة لا تجيد من الفنون غير فن الرواية، وكأن هذا الفن في نظره أهزولة هينة على كل كاتب، وقال إن المرأة ليست بشاعرة مبتكرة بل هي مقصرة ومكررة، لأن الشعر ابتكار واقتدار، وأنها لم تنبغ حتى فيما هو أقرب إليها وأحرى أن تتفوق به على الرجل وهو الرثاء، وإذا كانوا يضربون المثل بالخنساء فإنه ليس في ديوانها غير أبيات متفرقات في البكاء لا ترتقي إلى منزلة الشعر السيار، إذ كله تكرير لمعنى واحد، ولا يصح أن يقال إنه معنى من معاني القريحة والخيال. وقال العقاد أيضاً: إن التصوير كالتمثيل والمرأة فيه غير مبدعة. ولم تعرف نابغة فيه خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال. وهكذا رأينا هذا الكاتب الكبير يجرد المرأة من مزايا الإبداع والإجادة حتى في صناعاتها الخاصة بها، كالطهي والوشي والزينة والخياطة؛ فزعم أن الرجل يبذها فيها وينافسها، ونحن نقول إن في عديد شاعرات الغرب قديماً وحديثاً، وفي شاعرات العرب اللواتي - روى شعرهن أبو تمام وأبو نواس، أو التي ينشرن القريض لغة الضاد أو بلغة الفرنسيين - ما ينقض رأي العقاد؛ وفي الأديبات المعاصرات من أحرزت جائزة نوبل التي ما أحسب الأستاذ العقاد يزهد فيها، وفي النساء ممثلات كساره برنارد وراشيل، ومصورات لا يحصى لهن تعداد، أليس فيما أشرت إليه حجة بالغة عليه؟ ونحن لم ننس بعد مرثيته لفقيدة الأدب في الشرق الآنسة (مي). فعداوة العقاد إذن كعداوة الحكيم وكلاهما أديب أعزب وعن النساء بمعزل، بل ما دار لدى الأول بين يديه في صحن داره كما يذكر
هو في كتابه (عالم السدود والقيود) غير خادمه الساذج، وما وقفت في مطبخه طاهية ولا جارية، بل لم تخطر في فناء بيته وحجراته امرأة يدعوها بأم أولاده، والحكيم يعيش مفرداً متجافياً عن المرأة، وقد آثر مرة ألفة حمار كما قال عن نفسه في كتابه (حمار الحكيم). ويثور بالمرأة أديب آخر يمزح مزاحاً فيه حلاوة وفيه مرارة هو الأستاذ المازني الذي يتندر على المرأة ويستهزئ بها في كثير من قصصه ومقالاته، حتى أن زوجته وبناته لا يسلمن من أهكوماته وزرايته. وأحسب هذه الضروب من الأدب العابث بالنساء أصبح لدى معشر من أدباء العصر أفكوهة الفن وطرفة التجديد، وما المرأة في هذا الزمان إلا مستيقظة من سبات، ناهضة من خمول وهوان، فعلام يحول أدباؤنا دون تحريرها ورقيها، ويباهون بالعداوة لها وبالزراية عليها، وكان الأولى لهم أن يعالجوا مشاكلها ويتفقدوها في مجتمعاتهم، ويجعلوا منها شريكاً في حياة كاملة طيبة، وما بال هؤلاء الأعداء - وما جادت الأيام بأندادهم إلا على هامات العصور - يسخرون أقلامهم للهدم والتحطيم، وقد شرفها الله فأقسم بها وما كان مدادها إلا ليشرق من سواده نور الحق والخير على بياض الأوراق؟ ليتهم سخروها لرعاية المرأة ورفعتها، ولسوف تأتي الأجيال القابلة فينظر أهلوها في آثار هؤلاء الناقمين على النساء، فيرون أن بعضهم كانوا لاهين مباهين بأدب لحمته وهم وخيال وسداه زهو وتحريف، ينتزعوه أحياناً من الأساطير ويرددونه في الأدب الحديث باسم الفن والتجديد لقوم حرام عليهم اللهو والهزل والدنيا جادة في اقتحام الأمجاد وبناء الأجيال، وهكذا نراهم غير جادين في آرائهم أو مخلصين لدعواهم، ولو كانوا يريدون بالنساء خيراً ونفعاً لأنشأوا لهن أدباً يبصرهن ويعصمهن ويجمع قواهن في قوة الرجال فما ينبغي أن يتخلفن عن مسايرتهم في ركب الحياة
يقول الراسخون في العلم والنافذون بأبصارهم إلى عالم الغيب: إن في حياة كل أديب امرأة كان لها تأثير في توجيهه ونبوغه، وهذا ما ردده توفيق الحكيم منذ سنتين:(فمن أفواهكم ندينكم) يا أعداء المرأة؛ لولا نساء أظلمت عليكم قلوبهن فلم تدخلوها لما كانت عداوتكم، وإذا دعوتم إلى تحقير المرأة والبطش بها فإن وراء دعوتكم تشفياً وانتقاماً، فقد يكون الدهر إبتلاكم بأهواء الحسان، أو بلوتم زيوف النساء فتجافيتم عن الخوالص الصحاح
ثم ابحثوا أيها المنصفون تاريخ السرائر والنفوس، فلن تجدوا منذ حواء واحدة من النساء قد
نصبت نفسها لعداوة الرجال، ولو بحثتم عن أعداء النساء منذ آدم لوجدتم فيهم الكثير، فخلوا عنكم أيها الأعداء، وحسبكم تسفيهاً للمرأة وتجريحاً، وعلام هذه البغيضة منكم والقطيعة، فما العمر مديداً حتى يحتمل فيه الكدر والخصام، ولا فيه صفاء يدوم لإنسان.
(دمشق)
وداد سكاكيني
موكب الحسن.
. .
مَوْكِبُ الْحُسْنِ تَهَادَى
…
بْينَ أَرُجَاءِ الْحَياةِ
ضَاحِكَ اْلإشْراقِ طَلْقَ السِّ
…
حْرِ وَضَّاحَ السِّمَاتِ
أَلْهَوَى رَنَّحَ عِطْفَيّ
…
هِ بِسَكْرَي اْلأُغْنِيَاتِ
وَالسَّنَا رَقْرَقَ مَسْرَا
…
هُ كَأَمْوَاهِ الْقَنَاةِ
خُذْ مِنَ الْبَهْجَةِ يَا شَا
…
عِرُ مَا شِئْتَ وَهَاتِ
هَذِهِ الْجَنَّاتُ مِلَْء الْ
…
عَيْنِ سحْراً وَانْبهَارَا
تَرْقُصُ اْلأُغْصَانُ فِيهَا
…
رَقْصَ أَعْطَافِ السُّكارَى
وَنَسِيمُ الّليْلِ هَفْهَا
…
فٌ كَأَنْفَاسِ الْعَذَارَى
وَالنَّدّى سِرُّ الّليَالِي
…
قَبَّلَ الزَّهْرَ جِهَارَا
وَالدَّيَاجِيرُ مَحَارِي
…
بُ سُكُونٍ لِلْحَياَرَى
وَرَأَيْتُ الْحُسْنَ كالْحَيْ
…
رَانِ يَغْدُو وَيَرُحُ
أَطْلَقَ الصَّبْوَةَ تَجْرِى
…
خَلْفَهُ لَا تَسْتَرِيحُ!!
وَالْهَوَى وَالْوَجْدُ في جَنْ
…
بَيْهِ نَارٌ وَجُرُوحُ
وَالضُّحَى والليْلُ في كَفّ
…
يْهِ أَسْرَارٌ تَبُوحُ
إِنَّ هَذّا الكَوْنَ جِسْمٌ
…
وَالْهَوَى لِلْجِسْم رُوحُ
كُلّماَ أَبْصَرْتُ ذَاكَ الْ
…
بَدْر فَتَّانَ الْمُحَيَّا
وَالرُّباَ وَالْبِيدَ وَالليْ
…
لَ وَعُنْقُودَ الثُّرَيَّا
وَالنَّدَى والزَّهْرَ وَالْغِي
…
دَ وَأَكْوَابَ الْحُمَيَّا
قُلْتُ هَيَّا عَانِقِينِي
…
يَا مَجَالِي الْحُسْنِ هَيَّا
وَتَعَالَيْ نمتَلِكْ نَا
…
صِيَةَ الدَّنْيَا سَوِيّا!!
إِنْ تَبَدَّي الْحُسْنُ شَتّى
…
فَهْوَ في قَلبِي جَميعُ!
أَو ْتَعَرَّى فَلَكَمْ يُكْ
…
سَي به الْفَنُّ الرَّفِيعُ!
يَا تَقِيَّ الْقَلْبِ غُضَّ الطَّ
…
رْفَ فَالْحُسْنُ خَليِعُ!!
لَاتَسَلْنِيِ عَنْ شِتَاءِ النَّ
…
فْسِ وَالدُّنْيَا رَبِيعُ
كيْفَ أشكُو الْجَدْبَ وَالاْمْ
…
حَالَ وَالْوَادِي مَرِيعُ؟!
الدُّنَى مَجْلَي بَشَاشَا
…
تٍ تَهَادَتْ في حُلَاهَا
وَالْبَرايَا فِتنٌ سَكْ
…
رَى بأَحْلَامِ صِبَاهَا
تَعُبدُ الْحُسْنَ إِلهَا
…
حُرَّةً وَفْقَ هَوَاهَا
وَإِذَا مَا صَاغَكَ اللَّ
…
هُ شُعُوراً وَانْتِبَاهَا
أَحَرَامٌ أَنْ تَرَى في
…
كُلِّ فَتَّانٍ إَلهَا؟!
(كوم النور)
أحمد أحمد العجمي
من شعر الأطفال
1 -
الطيار الصغير
أنا طيّارٌ صغيرُ
…
لستُ أخشى ما يضيرُ
أنا في الجوّ أطيرُ
…
فوق هامات الرياحْ. . .
أنا طيّارُ بلادي
…
أنا عُنوانُ الجهادِ
إنْ دعتْ مصر تُنادي
…
قمتُ أسعى للكفاحْ. . .
2 -
البحار الصغير
أنا في الصبح أقومُ
…
ثمَّ في البحر أعومُ
أنا بحارٌ عظيمُ
…
كلُّ حبّ للحياةْ. . .
صاحبي النهرُ الجميلُ
…
ليس لي عنه بديلُ
كلُّ ما فيه جليلُ
…
مُثْبتٌ فضلَ الإلهْ. . .
3 -
اخوتي الصغار
لي اخوةٌ صغارُ
…
جميعهُمْ أبرارُ
أُحبُّهم من مهجتي
…
كذاك همْ أحبّتي
إن غاب يوماً والدي
…
أصبحت ُمثل القائد!
إن سرتُ يتْبعوني
…
أوْ قلتُ يسمعوني
وهكذا الإخوانُ
…
يضمّهم حنانُ. . .
(المنصورة)
علي متولي صلاح
البريد الأدبي
كلمة بريئة
الصلة بين الكاتب والقارئ. . . توثقها روابط المحبة والصدق والمعرفة والإخلاص. . . والكاتب الذي يعمل على إيجاد هذه الصلة بينه وبين قرائه كاتب فذ جدير بالاحترام. . . ولعل الأستاذ الجليل الدكتور زكي مبارك يعد الكاتب الاجتماعي الأول الذي يعني بهذه الصلة. . . فليس همه إنشاء الأدب المحض. . . يسكبه في أرواحنا فناً يأخذ بالمجامع بل همه المجتمع الذي يعيش فيه يبحث في مشكلاته. . . ويناقش في معضلاته. . . ويشارك القراء أبحاثهم ويناقشهم آراءهم في أدب جم. . . وتواضع كريم. هذا هو الدكتور زكي مبارك. ويبقى الأستاذ سيد قطب يريد أن يعرف رأي القراء فيه. . . ولعلي أتطوع لإبداء رأيي فيه. لا من ناحية قيمة كتاباته من الناحية الفنية الأدبية فهذا أتركه لأستاذة الأدب وجهابذة البيان. ولكن من ناحية أسلوبه في الخطاب والمناقشة مع الأدباء فهو مع الأستاذ مندور يعتمد على قلمه في سب الرجل والأخذ بخناقه ظلماً طاعناً في رجولته من أجل أدبه المهموس. والأدب شيء والرجولة شيء. . . والفن هو الفن. . . ومع ذلك فلم نر الدكتور مندور إلا ناقداً فنياً أعجب القراء بحثه وتعليله ونقدهوتحليله وشرحه وتأويله. . . ومعارك القلم عند القراء (عوامهم وخواصهم) لن تجدي فيها دعاية ولا حرب أعصاب أو حملة عمادها الشتيمة والسباب. لا بل القارئ يهمه الحجة والمنطق والأسباب. . . ثم ماذا؟ قرأنا مقال (أيها الأدباء أعصابكم) فإذا بنا ننتهي من المقال لنعيد قراءته. وقد لمسنا حسن التوجيه في أدب ولباقة. . . فإذا بالأستاذ قطب يهاجم الأستاذ دريني تحت عنوان غريب ما يصح صدوره من أديب:
(تصحيحات واجبة في الأدب والأخلاق)، ثم قرأنا لنرى (تصحيحات) فإذا بنا نقرأ شيئاً آخر. فهل التصحيحات معناها اتهام الأستاذ دريني بالتحامل. . . واتهام القراء بالعامية وأنه لا يتلقى معاييره الفكرية إلا من العوام وأشباههم. . . صحيح أن الأستاذ قطب تلميذ العقاد. وهل في هذا ما يغضب الأستاذ قطب. لا. الأستاذ قطب كاتب وأديب وشاعر وكل شيء. . . والقراء يحبونه أن يظل هكذا بينهم. . . وبقدر ما يحبونه يحبون آخرين. . . فإذا شاء أن يعارك فبقلمه لا بلسانه. وبعد نقول للأستاذ:(أيها الأديب أعصابك).
أحمد فهمي القاضي
المحامي
الأعراب
في العدد (530) في مجلتكم الغراء ورد اسمي في رسالة مفتوحة من (أستاذ جليل) إلى رئيس تحرير مجلة آخر ساعة يشكوني فيها إليه لبعض ما كتبته بإمضائي
وقد فهمت مما كتبه الأستاذ الجليل - وقد فهمته بصعوبة لبلاغة اللغة التي كتب بها - أنه يتهمني بالتجني على إخواننا العرب لمجرد قولي في سياق مقال: (كل هذه المدنية التي شيدناها لم تعجب الزائر الكريم، وإنما أعجبته قطعة من الصحراء أقيمت عليها أصنام، وقف حولها حمير وإبل وأعراب). . .
هذه الكلمة الصغيرة أغضبت الأستاذ الجليل، واتهمني من أجلها بأني نسيت تاريخ العرب والنبي والإسلام، ومن حرر مصر ومن هدى مصر والقواد والخلفاء العظام. . . الخ! نسيت كل هذا لأني حاولت في مقالي أن أصف صورة واقعية يراها كل من يدفع ثلاثة قروش ثمناً لتذكرة ترام يحمله إلى الأهرام. . . صورة الإبل والحمير المعدة لنزهة السائحين ولهوهم ومن حولها أصحابها فعلاً من الأعراب، أو على الأقل من المتزيين بزي الأعراب، يلهثون وراء السائحين صائحين (بقشيش)!
وقولي: (أعراب) دون (ال) التعريف تعني أنني أقصد بعض الأعراب لا الأعراب كلهم أو على الأصح. . . لا أمة العرب كما فهم الأستاذ الجليل. . .
وفي كل أمة، سوى كانت عربية أم مصرية أم فرنسية، ينقسم الشعب إلى درجات وطبقات. فلو قلت أن في مصر ماسحي أحذية؛ فليس معنى ذلك أن الشعب المصري كله من ماسحي الأحذية. ولو قلت أن من الأعراب من يقف وراء الحمير والإبل؛ فليس معنى هذا أن كل العرب يقفون وراء الحمير والإبل
إن العرب أمة من الأمم. . . أمة لها مزاياها ولها عيوبها. ومن حقنا أن نذكر عيوبها بنفس الصراحة التي نذكر بها مزاياها
أمة لها تاريخ مجيد. . . ولكن التاريخ لم يعد يكفي لتقدير الأمم في هذا الجيل.
إحسان عبد القدوس
من رسائل الرافعي: وحي القرآن باللفظ، القراءات
وحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية؛ فللأشعرية قول، وللمعتزلة، وللحنابلة مذهب. وثم فرق أخرى لها آراء مختلفة. ولا نطيل بذكر هذه الآراء فليرجع إليها في مظانها من يريد الوقوف عليها، وأنت لو تدبرتها كلها لألفيتها مما لا يسكن إليه العقل، ولا يطمئن به القلب. وقد فزعت إلى الرافعي وهو من أئمة البلاغة لعلي أجد عنده شيئاً يثلج الصدر، ولكنه على ما أتى من قول بليغ، فإن النفس لا يزال فيها من هذا الأمر شيء
ولعلنا نجد من أئمة الدين، أو من غيرهم من العلماء والمحققين، من يتولى بالبحث والتحقيق هذا الأمر الدقيق الذي يهم المسلمين جميعاً، حتى نصل فيه إلى مقطع تسكن إليه النفوس القلقة، وتستقر عنده العقول الحائرة
وهذا هو جواب الرافعي رحمه الله
يا أبا رية: السلام عليك، وبعد. فإنك سألتني مسائل دقيقة، تحتاج إلى الفكر وبسط الجواب وهذا ما لا قبل لي به فأنا مريض الدماغ حقيقة، ولكني أجيبك بما قل ودل
أما سؤالك فقد كثر الكلام في جوابه، والذي أراه أنا أن ألفاظ القرآن منزلة بحروفها ونسقها وإلا بطل الإعجاز، لأن الإعجاز لا يكون إنسانياً، وقد كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فتعتريه حالة روحية وردت صفتها في البخاري وغيره، وبها ينزع من عالم الحس فتتجرد نفسه الشريفة، فيرى الملك ويسمعه ويأخذ عنه، ثم يفيق فيؤدي ما أوحى إليه بحروفه، وهي حالة كانت شديدة عليه ولذلك تسمى (برحاء الوحي)، وكان جسمه صلى الله عليه وسلم يثقل فيها جداً ويتصبب عرقاً، إلى آخر ما ورد في صفتها مما يدل على ما تلقى نفسه الشريفة في تجردها وما يلقى الجسم في هذا التجرد، ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن يكون للإنسان وعي وفكر يؤلف به نسقاً في الكلام كما توهمت، لأن هذا التأليف من أفعال المخ، ولو أمكن أن تكون الألفاظ من عنده صلى الله عليه وسلم لظهر فيها أسلوبه قليلاً أو كثيرا؛ ولما كان في حاجة إلى نزول القرآن آية فآيتين إلى عشر، بل كان يحدث عنه المعنى الذي ينطبع في روحه جمله واحدة، وفوق ذلك فهذه حالة تستدعي وقوع التفاوت في
أجزاء القرآن وهو غير واقع، وأظنك لم تقرأ الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب ففيه كل شيء ما عدى كيفية نزول الوحي، لأني لم أتعرض لها إذ أردت أن يكون كتابي مقنعاً للمؤمن وغير المؤمن فجئت به من جهة العقل في كل فصوله. ومن أجل ما بينت لك جزم العلماء كلهم أنه لم ينزل شيء من القرآن مناماً، لأن النوم حالة يستوي فيها الناس لتجرد أرواحهم
أما اختلاف القراءات أحياناً في بعض الألفاظ فهو أدعى للإعجاب والإعجاز لا كما ظننت، لأن ملهم اللغة ومقسمها في ألسن العرب على اختلاف قبائلهم أنزل ألفاظ القرآن بطريقة يمكن لهذه الألسنة على تفاوت ما بينهما أن تتلوه. ومن المعلوم أن العربي يجمد على لغة واحدة وبعض العرب لا يستطيع أن ينطق غير لغته مطلقاً، كما ترى في الجزء الأول من التاريخ، فكانت القراءات لهذا السبب وكلها راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تلقاها كذلك عن جبريل عليه السلام، ما عدى القراءات الشاذة والضعيفة مما نبه عليها العلماء
أنزل الله القرآن لهداية العرب وإفحامهم به، فكان من الواجب أن تكون تلاوته متيسرة لهم على السواء، وهذا لا يتأتى إلا مع أوضاع في بعض الحروف، وهذه الأوضاع هي القراءات؛ فمن من العرب كان يستطيع أن يؤلف لكل هذه القبائل كلاماً واحداً ولا يعسر على ألسنة قبيلة من قبائلهم إلا أن يكون في الناس يومئذ إله لغوي. . .؟
من هذا ترى أن القراءات هي معنى من معاني الإعجاز انتبه إليها العرب ولا يمكن أن يدركه غيرهم ممن جاءوا بعدهم، ولهذا لا أستحسن في رأيي أن يقرأ بها الناس اليوم على اختلافها، إذ لا حاجة إلى ذلك بعد أن اجتمعت الألسنة على لغة واحدة، وقد ظهرت للقراءات فائدة تحقق معنى الإعجاز فيها، وهي تسهيل على بعض أصحاب الألسنة المعوجة كالمغاربة ونحوهم. أما في مصر فلا حاجة إليها
هذا ما يحضرني وأظنني كتبت في الجزء الثاني في هذا المعنى ما فيه كفاية. أما صحتي فهي هي، ولي رغبة شديدة إلى الكتابة والعمل، ولكن الطبيب ينهاني عن ذلك، لأن الدماغ مريض، ولله الأمر أسأله تعالى أن يعيد علي عافيتي ويزدها. والسلام عليكم ورحمة الله.
(مصطفى)
(المنصورة)
محمود أبو رية
تنبيه وتنبيه
كنت قرأت في مقال للأستاذ المفضال محمد عبد الغني حسن (ع 526 من الرسالة) إشارته إلى قول الشاعر:
إذا كنت في حاجةُ مرسلاً
…
فأرسل حكيما ولا توصه
ثم نصه على أن ذلك من قول (شاعر إسلامي). وأحب أن أذكر هنا أن نسبة هذه القصيدة إلى قائلها أمر مختلف فيه، ولكن الأستاذ الجليل أحمد يوسف نجاتي ينسبها إلى (الزبير ابن عبد المطلب) عن الرسول عليه الصلوات في ترجمة طويلة كتبها عنه بالعدد الصادر في يناير عام 940م من صحيفة دار العلوم. فقد أورد الأستاذ القصيدة ثم قال:
(قد ينسب بعض الرواة شيئاً من هذه الأبيات إلى عبد الله ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ولكن الثقاة ينسبون الأبيات كلها إلى الزبير بن عبد المطلب). وأورد تأيداً لذلك ما جاء في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري من تأكيد نسبة الأبيات إلى الزبير
فهذا أحد التنبيهين أتوجه به إلى الأستاذ النابغة محمد عبد الغني حسن. أما التنبيه الثاني فأخص به أستاذنا الجليل (نجاتي) فهو قد ذكر في مقاله - الذي أشرت إليه - عن الزبير أبياتاً للأخطل في وصف الخمر جاء فيها:
كمت ثلاثة أحوالٍ بطينتها
…
حتى إذا صرحتْ من بعد تهدار
آلت إلى النصفَ من كلفاء أترعها
…
علجٌ ولثمها بالجفن والغارِ
ثم قال: كمت جمع كميت وهو الأسود. وجمع على فعل لتوهم واحد له على وزن أفعل. ثم استطرد الأستاذ إلى تعليل تسمية الخمر كميتاً، وحدد صفة هذا اللون بين الألوان. وأقول إنه يبدو لي أن صحة الكلمة في البيت: كمت ثلاثة أحوالٍ. أي بالبناء للمجهول من الفعل (كم) بمعنى غطى وستر، فالشاعر يريد أن هذه الخمر غطيت بالطين في راقودها ثلاثة أعوام كوامل حتى صرحت وتكشف عنها زبدها. . . إلى آخر ما ينص عليه من معنى. هذا وللأستاذين منا عظيم التحية ووافر التقدير
(جرجا)
محمود عزت عرفه
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
نعلن إلى الأدباء الأفاضل الذين طلبوا من إدارة الرسالة كتاب (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) للعلامة الكبير الأستاذ ساطع الحصري، أن مؤلفه الفاضل لم يستطع إصداره إلى مصر ولا إلى غيرها من البلدان، لأن السلطات اللبنانية والسورية تحظر ذلك في الوقت الحاضر. وبهذه المناسبة نذكر أننا أخطأنا تقدير الثمن لهذا الكتاب القيم، فإنه يباع في لبنان وسورية بست ليرات سورية، وهي تساوي بالعملة المصرية ستين قرشاً، وهو مبلغ لا يزال ضئيلاً في جانب ما تكلفه الكتاب من الجهد في أعداده ونشره