الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 533
- بتاريخ: 20 - 09 - 1943
واجب الكاتب المصري
للأستاذ عباس محمود العقاد
للدعوة إلى مذهب من المذاهب الاجتماعية أو السياسية طريقان:
أحدهما طريه صريح، وهو التنويه بفضائل المذهب الذي تدعوا إليه، وتجريد المذاهب التي تخالفه من أمثال هذه الفضائل
والطريق الثاني غير صريح، وهو الإكثار من ذكر العيوب التي يفهم القارئ أنك توجهها إلى نظام اجتماعي بعينه؛ ثم السكوت عن إسناد أمثال هذه العيوب إلى الأنظمة الأخرى، كأنها براء منها
فإذا كنت تعيش في ظل الديمقراطية وأكثرت من الكلام عن البطالة والجوع والمرض وغيرها من العيوب الاجتماعية، فقد يفهم القارئ من ذلك أنك تقدح في الديمقراطية ولا تمس غيرها بمثل ما تعيبه عليها
ويسري هذا الفهم إلى ذهن القارئ في الزمن الذي نعيش فيه خاصة، لأنه زمن الصراع بين المذاهب الاجتماعية والأمم التي تدين بكل منها، حتى جاز أن يقال إن نتيجة الحرب الحاضرة هي نتيجة الصراع بين هذه المذاهب على صورة من الصور، وأهمها الديمقراطية والشيوعية والنازية وزميلتها الفاشية كما هو معلوم
فالكاتب الذي ينقد العيوب الاجتماعية في النظام الديمقراطي يجب أن يشير إلى أمثالها في النظم الأخرى، إلا إذا كان من قصده أن يبشر بتلك النظم من طريق الإنحاء على العيوب الديمقراطية
والذين يذكرون البطالة ومتاعب الفقراء من كتابنا يجب عليهم أن يقرروا الحقيقة التي لا شك فيها إن كانوا يؤمنون بها، وهي أن المذاهب الأخرى لم تعالج هذه المشكلة علاجا أفضل من العلاج الذي تهتدي إليه الديمقراطية، ولا تزال تسعى إلى تحسينه، وإلا كان إلصاق هذه المشكلة بالديمقراطية وحدها مخالفاً للحقيقة ومخالفاً للقصد السليم
أما الحقيقة التي لا شك فيها، ولا حاجة بها إلى الإطالة في البيان، فهي أن النظم الاجتماعية الأخرى قد فشلت في علاج مشكلة البطالة والفقر، ولم توفق إلى علاج لها يضمن دوامه وتحمد عقباه
فالبلاد الألمانية مثلاً قل فيها عدد العاطلين قبل الحرب الحاضرة، واحتاجت إلى الأيدي العاملة من بلاد أجنبية
ولكن الفضل في ذلك لا يرجع إلى المذهب الاجتماعي الذي غلب على البلاد الألمانية وهو النازية، وإنما يرجع إلى تسخير الأيدي كلها في صنع السلاح والذخيرة، وتقسيم الشبان بين جنود يعملون في الجيش، وعمال يصنعون لهم أدوات القتال
والنازية عدو الشيوعية كما هو معلوم، وبين المذهبين من الخصومة مثل ما بين الأمتين الجرمانية والروسية، ولكن الروسيين قد استطاعوا في السنوات الأخيرة ما استطاعه الألمانيون من إقلال عدد العاطلين، ولا فضل في ذلك للمذهب الاجتماعي الذي يدينون به وهو الشيوعية، وإنما الفضل فيه للتجنيد وتحويل الكثير من المعامل إلى مصانع للذخيرة والسلاح
فاشتغال المصانع بالتسليح هو سبب القدرة على إقلال عدد العاطلين، سواء كانت البلاد التي تدير مصانعها لهذا الغرض شيوعية أو نازية، أو كائناً ما كان المذهب الاجتماعي الذي تدين به وتقيم الحكومة على أساسه
وليس بالديمقراطية من عجز عن هذه القدرة، ولا تقصير في هذا المضمار
بل هي أقدر من النازية والشيوعية معاً على تشغيل الملايين في المصانع والمزارع حين تحتاج إلى المؤونة والسلاح
وعدد الصناع الذين يعملون اليوم في البلاد الديمقراطية يربي على عمال النازيين والشيوعيين مجتمعين
والأجور التي ينتفعون بها أفضل وأقوم من الأجور التي تصل إلى أيدي الصناع في البلاد الألمانية والروسية
فتدبير العمل عن طريق التسليح فضيلة لا يختص بها مذهب من المذاهب الاجتماعية على اختلافها
وليس هو حلاً صالحاً للمشكلة الاقتصادية التي تواجه الأمم في أيام السلم أو أيام الاشتغال بالتعمير والبناء
بل هذا الحل الوبيل هو البلاء الذي يهون إلى جانبه بلاء البطالة وإن ترك بغير علاج
إذ ليس من حلول العقلاء أن تطعم العاطلين فترة من الزمن طعاماً فيه الغنى أو ليس فيه غنى على الإطلاق ثم ترسلهم بعد ذلك إلى الذبح بالملايين من مختلف الميادين
وليس من حلول العقلاء أن تنكشف الحرب في البلاد المهزومة عن أضعاف من كانوا بها من العاطلين وهم عاطلون وبهم من البلاء، فوق بلاء التعطيل، تشويه وتشريد وتنكيل
هذا دواء أهون منه الداء
هذا هو الجنون الذي يؤدي إليه سلب الحرية وتسخير الشعوب المغلولة كما تسخر الأنعام
وشفاء هذا الجنون أن تعالج الأمور على أساس التعاون بين الطبقات والتعاون بين الأمم والتعاون بين الحكومات
وهذا الذي تحاوله الديمقراطية وترجو أن تبلغ فيه بغيتها من التوفيق والنجاح
فإذا نجحت فذلك نجاح الإنسانية، وإذا فشلت فذلك فشل الإنسانية التي لم تتمخض بعد عن مذهب أصلح من الديمقراطية لعلاج هذه المشكلات
لكن البوادر تدل على الخواتيم
والبوادر كما نشاهدها في برنامج (بيفردج) أو ما شاكله من البرامج أدعى إلى التفاؤل من جميع هاتيك المواعيد الكاذبة التي تمنينا بها مذاهب التدمير والعداء، سواء قام العداء بين الطبقات أو بين الأجناس البشرية من مختار في زعم أصحابه وغير مختار!
فالخطة الديمقراطية ترمي إلى تحصيل الضرائب الكافية من موارد الشركات والأفراد، وإنفاق هذه الضرائب على معونة الشيخوخة ومعونة الطفولة ومعونة العاطلين كلما قضت بعطلهم ضرورات المجتمع الذي يعيشون فيه
وهذه هي الخطة المثلى التي تجمع بين المطالب المأثورة في المذاهب الاجتماعية على تناقضها
فهي تقيم المجتمع على التعاون وتعفيه من أوضار الحقد والبغضاء بين هذه الطبقات
وهي تطلق الأيدي في التنافس والتسابق وترفع عن الناس وصمة الحجر الذي يتركهم مسخرين مقيدين كنزلاء السجون أو نزلاء الملاجئ والمستشفيات
وهي في الواقع ترد كل شيء إلى الأمة كأنها تقرر مبدأ الملكية العامة من طريق غير الطريق الذي يتوخاه الشيوعيون، لأن الأغنياء أصحاب الضياع والمصانع لا يبقى لهم من
ثمرات أملاكهم بعد الضرائب التي ترتقي إلى تسعة أعشار الدخل في بعض الأحيان إلا نصيب كنصيب الموظف في شركة أو ضيعة يديرها لحساب مالكها الأصيل. ومزية هذه الطريقة على الطريقة الشيوعية أنها تبقي في الأفراد عزيمة المنافسة والاستقلال والطموح إلى الامتياز، وأنها مع ذلك ترد الثروة كلها إلى الأمة لتنفقها على سنة التعاون بين الطبقات
وتلك مزية الخطة الديمقراطية.
وفوق ذلك مزية الحرية وهي مناط الكرامة الإنسانية.
ومن الثرثرة الفارغة أن يصيح الصائحون كلما ذكرت لهم حرية الديمقراطية: نعم! ولكن ماذا تغني الحرية مع الجوع؟ وماذا نصنع بالحرية والبطون خاوية؟
هذه ثرثرة فارغة يلفظ بها بعضهم حسنة نياتهم بريئة مقاصدهم، ويلفظ بها الآخرون وهم يعلمون أنهم مكابرون وأنهم يخاطبون معدات الجهلاء ولا يخاطبون رؤوس العقلاء.
فمن الذي قال مثلاً إن الحرية لا تكون بغير جوع؟ ومن الذي قال إن الديمقراطية فرضت خواء البطون على جميع الأحرار؟
ومن الذي قال إن المذاهب الأخرى قد سلبت الحرية وحلت مشكلة الجوع؟
فالذي رأيناه أن المذاهب الأخرى حلت مشكلة الجوع بالموت والخراب، وأنها تخرج من الموت والخراب إلى بطالة أخرى شر على الأمم من البطالة الأولى، ثم لا محيص لها في نهاية المطاف من حل المشكلة على الخطة الوحيدة التي يضمن لها الدوام وتؤمن بعدها العقبى، وهي خطة الديمقراطية كما نتمثلها الآن وكما يرجى لها من التقدم بعد التجارب المنظورة
فالذين يقولون: ماذا تغني الحرية مع الجوع ينبغي أن يدلونا على المذهب الاجتماعي الذي سلب الحرية وأراح الناس من مشكلة الجوع؟
أما وهم لا يستطيعون ذلك فعليهم أن يذكروا هذه الحقيقة ولا يغفلوا عن التنبيه إليها، ما داموا لا يريدون الدعوة إلى بعض المذاهب من طريق التشهير بالعيوب وحصرها في النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه
إن الحرية مع الجوع لا خير فيها
وإن الشبع مع الاستعباد وزوال الكرامة الإنسانية كذلك لا خير فيه
وإنما الفارق بين القولين أن زوال الحرية في ظل الشيوعية والنازية محتوم، ولكن الجوع في ظل الديمقراطية ليس بمحتوم ولا هو من المبادئ التي تدخل فيها كما تدخل الاستهانة بحرية الفرد في صميم المبادئ الشيوعية والنازية
وهناك فارق غير هذا الفارق بين القولين: وهو أن الشبع غاية حيوانية، وأن كرامة الحرية غاية إنسانية، وكفى بالديمقراطية فضلاً أنها تخاطب الإنسان ولا تخاطب الحيوان، وأنها تعامله معاملة المكلف الرشيد ولا تعامله معاملة القاصر الذي تشرف عليه الحكومة وتخدعه عن كرامته بأحاديث الشبع والجوع، وهي لا تكفل له الشبع ولا تريحه من الجوع. . . بل تخاطب المعدات لأنها عاجزة عن خطاب العقول.
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
إلى عمداء الكليات - عتاب لبناني - ترفق بنفسك يا صديقي
- للتاريخ الأدبي
إلى عمداء الكليات
هذه كلمة أسوقها برفق إلى عمداء الكليات بجامعة القاهرة وجامعة الإسكندرية، وأنا واثق بأن ما يرد فيها من المعاني قد دار بخواطر أولئك العمداء
سمعنا وقرأنا أن رجال الجامعة هنا وهناك يرون قبول الطلبة العرب بدون نظر إلى تفاوت الدرجات في شهادة الدراسة الثانوية، وهذا واقع بالفعل، وفيه دلالة صريحة على تشجيع التعليم العالي، وتقوية الروابط بين مصر وشقيقاتها في الشرق
فما الذي يمنع من أن ينتفع الشبان المصريون بذلك الامتياز اللطيف؟
أليس من العجيب أن تكون الجنسية المصرية عائقاً يمنع بعض الشبان من الانتفاع بما يتمتع به سائر زملائهم من الطلبة العرب؟
هل يجب على الشاب المصري أن يسارع فيتجنس بالجنسية العراقية أو السورية لينجو من تلك القيود؟
الشبان في مصر وفي سائر الأقطار العربية إخوة، فما الموجب لتمييز فريق على فريق؟
وكيف يجوز أن يكون من حق الشاب المصري أن يلتحق بأي جامعة أجنبية ولو كان آخر الناجحين في امتحان البكالوريا ولا يكون من حقه أن يلتحق بجامعة مصرية إلا إن كان في الرعيل الأول من الناجحين؟
وبأي حق يكون ترتيب النجاح في امتحان البكالوريا هو الفيصل في تقدير المواهب؟
يجب أن نعرف أن الشاب الذي يجوز امتحان البكالوريا بأي صورة معرض لتطورات كثيرة جداً، لأنه لا يزال في طور التكوين، فقد يتحول إلى جذوة من النشاط لم تمر به في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي. ويجب أن نعرف أن تمكين الشاب من التعليم العالي قد يضع أمام عقله مسئوليات تنقله من حال إلى أحوال. ويجب ثم يجب أن يتذكر رجال
الجامعة أن في التعليم العالي فرصاً كثيرة لإذكاء العقول، وهي فرص لا يجوز تضييعها على أي شاب، ولو شهدت درجاته بأنه كان في التعليم الثانوي من المتخلفين
لا يجوز أن ننسى أن البكالوريا المصرية أصعب من مثيلاتها في جميع البلاد، وفوز الشاب في هذه البكالوريا بأي صورة دليل على أن فيه خصائص عقلية تؤهله لاجتياز الصعب من باقي مراحل التثقيف
لم يبق إلا أن نتقي الله في أبنائنا فلا نؤاخذهم بتقصير لا ذنب لهم فيه، ويكفيهم فوزاً أنهم زحزحوا عن نار الرسوب
قلت مرات إنه يجب حتماً أن تكون مرحلة التعليم الثانوي هي المرحلة النهائية في إعداد الشاب للحياة، وهي لم تصر كذلك إلى اليوم، فلنساعد أبناءنا على ما يطمحون إليه في التعليم العالي، ولنجد عليهم بما نجود به على إخوتهم الوافدين من أقطار الشرق
هل تصل هذه الكلمة إلى قلوب عمداء الكليات؟
عتاب لبناني
كان الأستاذ محمد عبد الغني حسن نشر في (الرسالة) كلمة دعا بها الأستاذ إلياس أبو شبكة إلى كتابة كلمة في التعريف بالشاعر نجيب إليان، فرد الأستاذ أبو شبكة في (الجمهور) رداً يتلخص في أنه مع إجلاله واحترامه للأستاذ الزيات لن يكتب كلمته للرسالة، لأنها كسائر المجلات المصرية لا تلتفت إلى الحركة الأدبية القائمة في لبنان
وأقول إن هذه النغمة - كما يسميها الكاتب نفسه - نغمة جديرة بالسماع، وهي تتيح فرصة جديدة لتبديد شبهة قديمة تعبت أقلامنا في تبديدها عدداً من السنين، ثم ظلت حية لا يعتريها الموت، كأنها أفعى بسبعة رؤوس!
ثم أقول إن إغفال المجلات المصرية للحركة الأدبية في لبنان أو غير لبنان من أقطار اللغة العربية لا يرجع إلى نية صحيحة أو عليلة، وإنما هو فرع من الإغفال العام للحركة الأدبية في الديار المصرية. فجرائد مصر ومجلاتها تسكت عما يصدر في مصر نفسها من الآثار الأدبية والعلمية، بحيث يمكن القول بأن الحديث عن المؤلفات الجديدة لم يعد له في جرائدنا ومجلاتنا مكان
وقد صار هذا الإغفال في حكم القواعد المرعية، مع الأسف. ولم نجد من ينبه إلى أن له
عواقب في إخماد النشاط الأدبي في مصر، ولم نجد من يثور على هذا الشح في تشجيع من يبذلون قواهم في التأليف، مع أن الكلام عن المؤلفات الجديدة يعد باباً من توجيه الجيل الجديد إلى ما يجب أن يقرأ أو يتجنب من جديد المطبوعات
وأنا نفسي راعيت هذا الإغفال، فقررت أن أغفل إهداء مؤلفاتي إلى الجرائد والمجلات، لأني أكره إحراج زملاء ليس في نيتهم أن يلتفتوا إلى التأليف والمؤلفين، واكتفيت بالإعلان عن مؤلفاتي بالفلوس، إن احتاجت إلى إعلان
نقد الكتب قد انقرض في مصر. النقد الذي يبرز محاسنها قبل أن يبرز مساويها، النقد الذي يراعي فيه خلق صديق للمؤلف، أما النقد الأثيم فهو بحمد الله موجود!
وكان من عادتي فيما سلف أن ألتفت إلى المؤلفات الجديدة، فكنت أخصها بصفحات في جريدة البلاغ، ولكني لم أجز على تلك الجهود بغير الجحود، فإن أثنيت على المؤلف قيل تقريظ، وإن حاسبته قيل عدوان، وكانت النتيجة أن أعفي نفسي من عناء ليس له في مصر جزاء
وما جرى لي جرى مثله لكثير من النقاد، فانصرفوا عن نقد الكتب إلى غير معاد. وستظل الحال كذلك إلى أن نجد من الشجاعة ما ندوس به جميع الأهواء فنقول كلمة الحق في المؤلفات الجديرة بأن توضع في الميزان، غير مبالين بالقراء والمؤلفين
في هذه اللحظة تذكرت أني لا أقول كلاماً جديداً، فقد نشرت لي مجلة المكشوف في العدد الخاص بمصر مقالاً عما صار إليه النقد الأدبي في بلادنا، فاعذرونا إذا فرطنا في حقوقكم الأدبية، فقد فرطنا في حقوقنا الأدبية، وما ظلمك من ساواك بنفسه في الإجحاف!
وأنا بعد هذا أرجو أن يكون في هذه الكلمة مقنع لمن يتهمنا ظلماً بالتغاضي عن الحركات الأدبية في سائر البلاد العربية
ترفق بنفسك يا صديقي
رأى قراء الرسالة أن السيد حسن القاياتي عاداني من غير موجب للعداء، وساق إلي ألفاظاً لا تصدر عن صديق، مع أني لم أسئ إليه في سر ولا علانية. وكانت حجته أن ناساً حدثوه أني قلت فيه كيت وكيت، وهو يعرف أني أبالغ في إكرام أصدقائي، وأني لا أتعرض لأعدائي بكلمة مؤذية، إلا إن حاربتهم في الجهر لا في الخفاء
والآن، ماذا يريد السيد حسن القاياتي؟
أيريد أن أجزيه إثماً بإثم، وعدوانا بعدوان؟
أنا حاضر وفي يدي قلمي، ولكني لا أشترك في حرب يكون فيها الغالب أسوأ حالاً من المغلوب، فترفق بنفسك يا صديقي، واذكر عهوداً يذكرها كرام الرجال
تقول إنك كنت شاعراً كبيراً يوم كنت أنا طفلاً يلعب، فما قيمة هذه الحجة يا عضو المجمع اللغوي، كما ذيلت اسمك؟
هل كان يجب أن أسبقك إلى الدنيا لأسبقك إلى الأدب؟
وماذا أفدت أنت من سبقك اللطيف بحكم شهادة الميلاد؟
وماذا أفادت جهودك الشعرية في نصف قرن، وأنت الذي صرحت بأن باكورتك ظهرت قبل نصف قرن، يا عجوزاً سبقني إلى الوجود؟
اترك هذه الحجة الواهية، إن كنت تريد الحجاج
ثم ماذا؟ ثم طاب لك أن تتحداني وتتحدى الأستاذ العقاد بكلمتين جارحتين، وهذا ظلم منك، فالعقاد يملك في محاسبتك ما لا أملك، لأنه ليس لك بصديق، فهو لا يبالي تجريحك، ولا يؤذيه أن تبيت معصوب الجبين
أما أنا فأتردد ألف مرة قبل أن أصوب رمحي إلى صدرك، وقد يرضيني أن أسكت عنك، لأنجو من محاسبة الضمير على إيذاء الصديق
أتقول إنك أعظم مني؟ هو ذلك يا أخي!
أيؤذيك أن أكون أشهر منك؟ إن كان ذلك فأنا أخلع الشهرة عليك! خذ هذه الشهرة، خذها، فقد آذتني أعنف الإيذاء.
وما رأيك في الصديق الذي يجازف بصداقة دامت عشرين سنة أو تزيد؟
ما رأيك فيمن يشتم أخاه في مجلة مثل الرسالة وهو يعلم قيمة صوتها في الشرق؟
لقد ظهر السر في إخفاقك، وهو أنك رجل بلا قلب
إن كان لك بعد اليوم حياة أدبية فهي من صنع يدي، فأنا الذي أغضبتك على كسلك، وأنا الذي رفعت النقاب عن قلبك العقوق، ولن أتركك أو تصير أديباً يعتز بحاضره لا بماضيه، فما يعتز بالماضي غير الفانين
هل تذكر هذا الجميل؟ لقد سويت من قبلك ناساً فجحدوا جميلي وادعوا أنهم نظرائي، فكن أنت خاتم الأوفياء يا عقوق.
للتاريخ الأدبي
في سنة 1917 رفضت وزارة الحقانية أن يستمر الشيخ محمد الخضري بك والشيخ محمد المهدي بك في التدريس بالجامعة المصرية، وكانا أستاذين بمدرسة القضاء الشرعي، وهي يومئذ تحت إشراف وزارة الحقانية، فبحثت الجامعة عن أستاذ للتاريخ الإسلامي لا تسيطر عليه الحكومة، فظفرت بالأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، وكان قريعاً للشيخ الخضري، فقد كانا في الأدب والتاريخ فرسي رهان
ولكن أين من يخلف الشيخ المهدي؟
ذلك سؤال وجهه الأستاذ محمد بك وجيه سكرتير الجامعة في ذلك العهد إلى الشيخ عبد الرحمن المحلاوي أستاذ الشريعة الإسلامية بقسم الحقوق، فدله على الشيخ مصطفى القاياتي، أحد أساتذة الأدب بالأزهر الشريف
وفي عصر يوم سمعت صوتاً يناديني وأنا في طريقي إلى الجامعة فالتفت فرأيت الشيخ مصطفى القاياتي، وانتحينا ناحية في قهوة بميدان الأزهار ليدور هذا الحديث:
- هل تهمك سمعة الأزهر؟
- تهمني جداً
- وتهمك سمعة الجامعة؟
- بلا ريب
- إذن يمكن أن أعتمد عليك إذا قبلت اقتراح الجامعة؟
تقترح أن أكون خلفاً للشيخ المهدي في تدريس الأدب العربي، وقد فكرت كثيراً فيمن أعتمد عليه في معاونتي فلم أجد غيرك
- هل أعطاك سكرتير الجامعة منهاج المحاضرات لهذه السنة الدراسية؟
- هذا هو
نظرت في المنهاج - وكان من وضع الشيخ المهدي - فوجدتني أقدر على إنجازه بلا عناء، فأشرت على الشيخ مصطفى بالقبول، فمضى وأمضى العقد في الحال
شذوذ غريب!
كان الشيخ مصطفى القاياتي من أخطب الخطباء في عصره، كان يخطب ساعة أو ساعتين بلا تلعثم ولا توقف ولا تحيس، وكان لا يلحن أبداً وهو يخطب، ومع هذا كانت الكتابة عسيرة عليه عسراً لا يطاق، فما كان يسهل عليه إنشاء مقال، ولا كان في مقدوره تحرير خطاب
والذي سمع الشيخ مصطفى خطيباً لا يصدق هذا القول، فقد كان خطيباً ثجاجاً، خطيباً عرفته منابر الحزب الوطني قبل أن تعرفه منابر الوفد المصري، فكيف يصعب عليه الإنشاء وكان في الأزهر معلم إنشاء؟
يرجع إلى أنه نشأ واعظاً وكان أهله من الواعظين، فقويت عنده ملكة الخطيب الفصيح، وضعفت عنده ملكة الكاتب البليغ
هل أنسى يوم أنابه الوفد المصري في تأبين الشهيد محمد فريد؟
لقد ألقى خطبة جميلة جداً، ألقاها مرتجلاً وهو يجهل أن جريدة اللواء المصري ستطالبه بالنص، لأن خطبته هي كلمة مندوب الوفد المصري في تأبين الرئيس الثاني للحزب الوطني
عند ذلك دعاني لقضاء لحظة في تحرير الخطبة، فأنشأتها في حدود ما قال، إلا عبارات تأباها السياسة الحزبية، ولكن مكر جريدة اللواء كان أعظم فأضافت إلى الخطبة كلمات قالها الخطيب ولم يسجلها نائب الخطيب!
وتمثل هذا الشذوذ في معرفة الشيخ القاياتي بتاريخ الأدب العربي، فقد كان برغم فصاحته الخطابية لا يفرق بين عصر وعصر، ولا يعرف الحدود بين مراحل التاريخ
كان الشيخ مصطفى ذكياً جداً، ولكنه كان قليل الاطلاع، فكان من الصعب أو من المستحيل أن يخلف الشيخ المهدي في تدريس الأدب العربي
أستاذ بالروح
لم يكد الشيخ مصطفى يطمئن إلى معاونتي حتى شعرت بأن واجبي أن أحفظ سمعة الأزهر والجامعة المصرية، فشرقت في تاريخ الأدب وغربت، وأعددت أربعين محاضرة لو
نشرت اليوم لكانت غاية في دقة البحث ونضارة البيان، وهي لا تزال في حيازة الأستاذ يوسف القاياتي، فمتى ينفض عنها غبار النسيان؟
والمهم أن أسجل أن حرصي على الصدق في أن تصان سمعة الشيخ مصطفى من لغو اللاغين فرضت علي أن أجعل محاضراته في قوة محاضرات الشيخ المهدي
وقد نجحت ونجحت، وكانت جهودي في تلك السنة ذخيرة باقية لحياتي الأدبية، فقد استقصيت فيها مراحل الأدب في القديم والحديث
وبفضل الشيخ مصطفى القاياتي كان لي تلاميذ بالجامعة المصرية سنة 1918 منهم الأستاذ حسن إبراهيم وأحمد البيلي وعبد الحميد العبادي وإبراهيم الجزيري
ثم ماذا؟ ثم كان زكي مبارك من تلاميذي، لأنه أدى امتحاناً أمام الشيخ مصطفى القاياتي في الدروس التي أعددتها بنفسي، فإن أنكر زكي مبارك انه تلميذي فسأفحمه بشهادة السيد حسن القاياتي، وهو رجل شهد ذلك التاريخ المجيد.
زكي مبارك
3 - نشأة الدرامة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
لم يفكر جون هيوود عندما ابتكر الفواصل المضحكة التي أشرنا إليها في الفصل السابق، في أن تكون فواصله جزءاً من صلب الدرامة الأخلاقية، إنما قصد أن تكون شيئاً مستقلاً كل ما يرمي إليه هو التضحيك والترفيه عن الناس بهذا السيل المتتابع من النكات الشائقة وطرافة الموضوع ولذع سخريته، ولهذا كان تمثيل فواصله قاصراً على الحفلات التكريمية أو أوقات الاستراحة في الحفلات العامة أو المآدب الكبيرة. وكان أول ظهور فواصله التمثيلية هذه، التي مهدت للملهاة الإنجليزية الكاملة، في العام الثاني عشر من حكم الملك هنري الثامن - 1521 - ومن أطرف تلك الفواصل فاصله المسمى (الباءات الأربع)، أو والذي نستطيع أن نسميه باسم (المغفلين الأربعة، وهم: المحتال والمسامح والعطار والبائع المتجول وخلاصة هذا الفاصل أن خلافاً يشجر بين المحتال والمسامح، إذ يدعي المحتال أنه طاف بأرجاء العالم وجال في جميع أصقاعه، كما حج إلى بيت الله (في فلسطين طبعاً) عشرات المرات، ولذلك فهو يريد صاحبه على أن يقر له بسعة الاطلاع والتبحر في المشاهدة، وأنه بذلك قد هذب نفسه ورقق طبعه لكثرة ما خبر من أحوال العالم، وما تمرس به من تجاريب الحياة. بيد أن صاحبه يسخر منه ويغلو في الاستهزاء به، ويقول له إن من كان شأنه ما ذكر، كان ينبغي أن يعود أكثر اتزاناً، وأرجح عقلاً، وأوفر أدباً، وأقوى ضبطاً لنفسه، وأشد سيطرة على أعصابه. . . ويشتد الخلاف بينهما ويستفحل، حتى يوشكا أن يلتحما لولا أن يقبل عليهما العطار - المغفل الثالث -، فيرسل هو الآخر تهريجاته المضحكة، ويصرفهما عما كانا فيه من فخار وتعاظل ليزهي هو بنفسه، وليطلعهما على ما وهبه الله من مقدرة وافتنان في تركيب عقاقيره - ولاسيما السموم المهلكة التي تكثر من زبائن جهنم، وأنه أحسن مورد للمدائن وللقرى على السواء. ثم يقبل البائع المتجول - وهو المغفل الرابع - فيهرع إليه الثلاثة ليحسم النزاع المشتجر بينهم. . . لكنه يشيح عنهم ويشتغل بعرض سلعه وترتيبها، ثم يمضي وقت طويل ولا يمن الله على البائع المتململ بزبون واحد يجبر خاطره بشراء شيء من معروضاته الكثيرة فيشترك مع الثلاثة الآخرين في هرائهم مضطراً، ولكنه يرفض أول الأمر أن يقضي بينهم. . . لأن الله
لم يكتب له هذا القدر العظيم من الذكاء وعبقري الفطن حتى يستطيع أن يفهم هذه المشكلات العويصة التي يختلفون عليها. . . يقول هذا بعد إذ يلاحظ أن ثلاثتهم مغفلون أغبياء؛ بيد أنه يتغابى هو الآخر، ويستدرجهم لكي يقص عليه كل منهم أكبر كذبة من أكاذيبه. . . وهنا تنشب ملحمة مضحكة من أروع الأكاذيب التي لا يتسع المقام هنا لاستيعابها جميعاً. وما يزال هذا شأنهم حتى يدعي المحتال (النخاع) أنه طاف بأطراف الدنيا، وعاشر الملايين من الناس في كل حدب وفي كل صوب، وأنه بلا من أمور النساء ما لم يتفق لأحد من قبل ولن يتفق لأحد من بعد، وأنه كثير الأصحاب جم الأصدقاء، وأن في صويحباته نصف مليون امرأة! نصف مليون فقط! - ليس فيهن من تدللت عليه يوماً ولا بدت منها أمارة من أمائر الغضب لأي سبب من الأسباب - ولما كانت هذه من غير شك أغلظ الأكاذيب وأفحشها فقد قضى البائع بالغلبة لهذا المحتال (النخاع!) - والدرامة من أولها إلى آخرها تفيض (بالفَشْر!) - وليغفر لنا القراء هذا التبذل في التعبير فنحن نكتب عن الملهاة الإنجليزية التي يعتبر (الفشر) أقوى أركانها. ثم هي مليئة بالنكات من النوع الهادئ الذي يفيض عن الطبع الإنجليزي البارد. وقد كتب هيوود قبل هذه الدرامة - أو الفاصل - فاصلين آخرين أقل منها مرتبة، وقد أدى للمسرح الإنجليزي أجل خدمة بفصله الأخلاقيات والفواصل أولاً، ثم بخروجه على تقليد الشخصيات المجازية ثانياً، واتخاذه أشخاص فواصله من الحياة مباشرة. ومما يؤسف له أن أحداً من الأدباء الإنجليز لم يقتف أثر هيوود في هذا المضمار. على أن أديباً آخر هو (نيقولا أودول ناظر مدرسة أيتون (1505 - 1556) - وكان من عادته تقديم درامة من الدرامات الكلاسيكية الرومانية في كل من حفلاته السنوية المدرسية، قد فاجأ المدعوين بملهاة من تأليفه سماها (رالف رويستر دويستر - كانت أول ملهاة منتظمة من فصول متفرقة شهدها المسرح الإنجليزي - والملهاة بعد ذلك لم تكن شيئاً مذكوراً ولم يكن لها قيمة من حيث الحبكة أو الموضوع أو اللغة إن لم تكن شيئاً غثاً تتقزز النفس منه وتغثي له. وقد نظمها من خمسة فصول وقسمها إلى مناظر وقصد بها إلى تصوير حياة الطبقة المتوسطة من سكان لندن في القرن السادس عشر. وأبطالها الثلاثة: أرمل تدعى كونستانس، ثم عاشقان يحاول كل منهما أن يفوز بها. أما أولهما وهو بطل الرواية فهو رالف رويستر دويستر ومعناه الولد الجعجاع الكثير التفاخر؛
وأما ثانيهما فيدعى جاون جودلك. والبطل هو أحد أولئك الأغرار المغفلين، أما خصمه فهو الحبيب المدلل المقرب. وتبلغ الملهاة ذروتها، حينما تجتمع الأرمل وصويحباتها ليقذفن إلى الشارع بالبطل المخبول وبأتباعه العرابيد، ثم تنتهي بصلح عام!
هذا وقد ألف جون ستل (1543 - 1608) ملهاته (إبرة الجدة جرتون ' على طراز ملهاة أودول، إلا أنه أشر بها كثيراً من روح الفكاهة الشعبية (البلدي!)، وأرسلها في لهجة عامية شديدة الغموض، حتى على الإنجليز المحدثين أنفسهم. وتتلخص الملهاة في أن الجدة جرتون كانت جالسة ترفو ثياب خادمها هودج، ثم ذهبت لقضاء أمر ما بداخل بيتها؛ فلما عادت والتمست الإبرة لم تجدها، فأخذت تسب الدنيا وتلعن الحياة وتسأل أهل الحارة عن إبرتها العزيزة المفقودة، ثم تلتقي بشحاذ أبله يدعى دكون فيخبرها أن فلانة من أهل القرية قد سرقتها، فتصيح بها الجدة جرتون، وتقبل المتهمة وتدفع التهمة عن نفسها، لكن جرتون تشتط في صياحها فتصيح المرأة الأخرى وتجتمع نسوة القرية جميعاً ليشاركن في هذه الملحمة المضحكة، ويتراشقن (بأشلق!) العبارات، ثم تهدأ العاصفة حينما يعثر الخادم هودج بالإبرة مثبتة في مكانها من الرقعة التي كانت الجدة جرتون ترفوها
وقد امتدح الناقد الكبير هازلت روح الفكاهة في هذه الملهاة وإن لم يمتدح لغتها. . . (لأنها غذاء شعبي شهي ليس غريباً على الجمهور الإنجليزي، وفكاهة بريئة تصويرية لأمزجة متشاكلة. . . قد نظنها لأول وهلة شيئاً لا قيمة له، شيئاً تافهاً غير جدير بالاعتبار، لأنه ليس كما عندنا. . . ونحن إذا انتقدناها انتقاداً سطحياً هكذا، كنا متجنين على هذا التراث الأدبي البدائي، وكنا كمن يرفض قراءة كتاب قديم قيم لأنه به بعض الأخطاء الإملائية!!)
مما تمتاز به هذه الملهاة اشتمالها على إحدى الأغاني الإنجليزية التي يهتم بها الإنجليز إلى اليوم. ويرجع العارفون أن هذه الأغنية ليست من نظم ستل، بل إنه قد أخذها عن شاعر آخر لا يعرف اسمه. ومما امتاز به أيضاً هذه الأسماء الفكاهية التي يلجأ إليها المؤلفون الكوميديون اليوم لتزيد في كثرة (النكت) ولتزيد بالتالي في كثرة ضحك المتفرجين - فالبطلة جامر جرتون أي الجدة جرتون، وقد يلحظ القارئ العربي النكتة في كلمة جامر التي هي نوع ترخيم جدة كما يرخمون جد فيقولون جافر وهنا موضع تفكهة للإنجليز. وخادمتها تب أي عاهرة، وخادمها كوك أي ديك، وجارتها كات أي قطة، وخادمة هذه
الجدة دل أي عروسة أو لعبة، والدكتور رات أي فأر الخ. . .
المشاهد الموسيقية
أشرنا في فصل سابق إشارة خفيفة إلى الدرامة التنكرية التي هي مشاهد تنكرية أيضاً، ولكن من نوع مرح يؤدي في مشرق مرن ممتلئ بالبهجة والأبهة في بيوت العظماء والنبلاء والممتازين - وقد انتقلت هذه المشاهد الموسيقية، أو المشاهد التاريخية - إلى إنجلترا في إبان عصر الملك هنري الثامن من إيطاليا، وتؤدي فيها مشاهد درامية تاريخية راقصة أبطالها اللوردات وأزواجهم في شكل موكب موسيقي حافل أساسه الإنشاد والملبس الزخرفي البهيج خلال رقص توقيعي أو رقص مشترك. . . ومؤلف هذا اللون من المشاهد الذي ألحقناه بفصل الملهاة هو المهندس قبل الشاعر أو الأديب، وذلك لأنها درامة مشهدية (استعراضية) قبل أن تكون درامة شعرية أو درامة منثورة. فالمهندس أو المخرج هو عماد النجاح في هذه الدرامة التصويرية التي ترتكز على الجمال المنظور، وررعة توزيع الأضواء، والدقة في إبراز المشهد وسمو الذوق في اختيار الملابس، والتنظيم الآلي لصالة العرض قبل أن ترتكز على الموضوع أو الأناشيد، أو ما إلى ذلك من ألوان الأدب. . . إذ كل ذلك شيء ثانوي بالقياس إلى المؤثرات المحسة في المشهد الموسيقي. وقد ألف الأديب المسرحي الكبير والشاعر الفحل بن جونسون كثيراً من المشاهد الموسيقية التي ترك للمهندس المسرحي الخالد إنيجو جونس إخراجها الفني والآلي فبرع في ذلك وأبدع أيما إبداع. . . وقد ألف فيها كذلك الشاعران الكبيران بومونت وفلتشر أكثر مما ألف جونسون، وذلك باشتراكهما معاً في التأليف على نحو ما يصنع بعض أبطالنا الكوميديين اليوم. وقد استقل فلتشر بالناحية الدرامية، كما اختص بومونت بالأغاني والنظم. . . أما جونسون فقد كتب أربعين مشهداً، ثم جاء شاعر إنجلترا الكبير جون ملتون فكتب بعض المشاهد بأسلوبه المتفرد العالي، ثم هذب بعض مشاهد جونسون لتسلك من قلمه الرفيع الجبار في سجل الخلود
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن هذه المشاهد الموسيقية - أو الاستعراضية - كانت فاتحة عظيمة للأوبرا والأوبريت في العصر الحديث، وأن البلاط الإنجليزي في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان معرضاً حافلاً لهذه المشاهد الاستعراضية الراقصة، وأن القناطير
المقنطرة من الجنيهات الإنجليزية كانت تنفق بلا حساب على الموسيقيين المحترفين والمغنين ومهندسي المناظر والأضواء كي يبلغ إخراجها حد البهاء والكمال، وهذا هو الذي جعل الملكة إليزابث نفسها تشفق من هذا اللون من ألوان التسلية الملكية في بلاطها فحظرت أداءه فيه (حتى لا تتعرض خزانة الدولة لتلك البالوعة من بالوعات الإسراف، وهذا العبء الفادح من أعباء البذخ)
وقد كان عرض المشهد يبتدأ بحوار غنائي أو كلامي تتلوه استعراضات راقصة فردية من الممثلين المحترفين، ثم يختار هؤلاء (زملاء الرقص) من بين النظارة، فيصير الرقص زوجياً، ثم يختلط الحابل بالنابل ويسود الهرج والمرج. . . وهنا موضع النشوة المنشودة من (الماسك) وهي تتم على أنغام الموسيقى وترجيع المغنين وتسجيع المنشدين. . . وكان على الشاعر أن يسبق المشهد أو يفتتحه بكلمة يلخص فيها الموضوع ويصف المناظر من حيث ما ترمز إليه من بيئة ووسط وجو، ثم يثني أطيب الثناء وأعطره على السادة الأشراف الذين تنازلوا فقبلوا الاشتراك في التمثيل، وهم من هم من أمراء البلاد وأعيانها وساداتها، والذين تفضلوا منهم بالمساهمة في نفقات الإخراج (وما أفدحها وأثقل أوزانها!) ثم يفرغ بعد ذلك إلى الثناء على معاونيه ومساعديه من مصورين وموسيقيين ومهندسي أضاءة ومغنين وراقصين. . . ثم يتقدم فيوزع كراسة (بروجراما) تحوي كل المعلومات عن منهاج الحفلة المفصل، وكان الحاضرون يحتفظون بها تذكاراً فخرياً يعرضونه في صالوناتهم، آية من آيات بهاء البلاط الملكي الإنجليزي ولألائه!
(يتبع)
دريني خشبة
المشكلات
6 -
اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد هال بعض علماء العربية ما يرونه من تعلم ولدان الأعراب لغتهم بالطريقة الطبيعية إذ يخرجون يتكلمون بها لا يخطئون ويعربون فلا يلحنون، ووازنوا بين هؤلاء الولدان وبين تلاميذهم الذين يعلمونهم على طريقة القواعد والقوانين، فرأوا البون شاسعاً، والفرق واضحاً: هذا يصيب ولا يخطئ، وهذا يخطئ ولا يكاد يصيب، إذا أخذ الأول بالخطأ لم يطاوعه لسانه، وتعذر عليه الخطأ كما يتعذر على الآخر الصواب. رأوا هذه المشاهدة، ووازنوا هذه الموازنة، فذهبوا إلى أن اللغة العربية للعرب ولأبنائهم بالطبيعة والفطرة، ولغيرهم بالتعليم، وشتان بين ما هو بالطبيعة وما هو بالتعلم والتكلف؛ ولن يبلغ المتكلف وإن بلغ الغاية شأو الطبعي الفطري
وهذا المذهب غير صحيح وإن كان أصحابه معذورين في الذهاب إليه
أما العذر فلأنهم يفنون أعمارهم في درس اللغة العربية وقوانينها وعللها وأسبابها، يبذلون طاقتهم ثم لا يجدونهم قد بلغوا ما يبلغه ذلك الغلام الذي ينشأ في البادية من إجادة اللغة وامتلاك ناصية الشعر والنثر
وأما أن هذا المذهب خطأ فيدل عليه أنه لو كانت اللغة العربية طبيعية في العرب لما تخلفت، لأن ما بالطبيعة والذات لا يتخلف. ونحن نحكم بالتخلف، فلو أخذت صبياناً من أبناء العرب وربيتهم في فارس أو الروم لخرجوا يتكلمون الفارسية أو الرومية، ولم يحسنوا شيئاً من العربية؛ وإذن فليست اللغة العربية في العرب وأبنائهم طبيعة وليست فيهم لذاتهم، ولو أخذت صبياناً من أبناء فارس وربيتهم في بادية العرب لخرجوا يتكلمون العربية ولم يعرفوا شيئاً من لغة فارس والروم. فالصحيح من القول إذن أن اللغة العربية في العرب وغيرهم بالتعليم والاكتساب؛ إلا أن الطريقين مختلفان، فالعرب يتعلمونها بالحفظ والاختلاط وتربية الملكة، والنحاة يتعلمونها بالقواعد والقوانين، ويهملون تربية
الملكة، فتكون الطريقة الأولى أجدى وأنفع، وتكون الطريقة الثانية أخيب وأقل جدوى
ونحن ليس في استطاعتنا أن تكون البيئة العربية فنأتي بالطريقة الفطرية، ولكن في استطاعتنا أن نقارب، وأن نقلد الطريقة الفطرية فنحسن التقليد، ونكثر من الحفظ، ونعمل على تكوين ملكة اللغة بالعادة والدربة والتكرار
أيجمل برجال التعليم أن يخطئوا في تعليم الولدان اللغة العربية فيعلموا بالقواعد ما لا يعلم إلا بالتكرار والحفظ ثم يطالبونهم بكتابة مواضيع تكون جارية على أساليب اللغة، خالية من اللحن والغلط، فإن لم يستجيبوا لهم ونسبوا إليهم العجز والتقصير؟
كيف يكتبون كتابة جارية على أساليب العربية ولم تتكون في أذهانهم مقاييس ونماذج عربية يكتبون على مثالها؟ وكيف يتكلمون كلاماً جارياً على أساليب اللغة ولم تتكون في أذهانهم صور ذهنية تدعوهم للتكلم على منهاجها؟ وكيف نطالبهم بالسرعة والجودة في الكلام وتوفير الزمن والجهد وهم لم يكتسبوا ملكة اللغة التي بها يكون ذلك؟
الحق أنكم تستنبطون الماء من الحجر، وتطلبون في الماء جذوة نار. الحق أنكم تأتون الأمر من غير بابه، وتلجمون الفرس من الخلف. الحق أنكم إذ تلومون التلاميذ على خيبتهم في اللغة تلومون غير ملومين، وتأخذونهم بذنب أنتم علله، وبجريرة أنتم أسبابها. ولو أنصفتم للمتم الطريقة التي علمتموهم عليها، أو بالحرى لرجعتم باللوم على أنفسكم
يا قوم جربتم طريقة القواعد في تعلم اللغة العربية ألف مرة، وفي كل مرة تخفقون، وجربتها الأجيال قبلكم كذلك، فجربوا مرة واحدة طريق الحفظ والتكرار، وأنا كفيل لكم أن تحمدوا هذه التجربة، وألا تعدلوا بها غيرها، ولو بذل لكم ما يستطاع للعدول عنها إلى طريقتكم الأولى لم تفعلوا، لأنكم قد وجدتم في هذه الطريقة النجاح حين وجدتم في الأولى الإخفاق
ونحن نعلم في مدارسنا المصرية اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، كما تعلمها مدارس الجاليات الأجنبية، ولكن الشركات والبنوك والمحلات التجارية التي تصطنع هاتين اللغتين في الكتابة والخطابة تفضل أن تستخدم من تخرج في المدارس الأجنبية على أن تستخدم من تخرج في المدارس المصرية، لأن الأول يجيد اللغتين كتابة وحديثاً، والثاني أبانت التجربة أنه لا يجيدهما كأخيه. أتدرون لم ذلك؟ إن شؤم طريقة تعليم اللغة بالقواعد قد تعدى
إلى هاتين اللغتين، فمدارسنا المصرية تعلمهما على طريقة حفظ القواعد، أما المدارس الأجنبية فتعلمهما على الطريق الطبعي طريق الحفظ والتكرار والمحادثة حتى تثبتهما ملكتين راسختين في النفس فيجيد تلاميذها الكتابة والحديث بهما، ومن أين لتلاميذ المدارس المصرية أن يجيدوهما وهم إنما عرفوا القواعد ولم يجعلوهما ملكتين بالحديث والتكرار؟
ومن ذلك نعلم أن هذا الإخفاق لا يرجع إلى قصور في عقول التلاميذ المصريين ولا إلى كسل يستولي عليهم، وإنما يرجع إلى هذا الأسلوب العقيم. وهذا هو السر أيضاً في كثرة التلاميذ الذين يرسبون في هاتين اللغتين، فنحن الذين يجنون عليهم، ثم نحملهم جريرة عملنا، ونأخذهم بذنوبنا
سمعت أحد أبنائي يردد صيغاً من اللغة الإنجليزية ويقول هذا للمذكر وهذا للمؤنث وهذا للجمع
فقلت له: ماذا تفعل؟ قال: أحفظ درس القواعد. قلت له: ما هكذا يكون، ينبغي أن تأتي بجمل تامة من اللغة الإنجليزية في مخاطبة المذكر ومخاطبة المؤنث والجمع، وتفهم معناها وتكررها وتحفظها، وتتحدث بها حتى تكون ملكة، ثم تأخذ القاعدة منها إن شئت. هذا هو الأسلوب الفطري في تعلم اللغة؛ أما أن تأخذ اللغة من القاعدة فهذا ليس طريقاً طبيعياً. لقد كان يعجزنا ونحن تلاميذ أن نحفظ قواعد اللغة العربية، فكنا نستعين عليها باستنتاجها مما نحفظ ومما رسخ في أذهاننا، وصار ملكة فينا. مثلاً: إذا كنا لا ندري ما عمل كان وأخواتها، وما عمل إن وأخواتها، رجعنا إلى ما رسخ في نفوسنا، واستشرنا ملكاتنا ونطقنا بأمثلة نحفظها، فيها كان وإن، ونرى كيف تنطق بها ألسنتنا، كقوله تعالى:(كان الله غفوراً رحيما)، (وإن الله على كل شيء قدير). ونستنبط من ذلك أن كان ترفع الاسم وتنصب الخبر، وأن إن تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا تقريب لما أريد أن يكون في تعليم اللغات. أريد أن تثبت الأساليب والألفاظ بالحفظ والتكرار حتى تكون ملكة، ثم تستنتج منها القواعد، ولا أريد أن تحفظ القواعد لتعلم منها الأمثلة، فإن ذلك يجعلها ملكة إلا أن يلجأ إلى الحفظ والتكرار
ومن العجب أن تمكث هذه المدارس بين ظهرانينا هذا الدهر الطويل ونرى أسلوبها الناجح في تعليم اللغات، ونلمس نجاحه ولا نقتبس منها هذا الأسلوب! أيرى قوم طائفة تعمل عملاً
فتنجح، ويعملون هم هذا العمل فيخيبون، ولا تدعوهم أنفسهم لترك أسلوبهم واقتباس أسلوب الناجحين؟ وأعجب من هذا أن ترى هذه المدارس أسلوبنا الخائب، وتلمس خيبته فلا تنصحنا ولا ترشدنا إلى الطريق القويم في تعليم اللغات
أيستطيع أحد أن يرى ضالاً يمشي على غير الجادة تنكبه الأحجار وترديه الحفر، ولا يقيمه على الجادة؟
لست أدري أأرجع باللائمة علينا لعدم استفادتنا منهم، أم أرجع باللائمة عليهم لعدم إرشادنا؟ ولكن يظهر أن بين الجماعات منافسة كما بين الأفراد؛ فلا ترى جماعة جماعة ضالة وتهديها السبيل. فإن كان ذلك كذلك فقد أغناكم الله عن أجنبي يضن عليكم بالنصيحة. وهاكم النصيحة من رجل من أنفسكم محب لكم يود خيركم، ويحرص على نفعكم، ويعز عليه أن تضيع جهودكم، وأن تبدد أعماركم. وهو ناصح أمين؛ فهل أنتم منتصحون؟
محمد عرفة
عمر بن الفارض
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
صفحة ناصعة من تاريخ الأدب العربي. صفحة ذات معان ومزايا متنوعة يقف السامع بازائها حائراً مبهوتاً كأنه يتسمع إلى ألحان من الموسيقى الإلهية، بل نغم ينبعث من أجواء علوية، كأنه الإلهام الذي يستولي على الدماغ ويمتزج بالفكر فيكون سحراً. تلك هي حال القليلين الذين يضن الدهر ولتاريخ علينا بهم لأنهم مثلوا عصوره. بهم تفيض علينا معاني النبوغ والعبقرية تلك المعجزة الإلهية؛ وهذا شأن العظمة التي يخلقها العظيم فيعظم عصره؛ وهكذا تنطوي عندئذ صفحة من صفحات التاريخ وسفر جليل من السفارة يكون رمزاً للحياة الماضية والحاضرة. وهذا ابن الفارض الشاعر الرقيق المفتون بالعزة الإلهية بشعره، العابد للجمال الرباني بمنظومه، فهو شاعر العاطفة الذي يثير ما في القلب من الأحزان والمآسي التي طبعتها صروف الأيام. يريك ابن الفارض ألواناً من شعره تلذ لك فتبحث عن الرقة والخيال وكل ما هو جميل في الكون من المبهجات. هو الشاعر المبدع الفيلسوف في وصف الحب والجمال. وهل من شيء سواهما أعز لدى المرء في الحياة الدنيا؟ لا أظن شاعراً من الشعراء المتأخرين ممن سلك مسلك ابن الفارض في شرح معنى الحب والجمال وما يجلبان على المرء من سوء المصير إذا ما عسر عليه وجدانهما أو فقد أحدهما. فهو الذي افتن في وصف الحبيب والحنين إليه إذا ما غاب، وفي وصف آلام المحب إذا ابتلى، وفي خضوع الإنسان للجمال جمال الحبيب الذي يخلب اللب ويذيب الأحشاء. كل هذه الأوصاف تعمق ابن الفارض في تحليلها وسبكها في قوالب شعرية يعجز القلم عن نعتها. وهانحن أولاء نأتي باليسير منها لضيق المقام. أما مختصر ترجمة فهو الإمام العارف بالله الشيخ أبو حفص أبو القاسم عمر ابن أبى الحسن ابن المرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض. ومعنى الفارض أنه يكتب الفروض للنساء على الرجال، كما جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان. كانت ولادته بالقاهرة في الرابع من ذي القعدة من سنة 576هـ في عهد صلاح الدين الأيوبي، وله ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه طريف ظريف؛ وقد أبدع وأجاد بالمعاني والعبارات الرقيقة، وشع بشعره في الأفكار كالشمس في رائعة النهار، وكان رجلاً صالحاً كثير الخير
على قدم التجريد، وجاور مكة الشرفة زماناً، وكان رجلاً حسن الصحبة محمودة العشرة. وقد قيل عنه إنه ينظم الشعر أحياناً في النوم ومنه هذان البيتان:
وحياة أشواقي إلي
…
ك وتربة الصبر الجميل
ما استحسنت عيني سوا
…
ك ولا صبوت إلى خليل
وهو من أهل الطريقة الرامزة وهي طريقة العرفان بالله ولهذا كني بالعارف بالله
وممن وصفه الكاتب المبدع المرحوم جبران خليل جبران بقوله: (وكانت روحه الظمآنة (كذا) تشرب من خمرة الروح فتسكر ثم تهيم سابحة مرفرفة في عالم المحسوسات حيث تطوف أحلام الشعراء وميول العشاق وأماني المتصوفين. ثم يفاجئها الصحو فتعود إلى عالم المرئيات لتدون ما رأته وسمعته بلغة جميلة مؤثرة). ثم يقول أيضاً: (إذا نظرنا إلى فنه المجرد وما وراء ذلك الفن من المظاهر النفسية وجدناه كاهنا في هيكل الفكر المطلق أميراً في دولة الخيال الوسيع قائداً في جيش المتصوفين العظيم ذلك الجيش السائر بعزم بطيء نحو مدينة الحق. ثم يقول أخيراً كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراءها، ويغلق أذنيه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية. هذا هو الفارض، روح نقية كأشعة الشمس وقلب متقد كالنار، وفكرة صافية كبحيرة بين الجبال، وفي شعره ما لم يحلم به الأولون ولم يبلغه المتأخرون) 1هـ. وتوفي بالقاهرة يوم الثلاثاء الثاني من جماد الأولى سنة 632هـ. ودفن في الغد حسب وصيته بالقرافة في سفح المقطم تحت المسجد المعروف بالفارض. وقد قال ابن بنته الشيخ
علي في ذكره:
جز بالقرافة تحت ذيل العارض
…
وقل السلام عليك يا ابن الفارض
أبرزت في نظم السلوك عجائباً
…
وكشفت عن سر مصون غامض
وشربت من بحر المحبة والولا
…
فرويت من بحر محيط فائض
وقال أبو الحسن الجزار:
لم يبق صيّب مزنة إلا وقد
…
وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يسقي ثراه وقبره
…
باق ليوم العرض تحت العارض
أما ديوان شعره فيحتوي على مقطوعات وقصائد منها الموجزة والمطولة، متينة النظم دقيقة
الحس رقيقة الشعور. وقد طبع ديوانه مرات وشرحه في جزأين رشيد بن غالب معتمداً على شرحي الشيخ حسن البوريني والعلامة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الصوفي. وبهامش الشرح كشف الوجوه الغر، لمعاني نظم الدر، وهو شرح تائية ابن الفارض الكبرى المشتهرة بنظم السلوك ومطلعها:
سقتني حميا الحب راحة مقلتي
…
وكأسي محيا من عن الحسن جلت
ومنها أيضاً:
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
…
كما كل أيام اللقا يوم جمعة
وعدد أبيات هذه القصيدة سبعمائة واثنان وستون بيتاً وتشغل جزءاً كبيراً من الديوان. ومطلع شرح الديوان: (الحمد لله الذي بفضله الفارض عمر بيوت الأدب، وحسن للطبع شرح معان فيها بلوغ الأدب. . . الخ). ويقول المؤلف في آخر الكتاب نقلاً عن شرح الشيخ عبد الغني النابلسي: (كان الفراغ منه عشية يوم الإثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف من الهجرة). وقال مورخاً لتمام هذا الشرح.
ولابن الفارض الديوان لما
…
حكى عقداً نظيماً جوهريا
عنيت بشرحه هذا إلى أن
…
تكامل أرخوه الفارضيا
وطبع الكتاب بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1310هـ. بعناية مصححة محمد الأسيوطي. أما منظوماته التي يفتتح بها ديوانه، وتدل على صناعة شعرية فائقة. فهذا مطلعها:
سائق الأظعان يطوي البيد طي
…
منعما عرج على كثبان طي
وبذات الشيح عني إن مرر
…
ت بحي من عريب الجزع حي
وتلطف واجر ذكرى عندهم
…
علهم إن ينظروا عطفاً علي
ومنها:
هل سمعتم أو رأيتم أسداً
…
صاده لحظ مهاة أو ظُبي
ومنها أيضاً:
أي ليالي الوصل هل من عودة
…
ومن التعليل قول الصب أي
وبأي الطرق أرجو رجعها
…
ربما أقضي ما أدري بأي
ذهب العمر ضياعا وانقضى
…
باطلاً إذ لم أفز منكم بشيء
وهي طويلة. ولنأت الآن إلى مطلع قصيدة أخرى:
أرج النسيم سرى من الزوراء
…
سحراً فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجد عرفه
…
فالجو منه معنبر الأرجاء
وكذلك قصيدته التي يتغزل فيها بأراضي نجد لأنها موطن ليلاه فيقول:
أوميض برق بالأبيرق لاحا
…
أم في ربى نجد أرى مصباحا؟
أم تلك ليلى العامرية أقبلت
…
ليلاً فصيرت المساء صباحا
أما قصيدته في تحليل الحب وتعريفه فهي أشهر من نار على علم، وهي مضرب الأمثال. وهذا مطلعها:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
…
فما اختاره مضني به وله عقل
وعش خالياً فالحب راحته عناً
…
وأوله سقم وآخره قتل
ومنها:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به
…
شهيداً وإلا فالغرام له أهل
أما الخمرة فهو يصفها وصفاً نادراً، وهو لم يذقها على رأيي ورأي الكثيرين. فتراه يصفها أبدع مما وصف الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس. ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
…
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها
…
هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها
…
ولولا سناها ما تصورها الوهم
ثم يقول:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها
…
خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا
…
ونور ولا نار وروح ولا جسم
وللشيخ علي سبط الناظم قصيدة مطولة نظمها تكملة لستة أبيات من نظم ابن الفارض. مطلعها:
نشرت في موكب العشاق أعلامي
…
وكان قبلي يلي في الحب أعلامي
وسرت فيه ولم أبرح بدولته
…
حتى وجدت ملوك العشق خدامي
وللسبط أيضاً قصيدة أخرى مطلعها:
أبرق بدا من جانب الغور لامع
…
أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
ولما تجلت للقلوب تزاحمت
…
على حسنها للعاشقين مطامع
لطلعتها تعنو البدور ووجهها
…
له تسجد الأقمار وهي طوالع
هذا هو ابن الفارض ذو الشعر الرقيق الفائق، وشاعر الحب والجمال الروحانيين. هذا هو المزين لعرش الحب العاقد أكاليل الجمال على رءوس الحواري والحسان في خيال الجنان. هذا هو المعزي لأصحاب القلوب الدامية الهائمة في بيد الطبيعة الجميلة. هذا هو المكفكف لدموع البائسات المخفقات في نيل عذوبة الحب الذي هو رمز الحياة والطبيعة، يسود القلوب ويتحكم في الأنفس الرفيعة. ليكن لنا ابن الفارض عبرة الدهر في ميدان الرقة والعطف. وليكن ابن الفارض صورة للحياة الجميلة التي نستعذبها ونستذيقها أبد العيش. فليطب هانئاً في مثواه ومرقده. ولينم نومه الهادئ العميق؛ فلن يصغي إلى أنين العاشقين، ولن يسمع زفير المتيمين
يوسف يعقوب مسكوني
1 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
يمتاز الإسلام بأنه أوجد لنفسه بنفسه فناً جميلاً كيفه بمبادئه، وبث فيه روحه، وغذاه بتعاليمه حتى استقام عوده، ونضجت شخصيته، وتجلت للعيان مميزاته. ولا شك أنه لبيان هذه الميزة ينبغي أن نقارن بين الإسلام وبين ما سبقه من الأديان من حيث موقف كل منها من الفنون الجميلة ثم نعقب على ذلك ببيان الطرق التي أتيح بها للإسلام أن يخلق فناً جميلاً إن اتفق مع الفنون السابقة عليه في بعض العناصر الزخرفية فقد اختلف عنها أشد الاختلاف في المبادئ الأساسية والاتجاهات التي سار فيها
فإذا عدنا إلى الوراء آلاف السنين لنشهد الإنسان وهو يتقلب في أطوار حياته المختلفة على ظهر البسيطة لوجدناه يكافح الوحوش ليعيش، ويحاربها ليوجد لنفسه بينها مكاناً أمينا يطمئن فيه على حياته، ولرأيناه ما كاد يلقي سلاحه، ويفرغ لنفسه بعض الشيء بعد هذا الجهاد المضني، ويأوي إلى كهفه ليستريح ويستقر به المقام في هذا المسكن الجديد، ويرضي فيه حاجات جسمه من مأكل ومشرب وملبس حتى يقوم إلى جدران هذا الكهف يزخرفها وإلى آلات صيده يجملها ويزينها
ولسنا هنا بصدد الفصل في سبب اشتغاله بهذه الفنون الجميلة، فليكن الدافع إليها فيض النشاط الحيوي فيه، أو لتكن الغريزة هي التي أوحت إليه أن يحاكي بالرسم ما يراه في محيطه، أو ليكن اعتقاده في أن رسم الحيوان يقيده أو تكرار رسمه يكثره، أو رسمه وقد اخترق السم أحشائه يجعل صيده هيناً سهلاً عليه وهو الذي حمله على هذا العمل، أو لتكن هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلته يشتغل بهذه الفنون فلن يغير هذا من الحقيقة شيئاً: ذلك أن الإنسان قد عرف الفنون الجميلة قبل التاريخ واستخدمها في حياته. لقد وجد نفسه ضعيفاً أمام قوى الطبيعة: أمام قوى تعمل من وراء ستار، رأى براكين ثائرة يتطاير منها الحمم فتصيبه في نفسه وفي ماله، وسمع رعوداً صاخبة تكاد تصم بزمجرتها أذنيه، وأحس برياح عاصفة تدفع به أمامها، وتلقي في طريقه بأعظم الأشجار وأضخمها، ولمح بروقاً خاطفة ترسل إليه بضوئها فتملؤه خوفاً ورعباً. هذه المظاهر المختلفة التي لا يعلم سرها جعلته يعتقد بوجود قوى عظيمة تأثر في كيانه دون أن يراها. لذلك فكر في استرضائها
على قدر ما سمح له به عقله المحدود فلجأ إلى الفن الجميل يستعين به على بلوغ مأربه فنحت التماثيل، وأقام الأنصاب ورسم الصور
وإذا كانت الفنون الجميلة من نحت وتصوير ونقش قد خدمت الإنسان قبل التاريخ في ديانته الساذجة البسيطة فقد خدمته أيضاً في العصور التاريخية، عندما تعقدت الأمور الدينية بعض التعقيد
فلقد اعتقد المصري القديم بعودة الروح بعد موت الجسم، ورأى لزاما عليه أن يحفظ ذلك الجسم، وأن يضعه بعد موته في محيط يشبه محيطه في الحياة الدنيا، حتى تطمئن الروح وتأنس بجسمها إذا ما عادت إليه، فاستعان بالفن الجميل على تحقيق هذه العقيدة، فزينت جدران القبور بنقوش تمثل حياة الميت، ونحتت له تماثيل تمثله في حياته لتحل فيها الروح إذا ما انحل الجسم أو أصابه عطب، وأودعت هذه التماثيل القبور مع الجثة، كما وضع معها أيضاً ما كان يستعمله الميت في حياته، وروعي في تشييد المدافن أن تكون منيعة لتحول بين هذه الأشياء وبين عبث العابثين؛ ولتظل كذلك في حرز أمين. وإذا كانت عقيدة البعث قد استفادت من فنون النقش والتصوير، فالدين المصري القديم بإلهته المختلفة ومعابده الكثيرة قد انتفع بهذه الفنون أيضاً إلى أبعد حد، فنحتت التماثيل العظيمة للآلهة، ونمقت جدران المعابد بالزخارف الرائعة، وطليت بالألوان الزاهية الجميلة
ولم يختلف الحال في بلاد اليونان القديمة عنه في مصر الفرعونية، إذ نجد أن الديانة اليونانية قد استعانت بفنون النحت والنقش والتصوير على إبراز فكرتها وتجسيم عقائدها، إذ ابتدعوا لأنفسهم آلهة تشرف على شئونهم، وترمز إلى مثلهم العليا، وتخيلوا هذه الآلهة على صورة الإنسان وأفرغوا جهدهم في نحت تماثيل لها كانت أجمل وأروع ما أخرجته يد البشر، خلدت ذكر اليونان على صفحة الزمن ونقشت أسماء آلهتهم في سجل القدر
وما كانت أمم الشرق القديمة من بابليين وأشوريين وحيثيين وغيرهم لتشذ عن مصر واليونان في هذا السبيل، بل استخدمت هي الأخرى الفن الجميل في عبادتها الوثنية
واليهودية أول دين سماوي نادى بالوحدانية، جاء والوثنية هي الدين الشائع بين أمم الأرض جميعاً، والفنون الجميلة من حفر ونقش وتصوير ونحت هي عماد هذا الدين وقوامه، فلكي يخرج الناس من ظلام الوثنية إلى نور الوحدانية كان من الضروري أن
يحول بينهم وبين هذه الفنون. وتشددت اليهودية في هذه الحيلولة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً فحرمتها تحريماً صريحاً إذ جاء في التوراة في الأصحاح العشرين من سفر الخروج: (لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تبعدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور) وقد قضى هذا النص على الفنون الجميلة عند اليهود قضاء مبرماً فلم تستخدمها كغيرها من الأديان التي سبقتها ولم تحاول أن تجندها لخدمتها. وإذا كانت الحضارة اليهودية قد بلغت أوجها في عهد داود وسليمان فتقدمت الصناعة ونهضت التجارة وازدانت فلسطين بما شيد في ذلك العهد من قصور ومعابد (ومحاريب وتماثيل وجفان كالجواب) أشار إليها القرآن الكريم في سورتي النمل وسبأ، كما أشارت إليها أيضاً كتب التاريخ، فقد استعان اليهود في ذلك بالأجانب من مصريين وفينقيين وآشوريين
على أن اليهود لم تنتشر، وبقيت الوثنية دين الكثرة من سكان العالم، وتأثر الرومان في ديانتهم الوثنية باليونان، وكما خدمت الفنون الجميلة الدين اليوناني القديم، كذلك خدمت الدين الروماني
وظهر الدين المسيحي، واعتنق المسيحية كثير من بني إسرائيل ثم انتشرت في الإمبراطورية الرومانية بسرعة عظيمة بسبب نضوج الفكر الإنساني، وعدم ارتياحه إلى طقوس العبادة الوثنية. وقد قامت المسيحية تدعو إلى ترك الدنيا والتجرد منها والانقطاع إلى الآخرة والإقبال عليها. ولعل خير ما يترجم عن دعوتها هذه قول السيد المسيح في الإصحاح السادس من إنجيل متي (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.) ومثل هذه المبادئ ليس فيها ما يشجع على ازدهار الفنون الجميلة لأنها تنكر جمال هذه الدنيا وتطالب بكبت ما في الإنسان من ميول وغرائز، ولذلك لم تبتدع المسيحية فن جميلاً بل انتفعت بالفن القائم بين يديها، وما الفن المسيحي المعروف إلا فن وثني لبس رداء المسيحية، فهو فن مسيحي فقط باعتبار ما يؤديه من خدمات للدين المسيحي أو للمسيحيين لا باعتبار أنه يعبر عن فلسفة هذا الدين لأن فلسفة هذا الدين - كما رأينا - قوامها الزهد والتقشف
وكلاهما والفن الجميل على طرفي نقيض.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية
من آثار العراق
الجسر العباسي
للأستاذ ميخائيل عواد
1 -
تصوير
إذا جولنا في أنحاء العراق شاهدنا عدداً لا يستهان به من الجسور المتنوعة الطراز، المتفاوتة الحجم، تعلو أنهاره ونهيراته، بينها القديم الأثري، وبينها الحديث المكين؛ كما أن التاريخ ينبئنا بوجود جسور قديمة شيدت في أشهر المدن العراقية المطلة على المياه، وغير أن يد الزمان قد عبثت بها فجعلتها أثراً بعد عين
وإلى القارئ هذا البحث في أحد الجسور القديمة في العراق، نعني به (الجسر العباسي) القائم بجوار بلدة زاخو في شمالي العراق
ولقد استقصينا عدداً من التصانيف العربية القديمة والحديثة، طائفة من كتب الرحالين والسياح الفرنج؛ أملاً في الوقف على ما ينير السبيل أمامنا في هذا الموضوع، غير أننا لم نعد من جميعها إلا بالنزر اليسير من العلم بأمر هذا الجسر. ولعل أهم ما وقفنا عليه ما دونه الرحالة الأثري (بروسر) في كتابه عن (المباني الأثرية في شمالي ما بين النهرين)
ولهذا الجسر أسماء عديدة أطلقها الناس عليه في ظروف ومناسبات مختلفة. من ذلك: الجسر العباسي، جسر العباسيات، جسر الخابور، جسر دلالي، جسر الإسكندر، جسر الحسنية
ويلاحظ القارئ أن اثنتين من هذه التسميات أطلقتها عليه بالنظر إلى موقعه: (فجسر الخابور) يشير إلى أنه يركب متن هذا النهير، كما أن (جسر الحسنية) يدل على أنه شيد عند بلدة الحسنية. أما سائر التسميات فقد أطلقت عليه بناء على ما شاع بين الأهلين هناك من الروايات والأساطير التي لا تدعمها الحقائق الراهنة ولا تؤيدها المستندات التاريخية
2 -
موقعه
على نحو من ميل واحد شرقي بلدة زاخو ينتصب (الجسر العباسي) فوق نهير الخابور الذي ينبع من الجبال الممتدة في جنوبي أرمينية، ثم يسير متمعجاً بين ثنايا تلك الجبال
حتى يصب في دجلة فوق قرية (فيشخابور) على نحو من 75 ميلاً شمالي الموصل؛ أي عند الحدود العراقية التركية. وهذا الخابور هو المعروف في المؤلفات العربية القديمة ب (خابور الحسنية) نسبة إلى البلدة المعروفة بهذا الاسم
وقد تطرق البحاثة المستشرق (لسترنج) في كتابه الموسوم ب (أراضي الخلافة العباسية) إلى ذكر هذا النهير وجسره فقال: (إن هذا النهير كان يخترقه جسر حجري لا تزال بقاياه ماثلة للعيان قرب قرية حسن آغا التي ربما تمثل المدينة القديمة. إن الحسنية التي كان فيها جامع تصلى فيه الجمعة قد وصفه المقدسي بقوله إنه موقع ذو خطر)
ويبدو لنا من كلام (لسترنج) أن الأمر قد اختلط عليه بعض الشيء، فلم يفرق بين الجسر العباسي الذي نحن بصدده، وبين جسر آخر ما زالت بعض معالمه ظاهرة للعيان، كان فيما مضى يعلو الخابور ذاته، ويطلق عليه (جسر كيسته) بينه وبين جسر العباسي نحو من ثمانمائة متر
ولا يزال الجسر العباسي صالحاً بعض الصلاح لمرور السابلة من فوقه؛ وقد كان فيما مضى المسلك الوحيد الذي تسلكه القوافل حينما تقصد من الأنحاء الشمالية المختلفة؛ أما (جسر كيسته) فلا أثر لقناطره اليوم، لأن يد الدهر سطت عليها، وعملت على تقويضها حجراً بعد حجر، ولم تبق منها اليوم سوى ركائز قواعدها الحجرية المغروزة في الماء
3 -
صفته
يبلغ طول الجسر العباسي 114 متراً، وعرضه 4 أمتار و70 سنتمتراً وهو يتقوم من خمس قناطر تتفاوت شكلا واتساعاً، فأكبرهن تكاد تعلو عرض الخابور بكامله هناك؛ إذ تبلغ فتحتها 16 متراً، وارتفاعها عن مستوى سطح ماء الخابور في أيام انتقاصه زهاء 15 متراً، ومن هنا تتجلى لنا عظم المصاعب التي تجشمها البناؤون أثناء تشيدهم هذه القنطرة الواسعة! ومن يلق نظرة على صورة هذا الجسر ير ريازة هذه القنطرة من الطراز المعروف ب (المسنم)
ثم يلي هذه القنطرة سعة، قنطرة ثانية فتحتها 11 متراً، على شكل يقرب من نصف الدائرة. أما الثلاث الباقيات ففتحاتهن أصغر من السابقة وهن على شكل أنصاف دوائر
وطبيعي أن يؤدي هذا التفاوت في اتساع القناطر إلى ارتفاع وسط الجسر وانحدار جانبيه
حتى يتساوى وسطح الأرض عند حافتي مجرى النهر
ويلاحظ المرء أن ثلاثاً من هذه القناطر شيدت على يسار القنطرة الكبيرة - باعتبار مجرى النهر - وواحدة فقط على يمينها
شيد الجسر العباسي من حجارة مزلمة، مختلفة الحجم، قليلة الهندام؛ لكنها مرتبة بنظام، وقد تلاحكت بعضها ببعض بالملاط القوي
وقد يبدو هذا الجسر للناظر، لأول وهلة بسيط التركيب، ضعيف القوام، لكنه بالرغم من مظهره هذا، عاش قروناً طوالاً، وعارك فيضانات الخابور المتدفقة من أعالي الجبال المحيطة بتلك البقاع، ومياه الخابور ذات أمواج متلاطمة مزبدة، وهي في صراع دائم مع الصخور الصلبة التي تكون قعر النهر، وهذا ما يسبب تيارات ودوارات مائية سريعة تجعل الملاحة فيه كالمستحيلة
فوق هذه الأرض الصخرية القاسية شيد الجسر العباسي بقناطره الخمس ودعائمه الراسخة
وقد تطرقت العالمة الرحالة (جرترود بيل) إلى هذا الجسر في رحلتها المعروفة (من مراد إلى مراد)؛ لكنها قالت إنه يتألف من أربع قناطر، بينما هي في الواقع خمس كما أسلفنا.
4 -
تشييده:
تضاربت الروايات في أمر تشيد هذا الجسر، وذهب الحدس والتخمين في ذلك كل مذهب، وما ذلك إلا لعدم وجود كتابة عليه تفصح عن زمن تشيده، أو نقوش تسعف الباحث في تقدير تاريخه، فضلاً عن صمت المؤلفات القديمة وعدم ذكرها له. ولأهالي تلك البقاع أسطورة يتداولونها فيما بينهم، ومنهم سرت إلى بعض كتب الرحلات الأجنبية. وخلاصتها أن هذا الجسر كان على ما يقولون قد سقط ثلاث مرات متتاليات عند محاولة تشيده حتى نفذ صبر البناءين وضاقوا ذرعاً بالأمر، فقال رئيسهم: يا قوم إن قائمته لن تقوم ما لم يضح في سبيله بدم بشري، على أن تكون ضحيته أول عابر طريق
وما هي إلا هنيهة وجيزة حتى أقبلت بنت عذراء اسمها (دلالي) فساقها القدر إلى أن تكون أول من يقع عليها القرار الذي أشار به رئيس البنائين، فاستيقت تلك الفتاة قسراً وأدمجت في الحال ببناء الجسر وهي حية، وترك طرف ذراعها ذات السوار الذهبي بادياً للعيان، ولكن من تلك الفتاة يا ترى؟ إنها كانت ابنة رئيس البنائين نفسه. ولكن هل لذاك الرئيس
من محيص وقد سبق السيف العذل! وللأهالي القاطنين تلك البقعة أشعار وأغاني باللغة الكردية يتناقلونها صاغراً عن كابر ويتلونها في ذكر دلالي، وفي عظم الفاجعة التي حلت بها، وهذه الأشعار ذات لون أدبي خاص، وتعد من أجمل القطع الأدبية الشعبية
هذا ملخص الرواية الشائعة هناك رويناها دون أن نبدي رأياً فيها، لأن المراجع القديمة الموثوق بصحتها لا تساعدنا في هذا الشأن
وقد ذهب فريق من الكتبة المحدثين إلى أن تشييد هذا الجسر كان قد تم على أيدي الرومان؛ فإن هؤلاء القوم اجتازوا بشمالي العراق في المائة الرابعة قبل الميلاد وعبدوا مسالك عسكرية ومنها الجسور لتمر عليها جيوشهم الجرارة الذاهبة لمنازلة الفرس
من ذلك ما زعمه (هموتن) بقوله فيه إنه (جسر روماني فخم معقود فوق أحد روافد دجلة عند زاخو. . . وصار يعرف على مر الأزمان بجسر الإسكندر)؛ ثم ساق رواية دلالي المارة الذكر
ونحن نرى في هذا الرأي تساهلاً كبيراً؛ إذ يصعب صمود هذا الجسر مدة تزيد على الألفي سنة يقاوم فيها محن الزمان وتصرفات المياه
والذي انتهى إليه (بروسر) في درسه هذا الجسر أنه لا شيء يوثق به فيما يخص تشييده؛ ومع ذلك فقد ذهب إلى أنه شيد في المائة السابعة للهجرة (بين المائة الثانية عشرة والثالثة عشرة للميلاد)، وإنه بهذا الاعتبار من الآثار التاريخية الماثلة للعيان التي تعود إلى أواخر أيام الدولة العباسية.
(بغداد)
ميخائيل عواد
البريد الأدبي
رسالة المساجد والنهوض بها
أصدر صاحب المعالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الأوقاف القرار الآتي:
تشرف وزارة الأوقاف على آلاف المساجد المنبثة في الحواضر والمدن والقرى، وهي بذلك تحمل لواء الإرشاد والتهذيب الديني والاجتماعي
ورغبة منا في النهوض بها وبالقائمين على شئونها نهوضاً يلائم تطور الزمن وأحداثه، حتى تلاحق ركب الحضارة والمدنية، وتحتل مكانها الذي كانت تحتله في صدر الإسلام، يشرق منها نور المدنية الإسلامية، وتوطد بين جدرانها الألفة والمحبة بين المسلمين، وتنمي نوازع الخير والهداية وأسباب الكرامة الحقة في نفوس الشباب
ورغبة منا في الوقوف على أقوم السبل المحققة لهذه الغاية، سواء من الوجهة الدينية أو الثقافية أو الصحية أو العلمية، رأينا تأليف لجنة من حضرات أصحاب الفضيلة والعزة: مصطفى صبري أفندي شيخ إسلام تركيا سابقاً، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، ومحمد محمد الوكيل بك العضوين بمجلس الشيوخ، ومحمود لطيف بك عضو مجلس النواب، والدكتور عبد المجيد رمزي مدير الصحة الاجتماعية، وأمين عبد الحافظ بك مدير الشئون القروية، والأستاذ أحمد فهمي إبراهيم مدير قسم الهندسة بوزارة الأوقاف، والدكتور منصور فهمي بك مدير دار الكتب، والشيخ محمد البنا مدير إدارة الشئون الدينية برياسة مجلس الوزراء، ومحمد أحمد جاد المولى بك المفتش الأول للغة العربية، والشيخ عبد الوهاب خلاف الأستاذ بجامعة فؤاد الأول، والشيخ سيد زهران مدير قسم المساجد، والأستاذ عبد الحميد خضر، والدكتور إبراهيم اللبان المفتشين بوزارة المعارف
على أن تكون مهمة هذه اللجنة بحث ما يأتي:
1 -
الوسائل التي تحبب الناس في الإقبال على بيوت الله وقضاء أوقات فراغهم فيها، وبحث العوامل التي أدت إلى انصراف فريق من الناس عن المساجد، ورسم أقوم السبل لعلاجها علاجاً ناجعاً
2 -
وضع دستور للإرشاد في المساجد من دروس وخطب ومحاضرات، وتنسيقه بحيث يوائم الظروف والمناسبات والحوادث والبيئات
3 -
طريقة اتصال وزارة الأوقاف بالوزارات الأخرى لتقف على ما لديها من مشروعات اجتماعية وثقافية وصحية واقتصادية وزراعية ووقائية ليكون وعاظ المساجد لسان الحركة الإصلاحية في جميع هذه الشئون
4 -
المنهاج الذي يشيع الرغبة بين النساء في الإقبال على المساجد لتغذيتهن بالثقافة الدينية
5 -
اختيار الطراز الذي يراعي عند إنشاء المساجد لتتوافر فيها وسائل الراحة والصحة والترغيب
6 -
النظر في شئون مرافقها الصحية وإمكان تزويدها بالمغاسل والحمامات والمياه الساخنة، وإذا تيسر ذلك فهل تشرف عليها وزارة الأوقاف أو وزارة الصحة؟
وأملي أن تنتهي اللجنة من تقديم تقريرها في بحر شهر من تاريخه.
حول (ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر)
تفضل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في العدد الأخير من مجلة (الرسالة) الغراء ورد على بعض ما كتبته في صفحة (الأسبوع حوادث وخواطر) بمجلة آخر ساعة، وتفضل أيضاً وسمح لي في حديث معه بالرد على رده، واختار لي صفحات (الرسالة) ميداناً لهذا الرد
وخلاصة الموضوع الذي كتبت فيه هي (الفقر والحرية)، وهل يمكن أن يتمتع الفقير بحريته رغم فقره؟ وهل يمكن وضع نظام اقتصادي جديد غير النظام الحالي يقلل من عدد الفقراء ومن عدد الأغنياء؟
وقد سبق لي أن ناقشت شخصياً مع الأستاذ العقاد في هذا الموضوع، وكان في مناقشته لي قد فهمني فهماً خطأ، إذ ظن أني أدين بمبدأ سياسي معين، ولذلك خص الجزء الأكبر من رده على صفحات الرسالة لهدم المبادئ الحديثة كالنازية والشيوعية.
هذا في حين أني صرحت له مراراً، وهاأنا أعود إلى التصريح مرة أخرى، أني لا أدين بمبدأ معين، ولم أتقيد إلى اليوم بفكرة كاتب من الكتاب السياسيين العالميين، وعلى الأخص (كارل ماركس). فأنا لا زلت شاباً في الرابعة والعشرين من عمري جعل همه مشاهدة الواقع والبحث عن الحقيقة والفكرة التي تنطبق على هذا الواقع، سواء كانت في النازية أو
الشيوعية أو الديمقراطية، أو حتى في الفوضوية! فدعنا من كل هذه المبادئ وتعال إلى الواقع. أليس في البلد من يملك عشرة آلاف فدان، في حين أن فيه عشرة آلاف فقير لا يملكون ثمن رغيف وطبق من الفول المدمس؟
أليس في البلد من يملك عشر سيارات، في حين أن فيه عشرة آلاف يسيرون حفاة؟
أليس في البلد من يموت بالتخمة وضغط الدم، وفيه من يموت بالجوع وفقر الدم؟!
هذا هو الواقع، وهذا ما ناديت بإصلاحه، ولم أقل كيف يتم هذا الإصلاح، ولم أشر باتباع مبدأ من المبادئ التي أشار إليها الأستاذ العقاد
ولكن الأستاذ العقاد يقول أنه ديمقراطي يدين بالديمقراطية لأنها تصون الحرية الفردية. فلأكن مثله ديمقراطياً، ولنبحث سوياً بين النظم الديمقراطية المتبعة في مختلف الدول عن طريقة لإصلاح الواقع الذي تحدثت عنه
وأعتقد أننا لن نتعب طويلاً في هذا البحث. فالطريقة التي نطلبها متبعة فعلاً في إنجلترا زعيمة الأمم الديمقراطية
ففي إنجلترا الآن قربوا الفارق بين الغني والفقير، حتى أصبحا متساويين تقريباً. وذلك عن طريق فرض ضرائب مرتفعة على الأغنياء بلغت في بعض الأحيان 90 %؛ فالغني الذي يصل دخله اليومي إلى مائة جنيه (مثلاً) أصبح لا يملك من هذا المبلغ إلا جنيهاً واحداً يصل به إلى مرتبة الرجل العادي
قد يقول الأستاذ العقاد أن هذا ظرف استثنائي فرضته الحرب، وأن هذه الضرائب تستغل في تشغيل العاطلين - وهي أهم الطرق للقضاء على الفقر - ولكن تشغيلهم في المصانع الحربية، وهذا مالا يرضى به العقاد
ولكن لماذا لا يظل هذا النظام ثابتاً حتى بعد انتهاء الحرب؟ ولماذا لا تستغل هذه الضرائب في سبل أخرى غير إذكاء نار المذبحة الكبرى؟ لماذا لا تستغل في فتح الطرق وإنشاء مصانع سلمية ورفع أجور العمال. . . الخ. من الوسائل الكثيرة التي فكروا فيها قبل الحرب وكان ينقصهم المال لتنفيذها؟
إذاً فهناك طريقة ديمقراطية للقضاء على الفارق الاقتصادي بين الطبقات، أو على الأقل لتخفيفه، وهي طريقة ترضي الأستاذ العقاد، لأنها لا تتصل بالنازية أو الشيوعية، لأنها
ديمقراطية، والديمقراطية لا تقيد حرية الفرد التي يدافع عنها أستاذي الكبير
فإذا وصلنا إلى هذا الحد واتفق رأيانا عند هذه النقطة. فلا داعي للحديث عن الحرية، ومدى ارتباطها بالفقر، وهو الموضوع الذي كان أساساً لهذه المقالات.
إحسان عبد القدوس