الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 534
- بتاريخ: 27 - 09 - 1943
من وحي الفطر
يا دموع الفقراء. . .
للأستاذ دريني خشبة
وا رحمتاه لكم يا أحب خلق الله إلى الله!
ترى من من أفراد هذا الموكب الزاخر الذي حط عن كتفيه عبء رمضان يذكركم كما تذكركم السماء، ويمد إليكم يده بالقروش الجديدة الحمر قبل أن يمدها إلى أبنائه؟!
لقد عرف الأغنياء الصائمون فرحتهم صبيحة العيد المبارك، فهل عرفتم فرحتكم كما عرفوها. . . أم كنتم تنظرون إليهم ثم تقلبون نظراتكم في السماء. . . ثم تنتثر من عيونكم تلك الدموع التي لها حسابها عند الله
ألا ليت الأغنياء رحموكم إذ لم يذكروكم فلم يتيهوا بينكم بهذه الثياب التي لا يمكن أن تشتري إلا بأرباح الحرب، وما صنعته الحرب في خزائن الأغنياء من أعاجيب
عندي لكم رأي يا أحب الناس إلى. . .
كفكفوا هذه الدموع ولا تذروها في تلك المناسبة
من السهل أن نكون جميعاً نساكاً في مأساة عيدينا هذا العام. . .
وأول واجبات الناسك ألا يغبط ذليلاً بعيش أبداً
ومن واجباته كذلك أن يجعل نسكه فلسفة، فيقول مثلاً: لقد آثرت أن أكون ناسكاً لأنني لا أحتاج إلى شيء ولا أفتقر إلى أحد،. . .
إنني أريد أن أفرغ إلى الله ربي، وزخرف الحياة يشغلني عن الله ربي، فليست بي حاجة إلى هذا الزخرف الباطل الذي يصرفني عن تأملاتي!
ليس في هذا الذي أقول نسيان لنصيبي من هذه الدنيا، فحسبي أن يكون هذا النصيب جرعة من ماء وكسرةً من خبز الشعير وحبةً من ثاني الأبيضين الذي يسمونه الملح
ومن واجبات الناسك أن يكون سعيداً بأسماله البالية فلا يتبرم ولا يتسخط ولا يتهم السماء، حتى حينما يرى الأغنياء الذين لا يبالون هذه الأزمة الطاحنة، فهم يزهون في أثمن الثياب وأغلى الأفواف. . . إن من واجبه في تلك الحال أن يبتسم ابتسامته التقليدية الخالدة. . . ابتسامته الساخرة التي تستهزئ بالذهب وتستهزئ بالفضة وتستهزئ بالحرير المفتل. . .
الابتسامة العامرة العليمة التي تعرف إلى أين ينتهي هذا الذهب وماذا هي عاقبة الفضة والحرير المفتل. . . وعاقبة الدور والقصور، وحياة اللهو ومتاع الغرور
لنكن نساكاً وفلاسفة من هذا الطراز يا رفاق!
فإذا صدمتنا الحقيقة، وأعاد إلينا الواقع صوابنا، وذلك حينما يفاجئنا أطفالنا بمطاليبهم من لعب العيد وطرفه، فلنكن نحن لعبهم
لندعهم يصارعونا ويلاكمونا ويشدوا أذقاننا وأكمامنا. ماذا نخشى على هذه الأكمام يا رفاق؟ أليست كلها مزقا وأسمالا؟ إنهم مهما صنعوا فلن يزيدوها تمزيقاً، لأنهم ليسوا أقوى من الحرب ولا أفتك من الغلاء، ولا أطول باعاً من السنوات الأربع التي تصرمت في هذه الشدة، والتي لم تبق من أسمالنا لأولادنا شيئاً يمزقونه. . . ولا شيئاً يرتدونه، حين تكل حياتنا فيه، ولا ندري ماذا نلبس منه وماذا ندع!!
لنكن لعب أطفالنا في هذا العيد. . .
ليركبونا إذا كان لا بد لهم أن يركبوا شيئاً يعوضهم من عربات العيد التي ستكون وقفاً على أطفال الأغنياء، والذين فازوا بأرباح الحرب ومن إليهم من مختزني الشاي والمسامير وأمواس الحلاقة والزيت (الفرنساوي!)
إن من واجب النساك أن يكونوا مطايا لأبنائهم ليحملوهم بعيداً عن موكب أبناء الأغنياء فيستريحوا من المقارنات والموازنات. . . ولا يقول قائلهم معترضاً على أبيه وعلى الله وعلى الناس. . . لماذا يا ترى يبخل علي أبي فلا يشتري لي مثل هذه الصفراء أو تلك الحمراه مما يرتدي هؤلاء الأبناء؟
وقد علمنا رمضان القناعة أيها الرفاق، وإن يكن قد أصاب الأغنياء ومن فازوا بأرباح الحرب بألوان من التخمة، وصنوف من البطنة، نسأل الله أن يعيا بمعالجتها نطس الأطباء. . .
فبحسبنا أن نقدم لأطفالنا أكلتين مكان ثلاث أكلات و (تعصيرتين) يحظى بها أبناء الأغنياء. . . فإذا شكا أطفالنا مسغبة فذكروهم بما كان في رمضان القريب من حال الفطور والسحور
رضي الله عنك يا ابن عفان، ما كان أقوى إيمانك بالله يوم نزلة للفقراء المؤمنين عن
عيرك كلها من دون التجار. . . لأنك آثرت البيع لله، ليربحه، ويربيه عشرة أضعاف ومائة ضعف. . . إلى سبعمائة ضعف. . . ألا يذكرك أغنيائنا فيجعل الزكاة فطرهم والزكاة مالهم ضعفين أو ثلاثة أضعاف، في زمن زاد فيه ثمن الحياة خمسة أضعاف وعشرة أضعاف؟
أيها الرفاق الفقراء!
لموا شملكم، وأجمعوا قلوبكم، وارفعوها إلى السماء. . . إلى الله بارئكم. . . صلاة شاكية باكية. . . فيها الحزن الذي يشوبه الرضا، وفيها الأنين الذي يخالطه الإيمان. . . عسى ربكم أن يفرج كربكم ويصلح بالكم.
دريني خشبة
فوق جبل البارود
للدكتور زكي مبارك
طاف الشاعر بالشواطئ طوافاً طال حتى بلغ سبع ساعات، وكانت غايته من طول الطواف أن يرى جنية تفوق صاحبة الميعاد، ليستطيع التمرد عليها إن فكرت في التمرد عليه، ولكنه لم ير في الشواطئ ما يصيبه أو ينسيه، فقد كانت الجنية أقوى روح تخطرت فوق تلك الرمال
أيان يذهب الشاعر لو نفرت منه الجنية؟
لقد سحرته سحراً لا نجاة منه ولا خلاص، وصيرت السجن أحب إليه من الحرية، وفرضت عليه أن يفرح بنعمة الشقاء
أنه يذرع الشواطئ من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يرى من ذلك الملك العريض، ملك الحسن الوهاج، غير ألماح مقبوسة من نيران الجنية، والجنيات خلقن من النار لا من الماء
سبع ساعات والشاعر في حيرة من أمره، في حيرة من بخل الطبيعة بأن تجود عليه بما يصيبه أو يسليه ليتمرد على الجنية لحظة من زمان
وكان الميعاد عند الغروب، في اللمحة التي تخلع فيها الشمس أثوابها الفضية لتستحم في البحر وتنام إلى الصباح
- ألا تخاف على الشمس من هذه العاقبة؟
- أية عاقبة يا محبوبتي؟
- عاقبة اغتراق الجمر في الماء
- لو كان الماء يطفئ الجمر في كل وقت لأطفأت دموعي نار قلبي
- ولك دموع وأنت أقسى من الجلمود؟
ومضينا فخلونا بمكان لا يهتدي إليه رقيب ولا عذول، وكانت الخلوة مزعجة إلى أبعد الحدود، فقد كان الغرض أن أستطيع حصر نار الجنية في مكان، وأن تستطيع الجنية حصر قلبي في مكان
- اجلس هنا لأجلس هناك
- جلست هنا فاجلسي هناك
- ولا تمد يدك ولا بصرك
- أنا أملك كف يدي ولا أملك غض بصري
- وكيف رضيت بهذه الخلوة يا شقية؟
- أردت أن أمتحن قدرتي على مقاومة الساحرين من أمثالك، فامتحن قدرتك على مقاومة الساحرات من مثيلاتي
ثم أسلمت الساحرة جفنيها إلى نوم عميق
كان قلب الجنية بكراً قبل أن أراها وتراني، فليس لها في الحب تاريخ، ولم يجر اسمها على ألسنة الماجنين، ولا أقلام العابثين، وإنما استهواها قلمي وشعري فأرادت أن ترى كيف يعيش الكتاب والشعراء
لابد مما ليس منه بد
لابد من احترام رغبة الجنية، وهي قد ألحت في أن (أقسم بشرف الحب لتنامن في أمان)
قال الشاعر: ونظرت فرأيتني مقهوراً على امتشاق القلم لأسجل ظاهرة روحية لم يعرفها من قبل أحد من المحبين
كنت ألتهمها بعيني والقلم في يدي، وكان نومها شبيهاً بنوم الفتنة، ونوم الفتنة مقدمة الهبوب
نامت الفتنة واستيقظ ضميري، فهممت بإلقائها من الشباك ولكن هذه الفتنة ستتعرض لمآثم إن رفعت عنها حمايتي في مثل هذا الليل
آه ثم آه!
أنا في هذه اللحظة أقيم فوق جبل من البارود، وشرارة واحدة تكفي لتحويلي إلى رماد تذروه الرياح، وأنا أبغض الفناء
واستيقظت الفتنة فرأتني في سياحة فارسها القلم وميدانها القرطاس
- ماذا تصنع؟
- أسجل خواطر وكلمات
- وماذا سجلت؟
- سجلت ما نصه بالحرف:
(هي لحظة جمعت أطراف النعيم في جميع الأقطار وفي جميع الأزمان، فما كان لها مثيل في تصوير عشاق النعيم في زمان أو مكان، لأنها فوق ما يجوز بخواطر أهل الخيال من طلاب المحال. . . هي لحظة فيما تعرف التعابير الدنيوية، ولكنها فيما تعرف الأرواح آباد أطول من عمر الخلود. . . هي لحظة لا يبالي من يعيشها معنى الحياة والموت، لأنه اجتاز بها آفاقاً لا يجتازها غير من تسامت قدرته على ضجيج الحياة وسكون الموت. . . في تلك اللحظة طاف القلب وطاف الروح بمعالم ومجاهل لا يدرك العقل منها غير أطياف. . . هي لحظة ولكنها العصارة الدامية من قلب الوجود، وأنا عشت تلك اللحظة فلتفعل الدنيا ما تشاء، وما الذي أبقيته للدنيا حتى تنتزعه من يدي؟ أنا نهبت من الدنيا جميع ما تملك، فلتقابلني إن استطاعت في ساحة القضاء)
قالت الجنية: أهذا هو المحصول لمثل هذه المغامرة العاتية؟
قلت: هذا ما يملك قلم يقيم صاحبه فوق جبل من البارود!
- ولكني لم أر جديداً في كلامك
- كيف وهو كلام لم يقله أحد من قبل؟
- أنت قلت مثله مرات ومرات، فكان مبتكراً أول مرة، ثم صار من المبتذلات
- وإذن؟
- وإذن تقول كلاماً غير هذا الكلام لأرضى عنك ونامت الجنية من جديد ولم تترك لي سميراً غير قلمي، فماذا أصنع؟
الخطر كل الخطر في عشق الموحيات من المليحات. هن يتوهمن أن العشق وسيلة لا غاية، ويرين أن ثمرة الحب ليست طفلاً يولد على نحو ما تكون ثمرات الحب في عالم الحيوان، وإنما الثمرة لمثل الحب الذي تسامينا إليه أن ينتج مواليد من كرائم المعاني، مواليد لا تتعرض للمرض ولا للموت
صوبت بصري إلى وجه الجنية وكتبت:
(لقد آذاني الحسن المجلوب بالطلاء، وهو حسن للموت فيه حيوية اللون، فغمرت محبوبتي في أثباج البحر لأرى قيمة ما تملك من جوهر الحسن الصحيح، والجمال عندي يوزن بحيوية اللون، وهي حيوية تتموج فوق الصدر والخد والجبين، وقد تتموج فوق اليدين
بأسلوب لا يدرك مراميه غير فلاسفة الجمال. إن اللون قد يحتفظ بالصورة، ولكنه لا يحتفظ بالحيوية إلا أن سقاه ماء الشباب. وحيوية اللون هي سر السحر في العيون الزرق والخضر والسود، وهي أيضاً السبب في أن يكون بعض السمر أجمل من بعض البيض، لأن الأمر كله لحيوية اللون، والقول بأن البياض نصف الحسن قول عليل، فلا قيمة لنوع اللون وإنما القيمة لحيوية اللون)
ثم صوبت بصري مرة ثانية إلى وجه الجنية وقد هممت بأشياء، فهبت مذعورة وهي تقول:
- ماذا تريد؟
- أريد أن أقرأ عليك هذه الكلمات
فرحت الجنية بما سمعت، ثم استسلمت إلى الهجود، وتركتني وحدي
أنا أقيم فوق جبل من البارود، وشرارة واحدة تكفي لتحويلي إلى رماد تذروه الرياح
- أيتها الجنية، إسمعي!
- لن أسمع، وإن كنت سمعت
- وما نومك هذه الليلة تحت بصري؟
- لأعرف ما عندك من المعاني، فاكتب كلاماً يرضيني ثم هجعت الجنية في غيبوبة أبلغ من يقظة القلب الخفاق، ونهضت قبل الشروق، لتبلغ مأمنها قبل الشروق، بعد أن عرفت أن الإسكندرية لا تقل روحانية عن القاهرة، والمنصورة وأسيوط
لم تكن ليلتنا مما ينتظر في دنيا الحقائق أو دنيا الأباطيل، ولا جاز في أوهامها أو أحلامي أن تجري بيننا شؤون يفضحها نهار أو يسترها ليل، فقد شقيت بالجنية ما شقيت، ويئست منها ما يئست، ولم يبق لي أمل يفوق السماح بأن أعيش في عذاب. . . وفي الحب سجون لا تدخل بدون استئذان!
كيف ظفرت بالجنية؟
أكان من هواها أن تزور المكان الذي نظمت فيه قصيدة. . .
أي قصيدة؟ وهل نظمت بيتاً غاب عنه وحيها الجميل؟
إن حياتي في جميع مناحيها الروحية لا تعرف غير تلك الجنية، وأنا لا أرى الدنيا ولا
أحبها إلا حين أتمثل روحها الشفاف وهو يناجيني برفق، أو يلاحيني بعنف، ونحن نذرع أودية الخيال
مضيت يوماً لرؤية النيل عند الطغيان ومعي صديق متبرم بمصر والمصريين، فقلت:
- هل تعرف يا صديقي كيف أرى مصر؟
- كيف تراها؟
- أراها في وجه الجنية التي نشأت فوق ضفاف النيل، ولولا الخوف من أن تتهمني بالجنون لقبلت كل وجه وكل شجرة وكل جدار بهذه البلاد
من أجل من؟
من أجل الجنية، فهي وحدها الدليل على أن مصر وطن الجمال
- الآن عرفت
- وماذا عرفت يا جهول؟
- عرفت كيف نجوت من التبرم بمصر والمصريين
- مصر وطن الجنية، والمصريون أعمامها وأخوالها، فأنا لها ولهم أوفى الأوفياء
- وما نصيبك من الجنية؟
- نصيبي أن تكون لي وحدي، وهي لي وحدي
- وهل تكون أجمل من الشمس؟
- جمال الشمس جمال مبذول، فليس له سحر ولا فتون أما جمال الجنية فهو جمال الزهرة المشرقة في ضمير البيداء، ولن تكون لغير من يدرك سرها الغريب
- وكيف اهتديت إلى هذا الجمال المجهول؟
- لقد اهتدى إلي قبل أن أهتدي إليه؟
- وكيف؟
- صنع معي بما تصنع السرحة لاجتذاب البلبل، فأورق وأزهر ليطيب فوق غنائي، فأنا أبدعت ذلك الجمال
- وهو أبدع شعرك
- وصيرني من أقطاب الوطنية، فما يحب الرجل وطنه إلا إن كان له فيه هوى وميعاد
مضت أعوام وأعوام ولا أرى شمس مصر عند الشروق، وقد رأيتها عند توديع الجنية ورأيت معها النخلات المتشوقة لنور الصباح
مضى الزمن الذي كان أبي يوقظني فيه لصلاة الصبح قبل طلوع الشمس
فهل نعرف كيف قضت الشريعة بصلاة الصبح قبل طلوع الشمس؟
شباب النهار في الشروق، وشباب الروح في الشروق، فاحذروا نومة الصبح، لأنها لا تليق لغير النساء
لو رجعت الجنية لحدثتها بما نقلت عنها وهي تغرب عني مع الشروق، كما يذهب الحلم الجميل مع الشروق
علمتني الجنية ما لم أكن أعلم، علمتني أن الحب جهاد، وأن الله لا يخذل المجاهدين
هل رأيت الجنية في داري بالإسكندرية؟ هل رأيتها هنالك؟ وهل كان هذا التناجي من الحقائق لا من الأباطيل؟
قلبي يقول إني رأيتها وأنا لا أكذب قلبي، فإن لم أكن رأيتها فما هذا الذي أعاني من لجاجة الواشين والرقباء؟
لم يروني معها جنباً إلى جنب، أو قلباً إلى قلب، وإنما رأوا بشاشة روحي وأنا عائد من الإسكندرية فقدروا أني احترقت في كوثر الوصال
وروائح النعيم في أعطافي، ونيران الوجد في أحشائي، فأنا رأيت الجنية هناك، ثم رأيتها هناك
رأيتها رأيتها، وشربت على وجهها كأس الصفاء، فليفرح روحي بما يزخرف خيالي، ولو صرحت لتعرضت للشرارة التي تنسف جبل البارود
أنا ما رأيت الجنية ولا رأتني، وما كان حديثي عنها إلا ضرباً من تزاوير الخيال، فليطمئن عذالي ورقبائي، وليعرفوا أن حديث الجنية بعض الذي زورت من الأحاديث
أنا قضيت ليلة مع الجنية بعد ليالٍ وليال، وهذا عطرها في قلبي، وهذا سحرها في قلمي، فليصاولني سكان وادي عبقر، إن كانوا يطيقون
أتغضب يا ربي لأن أقول هذا القول؟ أنا أحكم بما أرى، وأنت لعدلك لا تطالبني بأن أحكم بغير ما أرى، وهذه الجنية هي آيتك عندي على التفرد بالجمال
وفي سحرها قبس من سحرك، وبجمالها أتعرف إليك، فاجعل حبي لها كفارة عما ساورني من العقوق
هي جبين الشمس، وأنت فاطر الشمس، فليكن حبي لها وثنائي عليها فنا من الحب لك والثناء عليك.
زكي مبارك
3 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
1 -
قول منشئ الخبر حاجب بن زرارة التميمي هذا القول: (. . . إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك. . .)
وقد عني الصباغ بالأمة مصطلح وقته، وما نذهنه نحن في هذا العصر، ولم يقل عربي جاهلي في زمن: نحن أمة. وإنما يعرف العربي عشيرته أو قبيلته أو ربعه أو حيه أو مدينته أو يمنيته أو تهاميته أو ما ضارع ذلك. وإن كان في لغته من معاني الأمة (الجماعة)، فلم يقلها كما لم يقل نحن جماعة العرب قاصداً جميع العرب وأحياءهم وقبائلهم كافة. وما جاءت العرب أمة إلا من بعد أن ألفها (مؤلفها) وقرأت (سفر التكوين. . .)
ويعز على العربي الصحيح أن يرى العرب قد ناكروا التأليف الدهر الأطول، وقرءوا (الكتاب) ولم يعقلوه، ولو عقلوا لكانوا أمة أي أمة، ولعربت الدنيا وأحال أهلها
يا هؤلاء، سيروا في قومكم سيرة عمرية، وخلصوهم من البؤس والجهل والأمية، وعلموا العربية، وعلموا القرآن، علموا القرآن تقبل إليكم وحدة عجيبة عربية
ابن على الصخر (لا كالبناء على الآجر والطين)
وللأمة في (كتاب) معان جمة، أكثرها الجماعة والدين أو الملة. قال تعالى (والأمة هنا هي الجماعة):
(كنتم خير أُمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون)
فالأمة في الآية الكريمة (هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في (جامع البيان) للطبري
والمهاجرون عرب وغير عرب كما هو معلوم، وقد كان فيهم سالم بن معقل الأصطخري ولو لم يستشهد في قتال عرب مرتدين لكان الخليفة الثالث. وسالم هذا مهاجر، وبدري، وأنصاري بالولاء، وشهيد (الله أكبر، الله أكبر!)، وكان يؤم في الطريق من هاجر معه من مكة، وفيهم عمر بن الخطاب (رضوان الله عليه)
فالآية لا تعني العرب إذ لم يكونوا عند نزولها قد أسلموا فضلاً عن أن يأمروا بمعروف وينهوا عن منكر، وقد ارتد جلهم حين أظلمت الدنيا بفقد رسول الله، وكادت مكة ترتد مع المرتدين؛ لكن أين المفر من الهدى والخير، وهناك (خير أمة أخرجت للناس) وفيها أبو بكر، فيها أبو بكر. وكان معد يكرب أحد رجال الوفد. . . ممن ارتد
ومن معاني الأمة (القرن) قال تعالى:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً)
ومن معانيها الدين في قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
ومثل ذلك قول غيره:
وهل يستوي ذو أمة وكفور
والأمة هي النعمة في قول الأعشى ميمون بن قيس:
وللموت خير لمن ناله
…
إذا المرء أمته لم تدم
2 -
يقول النعمان لكسرى:
(إن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس)
ذكر وزن الشعر ولم يبق إلا أن يذكر بحوره
الوزن لفظة محدثة وضعها الخليل فيما وضع لفن العروض، ولو سمع جاهلي: وزن الشعر لدهش وبهت. وقد جال الجوهري في أحياء العرب فلم يسمع هذا المصطلح. ولا يفهم العربي في الجاهلية من الوزن إلا الثقل والخفة في حقيقة أو مجاز، كقولهم: كلام موزون، وهو وزين الرأي أي رزينه كما في الأساس. وفي اللسان: هذا القول أوزن من هذا أي أقوى وأمكن. وفي جمهرة اللغة لابن دريد: الوزن أصله مثقال كل شيء وزنه، ثم كثر في كلامهم حتى قالوا فلان راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل
وأما قول اللسان: وأوزان العرب ما بنت عليه أشعارها واحدها وزن ومثله قول التاج، وزاد هذا (وهو مجاز). فالكلام في المعجمين تفسير لما اصطلح عليه الخليل لا شرح لفظ ورد عن العرب في جاهليتها. ولا ريب في أن نابغة العرب لم يستعمل (الوزن) إلا مجازاً
والقافية من مصطلحات الخليل وإن وردت من قبل، ومعناها في أقوالهم هو غير ما أراده الصائغ وقوله النعمان. وقد اختلفوا في حدها (أعني القافية) على اثني عشر قولا. . .
ومن بديع ما يروى أن علم القافية (واضعه امرؤ القيس ابن ربيعة المعروف بالمهلهل خال امرئ القيس بن حجر الكندي) واللاغي بهذا القول قد سلب الخليل بن أحمد الفراهيدي حقه سلباً عجبا، وظلم عبقريته ظلما عبقرياً
واضع علم العروض والقوافي في العربية هو الخليل، ولن يضع من قدره شيئاً أنه علم أن عند الإغريق عروضاً، أو حدثه بذلك عالم باليونانية، أو أطلعه على باب من هذا الفن عند القوم. ففي (الغيث المسجم في شرح لامية العجم) للعلامة صلاح الدين الصفدي:
(وذكر لي العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري أن الشعر اليوناني له وزن مخصوص، ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل. قال: ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل بن أحمد شيء من ذلك، فأعانه على إبراز العروض)
إن فضل الخليل في إبداعه عظيم - وإن صح ما ذكر ابن ساعد - ولن يصغره أقل تصغير منبه حقير نبهه فتفطن لما تفطن له، وأغرب ذلك الأغراب، وخاض في تلك البحور. . .
وقل في (علم العربية) ما قيل في غيره، فلن يضع من قدر الناحين الأولين أنهم علموا أن عند السريان واليونان قواعد للغاتهم، فنحوا في ترتيب قواعدنا نحوهم
وإذا عرفنا واضع علم فن العروض، فإنا من واضعي النحو في لبس كبير. وأما قول ابن أبي الحديد في شرح النهج أن أحد كبار الصحابة (رضى الله عنهم أجمعين):(هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: الكلام ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم. وهذا يلحق بالمعجزات؛ لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط)
قول ابن أبي الحديد هذا هو أملوحة من الأماليح، وأبو الحسنين (رضوان الله عليه وعلى ابنيه) كان معلم بطولة وأخلاق، وكان بانياً من بناة هذه الأمة، ولم يكن أستاذاً من أساتذة
النحو. . .
أورد ابن النديم في (الفهرست) هذا الخبر بعد أن روى تلك الأسطورة المشهورة، وقد يكشف شيئاً من اللبس بعض الكشف:
(وقال آخرون: رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي. ويقال: الليثي، قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب أنه قال: روى ابن لهيعة عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء)
نروي هذا الخبر إلى أن يتبين للباحثين الحق
ذكرني هذا البحث في العروض والنحو بمناظرة كانت بين العلامة الأستاذ الدكتور (بديع الزمان) وبين الأستاذ (أزهري المنصورة) في ذينك الفنين ووقت كونهما حيث تجادل بالأمس صاحب العزة العلامة الأستاذ الدكتور طه حسين بك وسيادة العلامة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (أعز الله دولة الأدب العربي بطول بقائهما) وقد أحببت أن أروي هنا آخر مقالة في تلك المناظرة، ولكن (الرسالة) تأبى إلا الغض الجديد، فأكتفي برواية المقدمة نموذجاً من العبارات الشديدات في المناظرات، وهي أقسى ما واجه به الأستاذ (أزهري المنصورة) خصمه العلامة الأستاذ الدكتور بديع الزمان
قال ذلك (الأزهري):
جاء في تاريخ ابن الوردي
(عزم قاضي الموصل أن يقول للسلطان في إخراج (قضيب البان) الوالي المشهور من الموصل في سره، قال القاضي: فرأيت قضيب البان مقبلا على هيئته المعروفة، فمشى خطوة فإذا هو على هيئة (كردي)، ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة (بدوي)، ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة (فقيه) بصورة غير الصورة المتقدمة، وقال لي: يا قاضي، هذه أربع صور رأيتهن، فمن هو قضيب البان منهن حتى تقول للسلطان في إخراجه؟ فلم أتمالك أن أكببت على يديه أقبلهما وأستغفر الله. . .)
الشاهد في هذه الحكاية أن الأستاذ (بديع الزمان) قد شاكل ولي الله (قضيب البان) فهو يبدو لنا مرة باريسياً، ويتجلى حيناً أزهرياً، وتراه في وقت عربياً، وتلقاه تارة باحثاً غربياً، وكأنه ما تسمى (بديع الزمان) إلا لكي يأتينا من بدائعه - ليبهرنا - بأشكال وألوان
وقلما أبصرت عيناك من رجل
…
إلا ومعناه إن فتشت في لقبه
فهو في الإعراب مع المعربين، وهو في اللحن مع اللاحنات، وهو في مبحث عند العربيات، وهو في حديث حدث غربيات - فقلبه وثاب. . . - وهيهات أن تخلص منه، لا علينا ولا لنا، هيهات
إن في (المنصورة) اليوم (لكريماً)، وإن في (المنصورة) اليوم (لكرماً)
(ن)
4 - نشأة المأساة الإنجليزية
للأستاذ دريني خشبة
المأساة الإنجليزية كالمأساة اليونانية والمأساة اللاتينية هي أرقى ألوان الأدب الإنجليزي، وقد اعتمدت في نشأتها الأولى على مصدرين عظيمين، أولهما أهلي - أو إن شئت فقومي - والآخر خارجي. أما الأهلي فهو هذا الثبت التاريخي الحافل المسمى (المرآة لأولي الأمر) الذي بدأه توماس ساكفيل (أو لورد بكهرست 1532 - 1584) سنة 1557 وتوخى فيه سرد مآسي عظماء الإنجليز منذ الفتح النورماندي حتى نهاية القرن الرابع عشر. وقد قلد المؤلف ما جاء في أساطير اليونان من زيارة أحد أبطالها للدار الآخرة - أوهيدز - وذلك كما في أسطورة أرفيوس الموسيقي وأسطورة هرقل، وما جاء في إنيادة فرجيل ورؤيا دانتي حينما قاده دليله (سوء الطالع) إلى الجحيم ليجوب دركاتها دركة بعد دركة، وليسائل ثمة الذين كتب عليهم أن يكون مأواهم النار بعد الذي قدموا في دار الفناء من خير وشر. فهم يقصون عليه الويلات التي سودت صحائف حياتهم الدنيا، ويحدثونه أحاديث المصائب التي انصبت على رؤوسهم فيها. ولم يكتب ساكفيل غير مقدمة هذا السفر العظيم، وهي مقدمة سياسية رائعة، ثم كتب من مجموعة الأساطير الكبيرة التي بلغ عددها ثمانياً وعشرين، الأسطورة الأولى. . . أما الذي قام بهذا العمل الجليل فهو أديب يدعى ريتشارد بولدوين بمساعدة طائفة من الأدباء الآخرين عنوا عناية فائقة بمآسي عظماء حروب الوردتين. والظريف أن هذا الأثر الأدبي الخالد هو نفسه الذي أوحى - بعد تمامه - إلى ساكفيل والى زميله توماس نورتون موضوع أول مأساة تمثيلية إنجليزية بحتة، هي تمثيلة جوربودك أو فركس وبوركس. وجور بودك هذا هو أحد ملوك بريطانيا العظمى، وفيدنا هي زوجته، أما فركس وبوركس فهما ولداه اللذان قسم بينهما ملكه، فما لبثا أن تنازعا وقتل أحدهما (بوركس) الآخر، فتثور الملكة، وتقسم لتنتقمن لولدها من أخيه، وتنتهز لذلك فرصة سنحت لها إذ رأته نائماً يغط في سبات عميق، فتستل خنجرها وتغمده في صدره. . . ويثور ثائر الشعب حنقاً على الملك (جوربودك) وعلى الملكة فيقتلهما على السواء
فهذه هي المأساة الإنجليزية الأولى، وقد نظمها مؤلفها في شعر رصين وعبارات مشرقة
قوية، وصباها في قالب أخاذ، كما يمتدحها الناقد الإنجليزي العظيم الشاب السير فيليب سدني في كتابه (الاعتذار عن الشعر)، وإن يكن رجال لمسرح الحديث لا يجعلون لها تلك القيمة التي أسبغها عليها هو. والمأساة موضوعة على نمط المآسي الإغريقية تقريباً، وهو هذا النمط الفذ الذي لا تبدو فيه أشخاص المأساة، وإنما تأتي بأخبارهم رسل يروون الوقائع واحدة بعد أخرى، فهي أشبه بتمثيلية قصصية يسردها علينا رسلها الأربعة - بعد شخصيات المأساة، كما كان الشاعر في المأساة اليونانية - ولا سيما قبل سوفوكلي - هو الذي يؤدي أدوار شخصياته كلها بمعاونة الخورس في الإنشاد فقط، أو في حكاية بعض الحوادث التي تمهد لما بعدها من وقائع الرواية
وهكذا كانت المآسي التاريخية التي حفلت بها تلك (المرآة) مصدراً هاماً للشعراء الذين ألفوا للمسرح في نصف القرن السادس عشر الأخير على العموم، وفي ربعه الأخير خاصة
وقد كان المسرح الفرنسي نبراساً يضيء على البعد للمسرح الإنجليزي في هذا المضمار، لكن المسرح الإنجليزي مع ذاك احتفظ بالطابع الذي يميزه ويبقى له استقلاله، ذلك أنه آثر كمال الوحدة للمأساة، واتساق الحوادث التاريخية وترابطها، دون أن يأبه بما كان هم المسرح الفرنسي أن يأبه له، ألا وهو ذلك النقد اللاذع، والسخرية الحادة، والمظهر العام الذي ينبغي أن يكون براقا خلابا. هذا، وقد ظهرت درامات تاريخية أخرى كانت مادة خصبة فيما بعد، أمدت شكسبير بموضوعات شائقة لكثير من مآسيه؛ فمن ذلك درامة (عهد الملك جون المضطرب) التي اقتبس منها شكسبير مأساته (الملك جون)، كما اقتبس مأساته (الملك لير) عن درامة مماثلة اسمها (التاريخ الحقيقي للملك لير وبناته الثلاث: جونرل وراجان وكورديلا). وقد وجد الشعراء الإنجليز غير شكسبير مدداً لا ينتهي في تاريخ ملوكهم، فاتخذوا منه موضوعات لمآسيهم الجميلة المشجية. فهذا بيل يؤلف في حياة إدورد الأول؛ وذلك مارلو ينفح المسرح بمآسيه عن إدورد الثاني وإدورد الثالث؛ وذاك شكسبير يسلم للخلود مآسيه عن رتشارد الثاني ولير وهنري الرابع وهنري الخامس وهنري السادس. . . الخ. ولم يقتصر الشعراء على مآسي الملوك، بل اتخذوا من الأحداث التاريخية نفسها التي وقعت في عصور هؤلاء الملوك موضوعات لطائفة طيبة من أروع مآسيهم كما صنع توماس هيوود في مأساته (إن لم تعرفني فأنت لم تعرف أحداً) التي اتخذ
موضوعها من حوادث عصري ماري تيودور وإليزابث. على أن نوعاً جديداً من المأساة الإنجليزية الأهلية ابتدع الشاعر توماس كيد في أواخر القرن السادس عشر وأطلق عليه المسرحيون (مأساة الدم) لكثرة ما يتخلل فصولها من الذعر والقتل والفتك والبكاء والجنون والانتحار، وما إلى ذلك من ألوان الفزع. وتوماس كيد متأثر في هذا اللون الذي ابتدعه في المأساة الإنجليزية بشاعر الرومان وفيلسوفهم الأشهر سنكا. وليس يعرف المؤرخون كثيراً من حياة كيد. وهم مختلفون في تاريخ ميلاده وفي تاريخ وفاته، وإن اتفقوا أنه قضى حياته كلها في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ويقولون إنه شدا شيئاً من العلم في مدرسة (مرشانت تايلور) وإنه كان ثمة زميلا للشاعر الكبير سبنسر. على أن الذي لا مراء فيه هو أنه مؤلف المأساة المشهورة (المأساة الأسبانية)، أو (هيرونيمو مجنون ثانية) التي يقال إنها جزء ثان لجزء أول من مأساة مفقودة اسمها (هيرونيمو - أو جيرونيمو) والمأساة تبدأ بحوار بين شبح دون أندريا وبين وكيله إلى العالم الآخر، واسمه الانتقام وتنتهي بمذبحة عامة بين جميع أبطالها، مذبحة أشنع مما تنتهي به مأساة (هملت) لشكسبير. . . ولكن مأساة دموية أخرى تسمى سليمان وبرسيدا لا تقل شناعة وتمزيقاً للأعصاب وتفجيراً للألم عن المأساة السابقة، بل تفوقها إلى الحد الذي لا تحتمله مشاعر القراء ولا تقوى عليه عواطفهم، ولهذا فنحن نضرب صفحاً حتى عن تلخيصها. وقد كتب أديب آخر يدعى هنري شتل مأساة دموية من طراز مآسي كيد اسمها هوفمان فساهم بها مع كيد في التمهيد لظهور المأساة الرومانتيكية (الإبداعية) في إنجلترا، وهي المأساة التي عفت على آثار الدرامات الدينية بنوعيها (الإنجليزية والقديسية) كما عفت على آثار الدرامة الأخلاقية أما الذي أنشأ هذه المأساة الإبداعية إنشاء، وسما بها إلى الذروة من الأدب المسرحي الإنجليزي فهو - خرستوفر مارلو الملقب بأبي المأساة الإنجليزية وصاحب الفضل الأكبر في (تكييف الذوق الإنجليزي العام) وتوجيهه على الوجهة الرومانتيكية الرفيعة التي أزهرت أيما إزهار فيما بعد. ويعود فضله إلى تلك العملية الاختزالية الواسعة التي قام بها في الدرامة المسرحية بوجه عام، فلقد وجد تراثاً مختلطاً من المسرحيات الكلاسيكية المشوهة التي ترتكز على الناحية الاستعراضية وتحفل بها قبل أن ترتكز على الموضوع المتماسك المتسق، والتي تعتمد على زيف المناظر وبهارجها وما يقحم خلالها من مواقف التهريج
المضحك إقحاماً، قبل أن تعتمد على جمال الأداء وتسلسله. فلما أخذ مارلو ينظم أولى دراماته رأى أن يهمل كل هذا الزبد ليذهب جفاء، وأن يقدم للمسرح سبيكة خالصة من كل تلك الشوائب التي وقع فيها أسلافه وأكثر معاصريه، فعمد إلى الشعر المرسل الذي لا يرتبط بقافية فعظم به مآسيه، وأتى فيه بالغرر والدرر، فلم يصدم الذوق العام بكلام لا هو شعر ولا هو نثر، ولم ينفر منه ذلك الذوق العام، بل أقبل عليه وانجذب إليه، وقدره قدره الذي هو له أهل؛ ولم تنفر منه اللغة ولا موسيقى النظم ولا أوزان الشعر، ولم يفر منه الجمهور ولا ثار به الممثلون، بل كانوا جميعاً أصدقاءه المؤتلفين معه، المعجبين به
لقد ترك مارلو للأدب الإنجليزي سبع تمثيليات شهد منها المسرح خمساً بين عامي 1586، 1593، أي في أقل من سبع سنوات. أما أولى دراماته فهي تامبورلين الأكبر (تيمورلنك) وقد صور فيها الفاتح الشرقي صورة شاعرية شائقة إذ جعله بطلاً مثالياً ينشد الجمال المحض، وهو ينشد هذا الجمال خلال مناظر الدم والرعب والتقتيل والفزع، وهو مع ذاك يذوب أسى ويلتهب وجداً حينما يصف مرض زوجته الملكة وشحوبها، ثم احتضارها، وهو يبلغ آية الآيات في السمو حينما ينعى هذه الزوجة (التي تعدل الدنيا بأسرها) إلى صديقه ملك فاس
لقد نظم مارلو درامته بالشعر المرسل، أي غير المقفى، فكانت أول تمثيلية ملكت زمام هذا الشعر للمسرح الإنجليزي. . . والمدهش أن مارلو فاجأ قومه بلون طريف من ألوان الشعر هو عندهم مدهش اليوم أرقى هذه الألوان وأفتنها وأحبها إلى نفوس الإنجليز. . . وقد أطلق النقاد على شعر مارلو - في عصره بالطبع - لقب البيت العظيم أو ما نسميه نحن تجوزا القريض الفريد. ومع أن مارلو لم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين إذ ذاك، فقد نجحت درامته نجاحاً عظماً، بموضوعها وبشعرها المفاجئ المجود، وباستغنائه عن تلك الزوائد المسرحية التي لا تربطها بصلب الرواية صلة
وقد تجلت عبقرية مارلو بكل جبروتها في مأساته الخالدة (الدكتور فاوست)، أو كما سماها هو (تاريخ الدكتور فاوست المحزن) ولا شك في أنه ابتدع هذه المأساة بعد قراءته لترجمة مأساة حياة الدكتور جون فاوست عن الألمانية كما ابتدع مأساة تيمورلنك من ترجمة حياته عن الأسبانية بقلم الكاتب الأسباني بدرو مكسيا. وقد قرأ نابغة الألمان العظيم جوته مأساة
مارلو وأعجب بها غاية الإعجاب، وربما كانت هي التي أوحت إليه موضوع آيته العظيمة (فاوست)، بل إننا لنرجح أنه لم يكتبها إلا ليعارض بها مارلو، ففي الأسطورة الألمانية ترى مجرد اللذة، أو دافع السرور هو الذي يجعل فاوست بعد الشيطان بأن يلقي إليه زمامه إذا هو - أي الشيطان - استطاع أن يبعد الأحزان عن قلب فاوست، وأن يبلغه مشتهاه من لذائذ الحياة جميعاً. أما مارلو فقد جعل عقدة الرهان بين فاوست وبين الشيطان في أن يمنحه الشيطان السلطان المطلق والقدرة على كل شيء. . . فإذا أمكنه من هذا فله روحه وله نفسه، وله منه ما يشاء. أما جوته فقد أراد أن يجعل العقدة في هذا الرهان شيئاً آخر غير الذي رما إليه مارلو، وغير الذي رمت إليه الأسطورة الألمانية. لقد جعل عقدة هذا الرهان في أن يمنح الشيطان غريمه العلم المطلق بكل شيء، وفي سبيل هذا العلم أوقعه الشيطان في جميع الكبائر، فشرب الخمر وزنى وسرق ثم قتل. . . ومع ذاك فلم يؤته الشيطان من العلم شيئاً. . . يؤثر أن جوته صاح قائلاً عند فراغه من قراءة فاوست لمارلو:(ألا ما أعظم الفكرة!) وقد شهد سونبرن بما لتلك المأساة من التفرد بين جميع المآسي في جميع العصور؛ مع أن قارئ مارلو في فاوست يشعر في الصفحات الأولى للمأساة بخيبة شديدة، لأنه يجد تفاهة وسطحية تشبهان تفاهة الأطفال وسطحيتهم، ولا يكاد يفهم معنى لكل تلك الكهانات وألوان العرافة السخيفة التي يحشدها مارلو على نطاق واسع في مأساته. . . وسرعان ما يفطن القارئ إلى السبب فيكبر مارلو ويعلم أنه إنما قصد إلى حشد ذلك السخف كله ولم يأت به عبثاً. . . لقد أراد به تصوير سخفنا نحن. . . سخف الإنسانية. . . وإلا فلماذا يرتفع مارلو ارتفاعاً شاهقاً في آخر المأساة، وذلك عندما يصور هلاك فاوست، عندما تقبل عليه الشياطين من كل حدب فتحدق به وتطلب إليه وفاء الرهان
وقد خلت فاوست من العنصر النسائي
ومأساته الثالثة هي (يهودي مالطة) التي عرضها شكسبير بتاجر البندقية ولولا أن مارلو بالغ في تصوير بطله باراباس حتى جعله شخصاً خرافياً لبذ شكسبير في بطله شيلوك الذي لا يجافي الحقيقة في نفسيات المرابين. ومع ذلك فقد فضل سونبرن شخصية باراباس على شيلوك بالرغم من وجود هذا الفارق
أما مأساته الرابعة (إدورد الثاني) فتعتبر أكمل أعماله المسرحية، وإن افتقرت إلى العنصر
الفكاهي الذي لابد منه لتخفيف فعل المأساة في نفوس النظارة
وتعتبر مأساته الخامسة (مجزرة باريس) أضعف مآسيه، وهي تصور النضال الهائل بين دوق دي جيز، وبين حزب الهوجونوت
وقد فتح مارلو جنة الشعر المرسل لشكسبير الذي أنبت فيها المعجزات، وقد وجدت في مخلفاته نسخة بخط مارلو لقصيدته الخالدة (هيرو ولياندر) ويؤثر أن شكسبير لم يكن يفضل عليها شيئاً من الشعر جميعاً. وقد نعرض لذلك في مقالاتنا عن الشعر المرسل والشعر الحر قريباً إن شاء الله.
دريني خشبة
مكتبات عربية
في الشرق والغرب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
المكتبة العربية قديمة في تاريخ الأمة العربية، ومتى وجد الكتاب وجدت المكتبة. فالمكتبة مجموعة من الكتب يضم بعضها إلى بعض، ويتكون من مجموعها ما يسمى (بيت الحكمة) في العصر العباسي، و (خزانة الكتب) في العصر الفاطمي، و (دار الكتب) أو (المكتبة) في العصر الحديث.
وفي العصر الأموي نجد ذكراً لخزائن الكتب التي أخرج منها الخليفة عمر بن عبد العزيز كناش هرون. ولعل تلك الخزائن هي النواة الأولى للمكتبة العربية الإسلامية
اشتهرت بغداد في عصر نهضتها العلمية بدار كتب عظيمة يعرفها المؤرخون باسم (بيت الحكمة) ويسميها وزير المعارف علي باشا مبارك في كتابه (علم الدين)(دار الحكمة)، ويروي في هذا الكتاب الشائق كيفية استجلاب الكتب من خزائن الروم بعد امتناع ملك من إنفاذ ما اختاره المأمون من نفائسها. فأنفذ المأمون جماعة منهم: الحجاج بن مطر، والبطريق، ويوحنا بن ماسويه
وكانت تلك الدار أشبه بمباءة للعلم يجلس فيها المؤلفون والمترجمون والنساخون والمطالعون. وكان للفرس مشاركة طيبة في نهضة دار الحكمة المأمونية، كما كان خدمتها والمترددون عليها من الفرس وأكثرهم من الشعوبية الذين يكرهون العرب، مثل علان الشعوبي النسابة الذي ألف كتاباً في مثالب العرب وعسى أستاذنا الجليل إسعاف النشاشيبي يدلنا على نسخة من هذا الكتاب يغنينا عن مثالبه هو للعرب في مقالاته عن حكاية الوفود الكسروية التي يستكثرها على آبائه الأكرمين. . .!
ومن دور الكتب الشهيرة في الشرق مكتبة الأمير نوح ابن منصور الساماني صاحب خراسان وأمير بخارى. وكان الوزير أبو علي الشهير بابن سينا قد برع في علم الطب، فذكر عند الأمير نوح، وكان قد مرض فأحضره وعالجه حتى برئ واتصل به ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها ما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه. فظل ابن سينا فيها يكتب من علم الأوائل
اقتدى أهل الأندلس بالمشارقة في إنشاء دور الكتب. فأنشأ الحكم بن الناصر مكتبة حافلة جمع لها الكتب من نواحي العالم، وبذل في سبيل شرائها مالاً كثيراً. وكان يغري المؤلفين بالذهب ليشتري منهم مؤلفاتهم ويضمها إلى خزانته، فقد ذكروا أنه بذل لصاحب الأغاني ألف دينار من الذهب ليرسل إليه كتابه قبل أن يبعثه إلى الخليفة العباسي بالمشرق، كما ذكر المقري صاحب نفح الطيب كثيراً من أخبار الحكم في هذا السبيل، وفعل ابن خلدون مثله في الجزء الرابع من تاريخه
ولم تقل مصر والشام عن بقية بلاد المشرق وسائر بلاد المغرب في جمع الكتب وتنظيم المكتبات. فالعزيز الفاطمي ينشئ (خزانة الكتب)، ويجمع لها الكتب بمعونة وزيره يعقوب ابن كلس، ويجمع من الكتاب الواحد نسخاً عدة قد تبلغ المائة. وللمقريزي في الجزء الأول من خططه كلام كثير في هذه الخزانة
ولقد نكبت المكتبات العربية بالتتار والصليبيين في الشرق وبالفرنجة في المغرب. ويروي ابن الفوطي المؤرخ المعاصر لغارة التتار على بغداد كيف أحرقت الكتب وأغرقت وبيعت بأوهى قيمة
ويروي ابن الأثير كيف أحرقت المكتبة التي أنشأها سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة عندما دخل السلجوقيون بغداد سنة 447هـ
كما يذكر جيبون المؤرخ كيف أحرق الفرنجة مكتبة طرابلس الشام عندما فتحوها سنة 502 هـ. ويذكر مؤرخو المسلمين أن البطريق إيكزامينيس أمر بإلقاء الكتب العربية في النار عندما دخل الفرنج غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي. . .
وفي العصور المتأخرة نرى الأمم الغربية تتنافس في جمع الكتب العربية وترتيبها بحسب موضوعاتها، وتعين لتنظيمها المختصين من المستشرقين الذي درسوا فن تنظيم المكتبات على قواعد صحيحة. ومن الإنصاف للتاريخ والحق أن نقول إن فكرة العناية بإنشاء المكتبات العربية على وجه الخصوص والشرقية على وجه العموم ترجع إلى مدينة (روما)، فقد انتشرت بين أغنياء تلك المدينة التاريخية بدعة جمع الكتب الشرقية في العصور الوسطى. فصبح أثرياء الإيطاليين ينافس بعضهم بعضاً في الجمع، ويكاثر بعضهم بعضاً في الاقتناء لا رغبة منهم في العلم ولا حباً في المطالعة، ولكن ميلاً إلى التكاثر
والمباهاة كما يصنع المترفون من عشاق التحف وجامعي الألطاف ولو لم يعرفوا قيمتها أو يدركوا حقيقتها
أخذت فكرة جمع الكتب العربية تنمو في بلاد أوربا المختلفة، ومع مرور الزمن واتصال الشرق بالغرب، وحب الفريقين في الوقوف على تاريخ الشرق القديم وتتبع تطوره، وشغف هؤلاء بارتياد المجاهل الشرقية لأغراض سياسية أو لمآرب دينية - مع ذلك وغيره من العوامل تغيرت فكرة جمع الكتب الشرقية من مجرد المباهاة والتكاثر والتفاخر وتزيين القصور إلى فكرة الاطلاع والدرس والبحث والتنقيب والتنقير بما يتفق مع مصلحة الغربيين لا الشرقيين
فأنشئت دور كتب عربية عامة وألحقت بالمكاتب الأهلية العامة في العواصم الأوربية الكبرى كلندن وباريس وبرلين وفينا وروما ومدريد. وأخذت الولايات المتحدة في أمريكا - في مطلع هذا القرن - تهتم بالدراسات الشرقية وتنشئ بجانبها أقساماً للغات الشرقية في جامعاتها الكبرى. مثل جامعة شيكاغو التي تصدر مجلة:
ومثل جامعة كولومبيا التي تعنى بالدراسات العربية وتترجم أمهات التاريخ الإسلامي إلى الإنجليزية كما فعلت في كتاب فتوح البلدان للبلاذري الذي ترجمه الدكتور فيليب حتى السوري الأصل، والأستاذ الآن بجامعات الولايات المتحدة
ولقد زار بعض النابهين من أبناء البلاد العربية هذه المكتبات العربية في أوربا وتحدثوا عنها في كتبهم؛ كما فعل الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه (تخليص الأبريز إلى تلخيص باريز) وكما فعل أحمد فارس الشدياق في كتابيه (الواسطة في أحوال مالطة) و (كشف المخبا عن فتون أوربا)، وهما من مطبوعات الجوائب بالآستانة، وكما فعل أمين فكري بك في كتابه الممتع المفيد (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا) المطبوع بالمقتطف سنة 1892
ولقد حدث الشيخ محمد محمود الشنقيطي: أنه لما أرسل من الآستانة إلى أوربا لمشاهدة دور الكتب (وجد فيها كثيراً من الكتب العربية القديمة العهد العظيمة النفع المعدومة الوجود في بلاد الشرق على العموم)
ولعلي باشا مبارك في كتابه علم الدين وصف شامل لمكتبة عربية خاصة في باريس ذكر
أسماء بعض ما فيها من نوادر الكتب في التفسير والحديث والتوحيد والفتاوي واللغة ووصف عناية صاحبها بترتيبها وتنسيقها وحسن استعماله لما فيها. إلا أن أمين فكري بك كان في كتابه السابق الذكر أكثر الرحالين من العرب عناية بالمكتبات العربية العامة في أوربا فهو يصف كل واحدة منها وصفاً دقيقاً، فيصف مداخلها ومخارجها ورفوفها وأنضادها، وعمالها والقائمين عليها، ونظام الاطلاع فيها، وينقد ما يراه موضوعاً للنقد كما يذكر مواضع الإحسان فيثني. ومن عجب أن المكتبة الأهلية في باريس على عهده - 1891م - لم تكن على الحال التي عليها اليوم. فهو يقول عن قسمها الشرقي (توجهنا إلى مأمور القسم وطلبنا منه فهرست الكتب العربية فلم نجد لها من سوء الحظ فهرستاً؛ بل أحضر لنا دفاتر متعددة كل واحد منها يحتوي قسم منه على شيء من الكتب العربية غير مرتبة ولا مبوبة فلم يتيسر وجود ما أردناه وحملنا ذلك على قلة طلب الكتب العربية فيها أو على أن طالبيها غيرنا أعرف منا بمظناتها)
ويصف المكتبة العربية بالمتحف البريطاني بلندن فينتقد فهارسها غير المنظمة؛ كما يصف مكتبة ليدن بهولاندة ويذكر في كل واحدة من هذه المكتبات بعض ما فيها من نفائس الكتب والمخطوطات.
محمد عبد الغني حسن
2 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
رأينا مما تقدم أن الأديان السابقة على الإسلام إما استفادت من الفنون الجميلة في إيضاح عقائدها وتقريب مبادئها للأذهان، وإما أنكرت هذه الفنون وقضت عليها، أما الإسلام فموقفه منها يختلف جد الاختلاف عن هذين الموقفين: فهو لم يستخدم الفنون الجميلة في دعوته كما استخدمتها الوثنية والمسيحية، ولم ينكر هذه الفنون كما أنكرتها اليهودية، ولكنه تضمن توجيهات مختلفة كان لها أبعد الأثر في تكوين الفن الإسلامي بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، وبعضها كانت بمثابة عوامل مساعدة على رقي الفنون الإسلامية الجميلة ونضوجها. وسنبين فيما يلي هذه التوجيهات المتباينة لنرى كيف استطاع الإسلام بنواهيه وأوامره أن يخلق فناً جميلاً له روعته وبهاؤه
ويتجلى لنا أثر التوجيهات الإيجابية في فنون الخط والزخرفة والعمارة. أما فن الخط فقد حظي من عناية المسلمين جميعاً بنصيب وفير، وكان للخطاطين عندهم مركز ممتاز لا نبالغ إذا قلنا أنه قد تسامى إلى مركز الملوك والأمراء إذ نزل هؤلاء إلى ميدان الخطاطين ينافسونهم في صنعتهم لا سعياً وراء الكسب المادي، ولكن رغبة في الحصول على الفخر الأدبي؛ فكانوا يكتبون بأيديهم نسخاً من القرآن الكريم يقدمونها للبقاع المقدسة. والذي أعطى للخط العربي هذه المكانة الممتازة هو اتصاله القوي بالقرآن كلام الله الذي نزل باللغة العربية على محمد صلوات الله عليه (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً) فالخط هو وحده أداة كتابة هذا الوحي فضلاً عن أن الحق جل وعلا قد أضاف تعليمه إلى نفسه (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، كما أنه سبحانه أقسم به (ن والقلم وما يسطرون). ومن هنا كان إقبال من اعتنقوا الإسلام على تعلم الخط العربي، ومن هنا وجدت صلة من أوثق الصلات ربطت العالم الإسلامي بعضه ببعض، إذ توحد شكل الكتابة، فصارت الهندية والإيرانية مثلاً تكتبان بالحروف العربية
هذا ولقد ظهر بظهور التصوف في الإسلام علم ينسب إلى الحروف العربية أسراراً خفية تمكن الإنسان من التأثير في المخلوقات بواسطة (الأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار في الأكوان)، كما يقول ابن خلدون في مقدمته. ولا يعنينا
من أمر هذا العلم إلا شيء واحد، هو أن هذه العقيدة قد دفعت بالمسلمين إلى تزيين ما أخرجته أيديهم من المصنوعات أو شيدوه من العمائر بالآيات القرآنية والعبارات الدينية، والصيغ المختلفة للمدح أو الدعاء، طلباً لما وراءها من الخير والبركة. ولقد كان لهذا أثر بعيد في فن الخط، إذ أصبح مضروباً مشتركا في جميع فروع الفن الإسلامي، وتحكمت المادة التي يكتب عليها في شكل الحروف، فظهرت لها صور مختلفة على الآثار المختلفة، وأصبحت على الحجر غيرها على الخشب، وعلى النسيج غيرها على الخزف. وفي الحق لقد كانت إجادة الفنان المسلم لفن الخط بوحي من الإسلام، ولم تتجل عبقريته الفنية في ناحية من نواحي الفن الجميل بقدر ما تجلت في هذه الناحية: خلق من تلك الحروف ذات الأشكال المتباينة والأوضاع المختلفة طرازاً زخرفياً تبدو فيه صور من الجمال شتى، بعضها يفيض بالقوة، وبعضها يفيض بالرقة والأناقة، أوحت إليه الحروف العربية برؤوسها وسيقانها وأقواسها ومداتها بعناصر زخرفية ما كاد يرسمها حتى بعثت فيه تلك اللذة البريئة التي يحس بها الفنان عندما يشاهد أثراً جميلاً، فاندفع في هذا التيار يبتكر الزخارف والنقوش، غير آبه بما تفرضه عليه أصول الخط من المستلزمات، ولا بما يسببه للقارئ - في بعض الأحيان - من الإعنات، بل كان همه أن يرضي الفن فحسب، فتارة يجعل الحروف متجمعة كأنها شجرة كثيفة الأغصان وطوراً يرسمها متباعدة، كأنما هي بستان انتثرت فيه الأزهار، وتارة يريك من التنوع الجميل بين الحروف القائمة والحروف المستديرة ما ينتزع منك الإعجاب انتزاعاً، ويرغمك على أن تقر له بالتفوق والنبوغ. ولشد ما كان يضحي على مذبح الفن بالكثير من قواعد الخط، ويتركنا نقاسي من الجهد شيئاً عظيما حتى نهتدي إلى ما يريد، وقد لا نهتدي.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية
كوبيرنيكوس
بمناسبة مرور أربعمائة سنة على وفاته
للأستاذ جودة شهوان
في الرابع والعشرين من مايو سنة 1543 سقطت إحدى الدعائم التي بنيت عليها النهضة الأوربية الحديثة بوفاة كوبيرنيكوس، ذلك العالم الذي جاهر بحقيقة كانت قد اختفت وراء حجب الدهر من زمن بعيد، تلك الحقيقة الهامة التي كان لها فضل جم على تقدم علوم العصر الحديث وأبحاثه، والتي نقلت العلم من حال إلى حال، وكانت مناراً وعماداً لأبحاث جمهرة من علماء العصر الحديث الذين جاءوا بعد كوبير نيكوس، والذين أشهرهم (كبلر) و (جاليلو) و (نيوتن) كما عملت تلك النظرية في إطلاق عقول الناس وأخيلتهم - التي كانت قد قيدتها خرافات العصر الوسيط - من قيودها لتستقبل عصر النهضة الذي أعقب وفاته. وقد عد (المستر دورانت) الكاتب الأمريكي والفيلسوف المشهور، هذا العالم (كوبير نيكوس) في مقال له بمجلة (أمريكان) أحد قادة البشرية العشرة في تاريخ العالم وهم: كنفوشيوس - أفلاطون - أرسطوطاليس - ثوماس أكونياس - كوبير نيكوس - فرانسيس بيكون - نيوتن - فلتير - كانت - داروين
كانت النظرية السائدة قبل ظهور كوبير نيكوس أن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس وبقية الكواكب تدور حولها. فلما جاء هذا العالم وجد بعد أبحاثه الطويلة أن اعتقادهم ذاك كان خطأ، وأن الشمس هي مركز الكون تدور حولها الأرض وبقية الكواكب. وقد سميت هذه النظرية (بنظرية كوبير نيوس أو النظرية الكوييرنيكية) نسبة إليه؛ ذلك لأنها على يديه ولسببه نالت شهرتها وسيادتها المعلومتين
وقد فسر كوبير نيكوس أيضاً حدوث الليل والنهار بأنهما ناتجان عن حركة الأرض حول محورها، كما فسر حدوث الفصول بأنها نتيجة لدوران الأرض حول الشمس
ولنرجع الآن لسرد قصة حياته، وطرف من أعماله وآراءه التي جاءنا بها غير التي ذكرناها آنفاً؛ فنقول:
ولد هذا العالم البولندي الألماني في التاسع عشر من فبراير عام 1473 في مدينة ثورن الواقعة على الفستولا في بروسيا البولانديه، من أب سلافي من (كراكاو)، ومن أم ألمانية
اسمها (برباره وتز لرود) من عائلة غنية وذات مركز هام في الهيئة الاجتماعية. وقد تكلم كوبيرنكيوس اللغة الألمانية (لغة أمه)، غير أنه علم في البيت شيئاً من اللاتينية واليونانية مات أبوه وهو في السادسة عشرة من عمره فبقى مع أمه وعمه حتى سنة 1491 عندما أرسل إلى الجامعة (كراكاو)، حيث بقى ثلاث سنين تعلم أثناءها الرياضيات. وقد حصل أثناء دراسته تلك على مهارة في الرسم. وفي عام 495 سافر إلى إيطاليا حيث قضى بضع سنوات درس أثناءها القانون والفلك والأقرباذين في (بولونيا) و (بادوا). غير أن ميله كان إلى الرياضيات أشد
وبعد تبحره في الفلك ذهب إلى (روما) لزيارة صديقه (رجيومنثانوس) أشهر علماء الفلك، وأذيعهم اسماً حينذاك. وقد تلقاه ذلك الصديق باحتفاء لائق، وكان ذلك عام 1500؛ وهنالك بمساعدة صديقه المذكور، ولحسن أخلاقه انتخب أستاذاً للرياضيات. وقد قضى تلك السنة في روما ألقى أثناءها محاضرات في علم الفلك مختلفة. وقد شاهد في السادس من نوفمبر هذه السنة خسوف القمر في روما
ترك الأستاذ نيكولاوس روما عام 1505 بعد أن كان قد حصل على شهادة دكتور قبل ذلك بسنتين قاصداً بلده الأصلي (بروسيا)، وسكن في هيلبرغ كفلكي نعمه (مطران ارمرلند). وهنالك أخذ يتدخل في أمور الدين، وما زال كذلك حتى حصل على شهادة في القوانين الكنيسة وأصبح راهباً. ويقال إنه كان يقسم يومه العملي إلى أقسام ثلاثة: أما الأول فكان يصرفه في إتمام فروض وظيفته؛ والثاني يصرفه في منح النصائح الطبية لفقراء الناس. والثالث يصرفه في الدراسة والبحث
بعد أن رجع إلى بروسيا - كما قلنا - وكان في الخامسة والثلاثين من العمر بدأ في استخدام معرفته الرياضية ومشاهداته المختلفة العديدة، في سبيل إصلاح ما كان قد التصق بعقول القوم من نظريات فلكية، فكانت نتيجة ما حاول ظهور كتابه الأشهر الموسوم (بأفلاك الأجرام السماوية)(نورمبرغ 1543) وقد فرغ من عمل الكتاب المذكور عام 1530 غير أنه لم ينشره بل بقى متردداً خوفاً من أن يرمى بالهرطقة، وأن تكسد سوق كتابه لما احتواه من أفكار ونظريات في الفلك حديثة وغريبة، على قوم كانوا غارقين في لجج من الأضاليل والخرافات والاعتقادات. وبقى على حالته تلك اثنتي عشرة سنة، أزمع
عند انتهائها 1543 على طبعه ونشره. غير أن العلة كانت قد بدأت تنخر في جسمه، وتنغص عليه عيشه، فما زال يصاولها وتصاوله، ويغلبها وتغالبه، حتى ناداه ربه فلباه في الرابع والعشرين من مايو عام 1543. ولقد قدر للمؤلف أن يمس أول نسخة من كتابه المطبوع لأول مرة، قبيل مماته بسويعات.
يتألف كتابه المذكور من أجزاء ستة أهمها الأول. وأهم ما يحتويه هذا الجزء:
1 -
إن الأرض كرية، كما أن الكون كري
2 -
إن اليبس والماء يكونان كرة واحدة
3 -
إن حركة جميع الأجرام السماوية منتظمة ودائرية
4 -
إن الأرض تتحرك في مدار حول الشمس، كما أن لها حركة أخرى حول محورها
5 -
إن الشمس مركز الكون، وأن القدماء مخطئون في اعتبار الأرض مركزاً له
6 -
إنه لمن المحتمل أن يكون للأرض حركات عدة
7 -
تنظيمه للكوكب ورسمه شكلا لنظامها يشبه الشكل الحديث
ولكوبيرنيكوس غير الكتاب المذكور كتب أخرى. فله كتاب في المثلثات، (وتنبرغ 1542)، نشره صديقه وتلميذه (راتكوس). وكتاب آخر وهو ترجمة رسائل الكاتب اللاتيني (ثيوفلكوس سيموكاثا). وقد كتب أيضاً سنة 1526 كتاباً آخر عن النقود. (نشر لأول مرة عام 1826). وله الآن كتابات خطية في مكتبة أبرشية (ارمرلند)
لقد اهتم كثير من كتاب الغرب بالكتابة عنه وأول من كتب عن حياته هو (جاسندي). ومن الكتاب الحديثين: (فون هلبر - 1873) و (بلكوفسكي). غير أن أكمل الكتب عن حياته وأعماله، وأحلها كتاب الدكتور ((براو) - جزءان - برلين 1883)
ولقد خلد ذكر هذا العالم الشهير، غير الكتابة عنه وعن أعماله، بنصب عدة تماثيل له في أماكن كثيرة من أوربا. أحدها في قصر (كسيمير) بمدينة (وارسو) صنعه (ثارولدسن) وأقيم هنالك عام 1830، وآخر صنعه (ثيك) ونصب في (ثورن) وكتب عليه:
،
،
وقد نصب له تمثال آخر في فناء جامعة (كراكاو) عام 1900
(فلسطين)
جودة شهوان
متى أراكم؟
- 1 -
تشوَّقكم قلبي وكيف لقاؤكم
…
وما ذاك يا أحباب قلبي بالهَيْنِ
يضنّ على قلبي الزمان بقربكم
…
وما البين إلاّ الموت، ويْل من البيْنِ
ألا هل أراكم؟ حسرة الشعر والهوى
…
إذا متّ من شوق ولم تركمْ عيني
فيا من نأيتمْ، إن نُعيتُ إليكمُ
…
فلا تعجبوا فالشوق موردني حَيْني
سلام على قلبي
- 2 -
ولي عندكم قلب غريب مطرَّحٌ
…
لدي بابكم يمسي ويصبح في الكربِ
طليحٌ، إذا استنهضته كي أقبله
…
تحامل، ثم ارتدَّ من أَلم الحبّ
سلامٌ عليه إذ يموت صبابةً
…
وإذ أنتمُ لاهون عن قلبيَ الصبّ
فلا تسألوني عن بكائي فإنما
…
بكائيَ يا أحباب قلبي على قلبي
(فلسطين)
دنانير
صلاة.
. .
جَمَالُكِ تَرْنِيمْةُ الشَّاعِرِ
…
وَدُنْياً مِنَ الأمَلِ اللنَّاضِرِ
وَفَجْرٌ مِنَ الْحُبِّ ضَاحِي الجَبِيْ
…
نِ يَطُوْفُ بِمِحْرَابِهِ خَاطِرِي
وَسِرُّ مِنَ الغَيْبِ حَارَتْ لَديْ
…
هِ قُلُوْبُ الوَرَى وَرُقَي السَّاحِرِ
وَعِطْرٌ مِنَ اللهِ طَافَتْ بِهِ
…
رُؤَى الخُلْدِ في حُسْنِهَا الآسِرِ
وَحَقْلٌ مِنَ النُّوْرِ غَنَّتْ لَهُ
…
عَذَارَاهُ لَحْنَ الهَوَى الطَّاهِرِ!
جَمَالُكِ رَمْزُ الصِّبَا وَالحَيَاةْ
…
تُفَجِّرُ نَبْعَ الّليَالِي رُؤَاهْ
تَطُوْفُ القُلُوْبُ بِهِ مِثْلمَا
…
يَطُوْفُ الهَوَى بِنَشِيْدِ الرعَاهْ!
وَتَعْيَا النُّفُوْسُ بِأَسْرَارِهِ
…
فَهَيْهَاتَ تُدْرِكُ مَا مُنْتَهَاهْ
تُقَدِّسُ فِيْهِ جَمَالَ الوُجُوْ
…
دِ وَتَعْبُدُ فِيْهِ جَلَال إِلإلَهْ!
جَمَالُكِ لَحْنٌ حَبِيْبُ الصَّدَى
…
تَغَنَّى به الْحُبُّ لَمَّا شَدَا
وَأُفْقٌ مِنَ الفَنِّ سَاميِ الرُّسُوْ
…
مِ بِدَيْعُ الجمَالِ رَحِيْبُ المَدَى
يَضُمُّ إِلَيهِ مَعَاني الضَّلَا
…
لِ وَيَطْوِي إِلَيْهِ مَعَاني الهُدَي
وَقَدْ يُلْهِمُ النَّفْسَ سِرَّ الْحَيَا
…
ةِ كَمَا يُلْهِمُ النَّفْسَ سِرَّ الرَّدَى
سِوَى أَنَّهُ خَالِد كالزَّمَا
…
نِ يَعِيْشُ - عَلَى رَغْمِهِ - سَرْمَدَا
جَمَالُكِ حُلْمُ الصَّبَا النَّاعِمِ
…
وَفَيْضٌ مِنَ الأمَلِ البَاسِمِ
وَوَحْيٌ مِنَ المَلأَ القُدُسِيِّ
…
تَمَثَّل في غَفْوَةِ الْحَالِمِ!
لَمَحْنَاهُ في سَبَحَات الخَيَا
…
لِ وشِمْناهُ في لَوْحَةِ الرَّاسِم
وَرَفَّتْ عَلَيْهِ بَنَاتُ القر
…
يض تُغَنِّي بِقِيْثَارِهَا النّاغِم
إِلَى أَنْ أَتَيْتِ به لِلْوُجُوْ
…
دِ فَكُنْتِ به فِتْنَةَ العَالَمِ!
(عاليه - لبنان)
فؤاد كامل
البريد الأدبي
وحي القرآن باللفظ
جاء في البريد الأدبي بعدد الرسالة الغراء رقم 532 مقال للأستاذ الشيخ محمود أبو رية انطوى على شك واضح في الحقيقة وحي القرآن الكريم، وموضوع الوحي وطريقته من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة المحمدية الشريفة، وموضوع خلق القرآن أو قدمه من المباحث التي توفر عليها علماء المسلمين في عهد المأمون والواثق والمعتصم، وما تركوا فيها ناحية تحتاج إلى توضيح أو استيفاء؛ وقد كفى الله المسلمين عواقب هذا الخلاف حتى أصبح العلماء والمتعلمون يقرءونه على أنه دراسة للعقلية الإسلامية، لا على أنه شاكون في أن القرآن معنى ولفظاً من عند الله
على أن سلف العلماء وأئمة الفرق الإسلامية لم يختلفوا - كما قال الأستاذ - على أن القرآن لفظاً ومعنى كلام الله، وإنما الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم اللفظ وحدوثه. والكل مجمعون على أن المعنى القديم لتعلقه بصفة الكلام الأزلي، ومعنى حدوث اللفظ على رأي المعتزلة ومن إليهم أن الله خلق اللفظ كما خلق السماء والأرض وأوحاه إلى الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام
هذا هو الذي درسناه وفهمناه من آراء الفرق الإسلامية فإذا كان لدى الأستاذ نصوص تخالفه فليدل بها.
(الإسكندرية)
محمود البشبيشي
قسم القراءات بكلية اللغة العربية
إذا قدر للأزهر أن يصل يوم إلى الإصلاح المنشود، فإنه سيكون لمجلة الرسالة الغراء فضل وصوله إليه، لأنها المجلة الوحيدة التي تعنى به، ولا تضن بصفحاتها على من يكتب فيه. وسينشأ في هذه السنة قسم للقراءات بكلية اللغة العربي، وإنه لواجب أن تعنى هذه الكلية بفن القراءات، وأن تنهض به من تلك الطريقة التلقينية التي يأخذ بها الناشئون فيه، فتدرسه دراسة أخرى تليق بها، وتتناسب مع الدراسة التي تأخذ بها العلوم الأخرى
ولا شك أن هذا لا يتفق مع ما يراد الآن من فتح هذا القسم لكل من يحفظ القرآن الكريم، ولو لم تسبق له دراسة علمية تؤهله لدرس فن القراءات بالطريقة اللائقة بكلية اللغة العربية، كما لا يصح أن يجمع مثل هؤلاء الطلاب مع طلاب هذه الكلية، لأنهم يتفاوتون في ثقافتهم تفاوتاً بعيداً وأني أرى أن تؤلف لجنة تكون مهمتها وضع مناهج الدراسة اللائقة بهذا القسم، ليدرس فيه فن القراءات دراسة جامعية، ولا يكتفي فيه بتلك الطريقة التلقينية، وأرى أيضاً أن يقصر على حملة الشهادة الثانوية بالمعاهد الدينية، لتتفق ثقافة طلابه مع ثقافة إخوانهم بالكليات، ويمكنهم أن يقوموا بهذه الدراسة التي نطلبها لهذا الفن
(ص)
ظاهرة لغوية
قد يكون من الحديث المعاد أن نقول إن اللغة ليست ظاهرة تحكمية اعتسفها القوم اعتسافاً، بل هي ظاهرة اجتماعية ترد إلى طبيعة الأشياء. ولعل خير ما يبين لنا تساوق اللفظ والمعنى، ما نص عليه قدماء أهل اللغة من (أن المشاركة في أكثر الحروف اشتقاق يدور عليه معنى المادة، فيتحد أصل معناها ويتغاير في بعض الوجوه). والأمثلة على صحة هذه الظاهرة كثيرة لا حصر لها، فنجتزئ بذكر الأمثلة التالية:
1 -
ورد في التاج (تحت مادة ف ل ح): (قال شيخنا الفلح وما يشاركه كالفلق والفلد والفلذ ونحو ذلك يدل على الشق والفتح كما في الكشاف وصرح به الراغب وغيره)
2 -
النبت والنبث والنبر والنبش والنبط والنبع والنبغ تدل كلها على ظهور شيء بعد خفائه. فالنبت يقال للبقل وغيره إذا نشأ وخرج من الأرض. والنبث يقال للبئر إذا نبشها المرء وأخرج ترابها. والنبر يقال للمغني إذا رفع صوته بعد خفض. والنبش يقال للمستور إذا أبرزه المرء، أو للكنز إذا كشف من الأرض واستخرج. والنبط يقال للماء إذا نبع (ومنه الاستنباط بمعنى الاستخراج). والنبع يقال للماء إذا خرج من العين، والنبغ أو النبوغ يقال للشيء إذا خرج وظهر. . .
3 -
تدل الأفعال المبتدئة بالصاد والفاء على المعاني المختلفة للأصوات: فالفعل (صفد) يقال للأسير إذا أوثقته وقيدته بالحديد (ذي الصوت) والفعل (صفر) يدل على التصويت
بالنفخ من الشفتين. والفعل (صفع) معناه الضرب باليد مع إحداث صوت. والفعل (صفق) معناه الضرب بالكفين بصوت مسموع، وهكذا. . .
4 -
تدل الأفعال المبتدئة بالحرف خاء والحرف فاء على معاني الضعف والهمود. فالفعل (خفت) يدل على السكون (والموت فجأة في بعض الأحيان). والفعل (خفج) يقال للبعير إذا أصابه الخفج وهو ارتجاف في الرجلين. والفعل (خفش) معناه ضعف (ويستعمل على الخصوص لضعف البصر). والفعل (خفض) يقال للصوت إذا غض المرء وأخفاه. والفعل (خفع) يقال للمرء إذا أصابه دوار من جوع أو غيره فسقط والفعل (خفق) يقال للفؤاد أو الراية أو البرق إذا اضطرب، ويقال للنعل إذا صوتت، وهلم جرا. . .
أما النتيجة التي تقتادنا إليها هذه الظاهرة اللغوية فهي أن لكل حرف معنى خاصاً، وبكشف معاني الكلمات؛ لأن الكلمات إذا اتحدت في الحروف اتحدت في المعنى.
زكريا إبراهيم
استدراك
أورد الأستاذ خلدون الكناني في كتابه حسان بن ثابت الذي أخرجته مكتبة عرفة بدمشق - ص 48 - البيتين المشهورين في الرثاء:
كنت السواد لناظري
…
فمعي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
…
فعليك كنت أحاذر
على أنهما من شعر حسان في رثاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبع في ذلك ما جاء في ديوان حسان، فإن هذين البيتين مذكوران فيه - ص165 - ولم يتكلم عليهما شارحه الأستاذ البرقوقي. ولكن ياقوت أوردهما في معجم الأدباء - ج1 ص 77 - في ترجمة إبراهيم الصولي قال: حدث علي بن الإسكافي قال كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع وكان به معجباً فاعتل علة لم تطل حتى مات فرثاه مراثي كثيرة وجزع عليه جزعاً شديداً. ومن مراثيه فيه
كنت السواد لناظري
…
فبكي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
…
فعليك كنت أحاذر
باستبدال كلمة فبكي بكلمة فعمى الواردة في نص الديوان وأوردهما ابن خلكان منسوبين إلى الصولي ج 1 ص 12 وأورد هذين البيتين الأستاذ محمد كرد علي في أمراء البيان ج 1 ص 265 في كلامه عن إبراهيم الصولي، ولكن لفظ البيت الأول في رواية الأستاذ كرد علي يختلف عنه في رواية المعجم.
أنت السواد لمقلة
…
تبكي عليك وناظر؟
من شاء. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذكر أنهما لإبراهيم يرثي بهما ولداً له. ولعل هذا هو الصواب فإنهما بشعر الكتاب أشبه. وفي زهر الآداب ج3 ص214 قطعة لبعض الأعراب في الرثاء آخرها
وبعدك لا آسى لعظم رزية
…
قضيت فهونت المصائب أجمعا
وعلق عليه مؤلف الزهر بقوله: ومعنى هذا البيت الأخير تداوله الناس نظماً ونثراً ثم أورد رثاء أبي نواس للأمين وفيه:
وكنت عليه أحذر الموت وحده
…
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
وأورد عدة قطع من النظم والنثر تدور حول هذا المعنى وليس فيها البيتان. وبعد فإن كتاب الأستاذ الكناني من خير البحوث التي أخرجت في دراسة شاعر الرسالة وسأتكلم عنه مسهباً في وقت آخر.
(دمشق)
رشدي عرفة