الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 535
- بتاريخ: 04 - 10 - 1943
ومن أساليبهم
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشرنا في مطلع مقالنا السابق إلى أساليب الشيوعيين في نشر مذهبهم على الطريقة الصريحة، وهي الإشادة بمحاسنه والقدح في نقائص النظم الأخرى، أو على الطريقة الخفية - غير الصريحة - وهي الإكثار من التهم والعيوب التي يلصقونها بالنظام القائم دون أن يشركوا الشيوعية في أمثال هذه التهم والعيوب
ونرى أننا نحن المصريين والشرقيين عامة بأشد الحاجة في الآونة الحاضرة إلى التنبيه بعد التنبيه إلى هذه الأساليب الخفية لأنها أضر من صراحتهم في التبشير بمذهبهم، ولأن الحيطة منها أقل، والحذر من عواقبها ضعيف مهمل لضعف المعرفة بمراميها ودروبها التي تتسلل منها
وجملة ما يقال في هذه الأساليب أنها تتلخص في تشجيع كل عامل من عوامل الهدم والانحلال في المجتمع الذي يحاربونه، وتحقير كل عامل من عوامل التماسك، والثبات في ذلك المجتمع، سواء تكلموا عن الأدب، أو عن الفن، أو عن السياسة، أو عن الأخلاق
ولهم في كل بلد من البلاد نغمة يخصونها بها ولا يزالون يرددونها، ولا يقرنونها بذكر الشيوعية الصريح حذراً من تنبيه الخواطر وإثارة الشكوك
ففي الأقطار العربية مثلاً هم أنصار الكتابة باللغة العامية حيثما وقعت المفاضلة بينها وبين اللغة الفصحى
لأن اللغة العامية توافق حملتهم على العقائد الدينية كلها، ومنها العقيدة الإسلامية التي هي قبل كل شيء عقيدة القرآن. ولأن اللغة العامية توافق دعوتهم إلى تغليب الطبقة العاملة التي يزعمون أنهم يهتمون بتعليمها، وهم يسجلون عليها الجهل والاكتفاء بلغة الجهلاء، ولأن اللغة العامية تقطع ما بين الحاضر والماضي، وهم يقرنون بين الماضي والنظم الاقتصادية التي يحاربونها
وإذا سألتهم في ذلك قالوا كما يقول أنصار العامية دائماً إن سواد الناس لا يفهمون الفصحى، وإن اللغة الحية هي اللغة التي يتكلم بها الناس كل يوم
وكل هذا خطأ ظاهر كما فصلنا القول فيه بما كتبناه عن الفصحى والعامية؛ لأن سواد
الناس يجهلون المعاني العالية ولو كتبت باللغة التي يتكلمونها، كما يجهلون الرياضة والفلسفة ومباحث العلوم المختلفة. فالعقدة هنا هي عقدة المعاني وليست بعقدة الألفاظ. ومن السخف قولهم إن اللغة الحية هي لغة السوق والطريق، لأن اللغة الحية هي اللغة الخالدة التي تعيش مئات السنين، ولا تموت كل بضع سنوات كما تموت لغات الطرق والأسواق. ولا غنى للإنسانية عن هذه اللغة الخالدة ما دامت لها آداب مكتوب لها الخلود من جيل إلى جيل. وأسخف من دعواهم هذه قولهم إن الناس ينبغي أن يكتبوا كما يتكلمون كأنهم يريدون أن يلغوا الترجمة مثلاً، وهي تنقل إلينا كلام الروسيين والبولونيين، ونحن لا نتكلم لغة هؤلاء ولا هؤلاء، سواء بألفاظ الأسواق أو ألفاظ الجامعات
ذلك أسلوب من أساليبهم الخفية في الأدب، وهم هنا يشاركون المبشرين، ويشاركون المستعمرين، ويشاركون كل من يكره معالم القومية في بلاد الشرق، وهم كثيرون
أما الفن فهم لا يدينون بآراء الغلاة من المصورين والموسيقيين كأنها آراء الشيوعية والشيوعيين، ولكنهم يشجعون هذه الآراء في البلاد الديمقراطية، لأنها خروج على القواعد والأصول واندفاع مع الفوضى والاختلال، أو مع الهدم والانحلال، وهم أنصار كل عامل من عوامل الهدم بين الشعوب الديمقراطية
فلا يلزم - شيوعياً - أن يكون المصور من القائلين بالسريالزم و (الفيوشرزم) والكيوبزم وغيرها من المدارس التي تبطل قواعد التصوير كما عرفها أساتذة الفن في جميع العصور، ولكن هذه المدارس تعفي المصور من قواعد الرسم والتلوين والتشبيه، وأصول الإضاءة والتظليل، وترسله في عالم من الفوضى لا توجد فيها قاعدة يتفق عليها رأيان
وهذه الإباحة هي المقصودة لأنها تفضي إلى هدم القواعد والقوانين، وتزلزل أركان الفكر والذوق والاعتقاد في المجتمع الذي يقصدونه بالخلط والتخريب
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يسمون إحدى مدارس الإباحة هذه بمدرسة (المستقلين)، وهي في حقيقتها رجوع إلى الهمجية التي تركناها منذ آلاف السنين. فإن صورهم وتماثيلهم لتشبه كل الشبه تلك الصور والتماثيل التي كشفت حديثاً في حفائر الكهوف من بلاد نيجيريا وبورنيو وجنوبي الهند، وسائر الأقطار التي كان يعمرها الإنسان الأول، ولا يزال فيها إلى اليوم من الهمج المتخلفين
والعجيب في أذواقهم أنهم إذا قصدوا محاكاة تلك الفنون الهمجية تحروا مشابهتها في الرديء النافر الممسوخ، ولم يتحروا قط مشابهتها في مواضع الحسن والإتقان؛ لأنهم منحرفون في تكوينهم انحرافا يظهر في الخلقة إن لم يظهر في الأخلاق والطباع
وعلى هذه الشاكلة مذهبهم في الموسيقى والشعر والتمثيل، ولكنهم يعتدلون بعض الاعتدال في التمثيل لأنهم يريدونه لنشر الدعوة، ويخشون أن يفتحوا أبواب المسارح على مقاعد خاوية إذا هم عمدوا إلى تلك (التقاليع) والتهويشات
ومن أساليبهم التي نص عليها كارل ماركس في منشوراته أن (يشوهوا سمعة كل رجل مسموع الكلمة بين الديمقراطيين)
ولا حرج عندهم أن يختلقوا الأكاذيب، وأن يعرضوا لشؤونه الخاصة، وأن يذموا أعماله أقبح الذم، ولو لم يكن عندهم دليل واحد على ما يذمونه منها
وإذا تكلموا عن الأدباء والشعراء الذين لا يؤمنون بالشيوعية عابوا عليهم أنهم حالمون وأنهم خياليون لأنهم لا يكتبون عن المسائل الاقتصادية ولا يقفون أقلامهم على أسعار الطعام واللباس وشئون الأموال والعمال
والأدباء الديمقراطيون لا يحرمون هذه الموضوعات، ولا يزال منهم من يعرض لها من الناحية الفنية التي هو أقدر على تصويرها، وإنما يعلم الأدباء الديمقراطيون أن في الدنيا علماً اسمه علم الاقتصاد، وعلماء اسمهم العلماء الاقتصاديون، وإن هؤلاء أولى بدرس المسائل التي يفهمونها ويفرغون لها ويستطيعون الحكم فيها، لأن الأدب لم يخلق لإلغاء علم الاقتصاد
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يهدمون مذهبهم من أساسه بهذا الهراء الذي يلفظون به وهم لا يشعرون
لأنهم يستكثرون على العامل الفقير أن يقضي في اليوم ثماني ساعات في طلب الرغيف والكساء، وهم يفرضون على العمال وغير العمال ألا يكون لهم شاغل في ساعات العمل أو ساعات الفراغ إلا طلب الرغيف والكساء، فلا يبحث الفيلسوف إلا ليؤدي بحثه إلى الرغيف والكساء، ولا يحلم الشاعر إلا ليفسر حلمه بالرغيف والكساء، ولا يخترع المخترع إلا لينتفع باختراعه في الرغيف والكساء، ولا يخرج العامل من عمله اليومي ليقرأ أو
يستمتع بالفن إلا أن تكون هذه القراءة وهذا الاستمتاع حول الرغيف والكساء
ودون هذا وتحلق لحية كارل ماركس وكل لحية يطلقها أمثاله من أعداء الفنون وأعداء الحرية الإنسانية كأرفع ما تصبو إليه القرائح والأرواح
أما هدم المجتمع من ناحية الأخلاق فخلاصة أسلوبهم فيه أنهم لا يعرفون شيئاً يسمى جريمة خلقية
وقد عرضنا في كتابنا (عبقرية محمد) لمسألة الزواج والطلاق فقلنا بعد إثبات رأي نابليون: (. . . كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها (لنين) في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج؛ فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات)
قلنا هذا فغضب بعض الأدعياء (أولاً) لأننا كتبنا عن محمد كتابة تعظيم وثناء، وغضبوا (ثانياً) لأننا ذكرنا (لنين) بغير ما ينبغي له عندهم من التعظيم والثناء
وقالوا فيما اتصل بنا أن الطلاق مكروه في روسيا الحديثة، وأن الزوجين المطلقين يعيشان بين الشيوعيين معيشة هوان واحتقار
والذي قال هذا لا يعقل ما قال
وإلا فلماذا يلوم الشيوعيون إذن تلك الآداب التي كرهت الطلاق أو قيدته ببعض القيود أو جعلته محلاً للمراجعة؟
وما هي إذن تلك الجرائم الخلقية التي يعترف بها قانون الشيوعيين ويفرض لها عقاباً يناسبها في الضرر والوخامة؟
إن الحكاية كلها تطاول لا أدب فيه، وكلام يقوله القائل وهو لا يعقل معنى ما يقول
ومما أراه أنا أن تنبيه الأذهان إلى مساوئ الدعوة الشيوعية أوجب واجب على الكاتب المصري في الآونة الحاضرة، لأنها تمس الكرامة الإنسانية كما تمسها الفاشية والنازية، ولأن الشيوعية ليست مسألة أغنياء وفقراء، وإلا لكنت أحق الناس بالدعوة إلى الشيوعية أو بالسكوت عنها لبعدي عن الغنى اليوم وبعد اليوم، ولكنها مسألة الإنسان وكرامة الإنسان، وهل هو من المخلوقات التي تخاطب بلسان الروح أو من المخلوقات التي تخاطب بلسان
المعدة. وكفى دليلاً على فاقة الشيوعية في دواعي الكرامة أنها على احتقارها للوطنية لجأت إليها في الحرب الحاضرة لاستنهاض الهمم وشحذ العزائم، فسمتها (الحرب الوطنية) في المنشورات الرسمية. وما كان أغناها عن هذا التمسح بالوطنية لو كان في المذهب الكفاية لصد الأعداء عن البلاد.
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
سبحان المنعم الوهاب - كن مع الله تر الله معك - سخافات الأغاني الشعبية
سبحان المنعم الوهاب
قلت لصديقي الأستاذ عبد الحفيظ خليفة: إن فاكهة المنجة توحي إلى آكلها بأن يقول الحمد الله، لأن حلاوتها حلاوة عبقرية، فهي دون العسل في الحلاوة، ولكن لها مذاقاً يفوق الشهد بمراحل طوال، ولذلك توحي إلى معاني من الشكران لا يوحيها أطيب طعام ولا أعذب شراب
فقال صديقي: عرضت فاكهة المنجة على أحد الناس فرفض أكلها بحجة أنه لا يستطيع شكر الله على طعمها اللذيذ. وكان أحد الصوفية حاضراً فصرخ: وهل تستطيع شكر الله على هذا الكوب من الماء؟
وعند هذه الكلمة سألت نفسي: كيف جاز أن يرخص الماء فلا تكون له تسعيرة في أعوام الحرب؟
ثم أجبت: كان ذلك لأن الماء هو أساس الحياة، فلا يعيش بدونه مخلوق، ومن أجل هذا منحه الله بسخاء، وهو الزاد الوحيد الذي يستوي الناس في الاحتياج إليه، كما يستوون في الاحتياج إلى النور والهواء
وأنا من قبل هذا الخاطر بأعوام فكرت في صعوبة انتفاع الأراضي الفرنسية بمياه الأنهار، لأنها كثيرة التفاوت في الارتفاع والانخفاض، ولا يمكن أن تعتمد على مياه الأنهار في صيف أو شتاء. وكان الجواب أن الله أمد تلك الأراضي بالأمطار الثجاجة بالنهار وبالليل، فهي في غنى عن الأنهار، ولو كانت في حلاوة نهر السين
وأنا أيضاً فكرت من قبل في استواء الأراضي المصرية، وهو استواء حرمها جمال التفاوت في الحزون والسهول، وكان الجواب أن الله جعلها كذلك ليقدر النيل على ريها بلا عناء
أمر الله في خلائقه أعجب من العجب، فله تدابير تعجز عن وعيها كبار العقول، وهو قد يجعل السعادة في الكوخ الحقير أضعاف ما يجعلها في القصر الكبير، ليقول بالتلميح لا
بالتصريح إن أمره الأمر في تقدير السعادة والشقاء
ثم نظرت في حالي وأحوالي منذ ثلاثين سنة، فقد كان من أدبي أن أفرح علانية بطعام البيت، وكان فرحي فرحاً حقيقياً، لأن الطعام في تلك السنين كان غاية في نضارة المنظر وحلاوة المذاق، بحيث صح عندي أن يد زوجتي هي وحدها اليد الصناع في تأليف الصنوف الطريفة من أطايب الطعام المحبوب
ولكن يوماً صائفاً جاء بما لا أريد، فقدم إلي طعام لا أشتهيه في أيام الصيف، وكانت النتيجة أن أهم بالاعتراض، وعلى من أعترض؟
إن زوجتي تحتمل غضبي، ولا يصعب عليها أن تترضاني، فهل ألومها على الذي اختارت من الطعام في ذلك اليوم الصائف؟
في أقصر من لمح البصر تيقظ قلبي، وأدركت أن الاعتراض على رزق الله بداية الانخذال، وأني لو جحدت الرزق في أي صورة لذهب إلى غير معاد
أقبلت على الطعام كارهاً لأتقي غضب الله وإيذاء زوجتي، فرأيته طعاماً شهياً لم أتذوق مثله من قبل، وكانت العاقبة أن أحمد الله من صميم الوجدان
إن نعم الله تواجهنا من كل جانب، ويكذب من يزعم أن الله يتخلى عمن يتوكلون عليه في النعماء والبأساء
الله لا يتخلى عنا إلا حين ننساه
وهل يتخلى الله عنا حين ننساه؟
إنه يتركنا لما نريد بأنفسنا، فيجب إلى من نعتمد عليهم أن يشغلونا عنه بالجاه والمال، تأديباً للانحراف عن طريق الرشاد؛ والعقاب الصارم هو أن تستغني عن الله وتحتاج إلى الناس
الديدان الجاهلات في أجواف الأحجار والثلوج أصدق إيماناً بالله من أشباه العلماء
والشجرة اليتيمة في البادية القاسية ترى الله بأقوى مما تراه الأشجار المزودة بالأنهار الجارية
وهل حفظ تاريخ الملوك بقدر ما حفظ تاريخ الصوفية؟
إن الفاجرين الذين صدقوا في فجورهم كانت لهم مكانة في التاريخ القديم والحديث، فكيف يضيع من آمنوا بصاحب العزة والجبروت؟
كن مع الله تر الله معك
صديقي العزيز
هل تذكر حديثنا منذ أيام ونحن نقطع الطريق في وهج الظهيرة من وزارة المعارف إلى ميدان باب الحديد، مع أننا نملك اجتياز المسافة بسيارة لا تكلفنا غير دراهم معدودات؟
هل تذكر أني قلت لك إني أحب أن أرى نعم الله على عباده ليزداد إيماني؟
وماذا رأينا في ذلك الطريق؟
أنت لم تر شيئاً، لأنك كنت مشغولاً بمحادثتي في شؤون لا ينقلها سمعي إلى قلبي، وسيطول بلاؤك بتلك الشؤون، فهي لا تخرج عن منصبك وراتبك، ولا تزيد عن شكواك من نظام الترقيات والعلاوات، يا عبد الوظيفة ويا عبد التراب!
أما أنا فقد رأيت ورأيت، فهل تحب أن تعرف بعض ما رأيت؟
لقد اقتنعت بأن الله لم يجعل القاهرة مدينة البؤس، كما يقول بعض الناس، فمن السهل أن ترى العيون ألوفا من المنعمين بالثروة والعافية والجمال
في كل لحظة يقع النظر على وجه أصبح، ويقع القلب على روح لطيف
وفي كل خطوة ترى طلائع من طلاب الرزق الحلال، ترى عمالاً يكدحون ليعودوا إلى أهليهم في المساء وجيوبهم عامرة وأنفسهم في ابتهاج
وهل قامت تلك البنايات الشامخات إلا بسواعد أولئك الفتيان الضاحكين برغم شظف العيش وخشونة الثياب؟
إن منظر ذلك البواب سرني، فقد أسند رأسه إلى الباب وغفا غفوة مريحة لن تظفر بمثلها في سريرك، يا مشغولاً بحظك الفضفاض من دنياك
ومن العجب العجاب أن ترى رجلاً يقرأ في مصحف وهو على كيس أحد المخازن التجارية، كأنه لم يسمع أن بدعة العصر توجب نسيان المصاحف والأناجيل!
وفي الشارع رأينا جنوداً يحتضنون زجاجات البيرة، وبالقرب منهم رأينا عمالاً يحتضنون القلل القناوية، فأين السعداء من أولئك وهؤلاء؟
صاحب الزجاجة يبتلعها ابتلاعاً قبل أن يحل عليه أمر الحاكم العسكري بانتهاء الوقت المحدد للشراب، وصاحب القلة يمتص منها رشفة بعد رشفة وهو في أمان
هل رأيت ذلك الفتى؟
إنه غلام لم تظفر بمثله قصور الملوك في عصور الترف والطغيان، فكيف رضي أن يكون عاملاً فقيراً، وهو يستطيع بشبابه وجماله أن يكون زهرة بستان أحد الأغنياء؟
في مصر معنى اسمه الشرف، وهو معنى ظفرت منه مصر بأعظم نصيب
وهل رأيت تلك الفتاة؟
إنها ريحانة مطلولة، وهي تستطيع الاتجار بالقلوب لو أرادت، ولكنها لا تريد لأنها مصرية، والمصرية نموذج في التصون والعفاف، ويكذب من يزعم أن مخاطر الحرب غيرت أخلاق المصريات
نحن بنينا مدينة القاهرة بأخلاقنا قبل أن نبنيها بسواعدنا، والساعد المتين فرع عن الخلق المتين
إنك لا ترى جلال الله في أي مكان كما تراه في القاهرة، ولعلها أول مدينة ينتصر فيها الجد وينهزم الهزل
ألا ترى أن روح القاهرة ظل قهاراً برغم عوادي الحرب؟
والذي يعوزك يا صديقي هو أن تكون مصرياً مؤمناً بالله، لتنتصر على أوهامك، ولتكون من أعاظم الرجال
إنك تلومني على أن أظل بين أقلامي وأوراقي ساعات من كل يوم، فهل تعرف السبب فيما اخترت لنفسي؟
إني أؤدي زكاة العافية، وأنا أفهم كيف أراد الله أن يحميني من قضاء ليلة واحدة في سرير المرض، على طول ما شرقت وغربت في السنين العجاف
وأنت يا صديقي تنكر أن أضيع حظي ممن عرفت من أكابر الوزراء
وأقول إني أخشى أن يغضب الله علي إن اعتمدت على سواه
قال صاحبي: كن مع الدنيا لترتفع معك
فقلت: وأنا لا أنخفض ليرتفع أصحابي!
سخافات الأغاني الشعبية
تقدم محطة الإذاعة من يوم إلى يوم ومن ليلة إلى ليلة أشياء تسميها الأغاني الشعبية، وهي
أغان يغلب عليها السخف، لأنها تحاول دائماً أن تجعل لغة الشعب المصري لغة بعض أبنائه من أهل الصعيد (!؟)
والخطأ ظاهر في هذه المحاولة، لأن اللغة العامية للشعب المصري هي لغة أهل القاهرة، كما أن اللغة العامية للشعب الفرنسي هي لغة أهل باريس
وقد كان للصعايدة لغة خاصة يوم كانوا لا يتصلون بالعاصمة إلا بعد سفر يطول حتى يحترم أسابيع وأسابيع، فكيف تكون لهم لغة خاصة بعد أن صارت المسافة بين القاهرة وأسيوط لا تزيد عن المسافة بين القاهرة ودمياط إلا بدقائق، والمسافة هنا وهناك يقطعها القطار في مدة أقصر مما بين باريس وليون؟
سمعت في مساء اليوم الثالث والعشرين من شهر أيلول مغنياً يقول:
(طال بعدك ولا ساجل عني)
و (ساجل) هي (سائل) فهل سمعتم في أي أرض عربية أن الهمزة تنطق جيماً إلا على ألسنة الجهلة من أصحاب الأغاني الشعبية في محطة الإذاعة المصرية؟
إن لغة الخرطوم هي لغة القاهرة بالضبط الصحيح، فهل ترون الخرطوم أقرب إلى القاهرة من أسيوط؟
اتقوا الله في مصر يا جماعة المتحذلقين من أنصار العامية، فما يقول (ساجل) وهو يريد (سائل) إلا سخيف بلغ سخفه حداً لا يطاق
(طال بعدك ولا ساجل عني)
ذلك ما هتف به مغنٍ في محطة الإذاعة ولي عليه شهود، فماذا يبتغي هذا الظريف؟ أيزعم أن الصعايدة يجعلون الهمزة جيماً، وذلك زعم سخيف؟
إن لغة المصريين ارتقت رقياً عظيماً، وصار في مقدور صغار العوام عندنا أن يفهموا ما تنشره أعظم المجلات الأدبية بأيسر مجهود
ولكن محطة الإذاعة لا تفهم هذا القول
وأين محطة الإذاعة؟ حدثوني فقد غاب عنوانها عني!
إن جاريت المطرب الذي فرحت به فهي محطة (القزاعة) بالقاف، ولن ألتفت إلى (سقالها) إن وجهت إلي (السؤال)
الأغاني الشعبية في محطة الإذاعة هي ردة سخيفة إلى عهود لا نحب أن تعود
إن كانت محطة الإذاعة تريد أن تكون محطة بهلوانية فهي وما تريد، على شرط أن تصرح بأن أغانيها الشعبية عبث أطفال
الجد هو دستور الحياة ولو كان في صورة الهزل، فجدي يا محطة الإذاعة لتكوني صوت الحق في هذه البلاد
زكي مبارك
مهمة تجديد الأدب العربي بين الشباب وبين الشيوخ
للأستاذ دريني خشبة
سألني بعض أصدقائي لماذا أومن بالشباب دون الشيوخ، ولماذا أرجو أن ينهضوا دونهم بعبء إنهاض الأدب العربي، وسد تلك الثغرات الشائنة فيه، تلك الثغرات التي تجعل مصر والشعوب العربية جمعاء تعيش في الماضي وتنجذب إليه أكثر مما تعيش في الحاضر وتتشوف إلى المستقبل. . .
وأريد أن أصحح لأصدقائي ما وقر في أذهانهم من أنني لا أومن بأدبائنا الشيوخ، إذ أنا، وقد جاوزت حد الأربعين، أكاد أنحاز إلى معسكرهم، منفتلاً من معسكر الشباب الذي يعز علي أن أفارقه، ويسرني أن أعيش فيه بقلبي ونشأتي وأفكاري وجهادي الأدبي المتواضع. . . أريد أن أصحح لأصدقائي هؤلاء ما وقر في أذهانهم من ذلك، إذ أنا أول من يجل أدبائنا الشيوخ، وأول من يعرف لهم حقهم الذي لا يماري في نهضتنا الفكرية والأدبية، وفي تبوء مصر تلك المنزلة الفريدة بين الأمم العربية. . . صحيح أنني أغضيت عن ذكر أحد من شعرائنا الشيوخ في سياق كلامي عن الدرامة المنظومة. . . وقد أغضيت كذلك عن ذكر أحد من الشعراء غير المصريين. . . أما لماذا أغضيت عن ذكر أحد من شعرائنا الشيوخ فليس سببه عدم الإيمان بهؤلاء الشعراء الإجلاء الأعزاء الذين سبقونا وعبدوا لنا الطريق وأبانوا معالم النهضة ووصلوا ماضي الأدب العربي بحاضره. . . إنما سببه تلك الروح الشؤمية السوداء المنتشرة في معسكر هؤلاء الشعراء الشيوخ. . . فأنت لا تكاد تتحدث إلى واحد منهم عن تخلف الأدب العربي على العموم والشعر العربي على الخصوص في مسايرة الآداب العالمية ومواكبة ما يجد فيها من مذاهب واتجاهات حتى يعبس وتحس بالضيق الذي يكربه، ويأخذ في الشكوى التي لا معنى لها من قلة التقدير في هذا البلد الذي قضى أن يعيش أدباؤه غرباء فيه. . . ثم يضرب لك الأمثال. . . فهذا العقاد لم يملك إلى اليوم قصراً ولم يقتن بعد ضيعة. وذاك المازني ما يزال يجالد بقلمه ويجاهد بدمه وبينه وبين شراء عزبة أو اقتناء أبعادية ما بين الأرض والسماوات. وهذا أحمد محرم لا تستحيي الدولة من أن تمن عليه بأنها رثت لحالته وأرادت أن تقدرها قدره فعينته أميناً لمكتبة دمنهور الإقليمية بهذا الراتب الضئيل النحيل القليل الهزيل من الجنيهات. ثم هذا
أحمد الكاشف الذي لا أرى أن أجرح كبرياءه - هكذا يقول محدثي - فأذكر لك كيف يعيش. . . ثم ذاك طاهر الجبلاوي الذي يسهر الليالي في نظم درامته (ديك الجن)، تلك الدرامة الشائقة التي تعجب بها وزارة المعارف، ويقرها تفتيش اللغة العربية، وتكتب عنه إدارة التمثيل التقارير الشافية الوافية. . . ماذا كان جزاءه وماذا كانت مكافأته؟ هل رأت درامته ضوء الشمس؟ هل نفذت إلى أنوار المسرح؟ هل أحس بها إنسان؟ لقد نامت فيمن نام من أهل الكهف يا سيدي. . . ثم هذا الشاعر النابغة (رشاد راضي) ناظم درامة (جميل وبثينة)، ماذا لقي من زمانه وماذا لقي زمانه منه؟ أشهد لو أنك قرأت تلك الدرامة أو شهدتها على خشبة المسرح لفضلتها ألف مرة على مجنون ليلى للمرحوم شوقي بك؟! وذاك الشاعر النابه علي أحمد باكثير. . . لقد سهر المسكين عاماً وعاماً ثم عاماً ثالثاً فنظم درامة السماء أو إخناتون ونفرتيتي، ودرامة إبراهيم باشا بطل مصر الأول، ودرامة كذا وكذا وكذا. . . وفكر في الذي تفكر فيه من استحداث الشعر المرسل والشعر الحر في الشعر العربي، وابتدع في ذلك وأبدع، فهل أحس أحد به؟ هاهي ذي درامته (السماء) مطبوعة، وقد قامر بطبعها إبان جنون أزمة غلاء الورق، فهل تدري كم نسخة بيعت؟ وهل سمعت أن المسرح المصري شهد تلك الدرامة الشائقة الفائقة؟
وعلى هذا النحو أراد الشيخ أن يأكلني ويشربني لينتزع مني إقراراً بالموافقة على وجهة نظره التي تفيض بالشؤم - أقصد التشاؤم؟! - والتي تصدر عن روح كئيبة سادرة لم تعرف كيف تستهزئ بهذا الذي يسميه صاحبها قلة تقدير أو سوء إنصاف يقضيان أن تنحل أوصال الأدب وتفتر أعصاب الأدباء فلا يكون ثمة نشاط ولا يكون هنالك إنتاج، لأن الحكومة قاتلها الله لا تبيح خزائنها لهؤلاء الأدباء، ولأن الأمة صنع الله لها لا توليهم رعايتها، ولأنهم يأمرون فلا يطاعون، وينشدون فلا يجدون سميعاً. . . ألا رحم الله شاعر المعرة الذي اعتذر لقاضي قضاة مصر، أن يعيش في دنيا من ذهب، مؤثراً عيش الكفاف الذي جعل منه شاعر العربية وفيلسوفها الأكبر. ورحم الله دستونفسكي وولتر سكوت وكارل ماركس، ومئات الأدباء والشعراء الذين كانوا يذوبون جوعاً في حين تتخم آدابهم وأشعارهم وأفكارهم أدمغة العالم. . . إننا ما سمعنا قط أن أحدهم اتخذ من مسغبته حجة للانصراف عن الأدب أو التقاعس عن قرض الشعر. . . لقد رجوت محدثي أن يبحث لي
عن شاعرنا الكبير عبد الرحمن شكري أين هو من عالم الشعر ودنيا الأدب. . . وهو والحمد لله - غير محسود ولا مغبوط - في سعة من الرزق، ولم يفرض عليه أن يجالد بقلمه أو يجاهد بدمه ليعيش. . . أين هو اليوم يا ترى؟ أين بلبله الصداح وشحروره المغني؟ أين قيثاره وأين نايه وأين موسيقاه؟ ثم رجوته أن يخبرني لماذا هجر المازني الشعر. . . فلما عجز عن الإجابة توليتها أنا فأكدت له أنه عز عليه ألا يستحدث جديداً في الشعر العربي، وهو أعرف الناس بما عليه الشعر الإنجليزي من سمو وثروة واتساع ويسر، فغثيت نفسه وضاقت بأوزان الشعر العربي التي لم تتجدد قط مدى ألفين من السنين، اللهم إلا قليلاً. . . ولو أن الأستاذ المازني احتفظ للشعر العربي بميزته الشخصية التي هي الترجمة لأفاده فائدة جليلة القدر. . . إلا أن الكسل قاتله الله صرفه عن ذلك أيضاً. . . أما العقاد العظيم فهو سيد شعراء المعاني غير مدافع، والذين زعموا أنه لا شأن له بالشعر هم قوم قليلو البصر بالشعر، بل ربما كان الأحسن ألا يكون لهم هم شأن بالشعر. . . ولو أن العقاد كان يعنى بديباجته وتجويد أسلوبه الشعري لخر أمامه أولئك النقاد جثياً. . . لقد كان لنا في العقاد أمل ضخم رددناه يوم أصدر ديوانه الضخم المشتمل على ملحمة (الشيطان)، وكنا ننتظر أن يغزو العقاد للشعر العربي ميادين جديدة في الملحمة والشعر القصصي والدرامة. . . إلا أن العقاد انصرف عن ذلك إلى القصائد والمقطوعات. ولسنا نبالي السبب الذي صرفه عن ذلك، إنما نبالي أنه أضاع أملنا فيه بعد إذ كان أملنا معقوداً به. . . على أننا لا نزال نعلل النفس بالأماني في العقاد، لأننا أعرف الناس بقدرته في الإنتاج وصبره على الكفاح الأدبي نحو المثل العليا. . . أما أحمد محرم فلسنا نعرف عن جهوده في النظم المثالي شيئاً بعد إسلاميته الرائعة الطويلة الجديرة بالإعجاب. ونحن نتوجه إليه بالرجاء أيضاً أن يستيقظ، إذ هو في نظرنا في مقدمة شعرائنا تجويداً وطول نفس وتفضيلاً لفخامة العبارة وإشراق الأسلوب. وبهذه المناسبة أذكر شاعرنا الجارم الشيخ. . . ذلك الشاعر الغزل الرقيق. . . ماذا صنع في دنياه غير تلك القصائد التي يوجد من أشباهها الشيء الكثير في الشعر العباسي والشعر الأندلسي. . . لعل المعاش الهانئ الذي يتمتع به الشيخ، بارك الله لنا فيه، أن يوفر له من الوقت ما يعينه على نظم ملحمة أو قصة وإن كنا نطمع أن ينظم ملاحم وقصصاً كثيرة. . .
وأما الشاعر الكاشف فليس لدينا ما نقوله فيه، ولا نملك إلا الدعاء له بحسن الحال ورغد العيش. . . وأما شكوى صديقنا الجبلاوي من تعطيل درامته (ديك الجن) وما كان لهذا التعطيل من نكسة أدبية في نفسه، فأنا لا أقر وجهة نظره وأنا بالرغم مما سقته في مقالاتي عن المسرح المصري من لوم الوزارة، لا أرى أن يتكل أدبائنا على العون الذي يحلمون به من الدولة، بل أرى أن يثور الأدباء على طريقة الإنتاج الأدبي القديم - أدب القصيدة والمقالة والمقطوعة - وإغراق السوق الأدبية بأدب القصة والدرامة - المنظومة والمنثورة - والملحمة والقصة المنظومة. . . ثم أنا زعيم للصديق الجبلاوي بأن اليوم الذي يستطيع الأدباء أن يدووا بأصواتهم في آذان الوزارة فتصيخ لهم وتستجيب لندائهم قريب لا ريب فيه، وإن لم تستجب الوزارة طوعاً فثمة وسائل لا حصر لها لإغرائها بالاستجابة. ويجب أن نستعد لهذا اليوم بأن نملأ أيدينا بهذه الألوان من الأدب التي يفتقر إليها الأدب العربي. . . وفرصة الأدباء وافية مؤاتية، فزعيمهم وعميد الأدب العربي لن يملك إلا أن يمد يده لتلك الحركة بالعون والمساعدة، والعون والمساعدة إنما ينبغي أن ينحصرا أول الأمر في أن تطبع الدولة على نفقتها ثمرات قرائح أدبائها المجددين ثم مكافئتهم ولو في حدود (جهد المقل!). . . وقبل أن أفرغ من استعراض شعرائنا الشيوخ لا أرى بداً من التنويه بالأستاذ فريد أبى حديد وكيل دار الكتب الآن وناظم مقتل عثمان وغيرها وغيرها. . .، فلقد سألته مرة ماذا أعد لسوق الأدب، فتبسم ضاحكاً ثم قال مازحاً:(إن صواميله قد نعمت! وأن لا رجاء في عودتها للعمل!) وأنا أسأل الله أن تخشن هذه الصواميل ليعود دولاب أبى حديد إلى المساهمة في ثورة الأدب العربي من جديد
هذا هو موقفنا من شعرائنا الشيوخ صريحاً لا لبس فيه. . . أما شعراؤنا الشباب فهم بكل صراحة أملنا ومعقد رجائنا في مستقبل الشعر العربي. . . وقد بدأ كثيرون منهم يستجيبون لدعوتنا. . . وقد وصلتني (عينات) شائقة بالفعل تنبئ بتباشير نهضة رائعة. ولست أذيع سراً إذا بشرت القراء الأعزاء بأن صديقي الشاعر النابه الأستاذ محمود الخفيف قد فرغ بالفعل من نظم ملحمة باكية في مقتل الحسين رضي الله عنه. . . ولست أذيع سراً آخر إذا بشرتهم بما بشرني الأستاذ الخفيف من أن الشاعر المبدع علي محمود طه أوشك على الفراغ من نظم درامة رائعة سيفاجئ محبيه بها قريباً
ولا يفهم القراء من هذا الكلام الطويل أنني أقصر نهضة الأدب العربي على ميدان الشعر فحسب، فهنالك أدب القصة الطويلة الذي لم يستو على سوقه بعد، وأن ظهر عندنا كتاب مبدعون قدموا لنا أقاصيص رائعة تبشر بمستقبل باهر لهذا اللون الهام من ألوان الأدب. . والظاهرة التي أحب أن أفتح عيون أدباء الشباب عليها وألفتهم إليها هي أن شيوخ الأدباء عندنا يملكون زمام هذا الميدان كله تقريباً، ولا سيما في القصة المتوسطة. . . فليلق شبابنا الأدباء بالهم إلى ذلك، وليتنبهوا له، ولتكن منهم فئة يعنون بأدب القصة الطويلة، حتى إذا آل إليهم زمام الأدب في المستقبل القريب كانت معهم مؤنه تكفي لبناء شهرتهم وتخليد ذكرهم. . . وليذكروا كذلك أن معظم روائع الأدب الغربي المترجمة هي من إنتاج الشيوخ دونهم، وعلى هذا، فينبغي عليهم أن يساهموا في الترجمة بنصيب
أما الأدباء غير المصريين فإلى مقال قريب إن شاء الله.
دريني خشبة
قصة دائرة المعارف الإسلامية
للأستاذ صلاح الدين المنجد
الأنسيكلوبيدية الفرنسية، معجم شامل للمعارف الإنسانية؛ أخرجته طائفة من علماء قرن الثامن عشر وفلاسفته وضمنوه ثمرة دراساتهم الطوال، فبدت فيه روح العصر وعاداته، وطرائق أهله في المساجلات والمهاترات
لم ينشأ عن دائرة المعارف هذه، بعث أدبي أو علمي، فقد كانت نتيجة لعوامل شتى، لا سبباً لها، وكانت ملتقى تيارات تتعارض ونظريات تتضارب، ويلاحظ الأستاذ (أوبيرتان في كتابه:(روح القرن الثامن عشر) أن هذه التيارات تنحصر في الأمور التالية
1 -
الانطلاق: وكان مدلوله في لقرن السابع عشر استقلال الفكر، وشنشنة ضد الدين. وكان معناه في القرن الثامن عشر تظاهراً بالدعة مع الجحود والكفران
2 -
الروح العلمي. فقد هيمنت روح العلم على نفر كبير من الناس، فأضحوا يتعلقون بالحادثات الواقعة. نابذين وراء ظهورهم ما وراء الطبيعة، ثائرين على السلطان. وكانوا يفتخرون بالتقدم العلمي الذي رأوه آنذاك، ويعتقدون أن الوقت قد حان لوضع أسس جدد، ومناهج واضحة تسلكها الأجيال القادمة.
3 -
الرغبة في الاستقلال السياسي، فقد مال الناس إلى احتقار سلطان الملكية، والثور عليه، والسعي في تحطيمه، ليتقوى سلطان الشعب
4 -
الميل إلى تقليد الأجنبي وخاصة إلى تقليد إنجلترا؛ فقد كان الفرنسيون يرون في كل ناحية من نواحي السياسة والعلم والدين والأدب فيها مثلاً سامياً جديراً بأن يقتفى أثره، وأن يقلد
فهذه الميول المختلفة. كانت مظاهر عالم جديد يريد أن يحيى. وكانت هذه البيئة تحس في نفسها قوة وجلداً؛ وترى أنها قادرة على تحطيم ما خلفه لها الآباء والأجداد، ولا بد للناس أن يعلموا ما خلفته الأجيال الخالية، وما بذلته من جهود في سبيل رقي الإنسانية، ولابد لهم أن يدركوا كيف بدأ أجدادهم والى أية نقطة من طريق الإنسانية الطويل قد بلغوا. فدائرة المعارف كانت وسيلة إلى ذلك
ظهرت دائرة المعارف سنة 1745. فقد أذن لصاحب مكتبة آنئذ، أن ينقل إلى الفرنسية
دائرة معارف العلوم والفنون ' التي ألفها الإنجليزي فاستشار، ذاك الكتبي عدداً من العلماء. وكانت هذه الاستشارات لا تجدي شيئاً. فعهد عندئذ إلى (ديدرو بهذا العمل، وكان ذا فكر ثاقب محيط. فرأى أنه يستطيع توجيه ذاك الكتبي نحو فكرة قد تكون أكثر جدوى، وأقرب نفعاً؛ فلماذا ينقل إلى الفرنسية معجم ذلك الإنجليزي؟ أليس من الخير لبلاده أن يكتب المعارف الإنسانية بفكر فلسفي ويقدمها للناس؟ لا جرم أن ذلك يساعد على انتشار آرائه، وتبيان ما يذهب هو والفلاسفة إليه، ويكون وسيلة لجمع شتات فلاسفة عصره. وزين ديدرو للكتبي فكرته فقبل. وعندئذ اتصل بدالامبير ' وانعكفا على وضع نهج العمل
على أن نهج العمل واضح لا يحتاج إلى جهد وتفكر، إنما الذي يدعو إلى التفكير هو الحصول على المال. فالمعجم سيكون كبيراً. وهو يحتاج إلى نفقات قد تثقل عاتق الناشر. وعمدوا إلى اكتتاب بالاشتراك. وساعد على ذلك محافل الماسونيين في العالم كله، واهتمت السلطات العامة بهذا الأمر. وتدفقت الأموال على الناشر وصاحبيه. وابتدءوا يعملون
وفي سنة 1750 أخرج ديدرو المجلد الأول، وفيه المنهج الذي سيكون المعجم عليه، وتبيان ما سيتضمنه ويحويه. ومقاله لدالامبير سماها:
ولم يكد يظهر المجلد الأول حتى تهافت الناس على شرائه؛ ونال رواجاً كبيراً، وأبدى كثير من الكتاب والعلماء رغبتهم في مساعدة ديدرو ودالامبير
وظهر المجلد الثاني؛ وفيه طعن ديدرو على القديم طعناً موجعاً، وثار الناس على مقالة كتبها الأب دبراد محرر دائرة المعارف في الإلهيات. وهب رجال الدين يطعنون على هذا المعجم الذي يسوق إلى الإلحاد ويدفع إلى الكفر، واضطربت السلطة، واضطرت إلى مصادرة الجزأين. وكاد ديدرو أن يسجن في الباستيل، ولكن الناشر ما زال يسعى حتى أذن له مرة ثانية بإخراجها
وما كادت سنة 1757 تطلع على الناس حتى حدث ما لم يكن بالحسبان. فقد أثرت الأحداث السياسية في فرنسة فكانت مؤامرة داميان الذي طعن لويس الخامس عشر بطعنة موسى، وكان فشل روسباخ مما سبب يقظة الشعور الوطني والأخلاقي. ودعا إلى شن هجوم شديد على أولئك الفلاسفة المخربين الهدامين. ومما ساعد على ذلك مقالة عن (جنيف) كتبها دالامبير، وكتاب (الفكر الذي كتبه (هيلفيتيوس فازداد الطعن على دائرة
المعارف ورجالها، حتى اضطر الملك إلى إيقافها، ولكن الناشر استطاع بعون من مدام دبومبادور حظية الملك أن يصدرها. فصدرت وحمتها رجال الشرطة. وظلت تصدر حتى عام 1772 إذ انفض عن ديدرو، دالامبير وروسو، وبقي وحده
كانت دائرة المعارف كما ذكرت معجماً رتب على الحروف الهجائية. وكان يبحث في الرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وكان مراسلوها يذكرون ما وصلت إليه الإنسانية في كل علم أو فن. ويلاحظ دوكرو في كتابه (رجال دائرة المعارف) أن ديدرو تنبأ بمستقبل الفنون الميكانيكية، فكتبه مقالات كثيرة عن كل صناعة وبين خططها وصورها
ولكن على رغم ذلك فإن دائرة المعارف ظلت خليطاً من أمور غامضة تارة ومضطربة أخرى. لا جرم أنه كان فيها الجيد، ولكن كان إلى جانبه الرذيل الرديء. وسر ذلك أن مباحثها كتبت بسرعة دون تأمل أو روية
على أن الذي يدهشني حقاً فيها تلك الروح المهيمنة عليها في كل صفحة من صفحاتها، بل في كل سطر من سطورها. فلقد استطاع ديدرو، بل وفق إلى انتقاء مراسليه من الفلاسفة الذين كان بينهم وبينه نسب في الفكر والمذهب. فإذا تصفحت دائرة المعارف بدا لك هذا الفكر الفلسفي الذي لا يؤمن بكل أمر خفي، ويسخر من كل أمر مطلق أو خارق، ولا يعتقد بما وراء الطبيعة، ويدعو إلى حرية الفكر والكلام والعمل
وما كانوا يصرحون بذلك تصريحاً تاما، ولكنهم كانوا يدسون السم في الدسم، ويحشون مقالاتهم أفكاراً تسوق إلى ما يريدون. وقد كان من أشد ما يدعون إليه أن يحاربوا المذاهب والآراء التقليدية الموروثة، وأن يسخروا منها فيصيبها التهديم
ومهما كان من أمرها، فلقد كانت وسيلة لاجتماع رجال كبار. فقد كتب فيها: مونتسكيو ورسو وفولتير، وكتب ديدرو ودالامبير ودجوكور وديبنتون ومارمو نتيل وغيرهم. . .
ويلاحظ روستان في كتابه (الفلاسفة والهيئة الاجتماعية في القرن الثامن عشر)
، أن مراسلي دائرة المعارف كانوا أشد حماسة من القائمين عليها. نرى ذلك عندما نقرأ مقالات كوندياك تلميذ لوك، وهلفيتيوس الذي دعا إلى المادية أجرأ دعوة، وغيرهما
وما زالت دائرة المعارف تتستر، حتى ظهر جلياً ما تدعو إليه. وعندئذ تركها روسو، وراح يطعن عليها وينعتها بأنها آلة تهديم، ويعتذر لنفسه بأنها كتب فيها عن الموسيقى، وقد خفي
عليه ما يريدون
ولكن طعن روسو، ومن قبله طعن رجال الدين لم يفيدا شيئاً، فقد انتشرت انتشاراً سريعاً، فقرأها البرجوازيون المثقفون، وقرأها بعض الكهنة، وأعجب بها المحامون. ولئن انفض عنها رجالها، ثم توقفت، فلقد غرست في العقول الشك، وساقت الناس إلى حدث اجتماعي عظيم هو الثورة الفرنسية.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
3 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
وكما أجاد المسلمون فن الخط، فقد بلغوا في الزخرفة شأواً بعيداً أقل ما يشهد به أن كلمة (الأرابسك) علم - في تاريخ الفن - على نوع معين من الزخرفة ابتدعه الفنان المسلم. حقاً إنه لم يبتكر وحدات زخرفية جديدة بل استعمل ما وجده بين يديه من مخلفات الفنون السابقة على الإسلام، إلا أنه لا سبيل إلى إنكار مقدرته في طريقة رسم هذه الوحدات الزخرفية وتوزيعها والتأليف بينها وتنسيقها تنسيقاً يجعلها تبدو كأنها اخترعت لأول مرة وما هي كذلك، ولكنه صهرها في بوتقته ومزجها بفلسفته وسلط عليها أشعة عبقريته فخرجت من بين يديه فناً جديداً لا يخفى عليك أصله ولكنك لا تستطيع أن تنكر عليه شخصيته القوية الواضحة
لم يخترع أشكالاً هندسية جديدة، ولكنه بالغ في تقسيمها وتحليلها، نراها تارة متشابكة، وأخرى متداخلة، وأحياناً متلاصقة وأحياناً متباعدة، حتى ليصح لنا أن نقول في اطمئنان إنه بعث في هذا النوع من الزخرف روحاً من لدنه فبدا في ثوب من الجمال قشيب لم يكن له قبل الإسلام
ولم يبتكر وحدات نباتية أو حيوانية بل رسم الأزهار والأشجار والأوراق والسيقان، والطيور والحيوان بعد أن حورها تحويراً كادت معه أن تفقد شخصيتها كوحدات نباتية أو حيوانية، ولكنها وإن بعدت عن الطبيعة فقد دلت على سعة خيال مبدعها وصفاء قريحته
ونفر من الفراغ، وكره أن يرى سطحاً عاطلاً من الزخرف فكرر الوحدات الزخرفية المذكورة تكراراً يمكن أن يستمر دون أن يقف عند حد
وهذه المظاهر الجديدة إتقان الزخرفة الهندسية، وتحوير العناصر النباتية والحيوانية، وتكرار الوحدات الزخرفية، والنفور من الفراغ، هي في الغالب نتيجة لبعض توجيهات في الدين الإسلامي: فقد كان التصوير - وسنتحدث عنه فيما بعد - أمراً غير مرغوب فيه عند كثير من المسلمين نظراً لما حام حول مزاولته من شك، فانصرف نشاط الفنانين إلى نواحي أخرى؛ ولعلهم كانوا متأثرين في بعض ما اتجهوا إليه بما روي في صحيح لبخاري (كتاب البيوع) عن سعيد بن أبي الحسن إذ يقول: (كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما
إذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً.
فربا الرجل ربوة واصفر وجهه؛ فقال ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشحر وكل شيء ليس فيه روح) فلا عجب إذا بلغت الزخارف الهندسية على يديهم ذروة الإجادة، وأصبحت الزخارف النباتية آية في الإبداع والإتقان وإن كانت بعيدة عن تمثيل الطبيعة تمثيلاً صحيحاً في معظم الأحيان، شأنها في ذلك شأن الزخارف الحيوانية التي ترخص في رسمها بعض الفنانين. على أن هذا البعد عن الطبيعة لم يكن نتيجة لضعف في الملاحظة أو نقص في المقدرة بل هو، في أغلب الظن، مقصود لذاته، ولعله ناشئ عن تلك العقيدة التي يؤمن بها كل مسلم أشد الإيمان: ذلك أن البقاء لله وحده، وأن العالم بمن فيه وما فيه مآله إلى الزوال (كل شيء هالك إلا وجهه)(كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وليس من اللائق وهذه العقيدة منقوشة في أذهان المسلمين جميعاً أن يخلد رجال الفن منهم بأعمالهم الفنية ما كتب الله عليه الفناء، لذلك نجدهم لم يعنوا بتصوير الشخصيات العظيمة في لوحات كبيرة أو تماثيل ضخمة تبقى على الدهر، أو تمثيل جمال الطبيعة بالنقل عنها نقلاً صحيحاً، بل يأخذون من عناصرها ما يرون، ويهذبون فيه ما شاءت لهم ميولهم ومواهبهم الفنية، ثم يكونون من هذه العناصر المهذبة زخرفة لا تمت إلى الطبيعة بصلة، قوامها أغصان نباتية متشابكة يتفرع بعضها من بعض، وأوراق أشجار مختلفة يخرج بعضها من بعض، وأزهار وفواكه تنبت من الأوراق أحياناً ومن الأغصان أحياناً أخرى، وهي في مجموعها تعطي منظراً ترتاح له العين ويسر به الفؤاد
ويعنى الفنان المسلم عناية واضحة بالتفاصيل الدقيقة، ويميل - بل ويسرف في هذا الميل أحياناً - إلى عدم ترك فراغ ملحوظ بين الوحدات الزخرفية، وربما كان مسوقاً إلى ذلك بفكرة كامنة في نفسه تجعله حريصاً على أن يخرج زخرفته بحيث لا يستقر النظر فيها على شيء معين يترك في الذهن صورة واضحة تحتل بؤرة الشعور. أما هذه الفكرة فهي رغبته في الحيلولة بين نفسه وبين الغرور الذي يملك الفنان أحياناً عند ما يتأمل في أثره الفني فيراه واضح المعالم والخطوط، ويدرك أنه استطاع أن يرسم بريشته ما يضاهي به
خلق الله. كما أنه أيضاً قد أمن - في نفس الوقت بطريقته هذه - استغراق الناظر لذلك الأثر الفني في جمال الأثر فينسى مبدع الكائنات وهو يتأمل فيما صنع الإنسان
على أن هناك ظاهرة في الزخرفة الإسلامية تلفت النظر، تتجلى لنا في الوحدات الزخرفية التي نرى فيها طائراً ينبت من جناحيه وذيله أغصان تتصل بها أزهار، أو سمكة ينتهي ذيلها بفرع نباتي ويخرج من رأسها وجسمها أوراق أشجار، أو رأس آدمي مركب على جسم طائر ذيله عبارة عن غصن طويل ملتف على نفسه، أو قطعة من خشب على شكل قيثارة مثلاً يخرج من جانبيها الأيمن والأيسر رأسا حصانين في فم كل منهما لجام يتخلص من طبيعته هذه بالتدريج حتى يصبح فرعاً نباتياً تتصل به أغصان وأزهار، وينبت من أذن كل منهما فرع نباتي يدور حول نفسه أولاً ثم يتفرع إلى فروع عدة، أو غير ذلك من الوحدات الزخرفية التي يجمع فيها الفنان عناصر الطبيعة المختلفة من حيوان ونبات وجماد بحيث يخرج بعضها من بعض؛ وكأنه في عمله هذا يرى أن المخلوقات كلها سواء يستوي لديه الحيوان والإنسان والنبات والجماد باعتبار أنها لا تثبت على صورة واحدة بل تتغير من حالة إلى حالة وليس لها جميعاً إلا وجود زائل سائر إلى الفناء بينما الخالق وحده هو الحق الباقي الذي لا يعتوره تغير ولا يلحقه فناء. والغالب أن الفنان المسلم متأثر في اتجاه هذا بتلك الآية الكريمة التي نزلت في إبراهيم عليه السلام والتي تشير إلى أن الثبات وعدم التغير من صفات الحق وحده دون مخلوقاته التي من شأنها التغير. يقول جل شأنه:(فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال إن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم أني بريء مما تشركون. أني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية
الدين العام المصري
نشأته وتطوراته
للأستاذ أحمد صادق موسى
ليس الدين شراً كله كما أنه ليس خيراً كله، ولكنه لم يأخذ أية أمة مثلما أخذ في مصر طريقاً حافلاً بالحوادث، مليئاً بالاضطرابات، حتى أصبح تاريخه في مصر تاريخاً لفترة طويلة في حياتها السياسية والمالية، شهدت فيها البلاد ألواناً شتى من التدخل الأجنبي، وصوراً متعددة من التعسف، وضروباً كثيرة من التقلب والاضطراب. ولقد انتقل حكم مصر إلى سعيد باشا والبلاد لا تعرف طريقاً إلى القروض الأجنبية، حتى أحاط بالوالي الجديد بطانة من الفرنسيين وعلى رأسهم فردناند دلسيبس، فزينوا له فوائد الإصلاح ويسروا له سبل الاقتراض، فامتدت يد سعيد باشا إلى المصارف الأوربية للمرة الأولى، ثم إلى الأهالي، فاقترض عدة قروض كان منها الدين الثابت على المصارف الأجنبية ويقدر بمبلغ 3. 292. 800 ج. ك ومنها الدين السائر على الأهالي ويقدر بمبلغ 7. 867. 200 جنيهاً. فلما توفي سعيد باشا ترك البلاد وعليها دين يزيد على الأحد عشر مليوناً من الجنيهات
وتولى الخديو إسماعيل عرش مصر، وكان شاباً جريئاً طموحا، يفيض قلبه بالآمال، ويجيش صدره بأجمل ما يتمناه ملك يتفانى في خدمة بلاده، فأسرعت البطانة الأوربية وخاصة الفرنسية بالالتفاف حوله، كما التفت حول سلفه، تلتمس فيه نقط الضعف، فإذا بها، ويا لفخره. . . رغبته في الإصلاح وحبه للإنشاء. فراحت تزين له آفاق هذا المجال وتمده بالمال، فاندفع نحو الاقتراض مدفوعاً برغبته الصادقة في إصلاح حال مصر، وبحسن نواياه وثقته بمن حوله، وهم بطانة من الأجانب المرتزقة، أو المصريين الذين أعمى الطمع قلوبهم وأضل أفئدتهم، فصرفهم عن أن يخلصوا النصح لمولاهم، أو يتبصروا عواقب الأمور. . . وراحت القروض تتوالى على مر السنوات، وترتفع الأرقام في سرعة هائلة، فإذا الديون الثابتة تبلغ من سنة 1862 إلى سنة 1873 (أي مع دين سعيد باشا الثابت)68. 497. 160 ج. ك. والديون السائرة 25 مليوناً من الجنيهات. وقد كان أكبر هذه القروض الثابتة قيمة قرض سنة 1873 بمبلغ 32 مليون جنيه إنجليزي، وكان سعر الفائدة
7 %؛ على أنه إنصافا للحق لم تصل القيمة الاسمية من الديون الثابتة إلى الحكومة؛ إنما دخلها منها 47. 357. 461 ج. ك فقط، وضاع الفرق ما بين القيمتين الاسمية والحقيقية، ويقدر بمبلغ 21. 139. 699 في السمسرة والعمولة والمصروفات الأخرى، حتى سعر الفائدة 7 % كان لا يعمل به، بل كانت تتراوح الفائدة الحقيقية ما بين 12 % و26 %. وقد رهنت في مقابل هذه الملايين إيرادات بعض مديريات الوجهين القبلي والبحري، وإيرادات الجمارك والسكك الحديدية وجميع الثغور والعوائد المختلفة، وإيرادات أملاك الدائرة السنية، وكان يقدر الدخل في الجميع بنحو ستة ملايين من الجنيهات، وبهذا أصبح معظم إيرادات القطر رهناً لهذه الديون الأجنبية. ولم تزد الحالة إلا سوءا؛ فكان كل قرض يعقد يجلب معه الاضطراب الشديد والخلل السريع إلى المالية المصرية، حتى أقبل عام 1875 فإذا بالحكومة عاجزة عن تسديد فوائد هذه الديون ودفع الأقساط في مواعيدها، وقد استخدم إسماعيل صديق باشا (المفتش) وزير المالية يومئذ كل ما تفتق عنه ذهنه من أساليب شيطانية لابتزاز الأموال لتسديد الأقساط. ولما شعر الخديو بشدة وطأة الحال عرض على إنجلترا رغبته في أن تبعث إليه بمالي كبير يدرس الحالة المالية ويعاون الوزير المصري في إدارة شؤونها وعلاج أسباب اضطرابها، وجاء هذا الطلب في وقت كانت تطمع فيه كل من إنجلترا وفرنسا في بسط إشرافها المالي على البلاد بعد ما أصبها من سوء وانحلال ولذلك سرعان ما لبت إنجلترا رغبته وأرسلت (بعثة) يرأسها (ستيفن كيف) لبحث الحالة المالية، وقدم (كيف) مصر ووضع تقريراً مطولاً مستفيضاً عن الشؤون المالية استعرض فيه أسباب اضطرابها وخللها ودواعي عقد القروض وقدم مقترحات تتلخص في تسديد القروض القصيرة الأجال وتحويل الباقي من الديون الأخرى الطويلة الأجل إلى دين واحد قدره 75 مليون جنيه بفائدة سعرها 7 % يسدد في 50 سنة وأن تنشأ مصلحة مراقبة يعهد إليها تسلم متحصلات بعض أنواع الإيرادات؛ على أن لا تعقد الحكومة أي قرض جديد إلا بعد موافقتها عليه. غير أن الخديو إسماعيل أغضبه تقرير (كيف) فاتجه للمساعدة الفرنسية؛ وما لبث أن قدم المالي الفرنسي الذي حضر إلى مصر لدراسة شئونها المالية، مشروعاً يقضي بإنشاء صندوق الدين. ورأت إنجلترا أن فرنسا تنافسها في الميدان فأرادت أن تحمل الخديو على قبول مقترحات كيف، ولجأت إلى مناورة
برلمانية في عهد دزرائيلي ونشرت تقرير كيف عن حالة مصر المالية فأغضب ذلك الخديو كل الغضب وانحاز بكليته إلى المشروع الفرنسي وأصدر أمراً عالياً في 2 مايو 1876 يقضي بإنشاء صندوق الدين على أن يؤلف من أعضاء أجانب يعينهم الخديو بناء على ما تعرضه الدول التابع لها كل منهم. ويستلم الصندوق إيرادات بعض مديريات الوجهي البحري والقبلي المخصصة لخدمة الدين، وعوائد الدخولية في العاصمتين، وإيراد الجمارك في جميع الثغور، والسكك الحديدية وغير ذلك، وحظر على الحكومة تخفيض أموال الأطيان المخصصة للدين بغير موافقة الصندوق، كما تقرر أن تكون المحاكم المختلطة هي المختصة بالنظر في النزاع بين الصندوق والحكومة. وأعقب هذا صدور أمر عال آخر في 7 مايو يقضي بتحويل ديون الحكومة الثابتة والسائرة إلى دين واحد قدرة 91 مليون جنيه إنجليزي بفائدة 7 % ويسدد في 65 سنة، وأن يخصص لتسديده الإيرادات التي ذكرنا أبوابها وتقدر بمبلغ 6. 745. 256 ج. ك ثم رأى الخديو زيادة في حسن الإشراف والإدارة إنشاء مجلس المالية الأعلى، فأصدر أمراً بتشكيله في 11 مايو من تلك السنة. بيد أن تنافس الإنجليزي الفرنسي كان يزداد شدة فدعا هذا إلى اتفاق الدولتين على المطالبة بوضع نظام يكفل لهما دقة الإشراف المالي على مصر، وذلك بتعين مراقب إنجليزي للإيرادات، ومراقب فرنسي للمصروفات. وقد تم لهما ذلك بإنشاء المراقبة الثنائية في الأمر العالي في 18 نوفمبر سنة 1876 على أن توضع السكك الحديدية وميناء الإسكندرية تحت إدارة لجنة أوربية. وبهذا اتخذ التدخل الأجنبي ثاني صوره الرسمية بعد إنشاء صندوق الدين. غير أن توحيد الديون جميعها أثار احتجاجات حاملي السندات القصيرة الأجل وسندات الدائرة السنية فدارت مفاوضات أعقبها صدور أمر عال في 18 نوفمبر أيضاً يفصل ديون الدائرتين السنية والخاصة عن الدين الموحد وإصدار سندات ممتازة للمرة الأولى بمبلغ 17 مليون جنيه إنجليزي بفائدة 5 % وتخفيض الدين الموحد بذلك إلى 59 مليون ج. ك، ثم عقد في شهر يونيه 877 اتفاقاً خاصاً بديون الدائرتين السنية والخاصة وأصبحت قيمتها الرسمية 9. 512. 900 ج. ك - وعلى الرغم من هذا ازدادت الأحوال اضطراباً، فأشار وزير المالية على الخديو بتشكيل لجنة للتحقيق فصدر أمر عال بها في يناير سنة 1878 يقضي بتعيين لجنة التحقيق العليا التي كان يرأسها اسماً
دليسبس، وفعلاً السير ريفرز ولسون، وذلك للبحث في أسباب الخلل ووضع المقترحات اللازمة لعلاج الاضطراب المالي والضيق الشديد. وفي أثناء قيام لجنة التحقيق بعملها تدخلت إنجلترا وفرنسا بطلب تعيين وزيرين أوربيين في الوزارة المصرية وتحديد المسئولية الوزارية. وقد تم لهما ذلك، فتولى السير ولسون وزارة المالية، والمسيو دي بلينر وزارة الأشغال في الوزارة المختلطة التي تألفت في عام 1878، وبهذا أصبح ولسون يشغل منصبين خطيرين. ولكن تأليف هذه الوزارة ما لبث أن قوبل بامتعاض شديد من الوطنيين. وكان هذا العمل جرحاً عميقاً للكرامة المصرية القومية، فاتجهت الأفكار كلها إلى التخلص منها. وكان الخديو أكثر الناس رغبة في ذلك فما لبث أن انتهز فرصة وضع تقرير لجنة التحقيق العليا التي ذكرت فيه أن الحكومة المصرية في حالة إفلاس، وأنه يجب تشكيل لجنة لتصفية الحالة المالية والديون، حتى أسقط الوزارة المختلطة وعين شريف باشا رئيساً للوزارة الوطنية البحتة، وقوبل هذا العمل الجريء من الخديو باحتجاجات شديدة من الوزيرين الأوربيين ودولتهما ولجنة التحقيق وغيرهم، ولكن ظل الخديو وشريف باشا على سياستهما الوطنية وإن كانا قد فاوضا الدول في إعادة المراقبة الثنائية مرة أخرى
وفي ذلك الحين عقد قرض الدومين مع بنك روتشيلد بمبلغ 8. 5 مليون ج. ك في 26 أكتوبر سنة 1878، ثم صدر بعد ذلك مرسوم بالتصفية في 22 إبريل سنة 1879، غير أن الدول لم تقبله واحتجت عليه. واستمر النزاع قائماً بين الخديو إسماعيل والدول الأوربية التي نشطت في تألبها عليه؛ وأقنعت الباب العالي بضرورة عزله للعمل على الإصلاح المالي؛ وخضع السلطان العثماني وأصدر فرمانا بهذا السؤل في 26 يونية سنة 1879. ويبدأ مع عصر الخديو توفيق عهد جديد تضافرت فيه جهود الدول على العمل لتحقيق غرضين أولهما: البحث الجدي المنتج لتوطيد الحالة المالية المصرية، وثانيهما الوصول بالتنافس الإنجليزي الفرنسي إلى الاحتلال العسكري للبلاد
ولقد سار الغرضان معاً فبدأت الحكومة المصرية بإصدار قانون التصفية العام في 17 يوليه سنة 1880 ويقضي بإصدار سندات جديدة من الدينين الموحد والممتاز، كما خفض سعر الفائدة في الدين الموحد إلى 4 %، وضمت أملاك الدائرتين السنية والخاصة إلى
الحكومة، وألغيت المقابلة على أن يسترد ما حصل منها على أقساط شهرية لمدة 50 عاما - وفي هذه السنة نشرت أول ميزانية رسمية للحكومة، ثم أدى الاتفاق الإنجليزي الفرنسي على احتلال البلاد احتلالاً مشتركاً إلى أن أسرعت إنجلترا بالاحتلال الفردي سنة 1882 متخذة من بعض الحوادث الداخلية، كالثورة العرابية وغيرها مبرراً لتنفيذ هذا الاحتلال السريع. وقد نتج عن هذا كله اضطراب مالي سياسي جديد، ورأت الحكومة أن تغطي عجز إيراداتها بعقد قرض جديد بضمان الدول، وقد تم لها هذا بالأمر العالي في 27 يوليه سنة 1885 الذي يقضي بإصدار سندات بقيمة 9. 424. 000 ج. ك. بفائدة 3 % وبضمان كل من إنجلترا وألمانيا والنمسا والمجر وفرنسا وإيطاليا وروسيا. وعقد الخديو توفيق ثم الخديو عباس فيما بعد ثلاثة قروض قيمها لا تزيد عن الخمسة ملايين من الجنيهات، كما حددها السلطان العثماني، وذلك لتسوية الحالة المالية. وبدأ الاستقرار المالي يدب بعد ذلك في الحياة المصرية، وعمل الإنجليز من جانبهم على التخلص من مشاركة فرنسا في الإشراف على الشئون المالية، فألغيت المراقبة العثمانية، واستبدلت بالمستشار المالي الإنجليزي. وكان من بوادر الاستقرار أن أخذت الحكومة في تكوين أموال احتياطية تحفظ في صندوق الدين، وأعقب ذلك تحويل الديون الممتازة والدائرة السنية والدومين إلى ديون جديدة بفوائد مخفضة. ولما كانت البلاد تحت السيادة العثمانية فقد لجأت تركيا إلى مصر لتكون ضامناً لها في القسط السنوي للقرض العثماني 4 % لسنة 1891، وذلك بتخصيص جزء من الجزية السنوية المستحقة لها لضمان القسط السنوي من هذا القرض الذي أصدره بنك روتشيلد بقيمة اسمية 6. 316. 920 ج. ك. وحدد له قسط سنوي قدره 273. 608 ج. م. ويستهلك في مدة 60 سنة تنتهي في سنة 1951؛ وفي سنة 1894 حدث تعهد مشابه حين قبل الخديو عباس الثاني أن تضمن مصر القسط في القرض العثماني 3. 5 % لسنة 1894، وكانت قيمته الاسمية 8. 212. 340 ج. ك.، ويستهلك في مدة 61 سنة تنتهي في سنة 1955، وحدد قسطه السنوي بمبلغ 321. 018
وقد ظلت مصر تدفع أقساط هذين القرضين العثمانيين باعتبارها خاضعة لسيادة التركية، حتى بعد أن رفعت عنها هذه السيادة في سنة 1914 إلى أن قرر مجلس النواب في سنة 1924 أن تتوقف مصر عن دفع هذه الأقساط التي لا مبرر لدفعها من زوال السيادة
التركية وإعلان الاستقلال، ولكن معاهدة لوزان التي نفذت في سنة 1924 قررت إعفاء تركيا من كل التزامات القروض العثمانية ورفع النزاع إلى المحاكم المختلطة التي قضت في إبريل سنة 1926 بإلزام الحكومة المصرية بالاستمرار في دفع هذه الأقساط حتى نهايتها
ولما كانت فرنسا تناوئ إنجلترا مناوأة شديدة بعد فشل الاحتلال المشترك لمصر وتندد بسياستها، فقد عملت إنجلترا على أن تسعى للاتفاق معها، وقد تم هذا في الاتفاق الإنجليزي الفرنسي سنة 1904 الذي أطلقت فيه يد إنجلترا في شئون مصر مقابل إطلاق يد فرنسا في شئون مراكش. وبعد ذلك الاتفاق صدر قانون جديد في 28 نوفمبر سنة 1904 يقضي بتنظيم الدين العام وباستمرار صندوق الدين في عمله حتى ينتهي تسديد هذه الديون، وأن لا تخفض ضرائب الأطيان إلى أقل من 4 مليون جنيه إلا بعد موافقة الدول، وحددت التواريخ لبدء استهلاك هذه الديون
ولقد تمكنت الحكومة بعد ذلك من التخلص من بعض ديونها فسددت دين الدائرة السنية حتى 15 أكتوبر سنة 1905 وكذلك دين الدومين حتى أول يونيه سنة 1913
وقد شاع الاستقرار في المالية المصرية وانبعث الاطمئنان إلى النفوس بعد التعديلات والإصلاحات المختلفة السابق ذكرها إجمالاً وقامت الحكومة المصرية بعد ذلك بإصدار أذونات الخزانة في سنة 1933 بمبلغ 3. 5 مليون جنيه مصري استهلكت على دفعتين الأولى في سنة 1938 والثانية في سنة 1943، وكان الغرض من إصدارها تخفيف الأزمة الاقتصادية العالمية التي سببت هبوط أسعار المحاصيل الزراعية، ثم أصدرت بعد ذلك قرض القطن الأول في سنة 1941 بفائدة 4. 5 % وبمبلغ 17. 5 مليون جنيه مصري طرح منها للاكتتاب عشرة ملايين استهلك منها حتى الآن ستة ملايين، وأصدر بالباقي أذونات لمدة قصيرة. والثاني في سنة 1942 بفائدة 4 % وبمبلغ 12 مليون جنيه مصري طرح منها للاكتتاب مليونان من الجنيهات
هذا هو مجمل تطور الدين العام، ويضاف إليه ديون أخرى صغيرة استهلك بعضها والبعض الآخر في دور الاستهلاك
على أنه يجدر بنا ذكر العمل الجليل الذي قامت به الحكومة بإلغاء صندوق الدين في سنة
1940 بعد مفاوضات مع الدول ونقل كل اختصاصاته إلى الحكومة التي يتولى البنك الأهلي - نيابة عنها - القيام بخدمة هذه الديون، وقد صدر بعد هذا مرسومان ملكيان رقما 68 و71 لسنة 1940 بتنظيم الدين العام على هذا الأساس الجديد
ويتضح مما تقدم أن الباقي من الدين العام هو: الدين المضمون 3 % وقيمته الاسمية 9. 424. 000 ج. ك وقسطه السنوي 307. 125 ج. م والباقي منه 785. 400 ج. ك والدين الممتاز 3. 5 في المائة وقيمته الاسمية 31. 647. 000 ج. ك وقسطه السنوي 1. 045. 384 ج. م والباقي منه بعد الاستهلاك 30. 633. 980 ج. ك؛ والدين الموحد 4 في المائة وقيمته الاسمية 60. 958. 240 ج. ك وقسطه السنوي 2. 154. 768 ج. م والباقي منه بعد الاستهلاك 55. 250. 460 ج. ك؛ وجملة الباقي من هذه الديون الثلاثة 86. 669. 840 ج. ك وأما القرضان العثمانيان فجملة الباقي منهما معاً هو 5. 357. 180 ج. ك
وقد تقرر منذ سنوات مضت أن تدفع الكوبونات والسندات في هذه الديون بالعملة الورق الأسترلينية؛ وقد بلغت قيمة ما تدفعه مصر سنوياً من فوائد لهذه الديون مع قسط استهلاك الدين المضمون أكثر من أربعة ملايين من الجنيهات المصرية. ولا ريب أن المشروع الجديد باستهلاك بعض هذه الديون وتحويل البعض الآخر إلى دين داخلي أخف حملاً، عمل جليل يرفع عن كاهل البلاد عبئاً ثقيلاً باهظاً من بعض ملايين الجنيهات كما يرفع عنها ذكريات أليمة تردد صداها في تاريخ مصر الحديث.
أحمد صادق موسى
السامر الموحش
إلى الحبيب الذي أسا كلامي
وغنيته أعذب أنغامي
ونهل وعل من أحلامي
وعاطيته كأس أوهامي
فشربها ولم يذر بقيا
واليوم تناسته الدنيا
ولكن جرحي الغائر مات آسيه
وأنغامي لم تأنس إلى من تغنيه
وأحلامي لم تركن إلى من تساقيه
وأوهامي لم ترتح إلى من تعاطيه،
فهي تبعث الذكرى من بعيد والى بعيد
وأنا شقي بها، وإن شئت فقل سعيد
تَلَفْتُ لا شملي جميعٌ ولا الهوى
…
قريبٌ ولا فرعُ الصِّبا عبقٌ نضْرُ
أَحِبَّايَ لو غيرُ الردى حال دونكم
…
دنى البرُّ في عينَيَّ وانكشف البحر
بأسماعكم وقْرٌ وقد رُحْتُ شاكياً
…
وحاشا ففي سمع الثرى وحده الوقر
تناسيتكم الدنيا وحالة عهودُها
…
كأن لم يرنِّحْ عِطْفَها بكم الفخر
أنَزِّهُ آلامي عن الدمع والأسى
…
فيؤْنمها مني الطلاقة والبشْرُ
وأضحك سخراً بالوجودِ ورحمةً
…
وفي كبدي جُرْحٌ وفي أضلعي جمْر
يغالي بدنياه وَيجلو فتونها
…
ودنياه في عينَيَّ موحشةٌ قفرُ
وما حاجتي للنورِ والنورُ كامن
…
بنفسي لا ظلٌّ عليه ولا سِتْرُ
وما حاجتي للأفق ضَحْيانَ مشرقً
…
ونفسي الضحى والأفق والشمس والبدر
وما حاجتي للكائنات بأسْرها
…
وفي نفسيَ الدنيا وفي نفسيَ الدهر
أُهَدْهِدُ من أحزانها كلما وَنَتْ
…
ويُسْلِسُ بصد الَمرْى للحالب الدَّر
إذا رَكدتْ بعد الهبوب فانَّها
…
لكالبحر من أخلاقه المدُّ والجزر
ويا سامر الأحباب مالك موحشاً
…
معاذ الهوى بل أنت يؤنسك الذكر
أَدِيْمُكَ مِنْ حَبَّ القُلوبِ تمزّقَتْ
…
عليه فَسَالَ الشوقُ وَالحب والطَّهرُ
إِذا ظمِئَتْ في قطعها البيدَ نَسْمَةٌ
…
أَلَمْتْ به وهناً فَرَنَّحها السُّكْرُ
فيا للصَّبَا العجلى إذا عبرَتْ به
…
تأَنَّتْ كما يَرْتاحُ في الواحَة السَّفْرُ
تمنَّيْتُ إجلالاً لَهُ وَمَحَبَّةً
…
لَوَ أنَّ حَصَاهُ أنْجُمُ الفَلَكِ الزُّهْرُ
وأجزَعُ إنْ مَّرتْ به الريحُ زعزعاً
…
وأَسْرَفَ حتَّى جاوز الحاجةَ القَطْرُ
فليْتَ الربيعَ الطَّلْقَ ساقاهُ كأسَهُ
…
مَدى الدَّهْرِ لا بَرْدُ عليهِ ولا حَرٌ
ويا سامِرَ الأحبابِ طيفُ ولا كرىً
…
وسُكْرٌ ولا راحٌ وَرَيَّا ولا زَهْرُ
كلانا على ما كَلّفَ النفس من رِضَى
…
أضَرَّ به نأَيُ الأَحِبَّةِ والهَجْرُ
تَطُوفُ بِكَ الأحلامُ نشوى كعدِها
…
وينطف من أفيائِكَ الحب والعِطْرُ
ويضحكُ لي وجْهُ نَدِيُّ مُنَوَّرُ
…
كأَنْ لم يغيَّبْ من طلاقَتِه القَبْرُ
وَحَيّا. . . كأَن لم يَطوِهِ عَنِّي الرَّدى
…
فَهلْ بُعِثَ الأمواتُ أم ردَّه السِّحْرُ
قُلِمُّ به الذكرى فَيَحْيَا كَبَارِقٍ
…
طَواهُ الدُّجى عني ليُطْلِعُه الفجْرُ
وَيْبعَثُه حُبِّيْ وفي كُلِّ خافِقٍ
…
صَحِيح الهوى بَعْثُ الأَحِبّةِ والنَّشْرُ
فَيا قَلْبُ فيك الرَّاحِلون وإن نأوا
…
وفيك الندامى والرياحِيْنُ والْخَمْرُ
خَلَعْتَ على الموتى حَيَاةً قويَّةً
…
وطَالعَهُمْ مِنْكَ القِيَامَةُ والْحَشْرُ
(سوريا - اللاذقية)
أحمد سليمان الأحمد
البريد الأدبي
الإبهام والغموض في التصوف
يذكرني مقال ابن الفارض المنشور بالرسالة ببحث جريء لي لم ير النور بعد، لأن بعض الأذهان لم تتهيأ لقبوله، وصلت فيه إلى أن التصوف نتيجة اختلاف في النفسية الجنسية للفرد. وقد اهتديت إلى هذه النتيجة من مقارنة نفسية فجر الشباب حيث فورة الجنس على أشدها وما يصحبها من حالة نفسية لا تفرق عن التصوف إلا في كونها عابرة غير مستقرة، ففي هذه الطور من التطور البشري يشعر الإنسان أنه جزء من الكون، وكل ما في الكون يردد صداه في نفسه التي تتسع لقبول ما في الكون من إنسان وحيوان وأفلاك، ويمتاز تفكير هذا الدور بالإبهام والغموض والإيثار كالتصوف تماماً
وقد وجدت في تاريخ ابن الفارض مادة دسمة لتدعيم بحثي، فقد روى أن أحدهم استأذن في شرح قصيدته (نظم السلوك) فسأله عن مقدار الشرح فقال: إنه سيقع في مجلدين. فضحك ابن الفارض وقال: (لو أردت لكتبت مجلدين لكل بيت فيها) وروى أيضاً أن محيي الدين بن عربي بعث إليه في شرح هذه القصيدة فرد عليه الشاعر: (كتابك المسمى بالفتوحات شرح لها) والكتاب المشار إليه يقع في 3300 صفحة من الحجم الكبير
ففي هذا القول نجد معنى الإبهام والغموض، فإن أفكار المتصوفين ليست واضحة في جوهرها، وإن الشروح المقصودة هي تخريج لمعان لم تتبلور، ونحن نعلم أن ميزة الفكر البشري هي الوضوح وسهولة التأدية، ونجد حتى في الحيوانات العجم من تحسن التفاهم مع بعضها تفاهما عجيباً فاضت لوصفه مؤلفات علماء الطبيعة، ولولا سهولة الأداء التي امتاز بها الذهن البشري لما ترقى الإنسان وصعد إلى درجات الرقي التي وصل إليها
وقد أدعو أن هذا الغموض مقصود لحفظ أسرارهم، والذي وصلت إليه هو أنه نقص في التعبير من علل نفسانية
أما عن إقحام الحب وما يتبعه من معان وصور في رياضتهم فهذا هو الجانب المحرج الذي أشرت إليه في أول هذه الكلمة؛ ومجال هذا البحث في الصحف الطبية. وفي رأيي أنه هو الباعث الأول على الغموض والإبهام
كامل يوسف
عضو معهد الأبحاث الفلسفية البريطاني بلندن
1 -
مؤتمر الأدباء الشباب في البلاد العربية
إن أدبنا العربي اليوم، يمشي بخطوات سريعة، ولكن أكثر الأدباء لا يستهدفون غاية، فكل يسير على هواه. وإن هناك أموراً شتى يجب البحث فيها، ومشكلات معدودات ينبغي حلها. ولابد من هدف يسعى إليه الأدباء لتكون هناك وحدة أدبية عربية فيها توافق وانسجام، تدفع بالأدب العربي الوليد خطوات ومسافات. ويعود نفعها على أبناء البلاد العربية بالخير والوئام. وإني أقترح أن يعقد مؤتمر للأدباء في عيد الأضحى يدعى إليه أدباء الأقطار العربية كلها، يكون في القاهرة أو دمشق أو بغداد. فيعرف الأدباء بعضهم بعضاً، ويتحادثون فيما ينقصنا، وفيما يشوه أدبنا، وفيما نحن بحاجة إليه
هذا نداء لأرباب القلم والصحف الأدبية لعلهم أن يرحبوا به ويسعوا إلى تحقيقه. ويتبادلوا الآراء فيه.
2 -
إلى الأستاذ دريني خشبة
قلت في مقالك الطريف عن نشأة الدرامة الإنجليزية (العدد 531) إن الدرامة قسمان، النوع الأول: الإنجيلي أو السمعي (؟) وهو يسمى والنوع الثاني القديسي أو الكرامي واسمه
وفي ترجمة هذين الحرفين، من التجوز، الكثير، وفي هذه الكلمات (القديسي، الكرامي، إنجيلي) من البشاعة ما يجعلها نافرة، لا يرضى عنها من أبدع في نقل أساطير الإغريق، والإبداع الكبير
فكلمة التي تقابل الفرنسية، كانت تطلق في القرون الوسطى على المسرحيات ذات الموضوع الديني أعني: وكانوا يدخلون فيها الإله والقديسين والملائكة والشياطين. فترجمتها بالإنجلية، أي غير صحيحة، لأن الإنجيلية نسبة إلى الإنجيل وهذا غير ال فإذا قلنا: الدرامة ذات الموضوع الديني، أو الدينية (تحاشياً من إنجيلي وسمعي) لكان أولى
ولو ترجمت بالخوارق، لكان أجلى وأصح فنقول درامة الخوارق لأن القديسي نسبة إلى قديس أي ومعنى الخوارق التي تخرق قوانين الطبيعة. فهي في الإنجليزية: وفي الفرنسية
، هذا ولك شكري على دعوتك إلى الأدب المسرحي. وإعجابي بإنتاجك
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
المذاهب السياسية المعاصرة
لماذا أخص هذا الكتاب من سلسلة (اقرأ) الثمينة بالكتابة ولم أفعل ذلك من قبل، مع ما للكثير من كتب هذه السلسلة من القيمة الأدبية التي لا تنكر؟ هل ذلك لأن الأستاذ أدهم هو صديقي وزميلي؟ إن كان هذا فالأستاذ عبد الرحمن صدقي هو من أعز أصدقائي علي وأحبهم إلى نفسي، ومع ذاك فأنا لم أكتب عن كتابه كلمة، مع ما كان يستحقه كتابه من ثناء وإطراء ونقد. . . الحقيقة إذن هي أنني لم أقرأ في السنوات الأخيرة في مصر كتابا مركزا صغير الحجم كبير القيمة تشتد حاجة القراء العرب إليه مثل هذا الكتاب. . . إنه خلاصة لمائة كتاب على الأقل من مئات الكتب التي أعرف أن صديقي أدهم يقرأها ويضمها ويجيد استيعابها ونقل لبابها لقرائه الكثيرين المعجبين به. . . إنه ليس من هذه الكتب التي يؤثرها القارئ العجل الذي لا صبر له على المذاهب السياسية ونظرياتها العميقة التي تصدع الرأس وتكد الذهن وتحتاج إلى الصبر وطول الأناة: إن كتيب الأستاذ أدهم هو استعراض جميل لهذا الموكب الحافل من أفكار الإنسانية التي تنشد الضوابط وتتوق إلى المثل، وهو وكتاب الأستاذ فؤاد صروف (وعاءان ملئا علماً وتفكيرا) كما كان يعبر الأقدمون. . . لقد جهدت أن أتلقف بعض المؤاخذات لأجعل منها مادة لنقد الكتاب فلم أوفق إلا إلى الأخطاء المطبعية وإلا إلى بعض التعبيرات التي كانت في حاجة إلى المراجعة والتهذيب. . . على أنني أقترح على صديقي أدهم أن يعود إلى كتابه القيم فيضم إليه فصولا عن تاريخ نشأة تلك المذاهب وتراجم لزعمائها ورجال الفكر الذين ألهموا هؤلاء الزعماء مناهجهم وكانوا سبباً في قيام تلك الحركات الفعالة التي غيرت وجه التاريخ وانحرفت أو لم تنحرف بموكب الإنسانية. . . إن الكتاب إذا صدر على هذا النحو كان الأول من نوعه في المكتبة العربية. . . على أنه على حالته الراهنة هو الأول من نوعه في المكتبة العربية كذلك. . .
ثم ماذا عندي غير التهنئات بعد هذه الكلمة المقتضبة؟
دريني خشبة