المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 536 - بتاريخ: 11 - 10 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٣٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 536

- بتاريخ: 11 - 10 - 1943

ص: -1

‌الأعياد اليومية والأعياد الموسمية

للدكتور زكي مبارك

خطبة سجلها في إذاعة القاهرة لتلقى في إذاعة فلسطين، أما

بقية الكلام فملاحظات كتبت عن أحاديث العيد

أيها السادة:

أقدم إليكم أصدق التحيات، راجياً أن يصل صوتي إلى أسماعكم وأنتم بخير وعافية، وآملاً أن تعيشوا إلى أمثال هذا العيد في رغد وطمأنينة وصفاء

أما بعد فلكل منا أعياد يومية، وأعياد موسمية، فما الفرق بين هذه الأعياد وتلك الأعياد؟

الأعياد الموسمية أعياد شرعها الأنبياء ليوقظوا روح السرور في الناس، عساهم يلتفتون إلى موكب الحياة من حين إلى حين

هل تعرفون السر فيما قضت به الشريعة الإسلامية من جعل الصوم حراماً في يوم العيد؟

كان ذلك لأن الرسول خاف على أمته أن تتنسك تنسك الأموات فلا تفرح ولا تبتهج في أي يوم، ولو كان يوم العيد

هل تعرفون السر في أن يقول القرآن: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)؟ إنه يدعوكم إلى لقاء الله في الصلوات وأنتم في أجمل ما تملكون من الثياب، لتفهموا أن الله يحب أن يراكم في نضارة النعيم لا في قساوة الشقاء

إن الأعياد الموسمية توحي بالسرور الشامل حين تصور الناس وقد احتشدوا للفرح والابتهاج، وحين تدعو كل فرد إلى التجمل، وحين تدعو كل بيت إلى إعداد الأطايب من الطعام والشراب، فمن تلك المظاهر المتجمعة يسري روح المرح في الجماهير، وتشعر النفوس بمعاني البشر والأنس، وتلتفت القلوب إلى حظوظها المنسية في دنيا السعادة والهناء

ولعل زكاة الفطر لم تشرع إلا لهذا الغرض، فالمراد منها أن تثور موجة من البر والإحسان، موجة رحيمة تقضي بأن يجد الفقراء والمساكين ما يغنيهم عن التفكير في هموم العيش أيام العيد

ص: 1

تصوروا كيف تكون الحال لو أدى الموسرون جميعاً زكاة الفطر بإخلاص

تصوروا كيف يعم الفرح في مثل هذه الحال، فيفرح الغني بالتوفيق إلى أداء الواجب، ويفرح الفقير بأن يجد جاراً يواسيه باسم الشرع لا باسم الإفضال، فما كانت الزكاة إفضالاً وإنما هي واجب مفروض لا ينتظر صاحبه من الناس أي ثناء

في هذه الحال يكون الفقراء ضيوف الله في أيام العيد، لا ضيوف الموسرين من الجيران، ومع هذا تذيع القالة الجميلة فترتفع أقدار المزكين، وتزيدهم إيماناً بأن المعروف لا يذهب بين الله والناس

ومن مزايا الأعياد الموسمية أنها تذكر بحقوق ودية ينساها الأهل والأقارب في أكثر الأحايين، فما في كل يوم نسأل عن أقربائنا وأصدقائنا، ولا في كل أسبوع ولا في كل شهر أو كل شهرين، ولكننا نشعر بوجوب السؤال عنهم في أيام العيد، لنجازيهم لطفاً بلطف ووفاءً بوفاء

والأعياد الموسمية تقهرنا قهراً على تحية من يئسوا من التحية، لأنهم ذهبوا إلى العالم البعيد، عالم الموت، ولم تبق فرصة لتحيتهم غير فرصة العيد

أتدركون معنى الجمال الروحي في أن يكون أول من نحييهم في ليلة العيد هم الأموات؟

تلك التفاتة معنوية لها قيمة عظيمة، والوفاء الحق هو الوفاء لمن لا يملك الجزاء

أيها السادة:

إن فضائل الأعياد الموسمية أوضح من أن تحتاج إلى شرح، فتفضلوا بسماع كلمة وجيزة عن الأعياد اليومية، الأعياد التي تواجهنا في كل يوم، لو عرفنا كيف نروض النفس على إدراك الخفايا من نعم المنعم الوهاب، وهي نعم تتجدد في كل لحظة، فنحن بها كل يوم في عيد

تشرق الشمس والعافية في بدنك، والزاد في دارك، فيومك يوم عيد

تغرب الشمس وحولك أهلك، والنوم يداعب جفونك، فليلتك ليلة عيد

قد تطوف بك أحزان تثير دموعك وهذا يقع من وقت إلى وقت، ولكنه شاهد على أنك في عيد، فالدموع في عيون الباكين أدوية ربانية تصنع في طب العيون ما يعجز عنه أطباء العيون، والأحزان في صدور المكروبين مراهم روحية تصنع ما يصنع المرهم الواقي في

ص: 2

شفاء الجرح البليغ

هل تعرف حكمة الله في الألم؟

إن الألم نعمة نفيسة، فهو بشير العافية، لأنه ينبه إلى المرض، والتنبه للمرض يدعو إلى العلاج وهو باب الشفاء

والآفة الخطيرة هي انعدام الإحساس بالآلام، فإن تألمت فعرف أنك في حيوية، وتذكر حكمة الله في الألم، لتعرف أنك في عيد

الحزن علامة قوة لا علامة ضعف، لأنه يشهد بإدراكنا لقيمة ما نفقد، ولا نكون كذلك إلا ونحن أصحاء، فإن حزنت فاعرف أنك بعافية وأنك في عيد

وكيف تكون العاقبة لو عشنا بلا أحزان وبلا دموع؟

إن الأحزان والدموع كانت ولن تزال من أنصبة الموهوبين والحزن العظيم لا يكون إلا من نصيب الرجل العظيم، ولو كان البكاء عيباً لنزه الله الأنبياء عن البكاء، فلم يبك يعقوب على يوسف ولم يبك محمد على إبراهيم، فإن بكيت فاعلم أنك بخير وأنك في عيد

إن كنت غنياً فتذكر أن الغنى من النعم السوابغ، فأنت كل يوم في عيد

وإن كنت فقيراً، فما عيدك؟ وهل تكون للفقراء أعياد يومية؟

افتح قلبك واسمع هذا الدرس:

الفقراء في كل زمان وفي كل مكان هم عماد المدنية، فبجهودهم تقام الصروح والشوامخ، وبأيدهم تحفر الأنهار، وتزرع الحقول، وتنشأ البساتين، فإن كنت من هؤلاء فمن حقك أن ترى أنك كل يوم في عيد

خزان أسوان من صنع يدك، كما كان برج بابل من صنع يدك، وكما كان سور الصين من صنع يدك، وما قام في الدنيا بناء وأنت غائب، يا فقيراً يعمل ليجد القوت، فأنت بجهادك مصدر العيد لمن ينعمون بالعيد، ولو عقلت لأدركت أنك كل لحظة في عيد

ولنفرض أنك كناس يكنس الشوارع ويملأ عينيه ورئتيه بالتراب في كل يوم، حتى يوم العيد، فهل تعرف نعمة الله عليك؟

تذكر أن الغبار يقذي العيون ولكنه ولا يقذي عينيك، لأن الله يحميك، وتذكر أن الغبار يقد يورث مرض السل، ومع هذا لم نسمع أن كناساً مات بالسل، فما يرضى الله بالمرض لمن

ص: 3

يحاربون المرض، كما تحاربه بالمكنسة يا حضرة الكناس، فأنت كل يوم في عيد

أيها السادة

في ظلال هذا الفهم لنعم الله ندرك أننا كل يوم بعافية، وأننا كل يوم في عيد، وأننا مسئولون في كل لحظة عن إعلان السرور بما يجود به المنعم الوهاب

الطفل يطالب أهله بحلة جديدة في العيد، لأنه لا يعرف غير الجديد، فما حاجتنا إلى حلل من القطن أو الصوف أو الحرير ونحن في حلل من العافية للجهاد في سبيل الرزق الحلال

أنا لا أرى الله خص بالشقاء جيلاً من الناس

البصير في نعمة لأنه يرى محاسن الوجود

والضرير في نعمة لأنه لا يرى مساوئ الوجود

والأصم المحروم من لطائف الأنغام صانه الله عن سماع المرذول من الاغتياب

نحن جميعاً في رعاية الله، فنحن كل يوم في عيد

لقد غلا كل شيء في أعوام الحرب، إلا الماء، لأنه أنفس موجود، والله يجود بالنفيس قبل أن يجود بالخسيس، وليس في نعم الله خسيس

أيها السادة

إن الأعياد الموسمية أعياد العوام، أما الأعياد اليومية فهي أعياد الخواص، وأنا أدعوكم إلى التأمل في نعم الله عليكم لتكونوا كل يوم في عيد

نعم الله لا تعرف شعبان ولا رمضان ولا تلتفت إلى المواقيت.

نعم الله تساق مع الأنفاس فليس لها رسوم ولا حدود، والسعادة من نصيب من يؤمن بأن الله منعم ومتفضل في جميع الأحوال

ولكن هذه الغاية لا تبدو بوضوح في كل وقت، لأن قلوبنا معرضة لغشاوات من الجهل والغرض والطمع والإسفاف

نحن نبات ظهر فوق الأرض، وأغصاننا مع هذا أطول من جذورنا، لأننا مجذوبون إلى السماء لا إلى الأرض، فماذا تريد بنا يا فاطر السماء؟

نحن منك وإليك، ولن ننحط في أي حال، فما ينحط من يؤمن بك ولو عاش في ظلمات الأدغال

ص: 4

سمعنا وقرأنا أن عندك نعيما وسعيراً، فلمن أعددت نعيمك وسعيرك؟

نحن لا نطالب بأن نكون من أهل رحمتك، فلسنا لذلك بأهل، وإنما نرجو أن تجعلنا من أهل عذابك، لنثق بالصلاحية لأن تضع أعمالنا في الميزان

العيد هو يومنا عندك، ولو في أسوأ الفروض، فمن السعادة أن نقف بين يديك مسئولين

والعيد الأعظم هو أن توقظ ضمائرنا في كل وقت لنعاني ألف حساب قبل يوم الحساب

لا عيد ولا جديد إلا إن رجونا رحمتك وخشينا عذابك، فامنح قلوبنا نعمة الخوف منك والاعتماد عليك لنشعر بأننا كل يوم في عيد

السماء في عيدك، والأرض في عيدك، والشمس في عيدك والقمر في عيدك، والنجوم في عيدك، وأنت العيد لما نجهل من المواجيد، فأنت في غضبك ورضاك عيدٌ وألف عيد، فهل تسمح يا إلهي بأن نكون بفضلك كل يوم في عيد؟

أحاديث العيد

لم نقل مع المتنبي: (عيدٌ بأية حال عدت يا عيد) فقد وصل ونحن بعافية، فلله الحمد وعليه الثناء، أدام الله علينا وعلى قرائنا نعمة الشعور بكرمه الموصول

1 -

في يوم العيد وصل خطاب من الأستاذ حافظ محمود يقول فيه إن هجوم السيد حسن القاياتي مدسوس عليه، وأنه لم يخط بقلمه حرفا مما دار حوله الجدال في الأسابيع الماضية، ويدعوني إلى كتابة كلمة ترضية يطيب بها قلب ذلك الصديق

وأقول إن المعلومات التي تضمنتها الخطابات المنشورة باسم الأستاذ القاياتي معلومات مريبة لأنها متصلة بشؤون لا يعرفها سواه، فإن لم يكن هو الكاتب فلن ينكر أنه مصدر المكتوب، وبهذا يقع عليه شيء من المسئولية

ثم أقول إنه كان يستطيع تكذيب ما نشر باسمه لأول مرة فينحسم الخلاف قبل أن يطول، ولكنه سكت نحو خمسة أسابيع، ثم بدأ في التشكي من العدوان عليه، وهذا من أغرب ما يقع في معاملات الناس

وأنا مع هذا أعتذر للصديق عما بدر مني في مساجلته، وأعلن أني أعتز بصداقته كل الاعتزاز، وأني لن أسمع فيه كلاما ولو نشر بنفسه في مغاضبتي ألف خطاب

وهنا أذكر مذهبي في معاملة رجال الأدب ورجال السياسة، وهو مذهب يستحق التنويه

ص: 5

ويصلح للاقتداء، فما ذلك المذهب؟

خلاصة هذا المذهب أني لا أتكلم عن أهل الأدب والسياسة بما يشبه النقد في أي مجلس، لأن الكلام عرضة للتزيد والتحريف، وإنما أكتفي بما يخطه قلمي في الجرائد والمجلات، إن طاب لي أن أناوش أحد الرجال

وأذكر أيضاً أني أعيش في عزلة بعد الرجوع من عملي إلى بيتي، فما يحتاج إلى غشيان الأندية غير من يعيشون بمنجاة من متاعب الواجبات، وأنا أحمد الله الذي تفضل فأكثر من أعبائي في حياتي، بحيث لا أجد فرصة لمسامرة المعارف والأصدقاء، فمن زعم أنه رآني وأني حدثته عن فلان أو علان بيكيت أوكيت فهو من الكاذبين

2 -

من عادتي أن أزور قصر جلالة الملك في يوم العيد لأتشرف بتقييد اسمي، ولأرى من كبار الرجال من لا يتسع الوقت لرؤيتهم في غير ذلك الجناب

وقد تأخرت قليلا في هذه المرة فلم أصادف غير الدكتور هيكل باشا والأستاذ فؤاد باشا سراج الدين، مع حفظ الحق لبقية من رأيت هنالك من رجال الأدب والبيان

وضاعت الفرصة في لقاء النقراشي باشا، ولو رأيته لاعتذرت عن ضياع حظي من زيارة داره في رمضان، مع أنه من جيراني بمصر الجديدة، ومع أن زواره يتزودون بأكرم زاد من أطايب الأحاديث، بفضل المجلس الذي ينعقد بداره في أمسية رمضان، كما كان الحال في أكثر البيوت قبل الزمن الجديد، زمن السهر في الأندية والقهوات

3 -

كان يجب أن أزور أهلي وأقربائي في سنتريس، ولكني رجعت غضبان، غضبان من شؤون لا تغضب إلا من يكون في مثل حالي من حب البر وبغض العقوق

وقضى الزحام باليأس من الظفر بمكان في إحدى السيارات، فتفضل صديق بتوصيلي إلى القناطر الخيرية لأركب القطار من هناك، ولكن القطار تحرك قبل وصولي بدقائق، ولا بد من الانتظار نحو ثلاث ساعات، فماذا أصنع؟

وقفت على قنطرة الرياح التوفيقي مع الواقفين وهم عشرات أو مئات في انتظار السيارات، فماذا أصنع؟

فكرت في مروءة أصحاب السيارات الخصوصية، وقد يكون فيهم من يعرفني، فكنت أقول كلما مرت سيارة خصوصية:(خذوني معكم) ولكن أين من يسمع؟

ص: 6

واستمعت سيارة لندائي، وبدت منها يد لطيفة كأنها الغرام في ليلة عيد، فمضيت وركبت وأنا لا أصدق أنني وصلت!

ولكن أين صاحب السيارة؟

لقد نزل للبحث عني، ثم تاه في غمار تلك الخلائق، فهتفت صاحبة المعصم تعال تعال فالدكتور وصل!

وبعد التحيات المعروفة في مثل هذه الظروف مضت السيارة وأنا لا ألتفت إلى الوجه الذي يشع نوره بمثل ما تشع الشمس عند الأصيل، وهل يليق بي أن ألتفت إلى وجه سيدة قد تكون زوجة هذا الرفيق؟

- حيها يا دكتور بكلمة

- ومن أحي؟

- هذه نور

- أي نور؟

- نور الهدى بطلة (فلم جوهرة)

وألتفت فإذا فتاة لطيفة في لون الصهباء، لم يشعشع وجهها بطلاء، فعرفت كيف كان العرب يصفون المرأة الجميلة بأنها صفراء

هل رأيتم جمال الاصفرار في حيوية اللون؟

ودار الحديث حول التمثيل والممثلين فقلت: إحرصي يا بنيتي على الانتفاع بعبقرية الأستاذ يوسف وهبي، فهو أعظم فنان في هذا الزمان

قال صاحب السيارة: أهذا رأيك في الأستاذ يوسف وهبي؟

قلت: هو رأيي

قال: وتسمح بتدوينه في مجلة الرسالة؟

قلت: وفي جميع المجلات، وسأخصك بحديث

قال: أرجوك أن تغفل اسمي، لأسباب لا أملك عرضها عليك وصلنا إلى القاهرة لنفترق، ولأبحث عن الأسباب التي توجب أن أغفل اسم ذلك الصديق، فما تلك الأسباب؟

كانت هنالك وليمة عيدية في (عزبة الصباح)، وكان في الوليمة فنانون وفنانات، وكانت

ص: 7

(نور الهدى) في العودة من نصيب سيارة هذا الرفيق

وعرفت بعد لأي أن مجلة الرسالة أثيرة عند زوجة صاحب السيارة، وأنها قد تغضب عليه إن عرفت من حديثي بمجلة الرسالة أنه رأى (نور الهدى) في يوم عيد

سأكتم اسمك يا صديقي، لئلا تثور زوجتك، فلن أقول أنك صاحب جريدة يومية، ولن أقول أنك كاتب من الطراز الأول، ولن أقول إنك المثال في هندمة الأسلوب، والأساليب تهندم كما تهندم الثياب

إن زوجتك لن تعرفك من حديثي، لأني أكره النميمة، فنم بعافية، وإن ارتابت زوجتك في بشاشة وجهك فحدثها أنك طوفت بسيارتك في شوارع (مصر الجديدة) يوم العيد

إن التلاميذ يخفون عن آبائهم خطابات نظار المدارس، فأخف عن زوجتك هذا العدد من مجلة الرسالة، وقل أنه ضاع في البريد، بسبب ازدحام الرسائل في أيام العيد، أحياكم الله إلى ألف عيد!

زكي مبارك

ص: 8

‌4 - حكاية الوفد الكسروي

لأستاذ جليل

3 -

يقول النعمان لكسرى:

(. . . فأما عزها - يعني العرب - ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك، وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل. . .)

وهذا قول لا يقوله عامل لمعلمه، ولا وال لموليه. وكيف يلغو بمثله وجند كسرى في بلاده وفي اليمن يجوس خلالها، والدرفس يخفق فوق الرؤوس

إنما كان النعمان شرطيا عند كسرى يصد المدلغفين والقراضيب عن اجتياز التخوم. كان أمير (الحيرة) لا ملك (الجزيرة) يدعو - آمرا - هذا من اليمن وذاك من نجد وذلك من تهامة وغيرهم من غيرها فيبادرون إليه، ويمثلون بين يديه، ويقول: قد سمعت من كسرى كيت وكيت ففدوا عليه (فإذا دخلتم نطق كل رجل بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه)

لم يكن النعمان هناك - كما زوقه المزوق المنمق. ولما غضب عليه كسرى - والسبب الحق للغضب مجهول - ضاقت عليه الأرض، ولم ينفعه أو ينجده مثرثر من جماعة (الوفد)(وأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد منهم يقبله)(وأراد طيئا على أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه فأبوا ذلك عليه، وقالوا له: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا إلى معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به)(غير أن بني رواحة بن قطيعة بن عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك، لمنة كانت له عندهم، قال ما أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى)، ثم (أتى هانئ بن مسعود فاستودعه ماله وأهله وألف شكة، ويقال: أربعة آلاف شكة، والشكة السلاح كله) وهذا قول أبي الفرج في الأغاني. والطبري في تاريخه يقول: (والمقلل يقول: كانت (400) درع، والمكثر يقول: كانت (800)) ومضى إلى سيده كسرى (فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى سجن كان له بخانقين فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه)، وقيل (بل مات في ساباط في حبسه) وقيل (ألقاه تحت أرجل الفيلة حتى مات)، وقيل (لم يزل محبوساً مدة طويلة، وإنما مات بعد ذلك بحنين قبيل الإسلام) (فلما قتل كسرى النعمان استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان

ص: 9

عليه النعمان) قال أبو الفرج: (وغضبت له (أي للنعمان) العرب حينئذ، وكان قتله سبب وقعة ذي قار)

والعرب لم تغضب لمصير هذا الأمير المسكين، ولم يكن قتله سبب تلك الوقعة، وإنما سببها - إن ثبتت - (أن كسرى بعث إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر ابن وائل. فأمر كسرى إياسا أن يضم ما كان للنعمان، ويبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها، فأبى هانئ أن يسلم خفارته، فلما منعها غضب كسرى، وأظهر أنه يستأصل بكر ابن وائل، وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل فقال لكسرى:

يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟

قال: نعم

قال: أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له:(ذو قار) تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم. فترجموا له قوله (تساقطوا تساقط الفراش في النار) فأقرهم

وبعث إلى هانئ وجماعته جنوداً عربيين وجنوداً فارسيين، وكانت تلك الوقعة، إن كانت

وقد عزوا إلى رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) هذا القول: (هذا يوم (أو ذلك يوم) انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا. أو اليوم انتصفت العرب من العجم) وهم الإخباريون وغير الإخباريين يصوغون كما يحبون ويشتهون

في الأغاني: كانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر، ورسول الله بالمدينة. فلما بلغه ذلك قال: هذا يوم الخ

وهنا شيء يقال: إذا كانت التركة (السابق ذكرها) كما أحصوا (400) درع أو (800) درع فنحن بين أمرين: إما أن يكون الراوون قد رأوا ما رووا في المنام، وكثيراً ما بنيت أشياء بل ديانات على المنامات - وقصة قسطنطين مشهورة - وإما أن يكون كسرى قد جن جنوناً كبيراً حتى يبعث تلك الجيوش وينفق المال الكثير للاستيلاء على حقير.

قلت من قبل: إن السبب الحق لغضب كسرى على عامله النعمان مجهول، ولكن صائغاً بارعاً (لله دره) صاغ لنا خبراً طريفاً غريباً في سبب الغضب، طرافته وغرابته تدعوان

ص: 10

إلى روايته:

(كانت لملوك العجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك، غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب، ولا يظنونها عندهم، ثم إنه بدا للملك في طلب تلك الصفة، وأمر فكتب بها إلى النواحي، ودخل إليه زيد بن عدي وهو في ذلك القول، فخاطب فيما دخل إليه فيه، ثم قال: إني رأيت الملك قد كتب في نسوة يطلبن له وقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عارفاً، وعند عبدك النعمان من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. . . فابعثني وابعث معي رجلاً من ثقاتك يفهم العربية حتى أبلغ ما تحبه. . . فبعث معه رجلاً جلداً فهماً فخرج به زيد. . . حتى بلغ الحيرة، فلما دخل عليه (على النعمان). . . قال: إنه (يعني الملك) قد احتاج إلى نساء لنفسه وولده وأهل بيته، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك فقال: ما هؤلاء النسوة؟

فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها. . .

(معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء وطفاء كحلاء دعجاء حوراء عيناء قنواء شماء برجاء زجاء، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح الإقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعاً للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، غريزة النفس، لم تغذ في بؤس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، تستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيع اللسان رهوة الصوت ساكنته، تزين الولي، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست)

. . . فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشقت عليه، وقال لزيد والرسول يسمع: أما في

ص: 11

مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟

فقال الرسول لزيد بالفارسية: ما المها والعين؟

فقال له بالفارسية: (كاوان) أي البقر. فأمسك الرسول، وقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به. ثم كتب (النعمان) إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي. . . فلما رجعا إلى كسرى. . . قال للرسول: وما قال؟

فقال الرسول: أيها الملك، إنه قال: أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا. فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع؛ لكنه لم يزد على أن قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا ثم صار أمره إلى التباب. وشاع هذا الكلام حتى بلغ النعمان، وسكت كسرى أشهراً على ذلك، وجعل النعمان يستعد ويتوقع حتى أتاه كتابه أن أقبل، فإن للملك حاجة إليك. فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه ثم لحق بجبل طي. . .)

وقد روى ما نقلناه مختصرين أبو الفرج في (أغانيه) في أخبار عدي بن زيد ورواه ابن جرير الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) خبراً تاريخاً لا ريب عنده فيه. وهذه الأسطورة النعمانية مثل الأسطورة البراقية، أحدوثة أخت البراق القائلة أو المقولة:(ليت للبراق عيناً فترى) القصيدة المثيرة المشهورة

(ن)

ص: 12

‌5 - نشأة المسرح الإنجليزي

(معلومات طريفة كثيرة عن نشأة هذا المسرح)

للأستاذ دريني خشبة

أشرنا في الفصل الأول من هذه الفصول عن نشأة الدرامة الإنجليزية إلى المسرح المتحرك (المتنقل) أو ال ونتكلم في هذا الفصل عن نشأة الفرق التمثيلية، ثم عن المسارح البدائية وأول ما عرفت إنجلترا منها. وقد قدمنا أن رجال الكنيسة هم الذين اضطلعوا أول الأمر بتمثيل الروايات الإنجيلية والدرامات القديسية، وأنهم أصحاب الفضل في تربية الذوق المسرحي وطبعه في وعي الجماهير حتى انتقل زمام التمثيل من أيديهم إلى أيدي رجال النقابات وما قامت به تلك النقابات من مجهود مشكور في تشجيع المؤلفين والممثلين المحترفين، ثم نوهنا بما كان لرجال البلاط الإنجليزي والأمراء والنبلاء وأعيان البلاد من فضل في الأخذ بيد هذا الفن الناشئ ومد رجاله بما يفتقرون إليه من المال الذي لا ينجح مشروع بدونه. ولقد نشأ الاحتراف في المسرح الإنجليزي من ناحيتين، الأولى هي ناحية صبيان الكنائس الذين كان يتألف منهم الخورس أو المنشدون - وقد عنى بتدريب هؤلاء الصبيان على التمثيل منذ نعومة أظفارهم لكي يتفرغوا لأداء الأدوار التمثيلية في مختلف الروايات خصوصاً بعد أن أصبح إقبال الجماهير على مشاهدة التمثيل إقبالاً رائعاً، وما حدث نتيجة لهذا الإقبال من استغلال التمثيل استغلالاً اقتصادياً كانت أول موارده تلك المزادات التي أشرنا إليها سالفاً، والتي كانت تدر على النقابات الأرباح الطائلة. من هنا رؤى انقطاع هؤلاء الصبيان لهذه الحرفة الجديدة التي جمعت بين شرف العمل وشرف الكسب مع صلتها المتينة بالأدب الإنجليزي الذي كان وما يزال نوط العزة على صدر كل أديب في إنجلترا. أما الناحية الثانية التي نشأ عنها الاحتراف فهي تلك النقابات التي تكلمنا عنها آنفاً. هذا، وقد تألفت بعد ذلك جماعات من أولئك المحترفين كانت باكورة (الفرق التمثيلية) في إنجلترا، وكانت كل جماعة تتمتع برعاية أحد النبلاء حتى لا تقع تحت طائلة قانون (المتشردين!) وذلك لكثرة تقلبهم في البلاد، وتنقلهم من قرية إلى أخرى، ولأن الحكومة الإنجليزية لم تكن قد اعترفت بعد اعترافاً رسمياً بهذه الحرفة الجديدة، فكان أفراد الفرقة من هذه الفرق يجيئون ويروحون تحت اسم: (خدم فلان من اللوردات أو الدوقات أو

ص: 13

رجال البلاط!) حتى يكونوا بنجوة من معاكسات رجال الإدارة (!) ومشاكستهم، فهذه فرقة (خدم الأيرل أوف ليستر)، وتلك فرقة (خدم البلاط الملكي)، وهذه فرقة (خدم دوق أوف سومرست)، وهكذا. . . والحقيقة أنه لم تكن ثمة أية علاقة بين هذا الدوق أو ذاك الأيرل، وبين الفرقة التي انتحلت لنفسها رعايته انتحالا. ولقد كان المسرح الأول الذي تؤدي فيه الدرامة، هو إما بهو من أبهاء البلاط وإما رواق من أروقة قصور الأمراء أو النبلاء أو عظماء الشعب، فإن لم يوجد هذا أو ذاك ففي بهو من أبهاء الفنادق، أو في أحد أروقة جامعتي أوكسفورد وكمبردج. على أن أبهاء الفنادق كانت أحفل الجميع بالتمثيل المنتظم المستديم - في جميع أيام الأعياد بالطبع - لأنها لم تكن أبنية خاصة كقصور الملوك أو الأمراء مثلاً، ولذا كانت أقرب إلى الارتياد الحر وأيسر إلى أفراد الشعب من غيرها. وكانت فنادق المدينة تبنى كلها في موضع واحد منها حول ميدان، أو ساحة كبيرة تنتظر فيها العربات والدواب، وما إلى ذلك من وسائل النقل والحمل؛ فكانت شرفة الفندق الأوسط تستعمل مسرحاً، ويقف النظارة من أفراد الشعب في الساحة أو الباحة أو الميدان. أما السفر من نزال الفنادق فكانوا أسعد حالاً؛ إذ كانوا يجلسون في عظمة وإدلال وأبهة في شرفات غرفهم فوق الأرائك والكراسي الفخمة، حيث يطوف عليهم الخدم بالأطايب والأشربات. ولم تكن المناظر المسرحية قد عرفت بعد، بل كانت تحل محلها (سبورة)! يكتب عليها بالخط الكبير اسم المنظر الذي يجب أن يتوهمه النظارة توهما، فيكتب مثلاً:(هذه قلعة جلوم!) أو (هنا غابة آردن!) وهكذا. . .

أما كيف أنشئ المسرح الأول فلذلك سبب عجيب مضحك في آن معاً. . . ويجب قبل إيراده الرجوع قليلاً إلى التاريخ الاجتماعي لإنجلترا، وإلى هذه العصور التي كانت (مسز جراندي!) رمز الحفاظ والتمسك بأهداب التقليد والآداب المرعية تتحكم في المجتمع البريطاني تحكما جباراً لا يسهل الفكاك منه. . . ويجب كذلك أن ننذكر ذلك الروح الطهرى الذي كان يسود الحياة في المدن الإنجليزية عامة، ولندن - أم القرى! - على وجه الخصوص. . . ذلك الروح المتزمت الرجعي الذي كان يضيف التمثيل إلى شعبذات المهرجين ومساخر الحواة وأكلة الثعابين ومروضي الوحوش ومراقصي الدببة والقرود ومصارعي الثيران، ومن إلى هؤلاء جميعاً من سائر البهاليل (!!). . . هذا الروح الطهرى

ص: 14

هو الذي دفع محافظ لندن إلى محاربة التمثيل والممثلين بالقوانين. . . فأصدر تشريعاً صارما يخطر على رجال النقابات والفرق التمثيلية غشيان أبهاء الفنادق إلا بتصريح خاص - قلما كانوا يحصلون منه على هذا التصريح - كما حضر عليهم التمثيل في الميادين والطرقات العامة أو المتنزهات التي ما جعلت في زعمه إلا للراحة والترفيه عن الشعب اللاغب المتعب من عناء العمل؛ وكذلك حضر عليهم التمثيل مطلقاً أيام الآحاد. . . ولم يشأ رجال الفرق أن يشاغبوا جبروت هذا التشريع التعسفي، بل آثروا السلامة، وانتقلوا بقضهم وقضيضهم إلى الضفة الجنوبية من نهر التيمس، حيث لا سلطان لهذا المحافظ الجاهل ولا لتشريعه الخانق عليهم. وهناك استأجر جيمس بربيدج قطعة من الأرض في بلاك فرايرز لمدة إحدى وعشرين سنة وأقام عليها (تركيبة!) من الخشب سنة 1576 أطلق عليها اسم (التياترو) فكان هذا أول المسارح الإنجليزية التي مهدت لأعظم مسارح العالم

ثم أنشئ قريباً من هذا المسرح فيما بعد مسرح الكرتين (الستار الذي اشتغل به الشاعر الكبير بن جونسون ممثلاً بسيطاً في صدر شبابه. ولم يكن الكرتين يتمتع بالسمعة الطيبة التي كان يتمتع بها المسرح الآخر، بل كانت العلية تصد عنه وتعتبر الذهاب إليه نقيصة أدبية. . . والظاهر أ، هـ لم يكن يعرض إلا الدرامات الثانوية (روايات الدرجة الثالثة!)، وذلك بالرغم من أنه أخرج درامة شيكسبير الخالدة (روميو وجولييت) سنة 1596. وكانت أجرة الدخول في هذا المسرح بنساً واحداً يضاف إليه بنس آخر لمن أراد كرسياً في الأبهاء أو فوق المسرح

ومن المسارح الأخرى التي أقيمت بعد هذين المسرحين الروز (الوردة) والسوان (البجعة)، قريباً من السوان كان يوجد ملعب البير جاردن حيث كان الناس يستمتعون بمشاهدة مروضي الوحوش، وتقاتل هذه الوحوش نفسها ضد بعضها. . . أما مسرح السوان فكان يمتاز من مسرح الجلوب العظيم (الذي سيلي وصفه) بما كان فيه من مسرح إيضافي لتمثيل الروايات التي من طراز (هملت)، وحجرة نوم للروايات الت يمن طراز عطيل حيث تنام ديدمونه، وكان به شرفة لتمثيل روميو وجولييت، كما استعملت فيه الستار لأول مرة لقسمة المسرح وذلك لتبديل المناظر. وكان يحتوي غرفة للممثلين خاصة تتصل

ص: 15

بالخشبة بباب فلا يراهم النظارة حين ينتهون من أداء أدوارهم - ومن الظريف أن حجرة الممثلين هذه كانت بأعلى التياترو!، وكان لها سلم لولبي لكي لا يشغل حيزاً كبيراً، كما كانت إلى جانيها حجرة المؤذنين الذين يدقون الطبول إيذاناً ببدء التمثيل. وكان الصوان كبيراً جداً بحيث يتسع لثلاثة آلاف من المتفرجين!

ونعود إلى المسرح الأول - التياترو فنذكر أنه لما رفض صاحب الأرض تجديد عقد الإيجار، اضطر بربيدج إلى فك أخشاب مسرحه ونقلها مع جميع أدواته الأخرى إلى الشاطئ الآخر من النهر، في سوثوارك حيث أنشأ مسرح الجلب العظيم سنة 1598 - وكان عمر شيكسبير إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة بينما كان عمره عند إنشاء المسرح الأول اثنتي عشرة سنة فقط

أما هذا المسرح الثاني (الجلوب)، فقد كان من خارجه سداسي الأضلاع، أما من الداخل فكان مستديراً، ولم يكن مسقوفا إلا من فوق أبهائه التي كانت تذكر بأبهاء الفنادق، وكانت هذه مغطاة بنوع من القش المعروف عندنا بالسمار، وهو الذي تصنع منه الحصر؛ أما البت - أي خشبة المسرح، فقد كان موضعها في الوسط على ارتفاع أربعة أقدام، ولم تكن حولها مقاعد من نظارة الذين كان شيكسبير يسميهم وكان عليهم أن يقفوا طول وقت التمثيل - أما نظارة الأبهاء (البناوير والألواج) فقد كانت لهم مقاعد خشبية، كما كانت توجد مثل هذه المقاعد أيضاً فوق خشبة المسرح نفسها، وكان فرق ما بين الواقفين والجالسين هو أن يدفع هؤلاء ستة بنسات أكثر على أن يسمح لهم بشرب الجعة (البيرة) والتدخين بالغلايين. وكانت هذه الطبقة المنتفخة الممتازة تسمى طبقة ال وكان منها عدد من الشباب الظريف المثقف يجلس هناك مجلس الصحافي المسرحي، لينقد المناظر والإخراج وأداء الممثلين في فترات الاستراحة بين الفصول. وكان التمثيل يبدأ عادة حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، وكانت تسبقه ثلاث دقات تنبيهية بالطبلة النحاسية (الترمبيته) وكانت البرامج تطع بالمداد الأحمر إذا كانت التمثيلية مأساة، وإلا فبالمداد العادي. ولم تكن هناك أية مناظر في أول الأمر. ولم تكن ثمة أية عناية بالتوزيع الضوئي. وكانت السبورة أو لوحة الإعلانات تقوم مقام المناظر بكتابة أسمائها عليها كما ذكرنا. ولشارلز لامب في ذلك تسجيل أدبي رائع من شعره الظريف. وكانت الأدوار النسائية تسند إلى ولدان من

ص: 16

ذوي الجمال في الجسم والوجه والصوت. وكان لكل فرقة بهلول (بلياتشو!) يشعبذ في فترات الراحة بين الفصول، فكان أحياناً يغني أو يشهر ببعض الشخصيات التي يثير التشهير بها كثيراً من الضحك بين النظارة، كما كان يعلق بأسلوب فكه على أهم حوادث اليوم. فإذا انتهى الممثلون من آخر فصول الدرامة اجتمع كل أفراد الفرقة في ركن من أركان المسرح، ثم ركعوا تحية للملك والملكة، وهو ما يشبه السلام الملكي اليوم. . .

هذا، وقد بدئ باستعمال المناظر المتحركة بعد النهضة الإصلاحية، وكان الفضل في استعمالها لسير وليم دافنانت وكذلك حل النساء محل الولدان في تمثيل الأدوار النسائية سنة 1661. ذاك وقد كان لكل مسرح من المسارح الإنجليزية علامة مسجلة؛ فعلامة الجلوب صورة للبطل اليوناني الخرافي الجبار هرقل حاملاً بيديه المريدتين كرة أرضية، وكان على مقربة من الجلوب مسرح البلاك فرايرز، وكان شكسبير يؤلف دراماته لهذين المسرحين خاصة، كما كان يساهم في التمثيل وفي الأرباح على السواء. وقد كان الجلوب هو المسرح الصيفي، أما الآخر فكان مسرح لندن الشتوي العتيد، وبذلك امتاز عن الجلوب الذي كانت المسارح الأخرى تنافسه منافسة شديدة، ولا سيما مسرح الفورشون (الحظ) الذي أنشئ سنة 1599 لمنافسة شكسبير. وكانت كل هذه المسارح الصيفية ما عدا الفورشون قائمة وسط مستنقعات كبيرة، وكان المتفرجون يصلون إليها فوق جسر طويل. وقد حدث في سنة 1613 أن شب حريق كبير التهم المسرح العتيد كله، ولم يلبث صاحبه أن جدده في السنة التالية. وقد انتهز الفرصة فاستبدل بالخشب الملاط، وبقش السار الإردواز، واصطنع خشبة المسرح من ألواح السنديان، كما خص الممثلين بغرفة كبيرة خلفية يستجمون فيها، وزاد في عدد الأبهاء (البناوير) فجعلها ثلاثة صفوف بدل صف واحد. وقد كلفه المسرح الجديد ثمانين وثمانمائة من الجنيهات قيمتها الآن ثمانية آلاف. ذاك وقد كثر عدد المسارح في أواخر عهد الملكة اليزابث داخل لندن نفسها، فكان ثمة مسرح الكوك بت أو الفونكسن ومسرح الردبول. . الخ. وقد أحصيت هذه المسارح فكانت أحد عشر مسرحاً. على أن المنافسة الشديدة الحق كانت بين اثنين منها فقط، وهما: الجلوب وكانت تحت رعاية اللورد تشمبرلن، والفرشون وكان تحت رعاية اللورد أدميرال؛ وكانا كلاهما يتمتعان برعاية الملك المباشرة. وكان من هذه المسارح ما هو خاص وما هو عام. وكانت

ص: 17

الهيئة التي تشرف على المسارح الخاصة، مثل الكوك بت والسالسبري والبلاك فرايرز، هيئة منتقاة يراعى في اختيارها شرائط لا داعي لذكرها هنا. وكانت المسارح الخاصة على العموم أصغر بكثير من المسارح العامة كالجلوب والفرشون والردبول، كما كانت مسقوفة دائماً ليستمر التمثيل فيها طول العام، بعكس المسارح العامة التي كانت مكشوفة الوسط لاتساعها، ولم يكن يستمر التمثيل بها غير أشهر الصيف، من ثلاثة أشهر إلى خمسة. أما في الشتاء، وهو سبعة أشهر تقريباً، فقد كان الضباب الكثيف يحول دون التمثيل فيها، خصوصاً والمشاعل لم تكن قد استعملت بعد. وقد اقتبست المسارح الإنجليزية في أوائل القرن السابع عشر وسائل المسرح الفرنسي الآلي في إخراج المناظر المختلفة. وكانت وسائل فجة غير رائعة، وكانت تستعمل في إبراز الغابات أو القصور أو المدن، كما أخذت عن المسرح اليوناني القديم طريقة الستار الأسود في أقصى المسرح إذا كانت التمثيلية مأساة. . . على أن هذا النقص في الإخراج كانت تستره مكتبة المسرح، إذ كان لكل مسرح مكتبة محترمة تتألف من أصول الدرامات التي يقوم بعرضها، ثم من مئات من أمهات الكتب التاريخية والمسرحية والأدبية، ولم تكن المكتبة حبساً على الممثلين، بل كان الشعب ينال منها نصيباً لا بأس به من الاطلاع. وقد تضاعفت هذه المكتبات بعد نشاط الطباعة وتقدم وسائلها الحديثة، وصار المؤلفون المسرحيون يعنون بطبع دراماتهم والوقوف على طبعها بأنفسهم. ولم يكن أحسن مسارح لندن يشتري من أحسن هؤلاء المؤلفين حق تمثيل إحدى دراماته بأكثر من ثمانية جنيهات (تساوي الآن ثمانين!)، وكان أصحاب الفرق يستغلون المؤلفين استغلالا دنيئاً، فكان المؤلف الفقير يقترض من مدير إحدى الفرق مبالغ تافهة على أن يقدم بها درامة أو درامتين، فإن عجز عن السداد دخل الربا بين الطرفين، وظل المؤلف مستعبداً إلى الأبد. على أن عدداً قليلاً من المؤلفين استطاع أن يقف من هؤلاء المديرين موقفاً حازما، إذ استطاعوا أن تكون لهم حصتهم في ميزانية المسرح، وعلى رأس هؤلاء مارلو وبن جونسون شكسبير

وكان النساء محرومات من غشيان المسارح بادئ الأمر، فلما خفت وطأة المسز جراندي، أخذن في الاختلاف إليه حتى أصبحن عنصراً هاما فيه. . . ممثلات ونظارة!

(يتبع)

ص: 18

دريني خشبة

ص: 19

‌المشكلات

7 -

اللغة العربية

للأستاذ محمد عرفة

لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟

لقد استغللنا ما استنبطناه من علم يتعلق بتعليم اللغة في تعليم اللغة العربية وفي تعليم اللغة الإنكليزية وفي تعليم اللغة الفرنسية وأصبح في استطاعتنا أن نتقي الإخفاق في تعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية، وأن نتقي هذا الرسوب الذي يمني به تلاميذنا في آخر كل عام دراسي في هاتين اللغتين والذي يبلغ في بعض السنين 78 % ووهبنا للتلاميذ أعماراً بقدر الأعوام التي وقيناهم فيها الرسوب والتي كانوا يرسبون فيها لولا أخذهم بهذا المنهج الجديد، ونفينا عنهم وعن أهاليهم ذلك الحزن الذي كان يستولي عليهم في آخر كل عام دراسي بهذا الرسوب. ووفرنا على أهاليهم تلك الأموال التي كانوا ينفقونها في إعادة الأعوام التي رسبوا فيها. ومن ذلك يعلم أن الباب الواحد من العلم إذا استغله أهلوه كان عظيم البركة جليل النفع، وربما كان أجدى على الأمة والأفراد من كثير من الخيرات المادية

ولسنا نستغل هذا الباب من العلم في تعليم اللغات فحسب بل سنستغله في كثير من مشكلاتنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية فيرى كيف يعظم نفعه، وتجل بركته، وكيف يجلب من الخير مالا يدركه الوهم، ولا يحصيه العد

وهذا وأمثاله هو الذي جعلني أومن بالعلم وأعظمه وأجله، وأرى أنه ما من خير للأفراد والأمم إلا وهو مصدره، وما من شر يصيب الأفراد والأمم إلا وللجهل يد فيه ظهرت أو خفيت

لعل قائلاً يقول: إنك آمنت بالملكة في كسب اللغة العربية إيماناً لا تزعزعه الشكوك، وظننت أنها تفيد في كسب العربية كما تفيد في كسب اللغة الإنجليزية والفرنسية، ولم تفطن إلى ما بين اللغة العربية وسائر اللغات من فارق

إن اللغة العربية كثيرة الأحكام، متشعبة الفروع، فلا تستقل الملكة بضبط هذه الأحكام

ص: 20

الكثيرة، ولا يضبطها إلا العلم المفصل بالقواعد والقوانين، وسأضرب مثلاً (لا) العاملة عمل إن، فإن شرط عملها هذا العمل

1 -

أن تكون نافية

2 -

وأن يكون المنفي الجنس

3 -

أن يكون نفيه نصاً

4 -

ألا يدخل عليها جار

5 -

أن يكون اسمها نكرة

6 -

أن يكون متصلاً بها

7 -

أن يكون خبرها نكرة - فإن كانت غير نافية رفع ما بعدها، وإن كانت لنفي الوحدة عملت عمل ليس نحو لا رجل قائماً بل رجلان، وإن دخل عليها الخافض خفض ما بعدها نحو جئت بلا زاد، وإن كان الاسم معرفة أو منفصلاً منها أهملت نحو لا الدار دار ولا الجيران جيران، ونحو لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون

هذه أحكام كثيرة ولا يسعف بها إلا معرفة القواعد، فأما الملكة فلا تستطيع الاهتداء إلى هذه التفاصيل

ونحن نقول لهذا القائل إنك أسأت الظن إذ ظننت أن الملكة لا تهتدي إلى الفروق الخفية والمداخل المتشعبة، أنها أهدى من القطا، وإن الإنسان يطمئن إليها في الهداية إلى ما يشتجر من الأحكام. إنها تهدي المرء إلى الصواب الجاري على القواعد وإن لم يعرف القواعد. أنظر إلى الهمزات في علم الرسم كيف يكتب المرء يئد على ياء، ويأمن على ألف، ويؤمن على واو، تهديه ملكته التي اكتسبها بالمرانة والتكرار وإن لم يعلم القاعدة أو لم يستحضرها

وكذلك الألفات ما يكتب منها ألفاً وما يكتب منها ياء، فيكتب المرء رمى بالياء ودعا بالألف كأن في منطقة اللاشعور فينا عالماً يعلم أن رمى أصلها الياء فتكتب ياء، ودعا أصلها الواو فتكتب ألفاً، ويكتب أغزى بالياء كأن عالماً فينا يعلم أنها وإن كان أصلها الواو إلا أنه لما قيل فيها أغزيته كتبت ياء

يعجب المرء كيف تهدي الملكة إلى الحق كأنما تستملي من قواعد مكتوبة، وتمتاز الملكة

ص: 21

عن القواعد بالسرعة التي لا يبلغها الرجوع إلى القواعد. ولقد بلغ من اهتداء الملكة أنها تكتب المطرد على حسب القاعدة، والشاذ على ما قيل من شذوذ، فهي تكتب داود بواو واحدة، وتكتب بعمرو بواو بعدها، وتكتب مائة بألف زائدة وإن لم تكن في هجائها

فإذا كانت هداية الملكة ما ذكرنا في الكتابة فلا عجب أن تهدي مثل هذه الهداية في الكلام

قال أبو الفتح عثمان بن جني م392 في كتابه الخصائص: سألت الشجري يوما فقلت له: يا أبا عبد الله! كيف تقول: ضربت أخاك، فقال: كذاك. فقلت أفتقول ضربت أخوك؟ قال لا أقول أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً؟ فقال: إيش ذا؟ اختلفت جهتا الكلام. نقل أبو الفتح هذه الحكاية في باب عنوانه أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها. واستدل بها على أن العرب كانت تعرف قواعد النحو والصرف، ورأى أن ما قاله الأعرابي نظير قول النحاة: صار المفعول فاعلاً

وليس ما ذهب إليه ابن جني من الاستنتاج صحيحاً، فهذا العربي لم يكن يرجع إلى القواعد، وإنما كان يرجع إلى ملكته يستشيرها ويستهديها فنبت ملكته عن ضربت أخوك، ولم تنب عن ضربني أخوك، كما تنبو ملكة الكاتب عن كتابة الهمزة في يئد بالواو وفي يؤمن بالياء، وإن لم يعرف القاعدة ولم يستشرها

لعلنا بذلك قد طمأنا الذين يشفقون على اللغة من أن يكلوها إلى الملكة، ويرون أن الملكة لا تكفي هادية، لأن مذاهب العربية مختلطة متشعبة قريب بعضها من بعض، لا يفرق بينها إلا العقل الواعي والعلم البصير. وقدمنا من الأدلة ما يدل على أنهم إذا وكلوها إلى الملكة فقد وكلوها إلى حفيظ أمين

فليتأمل هؤلاء الذين يصدون - أو سيصدون - عن طريقتنا فيما نحاول، أننا نحاول كسباً جديداً للغة العربية، فبدل أن نقتصر على علم قواعدها تكون لنا ملكة وهيئة راسخة من هيئات نفوسنا وجزءاً من كياننا، وتكون هذه الملكة دعامة لفهم اللغة وتذوقها، ولفهم قواعدها وأصولها دون جهد أو عناء

ليعلم هؤلاء الذين يحبون النحو والصرف وقواعد البلاغة، أننا نحب النحو والصرف وقواعد البلاغة أكثر منهم حين ندعو إلى تعليم اللغة بأسلوب يكون ملكة اللغة في نفوس

ص: 22

المتعلمين، لأننا نريد أن نجعل قواعد النحو والصرف والبلاغة فوق العلم بها ملكات لنا مختلطة بلحومنا ودمائنا غائصة في أعماق نفوسنا وداخلة في منطقة اللاشعور فينا

لقد ظفرت اللغة العامية مع عدم الاحتفال بها والعناية بتعليمها بأن صارت ملكة في النفوس، فغلبت اللغة العربية التي لم تظفر بذلك إلى الآن، وكانت لغة البيت والشارع والمدرسة ولغة الدرس والخطاب ولغة الأغاني والمسرح والخيالة، وليس للغة العربية حظ في شيء من ذلك إلا أنها لغة الكتابة، والذين يكتبون بها قليل، وهذا القليل لم يكتسب الكتابة من القواعد وتعلمها، إنما اكتسبها من طريق الحفظ والقراءة وتذوق الكثير من بليغ المنثور والمنظوم ومن مزاولة الكتابة والكلام بها، حتى اكتسب نماذج ذهنية في نفسه ومناطق اللاشعور فيه، يتكلم على مقتضاها، وينسج على منوالها، فلم لا نسعى لرفع اللغة العربية من مجالها الضيق المحدود إلى المجال الواسع غير المحدود؟

لم نتركها خافتة ضئيلة النفوذ محدودة السلطان بعيدة عن الجماهير وعن كثير من الخاصة لا تعرفهم ولا يعرفونها مقصورة على طبقة قليلة من خاصة الناس؟

إنما أريد بما أعرض من هذا التوجيه الجديد أن ننقذ اللغة العربية من سيطرة العامية وأن نوسع دائرة نفوذها في شؤون الحياة

يا سبحان الله! أيعلم كل صانع في الدنيا أنه لا يحذق المتعلم صنعته إلا بالمرانة والتكرار، فلا يكتفوا بإلقاء القواعد للمتعلمين وحفظها بل يأخذوهم بالدربة والمرانة على أعمال صنعتهم الجارية على حدود قواعدها، حتى يحذقوا صناعتهم، ولا يعلم ذلك رجال العلم في بلاد الشرق منذ آماد طويلة، فاكتفوا في تعليم اللغة بدراسة قواعدها ورأوا تلك السبيل المثلى في تعلمها، وأنها تفيد الطالب الناشئ، وتجعله قادراً على التعبير بها في صحة وإتقان! ومن عجب أن إخفاق القرون في هذا السبيل لم يصرفهم عنها ليبحثوا عن منهج أسد، وطريق أقوم.

محمد عرفة

ص: 23

‌4 - الإسلام والفنون الجميلة

للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق

ولقد دفع الإسلام بمعتنقيه إلى العناية بفن العمارة بطريق غير مباشر، إذ وصف الله في كتابه العزيز جنات النعيم التي أعدها للمتقين من عباده وصفاً شيقاً لعله كان مبعث الوحي للمسلمين فيما شيدوه من عمائر:(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، نعم أجر العاملين)، (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرفة من فوقها غرفة مبنية تجري من تحتها الأنهار. . .). فما كادوا يفتحون الأمصار ويرون ما بها من آثار حتى أقبلوا على البناء فأقاموا قصوراً شاهقة، رشيقة التكوين، موزونة الأبعاد، منمقة الجدران، ضاع معظمها، ونفضت معاول علماء الآثار الأكفان عن بعضها، وألفت منها من يد الدهر ذلك القصر العظيم الذي شيده بنو الأحمر في الأندلس، وهو بغرفه الفسيحة الرائعة، وقبابه الرشيقة العالية، ومياهه الرائقة الجارية، وجناته ذات القطوف الدانية، خير شاهد على ما تقدم

وما كان للمسلمين وقد سكنوا تلك القصور الرائعة ليقفوا بمساجدهم عن حد البساطة التي كانت عليها في أيام الإسلام الأولى، بل تذكروا قول الله عز وجل:(في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه). فأقبلوا على المساجد يشيدونها ويزخرفونها إجلالاً لها وتعظيماً لقدرتها، وبعداً بها عن مواطن الاستهانة إذا ما قورنت ببيوتهم أو بمعابد اليهود وكنائس المسيحيين. ولبس مسجد المدينة على يد الخليفة الثالث عثمان ابن عفان حلة فخمة خلعت عليها يد صناع الحسن والبهاء، وأقبل عمر بن عبد العزيز على تزيينه وتحسينه، وكذلك فعل خلفاء المسلمين من بعدهما، وكذلك فعل الأمراء والأغنياء في كافة العالم الإسلامي، إذ رصعوا جوانبه بمساجد هي آية من آيات الجمال الفني

ولقد كان من أثر ذلك أن سار المسلمون بفن العمارة إلى الأمام خطوات واسعة، ويكفي أن نذكر فضلهم على العالم أجمع في تحسين القبة - ذلك العنصر المعماري الذي يعتبر من المميزات البارزة في العمارة الإسلامية - فلقد ورث المسلمون القبة عن الأمم السابقة عليهم من مصريين وعراقيين ورومان، ورثوها صغيرة ساذجة بسيطة محدودة الاستعمال، وردوها إلى العالم كبيرة معقدة جميلة، وارتقوا بها في مدارج الرقي، وتجلت في إنشائها

ص: 24

براعة بنائهم، وحذق مهندسيهم ومهارة فنانيهم، وأكثروا من استعمالها حتى لقد أصبحت من سمات العمارة الإسلامية.

رأينا إذن كيف أثر الدين الإسلامي ببعض توجيهاته الإيجابية في فنون الخط والزخرفة والعمارة، وننظر الآن فيما كان لبعض التوجيهات السلبية لهذا الدين من تأثير جلي في الفنون الجميلة، فنلمس أثر هذه التوجيهات واضحاً فيما نجم عن تحريم الربا، وعن كراهية التصوير، وعن الطريقة التي نظم بها الإسلام استعمال الذهب والفضة والحرير

وليس هناك من شك في أن تحريم الربا لم يكن له في صميم الفن أثر مباشر؛ ولكنه عون على تقدمه ونضوجه وازدهاره وانتشاره. ذلك لأن هذا التحريم الذي جاء صريحاً في القرآن (يمحق الله الربا. . .) قد دفع بالمسلمين إلى استخدام الفائض من أموالهم في توفير وسائل الترف المباح في حياتهم. ولقد فصلت كتب الأدب والتاريخ حياة البذخ التي كان يحياها الخلفاء والأمراء. ولا يتسع المجال هنا لتفصيل ذلك، إنما يكفي أن نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر بذخ العباسيين في بغداد و (سر من رأى)، وبذخ الطولونيين في مصر، والفاطميين في القاهرة، وبذخ الأمويين في قرطبة والزهراء. ولهذا البذخ أبعد الأثر في تقدم الفنون الجميلة، فالإقبال على اقتناء التحف والسخاء العظيم في بذل الثمن لها بعث في الفنانين والصناع روح المنافسة فأخذوا يتبارون في إتقان مصنوعاتهم ويغالون في زخرفتها وتجميلها. ومتاحف الفن الإسلامي في مصر وأوربا وأمريكا غنية بالكثير من هذه التحف التي هي لسان صدق لما بلغه أجدادنا من المسلمين من رقي الفن وسمو الذوق.

(يتبع)

محمد عبد العزيز مرزوق

الأمين المساعد بدار الآثار العربية

ص: 25

‌منهج البحث الاجتماعي

للأستاذ إميل دوركايم

يقترن اسم إميل دوركايم بعلم الاجتماع؛ فهو الذي أخرجه في صورته الجديدة التي هو عليها الآن، وجعل منه علماً مستقلاً له منهج مستقل لا يعتمد على العلوم الأخرى، بعد أن كان العلماء يعتمدون في تفسيرهم للظاهرات الاجتماعية على أحد منهجين: إما المنهج البيولوجي الذي وضعه هربرت سبنسر في إنجلترا، وهو ينظر إلى المجتمع على أنه كائن حيوي يمكن تفسير ظاهراته تفسيراً حيوياً يعتمد على علم الحياة وعلم وظائف الأعضاء؛ وإما المنهج السيكولوجي، ومن أكبر أنصاره تارد الفرنسي الذي يفسر المجتمع بغريزة التقليد. أما دوركايم فقد جعل علم الاجتماع موضوعاً قائماً بذاته لا يعتمد في تفسير ظاهرات المجتمع على غير هذه الظاهرات نفسها، فجعله بذلك علماً في مصاف العلوم الأخرى من جهة الموضوع والمنهج؛ وقد كتب دوركايم كتابه الشهير (قواعد المنهج الاجتماعي يبين فيه طبيعة العلم والمنهج الذي يجب اتباعه في دراسته، ثم لخص ذلك كله في مقالته: (علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية التي نشرت في كتاب مناهج البحث في العلوم وهي التي نقدم لقراء الرسالة تلخيصها.

تناول دوركايم موضوعه من الناحية التاريخية مبيناً نشأة علم الاجتماع وتطوره، ثم قسم العلم إلى الأبواب التي يدرسها؛ وأخيراً بين المنهج المتبع في الدراسات الاجتماعية، وهو منهج يعتمد عند دوركايم على التاريخ والإحصاء؛ لا كعلمين بل كطريقتين للبحث العلمي

أولا: من الناحية التاريخية

إن أحسن وسيلة تتبع في دراسة علم من العلوم التي لا تزال حديثة مثل علم الاجتماع، لتوضيح طبيعته وموضوعه ومنهجه، هي الرجوع إلى الوراء لنبين كيف ابتدأ وكيف تطور. . . لقد كان أوجست كونت أول من وضع لفظ (سسيولوجيا في القرن التاسع عشر قاصداً به علم المجتمعات. . . فالاصطلاح إذن جديد والعلم جديد، وإن كان هناك دراسات نظرية عن الموضوعات السياسية والاجتماعية وجدت قبل كونت: في (جمهورية) أفلاطون و (سياسة) أرسطو، وكتابات كامبانيللا وهوبز وروسو وكثيرين غيرهم. ولكن هذه الدراسات كلها تختلف اختلافاً جوهرياً عما يصدق عليه الاصطلاح الجديد. إنها لم

ص: 26

تصف ولن تفسر المجتمعات على ما هي عليه، ولكنها كانت تبحث عما يجب أن تكون عليه تلك المجتمعات؛ بينما علم الاجتماع يدرس المجتمعات على ما هي عليه في الواقع ليعرفها ويفهمها كما هي مثلما يفعل الفيزيقي، والكيميائي، والبيولوجي، في دراستهم للظاهرات الفيزيقية والكيميائية والحيوية. فعلم الاجتماع إذن لا يريد إلا أن يعين الظاهرات التي يتناولها بالبحث وأن يكشف عن القوانين التي تنتج بمقتضاها هذه الظاهرات دون أن يهتم بالناحية العملية أدنى اهتمام

وعلم الاجتماع الحديث ليفترض أن المجتمعات تخضع لقوانين معينة؛ وأن هذه القوانين تصدر بالضرورة عن طبيعة تلك المجتمعات وتعبر عنها. وكان تكوين هذا التصور بطيئاً، فقد كان الناس يظنون أن ليس ثمة شيء - حتى الجمادات نفسها والمعادن - يخضع لقوانين معينة، بل إن كل شيء يمكنه أن يتخذ أي شكل كان، وأن يكتسب كل الخصائص الممكنة ما دام هناك قوة كافية لذلك. ونفس هذا التفكير كان يسيطر على عالم الظاهرات الاجتماعية. والواقع أنه لما كانت تلك الظاهرات الاجتماعية معقدة تمام التعقيد، كان من الصعب أن ندرك النظام الذي يمثلها، وبذلك ظن الناس أن ليس ثمة نظام بينها، وأن كل شيء ممكن في الحياة الاجتماعية. أليست الظاهرات الاجتماعية تتعلق بنا نحن أفراد المجتمع، وبنا وحدنا؟ وإذن يمكننا بإرادتنا أن نعدل فيها وأن نصوغها في أي شكل نريد. ومن هنا انصرف التفكير إلى البحث عما يمكن أن نفعله كيما نصوغها في أحسن صيغة ممكنة. . . ولكن في القرن الثامن عشر ابتدأ الناس يرون أن (المملكة الاجتماعية) لها قوانينها الخاصة ككل (ممالك الطبيعة) الأخرى؛ فأعلن مونتسيكو أن (القوانين هي العلاقات الضرورية التي تستخرج من طبيعة الأشياء)، وقوله هذا ينطبق على (الأشياء الاجتماعية) انطباقه على جميع الأشياء الأخرى ثم جاء كوندرسيه فأراد أن يضع النظام الذي يسير على رأيه التقدم البشري، وأن يرسم أحسن حالة توضح أن ليس ثمة شيء يحدث عرضاً أو يأتي اعتباطاً، بل إن كل شيء يحدث حسب علل معينة. وفي نفس الوقت كان الاقتصاديون يرون أن ظاهرات الحياة الصناعية والتجارية يسيطر عليها قوانين خاصة تسير بحسبها مع أن هؤلاء المفكرين كانوا يمهدون السبيل للفكرة التي يرتكز عليها علم الاجتماع الحديث، فإن فكرتهم عن قوانين الحياة الاجتماعية كانت لا تزال غامضة

ص: 27

مبهمة؛ فهم لم يقولوا - ولم يريدوا أن يقولوا - إن الظاهرات الاجتماعية تسير في تسلسل وارتباط وحسب علاقات علية - علاقة معلول بعلته - وأن تلك العلاقات محددة ثابتة لا تتغير كما هو الحال في العلوم الطبيعية. فكانوا يرون أن الإنسانية يمكن أن تنقلب من حال إلى حال بدون استثناء

ولكن في القرن التاسع عشر ظهر فهم جديد على يد سان سيمون أولاً ثم - على الخصوص - على يد أوجست كونت: فقد استعرض كونت في كتابه المعروف (دروس في الفلسفة الوضعية جميع العلوم في عصره، فرأى أنها تقوم على أن الظاهرات التي تعالجها تربطها علاقات ضرورية، وأنها ترتكز على مبدأ الجبرية فذهب إلى أن ذلك المبدأ الذي يتحقق في جميع ممالك الطبيعة من أول مملكة الرياضيات، حتى مملكة الحياة يجب أيضاً أن يتحقق في المملكة الاجتماعية، وبذلك ذهب المفكرون في أيامه عن النظر إلى المجتمعات كنوع من لمادة المائعة المطاطة التي يمكن للإنسان تشكيلها كيفما أراد؛ وإنما هي حقائق ووقائع لا يمكن تغيرها إلا بمقتضى القوانين التي تسيطر عليها وتوجهها. وعليه فإن نظم الأمم المختلفة مثلاً لا يمكن اعتبارها نتاجاً لإرادة الأمراء والحكام والمشرعين بل على أنها نتائج ضرورية لعلل معينة. فنحن نجد أنفسنا إذن أمام نظام للأشياء ثابت معين، وأمام علم يقوم لوصف هذا النظام وتفسيره وتبيين خصائصه وإظهار أي العلل تعتمد عليها هذه الخصائص. وهذا العلم نظري بحت ليس للجانب العملي فيه أي دخل؛ وهو علم الاجتماع. وكان أوجست كونت يسميه أولا بالفيزيقا الاجتماعية كما يبين العلاقات التي تربطه ببقية العلوم الأخرى

ولكن، لا يعني ذلك أن المجتمع خاضع لنوع من القدرية لا يمكن الإفلات منها، وأن الناس لا يمكنهم أن يعدلوا من مجتمعهم وبذلك لا يمكنهم أن يؤثروا قط في تاريخ بلادهم؟ الواقع أن لا؛ فإن العلوم الوضعية كلها تخضع لمبدأ الجبرية دون أن يمنع ذلك من وجود تغيرات في كل منها: فعلم الطبيعة مثلاً لا ينكر وجود تغيرات في ميدانه الخاص، ولكن تلك التغيرات تكون حسب قوانين موضوعه الخاصة. وعلم الاجتماع قبل كل شيء أعقد العلوم الوضعية كلها، وإذن فمجال التغيرات فيه أوسع من أي منها. وهو لا ينكر وجود تغيرات وتعديلات في المجتمع ولكن الذي ينكره هو ألا تكون هذه التعديلات متمشية مع طبيعة

ص: 28

قوانين المجتمع. وهو يرفض الفكرة القديمة في أن المشرعين يمكنهم أن يغيروا المجتمعات حسب أهوائهم من نوع إلى نوع آخر مختلف عنه تماماً دون مراعاة العادات والتقاليد والبناء العقلي لأفراد المجتمع وهكذا.

وقد اعترض البعض على علم الاجتماع بأنه لا يتميز عن علم النفس، بينما كان من شرائط العلم الحقيقي أن يكون قائماً بذاته لا يختاط موضوعه بموضوعات العلوم الأخرى. ومادام المجتمع لا يتكون إلا من الأفراد، فعلم المجتمعات إذن لا يتميز عن علم الأفراد أي علم النفس، ولكن لو صح هذا الاعتراض لوجب توجيهه إلى علم مثل علم الحياة (البيولوجيا) فهو - حسب هذه النظرة - ليس إلا جزءاً من علم الطبيعة والكيمياء، لأن الخلية الحية مركبة من ذرات من الكربون والأزوت وغير ذلك، وهنا تدرسها الكيمياء العضوية. . . الواقع أن هؤلاء المعترضين ينظرون إلى الكل نظرتهم إلى الأجزاء التي يتكون منها، بينما الأجزاء متى تدخل في الكل تفقد خصائصها الجزئية وتظهر بدلاً منها خصائص أخرى لا توجد في الجزيئات. هكذا الحالة في الخلية التي يدرسها علم الحياة. وهكذا الحال في المجتمعات التي يدرسها علم الاجتماع؛ فإن من ارتباط الناس بعضهم ببعض تظهر حياة جديدة مختلفة بالمرة عن حياة الأفراد لو عاش كل منهم وحده إن الشرائع والمعتقدات الدينية والنظم السياسية والتشريعية والخلقية والاقتصادية، وعلى العموم كل ما يكون الحاضرة، لا يوجد إذا لم يكن تحت مجتمع ما، وبذلك فعلم الاجتماع غير علم النفس

هذا هو علم الاجتماع كما وضعه أوجست كونت

وقد اتسع نطاق العلم وتعددت ميادينه في السنوات الأخيرة وتخصص له عدد كبير من العلماء وخاصة في فرنسا، ولا زال العلم متحفظاً إلى الآن بمبدئه الأساسي: مبدأ الجبرية الكلية في المملكة الاجتماعية كما في بقية ممالك الطبيعة الأخرى. ويعزز من هذا المبدأ ما يذكره علماء الاجتماع من أن هناك نظماً خلقية أو تشريعية أو عقائد دينية معينة توجد مشتركة بين جميع المجتمعات التي تتشابه فيها شروط الحياة الاجتماعية وظروفها. ومهما كانت تلك المجتمعات متباعدة بعضها عن بعض، فإن تلك النظم تتشابه، حتى الدقائق والتفصيلات.

(البقية في العدد القادم)

ص: 29

أحمد أبو زيد

ص: 30

‌هلال شوال

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

مَنِ اْلأَحْدبُ النَّشْوَانُ طافَ الْعَوَالِما

وأوْمُا إِلى الشَّرْق الْمُهِّلل باسِمَا!؟

تِدبُّ عَلَى ساقٍ مِنَ النُّورِ لَمْ تَدَعْ

على الأَرضِ رُكْناً مُظْلِمَ اْلأُفْقِ وَاجِمَا

وَيَمشي كمَا يَمشْي نَبِيٌّ مُبَشِّرٌ

بِوْحْيٍ يَزُفُّ الْخَطْوَ كالطَّيفِ حَالمَا

وَيَرْنُو كما يَرْنُو إِلَى اللهِ عَابِدٌ

يَكادُ مِنَ الإصْغاء يُحْسَبُ نَائِماَ

لَهُ قَامةٌ أَحُنتْ يدُ الدَّهْرِ عُودهَا

فَهلْ كانَ شيْخاً مِنْ حِمَى الْخلدِ قَادِمَا؟

تَحرّرَ، وَاسْتَعْلَى، وَأَقْبلَ، وَانْثَنى

فَلوْ كانَ إِنْساً قُلتُ: حَيْرانَ، نَادِمَا!

يَشُقُّ عُبَابَ الْجوِّ. . . لَا بحْرَ عِندَهُ

وَلَا شَطَّ! لكنْ يذْرَعُ النُّورَ هَائِمَا. . .

هَفَا طَرْفُةُ في الْغربِ وجْداً! كأَنَّهُ

يُريدُ انْبِثَاقَ النُّورِ لِلشّرقِ دَائِمَا. . .

أَطَلّ رَخِيمَ النُّورِ تَحْسبُ ضوَْءهُ

تَحمّلَ إِيقَاعاً مِنَ الطَّيْرِ نَاغِمَا

هِلَالٌ يكادُ الْمسلمُونَ صَبَابةً

يَطيرُونَ مِنْ شوْقٍ إِليْهِ حَمَائِمَا

أَشَارَ لِمَاضِيهِمْ بِكَفّ مُلألئٍ

تَرَامَتْ حَوَالَيهِ النُّجُومُ حَوَائِمَا

يُعَاتِبُ مَنْ أَغْفَتْ عَنِ النُّورِ عَيْنُهُ

وَكانَ لِشَرْعَ اللهِ في اْلأَرْضِ هَادِمَا

وَمَنْ رَاحَ يَسْتَجْدِي الْمسَاكِينُ قَلْبُه

فَمَا كانَ وَهَّاباً، وَلَا كانَ رَاحِمَا. . .

وَمَنْ يَسْمعُ الشكْوَى وَيَمضى كانَّهَا

عَلَى سَمْعِهِ عَدْلٌ يُطَارِدُ ظَالِمَا. . .

وَمَنْ حفَّ ليْلُ العَاثِرِينَ لِصُبْحِهِ

فَلمْ يَكُ إِلاَّ مُظْلِمَ النُّورِ قَاتِمَا

وَمَنْ جَاَءهُ البَاكي فَمرّ بِدَمْعِهِ

وَخلاَّهُ مُنْهلَّ الْجِراحَاتِ سَاجِمَا

وَمَنْ هَزَّ وَسْوَاسُ النَّعِيمٍ فَضَاَءهُ

وَخيّمَ في أَكْنَفِهِ الدَّهْرُ نَاعِمَا؛

وَمَدَّتْ له اْلأَيَّامُ كَفّا يَتِيمَةً

فَكانَ لَهَا بَرْحاً يُعِيدُ الْمآتِماَ

وَمَنْ تَزْخَرُ الدُّنْيَا جَمَالاً وَعِفّةً

وَيَعْمَى فَسُقَى مِنْ يدَيْهَا الْمآثِمَا

وَمَنْ كانَ مِثْلَ الشَّرْقِ تَغْلي جِرَاحُهُ

فَيتْرُكُهَا لِلدَّاءِ تَغْدُو مَغَانِمَا

مَضَى كُلُّ شَعْبٍ لِلسماءِ مُوَحَّداً

وَنَحْنُ عَلَى الْبلْوَى عَشِقْنَا التَّقَاسُمَا

حِمَانَا حَمَى الإسلام، وَالنُّورِ، وَالْهُدى

فَكَيْفَ غَدَوْنَا لِلِعبَادِ غَنَائِمَا!

وَمَا نَحْنُ إِلاَّ مُهْجَةٌ، مَنْ أَثَارَهَا

أَثَارَ بِجَنْبيْهَا اللظَى والسمائمَا

ص: 31

نَمانَا ترابُ الخالدين، وضمناَ

ثرى مشرقٍ ضم العلا والمكارماَ

إذا قلبُ (لبنانٍ) تنهد بالأسى

سمعتَ حفيف الارزفي النيل جاحماَ

وإِن أرعشت موج الفُرَات كآبةٌ

رأيت أساها في رُبَي مصر غائِمَا

وإن أسعدتْ مصر الليالي سمعتهاَ

حديثاً بقلب الشرق رَيان فَغِمَا

فيا (نيل) خذ عنا الزمام وطر بنا

ولا تخش ليلات الخطوب الغواشماَ

عهدناك في الأهوال تحمل رايةً

عليها أغاني المجد تسبق (آدَماَ)

وَياماَ أُحَيْلَي موجة فيك حُرةً

ترف فتهدي للعباد العظائِماَ!

وياما أُحَيْلَي جنةً فيك نضرةً

تمنت شعوب الأرض منها النسائماَ

تغنيت رقراقاً، وأشجيت هادرًا

كأَنك تشدو للزمان ملاحما

خفقت بصدر الشرق سراً مقدساً

من السحر أعتَى رهبة وطلاسما

عَلَى شطك الميمون تاج وصولج

يهز حجاب الشمس بأساً علاهما

تلفت تر الدنيا عرتها نفاثةٌ

من الجن هدت قلبها والمعالما

غدتْ ملعباً للموت، هذا مجندل

وهذا صريع، والجُناة كلاهما!

إذا كان هذا الهول يُدعى حضارةً

فنحن عَلَى التجديد أرسى دعائِما

فيا شرق طال النوم، فانهض، فإنما

يد الذل تجتاح الشعوب النوائما

تزود من الأخلاق إن سلاحها

يفل حديد الظلم إن هب غاشما

ثراك مهاد الأنبياء، بشطه

تدفق نور الكون كالسيل عارما

فأشعل رماد الهامدين، وقل لهم

هنا جذوة الماضي تثير العزائما

وأصغ إلى بوق النشور، يهزه

من النيل صداح عَلَى الأيك طالما

أتاك يناجي العيد فاهتاج قلبه

فلم يدرِ أشعاراً شدا أم تمائما. . .

محمود حسن إسماعيل

ص: 32

‌البريد الأدبي

أوراق متساقطة من (قصة الأدب)

قرأت في كتاب (قصة الأدب) للأستاذين أحمد أمين وزكي نجيب محمود ما يأتي:

(. . . ولئن كان المصريون الأولون ينقشون آثارهم على جلاميد الصخر، فقد كانت بابل تكتب آثارها على ألواح من الطفل وهي أيسر حملاً وأخف ثقلاً)

فإن كان ذلك حقاً فمن العجيب ألا نجد للبابليين أدباً أو شبه أدب

والجواب، كما ذكره الأستاذان:(أنه لم يحدث ذلك لأن القراءة الشعبية لم يكن لها وجود، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة إلا نفر قليل من القساوسة والنساخ، وكانت الكتابة مقصورة على موضوعات الدين وأعمال الملوك)

وهل اقتصرت الكتابة حقيقة على موضوعات الدين وأعمال الملوك؟ فأين ذهبت ملحمة كلكاميش إذن؟

أنا ما كنت أعرف عن هذه الملحمة شيئاً إلى أن قرأت عنها في مجلة (الثقافة) في العدد الثالث والثلاثين، السنة الأولى، تحت عنوان:(أقدم شعر في التاريخ) ما يأتي بنصه:

(قد يظن القارئ أول وهلة أن أقدم شعر عرفته الإنسانية هو الشعر الهندي في أثرية المعروفين (الرامايانا) و (المهابهارتا) وكذلك الشعر الهوميري لأن كليهما يعود تاريخه إلى ما لا يقل عن عشرة قرون قبل الميلاد، ولكن الأستاذ جورج كونتنو أمين القسم الشرقي بمتحف اللوفر، بمجموعة الأشعار التي قدمها أخيراً مترجمة عن البابلية تحت اسم (ملحمة جلجاميش) يؤكد أن هذه المجموعة هي أقدم شعر عرفته الإنسانية لأن تاريخها يرجع إلى ما قبل التاريخ المعروف)

(وهذه المجموعة عبارة عن ملحمة شعرية تقص نبأ حياة جلجاميش بطل القصة، وكيف أنه مركب من جزء من الإنسان وجزأين من الآلهة على عكس خصمه انكيدو المركب من طبيعة حيوانية صرفه. وتفيض الملحمة بعد ذلك في وصف بطولة جلجاميش، وكيف أنه قاد أنكيدو المركب من طبيعة حيوانية إلى أرض خصبة وأكسبه صفات إنسانية، ولكنهما بعد ذلك اختلفا وتخاصما ونشبت بينهما معركة تشبه في كثير المبارزات التي وصفتها الإلياذة والمهابهارتا. ولكنهما خرجا أخيراً من هذه المعركة صديقين لا ينفصلان)

ص: 33

(وهكذا تمضي القصة في سرد أنباء جلجاميش سليل الآلهة وأنكيدو ممثل الحيوانية حتى يموت أنكيدو، ويحزن عليه جلجاميش، ويصرف وقتاً باحثاً عنه، ومتحريا عن حقيقة الموت دون جدوى)

(وقد صدرت هذه الملحمة بالفرنسية منذ أسابيع قلائل مقدمة ببحث طريف عن تاريخ العصر الذي تصفه بقلم المسيو كونتنو مترجمها)

لقد قرأت كل هذا في مجلة (الثقافة)، وكلنا يعرف أنها للأستاذ أحمد أمين. . . فهل سها الأستاذ عن مثل هذه الملحمة عندما جاء مع الأستاذ زكي نجيب محمود يصنف الأدب القديم؟ وهل يسهو اثنان؟!

وهل اكتفى الأدب البابلي بهذه الملحمة؟ إن كان ذلك حقاً فأين ذهبت (أسطورة تميوز وعشتار) و (ترنيمة عشتار)؟

ولا أحسب المراجع قد أعوزت الأستاذين، فإن كان ذلك فهناك كتب عدة أحسب أن أجدرها بالذكر:(الأساطير البابلية والآشورية للأستاذ دي. أي. مكنري) وملحمة (كلكاميش) الآنفة الذكر

(بغداد)

نزار الحاج سليم

إلى الأستاذ الفاضل صلاح الدين المنجد

ليس أيسر على المترجم يا صديقي من أن يفتح القاموس فيعرف مرادف الكلمة التي يريد نقلها إلى العربية فيأخذه دون مشقة ولا عناء. غير أني أكره هذه الطريقة المرتجلة في الترجمة. ولما كنت آخذ نفسي هذه الأيام بالدعوة إلى سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، وبالتالي إلى تجديد الأدب العربي، وذلك في حدود التواضع الكبير (!) فقد مهدت في رأس الفصل الأول من فصول نشأة الدرامة الإنجليزية بأن لي غرضاً خاصاً من نشر هذه الفصول. . . على أنني لا أدري لماذا استثقل ذوقك الرفيع كلمة (السمعيات أو الإنجيليات مرادفاً لكلمة التي تعني الأسرار الغامضة بالترجمة الحرفية؟. . . لقد استعملت كلمة السمعيات بمعناها الديني الذي يعرفه المسلمون عن جميع الأسرار الغامضة التي لا

ص: 34

يصح البحث فيها، أو التي يعجز العقل عن تعليلها؛ فماذا غير السمعيات يكفل أداء هذا المعنى؟ وقد فسرتها أيضاً بالإنجيليات لأن جميع مؤرخي الأدب والمسرح الإنجليزي يفسرون هذا النوع من أنواع الدرامة الإنجليزية، بأنه النوع الذي تؤخذ موضوعاته بحوارها من الإنجيل مباشرة دون تغيير أو تبديل. وهكذا أراني وفقت كل التوفيق في وضع هاتين اللفظتين لكلمة

أما ترجمة بدرامات الخوارق كما يقترح أخي فقد رأيتها ترجمة قاموسية لا تتفق والعلم المسرحي الذي نحن بصدده؛ فالخارقة تصدر عن أي إنسان؛ أما الكرامة فتصدر عن القديسين عند المسيحيين وعن الأولياء عند المسلمين؛ ولهذا آثرت النسبة إليها فقلت الدرامات الكرامية، ثم أردت أن أربطها في ذهن القارئ - وذلك من صناعة التعليم التي مارستها عشرين عاماً - فقلت، أو القديسية، وذلك لأنها درامات تتعلق بحياة القديسين أولاً وبما كان يصدر عنهم من (خوارق) - أو كرامات، ثانياً. فأي بشاعة يا أخي صلاح في هذا الذي آثره صاحب أساطير الإغريق؟!

وبعد، فلا عليك من ذلك؛ ولكن لي رجاء بودي أن تحققه مع الصفوة من أصدقائي أدباء الشام. إن باكورة أعمالك المسرحية التي تفضلت فأرسلتها إلي تشف عما يختبئ فيك من الروح الدرامي العظيم، فهل انتويت أن تتحف الأدب العربي بثمرة ثانية وثالثة. . . وعاشرة، أم أنت في حاجة إلى محاربة روح التشاؤم فيك، كما نحاربه في أدبائنا. . . أرجو أن تبدأ الشوط مع أدباء الشام الأعزاء، وإن كنت أسأل الله أن يوفق أدباء مصر إلى الفوز بقصب السبق. . . وتقبل تحيتي

دريني خشبة

إلى الأستاذ أحمد الصافي النجفي

وصلني اليوم هداياك الثلاث: قصيدتك، وتحاياك، وأشواقك؛ ففرحت بالأولى، ولم أنكر عليك كثيراً الهديتين الأخرين. . .

وكم أحب أن يتصل البريد الأدبي بينك وبين (الرسالة). وأكتفي منك بالبريد الذي يحمل الأشواق والتحايا. . .

ص: 35

ومنذ أسبوعين حدثني الدكتور طه حسين بك أنه سيعنى بشعرك عناية خاصة بعد رجوعه من لبنان، وأعتذر بكثرة مشاغله التعليمية التي حالت من دون جوابه السريع. وكل ما أرجو ألا تغيب عن قراء (الرسالة) الذين طال شوقهم إليك

عبد القادر جنيدي

تصويب

وقعت أخطاء مطبعية في مقال (أعداء النساء) المنشور بالعدد (532) من الرسالة الغراء تصويبها فيما يأتي:

بَحَوْرَة - وصوابها: حبل الجورة

خصومة بهم - (خصوصة بهم

مما، وزل - (مما فرط من قول وزل

أو التي ينشرن - (أو اللاتي

ص: 36