المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 537 - بتاريخ: 18 - 10 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٣٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 537

- بتاريخ: 18 - 10 - 1943

ص: -1

‌المقترحون والمؤلفون

للأستاذ عباس محمود العقاد

بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء ولا تكف عن اقتراح، ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس عليها واجب تفرضه على نفسها

إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟

وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟

وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح أو للصور المتحركة؟

وإن كتبت للمسرح والصور المتحركة قالوا: ولم لا تحيي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة إلى إحياء ذلك التراث؟

وإن أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث فنحن أحق الناس بالكتابة فيه

وإن جمعت هذه الأغراض كلها قلوا لك: والقطن؟ وشؤون القرض الجديد؟ ومسائل العمال، ورؤوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه

وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض

إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفاً من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول

سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة من القراء معروف. سره أن الجمهور القارئ في بلادنا العربية لم (يتشكل) بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوربية. وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلا إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات.

وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيراً حتى يتم لنا (التشكيل) المنشود، وهو غير بعيد

ص: 1

ولسنا لهذا نستغربها كلما سمعناها من حين إلى حين لأنها مفهومة على الوجه الذي قدمناه

ولكن الذي لا نفهمه أن نتلقى تلك المقترحات من كاتب نابه يعرف حاجة الأمة العربية إلى كل نوع من أنواع القراءة، ولا سيما تاريخها القديم مكتوباً على النمط الحديث

فغريب حقاً أن يشير كاتب نابه إلى كتابة الدكتور هيكل وكتابتي عن أبي بكر وعمر؛ فيقول كما قال كاتب المصور: (. . . حسن جداً هذا السباق وقد أجدتما الجري في ميدانه، ولكن هل نسيتما أن أبا بكر وعمر كتب عنهما مائتا كتاب؟ وأن في عصرنا الحاضر موضوعات قومية ووطنية وتاريخية ومالية واجتماعية تستحق منكما نظرة ومن قلميكما التفاتة؟ وأن أكثر طلابنا لا يعرفون عن تاريخ بلادهم الحديث حرفا، وأن صدر الإسلام بحمد الله قد وفاه أئمته وأدباؤه وشعراؤه من العرب حقه فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وفوها وشرحوها وفصلوها، وبقى تاريخ مصر الحديث والقديم بغير بحث ولا تحليل؟. . .)

غريب هذا الرأي من (المسئولين) كما نسميهم في لغة السياسة وإن لم يكن غريباً من غير المسئولين

وتتم غرابته لأنه يجمع من الأخطاء في بضعة أسطر ما يقدر أن يجتمع منها في صفحات

فبالأمس سمعنا دعوة إلى انفراد كل جنس بالكتابة عن جنسه، فلا يكتب عن المرأة إلا المرأة، ولا عن الرجل إلا الرجل، ولا يسمح للرجال أن يكتبوا عن الحوادث التي تدور وقائعها بين الرجال والنساء

واليوم نسمع دعوة أخرى إلى انفراد كل جيل بالكتابة عن جيله الذي يعيش فيه ولا يتعداه إلى جيل آخر، فلا يسمح لنا نحن أبناء العصر الحاضر أن نكتب عن شيء يتجاوز القرن التاسع عشر راجعاً أو القرن العشرين متقدماً إلى الأمام

رأي غريب لو صحت مقدماته وأسبابه

وإنه لأمعن في الغرابة حين نرجع إلى المقدمات والأسباب فلا نرى مقدمة منها أو سبباً يقوم على ركن صحيح

إذ ليس بصحيح أن أبا بكر وعمر قد كتب عنهما مائتا كتاب إلى الآن، لأن الذي كتب عنهما إنما كتب عن الحوادث والأخبار في عصرهما، وهو مع ذلك لا يزيد على أصابع

ص: 2

اليدين

أما (الصورة النفسية) التي تصور لنا كلا منهما على حقيقته الإنسانية فلم توصف قط قبل هذا الجيل. ومتى وصفت صورة نفسية عن إنسان في زمن من الأزمان فهي صورة عصرية تهم الإنسان حيث كان من أول الزمان إلى آخر الزمان

بل الواجب المفروض على كل أمة تنبعث إلى الحياة أن تجدد فهم تاريخها وتعقد الصلات الوثيقة ما بينه وبينها، ولا تقتصر على فهمه كما كانوا يفهمونه قبل مئات السنين

وعلى أنه لو صح أن المصنفات التي كتبت عن عظماء التاريخ العربي فيها الكفاية التي تغني عن المزيد من التصنيف والتصوير فليس في ذلك حجة تتجه إلينا وتسوغ الملامة علينا

لأننا لم نترك جيلنا الحاضر معرضين عن أبطاله وزعمائه وأصحاب الأثر في حياته القومية والوطنية؛ بل كتبنا عن (سعد زغلول مجلداً ضخماً يساير الحركة الوطنية من الثورة العرابية إلى اليوم الذي تمت كتابته فيه، وساهمنا بحصتنا في هذا الباب إن كانت هناك حصة مفروضة على كل كاتب في موضوع من الموضوعات

ولكننا في الواقع لا نعتقد أن هناك واجباً مفروضاً على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائناً ما كان

وليس هناك موضوع يكتب كتابة حسنة ثم لا يستحق أن يقرأ ولا يفيد إذا قرئ قراءة حسنة

فالبطل القديم الذي يدرس على الوجه الصحيح هو موضوع جديد في كل عصر من العصور

والبطل الحديث الذي يساء درسه خسارة على القارئ والكاتب والبطل المكتوب عنه؛ لأن العبرة بتناول الموضوع لا بالموضوع. والعبرة بأسلوب العصر الذي تتوخاه وليست بالسنة التي يدور عليها الكلام

فالكتابة عن سنة 1943 بأسلوب عتيق هي موضوع عتيق. والكتابة عن آدم وحواء بأحدث الأساليب العلمية أو النقدية هي موضوع الساعة الذي لا يبلى

وأولى من الاقتراح على الكتاب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما اختلفت موضوعاته، لا أن نشجع (الولد المدلل المعود) على رفض كل ما على المائدة

ص: 3

وطلب كل ما عداه.

وقد قال الكاتب النابه في ختام كلمته: (سلوا الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي كيف راجت كتبه أدبياً ومعنوياً ومادياً وكيف انتفع بها النشء الحديث في دنيا تأليف مصرية صميمة كلها قحط وجدب وإملاق)

وقد يهم القارئ من هذا أننا نغري بالرواج للكتابة في الموضوعات التي اختارها الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك

ولا شك عندنا في أن الرافعي بك لم يكتب في هذه الموضوعات لرواجها، ولكنه كتب فيها لأنها تروقه ويحسنها. ومهما يكن من رواج الكتب في مصر، فإن المحامي الذي يبلغ في عالم المحاماة مكانة الرافعي بك يكسب من قضاياه أضعاف ما يكسبه من كتبه، ولا يحتاج في دراسة مائة قضية إلى الوقت الذي يشغله بمراجعة المصادر التاريخية لكتاب واحد

وكذلك نحن لم نؤلف (عبقرية محمد) لرواجه لأننا طبعنا منه في الطبعة الأولى أقل مما طبعنا من كتب أخرى ألفناها، ولم يكن في وسعنا بداهة أن نعدل عن تأليفه إذا لم تنفذ الطبعة الأولى بعد أسابيع معدودة!

وإننا لنعرف موضوعات شتى يقبل عليها عشرات من الألوف من القراء وتستغني عن الإعلانات والترويج

فرواية من الروايات المكشوفة تترجم أو تؤلف قد تطبع منها عشرات الألوف وقد تباع للصور المتحركة وقد تستهوي من القراء والقارئات من ليس يستهويهم تاريخ أمة أو سيرة عظيم. . .

وهذه الروايات أسهل في تأليفها أو ترجمتها من الكتب التي تراجع من أجلها المصادر الكثيرة بين عربية وأوربية ولا تخلو من عنت في التمحيص والتحضير

ولكننا نعدل عنها إلى الموضوعات التي هي أصعب منها وأقل رواجاً بين قرائنا

بل نعدل عنها ونحن نعلم أن المدجلين بالروايات المكشوفة يسوقونها مساق الفتوح العصرية والجرأة الفكرية ويعدونها من دلائل النزعة الحديثة والنهضة المقبلة والتحرر من التراث العتيق والطلاقة من القيود، وإننا لا نسلم من اتهام هؤلاء الأدعياء لنا بالجمود أو مصانعة الجامدين إذ نكتب في سيرة الصديق والفاروق

ص: 4

فلو كان الرواج مغرياً لنا لكانت الكتابة في هذه الأغراض المقبولة أولى وأجدى

ولو كان الرواج مغرياً لنا لما حاربنا المذاهب التي وراءها دول ضخام تكافئ من يدعو إليها ويبشر بأناجيلها. ولا نظن أن الكاتب النابه ينكر علينا أن تلك الدول تعرف قيم الأقلام التي تستخدمها في دعوتها وتحب أن تستخدم منها ما ينفعها

فنحن نكتب ما نريده ولا يعنينا أن يروج أو لا يروج. وواجبنا الذي نلتزمه في الكتابة - ولا نعرف واجباً غيره - هو أن نعني بالموضوع الذي نتصدى له ونحس القدرة عليه

ولسنا نقترح على الكاتب النابه أن يعدل عن اقتراحه إذا كان مؤمناً بصوابه؛ ولكننا نقول إننا لو عملنا به لما عدمنا مقترحاً آخر يقول: ما هذه الحوادث اليومية التي تخوضون فيها وقد رأيناها أو سمعنا من رآها؟ ودعوا هذا واكتبوا لنا شيئاً من عجائب المجهول. . .

ويومئذ لا تكون حجته أضعف من حجة الكاتب النابه صاحب الاقتراح؟

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

الكتاب هو سر العظمة الأوربية - ماضينا في صحبة الكتاب

- الأستاذ الههياوي - بين المدارس والكليات

الكتاب. . .

إن الكتاب هو سر العظمة الأوربية، فما تفوقت أوربا إلا بفضل الحرص على مسايرة الحيوات العقلية في الشرق والغرب، وما ارتفع رجل في أوربا إلا وهو مزود بأصدق وأجود ما صدر في العقول في القديم والحديث

ويستطيع من يعرف إحدى اللغات الأوربية أن يطلع على أشهر ما جادت به القرائح في أكثر البلاد، وهذه حقيقة يعرفها من عاش زمناً في مدينة مثل لندن أو باريس أو برلين

الحق أننا لم نفهم أوربا فهماً صحيحاً، ولم نعرف السر في حيويتها العارمة، ولم نلمح من خصائصها غير أطياف

إن أوربا مزودة بأزواد عقلية لا تخطر لأكثر الناس في بال، وقد نعرف غداً أو بعد غد أن المستر تشرشل لم تصرفه مكاره الحرب عن صلاته بالمكاتب ودور التجليد، وقد نعرف أنه لم يخرج من بلد إلا وفي يده كتاب، على كثرة ما زار من البلاد في أعوام الحرب

أوربا المحاربة لا تخيفني، فقد هزمناها في الحرب الصليبية، وإنما تخيفني أوربا المفكرة، أوربا التي تؤلف وتقرأ وتستفيد من كل وقت بلا استثناء وقت الحروب

هل تذكرون كلمة كارليل حين قال إن إنجلترا تفضل آثار شكسبير على أقطار الهند، لو أكرهتها الحوادث على الاكتفاء بأحد هذين المغنمين؟

تلك هي العقلية الأوربية، وذلك هو الفهم الذي يمتاز به أولئك الناس

ماضينا في صحبة الكتاب

لنا ماضي مجيد حفظه التاريخ، فقد سبقنا أوربا إلى تمدين الشرق والغرب، وخلف أجدادنا آثاراً عجز من محوها الزمان فكيف ظفروا بذلك الحظ من الخلود؟

الكتاب هو السر في عظمة أجدادنا، فقد كان فيهم من يحج بيت الله وهو يرمي إلى غاية

ص: 6

غير أداء فريضة الحج، كأن يقف في عرفات للسؤال عن كتاب

وعدوان المغول على بغداد لم تسجل فظائعه في غير ظاهرة واحدة هي تزويد أسماك دجلة بما كان في بغداد من نفائس المؤلفات

والحريق الذي صاول الفسطاط ستين يوماً لم يذكر المؤرخون من بلائه غير اجتياحه لذخائر المكتبات

وكان المسلمون حين يستنفرون إخوانهم للدفاع عن بلد من بلاد الأندلس يقولون أنه وطن النوابغ من المؤلفين والشعراء.

وحين تفرق شمل المسلمين في بعض العهود الماضية وجد النابهون لآثارهم العلمية والأدبية، والتشريعية ما يعمر مئات المكاتب، ويضمن الزاد النفيس للإفهام والعقول، بحيث لا تخلو مدينة من آثارهم الجياد

إن أساس المدينة يرتكز على العلم في جميع العصور، حتى عصور الظلم والاستبداد، ألم تروا أن مغامرات هتلر أوحى بها كتاب؟

إن المدافع والطيارات والأساطيل ليست إلا تعابير عن جانب من طغيان القوة الفكرية، كما أن الآداب والفنون تعابير عن جانب من ذلك الطغيان

لا تسمعوا لمن يثبطونكم عن الحياة الفكرية، بحجة أن هذا الزمن ليس زمن الفكر وإنما هو زمن القوة، فالفكر هو المصدر لكل قوة، ولو تمثلت في أبشع الألوان

ومصر تتمتع اليوم بسمعة طيبة من الناحية الفكرية، وهي تدعوكم إلى مواصلة الجهاد العلمي والأدبي، لتصلوا بها إلى ما تسمو إليه من العزة بين كبار الشعوب

أنا لا أكتفي بأن يكون حظ مصر من المجد القديم هو الأستاذية لفلاسفة اليونان في التاريخ القديم، وأكره أن يكون حظ مصر في العهد الإسلامي مقصوراً على رعايتها للحضارة الإسلامية بعد سقوط بغداد

انظروا إلى الأمام ولا تنظروا إلى الوراء، فالفكر من حظ مصر في جميع العهود، وسيكون لها في المستقبل تاريخ يفوق جميع التواريخ، وستعرفون صدق هذه النبوءة بعد حين.

الأستاذ محمد الههياوي

فجع الأدب وفجعت الوطنية في رجل كان من الأعلام بين رجال الأدب ورجال الوطنية،

ص: 7

وهو أخونا الأستاذ محمد الههياوي، على روحه ألف تحية وألف سلام

مات الههياوي بعد أن كافح في سبيل الأدب وفي سبيل الوطن أعواماً نيفت على الثلاثين. والذين عرفوا الههياوي كما عرفته يؤمنون بأنه كان قوة وطنية وأدبية قليلة الأمثال

نشأ الههياوي نشأة أزهرية - وكان أبوه من كبار العلماء بالأزهر الشريف - ولكنه تمرد على الأزهر في وقت مبكر، وانطلق إلى ميدان الحياة الأدبية والوطنية بقوة وعنف، ومضى يصاول ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن ظفر من قلوب عارفيه بمنزلة لا يظفر لا كرام الكاتبين

يجب أن نقول كلمة الحق في الأستاذ الههياوي، بعد أن رأينا أنه لم يرث إلا بكلمات قصار لا تنقل من شمائله غير ملامح غامضة المعاني، وبعد أن رأينا أصدقاءه يمنون على الوفاء بأنهم جازفوا براحتهم فشيعوا جنازته في عصرية وهاجة القيظ!

كان الههياوي يجد في كل ما يكتب، وكان جده أثراً من صدق العقيدة في الأدب والوطنية والدين، وكان مع جده الصارم غاية في حلاوة الدعابة، فهو المنشئ لأكثر دعابات (الكشكول) يوم كان لمجلة الكشكول سلطان

وفي الأعوام التي اشتد فيها الخلاف بين الحزب الوطني والوفد المصري كان الههياوي أخطر كاتب نافح عن الحزب الوطني، وقد أبلى بلاءً حسناً في مقاومة (مشروع ملنر)، ولم يتركه إلا بعد أن مزقه كل ممزق، ومجموعة (جريدة الأمة) تشهد بصدق ما نقول

اشترك الههياوي في تحرير كثير من الجرائد والمجلات، وكتب في الجد وفي الهزل، ولكنه في جميع أحواله كان قوي المنطق، متين الأسلوب وكان الههياوي شاعراً من الطراز الجيد، ولو جمعت قصائده الجدية لكان من مجموعها ديوان نفيس. أما قصائده الهزلية فهي غاية في اللطافة، وكانت توقع باسم (الشاعر إياه) في مجلة الكشكول

وإذا كان الرجوع إلى الجرائد القديمة يتعب من يريد معرفة القيمة الصحيحة لهذا الكاتب، فأنا أوصي بمراجعة كتاب (الطبع في الشعر) وقد نشرته (مكتبة النهضة)، وهو كتاب يشهد لمؤلفه بالبراعة الفائقة في شرح الدقائق من أسرار البيان

وللههياوي كتاب اسمه (مصر في ثلثي قرن)، وهو كتاب يصور آمال مصر وآلامها في العصر الحديث، وفيه وثبات من الفكر، وبوارق من الخيال

ص: 8

وقالت إنجلترا بعد رفع الحماية (الكلمة الآن لمصر) فنشر الههياوي رسالة بعنوان:

(الكلمة لمصر، ولكن ليس لمصر أن تتكلم)

وهي رسالة شرح فيها ما كانت تعاني مصر بسبب الاحتلال

وكان المنفلوطي هدفاً للناقدين في أوج شهرته الأدبية، ولكن الهيياوي تفرد برسالة طريفة سماها (قصص المنفلوطي) وسيكون لها مكان حين يؤرخ النقد الأدبي في هذا الجيل

وأول كتاب نشره الههياوي هو (الفرائد) وهو مجموعة ما كتب في مطلع صباه، ولو رجعنا إليه لرأيناه على سذاجته صوراً تشهد بحيوية الإحساس ويقظة الوجدان

أخي الأستاذ الههياوي

أفي الحق أنك مت وأني لم أجدك إني حاولت أن أراك؟

لا يتعبني أن أتحيز لك فأختلق محاسن لم تكن فيك، وإنما يتعبني أن أبرز محاسنك الأصيلة على الوجه اللائق بمكانها الرفيع

أفي الحق أننا لن نلتقي في الدنيا مرة ثانية، ولن نقضي أياماً كالأيام التي قضيناها في سنتريس بين الزهر والقمر والماء؟ أفي الحق أننا لن نتصاول بالعقول كما كنا نصنع عند التلاقي؟

تلك أيام خلت، ولن تعود، فعليك وعليها تحية الشوق الذي لا يموت

لو رأيت فيك ما يعاب لخف حزني عليك، ولكني لم أرك إلا روحاً أرق من الزهر وأقسى من الزمان، وتلك هي الخصيصة الأساسية لأحرار الرجال

كنا صديقين، وكنت أنت الأكرم والأطيب، فكيف أجزيك وقد ضاعت فرص الجزاء؟

وهل تنتفع بكلمة في رثائك وقد مضيت إلى نعيم لا يعادله نعيم؟

أن موتك دليل على خلود الروح، فما يجوز في نظر العقل أن تكون نهايتك هي النهاية، وقد قضيت حياتك في شقاء بسبب الحرص على صدق الوطنية وصدق اليقين

هل تعرف (ههيا) أنك نقشت اسمها على جبين الزمان؟ وهل تعرف (مصر) أنها فجعت فيك؟ وهل تعرف قيثارة الشعر أنها فقدت وتراً كان غاية في حنان الرنين؟

هذا ما أملك في رثائك، أيها الصديق الغالي، وهو أقل مما يجب لك، وعلى عهد الله أن أشيد بذكراك إلى آخر الزمان

ص: 9

بين المدارس والكليات

بدت في هذا العام ظاهرة تستحق التسجيل، لأنها لم تقع من قبل، وهي تأخر المدارس عن الكليات في العودة إلى استئناف الجهاد. ومحاربة الجهل أشرف ضروب الجهاد

أيكون ذلك لأن الطلبة أقوى من التلاميذ؟ أيكون ذلك لأن الأساتذة أحرص من المدرسين؟

لا هذا ولا ذلك، وإنما هي فرصة أتاحها القدر لنعرف كيف أسرفنا في استعجال الناشئين إلى ساحات النضال

الطالب في الكلية غير التلميذ في المدرسة، فالأول جاز دور التكوين الجسماني، فعليه أن يحمل الواجب في صدره وإن كان في إجازة رسمية. أما التلميذ فلا يزال جسمه في دور التكوين، وراحته من متاعب الدرس تعود عليه بالنفع الجزيل

الطالب يعود إلى الكلية وهو على بينة مما سيدرس، فهو يعود جذلان، أما التلميذ فيجهل ما سيعاني من مصاعب الدروس، لأنه تلميذ، والمنهاج يفرض فرضاً على التلميذ

والأستاذ بالكلية غير المدرس بالمدرسة، فالأول يضع بنفسه موضوعات الدروس كما يشاء، وفي حدود ما يطيق، أما الثاني فيواجه موضوعات يوجبها (الجدول)، وقد يكون فيها ما ألقاه بالنص والفص عدداً من السنين

أما بعد فماذا أريد أن أقول؟

أنا أريد النص على أن الإجازات ليست من الأوقات الضوائع، كما يتوهم بعض الناس، وإنما هي مواسم لتكوين الأبدان والأرواح والأحاسيس، وتلاميذ المدارس أحوج إليها من طلبة الكليات، وما وقع في هذه السنة وقع بالمصادفة، ولكني أحب أن يكون واجباً نراعيه في الأعوام المقبلات

هل تذكرون أن إجازات المدارس الأولية زادت في هذا العام عن ثلاثة أشهر، وأن ناساً عدوها ترفقاً خرج عن الحدود؟

أنتم تذكرون هذا، ولكنكم تنسون أن الأطفال بالمدارس الأولية كانوا يعودون إلى الدروس في شهر أغسطس وهو (آب، اللهاب)، كما يسميه أهل الشام والعراق

ترفقوا قليلا بالأطفال، واذكروا أنهم في عهد التكوين، وأن راحتهم من الدروس غذاء يفوق كل غذاء

ص: 10

ثم ماذا؟ ثم انتهز الفرصة فأتحدث عن مشكلة تعانيها المدارس ولا تعانيها الكليات، وسأفصل حديثها بدون إسهاب:

هذا مدرس عينته الحكومة بمدرسة ابتدائية وفرضت عليه أن يلقي أربعة وعشرين درساً في الأسبوع، فاحتمل العبء راضياً لا كارهاً لأنه في عنفوان الشباب

وهذا المدرس نفسه ظل يخدم العلم بالمدارس الابتدائية إلى أن شارف التاسعة والخمسين، فكيف يجوز أن يحمل من أعباء الدروس ما كان يحمل قبل أن يصل إلى الثلاثين؟

عليه أن يحتمل أو يعتزل، فالمدارس تعرف التلاميذ ولا تعرف المدرسين، لأن نتائج الامتحان هي العنوان! ولو أنها خففت العبء عن المدرس الذي تقدمت به السن لقدم لها منافع تفوق الحدود

المدرسة الفلانية هي أولى المدارس، لأن تلاميذها بلغوا حدود التفوق، ولم تكن أولى المدارس لأن مدرسيها ظلوا من نكد العيش في أمان

التلميذ هو المقصود بالعطف والرعاية، أما المدرس فهو جلمود لا يجوز عليه الإفضال

هو مدرس، ومهنة التدريس (مهنة بلا مجد) فليصبر كارهاً على جدول كان يطيقه قبل الثلاثين، وليقل (راضياً) إنه يطيقه في التاسعة والخمسين!

إلى من نوجه القول؟

نوجهه إلى المراقبين بوزارة المعارف وقد اكتوت أيديهم بالتعليم، ولطف الله بهم فلم يرهقهم بالجدول الكامل إلا أن يشارفوا سن المعاش

إني أنظر إلى أولئك المراقبين بعين الاحترام، لماضيهم الجميل في خدمة النهضة التعليمية، ولكني أعجب من سكوتهم عن مشكلة لا يجوز عنها السكوت، وهي اختلاف القدرة البشرية باختلاف الأسنان

ثم ماذا؟ هذا مدرس قاتل المتاعب حتى انتصر، فبلغ الستين وهو بعافية فكيف يحال إلى المعاش ليعاني الفاقة في أعوامه الباقية؟

أما بعد - وقد تعبت من أما بعد - فهذه ملاحظات أقدمها إلى معالي وزير المعارف، راجياً أن تظفر من اهتمامه بما هي له أهل، مع الاعتراف بأن مهنتنا قامت على أساس التضحية، وأن حظنا هو أجمل الحظوظ في أسوأ الفروض

ص: 11

وهل يشكو من يستطيع القول بأن له تلاميذ هم الدرة الغالية في تاج الوجود؟

زكي مبارك

ص: 12

‌على مكتب رئيس التحرير

للأستاذ دريني خشبة

كان ذلك في العشرة الأواخر من رمضان الماضي. . .

وكانت الساعة الثانية تكاد تنتصف. . . تلك الساعة التي يهمد فيها الجسم، ويخمد الذهن، وتفتر الأعصاب، ويستعد فيها الموظفون في جميع دواوين الحكومة للانصراف

وكنت قد انتهزت فرصة وجود مجموعة من الأدباء المعروفين جاءوا لزيارتنا فأثرت موضوع الشعر المرسل. . وكان الحوار قد استحر برغم همود الأجسام وخمود الأذهان وفتور الأعصاب، فهذا يرى أنه قد آن الأوان لإدخال هذا اللون من ألوان الشعر في القريض العربي، وذاك يستنكره ويضيق به، وهذا يعرف ما له من الخطر في آداب اللغات الأوربية ولا سيما في نظم الملحمة والدرامة والقصة، إلا أنه لا يتصور كيف يمكن إقحامه على الشعر العربي الذي تتحكم فيه القافية هذا التحكم السخيف الذي اختص به من دون أشعار العالم

ثم دعيت إلى التليفون فجأة، وإذا أخي محمد. . . مدير إدارة الرسالة يدعوني إلى الدار لكتابة مقال لأحد العددين اللذين يطبعان قبل العيد دفعة واحدة. . . فقلت له: ولماذا أحضر إلى الدار ولم أتعود الكتابة خارج منزلي؟ فذكر لي: إن هذا هو ما أشار به الأستاذ رئيس التحرير. ثم أردف هذا بأنه ينبغي أن يفرغ من طبع العدد كله مساء ذلك اليوم، ولذلك (فيجب) أن يبدأ الطبع في تمام الساعة الرابعة. . . أي ساعتين. . . والأستاذ في المنصورة (على فكرة!)

فتبسمت، وقلت له. . . إذن، سأحضر!

ولم يعد في ذهني منذ هذه اللحظة أثر للشعر المرسل، ولا للشعر الحر، ولا لتلك الفروق الواسعة بين الشعر المرسل والشعر الحر. . . بل نسيت موضوع الشعر كله. . . بل نسيت زائري الأفاضل، وأن كنت قد وضعت ذراعي في ذراع واحد منهم، ثم توجهت معه إلى الرسالة. . . سيراً على الأقدام. . .!

وكان صديقي هذا هو السبب في إثارة موضوع الشعر المرسل، فكان يحاول وصل الحوار في الطريق، ولكن هيهات. . .! لقد كنت عنه وعن الشعر المرسل في شغل. . . وكان أهم

ص: 13

ما يشغلني هو الموضوع الذي تسهل الكتابة عنه في رمضان، وفي مثل هذا الوقت من النهار، وفي مثل حالتي من التعب وخمود الذهن وفتور الأعصاب،. . . ثم. . . في ساعة. . . ساعة واحدة! وأين؟ بعيداً عن الغرفة الهادئة التي تشرف على حدائق شبرا الغناء وحقولها الفيحاء، والتي تعودت أن أكتب فيها في سهولة ويسر، وفي غير مشقة أو عناء. . .

وكنت كلما صرفت صديقي عن موضوع الشعر المرسل أبى إلا أن يعود إليه. . . فقلت: إذن أشغله بما يشغلني، وأشركه في البحث عن الموضوع الذي تسهل الكتابة فيه بالرغم مما يحدق به من تلك الظروف. . . فقلت له:

افرض يا صديقي العزيز أنك عدت تلميذاً في المدارس الثانوية، لا طالباً في الجامعة. . . أو افرض أنك رأيت هذا فيما يرى النائم، وأنك تجلس الآن - أي في المنام - في لجنة الامتحان لشهادة الثقافة مثلا. . . مثلا. . . وأنك تسلمت ورقة أسئلة اللغة العربية، فوجدت في رأسها في المكان المخصص لأسئلة الإنشاء هذا السؤال: اختر موضوعاً من عندك يتعلق بمشكلة اجتماعية من مشكلات هذا العصر واكتب فيه من ثلاثين إلى أربعين سطراً (بشرط ألا تتعرض للأحزاب المصرية بخير أو شر!) فماذا عسيت كنت تختار؟

وافتر صديقي عن ابتسامة خبيثة طويلة عريضة وقال: كنت أكتب عن الشعر المرسل!

فقلت له: وهل للشعر المرسل علاقة بالمشكلات الاجتماعية الحاضرة! أتريد أن تشق علي أو تشق صدري يا أخي؟

فقال لي وهو ما يزال محتفظاً لفمه الهائل بابتسامته الصائمة الظامئة الجائعة: كلا. . . ولكنه الموضوع الوحيد الذي أستطيع أن أكتب عنه بحرية مطلقة، دون أن أتعرض للأحزاب المصرية بخير أو بشر!

وكنا قد بلغنا دار الرسالة فلم أرد عليه؛ فلما صعدنا إلى الإدارة استأذنته في ساعة أغيب عنه طوالها بعد أن شغلته بكتاب رجوت أن يتلهى به عن الشعر المرسل. . . ولم يفته أن يسألني فيما أصرف تلك الساعة من هذه الظهيرة القائظة فتبسمت ابتسامة أطول من ابتسامته وأعرض، وأشد جوعا وظمأ، ثم قلت له: حيث أجيب عن السؤال الأول من أسئلة الإنشاء في امتحان الثقافة يا صديقي، وسأجتهد ألا أخرج عن الموضوع كما خرجت. . .

ص: 14

وسأجيب في اليقظة لا في المنام!

لست أفهم هل فطن أخي هذا إلى ما عنيت، ولكني فهمت من أخي محمد أنني سأجلس لكتابة المقال على مكتب الأستاذ رئيس التحرير!

عند ذلك تعاظمني الأمر جداً، ونظرت إلى مكتب الأستاذ رئيس التحرير نظرة عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة. . .

أجل يا صديقي القارئ. . .

فلقد كنت تلميذاً للأستاذ الزيات منذ نحو من ربع قرن! وكنت قبل أن ألقاه في المدرسة قد اتصلت به عن طريق كتبه قبل ذاك. . . فلقد أعطاني ابن عم لي قصة (آلام فرتر) لأقرأها. . . أو لأحفظها. . . كما أعطاني صديق آخر كتاب (تاريخ الأدب العربي) ليكون لي نبراساً في مطالعاتي. . . في دنيا الأدب. . . ومنذ ذلك العهد وصلتي بالزيات أقوى صلاتي بالناس جميعاً، ولا أذكر أن الزيات كتب كلمة أو خط حرفا أو أصدر كتاباً لم أقتنه ولم أقرأه ولم أشتغل به

نظرت إلى مكتب رئيس التحرير إذن، وقد تعاظمني أمر المقال المطلوب الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد، كما تعاظمني أن أجلس، أنا التلميذ المتواضع المهذب المؤدب - ولا مؤاخذة! - إلى ذاك المكتب العتيد، مكتب الأستاذ العظيم المهذب المؤدب، ذلك المكتب الذي جعلت أحملق فيه مسبوها مشدوها، وأنظر إليه تلك النظرة التي عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة

كان علي أن أفرغ من المقال - الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد - في ساعة، وقد كان أخي محمد يحسب أنه قد غلق علي أبواب الحجرة المقدسة، سيتنزل علي الوحي السريع المؤاتي فأدفع بالمقال في نصف تلك الساعة أو في ربعها، وعند ذلك يفرغ هو كما يفرغ عمال المطبعة الذين كانوا يرتقبون إجازة العيد بالصبر الذي يصفه البلغاء بأنه صبر فارغ - دون أدري لماذا؟

كان أخي محمد يمني نفسه بهذا كله، وكان تليفون الرسالة الموجود إلى يساري في الحجرة المقدسة يرن فيقدم السيد محمد مسرعاً ليتولى المكالمة، وكنت أراه يبعثر نظراته فوق

ص: 15

الصحيفة التي أعدت للمقال المنشود فيراها لا تزال بيضاء. بيضاء ناصعة. أو بيضاء خاوية. . . وكنت أرى نظراته وقد ارتدت إليه حاسرة خاسرة فأرثي له، ولا أرثي لنفسي. . . ولماذا أرثي لنفسي، وقد كنت أستمتع بلحظات سعيدة هن من أعظم اللحظات في حياتي؟ ألم أكن جالساً أضرب أخماساً لأسداس فوق مكتب أستاذي العظيم؟ هذا المكتب الذي ربما كتب عليه الزيات فصولاً من كتابه الثمين في تاريخ الأدب العربي، أو ترجم فوقه فصلاً أو فصلين أو فصولاً كثيرة من آلام فرتر أومن رفائيل. . . أو دبج عنده خمسين أو ستين من افتتاحياته العجيبة التي جمعها في وحي الرسالة ولم يهدي إلي منها نسخة مع ما كان يعرف من مرضي وانقطاعي عن الدنيا إذ ذاك، ومع أنه أهدى منها إلى جميع الناس، بالرغم مما ذكر لي مرة أنه لا يهدي كتبه إلى أحد. . . ذكرت ذلك كله واشتغلت به عن موضوع المقال، وذكرت إلى ذلك كله عهود الصبا وشرخ الشباب. . . أيام أن كان الزيات العظيم آنق معلم معتم في مصر، والشيخ الذي يفتخر الطلاب بالتأدب عليه والتتلمذ له

بيد أن بعض الحوادث سيطرت على كل تلك الذكريات واستبدت بها، فقد كان الأستاذ يملي علينا يوماً تمريناً في البلاغة وكان يملي من ذاكرته دائماً. . . فلما أملى بيتي جرير المشهورين في العيون علق عليهما هذا التعليق التقليدي الذي تحشى به كتب الأدب، من أنهما أحسن ما قيل في العيون. . . وهنا بدا علي شيء من الضيق جعلني أبتسم كالذي يستهزئ بهذا الكلام، فلما سألني الزيات ماذا يضحكني أجبته بصراحة: هذا التعليق الذي تسمح به وبأمثاله كتب الأدب، فسألني: ولمه؟ قلت لأني أحفظ في وصف العيون شعراً هو في نظري أروع من شعر جرير وأنا مع هذا لا أعده أروع ما قيل في العيون، ولا أروع ما ينتظر أن يقال فيها، فسألني أن أتلو شيئاً مما أحفظ، فقلت:

نُجْلٌ تظل حواليها نواظرنا

صرعى من الوجد فوق الخد والجيد

لهن إعجاز عيسى إن أردن بنا

خيراً وفيهن أسرار العناقيد

وهنا سألني، أو أمرني، أن أكتبهما على السبورة، فاعتذرت برداءة خطي الذي يلقى منه عمال مطبعة الرسالة الأمرين، فكتبهما الزيات العظيم بيده، وكان خطه دقيقاً أنيقاً جيداً كعهده إلى اليوم، ثم التفت إلي وسألني عن اسم الشاعر صاحب البيتين، فقلت هما لمسلم

ص: 16

بن الوليد. . . فقال، لا. . . إنني أحفظ ديوان مسلم ولا أعرف أنه قالهما. . . فقلت: هما إذن للعباس بن الأحنف. . . فقال: ولا للعباس يا خشبة. . . فقلت: هما لي إذن وأنا ناظمهما. . . وهنا ثارت في الفصل عاصفة شديدة من الضحك، وأصر إخواني الطلبة على أن يسمعوا القصيدة كلها، فأبيت، واستنجدت بالزيات العظيم. فلما سألني: وماذا يمنعك؟ أسررت إليه أن معظم القصيدة في الأدب المكشوف الذي أستحي أن أنشده. . . فاستطاع حفظه الله أن يصرف شياطين طلبة (الإعدادية!) عني

ولم تحصل طبعاً موازنة بين ما قلت وما قال جرير الخالد الذي لا يعقل أن يطاوله فتى في السابعة عشرة من عمره

ومما كانت ذاكرتي تضطرب به اضطراباً شديداً هذا الحادث الذي وقع لي مرة مع أحد أساتذة اللغة العربية بالمدرسة، فقد كان هذا الأستاذ يدرس لنا الأدب قبل أن يعوضنا الله منه بالأستاذ الزيات، وقد كنت دائم الاختلاف معه خصوصاً في كثير من تعبيراته العربية، وقد ظن الأستاذ أنني أستخف بمحصوله العلمي فرفع الأمر إلى ناظر المدرسة الذي تعجل فانتهرني على صورة من الصور. . . وقد لنت للناظر ولكن لا على حساب كرامتي؛ ثم رجوته أن يحكم في أوجه الخلاف الأستاذ الزيات وقد عرفت أنه أخذ باقتراحي، لأن المدرسة عهدت بعد أسبوع أو نحوه بالفصول (الصغيرة) إلى الأستاذ، وفوجئنا مفاجأة سارة بدخول الأستاذ الزيات ليدرس لنا مادة الأدب علاوة على المواد العربية الأخرى كلها

وكلفنا الزيات مرة بالكتابة عن المرأة المصرية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ثم انتهت الحصة ولم أفرغ من الكتابة بعد وإن كنت قد كتبت اثنتي عشرة صفحة. فلما كانت الحصة التالية تقدمت إلى أستاذي الجليل بكراستين كاملتين في موضوع المرأة المصرية. ولما سألني متى كتبت كل هذا (الهراء!) عبست العبوسة الهائلة التي كان لابد لغرور التلميذ المراهق أن يعبسها، ثم قلت: ليس ما كتبت هراء، ولكنه ملخص دعوة قاسم بك أمين، وما رد به المحافظون والرجعيون عليه، وعلى رأسهم محمد طلعت حرب بك. . . ثم يلي ذلك رأيي، (أي والله قلت هذا بالفم الممتلئ المتهدج!) بصفتي مصرياً أولاً وبصفتي مسلماً ثانياً. . . وكنت أحبذ آراء المرحوم قاسم بك في ذلك الحين إلى حد الجنون، ولا أرى فيها ما ينافي الدين ولا الكرامة ولا الحشمة. ولكن الزيات تبسم في هدوء وسكينة ثم قال: لا بأس،

ص: 17

لا بأس! ولكن ابحث لك عن معلم غيري يصحح لك كراستين كاملتين في موضوع واحد. فقلت. . . وهي قولة تفيض كبراً ويكاد يخنقها الغرور: على كل حال لقد كتبت في الموضوع الذي كلفتنا به، ولست أرى أن ما كتبت في حاجة إلى تصحيح (!!)

والمدهش أن الزيات - بعد كل هذه الوقاحة - لم يزدد لي إلا محبة، ولم يجزني إلا كل مودة، ولم يقابلني إلا بكل رعاية. . . مع أنني انتهزت فرصة تفتيش محمد بك الخضري على المدرسة بعد ذلك بأيام قلائل، وقدمت له الكراستين مباهياً. . . فشجعني الرجل عليه رحمة الله بكلمات، ووعدني بقراءة موضوعي الطويل، وبرد الكراستين حين يفرغ منهما. وأكبر ظني أنه لم يفتحهما خارج المدرسة، لأنني فقدتهما إلى الأبد. . . فيا ترى! ماذا كنت قد كتبت فيهما؟!

هذا بعض ما كان يهجس في روعي من ذكريات أستاذي رئيس التحرير الذي كنت أجلس على مكتبه مشتغلاً بماضي معه، عن الموضوع الذي يجب أن أفرغ من كتابته في نصف ساعة، وكان النصف الآخر قد مضى في استعراض هذه الذكريات. . .

ثم دخل أخي محمد فجأة لأمر ما من أمور الإدارة، فلما رأى الصحيفة بيضاء هذه المرة أيضاً، كآخر عهده بها، أربد وجهه، وشحب شحوباً شديداً. وكنت قد أخذت أحلم أحلاما أخرى من نوع آخر، غير أحلامي بالذكريات السالفة، فقد انتقل خيالي السابح إلى أدب الأستاذ الزيات شكلا وموضوعاً، وجعلت أستعرض (فرتر) و (رفائيل) استعراضاً هادئا. فها هو ذا (فرتر) يقبض على مسدسه لينتحر. . . وها هو ذا الدم يتفجر من جبينه بعد أن دوت تلك الرصاصة الطائشة. . . وهاأنذا أبكي - يوم قرأت فرتر لأول مرة بالطبع - متأثراً أشد التأثر. . . ثم ها هي ذي جوليا، حبيبة رفائيل، تموت مما بها من مرض، وهاأنذا أتلو على رفاتها قصيدة لإمارتين: البحيرة، ثم قصيدته: الوحدة، بقلم الأستاذ الزيات. . . وبعد ذلك أتذكر وصف الفتى رفائيل، ذلك الوصف الرائع في العربية بقلم الزيات، وفي الفرنسية بقلم لإمارتين، فأزداد انصرافاً عن الموضوع الضائع الذي لم أستطع أن أهتدي إليه بعد. . .

ونظرت فرأيت أخي محمداً ما يزال واقفاً أمامي. فقلت له: ما هذه الضجة التي أسمعها في الشارع. . .؟

ص: 18

فقال: العمال. . .

فقلت، وقد خفت أن يكونوا عمال المطبعة: ما لهم؟

فقال: سيتناولون طعام الإفطار على مائدة مولانا!!

فقلت: حفظ الله مولانا، ومسح الله دموع الفقراء. . . عن إذنك يا أخي محمد. . . خذ المقال بعد ربع ساعة!

ثم كتبت في وسط السطر: يا دموع الفقراء!

وفرغت مما كتبت في خمسة عشر دقيقة، وخرجت فوجدت صديقي الشاعر ينتظرني لنصل ما انقطع من حديثنا عن الشعر المرسل، فأكملناه على أحسن وجه حتى وصلنا إلى ميدان الملكة فريدة، ومشيناه على الأقدام

دريني خشبة

ص: 19

‌المشكلات

8 -

اللغة العربية

للأستاذ محمد عرفة

لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟

لا أريد أن أضع منهاجاً مفصلاً للطريقة الجديدة لتعلم اللغة العربية، وإنما أريد أن أضع قواعد مجملة تتبع عند وضع هذا المنهاج، وهذه مبنية على ما تقدم بحثه.

يجب أن يحدث درس القواعد من لتعليم الابتدائي والأولي لأن القواعد كما قلنا لا تكسب ملكة اللغة وإنما هي فلسفة للغة وضوابط؛ فمن الواجب أن نسعى في أن نكون للناشئ ملكة اللغة أولاً.

يجب أن نستبدل بالقواعد المطالعة الكثيرة والحفظ الكثير والمحادثة والمحاورة.

ويجب أن يختار للتلاميذ ما يحفظونه بحيث يكون مناسباً لأذهانهم لا يعلو عليها، وتؤلف لهم محاورات يحفظونها ويتحاورون بها وتكون مما تكثر في الكلام ويحتاج إليها في الخطاب.

ويجب أن يعلم أن هذه المحفوظات تحفظ لتكون نموذجاً ذهنياً ليقيس عليه كلامه من حيث لا يدري فيجب أن يعنى بهذه النماذج فتحفظ صحيحة لا غلط فيها، ومعربة لا لحن فيها، فإنه إذا حفظها ملحونة ارتسم النموذج في ذهنه كذلك، فنسج على منواله، وأنفق مما اكتسب. ويجب على المدرس أن يراعي تلاميذه ويعلم موطن الضعف في لغتهم ويزودهم بما يزيل ضعفهم، ويقوم لسانهم، فإن رأى منهم أنهم يجرون الفاعل في أحاديثهم فليعلم أنهم بحاجة إلى أن يحفظوا كثيراً من المقطوعات فيها أمثلة كثيرة للفاعل، وليأخذهم بحفظها صحيحة غير ملحونة.

أما مرحلة التعليم الثانوي فيجب أن يظل التعليم بالحفظ والمطالعة فيها ويزاد عليه قواعد اللغة، ولكن ليست القواعد التي بين أيدي التلاميذ الآن، بل القواعد التي سأقدم مشروعها، والتي تجمع الصدق والوضوح والسهولة.

يجب ألا تقل العناية بالحفظ والمطالعة في هذه المرحلة بل يجب أن تزيد، ويجب كما قلنا

ص: 20

أن تؤلف لهم روايات تمثيلية أخلاقية يحفظون أدوارها ويقومون بتمثيلها.

ويجب كما قلنا أيضاً أن يكلف التلاميذ بنخل دواوين الأدب واختيار أحسن ما يقرؤون، وأن تعطى درجات لمن قام بعمل ذاتي في أيام العطلة الصيفية في الحفظ والمطالعة.

أما مرحلة التعليم العالي فهي كمرحلة التعليم الثانوي في الحفظ والمطالعة والقواعد، ولكن يجب أن يتعمق في درس هذه القواعد، وفي بحث أصولها وفي الموازنة بين مذاهب العلماء فيها

فأما خلق جو عربي في المدرسة أو في دروس اللغة العربية خاصة لا يتكلم الطلاب والمدرسون فيه إلا باللغة العربية، وتكليف التلاميذ بكتابة موضوعات ينشئونها فقد سبقت الإشارة إليها فيجب أن تدخل في البرنامج الجديد لتعليم اللغة.

وينبغي أن يعلم أن تكليف التلاميذ بموضوعات ينشئونها ليس لغواً في طريقتنا كما هو لغو في الطريقة الأولى، لأن الطريقة الأولى كانت تكلفهم الإنشاء وليس عندهم معاني يكتبونها لقلة ما يطالعون وما يحفظون، وليست عندهم ملكة اللغة العربية - أما في الطريقة الحديثة فهي تكلفهم الإنشاء وعندهم معان خلقتها والحفظ والاطلاع على آراء العلماء، وهي تكلفهم وقد رسخت في نفوسهم ملكة اللغة بالحفظ والمطالعة والحديث، وسيسر ذلك المعلمين ويجعل الدرس لذيذاً لأنهم إذ يصححون كراسات التلاميذ في الإنشاء لا يطلعون على لغو من القول يقضي العين ويغثي النفس كما كان في الماضي؛ بل يطلعون على أقوال لها حرمتها ومكانتها إذ هي بنت المطالعة الكثيرة والدرس الطويل.

ذلك أسلوب نراه كفيلاً بكل ما نريد من رقي لغوي وبياني لأنه كفيل بتكوين الملكات في اللغة والبيان، وبهذه الملكات تفهم اللغة وتتذوق أولاً، وتفهم أصولها وقواعدها ثانياً، ونراه كفيلاً أيضاً بإمتاع المتعلم وإلذاذه، وكفيلاً بفائدته وخيره.

فأما إمتاع التعليم بهذه الطريقة فإنها تعلم اللغة بآداب السالفين، وحكم الماضين، وبالأشعار البليغة، والخطب الفصيحة، وتواريخ الأمم، وفي كل ذلك غذاء للعقل، وإرضاء للقلب، وإمتاع للعاطفة؛ والمرء يسر ويأنس للخبر الغريب، والنادرة الطريفة، والحكمة النافعة، والمثل السائر، والجواب المسكت، والقول السديد، والرأي الحميد، وهذا كل جعل في الطريقة الحديثة مادة لتعليم اللغة، يطالع فيه، ويحفظ منه، والقول إن كان بليغاً، والمعاني

ص: 21

إذا كانت رائعة أنست بها النفوس، وهشت لها، ووجدت فيها المتعة واللذة

وأما الفائدة فأي فائدة أعظم من التأدب بآداب العلماء، والاطلاع على حكمة الحكماء، والانتفاع بتجارب ذوي التجارب، وهذا كله جعل في طريق تعليم اللغة، والكلمة الطيبة إذا نزلت بالنفس وعلقت بها واستوثقت منها، وأيقنت بها، فإنها تكون هادية ومرشدة، ينتفع بها المرء في غدوه ورواحه، وصبحه ومسائه، كما قال الله تعالى:(ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)

والمرء ما عاش بحاجة إلى الأدب الذي به تعمر القلوب، وتزكو النفوس. قال عبد الله بن المقفع:(ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل. ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر والغلبة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا،) وإن المرء قد يفيده الحرف من الأدب ويكون أرد عليه من جيش عرمرم. قال معاوية: لقد رأيتني وأنا أهم بالفرار يوم صفين وما يمنعني إلا قول الشاعر

وقولي كلما جشأت وجاشت، مكانك تحمدي أو تستريحي فأين من هذا كله القواعد وليس فيها متعة ولا لذة، فليست عاطفية حتى تثير العاطفة والوجدان، وليس عقلية حتى تكون فيها لذة المعقولات لمن اعتاد المعقولات، إنما اللغة مواضعة واصطلاح، وقواعد اللغة شرح وتفسير لهذا الاصطلاح، وليس فيها إلا بعض علل عقلية، وهذا مغمور وسط علل مدخولة، وأسباب غير معقولة.

وكما أنها لا تثير لذة، ولا تبعث متعة، كذلك لا تحصل منها على فائدة. وما الفائدة منها وهي ليست حكمة ولا مثلاً ولا شرحا لقانون من قوانين الحياة، وهي تبعد عن الحياة وتجاربها وعن محيطها الواسع، وبحرها الجياش المضطرب، وأن الذي يقرأ كتاباً في القواعد كالأشموني أو المطول، يخرج منه ولم يستفد خبرة بالحياة، بخلاف من يقرأ كتاباً كالكامل لأبي العباس المبرد، أو البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؛ فإنه يخرج منه بحكمة الدهور وعظة الأيام، ومهما فاته فلن تفوته حكمة أو تجربة، هي عصارة

ص: 22

عصور، وخلاصة دهور.

وما أظن الأمم الإسلامية منيت بما منيت به، بعد العز والمنعة والقوة والصولة إلا من شغل علمائها وخاصتها طول عمرهم بكتب القواعد التي لا تكشف إلا عن طرف يسير جداً من هذا الكون الواسع، أو بالحرى لا تكشف عن شيء إلا عن مواضعة واصطلاح وتفسير لهذه المواضعة وهذا الاصطلاح، ومن انصرافهم عن هذا الكون الفسيح وعلومه، وعلل حوادثه وأسبابها، وشؤون النفوس وخواطرها، وتزكيتها وتدسيتها

ما هذا الحظ العاثر! قد جمع لنا المتقدمون أبواب الحكمة وتجارب الحياة، وكانوا أحرص الناس على حفظها حتى ينتفع بها من بعدهم، وكان حرياً بنا أن نغترف من هذه الموارد العذبة، ونستقي من هذا السلسبيل الصافي، فكان نصيب النافع منا الإعراض والنفور، ونصيب غيره الإقبال عليه، والكلف به

أي شيء أنفع وأجدى من حكم أفادها أصحابها بعد التجارب المرة، والعثار والخيبة، والتردي والسقوط، وبعد النيل تارة، والإخفاق تارات، وبعد أن ذاقوا حلو الحياة ومرها، وصفوها وشوبها، فأفادتهم التجارب علماً، فجمعوا هذا العلم في جمل قصيرة، وحروف قليلة، لتكون أقل كلفة، وأيسر مؤونة، يسهل حفظها وادخارها إلى وقت الحاجة لينتفع بها

وهنا شيء أرى من الواجب علي أن أنبه عليه، وهو أن اسم الأدب أطلق كذباً وزوراً على تلك الأبيات من النسيب والغزل المذكر والمؤنث، وعلى وصف الخمر ومجالس الشراب، وعلى أبيات البطالة والعجز، وعلى أخبار الفساق والمجان، فيجب أن يتحرز من هذه ولا تدخل في مطالعات التلاميذ ومحفوظاتهم لأن تأثيرها على الأخلاق شديد، وإفسادها للمروءات عظيم، فكم من مستقيم أخرجه عكوفه على هذا الأدب الزائف عن استقامته، وكم من جاد همه المعالي وعظائم الأمور صيره هذا الأدب الزائف مسفاً ضئيل الأمل. ولا يصح أن ينكر هذا كله؛ فإن تأثير القول في النفوس عظيم، ونقضه للأسباب المتينة قوي. ويجب إذ آمنا بتأثير الكلمة الصالحة في النفوس أن نؤمن بتأثير الكلمة السيئة فيها أيضاً؛ فإن المعاني إذا كسيت الألفاظ الرائعة، والنظم البارع كانت حبيبة إلى كل نفس، وكانت مداخلها إلى النفوس خفية، ونقضها للطبائع المحكمة عظيما. ولأمر ما حذر النبي (ص) من كل منافق جهول القلب عليم اللسان.

ص: 23

وإذا دار الأمر بين تعليم اللغة من سبيل هذا الأدب الزائف وجهلها - اخترنا جهلها، لأنه خير لنا أن نعرب في أفعالنا ونلحن في أقوالنا من أن نعرب في أقوالنا ونلحن في أفعالنا

الآن أشعر بما يشعر به من كان يحمل حملاً ثقيلاً فمشى به أميالاً في صحراء محرقة حتى ارفض عرقاً، وتقطعت أنفاسه تعباً، ثم بلغ به مستراحاً ومقيلاً، فرمى بحمله وجلس بجانبه، فشعر بالراحة من ذلك الحمل الذي بهظه وأنقض ظهره.

أشعر بذلك لأنه كان حملاً ثقيلاً تلك الأمانة التي أخذ الله على العلماء ألا يدخروا نصحاً ولا يجدوا سبيلاً لرفع أممهم إلا أرشدوهم إليه، ونبهوهم عليه، وقد كان يحزنني أن تعلمني التجارب ما علمتني من قيمة القواعد في تعليم اللغة، وضرر الشغل بها عن علوم الحياة ثم أكتمه ولا أبوح به. والآن ولله الحمد قد خرجت من عهدة الكتمان، فبحت به، ولم أكتف بالبوح حتى أعلنته، ولم أكتف بالإعلان حتى دللت عليه. ولم أكتف بالتدليل حتى صرفت القول على وجوه شتى من التزيين والتقبيح والترغيب والتحذير. الآن وضعت الحمل وحمله آخرون.

محمد عرفة

ص: 24

‌5 - الإسلام والفنون الجميلة

للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق

ولقد حرم القرآن الكريم الصور المجسمة التي تتخذ للعبادة (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والأنصاب هي الأصنام التي تعبد من دون الله كما ذهب إلى ذلك المفسرون. أما التصوير باعتباره أحد الفنون الجميلة، فلم يتعرض له القرآن بشيء بينما تناولته كتب السنة المعروفة بشيء من التفصيل إذ ورد بشأنه نحو مئة وسبعين حديثاً: طائفة منها تنص على لعن المصور، وطائفة تمنع بيع الصور، وطائفة تذكر أن أصحاب الصور يوم القيامة يعذبون، وطائفة تبين إثم من يصنع الصور، وطائفة تحظر استعمال ثوب فيه تصاوير، وطائفة تشير إلى أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وطائفة أباحت تصوير ما ليس فيه روح، وطائفة رخصت في التصوير على الوسائد وما أشبهها

ويجمع علماء الدين الإسلامي على حرمة الصور المجسمة ما لم تكن صغيرة تتخذ لعباً للأطفال أو ناقصة الخلقة لا تستطيع أن تعيش إن قدر ونفخت فيها الروح. أما الصور المسطحة، فقد انقسموا حيالها إلى قسمين: قسم يرى حرمتها، وقسم يرى إباحتها. ويشك المستشرقون في صحة الأحاديث التي تنص على حرمة التصوير ويرون أنها مكذوبة على النبي افتعلها فريق من الفقهاء تحت تأثير اليهود الذين اعتنقوا الإسلام - والتوراة تنهى عن التصوير كما بينا آنفاً - أو ترغيباً في التقشف والبساطة في العيش وتنفيراً من الإقبال على الترف، أو كراهتهم للتصوير نفسه باعتباره من أسلحة السحر. ويرى هؤلاء المستشرقون تبعاً لذلك أن النبي لم يكره الصور ولم ينه عن اتخاذها، وأن تحريمها لم يظهر إلا بعد وفاته بنحو قرن ونصف عندما أخذ الفقهاء يجمعون الأحاديث النبوية

ويقف علماء الآثار من هذا الموضوع موقفين متناقضين: فبعضهم يؤيد المستشرقين فيما ذهبوا إليه ويسوقون الأدلة على ذلك بوجود الصور على النقود التي كان يتعامل بها المسلمون مثل الدولة الأموية، وعلى السكة التي ضربها الأمويون والعباسيون، ثم بتلك الصور التي وجدت في بعض أبنية الأمويين والعباسيين والسلاجقة، وبعضهم يرى أن التصوير كان مكروها في الإسلام وهذه الكراهية ترجع إلى عصر النبي والواقع الذي لا

ص: 25

شك فيه أن سواد المسلمين من شيعة وسنيين لم ينظروا إلى التصوير نظرة الارتياح؛ ولذلك لم يكن مجالاً لنشاط أغلب فنانيهم. على أن الذين ترخصوا فيه زاولوا رسم الأحياء في كل العصور الإسلامية تقريباً: في القرن الثاني بعد الهجرة في قصير عمرا، وفي القرن الثالث في قصور (سر من رأى)، وفي القرن الرابع في الحمام الفاطمي بالقاهرة، وفي القرن الخامس في مدينة الزهراء، وفي القرن السادس في قصر الحمراء، وفي القرن السابع في ديار بكر وقونية. وفي مثل هذه الأمثلة التي ذكرناها صور آدمية وحيوانية مسطحة ومجسمة تنطق بأن الفنان المسلم في هذه الناحية قد أجاد إجادة نسبية بالقياس إلى عصره.

على أن عبقريته الفنية لم تتجل في هذه الناحية بقدر ما تجلت في المخطوطات، فقد شغف المصورون المسلمون بتجميل المخطوطات وتزيين كتب العلم والدين والأدب والتاريخ والصناعة بصور تفسر ما تتضمنه من بحوث وحوادث وما تتناوله من الآلات والحيل الميكانيكية.

فكراهية التصوير كان لها أثر بعيد في الفن الإسلامي إذ كان عاملاً فعالاً في نضوج تلك الزخارف الإسلامية الرائعة التي لم ينتج مثلها فن من الفنون السابقة على الإسلام أو اللاحقة له.

(يتبع)

محمد عبد العزيز مرزوق

ص: 26

‌منهج البحث الاجتماعي

للأستاذ إميل دوركايم

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ثانياً - أبواب علم الاجتماع: العلوم الاجتماعية الجزئية

يميز كونت في علم الاجتماع بين قسمين: الاجتماع الاستقراري والاجتماع الديناميكي (التطوري). ويدرس الاجتماع الاستقراري المجتمع من حيث هو ثابت في وقت معين من حياته، ويبحث عن قوانين توازن المجتمعات؛ فإن الأفراد يحيون في كل لحظة حياة معينة، وتقوم بينهم علاقات معينة تكفل التماسك الاجتماعي. ويجب أن يكون هناك نوع من العلاقات المحددة بين جميع مظاهر الحضارة المختلفة في كل وقت، بمعنى أن حالة معينة من العلم مثلاً يتصل بها حالات معينة من الدين والأخلاق والفن والصناعة وما إلى ذلك؛ فالاجتماع الاستقراري إذن يبين هذه العلاقات والروابط التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي. أما الاجتماع التطوري فإنه يدرس المجتمع في تطوره ويبحث عن قوانين ذلك التطور. ويرى كونت أن هناك قانوناً واحداً للتطور هو (قانون الحالات الثلاث تمر الإنسانية بمراحلها في تطورها؛ والإنسانية تتطور دائماً. وهذه المراحل أو الحالات هي: المرحلة اللاهواتية، فالمرحلة الميتافيزيقية، فمرحلة العلوم الوضيعة. ولما كان علم الاجتماع أعقد العلوم الوضيعة كلها فإنه يتناول، لا مشكلة واحدة فحسب، بل مشاكل ومسائل مختلفة ومتعددة بتعدد مظاهر الحياة الاجتماعية. فهناك إذن فروع لعلم الاجتماع، أو علوم اجتماعية جزئية بمقدار تلك المظاهر المختلفة للظاهرات الاجتماعية التي لم تحص بعد. ويرى دور كايم أن من سبق الوقت أن نضع تصنيفاً منهجياً للظاهرات الاجتماعية لتعقدها وتعددها، ولكن من الممكن، في نظره، أن نبين بشكل ما الأقسام الرئيسية التي ينقسم إليها علم الاجتماع

إن أول ما يتوجه إليه نظر الاجتماعي هو المجتمع من ناحية الخارجية، فيظهر له أنه تكون من كتلة من السكان لها عدد معين وكثافة معينة، وتسكن أرضاً معينة تتوزع عليها بشكل معين، وتربطه بما حوله من المجتمعات علاقات وصلات وروابط معينة، وفيه طرق

ص: 27

ومواصلات تفرضها طبيعة الأرض، وهكذا. ولا شك أن ذلك كله من العوامل العامة التي لها أثرها في الحياة الاجتماعية، بل إنها أساس تلك الحياة. فكما أن الحياة النفسية في الفرد تتغير تبعاً للبناء التشريحي للمخ، كذلك تختلف الظاهرات الاجتماعية حسب اختلاف البناء الاجتماعي. فلا بد إذن من وجود علم اجتماعي يكون بمثابة علم التشريح، ويدرس التكوين المادي الخارجي للمجتمع. هذا العلم هو ما يسميه دور كايم (بالمورفولوجيا الاجتماعية)(أو علم تركيب المجتمع) ولا تصف المورفولوجيا الاجتماعية المجتمع وتركيبه فحسب، بل تحاول تفسير ما تراه، فتفسير مثلاً سبب تجمع السكان في موضع دون آخر، وهل التجمع يكون في المدن أكثر منه في الريف أو العكس وسبب ذلك، وتبين سبب نشأة المدن الكبرى وهكذا. فهي أشبه شيء بالجغرافية البشرية. . . وواضح من ذلك أن هذا العلم الجزئي يعالج بدون موضوعات ومشاكل مختلفة ومتعددة

ولئن كانت المورفولوجيا الاجتماعية تدرس الهيكل المادي الخارجي للحياة الاجتماعية، فإن هناك علماً آخر يدرس هذه الحياة نفسها، وهو ما يسمى بعلم الوظائف الاجتماعية (أو النظم الاجتماعية) وهذا العلم معقد أيضاً أشد تعقيد ومركب من عدة علوم جزئية مختلفة

فهناك أولا المعتقدات والنظم والشعائر الدينية. والدين ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تتمثل إلا في مجتمع، وتدعمه جماعة أو هيئة لها أصول ومراسيم تسير عليها دائماً؛ وهذه الهيئة هي الكنيسة في أوربا. وكثيراً ما يتدخل الدين في السياسة ويتصل اتصالاً قوياً بالسلطة السياسية. وللدين - ويدخل في ذلك الخرافات والأساطير وما شابهها عند البدائيين - سيطرة قوية على النفوس، ولابد للمجتمع أن يحترمه ويخضع له. ويرى دوركايم أن دراسة الدين هي أهم ناحية في دراسة المجتمع، وهي تكون ما يسمى بالاجتماع الديني ثم هناك الأخلاق والعادات، وهي أيضاً ظاهرة اجتماعية هامة، فلا يمكن تصور إنسان أخلاقي يحيا وحده، إنما تنشأ الأخلاق من اتصال الناس وتتعلق بمعاملات بعضهم لبعض في المجتمعات؛ وفرع علم الاجتماع الذي يدرس الأخلاق هو الاجتماع الأخلاقي ويتصل بالاجتماع الأخلاقي فرع آخر هو الاجتماع القانوني وهو يدرس النظم التشريعية، والقانون الذي يتصل أشد الاتصال بالحياة الاجتماعية وينظمها، ويحدد أفراد المجتمع. وهناك أيضاً النظم ويدرسها الاجتماع الاقتصادي وهو يبحث كل ما يتعلق بالإنتاج

ص: 28

والمبادلة والثروات والتوزيع. هذه هي الفروع الرئيسية؛ ولكن هناك علمين جزئيين آخرين هما الاجتماع اللغوي الذي يدرس اللغة من حيث هي ظاهرة اجتماعية تعتمد في وجودها على وجود مجتمع ما بين أفراده معاملات وصلات، ومن حيث هي تحمل خصائص المجتمع الذي توجد فيه، بحيث يمكن الاستدلال من اقتراب اللغات على اقتراب الشعوب. ثم أخيراً هناك الاجتماع الجمالي وهو يدرس أعمال الفن؛ فإن الفنان - شاعراً كان أو خطيباً أو مثالاً أو نقاشاً - يظهر ذاتية مجتمعه الخاصة في أعماله، فهو يستمد معانيه الفنية من البيئة الاجتماعية في عصر معين فيعبر عنها ويخاطب بها أناساً غيره، مما لا يتيسر إلا في مجتمع

وقد درست بعض هذه الأبواب من قبل دوركايم وخاصة الظاهرات الاقتصادية التي كانت تدرس تحت اسم (الاقتصاد السياسي ولكن هذا العلم كان يهتم بما يجب أن يكون أكثر من اهتمامه بما كان أو بما هو كائن. ولا ينظر الاقتصاديون إلى الحقائق الاقتصادية نظرة العلماء إلى الحقائق العلمية الفيزيقية مثلاً؛ ولذلك لا يرون ضرورة دراستها دراسة نظرية قبل محاولة الإصلاح. ثم أنهم يظنون أن الناحية الاقتصادية بعيدة كل البعد عن بقية نواحي الحياة الاجتماعية أو أنها مستقلة بذاتها، بينما يرى دوركايم أننا لا يمكننا تفسير الظاهرات الاقتصادية إذا لم نعتمد ونلتجئ إلى بقية الظاهرات الاجتماعية؛ فأجر العمال مثلاً لا يتوقف فقط على العلاقة بين (العرض والطلب) بل على علاقات أخرى اجتماعية أخلاقية كنظرتنا إلى الشخص الإنساني واعتباره وفكرتنا عنه وتقديرنا له من حيث هو إنسان

فواضح إذن من التحليل السابق كيف أن علم الاجتماع لا يدرس مشكلة واحدة بل عدة مشاكل، بحيث لا يمكن لإنسان أن يلم بمشاكله جميعها، بل لابد من أن يتخصص في إحداها. وليس هذا يعني أن ليس هناك علم كلي تركيبي يجمع النتائج الهامة لكل فرع من هذه الفروع الجزئية؛ فإنه مهما كانت الظاهرات الاجتماعية مختلفة ومتعددة، فإنها ليست إلا أنواعاً لجنس واحد. ومن الممكن دراسة ما يؤلف وحدة الجنس وما يميز الظاهرة الاجتماعية في ذاتها. والعلم الذي يهتم بذلك هو علم الاجتماع العام الذي يستخرج القوانين العامة من الجزئيات. وهذا هو الجانب الفلسفي لعلم الاجتماع

ثالثا - المنهج الاجتماعي

ص: 29

بعد ما سبق يجب علينا أن نبين المنهج المتبع في دراسة هذا العلم

إن المشاكل الرئيسية في علم الاجتماع تتلخص في البحث عن كيفية تكوين نظام سياسي أو قانوني أو ديني الخ. . . وعن أسباب وجود تلك النظم. والتاريخ المقارن هو أحسن وسيلة تساعد الاجتماعي على حل هذه المسائل. فالنظم الاجتماعية معقدة أشد التعقيد ومركبة من أجزاء عديدة، فلكي نفهمها لابد لنا من أن ندرس كلا من هذه الأجزاء على حدة، لأننا لن نفيد شيئاً من دراسة النظام كاملاً على ما هو عليه الآن، بل لابد من الرجوع إلى بداية نشوئه ومتابعة تطوره خلال التاريخ ملاحظين ارتباط هذه الأجزاء المنفصلة بعضها ببعض حتى يصل النظام الاجتماعي إلى شكله الحالي. . . لنأخذ مثلاً لذلك ظاهرة القرابة وهي من الظاهرات التي تبدو بسيطة؛ فإننا حينما نحاول دراستها تظهر لنا لأول وهلة فكرة القرابة الأبوية؛ ولكننا إذا نقبنا خلال التاريخ ظهرت لنا فكرة أخرى وتصور آخر عن القرابة وهي القرابة التي تنتمي إلى الأم؛ فهناك عائلات نعرفها خلال دراسة التاريخ لا تعرف إلا هذا النوع الأخير من القرابة، ولا تلعب القرابة الأبوية فيها إلا دروساً ثانوية. ولكن القرابة الآن مزدوجة، تعتبر الناحية الأبوية كما تعتبر الأم، فكيف وصل هذا النظام إلى ذلك؟ هنا أيضاً نتبع خلال التاريخ مرور هذه الظاهرة في كلتا الحالتين خلال حضارات مختلفة، حتى يندمجا معاً ويصلا إلينا على هذه الصورة الحالية المزدوجة. فبالتاريخ إذن نفسر ونبين علل الظاهرات الموجودة؛ والتاريخ يلعب في نظام الحقائق الاجتماعية دوراً يماثل الدور الذي يلعبه الميكروسكوب في نظام الحقائق الفيزيقية

وبذلك يمكن القول إن علم الاجتماع هو إلى حد كبير نوع من التاريخ. والمؤرخ أيضاً يعالج الظاهرات الاجتماعية، ولكنه يعتبرها من ناحية خاصة من حيث تعلقها بشعب من الشعوب في زمن معين وفي مرحلة معينة من مراحل تطوره. أما الاجتماعي فإنه يحاول الوصول إلى علاقات عامة وقوانين كلية عن المجتمعات المختلفة. نعم قد يدرس دراسة خاصة ظاهرة ما مثل حالة الدين أو القانون مثلاً في فرنسا أو إنكلترا أو روما أو الهند في هذا القرن أو ذاك، ولكن مثل هذه الدراسات إنما هي في الواقع وسائل فقط للوصول إلى بعض عوامل الحياة الدينية على وجه العموم؛ ولذا فإن الاجتماعي يقارن في دراستين مجتمعات من نفس النوع أو بين مجتمعات من أجناس مختلفة ليتأدى إلى ما يريد

ص: 30

وهناك منهج آخر عند دوركايم غير التاريخ، وهذا المنهج نستخدمه حينما نبحث لا عن كيف تكون نظام اجتماعي ما، بل سبب تمثل هذا النظام أو هذه الظاهرة في هذه المجتمعات تمثلا متفاوتاً. مثلاً حينما نعرض لدراسة ظاهرة مثل جريمة القتل؛ فإننا بدلا من أن نبحث أين تأتي هذه الظاهرة، نتساءل عن أسباب تفاوت حظ المجتمعات المختلفة منها، فبعضها تشيع فيها بكثرة، وبعضها لا تظهر فيها إلا قليلاً. وكذلك الحال في ظاهرة تفاوت الزواج والطلاق كثرة وقلة في المجتمعات المختلفة وهكذا. ففي مثل هذه المسائل نلجأ إلى الإحصاء

ومهما يكن المنهج الخاص الذي يتبعه الاجتماعي في دراسته فإنه يجب عليه حين يدرس ظاهرة ما أن يتناسى تماماً كل فكرة قد يكون كونها لنفسه فيما سبق، وأن يتناول الظاهرة كما يتناول علماء الطبيعة والكيمياء والفسيولوجيا والسيكولوجيا موضوعات دراستهم، وإن كان من الصعب تحقيق ذلك في علم الاجتماع، لأننا نكون أثناء حياتنا اليومية بعض أفكار عن الأخلاق والقانون والمعاملات الاقتصادية وغير ذلك. ومن العسير نسيان هذه الأفكار.

(الإسكندرية)

أحمد أبو زيد

ص: 31

‌الزهرة اليتيمة

(نبتت في طريق أحد المتنزهات بين الصخور والأحجار زهرة جميلة فقلت فيها)

للأستاذ أحمد الصافي النجفي

عرضت حسنها برغم الصخور

زهرة لم تنل حظوظ الزهور

فهي تحيا على شفا الموت لما

أن أقامت على طريق العبور

وهي تعطي للعابرين جمالاً

وأريجاً ونفحة من سرور

إن تغاضوا عنها دعتهم إليها

بلِسان الشذا ولحن العبير

تسأل العابرين عطفاً عليها

والتفاتاً بحسنها المغمور

وهي من عين من يمر عليها

لم تطالب بغير حق المرور

أصبحت زينت الطريق جديباً

وترى الزهر زينة للصدور

فهي رغم الشحوب تبدي اختيالاً

وابتهاجاً برغم صرف الدهور

تعصر الريح كي تصيب رواء

وتبل الضما بلفح الهجير

وهي تحت الغبار تبدي جمالاً

مثل خَوْدٍ تشع تحت الستور

كم دهاها في الساق كسر فقامت

تتهادى بساقها المكسور

ولدت جنب قبرها فهي جذلى

بحياة وعينها للمصير

يا لها من يتيمة فصلتها

عن حمى أمها يد المقدور

ورماها القضاء مغمضَ عين

وسط دار ليست بدار الزهور

لا رفاق لها ولا أخوات

تعست بذرة لها في البذور

فهي بنت الطريق تحيا وتفنى

تحت ركل ودهسة وعثور

وهي تحكي فقيرة في الطريق

عرضت كف مقعد وأسير

جهلت دارها القديمة لكن

علمت أنها غريبة دور

ص: 32

‌من شعر الأطفال

للأستاذ علي متولي صلاح

1 -

طفل يناجي أمه

أُمِّي: أُحبّك مثلما

أهوى وأرغبُ في الحياةْ

أُمِّي: أُطيُعك دائماً

لأنال رضوان الإله. . .

إني صغيرُك فاقبلي

مني التحيّة والدُّعاءْ

إني فداؤك فاسألي=روحي أُقدّمْها فداءْ. . .

2 -

تحية الشمس

أشرقي بالضياءْ

يا حياة الوجودْ

أنتِ زيْن السماءْ

أنتِ رمزُ الخلودْ

أشرقي أشرقي. . .

أشرقي للأَنامْ

يا جمال الحياةْ

وابعثي الابتسامْ

فوق كلَّ الشفاهْ

أشرقي أشرقي. . .

فيكِ معنى الجهادْ

فيكِ معنى الكفاحْ

فاظهري للعبادْ

يا شعار النجاحْ

أشرقي أشرقي

3 -

المدرسة

دارُ علم وأدبْ

وسرورٍ وطربْ

نقطُع اليوم بها

بين جدٍ ولعبْ

ونغذِّي عقلنا

ونؤدّي ما وجبْ

نحنُ فيها دائماً

لا نبالي بالتعبْ

نحنُ فيها اخوةٌ

ضَمّنا برٌّ وحُبْ. . .

ص: 33

‌البريد الأدبي

1 -

شعراء المهجر

ترددت كلمة شعر المهجر، وشعراء المهجر، في مقالات بعض الأدباء، وذلك بمناسبة السجال الأدبي الذي دار بين الدكتور محمد مندور، والأستاذ سيد قطب، حول (الشعر المهموس)، وقد رأيت بهذه المناسبة أن أذكر أشهر شعراء المهجر ومنتوجهم الشعري الذي أخرجوه لعالم الطبع. وغرضي من هذه الإشارة - ولو كانت خاطفة - إلى لون من الأدب العربي العصري يمتاز بطابع خاص، وسمة معروفة؛ تتجلى حين مقابلته مع آداب البلدان العربية الأخرى. فأشهر هؤلاء الشعراء هم: الأستاذ إيليا أبو ماضي، صاحب ديوان (الجداول) ومجلة (الناهل) الأدبية؛ والمرحوم جبران خليل جبران الكاتب الفنان، وله ديوان (المواكب)؛ والشاعر المفكر ميخائيل نعيمة صاحب قصيدة (النهر المنجمد) الرمزية؛ وهو قد جمع شعره، وسيطبع قريباً باسم (همس الجنون) على ما قالت مجلة (الأديب) البيروتية؛ والفيلسوف أمين الريحاني الذي أفرد معظم الجزء الثاني من كتاب (الريحانيات) للون خاص من الأدب، جاء به شعراء المهجر وهو (الشعر المنثور)؛ ورشيد أيوب الملقب (بالشاعر الدرويشي) وقد توفي في العام الماضي، بعد أن ترك مجموعاته الشعرية:(الأيوبيات) و (هي الدنيا) و (أغاني الدرويش)؛ والشاعر فوزي المعلوف وله ملحمة (على بساط الريح)، وشقيقه رياض المعلوف، وقد أصدر مجموعة من شعره بعنوان (الأوتار المتقطعة) وشفيق المعلوف صاحب ملحمة (عبقر) الشعرية؛ والشاعر إلياس فرحات الذي أصدر قبل سنين رباعيات باسم (رباعيات فرحات)، ونعمة قازان، وله (معلقة الأرز)؛ وهناك مجموعة جيدة من شعر الشاعر القروي؛ ومن شعراء المهجر المعروفين، نسيب عريضة، وإلياس قنصل، ولم يجمعا شعرهما بعد - على ما نعلم - ومما يجب ذكره، ونحن في معرض الإشارة إلى شعراء المهجر، أنهم يعنون بالمعاني الشعرية قبل الألفاظ، وهم قد خرجوا عن حدود الشعر العربي وعروضه المعروفة، إلى ضروب متباينة من النظم. وشعراء المهجر لا يعنون بالديباجة العربية، والبيان العربي؛ وقد تأتى ذلك من معيشتهم في بيئة غريبة عنهم؛ عدا الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي الذي جمع إلى خياله الرائع وأفكاره العالية لغة حلوة، وبيانا مسلسلا؛ وقد اكتسب ذلك من إقامته في القطر المصري بضع

ص: 34

سنين.

2 -

شاعرية العقاد

أنكر الدكتور محمد مندور شاعرية الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في السجال الأدبي الأخير، وهذا الذي أعلنه الدكتور مندور لا يرضاه كل من تذوق شعر العقاد، وقرأ دواوينه الرائعة. والعقاد شاعر موهوب، ويمتاز شعره بالأفكار الفلسفية الناضجة المبثوثة في تضاعيفه. والحكمة التي تقرؤها في بيت للمتنبي مثلاً، تقرؤها في أبيات متسلسلة في قصيدة من قصائد العقاد؛ كما يمتاز بوحدة الموضوع، وموسيقى المعاني التي لا يعرضها الشعر العربي الحديث إلا في شعراء معدودين أبرزهم الأستاذ خليل مطران بك. والذي ينكر شاعرية العقاد يجب عليه أن يقرأ أول آثار العقاد الشعرية، وهو ديوان (العقاد)، وأن يعيد النظر في الطرفة الشعرية الخالدة (ترجمة شيطان) وقصائده:(البدر في الصحراء) و (أنس الوجود) و (طاس على ذكرى)، فسيرى أن العقاد من كبار الشعراء المعاصرين

3 -

رباعيات الخيام

ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد (528) من الرسالة الغراء، أسماء الشعراء العرب الذين نقلوا رباعيات عمر الخيام إلى اللغة العربية بمناسبة ظهور الطبعة الثانية من ترجمة الصافي الرائعة؛ ولم يذكر أن هناك ترجمة منظومة للأستاذ محمد السباعي نقلها عن الإنكليزية، كما لم يذكر المختارات التي انتقاها الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي من رباعيات الخيام، وترجمها إلى العربية نثراً. ثم أتبعها بترجمة شعرية، وهناك ترجمة شعرية لهذه الرباعيات قام بها الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، ونشر بعضها في مجلة (الرجاء) النسائية، وفي الجزء الثاني من (ديوان المازني). وقد ترجمها عن الفارسية نثراً الأستاذ حامد أحمد الصراف، جعلها في ختام كتابه عن (عمر الخيام): ومن التراجم التي لم تظهر في عالم الطبع، ترجمة الشاعر الأستاذ محمد مهدي الجواهري، وترجمة الأستاذ السيد محمد الهاشمي صاحب مجلة (اليقين) البغدادية. ومما أود ذكره في هذه المناسبة أن في ترجمة السباعي، وهي الترجمة الثانية، لرباعيات الخيام في اللغة العربية بيتين مسروقين عن الشاعر الشهير با (بن وكيع)،

ص: 35

وهذان البيتان هما:

غرد الطير فنبه من نعس

وأدر كأسك فالوقت خُلس

سل سيف الفجر من غمد الدجى

(وتعري الصبح من ثوب الغلس)

ويلي هذين البيتين قول ابن وكيع من القصيدة نفسها:

وانجلى عن حلل وردية

نالها من ظلم الليل دنس

(بغداد)

محمود العبطة

تعليم الإنشاء في المدرسة الثانوية

في مقطع 24 فبراير سنة 1928 أبديت رأياً صريحاً وجهته إلى حضرت صاحب المعالي وزير المعارف - إذ ذاك - علي الشمسي باشا، طلبت فيه: أن يختص معلم الإنشاء به، وأن يفرغ مدرس البلاغة لها، وأن يكون للأدب أستاذ خاص. وهكذا. . .

واليوم أرى وزارة المعارف تنهض لهذا الرأي، وإني لأرجو - مخلصاً - أن توفق للأخذ به. وهذا رأيي وعلي تبعته، (إني أريد إلا الإصلاح ما استطعت)

محمد مختار يونس

المفتش بالتعليم الثانوي

إيضاح

كتب الأستاذ مرزوق في مقاله العدد 535 من (الرسالة) قال إن الإسلام نهى الفنان عن ابتداع الصور، وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً) وعندي أن هذا الحديث وأحاديث أخرى أعتقد أنها غير صحيحة، وذلك لأن كتب الحديث لم توضع إلا بعد وفاة النبي بأكثر من مائتي عام تقريباً، وهذه الأحاديث الخاصة بتحريم التصوير بينها وبين تعاليم اليهود ارتباط؛ وما أكثر ما اختلقه من أحاديث نسبوها كذباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم! واليهود تنص التوراة التي يدينون بها (لا تصنع لك تمثال منحوتاً ولا صورة مما في

ص: 36

السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء)

وعلى فرض صحة هذه الأحاديث، فأعتقد أنها لا ترمي إلى التحريم الذي اعتقده الأستاذ مرزوق في مقاله، فأنا أنزه الإسلام عن هذا والفن الجميل لا يتعارض مع الدين وكلاهما يدعو للفضيلة وإن كانت الفنون الجميلة في مصر فيها خروج عن الدين وتعاليمه وإباحة لرأيت أجساد النساء عاريات وهذا ليس من الفن في شيء. فرسالة الفنان اجتماعية وهي الدعوة إلى الفضيلة، ودينية هي إبراز محاسن الطبيعة التي تشهد بقدرة الله، والسياسية وهي التنفير من مذهب يضر بالأوطان. . . والإسلام يبح الفن الذي يدعو إلى الفضيلة. وهناك من الأحاديث (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) و (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)

ولكن المعنى الذي توهمه كاتب المقال وادعاه أعداد الدين ليس المقصود، إنما قصد الرسول صلوات الله عليه أولئك الذين نحتوا الأصنام، ثم أعدوها للناس يعبدونها ويتخذونها آلهة من دون الله أولئك يعذبهم عذاباً أليماً حتى ينفخ أحدهم فيها الروح. وإلا فكيف أتاح معاوية وهو من الخلفاء القريبي العهد ببدء الإسلام أن يضرب نقوداً في عصره عليها تمثال فارس متقلد سيفاً والروح الدينية على أشدها والعقيدة على قوتها! وبعد فأنا أستبعد التحريم وأقول إن المقصود هو المعنى الذي سقته. . . والفن مباح في حدود الدين والأخلاق

(منفلوط)

أحمد فتحي القاضي

المحامي

ص: 37