الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 538
- بتاريخ: 25 - 10 - 1943
في المسجد الأقصى
للدكتور عبد الوهاب عزام
شهدت صلاة العشاء في المجد الأقصى في رمضان، فلا أنسى ما يستقبل الداخل من روعة التكبير ينبعث من جانب المحراب بعيداً كأنما ينبعث من عالم الغيب. وما أنسى القناديل الخافقة في أرجاء المسجد كأنما ترعد من جلال التكبير، ويأتلف تسبيح المصلين وخفقات الضوء كما تتآلف موسيقى من الأنغام والأشعة
وخرجت أمشي في الساحة الفسيحة الجليلة والرحاب الواسع في صحن الصخرة وحوله وأشهد الأسوار والأبنية تحدث أخبارها والفكر طيار بين الماضي والحاضر، والبصر حائر في هذه المشاهد الكثيرة المهيبة، والقمر يرسل أشعته تترقرق على قبة الصخرة الجميلة وتنساب بين الجدران والأشجار، والظلال تفصل الضوء فتكتب سطراً من الجمال رائعاً، أو تخط آية من آيات السجدة في هذا الحرم العظيم يقرأها كل ذي قلب فتسجد جبهته أو يسجد قلبه
تركت الحرم وملء نفسي هذا الجمال والجلال، وملء قلبي ذكر وعبر. ولما خرجت من باب العمود تأملت سور المدينة وقد علا البدر وراءه فتخللت شرفاته الأشعة وبدت كأنها فلول سيف قارع الحادثات طويلاً، وأبلى في الخطوب دهوراً
عدت إلى المسجد مرة أخرى يتلفت طرفي وقلبي وأتأمل هذه المشاهد مرة بعد أخرى كما يحرص القارئ على حفظ آية تروعه أو بيت من الشعر يعجبه، ثم جلست في رفقة كرام خارج باب العمود أتأمل السور الضيق، والقمر من ورائه مرة أخرى
قلت لا بد من زيارة في ضوء النهار يحيط فيها البصر والفكر بهذه الساحة العظيمة وما يتقسمها من أبنية؛ فكم دخلت إلى هذا المكان فما استوعبه فكري ولا أحاط بأرجائه نظري
ثم واعدت الأستاذ عبد الله المخلص، وهو من أعلم الناس بالحرم ماضيه وحاضره، واعدته أن نلتقي بعد صلاة الجمعة في معتكف السيد المجددي وزير الأفغان من الحجرات في صحن الصخرة
هذا يوم الجمعة لست بقين من رمضان عام اثنتين وستين وثلاثمائة وألف وقد اقترب الظهر وأنا منحدر في شارع باب العمود أحمد الإسراع الذي يدفع إليه الانحدار. دخلت من
باب العمود إلى الطريق المدرج ذي الدرجات الواسعة الوطيئة التي تهبط أو تصعد بالسابل يكاد لا يحس الانحدار والصعود، ومررت بهذه العقود الجانبية على طريق التاريخ إلى البيت المقدس تحمل الأبنية العالية كأنها عقود السنين تنوء بما تحمل من أحداث وذكر. والسابلة ميممة شطر المسجد يهتدي بسيرها من لا يهتدي طريقه. شهدت في الحرم جمعة قبل هذه فإذا عيد إسلامي يشترك فيه الرجال والنساء والأطفال؛ الآباء والأمهات في صلاة، والأطفال في رحاب الحرم يمرحون؛ ولكن اليوم يوم جمعة اليتيمة وقد حرص على شهودها في المسجد الأقصى كثير من بيت أهل المقدس والبلاد القريبة، وهذه الوفود تتوالى في أزياء المدن والقرى، وقد تقسمت المصلين مصليات كثيرة في فناء الحرم رضى بها من أشفق من الزحام في المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وسرت فرحاناً خاشعاً أتحرى طريقي إلى حجرة السيد المجددي فلما بلغت الحجرة أدركني عند بابها صديق عظيم لا يغيب وجهه عن مشهد من مشاهد الخير قلت: السيد ليس ها هنا الآن نعود بعد الصلاة. وأحسب المسجد مكتظاً فهلم إلى الصخرة. قال: نصلي هنا في جماعة من هذه الجماعات. فجلسنا وطرفي مقسم بين الجماعات التي تؤم مواضع الصلاة، والجماعات التي تبوأت أماكنها في هذا المحشر. استقرت بالمصلين المجالس زرافات لا يرى بينها إمام، وخيل إلي أنها جماعات المسجد الحرام تتجه وجهات مختلفة ولكنها كلها إلى الكعبة
وكبر إمام المسجد فتوالى التكبير بعيداً فانتفضت هذه الجماعات قياماً، وأحكمت صفوفها وتوالى تكبيرها. ما أعظم هذا مشهداً جميلاً رائعاً! وقفت أتلفت إلى الجماعات المتفرقة في أرجاء المسجد ثم أحرمت فلم يمنعني خشوع الصلاة من أن أجيل الطرف أمامي: هذه قبة المسجد الأقصى وأبنية أخرى تتخللها أشجار باسقات، وأمامي على بعد جماعة من النساء اصطففن عند حجرتين عليهما قبتان، والى اليسار جماعة أخرى من النساء وقفن مع عمد جميلة تعلو بئراً من آبار الحرم، وبعدها ذات اليسار جماعة أخرى عند العقود المشرفة على الدرج المؤدي من باب القبة القبلي إلى باب المسجد الكبير وبعدها جماعة من الرجال. ورأيت قبل الإحرام جماعة ذات اليمين في الفناء الأدنى، وأخرى خلفنا فوق صحن الصخرة المرتفع. فما زلت أراها بقلبي مع هذه الجماعات التي يدركها البصر أمامي. قلت لنفسي إنك في شغل عن الصلاة بهذه المشاهد. قالت: إني أشغل عن صلاة بصلاة، وأخرج
من صلاتي المفردة إلى صلاة الجماعة. ودوى التكبير بعيداً فركعت هذه الجماعات وكدت أعجب لماذا لا تركع هذه الأشجار القائمة، وقد ركعت الصفوف كلها، وذكرت الآية:(ألم تر أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه)
صلينا ركعتين هما عندي سجدة واحدة متصلة. فلما سلمنا قلت للصاحب الكريم ائذن لي لأشهد الجمع خارجاً من المسجد وأعود. وسارعت أتخلل الجموع المنتشرة بعد الصلاة والصفوف المسبحة الجالسة التي لم ينتشر نظامها. وهبطت الدرج مسرعاً لأشهد السيل المتدفق من باب المسجد الأقصى وأتفرس الوجوه الخاشعة الفرحة، وأتأمل الأطفال حول آبائهن وأمهاتهن، وأرى هذا العيد العظيم في هذا الحرم المبارك وأسارير وجهي تنبسط ابتساماً، وتنقبض هيبة، وقفت على شاطئ هذا السيل البشري حيناً ثم رجعت أدراجي إلى صاحبي الكريم في مصلاه. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
في محكمة الجن
للدكتور زكي مبارك
مع الاعتراف بأن القلم في يد الكاتب نعمة لا يماثلها شيء من نفائس الوجود، فأنا كثير الضجر مما يجني علي قلمي، لأنه يتيح الفرص لمن يسرهم إيذائي، ولأنه يجعلني دائماً على بال الناس، ويا ويح من يشغل به الناس!
زرت مرةً إحدى المدارس الثانوية فوجدت ناظرها رجلاً مجهولاً من الدوائر الأدبية والاجتماعية، مع أن المرء لا يصل إلى مثل مركزه إلا بعد ظهور وبروز في الأدب وفي المجتمع، فقلت في نفسي:(هذا هو الرجل السعيد. إن منصبه يضارع منصبي من الوجهة الرسمية؛ وقد يكون راتبه أضخم من راتبي، لأنه قديم العهد بخدمة وزارة المعارف. ولكنه أسعد مني، لأنه بعيد من المجتمع، ومجهول من الجرائد والمجلات، فلا يتحدث عنه متحدث، ولا يتزيد عليه قارئ لا يفهم أسرار البيان)
ثم قلت: (أين حظي من حظ هذه الزميل؟ إن مقالاتي تؤخذ منها قصاصات لتقدم إلى وزير المعارف، فأنا على بال الوزير من يوم إلى يوم، أو من أسبوع إلى أسبوع. ومعنى هذه أني أقدم سريرتي قبل السؤال عما فيها من مجاهيل)
وعلى من يقع اللوم؟ يقع علي وحدي، فمن حق أي وزير أن يتعقب ما يصدر عن مساعديه من أفكار وآراء، ومن واجبه أن يناقشهم فيما يستوجب النقاش
والآفة الفظيعة أني مكثر، وقلما يسلم المكثار من العثار. يضاف إلى هذا قلمي يجول في شجون من الأحاديث تمس طوائف من المعاني الشوائك، فأنا أعرض نفسي لمتاعب لن تنقضي إلا يوم أتوب من صحبة القلم، ولن أتوب!
هل أصدق كل الصدق فأذكر أني شعرت بدمعة تساور جفوني يوم زرت ذلك الناظر السعيد؟
لقد تحزنت وتوجعت، لأني عرفت أن القلم لا يغنيني في حياتي كما يغني أمثالي في الأمم التي يعد قراؤها بالملايين، فلم يبق إلا أن أكون من الموظفين!
أين أنا مما أريد؟
أنا أريد النص على أن قلمي ساق إلى متاعب أخطر مما كنت أعاني، فقد نقلني من معاداة
الإنس إلى معاداة الجن، ونعوذ بالله من كيد الشياطين!
وخلاصة القصة أني تحدثت عن (جنية) سامرتها ليلة بالإسكندرية مسامرة الحبيب للمحبوب، وأنا أجهل أن حديثي عنها ستكون له عقابيل. . . فماذا وقع بعد ذلك الحديث؟
أطفأت النور بالغرفة التي تطل على الصحراء، لأستوحي القمر والنجوم في هدوء وسكون، ثم راعني أن أرى الغرفة تضئ، وأن أرى خلائق لم يكن لي بمثلها عهد، فهتفت: أتوا داري فقلت: منون أنتم؟
فقالوا: الجن، قلت: عموا مساء
- محكمة!
- أية محكمة؟
- محكمة الجن!
- وفي هذه الأنوار؟
- هذه أنوار لا يراها عابر، فلا عليك!
- وهذه الوجوه؟
- هي وجوه لا يراها غيرك
- وماذا تريدون؟
- نريد محاسبتك على ما وقع منك
- وماذا وقع مني؟
- هل نسيت ما نشرت بمجلة الرسالة
- عماذا؟
- عن الجنية المحبوبة!
- ذلك خيال في خيال
- ونحن نحاسب على الخيال، لأنه صورة مصغرة من الحقيقة الواقعية، فأنت محاسب على اقتراف الإثم بمغازلة جنية عذراء.
- من حديثي بمجلة الرسالة عرفت ما اقترفت؟
- عرفنا ما اقترفت قبل أن تنشر حديثك
- وكيف؟
- لأننا نراكم ولا تروننا
- وما الذي منع من عقد المحكمة قبل نشر الحديث؟
- الإثم عندنا يحتاج إلى برهان مكتوب
- وحديثي هو البرهان؟
- نعم، ثم نعم!!
- أتسمعون كلمة الحق؟
- قد نسمع!
- يجب أن تسمعوا، فاسمعوا. أنتم تقفون من الحياة موقف المتفرجين، والمتفرج يرى الممثل ولا يراه الممثل، فالممثل آمر والمتفرج مطيع، أو هو كاتب والمتفرج قارئ
- أتقول إن الإنس أفضل من الجن
- هو ذلك، وإلا فأين نصيبكم من خدمة الآداب والفنون؟
- نحن الذين أقمنا عرش سليمان
- وأين عرش سليمان؟
- بقيت منه المعاني
- هي معان إنسية لا جنية، لأنها متصلة بالناس لا بالجان
- ونحن الذين ألهمنا شعراء الجاهلية
- وهم لهذا جهلاء!
- أنت تحاكم، فما هذه الغطرسة العاتية؟
- أنتم تحاكمونني، يا جماعة الجن، ولم يكن فيكم من يتسم بشجاعتي؟
- وما شجاعتك؟
- أنتم تعرفون شجاعتي، فما تنكرت ولا تلثمت كما تتنكرون وتتلثمون، ولا سمح ضميري بأن أرى الناس ولا يرونني لأني أحب أن تكون أعمالي في العلانية لا في الخفاء
- والجنية التي سرقتها منا؟
- لم أسرقها منكم، ولن أردها إليكم
- أطع محكمة الجن
- وهل أطعت محكمة الإنس حتى أطيع محكمة الجن؟
- سنؤذيك إن تماديت في العصيان
- لا يستطيع مخلوق أن يؤذيني، إن حفظت الأدب مع الله في الترفق بنفسي
- حرر الجنية من حبك
- لن أحررها من حبي، فما أرضى بأن يضيع نصيبها من شرف الوجود
- لا نفهم شيئاً مما تقول
- أنا أقول بأن الإنس أفضل من الجن، لأن الإنس مجاهدون والجن رقباء، والمجاهد أفضل من الرقيب
- والجنية المخطوفة؟
- لن تكون لكم ولو عقدتم ألف محكمة
- وإن اغتصبناها منك؟
- لن تغتصبوها مني، بعد أن سمعت أشعاري، وهي أشعار نظمتها بدم القلب
- أطع محكمة الجن
- لن أطيع
- وإذا حكمنا عليك؟
- سيعييكم التنفيذ!
- وفي هذه المعمعة برزت الجنية وهي تصرخ: أنا الجانية على نفسي، إن كان من الجناية أن أخرج إلى الأنوار بعد طول القرار في غياهب الظلمات
- ماذا تقولين يا حمقاء؟
- معشوقي إنسي، يا سعادة الرئيس
- والإنس أفضل منا، يا شقية؟
- نعم، لأن أعمالهم في العلانية
- وأعمالنا؟
- أعمالنا في طيات الخفاء
- لست منا ولا نحن منك
- أنا من معشوقي، ومعشوقي مني، فاذهبوا عني
- ونهزم أمام الناس
- كما ينهزمون حيناً أمام الجان، والجروح قصاص
ثم انفضت محكمة الجن بدون تعنت يحوج إلى الاستعانة بالمحامين فعرفت أن الجن لا يزالون على الفطرة الأولية في إدراك الحقائق البديهية، وعرفت أيضاً أنهم يخافون من الإنس، وكان معروفاً أنهم يخيفون ولا يخافون
ذهبت الأنوار المجلوبة بحضور الجن، وعادت الغرفة إلى الضوء المرسل من القمر في لطف، وبقيت الجنية بجانبي وهي لا تكاد تصدق أنها نجت من تعقب أولئك العماليق
- هل صرنا في أمان؟
- أنت صرت في أمان
- وأنت؟
- ألم تعلمي أني أقيم فوق جبل من البارود؟
- أتخاف وأنا معك؟
- أنا أخاف لأنك معي، فقومك لن يسكتوا عني، وقد يستنصرون بإخوانهم في الشام والعراق
- المعروف عندنا أن شياطين الشام والعراق من أصدقائك
- ومن هنا أخاف
- تخاف من أصدقائك؟
- وممن أخاف؟ هل أخاف من أعدائي وأنا أملك البطش بهم حين أريد؟
وانتقل الحوار إلى شؤون متصلة بالجمال فسألتني الجنية عما يستهويني من جمالها فقلت:
أنا أحب فيك هذه الصوت الناعم المبحوح، وأشتهي أن تتكلمي في كل وقت. . أشتهي أن تكون حياتك حديثاً في حديث، لا تسكتي، فما رأيت أندى على قلبي وروحي من بغامك الذي يشبه وسوسة الحبب عند اضطرام الكؤوس. تكلمي لأرى نعيم الفردوس ممثلاً في نبرات هن أعذب وأطيب من همسات الأماني في الصدر الحزين
هذا الصوت يزلزل قلبي، وأنا أسمعه وإن اعتصمت بالصمت
- كيف؟ كيف؟
- هويتك الأصيلة هي هذا الصوت، فأنت كالبلبل، وهوية البلبل في الحلق، والله يزيد في الحلق ما يشاء
- لم تجب عن سؤالي!
- قلت إن هويتك في الصوت، وأنت دائماً في بالي، فأنا أسمعك في كل وقت، وإن غبت عني
- إلى هذا الحد يفتنك صوتي؟
- والى أبعد من جميع الحدود
- كنت تقول إني أفتنك باللون
- متى؟
- ليلة بتنا بالإسكندرية، هل نسيت!
- لونك يفتن، لأنه ينطق، وهو يتموج تموج النبرات العذاب. إن في قدميك خطوطاً نواطق، في قدميك، في قدميك، فماذا أقول في المرمر الناطق وهو صدرك الجميل؟
- زدني، زدني
- زيديني فتوناً لأزيدك جنوناً
- ماذا تريد مني بعد أن خاصمت فيك قومي؟
- أريد أن تتكلمي في جميع اللحظات
- وأين أجد ما أقوله في كل وقت؟
- تقرئين علي ما في المكتبة من مؤلفات أدبية وعلمية ولغوية، بالعربية والفرنسية والعبرية، والأمر سهل، فإن محصول مكتبتي لا يزيد عن عشرة آلاف، وسنعبرها ورقةً ورقة في أقل من عشر سنين
- إلى هذا الحد تحبني؟
- والى أبعد مما أحب العباقرة من الإنس والجن في جميع الأزمان
- أنا أرتعد من الخوف
- ومم تخافين؟
- أخاف منك، فدعني أخرج لألحق بقومي
- لن تعرفيهم بعد اليوم، ولن يكون لأحد غيري عليك سلطان، فليجمع الجن جموعهم ليلقوني في ساحة القتال، ولتتمردي ما شاء لك الحمق والطيش، فلن يكون لك في غير هذا البيت مكان
- وتحميني من طغيانك؟
- إذا اعترفت علانية بأن سلطان الجمال أضعف من سلطان البيان
زكي مبارك
5 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
4 -
يقول عامر بن الطفيل العامري:
(. . . وبالحرى إن أدلت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أموراً لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر؟ قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر
قال كسرى: متى تكاهنت يا ابن الطفيل؟
قال: ليس بكاهن، ولكني بالرمح طاعن. . .)
في هذا القول شيء من علم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، وأقوال علماء ومؤرخين كبار مشهورين من المتقدمين في الكهانة والمتكهنين إنما هي تخاليط. روى أبو العباس في (كامله):
لا يعلم المرء ليلاً ما يصبّحه
…
إلا كواذب مما يخبر الفال
والفأل والزجر والكهان كلهم
…
مضللون، ودون الغيب أقفال
وروى صاحب (الكشاف):
لوى اللهُ علم اللهِ عمن سوَءاهُ
…
ويعلم منه ما مضى وتأخرا
وقال شاعر صادق:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
…
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وأخبار مخبرين وأحاديث محدثين عن أناس كانوا يعلمون الغيب من الجاهلية أو من الصحابة والتابعين وغيرهم هي أباطيل وأضاليل (فقل: إنما الغيب لله). وإذا كان رسول الله سيد هذا الوجود ومعناه - وهو رسول الله وهو النبي محمد - لا يعلم الغيب فلن يعلم الغيب أحد. وفي المقالة (شق وسطيح) في الرسالة (249 ص 605 س 6) أوضحت الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه، وذكرت آيات من كتاب الله بينات تنادي أن سيد البشر والأنبياء والمرسلين وصفوة النوع الإنساني لا يعلم غيباً. وذكرت هناك حديث (أم المؤمنين) - رضوان الله عليها - في مسند الربيع بن حبيب، وهو من أقدم كتب الأثر التي وصلت إلينا كما ذكرت قول الإمام علي القاري في الآية الكريمة: (وممن حولكم من
الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم) قال: وهذا في (براءة) ومن أواخر ما نزل من القرآن، وهذا والمنافقون جيرانه في المدينة)
قلت: ومثل الآية في (براءة) قوله تعالى في (الأنفال) يخاطب النبي وأصحابه:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم. وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون)
ذلكم ما في كتاب الله ولم يزل مسلمون في كل وقت يصدقون المنجمين والمتكهنين فقد جاء في (الجامع لأحكام القرآن) ج 7 ص 3:
(قد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال، وكل ذلك من الكبائر لقوله عليه السلام: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمداً على أقوالهم. . .)
قلت: وفي غير مصر مثل الذي هو في مصر، والحال ما حال في هذا الزمان. ومن جنس الدجاجلة المتكهنين جماعة (التنويم المغناطيسي) الذين يعلمونك - كما تقول إعلاناتهم في الجرائد وإنها لكاذبة وإنهم لكاذبون - بماضيك وحاضرك ومستقبلك. . .
(ن)
1 - الشعر المرسل والشعر الحر
للأستاذ دريني خشبة
(إلى الأستاذين الشاعرين، أبي الحديد وباكثير من رواد
التجديد في الشعر العربي، أهدي هذه الفصول)
الشعر المرسل هو الشعر الذي لا قافية له، واسمه بالإنجليزية
والشعر الحر هو الشعر الذي لا يتقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، فقد يتركب البيت فيه من تفعيلة واحدة، وقد يكون تفعيلتين، وقد تصل تفعيلاته إلى ثمان أو عشر أو اثنتي عشرة، وذلك في القصيدة الواحدة. والشعر غير مقيد في أبياتها بعدد من التفعيلات يتمها في كل بيت، بل هو يرسل نفسه على سجيتها، فتارة يقول تفعيلة واحدة يودعها إحدى خوالجه، وتارة يقول خمس تفعيلات تعبر عن خالجة أخرى، وطوراً تصل التفعيلات إلى ثمان أو أكثر أو أقل، حتى تتم القصيدة أو الملحمة، وهذا هوال ويتفق الشعر الحر والشعر المرسل في التحرر من القافية، وهما في ذلك يختلفان عن الشعر الغنائي الذي لا تتم موسيقاه إلا بها
ولا يتقيد الشعر الحر بالأوزان العروضية الرسمية، فللشاعر أن يبتكر أوزاناً جديدة إن استطاع؛ وقد غلا شعراء الشعر الحر في ذلك حتى لا تلتفت إلا الأذن الموسيقية وحدها إلى (غنائهم المكتوب) كما يعبر مؤرخو الآداب الأوربية
وكان أول ظهور الشعر المرسل في إيطاليا في أوائل القرن السادس عشر، حينما كتب به الشاعر ترسينو مأساته سوفونسبا وذلك سنة 1505، ولا يعرف تاريخ الآداب العالمية شعراً مرسلاً أقدم من هذه المأساة. وقد أنشأ الشاعر جيوفاني روشلاي (1475 - 1525) منظومته (النحل) بعد ذلك، وهو الذي أطلق على هذا اللون من ألوان الشعر اسم (الشعر المرسل) أو كما سماه الإنجليز
وما كاد هذا النوع من الشعر يظهر في إيطاليا حتى قابل النقاد والمتأدبون بأعنف صنوف السخرية والاستهزاء. . . وكانت أخف صفات التحقير من شأنه هي: غث. . . كلام فارغ. . . هراء. . . هذا عبث. . . ذلك إجرام في حق الشعر الإيطالي. . . لا شك في أن
ترسينو يهذي. . . إلى آخر تلك السلسلة الصارمة من ألفاظ الهجاء. . .
إلا أن ترسينو ما فتئ يلح على مزاج أمته ويغازل ذوقها حتى استجابت له، وحتى أقبلت على مآسيه تستخفها وتسيغها، ثم تنسى بها المآسي المنظومة بالشعر الغنائي المقفى وتنسخها نسخاً
ثم نظم بالشعر المرسل فحول الشعراء الإيطاليون بعد ذلك، وفي مقدمتهم أريوستو الذي نظم به ملاهيه الرائعة كلها، وتاسو وجواريني وغيرهم
وقبل وفاة ترسينو بقليل، انتقل الشعر المرسل إلى إنجلترا، وذلك في أواخر عهد هنري الثامن، حينما ترجم هنري هوارد جزأين من إنيادة فرجيل إلى الإنجليزية بهذا الشعر
ثم استعمل الشاعران ساكفيل ونورتون الشعر المرسل لأول مرة في الدرامة الإنجليزية حينما ألفا درامتهما المشهورة (جوربودك التي لخصناها للقراء في فصولنا السابقة عن نشأة الدرامة الإنجليزية. ولم يكد ينتهي القرن السادس عشر حتى كان الشعر المرسل يستعمل استعمالا عالمياً واسع النطاق - إلا في العالم العربي طبعاً! - وفي جميع الأغراض المسرحية، وذلك بعد أن لقي في كل دولة من الدول الأوربية نفس ما لقي في إيطاليا من السخرية والاستهزاء. . . إذ ناهض النقاد الإنجليز مناهضة قاسية، ومع ذاك فقد هيأ الله له فيها شاعراً شابا فخم الديباجة حسن السبك مشرق البيان نقي الأسلوب، لا يلتوي ولا يغمض، ولا يتعمل ولا يغرب، فاستطاع أن يكبح جماح النقاد، وأن يرغمهم على احترام الشعر المرسل. . . ذاك هو مارلو العظيم الذي ألمعنا إلى جهوده الأدبية في كلماتنا السالفة؛ مارلو صاحب القريض الفريد أو أل: كما دعاه النقاد الساخرون أنفسهم فيما بعد
ثم تهيأ للشعر المرسل شكسبير الخالد، وذلك عندما أشرفت حياة مارلو على نهايتها، فقد نظم (سيدا فيرونا): ثم أردفها بروائعه المسرحية التي بهر بها الدنيا جميعاً حيث تجلت فيها مزاياه التي أكسبت اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي والشعر الإنجليزي ذلك التفوق الذي سوف يخلد على وجه الزمان. أما هذه المزايا فأهمها الكمال والمرونة والتنوع أضف إلى ذلك الموسيقى التي لا تعرف القلق، ولا يعتريها النشوز أو (النشاز) بمعناها الاصطلاحي تلك الموسيقى التي لا غناء لأي نوع من أنواع الشعر عنها، لأنها روح الشعر ونظرته وجماله في الأذن وفي القلب معاً. . . ثم أضف إلى ذلك أيضاً افتنان شكسبير
وتمكنه من اللغة، وبصره بألفاظها، وذوقه الرفيع الناقد الذي كان أقدر الأذواق على تنخل هذه الألفاظ وتخيرها في غير التواء أو تقعر. هذا إلى خيال خصب وبيان متدفق ومقدرة فائقة على التنقل، وإلمام عجيب بالأصول المسرحية التي تنبع أول ما تنبع من البديهة العبقرية قبل أن ترتكز إلى مواضعات علمية
وقد لا يسر القارئ، بل ربما يضايقه جد المضايقة أن نخوض به في شيء من معميات العروض الإنجليزي، ذلك العروض السهل البسيط الذي لا يصح أن نقيسه إلى عروض الشعر العربي، ذلك العروض الصعب المعقد، إلا على الشعراء.
وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوربية، إنما أساسها التفعيلة وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي
وبحسبنا أيضاً أن نذكر أنهم حينما يبدأون الكلام عن العروض الإنجليزي، أو عروض أية لغة أوربية، يقولون إن أشهر التفعيلات عندهم أربع. . . أربع فقط، في حين أن التفعيلات التي تتركب منها بحور العروض العربي كثيرة لا حصر لها؛ فمنها مستفعلن ومتفاعلن وفاعلن ومفاعلن وفاعلاتن وفعلن وفعولن ومفاعيلن ومفاعلتن. . . إلى آخر هذه الثبت الطويل الذي ليس فيه شهير وغير شهير، والذي يمد الشعر العربي بموسيقى لا نظير لها في أي من عروض أية لغة من لغات العالم من حيث الدقة في ضبط الميزان والمحافظة على النغم؛ فلدينا ستة عشر بحراً غير مجزوءاتها ومشطوراتها كل منه له موسيقاه ورقته وعذوبته. ونستطيع أن نجعل هذه الستة عشر بحراً ألفاً وألفين إذا أردنا ذلك، وهذا بتأليف نغم أساسه بعض التفعيلات التي اتفق عليها عروضيو العرب بحيث تتم لنا بحور جديدة موسيقية إن كان لابد أن نزيد في عدد البحور الموجودة عندنا
ولسنا الآن بسبيل الموازنة بين العروض العربي وألوان العروض الأوربي، ولهذا نعود إلى العروض الإنجليزي فنقول: إن نقاد الشعر من الإنجليز يقررون أن اللغة الإنجليزية تجري سهلة لينة طيعة حينما تنظم شعراً في البحر الأيامبي (أنظر الحاشية بأسفل الصفحة) وهو ذلك البحر الذي يتكون من خمسة تفعيلات إيامبيت - وقد اختار الشعراء هذا البحر لنظم الملاحم والدرامات لأنه متوسط الطول فهو يتألف من عشرة مقاطع (5 تفعيلات مقطعين)؛ وقد فضلوه على البحور القصيرة التي تتألف من ثمانية مقاطع مثلاً
لأنها تكون قصيرة النفس ولا تنهض بأعباء الحوار في الدرامة، ثم هي لا تسعف الشاعر في أداء المعاني الطويلة في الملحمة؛ وكذلك فضلوه على الأبحر التي تتألف من اثنتي عشر مقطعاً وعللوا ذلك بحاجة تلك الأبحر إلى القافية لتتم الموسيقى ويستقيم النغم ويسلم الميزان
وقد أثار الشاعر الأمريكي لنجفلو على هذا التقليد، فنظم قصته البديعة من أطول بحر عرفه العروض الإنجليزي (ستة عشر مقطعاً!)، كما أنشأ منظومته الطويلة الجميلة من أقصر بحور هذا العروض (ثمانية مقاطع فقط!)
وقد نجح لنجفلو في إفانجلين نجاحاً عظيما. ولن أنسى قط تلك الدموع التي ذرفتها بعد قراءة تلك المأساة الغرامية الباكية المليئة بالعواطف الجياشة والخيال الخصب والوصف الشائق الأخاذ
أما في هياراثا، فقد فشل الشاعر العظيم وانحط عن الأفق السامي الذي ارتفع إليه في درته السالفة. على أنني أحسب أن تفاهة الموضوع هي التي ذهبت بروعة القصة، وليس البحر القصير الذي يشبه المتدارك في العروض العربي، وللمتدارك موسيقاه الحلوة التي لا تنسى ومنه
(اشتدي أزمة تنفرجي) و (يا ليل الصب متى غده)
وبفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً وهو يتكون من اثنتي عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)
ولم يزل الشعر المرسل يتأرجح بعد شكسبير بين العلو والسفل حتى جاء ملتون العظيم فنظم به طرفته الخالدة (الفردوس المفقود) التي وصف فيها الحرب بين عيسى (الخير) وبين الشيطان (الشر)، وكيف تم الفوز للمسيح آخر الأمر. . . تلك الطرفة التي بلغ فيها الشعر المرسل قمة الإجادة. . . ومن العجب أن يفشل ملتون في منظومته الثانية (الفردوس المعاد) في المحافظة على ديباجته التي بلغها في الفردوس المفقود، ولعل للسن حكمه في هذا الانتكاس
ومما يؤثر أن ملتون استطاع أن يتجنب كثيراً من العلل التي كان يتورط فيها شعراء
عصر إليزابث أو التي لم يكونوا يرون غضاضة في وجودها في أشعارهم، وقد أبت على ملتون بصيرته النقادة أن يقع فيما وقع فيه أسلافه، أو أن يبيح لنفسه تلك الضرورات الشعرية السخيفة التي لا يلجأ إليها كل شاعر لم تنضج شاعريته بعد
ثم ركد الشعر المرسل مرة أخرى بعد ملتون حتى عاد إليه شبابه - بعد النهضة - وذلك على أيدي أتواي ولي ودريدن
واستعمله في القرن الثامن عشر شعراء عظماء فأتوا فيه بالمعجز والمطرب، ومن هؤلاء طومسون وينج
ثم استعمله الشعراء المحدثون (شعراء القرن التاسع عشر) أمثال بيرون وشلي وسوبترن وكيتس وتنيسون، وإن لم يستحدثوا فيه شيئاً جديداً، إلا أنهم نظموا فيه الغرر المشجية وأمدوا الأدب الإنجليزي بثروة لن تبيد
وقد فهمت من حديث لي مع بعض الأدباء المصريين أنهم يعتقدون أن الشعر المرسل قد انتهى زمنه، وهذا رأي خاطئ، فقد نظم به رديار كبلنج نصف إنتاجه تقريباً كما نظم به برنردشو درامته العظيمة ' التي أعدها للمسرح عن قصته التي تحمل هذا الاسم، والتي اعترف هو نفسه بأنه إنما لجأ إلى نظمها بالشعر المرسل لأنه أيسر عليه أسهل من النثر!
وسنعرض في مقال آخر إن شاء الله لشعراء العصر الحاضر الذين لا يزالون يستعملون الشعر المرسل في تأليف قصصهم المنظومة ودراماتهم. وسنرى ما كان يلقاه بينرو المتوفي سنة 1934 والذي أتى في الدرامة المنظومة بما يضارع ما جاء به شكسبير إن لم يتفوق عليه أحياناً من عنت نقاد الأدب الإنجليزي الحديث وسخفهم
أما الشعر الحر فلم يقرر المؤرخون على وجهه التحقيق متى بدئ استعماله، ولم يهتدوا إلى مبتكره الأول. وقد حاول ملتون في منظومته عن شمشون محاولة بارعة في الشعر الحر، كما شاع استعماله بين الشعراء الفرنسيين. وقد نظم به لافونتين في القرن الثامن عشر، ولكن على قواعد العروض اليوناني، وكذلك استعمله ماثيو أرنولد كثيراً فأجاد
هذا، وقد تفنن الشعراء في ابتكار الأوزان الجديدة لهذا الضرب من ضروب الشعر فأتوا فيه بالأعاجيب. . . على أنه لم ينتشر انتشاراً عالمياً إلا قبيل الحرب الكبرى (الماضية)؛ وتسمى الشعراء الذين آثروه واستعملوه بكثرة باسم أي الذين يصورون صور الأشياء
بالشعر الحر كما يصور الفنان صورها في ذهنه بألوان من نور، ومن هؤلاء عزرابوند وفلنت ولوول ود. هـ لورنس الشاعر والكاتب الروائي الماجن وريتشارد ألدنجتون، ونرجو أن نوفق للكتابة عن مذهبهم الشعري بتوسع قريباً
(يتبع)
دريني خشبة
المشكلات
9 -
اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد فاتحت كثيراً من رجال التربية والتعليم في مصر ممن يهتمون باللغة العربية في هذا الأسلوب الجديد في تعليم اللغة، فكانوا جميعاً يلقونني بشبهة واحدة قد اتفق الجميع عليها، وكأنهم تواطئوا على إيرادها، أوردوها من لا أحصي ممن يهتمون بشئون التعليم في مصر، ومن قبل ذلك أوردتها فيما بيني وبين نفسي
وهذا دليل على قوتها، وقرب تناولها؛ فإن استطعت حلها فقد ذللت عقبة كأداء في سبيل الإصلاح المنشود
يقولون جميعاً: مما يعوق ملكة تكوين اللغة العربية عندنا أن اللغة العامية سبقت إلينا فتكونت ملكتها فينا، واللغة العامية تحريف للغة العربية وخطأ فيها، فإذا تكونت فينا ملكة اللغة العامية فهذا معناه تكون ملكة الخطأ في اللغة العربية، وإذا سبق الخطأ وصار ملكة ثبت ورسخ، فإذا أريد بعد ذلك إصلاحه وصيرورة هذا الإصلاح ملكة تعذر واستحال
ومما يزيد الأمر تعذراً واستحالة أننا لا نزال نسمع من والدينا وإخواننا وأهلينا ومخالطينا وأصدقائنا اللغة العامية، يتكلمون بها ونكلمهم، ونتفاهم بها ونتساجل، فهي لغة البيت ولغة الشارع ولغة المدرسة ولغة الأغاني ولغة التمثيل ولغة الخيالة ولغة بعض المجلات، أينما توجهنا وجدناها، وحيثما أصغينا سمعناها، وهذا معناه أن الخطأ واللحن في اللغة العربية سبق فصار ملكة، وأنه لا يزال يتردد على أسماعنا ونردده فيزداد رسوخاً، حتى يختلط بلحمنا ودمنا، فمهما فعلنا للتخلص من ملكة اللحن والخطأ لم يفدنا، وكلما هربنا من هذه الملكة لحقتنا؛ فأين النجاء وأين المهرب؟ وهي قد سبقت فاستحكمت فينا، ثم أخذت تلاحقنا وتسابقنا وتتغلب علينا وتقهرنا. ولعل هذا هو الذي دعا العلماء الأقدمين إلى أن ييأسوا من تكوين ملكة العربية الصحيحة، فاكتفوا بالقواعد والقوانين التي تضبط أمرها مع التنبيه والمعالجة، ولم يسموا إلى ملكتها التي تعطي التعبير بها دون قصد ولا تنبه ولا تكلف ولا
علاج
وإني أقول في جواب هذه الشبهة أن ذلك يبين عسر اكتساب ملكة العربية لا تعذره، والمشقة لا الاستحالة؛ فإنه لو استحال تكوين ملكة العربية مع سبق ملكة العامية لما وقع لأحد. وكيف وقد وقع للكثير من رجال اللغة والأدب؟ حقاً إن هذا دليل على التعسر لا على التعذر بدليل أننا نجد خلافه من نفوسنا وخلطائنا؛ فكثير منا قد سبقت إليه في صباه ملكة العامية، ثم عنى بكسب ملكة اللغة العربية بالحفظ والمرانة فاكتسبها، ولم تمنعه الملكة السابقة أن يكتسب الملكة اللاحقة؛ بل إني لأزعم أنه لا يكتب الكتاب، ولا يشعر الشعراء، ولا يخطب الخطباء باللغة العربية إلا بفضل الملكة التي اكتسبوها من القراء والحفظ والاعتياد والتي قاومت ملكات العامية في نفوسهم فغلبتها وظهرت عليها لا بفضل القواعد وحدها
لقد قام الدليل على أن لا سبيل إلى اكتساب اللغة إلا هذا السبيل وهو أن اللغة ملكة والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، فإذا تعين هذا السبيل بالدليل فلا معنى لتصيد الشبه من هنا ومن هنا للهروب مما أوجبه الدليل وعينته الحجة. وهل توقفت المدارس الأجنبية عن تعليم تلاميذها لغة غير لغتهم بطريق الحفظ والحديث بحجة أن لغتهم صارت ملكة فيهم فلا يمكن أن يكتسبوا ملكة لغة أخرى. والواقع أن من الناس من يجيد لغات كثيرة وكلها ملكات فيه، وقد اكتسبها بطريق المحادثة والحفظ، ولم تزاحم ملكة لغة ملكة لغة أخرى عنده، وإن كانت ملكة بعض اللغات عنده أقوى من بعض فذلك لا يعنينا لأننا في أصل تحصيل الملكة لا في جودتها والمفاضلة بين الملكات بعضها وبعض. إن علماء الأخلاق قد جزموا بإمكان تغيير الأخلاق وقالوا إنه يمكن أن يكون الجبان شجاعاً، والبخيل كريماً والشره عفيفاً، والأخلاق ملكات والخلق الذميم تحريف للخلق الفاضل، ورأوا أن التكرار كفيل بالتغيير، وما على الجبان إلا أن يتشجع ويعمل أعمال الشجعان، وما على البخيل إلا أن يتسخى ويعمل أعمال الأسخياء، ليكتسب الخلق الجديد، ويتخلى عن الخلق القديم
فإذا كانوا قد جزموا بذلك في الأخلاق غير متحفظين ولا مترددين فما أحرانا أن نجزم به في اللغة ولا نتحفظ ولا نتردد
وليس ما يتصيدونه من شبه مما يشفع لنا أن نترك الطريق الطبيعي لتعليم اللغة ونسلك
طريقاً غير طبيعي في تعليمها
على أننا قد أخذنا بالحيطة والحزم، فلم نمنع القواعد إلا في الأقسام الأولية والابتدائية فجعلنا التعليم فيها بالحفظ والمحادثة فقط، أما في مرحلة التعليم الثانوي وفي مرحلة التعليم العالي فقد جمعنا بين الطريقين، طريق القواعد وطريق الحفظ، فإن لم يزدها قوة فليس يزيدها ضعفاً، وهذا ريثما يبين للناس بالتجربة صلاحية الطريقة الجديدة لتعليم اللغة، فإذا بان صلاحها رفعنا القواعد إلا من التعليم العالي ومن المعاهد التي تعد معلم اللغة العربية
إن ما يقال من الصعاب التي تعترض من يريد تكوين ملكة اللغة العربية، والتي تدفع بعض الناس إلى أن يظنوا أنها تجعل اكتساب هذه الملكة متعذراً ومحالاً إنما هو منبهة على مواضع العقاب في تحصيلها، وليس من المحال التغلب على شتى هذه العقاب والصعاب. فلنتلاف منها ما يمكن ملافاته، ولنبق للزمن ما عليه أن يتمه، وما دمنا نبذل الجهد المضني والزمن الكثير الذي هو رأس مالنا في تعلم العربية فعلينا أن نزيل من معوقات هذه الملكة كل ما تمكن إزالته، وإلا كنا نهدم باليسار ما نشيده باليمين
علينا أن نجعل أغانينا باللغة العربية ولا نسمح للغة العامية أن تكون لغة الغناء ما دام ذلك يعوق ملكة العربية ونحن نبذل الجهد والمال في اكتسابها، ولا يصح أن نتناقض في أفعالنا
علينا أن نجعل روايات المسرح باللغة العربية ولا نسمح للعامية أن تحتل المسرح لأن ذلك يعوق ملكة العربية فينا، ونحن قد ملأنا برامج تعليمنا باللغة العربية لنتعلمها، ولا نحب أن نكون كذلك الممثل الذي ظهر على المسرح وبيده اليمنى أوراق، وبيده اليسرى أوراق، فقيل له ما بيدك اليمنى؟ فقال قوانين. قيل له وما بيدك اليسرى؟ قال نسخ هذه القوانين
علينا أن نحتم أن تكون لغة المجلات هي اللغة العربية ولا نسمح للعامية أن تحتل مكاناً فيها للعلة نفسها، وهكذا الشأن في الإذاعة وفي الصحافة
وإذا كنا إذا بنينا بناء وشيدناه، وبذلنا المال في تشيده لا نسمح لغيرنا أن يهدمه، فحري بنا ونحن نبني ملكة اللغة العربية فينا، وننفق في سبيلها كرائم أموالنا، وزهرة شبابنا، وأعز جهودنا ألا نسمح للمسارح ودور التمثيل والمغنين والمغنيات أن يهدموا ما نبنيه
وعلينا أن نبكر في تلقين التلاميذ نماذج من المحفوظات العربية، وقد سهلت مدارس رياض الأطفال علينا هذه المهمة، فالتلاميذ يذهبون إليها في سن مبكرة، فعلينا نحن أن نبتهل هذه
الفرصة فنعطيهم نماذج يحفظونها تناسب عقولهم، ولا تنبو عن إفهامهم، ما دامت الملكة السابقة لها القوة والسيطرة والغلبة
لقد غالى بعضهم وزعم أن تكوين ملكة عربية أسهل على الإنجليزي والفرنسي منها على من سبقت له ملكة العامية، وذلك مبالغة في اليأس والقنوط
إن العامية لا يمكن أن تقف في طريق تكوين ملكة العربية، بل إني أرى أنها عون على اللغة العربية، فمن السهل على من عرف العامية أن يتعلم اللغة العربية وتكون عونا له عليها، وتطيعه ملكة اللغة العربية بأيسر وأسهل مما تطيع من لا يعرفها ولا يتكلم بها كالإنجليزي والفرنسي، لأن معرفة العامية تعلم الكثير من العربية فتعلم كثيراً من مفرداتها كالأرض والسماء والسحاب والماء والثرى والهواء، تعلم كثيراً من أساليبها وتراكيبها، والنقص الذي دخل على ملكاته من تحريف العامية شيء سهل يمكن ملافاته إذا سار في الطريق المستقيم عكس من لم يعرف شيئاً من العامية، فبدأ في تعلم العربية من جديد كلمة كلمة، وحرفا حرفا، وأسلوباً أسلوبا، ونظماً نظما
قد بلغنا في نصرة الأسلوب الجديد في تعليم اللغة العربية المبلغ الذي وسعه الجهد، وإن كان قليلا، وبلغه الوسع وأن كان ضئيلاً، ولم نترك حجة تفيد نصرته إلا تتبعناها، ولا شبهة تدل على خلافة إلا أفسدناها. ولم يبق للمهيمنين على تعليم اللغة العربية في وزارة المعارف وفي الجامعة وفي الأزهر عذر في أن ألا يصطنعوا هذا الأسلوب؛ فقد وضح الحق، وانخذل الباطل، ولم يبقى عذراً لمعتذر
محمد عرفة
بمناسبة العتاب اللبناني
الأخوة الأدبية بين البلاد العربية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كنت دعوت في البريد الأدبي للرسالة الأديب اللبناني (إلياس أبو شبكة) إلى رسم لوحة أدبية للشاعر اللبناني المعاصر نجيب إليان بمناسبة نجاحه في مسابقة الشعر العربي التي نظمتها محطة الإذاعة اللاسلكية في لندن. ولقد خصصت بالدعوة الأستاذ (أبو شبكة) لأنني أعرف من ريشته الفاتنة في تصوير الأشخاص ما لا يعرف الكثيرون. ولأن هذه المعرفة جاءتني من طريق كتاب له عنوانه (الرسوم) صور فيه طائفة من أدباء لبنان تصويراً يبرز التفاصيل على أصولها ويخرج الدقائق إخراجاً لا يخطئ كما لا تخطئ العدسة الطيبة في إخراج التفاصيل
وما عرفت (أبو شبكة) معرفة الجسم ولا مرأى العين، ولكنني عرفته من كتابه (الرسوم) ومن ديوانه (أفاعي الفردوس) الذي تفضل فأهداه إلي بتوقيعه الكريم في سنة 1938. ومن حينها انعقد بيننا ود روحي أكدته قراءتي له ومتابعتي لآثاره في صحف لبنان التي تحملها الأقدار السعيدة إلي
وما كنت أظن وأنا أقترح عليه هذا المقترح أن في صدره أموراً طوى كشحه على مستكناتها، وأن في نفسه كلاماً يريد أن يقوله؛ فإذا به في العدد 290 من مجلة (الجمهور) اللبنانية يرد علي رداً ينكر به قديم ودنا ويتجاهل (سامحه الله)(محمد عبد الغني حسن موقع القسم الأول من البريد الأدبي في الجزء ال 528 من الرسالة)
وإذا كان الأخ قد نسى ودي فأنا أجد من حقي عليه أن أذكره بتقدمة الإهداء التي كتبها على (أفاعي الفردوس)، حين أهداه إلي من لبنان البعيد
وفي رد أبي شبكة عتاب على الرسالة خاصة وعلى الصحافة المصرية عامة. ولكنه عتاب شديد مشى فيه صاحبه إلينا بالسيوف كما مشى الشاعر قبله إلى الملك الجبار حين صعر خده! ولكنه عتاب حبيب إلى النفس، لأنه عتاب الأخ الكريم والجار الجنب؛ ولأن فيه صراحة لأنه من شاعر لا يحب الكذب ولا المواربة، ولا يخرج الخبيث من القصد بصورة المجاملة أو اللياقة أو المرونة
ويظهر لي أن العدسة الطيبة التي اختص الله بها الشاعر (إلياس أبو شبكة) قد استحالت إلى عدسة مكبرة مهولة تخلق القباب من الحبوب، وتجعل الجبال من النمال! فهو يثور على صحافة مصر في غير موضع للثورة، ويعتب على أدباء مصر في غير محل للعتاب، ويتهم الصحافة المصرية إجمالاً بإهمال الحركة الأدبية القائمة فيما يلي مصر من الأقطار العربية وخاصة لبنان. ويتهم الأستاذ أحمد حسن الزيات بالتعصب، ولكنه يجله ويقدر أدبه ويعرف مكانته هو وجميع أدباء لبنان (الذين لا يعرفون للأدب حدوداً ولا يقررون له مناطق)
وبالطبع لم تمر كلمة الأستاذ أبي شبكة من غير رد أو تعقيب. وكان أسبقنا إلى الكلام الأستاذ إبراهيم المازني في عدد 12 سبتمبر من البلاغ. وثنى الدكتور زكي مبارك بكلمة في العدد 533 من الرسالة اعترف فيها بإغفال المجلات المصرية للحركة الأدبية في لبنان وغيره من الأقطار العربية؛ ولكنه رد ذلك إلى إغفال عام للحركة الأدبية في مصر ذاتها. وهذا كلام في جملته صحيح ولكنه يحتاج إلى بعض التصحيح. . . فالحركة الأدبية في الأقطار العربية عامة ملحوظة في بعض الصحف المصرية (كالمقتطف) التي لا ينفي عنها مصريتها كونها من أصل لبناني. وعجيب جداً أن يتكلم الأستاذ في (لبنانية المقتطف) أو (مصرية الرسالة)؛ وهو كلام لا نحب أن نسمعه لأنه يوجع الآذان والقلوب، ولأنه يفسح المجال لمن يقولون: هذا مصري، وهذا لبناني
وكيف يا أخي أغفلت (الرسالة) وغيرها أدبكم، وأهملت إنتاجكم، وهي تنشر لشكري فيصل وسعيد الأفغاني وعلي الطنطاوي وطه الراوي وإنستاس الكرملي وأحمد صافي النجفي وحسين الظريفي وكوركيس عواد وميخائيل عواد، وفدوى عبد الفتاح طوقان ووداد سكاكيني وغيرهم وكلهم من الأقطار العربية القريبة والنائية؟
ثم ما وجه عتابك أنت بالذات يا أخي وأنت لا تكتب حتى في المجلات المصرية التي يديرها ويشرف عليها - كما تزعم - لبنانيون كالمقتطف والهلال؟ فما رأينا لك فيها من زمان بعيد أثراً، على حين قرأنا لأخينا اللبناني الأستاذ كرم ملحم كرم أخيراً قصة لبنانية رائعة في إحدى المجلات الشهرية
والحق أنك يا أخي أصابك نوع من ركود الإنتاج الأدبي فأخذت تتجنى على صحافة مصر
البريئة وأدبائها البرآء. ودليلي على ذلك أن صحافة مصر الأدبية في هذا العام مملوءة بأسماء ميخائيل نعيمة اللبناني وعدنان مردم بك وعبد الوهاب الأمين البغدادي ونقولا زيادة الفلسطيني وأسعد طلس السوري وصلاح اللبكي وزكي المحاسني وخليل هنداوي وصلاح الدين المنجد وراجي الراعي وغيرهم من أدباء الأقطار العربية. فأين اسمك بينهم، وأين جولك في ميادينهم؟
أما كتبكم يا أخي فلم تغفلها الصحافة المصرية جملة ولا الأدباء المصريون. وإلا كنت في هذه الدعوى متجنياً علينا كعادتك. ففي مجلة مصرية شهرية باب للمكتبة العربية لا يفلت منه كتاب عربي خرج في سوق الأدب مهما ضؤل حجمه! حتى ديوان (خيوط الغناء) الذي نظمه الشاعر السوري الرقيق عبد الله يوركي حلاق، وكتب مقدمته صديقك كرم ملحم كرم. ولست أريد هنا أن أشق عليك وعلى القراء بالحديث عن نفسي وعن مكتبة مصر شهرية. فما أسمج أن يتحدث المرء عن نفسه!
على أن الصحف المصرية نفسها قد تسكت عما يصدر في مصر نفسها من الآثار الأدبية - كما قال ذلك بحق الدكتور زكي مبارك في رده عليك - فإن سلسلة (اقرأ) لم تظفر من (الرسالة) بكلمة واحدة على طرافة ما كتب في تلك وجدته. وخاصة تلك (الدجاجة الفلسطينية) التي وجدنا من حديثها عقلاً وعجباً.
وقد تلاحظ يا أخي رواج كتبنا في بلادكم وإملاق بلدنا من كتبكم. وتلك حقيقة يا أخي لا نحمل نحن مسئولية التقصير فيها. ولعل لتجار الكتب وموزعيها يداً في ذلك، فنحن قد تحفى أقدامنا في السؤال عن كتاب طبع في الشام فلا نجد له أثراً؛ حتى كتب الكبار من أدبائكم. فإن (ملوك العرب) لأمين الريحاني لم أجده في مصر إلى أن أهدانيه مؤلفه وحمله صديقي المرحوم الفريد الجميل. وكانت لنا مشاركة في مجلة المكشوف - حيا الله صاحبها - فلم نستطع الحصول عليها من مكتبات مصر. حتى كتابك الرسوم لم أعثر على نسخة منه إلا بقدر سعيد. . . ولولا هداياكم المتوالية ما عمرت مكتباتنا الخاصة بكتبكم التي نقرأها ونجلها
على أن المعاتبة بينكم لا تحملك يا أخي على أن تسكت عن دعوة دعوتك إليها في موضوع الكتابة عن الشاعر اللبناني نجيب إليان. فاكتب عنه في أية صحيفة شئت؛ وأرسمه في أية
مجلة أردت، ولكن لا تنس أنك أسأت الظن (بالرسالة) التي لا ينكر فضلها في تمكين الروابط العربية إلا غير منصف. وحاشاك أن تكونه والسلام.
محمد عبد الغني حسن
6 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يحرم استعمال الذهب والفضة والحرير، وجميع الآيات التي تتعلق بهذه الأشياء إنما تشير إلى أنها مما يستمتع به المتقون يوم القيامة عندما يسكنون الجنة ويلبسون الحرير ويتحلون بأساور من ذهب وفضة ولكن ورد في كتب السنة أحاديث عدة تنظم استعمال هذه الأشياء. بعضها يحرمها وبعضها يحللها بحسب الظروف المختلفة. والملحوظ في التحريم على كل حال هو الرغبة الصادقة في الحيلولة بين الرجال وبين الانغماس في النعيم، حتى يظلوا متمسكين بعادات البداوة والخشونة لا يفقدون شجاعتهم وحميتهم. ولقد كان في تلك الإباحة وهذا التحديد أو التحريم غنم كبير للفنون الجميلة يتجلى لنا فيما أبتدعه المسلمون من المنسوجات ومن الحلي والأواني
أما الحرير فله في تاريخ الحضارة قصة شيقة ساهم المسلمون فيها بأوفى نصيب، فقد كان إنتاجه سراً مغلقاً لا يملك مفتاحه غير الصينيين. واستطاع الإمبراطور جستنيان في سنة 556 م أن. يقف على هذا السر، وأصبحت بيزنطة منذ ذلك التاريخ من أهم مراكز إنتاج الحرير ونسجه. واقتصر استعمال المنسوجات الحريرية في أول الأمر على النساء؛ ولكن رجال الدولة الرومانية اتخذوا ملابسهم من الحرير. وعندما ظهر الدين المسيحي ورأى رجال الكنيسة أن في استعمال هذه الملابس ترفاً لا يقره الدين ولا سيما وقد كانت أثمان هذه الملابس مرتفعة إلى حد بعيد انبروا لمقاومة انتشارها وأعلنوا حرباً شعواء عليها، ولكنهم فشلوا في حملتهم، وتغلبت روح الترف على الناس فأقبلوا على اقتنائها. وجاء الإسلام فلم يشأ أن يقف جامداً أمام هذه المشكلة، بل نظم استعمال الملابس الحريرية تنظيماً كان له أبعد الأثر في الفن، إذ وردت في كتب السنة أحاديث عدة أباحت الحرير للنساء إطلاقاً من غير قيد ولا شرط، وحرمته على الرجال إلا لضرورة. أو كان الثوب مشتملاً على قدر إصبعين أو أربع أصابع من الحرير. وعلى أساس هذه الإباحة ازدهرت طريقة الزخرفة المسماة بالتابستري وكانت المنسوجات التي تزين بهذه الطريقة تنسج بالطريقة العادية للنسيج أي تقاطع خيوط اللحمة بخيوط السدي حتى إذا وصل النساج إلى النقطة المراد زخرفتها أوقف عملية الحشو بخيوط اللحمة وأخذ في عمل الزخرفة بخيوط من
الحرير المختلفة الألوان فترى الثوب وقد ازدان بشريط من الحرير يتضمن زخرفة مدهشة تدل دلالة واضحة على مدى ما بلغه المسلمون من الخبرة الواسعة بالأوضاع الزخرفية والأساليب الفنية والمقدرة الفائقة على اختيار الألوان، حتى أن الإنسان لا يدري أموضع السحر في هذه المنسوجات دقة الزخرفة أم التناسق بين الألوان أم جمال الحرير وقد نسجه وسط الكتان؟ ولقد كانت هذه الطريقة متمشية مع ما أقره الفقه الإسلامي، وإن كان الفاطميون قد تسامحوا فيها في أواخر عصرهم فزادوا في مساحة أشرطة الزخرفة المنسوجة من الحرير عن النسبة المقررة شرعاً
وفي ظل الإباحة المطلقة للنساء تقدمت صناعة نسج الحرير وراجت رواجاً عظيماً، وأصبح في متناول معظم الناس بعد أن كان قاصراً على الحكام والأمراء قبل الإسلام، وتسلم المسلمون زعامة تجارته في العصور الوسطى، وكان لهم فضل إدخاله في صقلية والأندلس
أما الحلي المصنوعة من الذهب فقد نشط الصناع المسلمون في صياغتها، وتفننوا في صنعها، وأتوا فيها بالبدع المدهش، والأمثلة القليلة التي عثر عليها في أطلال الفسطاط - أقدم العواصم الإسلامية في مصر - من خواتم وأساور وأقراط خير دليل على ذلك. ولولا أن الحلي الذهبية من الأشياء التي تصهر ويعاد صنعها في العصور المختلفة لوصلت إلينا نماذج كثيرة تكشف عن مهارة المسلمين في هذه الناحية
أما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة فقد حرم بنص الأحاديث المختلفة، ولكن هذا التحريم كان في الواقع سبباً مباشراً في اهتداء الفنان المسلم إلى طريقة استطاع أن يوفر بها للأواني الخزفية جمال الذهب وبريقه فتوصله إلى صنع الخزف ذي البريق المعدني. ولحسن الحظ قد وصلت إلينا من هذا الخزف أمثلة كثيرة تسابق إلى اقتنائها المتاحف والهواة في الشرق وفي الغرب. وفي الحق أن هذه الأمثلة قد امتزجت فيها دقة الصانع بعبقرية الفنان فأبدعا معاً هذه التحف التي يستمتع الآكل فيها بجمال الذهب ورونقه ويرتاح ضميره - إن كان مسلماً متمسكاً بالدين - إلى إتباع أحكام الدين وطاعته
هذا وقد اهتدى المسلمون تحت ضغط هذا التحريم إلى طريقة تطعيم أواني النحاس بالذهب والفضة فجعل من الأواني المنزلة بالذهب وبالفضة أو بهما معاً تحفاً رائعة لها من الجمال
الفني والذوق السامي ما تتضاءل بجانبه الأواني المتخذة من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية
وحي القرآن
للأستاذ محمود أبو رية
كتب الأستاذ محمود البشبيشي كلمة في العدد (534) من الرسالة جعلها رداً على سؤالنا الذي وجهناه من قبل إلى أئمة الدين والعلماء المحققين لكي يبلغوا لنا رأيهم في أمر وحي القرآن باللفظ، وكأنه حسب أن هذا الرد فيه بلاغ للناس وجواب عما سألنا
يقول الأستاذ (إن موضوع الوحي من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة، وموضوع خلق القرآن أو قدمه من المباحث التي توفر عليها علماء المسلمين في عهد المأمون والواثق (كذا) والمعتصم وما تركوا منها ناحية تحتاج إلى توضيح أو استيفاء)
ونحن إذا كنا لم نعرض بشيء لأمر خلق القرآن فإنا نجيب عن ذلك، أنه لم يكن لوحي القرآن قضية في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم حتى يبحثوا عنها أو يفصلوا فيها، وإنما كانوا يعلمون أن القرآن كتاب منزل يفهمونه ويعملون بما فيه. ولقد كان للسلف مذهب في فهم صفات الله التي وردت في القرآن ولم يكن منها صفة (المتكلم)؛ ذلك أنهم يرونها كما وردت بغير تمثل ولا تعطيل ولا تأويل. وظل الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الأموية حين ظهرت مسألة خلق القرآن، فكان العلماء يتولونها بالجدل والبحث حتى دخلت السياسة فيها زمن المأمون إذ حمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الأمر على ذلك أيام المعتصم والواثق إلى أن تولى المتوكل فنهى الناس عن الخوض في هذا الأمر. ولما كفت السياسة عن تدخلها عاد البحث إلى العلماء يتناولونه فيما بينهم
وبهذا الذي بيناه ينتفي ما قاله الأستاذ البشبيشي من أن علماء المسلمين في عهد المأمون وما بعده لم يتركوا منه ناحية إلى توضيح أو استيفاء
وقال الأستاذ: (إن سلف العلماء وأئمة الفرق الإسلامية لم يختلفوا - أي كما قلنا نحن - على أن القرآن لفظاً ومعنى كلام الله) وهذا عجب منه لأني لم أقل ذلك ولم أعرض بشيء (لمعنى القرآن) وهذا نص كلامي (ووحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية)
وقال (إنما الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم اللفظ وحدوثه) ونحن نذكر للأستاذ أنه لم يكن ثم خلاف بين هاتين الطائفتين على حدوث الكلام اللفظي وإنما كان خلافهم على (المعنى النفسي)، وأن فرقاً كثيرة قد شجر بينها الخلاف في كلام الله حتى قال ابن تيمية
(والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً والطوائف (الكبار) نحو ست فرق - وأن الناس في كلام الله مضطربون وقد بلغوا فيه إلى سبعة أقوال)
ولقد كان مثار خلاف العلماء في تحقيق كلام الله وحدوثه وقدمه، لأنهم رأوا قياسين متعارضين في النتيجة وهما:
1 -
كلام الله صفة له وكل ما هو صفة فقديم، فكلام الله قديم
2 -
كلام الله مركب من حروف وأصوات مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلام الله تعالى حادث. من أجل ذلك اضطروا إلى القدح في أحد القياسين ضرورة امتناع حقيقة النقيضين: فذهبت كل طائفة إلى صحة بعض المقدمات والقدح في الأخرى؛ فالأشاعرة والحنابلة ذهبوا إلى صحة القياس الأول، والمعتزلة قدحت في الصغرى منه، والكرامية قدحت في الكبرى. والمعتزلة والكرامية ذهبوا إلى صحة القياس الثاني، والأشاعرة قدحوا في الصغرى منه، والحنابلة قدحوا في الكبرى. وثم آراء متباينة لطوائف أخرى كالكلابية والسالمية وبعض الفلاسفة كابن سينا ومن على رأيهم من المتصوفة والشيعة، وهذا كله غير مذهب السلف الذي أشرنا إليه في أول كلمتنا. ومن يرجع إلى كتب الكلام الكبيرة وكتب الملل والنحل يجد تفصيل هذا الخلاف ومعترك هذا النضال
وقد كان من قول أبي الحسن الأشعري أن كلام الله يطلق إطلاقين، كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلما باعتبارين، أحدهما بالصوت، والأخرى (بكلام النفس) الذي ليس بصوت ولا حرف)
وقد قال شيخنا الأستاذ الإمام محمد عبده: (ليس النزاع في (الكلام اللفظي فإنه حادث باتفاق)، وإنما النزاع في إثبات (الكلام النفسي))، وأبان أن الأشعري لم يثبت الكلام النفسي إلا لترويح ظواهر النصوص الدالة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن قوله هذا ليس إلا زيادة قول في المسألة من غير فائدة. ثم ناقش ما استندوا إليه في إثبات الكلام النفسي واستشهادهم بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد الخ. فقال رضى الله عنه: (فليس الكلام لغة أو عرفا ما هو في الفؤاد كما زعموا في قول الشاعر أن الكلام لفي الفؤاد الخ. فالقرائن قائمة على أنه ليس المراد منه الإخبار بأن الكلام هو الصور الخيالية التي يعقبها
النطق، بل الإفادة أن كل متكلم فإنما ينطق عن أخلاقه وأحواله الذاتية الكامنة، ولفظه إنما هو دليل على ما انطوى عليه كما يعطيه ذوق الكلام)
وجاء في المقاصد: (خالفنا جميع الفرق في إثبات الكلام النفسي وقالوا لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة، وإن (الكلام النفسي) غير معقول إذ يقيسون ما في نفس الله على ما في نفس الإنسان)
ومما أوضحناه يتبين أن موضوع خلق القرآن لم يكن - كما قال الأستاذ - من القضايا التي فصلت فيها الأيام، ومن أجل ذلك يكون سؤالنا لا يزال قائماً، والإجابة عنه ما برحت ديناً في عنق علمائنا
أما قول الأستاذ إن سؤالنا قد انطوى على شك واضح في (حقيقة وحي القرآن الكريم)، فهذا ما لا أناقشه فيه، لأن هذا السؤال كما يبدو لكل ذي فهم قد وقف عند حد (وحي القرآن باللفظ)، ولم ينفذ إلى ما وراء ذلك. . .
وما دام الأستاذ قد تقدم إلى ميدان هذا البحث وجال فيه بقلمه، فإنا نرجو منه أن يحقق للناس أمر لفظ القرآن، ويبين لهم كيف كان وحيه، وما معنى الكلام النفسي، وإنه لجد عليم؛ بأن البحث في (كلام الله) أمر مقرر في كتب تدرس بالمعاهد الدينية الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وقد قالوا إنهم قد سموا علم العقائد (بعلم الكلام)، لأن أشهر مسألة وقع فيها الخلاف بين علماء القرون الأولى هي كلام الله المتلو، أهو حادث أم قديم؟
هذا ما نرجو منه، فإن لم يفعل فليقف في جانبنا وليستمع معنا ما يتفضل به أهل الذكر علينا
وما دام الأمر بعيداً عن عالم الغيب وعن أصل الوحي فإن البحث يقتضيه، وأنه لا ضرر من إثارته وتمحيصه ما دامت السياسة لا تعرض له ولا تتدخل فيه.
(المنصورة)
محمود أبو رية
نداء الخريف
تعاليْ. أوشكت أيامنا تنفدْ
تعاليْ. أوشكت أنفاسنا تبردْ
بلا أمل، ولا لقيا، ولا موعدْ
تعاليْ. هذه الأيام لا ترجعْ
ولا تصغي لنا الدنيا ولا تسمعْ
ولا تجدي شكاة الدهر أو تنفعْ
كلانا ضائع في الكون مفقودُ
فلا هدفٌ له في الأرض مشهودُ
ولا أمل له في الغيب موعودُ
ألا ما أحمق اثنين غريبين!
إذا عاشا - مع الحب - فريدين!
وهذا الكون لا يدري الشريدين!
نعم قد أدمت الأشواك قلبينا
وسدت هذه الدنيا طريقينا
ولكن أين ماضي حبنا أينا؟
تعاليْ نحي بالأشواق ماضِينا
ونبعث في حمى الحب ليالينا
فهذا الحب إذ تحييه يحيينا
تعاليْ لم يعد في العمر متسعُ
تعاليْ لم يعد في الكون منتجعُ
وغولُ الدهرِ لا يبقى ولا يدعُ
تعالي. نحن بعثرنا السويعاتِ
وضحينا بأيام عزيزاتِ
فيا أختاه يكفينا حماقاتِ
أجل يا أختُ ما قد ضاع يكفينا
فعودي. هاهو العش ينادينا
فلا نخربه يا أختُ بأيدينا
ربيع العمر يا أختاه قد مرّا
فلم نطعمه أو نغنم به ذخرا
وما عاد لنا منه سوى الذكرى
فلا نخسرْ هزيعين من العمر
فدفء العش قد يجدي لدي القر
وروح الحب قد يحيي لدي القبر
ويا أختاه زاد العش يغذونا
فإن الزاد قد قل بأيدينا
وجذب العمر يا أختاه يؤذينا
تعالي مقطع الباقي من العمر
رفيقين على الخير على الشر
حليفين على اليسر على العسر
تعالي أوشكت أيامنا تنفد
تعالي أوشكت أيامنا تبرد
بلا أمل ولا لقيا ولا موعد
(حلوان)
سيد قطب
وداع المصيف
مرت عهود المصيفِ
…
وكل شيء يمرُّ
مضت بكلَ طريفِ
…
من الحياة يسرّ
نعم وراحت سريعة
…
أيامه والليالي
وبات عرس الطبيعة
…
من ذكريات الخيال
الصبح فيه حبيبٌ
…
يفيض بالبشر فيضا
والليل ساج طروب
…
كم سر نفساً وأرضى
بحر من الحسن طامي
…
في البحر يخفى ويظهر
يروي به كل ظامي
…
إلى الجمال ويسكر
وبسمة ونسيم
…
في حيثما حل ناظر
يا حسنها لو تقسم
…
تلك الرؤى والمناظر
يا بحر جئناك نسعى
…
وفي القلوب نضوبُ
فراقنا فيك مرعى
…
من الحياة خصيب
دنيا من الصيف تاهت
…
على الربيع دلالا
أزهارها النضر فاقت
…
نور الرياض جمالا
طفقت أرسل عينا
…
والموج غادٍ وآتى
ورحت أمشي الهوينا
…
مجمّعاً ذكرياتي
محُيياً كل حسنِ
…
رأيته ومتاع
بنظرة أو بلحن
…
يهدي جميل وداعي
قد كنت يا داري أنسى
…
معنى جري في جناني
والآن يغمر حسي
…
بالحب والتحنان
محمد طاهر الجبلاوي
البريد الأدبي
بريد العراق
قيل أن الصداقة كالخمر يزيدها القدم عتقاً إلى عتق، وهذا هو حالي مع أصدقائي في العراق، فما يمر أسبوع بلا بريد يصل من هناك، فأعرف به أخباراً تزيد شوقي إلى إخوان الصفاء، أو تسوق حزناً يعذب الفؤاد، كالذي وقع حين قرأت نعي السيد صالح البدري في جريدة الزمان، رحمه الله وألهم أهله روح الصبر الجميل
هل يعرف الصديق الذي رثى هذا الأديب بكلمة. موجزة في جريدة الزمان أني كنت أحب أن يذكر ترجمة حياته بإطناب؟
لقد سألت آحاداً من العراقيين المقيمين بالقاهرة عن السيد صالح البدري فلم يعرفوه، فأدركت من جديد أن الآذان لا تسمع غير الصوت الضجاج، وقد تفوتها عذوبة الرنين اللطيف
الصلة بيني وبين السيد صالح البدري لم تزد عن تفضله بتشطير قصيدة بغداد، وهي في نظري أقوى الصلات، لأن مجاراة الشاعر للشاعر مساجلة بين روح وروح، فمن واجبي أن أودعه بكلمة ثناء، لا كلمة رثاء، لأن أومن بأن الفكر لا يموت
وهناك أخبار من العراق تمثلها الرسائل الواردة من بغداد والكرخ والبصرة والحلة والموصل والنجف، هي أخبار تشرح الصدر، لأنها تصور وفاء القلوب في تلك البلاد
وهناك رسائل طويت عني، بعد أن كتبت مرة ومرتين ومرات، لأزداد عذاباً إلى عذاب
سنلتقي يا غاضبين ولو بعد حين، وستذوقون ثمرات التجني طائعين أو كارهين
إن الرسائل وصلت، الرسائل التي طويتموها بعد أن كتبتموها، وسأقرأها عليكم يوم التلاقي، وهو بإذن الله قريب
وأنا أيضاً كتبت إليكم رسائل وطويتها عن عمد، فهل وصل إليكم منه شيء؟ بريد القلب هو البريد، ولكني أين من يعرف تناجي القلوب على بعد الديار؟
هل عندكم نية لحضور المؤتمر الطبي في العيد المقبل؟
سأشترك في هذا المؤتمر، وسأصنع مثل الذي صنعت منذ أعوام، فأنتظر في محطة باب الحديد إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ومعي الأستاذ عبده حسن الزيات راجياً أن
يكون نصيبي منكم في هذه المرة أطيب من ذلك النصيب
تعالوا في العيد، أو في غير العيد، فرؤيتكم هي العيد
زكي مبارك
رد على إيضاح
طالعت اليوم (إيضاح) بقلم الأستاذ القاضي المحامي بمنفلوط المنشور في العدد 537 من مجلة الرسالة الغراء بشأن مقالي المنشور بالعدد 535
ولقد عجبت كيف ينسب إلي قولاً لم أذكره، وله أن يدلني على الصفحة والسطر الذي قلت فيه:(إن الإسلام ينهى الفنان عن ابتداع الصور)
وقد كنت أحب لو تريث قليلاً قبل أن يحكم على عقيدتي في التصوير عند المسلمين، ولا سيما وقد لفت النظر في نفس المقال. الذي يعلق عليه إلى أنني سأتحدث في هذا الموضوع بالذات، وتشاء المصادفات أن يظهر بحثي في هذا الصدد في نفس العدد الذي يظهر فيه هذا الإيضاح، ثم له بعد ذلك أن يناقش رأيي ويصدر حكمه على عقيدتي
ولشد ما كنت أحب له أيضاً - وهو بحكم ثقافته القانونية قد يجلس يوماً ما بين الناس للقضاء - ألا يتسرع في الحكم، ويتعجل في تكوين رأيه في عقيدة شخص قبل أن يقرأ بإمعان ما كتبه، وقبل أن يتوفر له من الأدلة ما يساعده على الحكم عليه، بل لقد بادر فساق رأيه فيما كتبه في سهولة عجيبة دون أن يسنده بالحجة أو الدليل
ولست في حاجة إلى القول بأن رأيي في التصوير عند المسلمين قد أوضحته جلياً - بما وسعني من علم - في هذه المجلة في العدد 537 قبل أن أطلع على (إيضاح) وقد نشر هذا الرأي أيضاً قبل ذلك بنحو خمسة أشهر في مجلة الهلال في البحث الذي عقدته عن (مجموعة رفعة صبري باشا من الصور الإسلامية) في العدد الذي صدر في شهر يونيو سنة 1943
وأظن أن فيما تقدم ما يكفي لكي ينفي المعنى الذي توهمه عني كاتب الإيضاح
محمد عبد العزيز مرزوق
الدقة اللفظية
إذا كانت الدقة مستحبة في كل شيء على وجه العموم، فهي مستحبة في التعبير على وجه الخصوص. ولعل أول ما يميز التفكير العلمي الحديث انه تفكير دقيق لا يخلط بين المتشابهات ولا يعمى عن الفروق الصغيرة؛ فالدقة معيار هام في نظر العلم والفلسفة، والخلط مظهر لانعدام الروح العلمية. وقد نص المنهج العلمي على وجوب تحديد المعاني قبل البدء في الموضوع، وإقامة الفوارق بين الألفاظ قبل الشروع في استعمالها. ولكن الدقة اللفظية لا تتهيأ للكاتب إلا إذا أحاط بمعاني الألفاظ إحاطة وافية، فلذا يجدر بنا أن نأتي على ذكر معاني الألفاظ التي كثيراً ما يخلط بينها الناس، قبل أن نطالبهم بأن يفرقوا بينها تفرقة دقيقة محكمة
1 -
فالناس كثيراً ما يخلطون بين النفس والروح، وفي هذا يقول التوحيدي:(وقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هي الروح، وأنه لا فرق بينهما إلا في اللفظ والتسمية، وهذا ظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه لا حاجة بها إلى ما تقوم به، وما هكذا الروح، فإنها محتاجة إلى مواد البدن وآلاته)((المقابسات)، 106، ص 372 373) (فالإنسان ليس إنساناً بالروح. بل بالنفس، ولو كان إنساناً بالروح، لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روح ولكن لا نفس له. فليس كل ذي روح ذا نفس، ولكن كل ذي نفس ذو روح)((الإمتاع والمؤانسة) الجزء الثاني ص 113)
2 -
وكثيراً ما يخلط الناس أيضاً بين العلم والمعرفة، ولكن التوحيدي يفرق بينهما فيقول إن:(المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني والجزئية، والعلم أخص بالمعقولات والمعاني الكلية، ولهذا يقال في الباري: يعلم، ولا يقال يعرف. . .)(المقابسة 70، ص 272)
3 -
ويفرق التوحيدي أيضاً بين لفظين يختلطان في الاستعمال العادي، وهما: الفعل والعمل. (فالفعل يقال على ما ينقضي، والعمل يقال على الآثار التي تثبت في الذوات بعد انقضاء الحركة)(المقابسة 75) ولهذا التفرقة نظير في الفرنسية لأن الفعل يقابل كلمة والعمل يقابل كلمة
4 -
ومن الألفاظ التي يخلط بينها خلطاً ظاهراً، ألفاظ المشاركة وهي: المساواة، والمشابهة والمطابقة، والمجانسة، والمشاكلة، والمماثلة. وقد نص ابن سينا في (النجاة)(المقالة الأولى من الإلهيات) على الفروق القائمة بين هذه الألفاظ، فبين أن المساواة اسم المشاركة في
الكم، والمشابهة اسم المشاركة في الكيف، والمطابقة اسم المشاركة في الوضع، والمجانسة اسم المشاركة في الجنس، والمشاكلة اسم المشاركة في الإضافة، والمماثلة اسم المشاركة في النوع
هذه بعض الفروق التي (تجب مراعاتها توخياً للدقة في القول، وهي تدلنا على حاجتنا إلى شيء أكثر من الدقة اللفظية، خاصة في بحوثنا العلمية والفلسفية.
زكريا إبراهيم