المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 539 - بتاريخ: 01 - 11 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٣٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 539

- بتاريخ: 01 - 11 - 1943

ص: -1

‌حول ما نكتب

للأستاذ عباس محمود العقاد

علقت صحيفة (البورس إجبسيان) على ما كتبناه في موضوع الشيوعية فقالت بعد تلخيص رأينا فيها: (. . . وأن الأستاذ العقاد لينظر إلى الشيوعية في لون قاتم وهي ما زالت على حسب سياسة ستالين في دور الكشف والظهور فلا تعرف على التحقيق إلى أي طريق تسير في تطبيقها العملي بعد تجاربها في السنوات الأخيرة؛ فقد أنشأ نظام الأسرة فيها يتكون ثم المدرسة ثم الأخلاق ثم الاعتراف بتفاوت الدرجات والرجوع أخيراً إلى الدين، وكل هذا معناه أن الشيوعية الحالية ليست إلا اسماً مسمى وإن هي في حقيقتها إلا اشتراكية مستنيرة)

وهذا التعليق في رأينا هو أقرب إلى التأييد والتوكيد، منه إلى المناقضة أو التفنيد

لأن معناه أن ستالين يخالف الشيوعية التي ننكرها ولا يدين بقواعدها التي بسطها كارل ماركس وشرع في تحقيقها لينين

ومعناه من جهة أخرى أن الشيوعية في تطبيقها تخالف الشيوعية في أصولها النظرية، وأنها من أجل ذلك مذهب لا يصلح للتنفيذ في الحياة العملية

وقد اضطر ستالين فعلاً إلى الاعتراف بتفاوت الدرجات والأجور، واضطر إلى التسليم للأسرة ببعض الحقوق وقبول الملكية في وضع من الأوضاع، ثم انتهى خلال الحرب الحاضرة بتعظيم فضيلة الوطنية التي كانت في عرف كارل ماركس وأصحابه لعنة من لعنات الاستغلال، وحيلة من حيل أصحاب الأموال، فهو وأعوانه سمون الحرب الحاضرة بالحرب الوطنية وحرب الدفاع عن الذمار، لأنهم علموا أن اسم الشيوعية وحدها لا يشحذ همة الشعب إلى النضال ولا يغني عن نخوة الوطن والعصبية القومية

فاضطرار الأقطاب الشيوعيين إلى العدول عن بعض قواعدها الأولية يؤيد ما نقول، ولا ينفي أنها مذهب غير معقول ولا مقبول

ولكننا مع هذا ندعو إلى الحذر من تصديق كل ما يروى عن التطبيقات الشيوعية في الوقت الحاضر؛ لأن الوصول إلى حقيقة النظم الروسية اليوم من أصعب الأمور، ولم يسمح قط لرجل مستقل الرأي منزه عن الغرض بالطواف في أرجاء روسيا على حريته

ص: 1

بغير رقيب أو دليل، وإذا سمح له بالطواف في المواطن البعيدة عن الأسرار والخفايا، فلا ينقضي أسبوع على معاشرته لفرد من الأفراد أو فئة من الفئات إلا أسرع الحاكمون بتبديله وإحلال آخر أو آخرين في محله، حتى لا تنعقد بين السائحين المستقلين وبين أحد من الروسيين صلات وثيقة تطلق عقال الألسنة وتكشف كوامن الصدور

ولا حاجة بنا بعد هذا وذاك إلى ملاحظات السائحين المستقلين لإدراك هذه الحقائق الغنية عن الدليل، فحسبنا أن حرية الكتابة مكبوحة في روسيا منذ نيف وعشرين سنة لنعلم أن بواطن الأمور غير ظواهرها وأن رعايا الشيوعيين لا يملكون الإفضاء بما في ضمائرهم لأبناء وطنهم فضلاً عن الغرباء الطارقين الذين يحاطون بالرقباء والإدلاء من قريب وبعيد

ولا نزال نذكر الفكاهة التي رويت على لسان الفلاح الروسي حين سمح له بالتحدث إلى العالم الخارجي من محطة الإذاعة العامة على شريطة أن يفوه بكلمة واحدة ولا يزيد عليها فكانت كلمته التي جمعت كل ما أراد الإفضاء به إلى العالم الإنساني كله هي: (النجدة!) ولاذ بعدها بصمت الأموات

فحسبنا أن المذهب في أصول النظرية غير معقول وأن أقطابه لا يقدرون على تطبيقه إلا بعد الانحراف عنه والتعديل فيه، وأن الأقوال التي تصل عنه إلى العالم الخارجي لا تخلو من حجر ورقابة، وهذه كلها حقائق متفق عليها حسبنا كما قلنا أن نعلمها لنعلم أن الحذر من تصديق ما يقال هو أقل ما تقابل به تلك الأقوال

وليست كل التعليقات جداً كهذا التعليق الذي ألمعنا إليه من كلام (البورس إجبسيان)

فهناك تعليقات الأوشاب!

وهناك تعليقات عبيد المعدة!

وهناك تعليقات الماديين الذين يفسرون كل شيء بالماديات!

والأوشاب وعبيد المعدة والماديون هي كلمات مرادفة لكلمة الشيوعيين باعتراف هؤلاء الشيوعيين الفخورين!

وهؤلاء - أو أذناب هؤلاء - يقولون إنني لا أكره الشيوعية ولا أكتب ما أكتب عنها إلا لأنني قبضت من أعدائها خمسة آلاف جنيه للتشهير بها في بضع مقالات

ولكني أكتب ما أكتب اليوم عن الشيوعية منذ كانت الشيوعية، أو منذ عشرين سنة على

ص: 2

التقريب

وأكتب عن جميع المذاهب التي تناقض الديمقراطية كما كتبت عن الشيوعية والشيوعيين

فما تفسير ذلك يا ترى؟ ولم لا تكون الكراهة هنا كراهة رأي ما دامت مطردة في جميع الأوقات وعلى جميع المذاهب وبين جميع الأحوال؟

كلا. لا يمكن أن يفسر كلام إنسان بالرأي والعقيدة في عرف الأوشاب وعبيد المعدة والمفسرين للتاريخ كله بالماديات

أفي الدنيا إنسان يحارب رأياً لأنه يؤمن ببطلانه؟ كيف يكون هذا؟ وكيف يكون الإنسان عبداً للمعدة إذن ويكون الرأي محور أقواله ومثار خصوماته؟

هذا مناقض (للمذهب) في الصميم

وهو كذلك مناقض (للخطط الحربية) التي أوصى بها ماركس أتباعه علانية ولم يتورع أن يزينها لهم في منشوراته على مسمع من الدنيا بأسرها؛ فهو القائل إن تشويه كل ديمقراطي حسن السمعة واجب مفروض على الدعاة، وهو الذي سن لهم هذه السنة حين أشاع أن (باكونين) جاسوس للروس والنمسويين وهو يعلم أنه لطريدة الروس والنمسويين!

ومن عقائدهم التي لا يخفونها أن (الحق) المطلق خرافة ليس لها وجود، وأن ما يسمى حقاً إنما هو جملة المصالح التي تنتفع بها الطبقة الغالبة في أمة من الأمم، وأن الكذب العمد على هذه الخدمة (الطبقة) أمر مشروع بل واجب مشكور

فلا عجب إذن أن يقرفني الأوشاب عبيد المعدة بما يعهدون في أنفسهم وفي عقائدهم من الخلائق والأدناس

بل عندي أنهم حيوني أكبر تحية في مقدورهم حين رفعوا سعر الرشوة التي أرشاها إلى خمسة آلاف من الجنيهات أجراً مقدوراً لبعض مقالات

نعم هي أكبر التحيات التي يملكونها وهم يعلمون أن سعرهم جميعاً وأجور مجهوداتهم جميعاً منذ خدموا الشيوعية إلى أن تستغني الشيوعية عن خدمتهم لن يقارب خمس هذه الآلاف

فلهم علي تحيتهم المغصوبة شكر بلائهم

ولهم فوق ذلك تبرع آخر ينتفعون به في كل لحظة إن وجد السبيل إليه

ص: 3

فإنني لمتبرع لهم بهذه الآلاف الخمسة حيثما وجدوها في مصرف أو بيت أو ثمناً لعقار أو بضاعة أو إسناد تشترى وتباع

وحيثما وجدوا ذلك المال فليكتبوا إلى صاحب الرسالة بموضوعه، ولهم أن أتبع كتابتهم بعد يوم واحد بتحويل صريح يخولهم قبضه حلالاً مباحاً وفاقاً لكل شرط يقترحونه من شروط القانون

وليدعوا لي بالخير إذن كما يدعون للرفقاء أجمعين، فإنني سأعطيهم إن صدقوا ما لم يأخذوه - ولن يأخذوه - من رفيق!

وندع هذه الأضاحيك ونعود إلى الموضوع (المؤلفين والمقترحين) الذين كتبنا عنه في الرسالة مقالنا الأخير

فقد وردتني في هذا الموضوع رسائل شتى من مؤيدين ومناقشين، وخير ما وردني من رسائل التأييد رسالتان إحداهما يقول صاحبها (ا. زين العابدين): إن كل نسخة من كتاب يقتنيها قارئ مثقف هي رد مطول على أصحاب المقترحات على قلتهم، وإن كانوا من ذوي الثقافة والاطلاع

والأخرى يقول صاحبها (محمد عبد الهادي): إن رضى المؤلف عما كتب لقرائه هو العزاء الذي يرجح بكل جزاء ويغنيه حتى عن الإعجاب والثناء

وراقني فحوى هذه الرسالة على التخصص لأنني تلقيتها من محض المصادفة في بريد واحد مع مجلة (ورلد ديجست) الإنجليزية وفي صدرها خطاب معاد لمستر شرشل يتكلم فيه عن (غبطة المؤلفين) ويجعلها - كما يجعل كل غبطة من نوعها - عليا المطامح التي ترتقي إليها آمال الناس من هذه الحياة

فليس في الدنيا - كما يقول - سعادة أسعد من نجاحك في التوفيق بين موضوع عملك وموضوع سرورك، أو من اتخاذك العمل سبيلا من سبل الرياضة والرضاء، وهو يسأل ويطيل في سؤاله بما خلاصته:

ماذا يعنيك مما يحدث وراء الأفق الذي نعيش فيه بعملك وسرورك؟ ليصنع مجلس النواب ما بدا له، وليصنع معه مجلس اللوردات مثل هذا الصنيع، ولتضطرب الأسواق، وليثر من يثور، فلا ضير عليك وأنت منزو في تلك الساعات القلائل عن عالم يساء حكمه أو يساء

ص: 4

نظامه

ثم ينتقل إلى الحديث عن الحرية والتأليف فيرى أن أداة التأليف هي أخف الأدوات مئونة وأقلها كلفة لأنها قلم وصفحات من الورق، وإن أبقى شيء يبقى من وراء أسداد الزمان والمكان هو الكلمات

قل إنه عزاء للمؤلفين يخلقونه من الخيال أو يخلق لهم من وقائع الأيام؛ فالمهم أنه قد خلق وأنه قد نزل من نفوسهم منزل العزاء الصحيح

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

الزواج بعد العشق - من هذه المحامية الحسناء؟ - قيمة

الصدق - بين الأدب والحياة - جزئيات! - سؤر الحديث

الزواج بعد العشق

في أحوال كثيرة ينتهي الزواج بعد العشق إلى الانفصال، ثم إلى العداء، بحيث لا يحب أحد الزوجين المنفصلين أن يسمع خبراً عن صاحبه في أي معرض من معارض الحديث. . . فما تعليل هذه الظاهرة وهي من الغرابة بمكان؟

كان المنتظر أن يكون الزواج المنبعث عن العشق أقوى وأمتن وأبقى من سائر أنواع الزواج، ولكن النتيجة تخالف ما انتظرناه، وتشهد بأن العشق يكون أحياناً من أسباب الطلاق. . . فما تعليل هذه الظاهرة، وقد قلت إنها من الغرابة بمكان؟

يجب أولاً أن تعرف موجبات العشق، لنرى كيف يمكن أن يصبح من منغصات الزواج، في أكثر الأحايين، فما تلك الموجبات؟

يخطئ من يقول إن العشق اتصال روح بروح، بغض النظر عما يساور حياة العاشقين الاختلاف الطارئ، وهو الاختلاف الذي تخلقه ظروف المعاش، وهي ظروف تتجدد في كل يوم بأشكال وألوان

أساس العشق أن يكون المعشوق صورة مثالية، صورة يراها العاشق نهاية النهايات في الجمال والجلال، صورة منزهة من كل ما يغض من نظارة الجسم وحلاوة الروح

ونحن نعرف أن العاشق لا يرى معشوقته ولا تراه إلا بعد تأهب وتهيؤ واستعداد، فيكون كل لقاء شبيهاً باللقاء المنشود في ليلة العرس، وتكون الأنفاس في حرارة محرقة لا يخمدها التلاقي، وتلاقي العشاق أقصر من طيف الخيال

وهذا البناء ينهدم حين يصبح العاشقان زوجين، ينهدم بسرعة، لأن المرأة لا تتجمل للزوج كما تتجمل للعاشق، ولأن الرجل لا يغازل الزوجة كما يغازل المعشوقة، وبهذا يضيع ما كان ينتظر الزوجان من سعادة الحياة، حياة العشق الذي لا يكدره فضول الرقباء، وهما لا

ص: 6

يدريان أنهما بعد الزواج ينوبان عن الرقباء بالتجسس والسخافة والفضول!

العاشق لا يغفو أبداً، والمعشوقة لا تغفو أبداً، فأيسر انحراف من أحد الزوجين العاشقين يخلق متاعب لا تداوى بغير الفراق

أيكون معنى هذا الكلام أن ننهي عن الزواج بعد العشق؟

لا، فإننا نرجو أن يكون العشق من وسائل الزواج، وإنما ندعو إلى الفهم الصحيح لحياة الزوجية، وهي تختلف عن حياة العشق بعض الاختلاف أو كل الاختلاف

إذا تزاوج العاشقان فقد وجب أن ينتهيا عن دلال الحياة الغرامية، وأن يعرفا أنهما مقبلان على تكاليف ثقال يوجبها نظام البيت ونظام المعاش

الزوج الذي يصابح زوجته ويماسيها لا يطالب بما يطالب به العاشق الذي يلقى معشوقته من أسبوع إلى أسبوع؛ والزوجة في الأصل سكن للزوج، ومزية السكن أنه مأوى صاحبه في أوقات الفرح والترح، ولحظات التفتح والذبول، فمن واجب الزوجة أن تفهم أن الزوج لا يصلح في كل وقت للمطارحات الوجدانية، ولا يستطيع أن يبتسم في جميع الأحوال

إذا فهمت الزوجة المعشوقة هذه الحقيقة أمكنها أن تستريح من متاعب كثيرة، متاعب تخلقها الغيرة السخيفة، فقد ثبت أن الزوجة لا ترد سكوت الزوج عن الملاطفة إلى أسباب من اشتغاله بمتاعب الحياة، وإنما تردها إلى أسباب من اشتغاله بغيرها من النساء. والمرأة لا تدرك أن للرجال متاعب غير الاشتغال بالنساء!

وأنا لا أبتدع هذا الرأي، فقد التفت إليه أقطاب القصص الفرنسي، وعندهم عبارة يضيفونها إلى الزوجة عند معاتبة الزوج في أتفه الشؤون، وهي عبارة:(لم تعد تحبني)

'

وهي عبارة تعاد بحروفها في أكثر الأقاصيص، بحيث جنى عليها التكرار فلم تعد تثير الإحساس، برغم ما يصحبها من التوجع والأنين!

والظاهر أن المرأة تخلفت عن موكب الحياة، فهي لا تزال تنظر إلى النعيم بالعين الحيوانية، ولم تدرك أن النعيم صارت له ألوان من التطلع والتوثب والتسامي إلى مراتب لا تخطر للحيوان في بال

والحق أن الرقي العقلي والروحي والأدبي والمدني، الرقي الذي نقل الإنسانية من حال إلى

ص: 7

أحوال بصورة تفوق أحلام القدماء بمراحل طوال طوال، هذا الرقي من صنع الرجال، وليس فيه للمرأة نصيب، وستظل في تأخر إلى الأبد، ما دامت تؤمن بأن النعيم في الحياة الزوجية هو نعيم الحيوان

ضعوا المرأة حيث وضعتها الطبيعة، ولا تدللوها أكثر مما فعلتم، يا أغبياء التمدن الحديث!

من هذه المحامية الحسناء

خصصت مجلة الشعلة صفحة لمقال دبجته إحدى المحاميات في تنفير الفتاة من الزواج، فما حجج تلك المحامية؟

لا حجج ولا براهين، وإنما هو دلال فتاة وجدت فرصة للتنويه بأنها ردت جماعات من الخاطبين، لتنعم بحياة الاستقلال، كأن الزواج عبودية لا ترضى بها غير الفتاة العاجزة عن الاستقلال!

نحن نعرف من سنن الحياة أكثر مما تعرف تلك المتمردة، نحن نعرف أن الفتاة لا تزهد في الزواج إلا إذا كان بها نقص في الحيوية، وهذا النقص يعتري بعض النساء وبعض الرجال، وهو السبب في شيوع العزوبية عند فريق من هذا الجنس أو ذاك، فلا موجب للتباهي بغنى هو أقبح من الإملاق

إن احتياج المرأة إلى الرجل دليل على كمال الأنوثة، كما أن احتياج الرجل إلى المرأة دليل على كمال الرجولة. وتباهي المرأة بزهدها في الرجل لا يقل قبحاً عن تباهي الرجل بزهده في المرأة. وإذا جاز للفتاة الجاهلة أن تقع في مثل هذا التباهي الأحمق، فصدوره عن الفتاة المثقفة إثم فظيع في نظر الطبيعة، والطبيعة تبغض الانحراف

وهنالك بدعة جديدة تمضغها بعض الفتيات، بدعة القول بأن الزواج يحكم على الزوجة بالتبعية للزوج، ونحن في عصر المطالبة بالتحرر والاستقلال!

وهذا كلام في غاية من الضعف، لأن تبعية المرأة للرجل تبعية طبيعية، وهي مجردة كل التجرد من معاني الاستعباد. وسيادة الرجل على المرأة سيادة تشريف، لا سيادة تكليف. وخضوع المرأة للرجل يزيدها جمالاً إلى جمال، ويؤيد رسالتها في تعمير الوجود

كنت ظننت أن تلك المحامية شخصية خرافية، ولكن محرر الشعلة أكد لي أنها شخصية حقيقية، وأني لو رأيتها لفتنتني بجمالها الوهاج

ص: 8

وأقول إن الفتاة التي تنفر أترابها من الزواج لا تفتن أحداً، ولو كانت في جمال أفروديت، لأن سحر المرأة يرجع إلى الحيوية في الطبيعة الأنوثية، ولا قيمة للجاه المجلوب، جاه العلم والمال والجمال

جمال المرأة أنها مرأة، وجمال الرجل أنه رجل، فاتركوا هذه الحذلقة، وتجنبوا الجدال في شؤون يفسدها الجدال

قيمة الصدق

الصدق لا يقوم بأي ثمن، لأنه فوق التقويم وفوق التثمين، وما قال قائل في أي زمن أو في أي بلد إن الصدق آذاه بأية صورة من صور الايذاء، وما فاز فائز بغير الصدق، ولا خسر خاسر إلا بسبب مجانبة الصدق، فتدبر هذا القول ثم انظر أين أنت فيما اخترت لنفسك من مذاهب السلوك

إن اقترفت ذنباً فاعترف لتظفر بأول سبب من أسباب النجاة وهو الصدق، وتذكر دائماً أن الكذب لن ينجيك من غضب الله وإن صرف عنك غضب الناس. وأنا مع هذا واثق بأن من يبوء بغضب الله لن ينجو أبداً من طغيان الناس فالله يسلطهم على من يكذبون عليه أشنع تسليط، ليعرف أن الكذب على الله يلاحقه في كل مكان

لا تحوج القضاة إلى شهود، وكن أنت الشاهد على نفسك، فإن فعلت فسيصبح القاضي محامياً عنك، لتمسي وأنت من الناجحين

ومتى تقف أمام القضاء؟

إن الوقوف أمام القضاء الإنساني قد لا يصادفك في حياتك غير مرة أو مرتين على أسوأ الفروض، وقد لا يصادفك أبداً، لأن القضاء الإنساني لا يتعرض لغير من يتبجح بالاحترام، وأنت فيما أفترض تنزه نفسك عن مسايرة المجترمين والمتبجحين.

أنا أخاف عليك غضب المحكمة السماوية، لا لأنها قد تسارع إلى البطش بك، ولكن لأنها قد تملي لك إلى أن تفضح نفسك باقتراف الآثام الغلاظ، من أمثال الزور والبهتان

تعود الصدق مع الله في سرك قبل جهرك، وإن صدقت مع الله فستصدق مع الناس، ستصدق معهم صدق الترفق لا صدق التخوف، وستقضي دهرك وأنت من الأعزاء

لو سلطت إحدى الحكومات على أحد اللصوص ألف رقيب لاستطاع النجاة بأيسر مجهود

ص: 9

من التحفظ والاختفاء، ولكن الهرب من غضب الله لن يتيسر، ولو اعتصم الهارب الأثيم بشعاب الجبال

اصدق مع الله لتذوق نعيم الصدق، ولتؤمن بأن كل شيء ما خلا الله باطل وأن رضاه أنفس من جميع الحظوظ

بين الأدب والحياة

كنت اليوم مقسم الفكر بين شجون من الأحاديث لا يتصل بعضها ببعض إلا برباط ضعيف، فأحاديث الصبحية كانت خاصة بمشكلات التعليم، وأحاديث الظهرية كانت تدور حول الزراعة، وأحاديث العصرية كانت حواراً بيني وبين أبنائي في مسائل منوعة الفنون، وأحاديث العشوية دارت في مكان لا تدور فيه الأحاديث إلا ممزوجة بالنجوى الرقيقة بين روح وروح. ثم كان الحديث مع الصديق الذي لقيني مصادفة وأنا راجع إلى داري، وهو حديث لم يطل، فقد انتهى في دقائق، ولكنه ترك في نفسي أشياء!

لو دونت هذه الأحاديث كلها لكانت ثروة أدبية، ثروة حية كل الحياة، لأنها مقبوسة من جمر الحياة، فمتى نجعل الأدب تصويراً لما نرى ونسمع وندرك في اللحظات التي تستيقظ فيها الحواس، أو الأيام التي تكثر فيها التجاريب؟

لو تحدثنا بصراحة عن المشكلات التي تحيط بنا في كل يوم لساد التجاوب المنشود بين القارئ والكاتب، ولأصبح الأدب تعبيراً صحيحاً عن المتاعب التي تساور هذا الجيل

إننا لا نملك الفرار من روح العصر، مهما تعالينا عليه، فلنا صلات يومية مع القصاب والخباز والبقال، ومن إلى هؤلاء من أصحاب الحرف والصناعات، ولنا صلات بمن نراهم في الطريق كل يوم، ولو كانوا في الظاهر من المجاهيل

جزئيات!

هي جزئيات مضحكة في نظر القارئ الذي لا يرى للأدب حياة في غير الحديث عن النجوم والأزهار والرياحين، ولكن لها مغازي تستحق الشرح والتوضيح، وتستأهل اهتمام الأديب الحصيف، وإليك طائفة من هذه الجزئيات

1 -

من النادر أن يقدم راكب الترام ثمن التذكرة إلى التذكري بدون أن يحوجه إلى الباقي،

ص: 10

ومعنى هذا أن الشخص الذي يركب الترام مرة أو مرتين في اليوم لا يفكر في إعداد ثمن التذكرة، وأنه لا يتأذى من رؤية التذكري وهو يحار في صرف النقود لعشرين أو ثلاثين من لركاب، مع أنه يقوم بهذه المهمة الثقيلة وهو على حافة الترام وفي قلق لا يحتاج إلى بيان

ولو كتبنا مقالة في استهجان هذه المعاملة لوجدنا من ينكر أنها مقالة أدبية، لأنها خلت من الحديث عن الأزهار والنجوم والرياحين

2 -

هذا موظف يركب الترام في بدلة نظيفة وإن لم تكن جديدة، لأن العمل في الدواوين يوجب أن تكون الأثواب على جانب من القبول، وهذا عامل يركب الترام وثوبه مزيت، لأن شغله لا يمكنه من تغير الثوب في كل انتقال، وهو مع ذلك يرى من حقه أن يجلس بجانب الموظف غير مبال بما سيصنع ثوبه المزيت. . . هل نكتب مقال في النهي عن هذا الصنف من السلوك؟

وإن فعلنا فسنجد من يقول إننا نجسم الفروق بين الطبقات

3 -

هذا فلاح يسئ معاملة المالك، فيأخذ خيرات الأرض، ويترك المالك في حيرة إلى أن يستنجد بالقضاء. . . هل نستطيع تأنيب الفلاح على هذه الألاعيب؟

إن فعلنا فسنجد كتاباً يبكون حظ الفلاحين بدموع التماسيح!

وخلاصة القول أن الأدب لا يحيا كل الحياة إلا إن عبر عما في الصدور تعبيراً يشمل جميع الألوان، ألوان الإحساس بما في الحياة من آلام وآمال، بلا استثناء للجزئيات الصغيرة في الحياة اليومية

سؤر الحديث

السؤر هو البقية، فما بقية هذا الحديث؟

حين أنست القاهرة بزيارة الوفد السوري، الوفد الذي تقبلته مصر بأحسن القبول، تذكرت أن الأستاذ محمد خالد حدثني أن جماعة من أدباء سورية ضاقت صدورهم بأدبي، فاعتزموا إرسال وفد يقنع مجلة الرسالة بوجوب التخفف من مقالاتي!

فمتى يجيء الوفد السوري الجديد؟ متى يجيء فتستريح (الرسالة) وأستريح؟

الحق أني لم أفكر يوماً في ملاطفة قرائي، وهل ألاطف نفسي حتى ألاطف قرائي؟

ص: 11

أنا أمشي على الشوك في كل سطر أو في كل حرف، وما يعجبكم أو يغضبكم لا يخطه القلم إلا بعد أن يعتلج في الصدر أياماً وليالي وأسابيع

وما حاجتكم إلى كاتب لطيف لا يكتب في غير ما تحبون؟ ألم تروا كيف تقهرنا الحياة على الاعتصام بالرموز والتلاميح؟

إن الذي يغضبكم مني هو السر فيما بيني وبينكم من جاذبية يعجز عن إخمادها الزمان

زكي مبارك

ص: 12

‌2 - الشعر المرسل والشعر الحر

للأستاذ دريني خشبة

وظيفة الشعر المرسل والشعر الغنائي - الشعر العربي غنائي كله - الأقصوصة القصيرة المنظومة أو ال محاولة التخلص من القافية العربية - تحكم القافية العربية في تفكير شعرائنا - القافية المطردة هي التي حرمتنا من الملاحم والقصص المنظومة - لماذا جدد الأندلسيون - هل مضى زمن الملحمة والدرامة المنظومة.

يجب أن نعرف وظيفة الشعر المرسل قبل أن نقرأه، ويجب أن نعرف أن هذا الضرب من الشعر لا قافية له، لا يمكن أن يستعمل فيما يستعمل فيه الشعر الغنائي الذي لا يمكن أن يستغني عن القافية، لأن القافية هي نصف موسيقاه

والشعر المرسل الذي ابتكره الإيطاليون واقتبسه عنهم شعراء الدول الأوربية، وفي مقدمتهم الشعراء الإنجليز، إنما يستعمل في نظم الملاحم الطوال، والقصص الشعرية، والأبداعية منها على وجه الخصوص، كما يستعمل في الدرامة المنظومة

أما الشعر الغنائي، فيستعمل في القصائد والمقطوعات والموشحات، وذلك لأنها أحوج إلى الجمال الشكلي، والكمال الموسيقي من الملحمة ومن الدرامة ومن القصة الإبداعية وذلك لأنها أيضاً، أو لأن القصيدة أو المقطوعة أو الموشحة منها، عبارة عن خلجات سائبة، يجمع الشاعر أشتاتها لتتم له منها وحدة القصيدة آخر الأمر. فالشاعر الذي يناجي ليلاه، أو يشكو بلواه، أو يبرح به الوجد في خلوته، أو يقدس لله في وحدته، أو يرثي للإنسانية الدامية، ويرى الشمس تبزغ فتغني لها روحه، ويهتف بجمالها لسانه. . . ويرى الزهرة تفتر عن ثغرها الأقحواني فيذكر ثغر معذبته، فيجلس هنيهة ليقول بيتاً أو بيتين، وينظم مقطوعة أو مقطوعتين، وكأنما يذرف عبرة أو عبرتين. . . هذا الشاعر العابر لا بد له أن يتأنى. . . إنه في حاجة ماسة إلى الفن الكامل. إنه لا يستطيع أن يتخلى عن وتر واحد من أوتار قيثاره الخمسة، إنه بحاجة شديدة إلى فتحات نايه الست. . . إنه لن يقدر عن الاستغناء عن مفتاح واحد من مفاتحه السبعة. . . إنه ينبغي أن يقف عند آخر كل بيت، لأن كل بيت إنما يحمل معنى مستقلاً بموسيقاه وإن لم يستقل كل الاستقلال بمعناه. . . إن شعره هو غناء قلبه وترجمان عواطفه، وألحان روحه، وهو إذا رثى أو مدح أو وعظ أو

ص: 13

وصف، فهو يتغنى بفضائل المرثي وأفضال الممدوح، ويحبب في الخير ويبغض في الشر، ويردد أصداء الحديقة أو القصر، أو الجبل أو البحر، في نفسه

وكل الشعر العربي شعر غنائي لأن الشعراء العرب لم ينظموا ملحمة ولا قصة ولا درامة. والشعر القصصي الموجود عندنا هو نوع من أنواع ال أو القصة القصيرة الغنائية المنظومة، ونحوها بعض قصائد امرئ القيس والنابغة (في المتجردة مثلاً) والفرزدق (في الذئب وبعض القيان) وقصائد عمر بن ربيعة في غوانيه، وبعض وقائع أبي نواس في غيده وغلمانه، وما تفيض به يتيمة الدهر من حكايات الفضوليين والمخنثين ومن إليهم. . . ويلحق بهذا الضرب ضروب القصص بعض المدائح النبوية التي تعرضت بالشرح إلى معجزات النبي، ولعلها هي التي أوحت في العصر الحديث إلى حافظ وعبد الحليم المصري ومحمود المانسترلي بمنظوماتهم في عمر وأبي بكر وعثمان

ولسنا نعرف في تاريخ الأدب العربي أن أحداً من الشعراء العرب حاول التخلص من القافية أو حاول كتابة الشعر المرسل، على أننا نعتبر الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة محاولة قديمة للتحرر على نطاق ضيق من أسر القوافي، وأقول أسر القوافي، وأنا أعني ما أقول وأقصده لأن هذه القوافي العربية الصارمة هي السبب المباشر في قصر قصائدنا وقصور شعرائنا على السواء، وهي السبب المباشر أيضاً في حرمان الشعر العربي من الملحمة الطويلة ومن القصة المنظومة ومن الدرامة المنظومة ومن الروائع القصصية بجميع أنواعها. . . لقد آن أن نعترف بأن فحول الشعراء العرب كانوا يضطرون، تحت أسر هذه القوافي، إلى استعمال ألفاظ حوشية مهجورة مغربة ما دامت داخلة في باب القافية التي ينظمون منها. ومن المؤلم أن نقرر أن هذه الألفاظ الحوشية المهجورة المغربة كانت تتعاون مع الألفاظ السهلة المستعملة المتداولة في التحكم أحياناً في سير القصيدة وفي رسم الطريق للمعاني. . . وأنا موقن أن الشاعر المطبوع والشاعر غير المطبوع مستويان في الخضوع لأسر القافية وتحكمها في جميع ما يريد كل منهما أن يقول، حتى في المقطوعات القصيرة، وحتى في الموشحات التي تتنوع القوافي في مقطوعاتها

وأذكر بهذه المناسبة ما يلاحظه بعض نقاد الآداب الأجانب على الشعر العربي من البطء الشديد في أداء المعاني التي تضطرب بها نفس الشاعر. ولا جدال في أن القافية وحدها

ص: 14

هي سبب هذا البطء لتحكمها في تفكير الشاعر تحكماً سخيفاً مضنياً ينتهي إلى إجهاد قريحته وتجشيمها ما لا تطيق، وتكون النتيجة المحتومة التي لا مفر منها واحدة من اثنتين: فإما أن تعطينا هذه القريحة المجهدة المتعبة شعراً مجهداً متعباً، وإما أن يؤدي هذا الإجهاد إلى موت القريحة نفسها وانصرافها عن هذا الشعر المضني السخيف الذي لا خير فيه إلا تلك الموسيقى الكاملة وإلا الطنين والرنين

لذلك نرجح أن نظم الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة كان محاولة للتخلص من ربقة القافية المتشاكلة المملة التي تتحكم في معظم الأحوال في كل ما يريد أن يقوله الشاعر وفي كل ما يفكر فيه، وفي كل ما يزخر فيه خاطره من خوالج، تلك القافية التي لا شبيه لها إلا في الشعر العربي

ولذلك أيضاً نجزم بأن القافية المتشاكلة المملة هذه، كانت السبب في حرمان الأدب العربي أو الشعر العربي على وجه التحديد من الملحمة والقصة الطويلة المنظومة، ثم من الدرامة وذلك لأن أثرها في توجيه تفكير الشاعر يكون أقصى من المنظومات الطويلة التي تحتاج إلى المرونة والتدفق ورقة التسلسل وعدم الإرهاق بالاطراد السمج الذي يقتضي حشد خمسمائة أو تسعمائة أو ألف لفظة متفقة الوزن وموحدة الحرف الأخير لمنظومة تتألف من مثل هذا العدد من الأبيات

لقد تعاظم هذا الحظر الشعراء الأندلسيين، كما تعاظمهم كذلك أن تظل ثقافتهم الشعرية ذليلة لعروض الشعر المشرقي؛ وتعاظمهم أيضاً أن يسمعوا إلى هذه المنظومات الرقيقة المشرقة التي يهتف بها شعراء الأسبان في غرناطة وقشتالة وطليطلة وغيرها من أمهات المدن الإسبانية، وأن يظلوا هم عاكفين على قوافي المهلهل والسليك والطرماح ومن إليهم من شعراء الجزيرة العربية منذ جاهليتها الأولى، فداروا مع الزمان الذي استدار، وقلدوا الأغاريد الجديدة التي سمعوا، فأمدوا الشعر العربي بتلك الموشحات الرائعة التي كانت خطوة بارعة في سبيل التخلص من القافية المطردة التي ما زال شعراؤنا أو معظمهم ينتصرون لها ولا يرون التخلص من أصفادها مع الأسف الشديد

قرأت في أحد كتب المستشرقين أن أدباءنا القدامى، أي أدباء العرب، الذين لم يستطيعوا أن يقرضوا الشعر اكتفوا بأن يسجعوا النثر، وعلل الكاتب هذه الظاهرة بتحكم سلطان القافية

ص: 15

في الشعر العربي، واستهوائها لنفوس العرب والأمم المستعربة على السواء، وعلل بهذا ظهور السجع في كلام العرب القديم.

فإلى متى يا ترى يظل شعراؤنا عبيداً لهذه القوافي المطردة التي لم تتغير منذ عهد عاد!

وكيف يتفوق الأندلسيون على المصريين والشاميين والعراقيين وعرب المغرب وشعرائنا في المهاجر من حيث الاستجابة للصوت الجديد الغرد الذي كان يغني من حولهم فغنوا كما غنى وأنشدوا كما أنشد وشعروا كما شعر، ثم بزوه بموسيقى العروض العربي ذي الثروة الطائلة من الأنغام والموازين فتأثر هو الآخر بهم كما تأثروا به، وأذاع بتلك الموازين في العالم اللاتيني كله، وتأثر الشعر الغنائي هناك بما يطول ذكره في تاريخ آداب الأمم اللاتينية (أسبانيا وفرنسا وإيطاليا) مما نرجو أن نعرض له في فصل خاص إن شاء الله

فكيف لا يستجيب شعراؤنا اليوم لما يدوي حولهم من موسيقى هذا الوجود؟

إننا نقرأ شكسبير ونعجب به، ونشيد بذكر ملتون ونكب على فردوسه، ونتلو آثار الشعراء الفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان، التي أنشأت بالشعر المرسل في الملاحم للمسرح، ثم نحن تسحرنا هذه الأشعار بسهولتها وسرعتها وموسيقاها الرائعة التي استغنت عن القافية واستعاضت منها بالنغم الحلو، والديباجة الناعمة المشرقة، والأسلوب الذي لا ينزل ولا يسف، ولا يلتوي ولا يتحذلق، فلماذا يا ترى لا نستجيب في شعرنا لهذه الأصداء الأوربية الرائعة كما استجاب العرب الأندلسيون؟

قد يقول قائل: لقد مضى زمن الملاحم، فما بالأدب العربي وما بالشعر العربي حاجة إليها، أما الدرامة المنظومة فقد فشل التنفيذ في مصر باللغة العربية، فهل يحيا بالشعر؟

قيل هذا الكلام في بعض المجالس التي دار فيها الحديث عن تلك الدعوة لتجديد الأدب العربي والدعوة إلى تجديد الشعر العربي كذلك والذين سمعت هذا الكلام منهم أدباء متصلون بشيوخ الشعراء المصريين الذين عبنا عليهم في غير كلمة جمودهم وعدم ثورتهم على القديم وتمسكهم بأهداب الماضي السحيق الموغل في القدم، لأنه يرتد إلى أكثر من ألفي سنة

منطق عجيب أن دل على شيء فهو إنما يدل على تجاهل لا جهل، وإصرار على الجمود دون محاولة بذل أي جهد نحو التجديد

ص: 16

لقد مضى زمن الملاحم. . . هكذا يقول شيوخ الأدباء في مصر. وعلى هذا فقد قضى على اللغة العربية وعلى الأدب العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا تكون لهم ملحمة ما، كالإلياذة والأوديسة لهوميروس، والإلياذة لفرجيل، والكوميديا الإلهية لدانتي، والشاهنامة للفردوسي، والفردوسي، المفقود لملتون. . . بل قضى على الأدب العربي، والشعر العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا يكون لهم قصص طويل منظوم رائع مثل فينوس وأدونيس والكريس لشكسبير وسوردلو

وباراسلزوس والخاتم والكتاب لروبرت بروننج، وتشيلد هارولد ودون اجوان لبيرون، وأدونيس وثورة الإسلام والملكة ماب لشلي، والقرية المهجورة لجولد سمث، وسهراب ورستم لأرنولد، وملاحم تنيسون الموسيقية البارعة، وأنديميون ولاميا وإيزابيلا. هذه الملاحم أو ال الشعرية الرائعة التي كان يخلق بشعرائنا أن يتعلموا منها كيف يقرضون الشعر، وهي مع هذا من نظم كيتس الشاب الذي لم يعد الثالثة والعشرين!

أما أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى، وأن التمثيل باللغة العربية الفصحى قد فشل في مصر، فهو كلام لا يقوله قوم يؤمنون بنهضة أو يوقنون بإصلاح. وسنترك إنجلترا وفرنسا وألمانيا في الرد على هؤلاء اليائسين المتشائمين ونتجه بهم نحو مصر نفسها، فنذكرهم بالفرق الإنجليزية والفرق الفرنسية التي كانت تزورنا منذ عامين لا أكثر لتمثل لنا درامات شكسبير وموليير وغيرهما من مسرحي الإنجليز والفرنسيين. ثم نذكرهم في الوقت الحاضر بكواكب هوليوود ونجومها الذين - واللائى - يزورون مصر الآن للترفيه عن جنود الحلفاء في الشرق الأدنى والأوسط، وقد سمعت منهم - عن طريق الإذاعة - أكثر من خمسين أوبريت وعشرات من المشاهد المختارة من أبدع ما أنشأ شعراء الشعر المرسل

لست أدري لماذا يستمر الإنجليز في تمثيل درامات شكسبير ودريدن وبيترو ما دام أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى في نظر شعرائنا الشيوخ الأفاضل؟

على أنه إن كان زمن الدرامة المنظومة قد مضى فماذا صنع شعراؤنا الأفاضل في زمن الدرامة المنثورة؟ لقد دعوناهم إلى مد المسرح والسينما بالدرامات الرفيعة التي نحن أحوج إليها من ألف ألف مقالة أو قصيدة أو مقطوعة مما يكتبون وينظمون، فهل فعلوا. . . هل

ص: 17

فكروا؟. . . لقد دعوناهم إلى أن يفكروا للعصر الحديث بعقول حديثة، كما ندعوهم اليوم لكي ينظموا للعصر الحديث على غير طريقة المهلهل منذ ألفين من السنين، فهل استجابوا لصوت العصر الجديد؟ لقد شكونا إليهم عدم مشاركتهم في رفع المستوى المسرحي والسينمائي المصري، هذا المستوى الذي ينحط برواياته وشعبذاته ويجعلنا ضحكة الدنيا وسخرية العالم، فهل نزلوا إلى الميدان؟

ولقد سمعت كذلك من أحد المتصلين بهؤلاء الشيوخ أن الشاعر إنما ينبغي أن يكون غنائياً فحسب، لأن كل نظم غير غنائي هو نظم مصنوع فحسب، وكل نظم مصنوع، ادرامي أو نظم ملاحم أو قصص أو لا يمكن أن يكون صادراً عن روح شاعرة تحسه وتنفعل به. . . وهذه في رأيي نظرة ضيقة أو حجة يراد بها الجدل الفارغ والدفاع الذي لا يستقيم لصاحبه. وإلا فأين تذهب تلك الصور البارعة التي تسلب الشاعر وتسحر القلوب من صور الإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .؟ ثم أين تذهب أشعار تاسو وأريوستو ودي فيجا وسرفنتس وراسين وكوريني القصصية الرائعة؟. . . أم أين تذهب المشاهد الساحرة المحشودة في هملت والأمير جون وعطيل ومكبث والملك لير وروميو وجولييت وتاجر البندقية وفاوست وتيمورلنك وغيرها وغيرها مما لا يكاد يستقصيه حصر ولا يقع تحت عدد؟

كم كان بودي أن أعرك أذن الشاعر الشيخ الذي أرسل هذا الهراء، ثم أصخ فيها بأعلى أصوات هومر وفرجيل ودانتي وملتون وشكسبير ومارلو والشعراء الطليان والأسبان واليونان والألمان، لكي يعلموا أن الشاعر الذي يغني لنفسه بقصيدة أو مقطوعة من بضعة أبيات أو من عشرين أو ثلاثين بيتاً هو شاعر أناني كسول. . . أما الشاعر الذي يعد آلام الناس من آلامه ومشاعرهم من مشاعره وقضايا قلوبهم هي قضايا قلبه، والدموع التي تنذرف من مآقيهم كأنها تنذرف من مآقيه. . . هذا الشاعر الذي يستجيب لأحزان الناس فيرددها قصة أو ملحمة أو درامة، إنما هو الشاعر الحق الجدير بالبقاء. . . هذا الشاعر. . . هو الذي أبحث عنه بين شعرائنا الشباب، ولن أفقد الأمل في أن أعثر عليه بين شعرائنا الشيوخ.

(يتبع)

ص: 18

دريني خشبة

ص: 19

‌جامع أحمد ابن طولون

(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)

للأستاذ أحمد رمزي بك

قنصل مصر في سورية ولبنان

أيها الحفل الكريم

أشكر لكم دعوتكم إياي، وأقدر عواطفكم نحوي. لقد اعتاد الناس والقراء أن يقدموا لأنفسهم بكلمة أولية يجعلونها كمدخل إلى الموضوع الذي سيكون محل حديثهم وسمرهم، وإني لا أملك نفسي دفع هذه العادة الطيبة المستملحة بل سأخضع لها فأقول، بأنني لم أستطع أن أختار موضوع حديث الليلة حتى أول أمس. فقد كنت مأخوذاً بين عدة واجبات وأمور لم يكن لي بد من أن تأخذ وقتي وتفكيري

والآن وقد خلوت لنفسي أعود إليكم، وقلبي مطمئن من ناحيتكم لأني واثق من أنكم ستولونني الكثير من التسامح فما أنا إلا فرد منكم وأنتم أيها السادة إخوان بل رفقاء لي، فلا تنتظروا المعجز من الكلام، ولا تطلبوا مني ما هو فوق المتناول

فما أنا إلا واحد من هذه الجماعة يريد أن يتحدث حديثاً يفيدني هذه الليلة المباركة الميمونة أعادها الله عليكم، وقد تحققت الآمال التي نصبو إليها جميعاً وأشرقت على العالم بأكمله شمس يوم الحرية والعدالة والديمقراطية الصحيحة

إنني مؤمن واثق بأن الأيام التي وعدنا بها وخطتها يد العناية في سجل القدر قد أصبحت حقيقة آتية لا ريب فيها، وحينما يأتي يوم النصر وتتحقق آمال الشعوب الحرة سنهتف جميعاً: الحمد لله الذي صدق وعده. . .

موضوع حديث الليلة قد نأخذه كموضوع واحد مكون من ثلاثة أشياء أو ثلاثة مواضيع تجمع بينها صلة الصلات. أما الفكرة الأولى التي تسيطر على فهمي تأريخ مسجد من مساجد الله هو مسجد أحمد بن طولون. فنحن في مصر قد أولع تاريخنا بإنشاء المساجد حتى أصبحت في عاصمتنا تعد بالمئات وهي لنا تراث للفن العربي في مختلف أدواره. ولقد اتجهت منذ حللت بهذه الديار إلى هذا النوع من الأبحاث فقلت لنفسي يوماً: لماذا لا

ص: 20

يتجه الأدب لتمجيد هذه الآثار وجعل الأحجار تنطق فتعيد إلينا ذكريات الماضي

وأمامنا كتاب الفرنجة وقد عالجوا مثل هذه الأمور فمن في عشاق الأدب الإنكليزي من لم يقرأ ما كتبه (راسكين) عن آثار البندقية؟ إن منادمة الآثار قد حببت الآثار إلى العالم الغربي وحببت الشرق أيضاً لأهل الغرب

وما نحن إذا بقينا كما كنا ولم نعبأ بشيء من الماضي؟

ولماذا لا أكتب شيئاً يحبب إلى هذا الحفل الكريم زيارة القاهرة والتعرف إلى شيء من مساجدها وآثارها؟ وهل هي ملك لمصر وحدها؟ لا، لقد اشتركنا جميعاً في إنشائها فهي لنا ولكم. وهي عنوان التراث العربي والتفوق العربي أمام العالم بأجمعه. ولهذا كله قد فكرت أن أجعل حديث الليلة عن جامع ابن طولون؛ وليس من السهل أن نكتب عن جامع ابن طولون بغير أن نذكر كلمة عن صاحبه. وهذه هي الوصلة الأولى والشق الأول من هذا الحديث

وإني لا أعرف تاريخاً قد ظلمته الأيام وغيرته النزعات وأهمله أهله مثل تاريخ مصر العربية؛ ولا أعرف تاريخاً قديماً غنياً بمصادره ومؤلفاته كتاريخ مصر في طورها العربي الخالد. فإن ظلمت الأيام هذا التاريخ فقد ترك لنا أهله المطول من المراجع والكتب المطبوع منها والمخطوط

فما على أبناء هذا الجيل الواثب المتطلع نحو العلا والمجد إلا أن يقلب صفحاته ليتعرف إلى نفسه وليكشف عن قوته وهي قوة لو تعلمون عظيمة

إن تعهد الوعي القومي يستدعي الاعتزاز والتمسك بالشخصية؛ وإن الأمم التي تعرف شخصيتها وتتمسك بها وتعتز، هي التي تجعل العالم المتمدن يقر لها بالاحترام والبقاء

نظرة في تعريف أحمد ابن طولون

في القرن الثالث الهجري، كانت الدولة العباسية تسيطر على جزء من أقطار المعمورة. وكان عهد الخلفاء المجاهدين الذين يباشرون القتال بأنفسهم قد انتهى بوفاة المعتصم، وكان النزاع بين حزبي العرب والفرس قد أضعف الفريقين، وكان أن ظهر عليها عنصر إسلامي جديد هو العنصر التركي، وكان نفوذ العاصمة مضعضعاً لترامي الأطراف واتساع الملك. ولذلك أدخل نظام الأقطاع وتقاسم القواد والأمراء الولايات

ص: 21

وكان عهداً تسوده المكائد والدسائس. وقد هبط المستوى الخلقي وماتت روح الكفاح والمقاومة أو انتقلت من المدن حيث بدأت تظهر عوامل الفوضى والفناء وانحلال إلى الثغور والحدود، حيث الجهاد الدائم يدعو إلى التضحية والمقاومة وجمع الشمل والكلمة

في هذا العصر نبغ أبو العباس أحمد بن طولون وظهرت شخصيته الجبارة تدعمها قوة من مكارم الأخلاق وشيم الرجولة، وشدة ذكاء وفراسة، أنف من حياة المدن حيث السفاسف والدسائس والحيل والخداع؛ حيث توضع الولايات والأمصار لتباع وتوزع على المحاسيب والأنصار، واتجه إلى الثغور حيث الرباط والعدة والدعوة لله وحده. حفظ القرآن وسمع الحديث، وفصح بالعربية فملك ناصيتها، كتابة وخطابة، فكان تركياً مستعرباً يجمع أحسن ما في العروبة من مزايا على أحسن ما لدى الترك من أخلاق. وإذا قدر للناس كشف دخائل التاريخ في القرن الثالث الهجري دراسة وتحليلاً، أمكن الحكم أنه بعد وفاة المعتصم لم يعرف التاريخ العربي رجلاً فذاً يداني ابن طولون في قوة شكيمته وسداد رأيه، ومضاء عزيمته ونفاذ بصيرته

ولقد بقيت شخصيته مجهولة، حتى قيض الله الظرف فنشرت سيرة أحمد بن طولون لمؤرخ عاش في عصره هو أبو محمد عبد الله بن محمد البلدي، وكشفت نواحي مجهولة عن حياته الحافلة بالجليل من الأعمال وعن صفاته ومزاياه وتفوقه. وستبعث هذه الحياة العظيمة الكثير من التنقيب في تاريخ مصر العربية، وتخرج ألواناً من الكتابة في المباحث والتراجم، لأنها حياة حافلة لرجل عبقري منتج رج ملك الدولة العباسية رجاً، وهز العالم العربي وأنشأ بذكائه ومقدرته على قيادة الرجال وقوة سيفه دولة وأسرة لها مكانتها ومنزلتها.

(للحديث صلة)

أحمد رمزي

ص: 22

‌وحي القرآن باللفظ

للأستاذ محمود البشبيشي

هذا عنوان المقال الأول للأستاذ محمود أبو رية وعليه كان مدار كلمتي الأولى، وإني لألمح في اختصار الأستاذ في مقاله الثاني (المنشور بعدد الرسالة الغراء رقم 538) على كلمتي (وحي القرآن) ميلاً واضحاً إلى حصر النقاش في دائرة لا يتحاماه كل ذي قلب سليم ممن دعاهم الأستاذ إلى البحث في هذا الموضوع.

ويلوح لي من خلال مقاله الثاني حرص شديد على البراءة من شوائب الشك، وذلك عهدي به، وهو أدرى الناس بأن البحث في موضوع اليوم غير البحث في مسألة الكرامات وما إليها؛ تلك المسألة التي اشتد أوارها بينه وبين أستاذ فاضل منذ عامين بالمنصورة، وكان لنا فيها موقف ما أظنه قد نسيه وما أحسبه إلا مثنياً عليه

ولو كان الأستاذ يحسن الظن بي ويراني من أهل الذكر! لأحلته إلى كتاب (الفرق الإسلامية) الذي ألفته في نشأة هذه الفرق ومذاهبها وطبعته المكتبة التجارية منذ اثنتي عشرة سنة أو نحوها، ولكني أحيل على حاشية الجوهرة، أو على الخربدة (مع إعفائه من باب الكرامات)! أو على كتاب (الفلسفة العربية) لأستاذنا المرحوم سلطان بك محمد، أو على كتاب (التوحيد) للمرحوم الأستاذ الشيخ حسين والي، وهذه عدا كتاب ابن حزم في الملل والأهواء والنحل وهو الكتاب الذي قرأه الأستاذ وأشار إليه في المقال الثاني

وبعد فما ادعيت أن في كلمتي الأولى بلاغاً للناس! ولكني قلت وما زلت أقول: إن البحث في هذه المسألة أمر فات أوانه، ولن يكون من ورائه جدوى تعود على الباحثين بعد ما أشبعه العلماء بحثاً وتنقيباً وما دونوه من الآراء والحجج في كتب التوحيد والملل والنحل

وما زلت أرى أن (موضوع الوحي من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة). أو لم يثر المشركون في وجه صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ويتقولوا عليه ما تقولوا ويتهموه بأنه ساحر وأن الكتاب الكريم أساطير الأولين (اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)؛ فما زال القرآن الكريم يبهرهم بنوره ويأخذ عليهم مناهج الحجة حتى آمنوا أنه ليس من كلام مخلوق، وبالتالي آمنوا بالوحي، ودخلوا في دين الله أفواجا، وما كان ذلك منهم إلا بعد تحد شديد ولدد في العداوة انتهيا بهم إلى تسليم مطلق؛ فكان هذا قضاء صريحاً

ص: 23

من المعارضين وهم أرباب اللسن والفصاحة بأن القرآن من عند الله؛ وبذلك (فصلت الأيام في هذه القضية)، حتى أثارها الباحثون على وجه آخر عندما تفرقت مذاهبهم في البحث. ثم استبحرت العلوم العقلية في المحيط الإسلامي فكان من ذلك ما عده بعض الناس من مظاهر شك الباحثين، وما كان الشك منه في شيء، وإنما ينحصر الخلاف بين المسلمين في دائرة محدودة أشير إليها وأجملها فيما يلي:

لا خلاف بين الباحثين في أن القرآن الكريم دلالات (ألفاظ) ومدلولات (معاني)، والدلالات هي مثار ذلك الخلاف العنيف الذي استحكم بين العلماء وأوذي فيه بعضهم أذى كثيراً؛ أما المعاني فهي من متعلقات العلم الأزلي وهي قديمة قدم العلم، أو هي بعبارة أخرى من متعلقات صفة الكلام النفسي، وما اختلفوا في أن الله كلاماً وأنه كلم بعض الأنبياء. قال ابن حزم في كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل (. . . أما علم الله تعالى فلم يزل، وهو كلام الله تعالى، وهو القرآن الكريم، وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً، ومن قال إن شيئاً غير الله لم يزل - أي قديم - فقد جعل لله شريكاً) وهو بهذا يشير إلى مذهب أهل السنة ويرد على من نفوا صفات المعاني فراراً من شبهة تعدد القدامى، وفيه وفيما يلي تعريف الكلام النفسي الذي سأل عنه الأستاذ الشيخ أبو رية (وقد ذهبت المعتزلة إلى أن كلام الله صفة فعل مخلوق. وقال أهل السنة إن كلامة هو علمه، وإنه غير مخلوق وهو قول الأمام أحمد بن حنبل وغيره. وقالت الأشاعرة: كلام الله صفة ذات لم تزل - أي قديمة - غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله) من كلام ابن حزم بتصرف

هذا محصل الخلاف في معنى الكلام النفسي، وهو بحث فلسفي في صفات الله، وما كان الاختلاف على أن القرآن كلام الله أوحي إلى النبي الكريم بطرائق الوحي التي تكفل بشرحها العلماء في مظانها المعروفة؛ وقد أجملها الأستاذ الإمام محمد عبده في (رسالة التوحيد) فقال:(الوحي عرفان يجده المرء في نفسه مع اليقين أنه من قبل رب العالمين بواسطة أو بلا واسطة) وهذا الرأي يتمشى مع قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء) ومسألة الوحي لا تستعصي على كل ذي رؤية، فالعلم الحديث وما كشف من عجائب، وما اتضح للناس من

ص: 24

وجود الكهرباء، وما كادوا يجزمون به من عالم الروح وحركاته وسلطانه، كل ألئك يقرب معنى الوحي لمن كان يبتغي الحقيقة المجردة. وقد أستطيع التوسع في ذلك ولكني أوثر الإيجاز في انتظار حكم الأستاذ أبي رية أو ما يدلي به الباحثون من أهل الدراية

هذا وقد كانت الدلالات القرآنية (الألفاظ) مدار تلك المناظرات الحادة في عهد المأمون والمعتصم والواثق وهي تلك الظاهرة الفلسفية التي انبثت فروعها، وسميت بمحنة خلق القرآن. والخلاف في الألفاظ راجع إلى أن المعتزلة يرونها حادثة (مخلوقة) وغيرهم يتورع فيقول بقدمها. وما أراد الفريق الأول بالخلق والحدوث أن الألفاظ من كلام بشر، وإنما أرادوا أنها أعراض تقوم بالحادث وما قام بالحادث حادث؛ فالألفاظ على رأيهم حادثة. وما أراد الآخرون إلا التصون ضانين أن القول بحدوث اللفظ قد يسوق من لا بصر لهم بالموضوع إلى القول بحدوث المدلولات (المعاني) وهي قديمة بقدم العلم الأزلي

وهنا يقول العلامة ابن حزم: (اللفظ المسموع هو القرآن نفسه. . . وأما من أفراد السؤال عن الصوت وحروف الهجاء والخبر فكل ذلك مخلوق بلا شك)

وبما تقدم يصدق القول الأستاذ الإمام: (ليس النزاع في الكلام اللفظي فإنه حادث باتفاق). وأعود فأقرر أن المراد بالحدوث أن الله خلق وأحدث كما خلق الشمس والضوء، وأوحى إلى الرسول الأمين بطرق الوحي التي أجملناها. وأما قول الأستاذ الإمام (إنما النزاع في إثبات الكلام النفسي) فراجع إلى صفة الكلام لا إلى معاني القرآن الكريم وهو يشير إلى الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في إثبات صفات المعاني لله تعالى وقد قدمنا بيانه. والآن نرجو من الأستاذ أن يبين للناس معنى قوله:(وحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية) ويرينا وجوه ذلك الخلاف، ثم نسأله أن يبين لنا ما الذي أحرجه من رد المرحوم الرافعي عليه في هذا الموضوع. وأن يشرح لنا ما وقر في نفسه من قراءة ذلك الرد. لو تم هذا لاختصر طريق البحث وأراح المتكلمين فيه

وبعد فقد ألمع الأستاذ أبو رية في لباقة إلى ما عد خطأ تاريخياً وقع في كلمتين الأولى حيث قلت: (المأمون والواثق والمعتصم) ولا شك في أن المعتصم يتقدم بداهة على الواثق، ولكن أما كان يجدر بالأستاذ أن يحملها على سرعة الكتابة؟ على أني أبادر فأطمئنه على معنى (واو العطف) وحدودها؛ فأقول له: إن الواو هنا جاءت لمطلق الجمع فلا تفيد ترتيباً

ص: 25

وهو رأي البصريين نقله ابن عقيل في شرحه وأطلق ابن هشام في (المغنى) عند بدء كلامه في الواو؛ قال تعالى: (يوحي إليك والى الذين من قبلك) وقال: (منك ومن نوح وإبراهيم وموسى) وقال جل شأنه حكاية عن منكري البعث (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) وبهذه الآية رد على الكوفيين القائلين بأن الواو للترتيب

وفي هذا القدر كفاية.

(الإسكندرية)

محمود البشبيشي

ص: 26

‌7 - الإسلام والفنون الجميلة

للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق

رأينا كيف كان لبعض توجيهات الدين الإسلامي سواء ما كان منها إيجابياً أو سلبياً أثر واضح في إيجاد شخصية قوية للفنون الجميلة التي كان يزاولها المسلمون. على أن هناك عوامل أخرى تستمد أصولها من الدين الإسلامي قد تبدو لأول وهلة كأنها منقطعة الصلة بالفن ولكنها في الحقيقة ذات صلة بهذا الأمر، صلة غير مباشرة إلا أنها فعالة قوية الأثر نرى من الحق علينا أن نشير إليها وأن نبين كيف عاونت على نضوج الفن الإسلامي وساعدت على اطراد تقدمه. ولعل أهم هذه العوامل المساعدة ثلاثة: النقابات الإسلامية، والحسبة، والوقف. وسنبين أولاً ما هي هذه النظم ثم نعقب على ذلك بإيضاح أثرها في الفنون الجميلة

أما نظام النقابات فلا يعنينا هنا البحث في أصله أو ترجيح أحد الرأيين اللذين يحاولان الكشف عن ذلك، فسواء أكان يرجع في أصله إلى النقابات البيزنطية التي كانت موجودة قبل الإسلام، أو كان من ابتداع الفرق الدينية الإسلامية كالإسماعيلية وغيرها؛ فالأمر الذي لا يتطرق إليه الشك هو أن هذا النظام ازدهر وارتقى في ظل الإسلام، وساهم بأوفر نصيب في تقدم الصناعة، إذ كان لكل حرفة نقابة خاصة يرأسها شيخ الصنعة ويليه النقيب ثم الأساتذة ثم الأسطوات ثم المبتدئون. وكانت أسرار الصناعة تدرس عملياً في هذه النقابات وكان لها قانون يستمد سلطته من الحكومة في كثير من الأحيان ويدور حول حماية المستهلك والمنتج على السواء، فيضمن للأول جودة المصنوع وإتقان الصناعة وإتباع الأساليب المقررة فيها، ويضرب بيد من حديد على الغش والتدليس، ويضمن للثاني سهولة الحصول على المواد الخام اللازمة لصناعته، ويمنع الاحتكار الذي يضر بالعمل ويسعى لرفع مستواه الاجتماعي. ولقد قضي على نظام النقابات بعد أن تغيرت الأسس الاقتصادية التي تسير عليها الأمم الإسلامية في الوقت الحاضر. على أنه لم تزل هناك ظاهرة اجتماعية تذكرنا به هي حفلة إثبات رؤية هلال شهر رمضان إذ تسير نقابات الحرف المختلفة في موكب الرؤية بنظام خاص. ولعل هذه الصورة أوضح في الأرياف منها في القاهرة

ص: 27

وأما الحسبة فوظيفة أوجدها الإسلام عند ما رأى أن الإنسان لا غنى له في حياته عن التعاون مع غيره، وأدرك أنه لكي يستقيم أمر الجماعة لابد من إيجاد سلطة تلزم كل إنسان حده، ولا تترك مجالاً لمن طبعت نفسه على الشر أن يعبث بمصالح الناس إرضاء لشهوة جامحة أو نزوة طارئة. وقد استمدت وجودها من آيات قرآنية عديدة نجدها مفصلة في كتب الفقه الإسلامي أو الكتب التي قصرت نفسها على موضوع الحسبة وحده. ويكفي أن نذكر هنا أن أول من أوجدها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب المحتسب الأول الذي كان أول من شارف بنفسه الأسواق وراقب المكاييل والموازين وأمر بإماطة الأذى عن الطرق. على أن أعمال الحسبة لم تقف عند هذا الحد الذي وقف عنده عمر، بل اتسعت دائرتها حتى شملت جميع ما يتصل بحياة الناس المدنية والدينية من أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر. ويهمنا نحن بنوع خاص أنها تدخلت في شئون جميع الصناعات ورسمت لأربابها السبيل السوي الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه؛ فالخزاف والنساج والنجار والحائك والوراق والصائغ وغير هؤلاء من الصناع لهم منهاج عليهم أن يتبعوه حتى يأمنوا عقاب المحتسب في الدنيا وغضب الله في الآخرة. وقوام ما هم مكلفون به إتقان العمل والإخلاص فيه وتجنب الغش والتدليس.

وأما الوقف فنظام نشأ في الإسلام استناداً إلى أحاديث عدة لعل أشهرها ذلك الحديث الذي ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما كما ذكر أيضاً في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وفي مسند ابن حنبل وفي طبقات ابن سعد وملخصه أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلوات عليه يستأمره فيها، فقال له النبي إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. ومنذ عهد عمر ونظام الوقف مستمر حتى يومنا هذا وقد اتسعت أغراضه بحيث شملت معظم نواحي الإصلاح الاجتماعي فأوقفت الأعيان على المساجد والمدارس، والمارستانات والمدافن، وعلى المساكين واليتامى، وعلى الذين وهبوا حياتهم للعلم أو للدين، وعلى غير ذلك من الأغراض التي سطرها الواقفون في وقفياتهم ويضيق المجال عن ذكرها جميعاً. والذي يهمنا من هذا النظام أن أول قواعده وأهمها عمارة الأعيان المحبوسة سواء ما كان منها لاستخدامه في الأغراض سالفة الذكر أو لاستغلاله للانفاق عليها لضمان بقائها ودوام استغلال ريعها. وبفضل هذا العمل الجليل وصلت إلينا تلك

ص: 28

الآثار الرائعة التي تزدان بها القاهرة اليوم من مساجد ومدافن، وأسبلة وأربطة، ومدارس ومنازل ومشاهد ووكائل، وتلك التحف النادرة الجميلة التي كانت تزين تلك الأبنية من محاريب وتوابيت ومشكوات وكراسي.

(يتبع)

محمد عبد العزيز مرزوق

ص: 29

‌غرفة شاعر!

للأستاذ أحمد صافي النجفي

أكافح البرد في سراج

يكاد من ضعفه يموت

في غرفة. ملؤها ثقوبٌ

أو شئت قل ملؤها بيوت

يسكن فيها بلا كراء

فأرٌ وبقٌ وعنكبوت

للفأر من مأكلي غذاءٌ

والبقُّ جسمي لديه قوت

واعتزل العنكبوت أمري

وفي بقاه معي رضيت

فهو معي مثل فيلسوف

معتزلٌ دأبه السكوت

مشتغلٌ بالنسيج عني

يبني شباكاً بها حميت

فكم بها صاد من ذباب

قد كنت في أمره عييت

أنعم به صائداً قديراً

ذبابة منه ما تفوت

كم صاد في الصيف من بعوض

قد كنتْ من لذعه خشيت

ينسج فوق الثقوب بيتاً

به من الشمس قد وقيت

هذي نداماي في الدياجي

عاد بهم شملي الشتيت

يوقظني الفأر حين أغفى

بالقرض إن طاب لي المبيت

والبق بالقرض رام مزحي

لكنه مازحٌ صموت

يشرب ما راق من دمائي

والسمَّ في لذعه سُقيتِ

عليه لا يسمعون شكوى

فيا لخصم به بليت

ضيفٌ ولا يبتغي طعاماً

إلا دماً منه قد حَييتُ

أغرفةٌ للمنام هذي

أم هي منفى له نفيت؟

أم تلك قبر الحياة فيه

عذَّبتُ من قبل ما أموت

أبيتُ ليلاً بها كأني

للبرد تحت السما أبيت

جمدت من بردها ولكن

في الصيف من حرَّها شويت

ينُثَر من سقفها ترابٌ

لولا غطائي به عميت

كأن ذاك التراب رزقٌ

به من الله قد حبيت

ص: 30

أمشي بها خائفاً لأني

أخشي انخسافاً إذا مشيت

لها كشباكها ثقوبٌ

أنظر من هنَّ حيث شبت

ص: 31

‌من أزهار الشر

لشارل بودلير

هي هي. . .

(من أين حل بك هذا الأسى الغريب الذي يعلو كاللجة على الصخرة السوداء العارية؟)

حين تجني قلوبنا قطوفها من النشوة، تغدو الحياة شراً، كما تصبح ألماً بسيطاً لا خفاء فيه، يتجلى كمرحك الذي يبهر الأبصار.

فلا تبحثي بعد عن سريرتي أيتها المتطلعة الجميلة!

والزمي الصمت وإن كان صوتك حلوا.

الزمي الصمت أيتها الجاهلة، أيتها الروح الثملة بنشوة دائمة

وأنت أيها الثغر ذو الابتسامة الساذجة كف عن الكلام فالموت يجتذبنا بأسباب دقيقة خافية أكثر مما تتشبث بنا الحياة.

دعي قلبي ينتشي بسراب خادع.

دعيه يهيم في عيونك الجميلة كما يهيم في حلم جميل

دعيه يرقد في سبات طويل وتفيئا ظلال أهدابك!

ترجمة

عثمان علي عسل

ص: 32

‌البريد الأدبي

تعقيب

قرأت ما كتبه الأستاذ مرزوق في العدد 538 ولمست استياءه مما كتبته في العدد 537 وأرجو أن يزول استياؤه بهذا الإيضاح

فأنا لم أقصد إلا الإبانة عن رأي خاص في هذا الموضوع الذي تناوله بالبحث الأستاذ مرزوق وكثيرون من علماء التفسير، والذي أتعبني اختلاف الآراء وتباين الأقوال فيه وهذا أثر اليهود في اختلاق الأحاديث. فكان الواجب أن أنزه الإسلام عن تحريم التصوير لما للفن الجميل من رسالة سامية لا تعارض الدين الإسلامي

أما مقال الأستاذ مرزوق فكان مشتملاً على تبرير رواج الزخارف دون غيرها من إبداع الصور، حتى قال الأستاذ ما نص. . . (وليس من اللائق وهذه العقيدة منقوشة في أذهان المسلمين جميعاً أن يخلد رجال الفن منهم بأعمالهم الفنية ما كتب الله عليه الفناء. لذلك نجدهم لم يعنوا بتصوير الشخصيات العظيمة في لوحات كبيرة أو تماثيل ضخمة تبقى على الدهر، أو تمثيل جمال الطبيعة بالنقل عنها نقلاً صحيحاً). قد يقال أين ما يدل على أن كاتب المقال يعتقد التحريم حتى أحكم عليه هذا الحكم السريع الخاطئ. . .؟ وأقول إنني لم أرد على الأستاذ مرزوق وإنما ناقشت الفكرة التي دار حولها مقاله وهي فكرة تحريم الإسلام ابتداع الصور. أليس ما سقته من كلام الأستاذ عن عقيدة المسلمين يفيد أن الإسلام قد ينهى الفنان عن ابتداع الصور؟

ثم ماذا؟ أنا لم أرد بالتعليق إلا إيضاح رأي حاسم في الموضوع مجمله أن الفن مباح في حدود الدين والأخلاق، وأن التصوير مباح ما دام المصور لم يقصد إعداد صورته (مجسمة أو غير مجسمة للعبادة من دون الله. . . ودليلي على ذلك أن القرآن لم ينص على تحريم التصوير وأن الأحاديث الواردة مشكوك في صحتها كما أوضحت

وبعد فلم أجد في مقال الأستاذ المنشور في العدد 537 إلا مجرد سرد للآراء المتباينة التي أتعبتني وأتعبت كثيرين والتي يجب أن يدلي فيها برأي حاسم حتى يتاح لنا النظر إلى الفن الجميل بعين الارتياح والإيمان. ولا زلت أنكر على الذين يعتقدون حرمة الصور المجسمة ما دام المصور لم يقصد إلا وجه الفن، ولم يقصد إعداد صورته للعبادة من دون الله، وإلا

ص: 33

فما قولك في تماثيل عظمائنا. . . المقامة في الميادين!

أما أنني تسرعت في الحكم فعن حسن نية، ولم أقصد إلا الإيضاح البريء مخافة أن ينساق قلمك إلى الناحية الفنية البحتة دون التعرض لهذه الناحية الدينية

أما شخص الأستاذ مرزوق فمحل احترامي ومقالاته محل تقديري وله الشكر على كل حال.

أحمد فتحي القاضي

المحامي

رسالة إلى شاب

أخي الأديب الفاضل (و. ا. م)

لشد ما يعوزك أن تقدح عزيمتك وتشحذ همتك، فإن قوة الإرادة هي الدواء الوحيد لكل ما نعانيه من أدواء. . . ألا تذكر يا صديقي ذلك الكتاب الذي قرأنا سوياً، يوم كنت تحلق ببصرك في المستقبل البعيد؟ لقد كنت يومئذ طموحا لا يحصر أفقك بأس، ولا يحد أملك حد؛ أما اليوم فإنني أجد نفسي مضطراً إلى أن أكتب لك عن الإرادة، لكي أعيد على سمعك تلك الكلمات التي طالما رددتها من ذلك الكتاب أما الكتاب فهو (كما تعلم) موسوم باسم:(كيف تخط طريقك في الحياة): وأما الفصل الذي كنا نحب الكتاب من أجله، فهو موسوم باسم (الإرادة): وهاأنذا أروي لك طرفاً من ذلك الفصل الذي كنا نحفظه عن ظهر قلب: ليس ثمة شيء مستحيل: فإن هناك مسالك تقتادنا إلى كل شيء، ولو كان لدينا قدر كاف من الإرادة، لكان في استطاعتنا دائماً أن نجد ما يكفي من الوسائل. بيد أن الإرادة ليست منحة طبيعية أو هبة فطرية، بل هي صفة مكتسبة يحصلها الفرد كما يحصل غيرها من الصفات. والوسيلة الصحيحة لاكتساب الإرادة هي أخذ النفس بعض المبادئ، والعزم الأكيد على تحقيق بعض المقاصد. . . إن المعدن لا يعطيك ما فيه إلا بالكدح، والنار لا تظهر من الحجر إلا بالقدح، كذلك الغاية لا تبلغها إلا بالقصد؛ فعليك أن تنمي في نفسك قوة (الإيحاء الذاتي) التي من شأنها أن تعدل خلقك وتغير مزاجك. . . لتعمد في لحظة معينة من الصياح، إلى الاختلاء بنفسك، وجمع شتات أفكارك بعيداً عن ضوضاء المجتمع وصخب الناس؛ ولتفكر تفكيراً عميقاً في أمر إرادتك، ولتقل في نفسك: سيكون لي من قوة

ص: 34

الإرادة ما أحطم به كل العوائق. أجل ستكون لي إرادة صلبة، ولن تقف في وجي الصعاب! وعند المساء، لا تذق عينيك طعم الكرى قبل أن تكون قد استعدت في ذاكرتك هذه الفكرة، وأدرتها على لسانك عدة مرات!. . . فإذا دأبت على التأمل في هذه الفكرة، وإذا أفعمت رأسك بصورها، فإن الأمر ينتهي بك إلى الانقياد لوحيها، والإذعان لقوتها. ولا يمكن أن يضيع أثر هذا الإيحاء الذاتي، إذا عمدت إلى ورقة بيضاء، فكتبت عليها بحروف كبيرة واضحة الكلمات التالية:

(إنني إنسان له إرادة.

(وأنا أفعل كل ما تمليه علي إرادتي.

(ولست أتملص من أي عهد من العهود التي أخذتها على نفسي.

(وكل ما أشرع في عمله، فأنا أتممه على أكمل وجه، خضوعاً لأحكام إرادتي.

(وستكفل لي الإرادة كل ما أصبو إليه من نجاح وتوفيق!

. . . هذا هو العهد الذي غاب عنك يا أخي، فهل تذكره معي اليوم فتقول:(إن الإرادة هي الاستطاعة)؟: ، '

زكريا إبراهيم

تصويب

وقع خطأ مطبعي في مقال (الشعر المرسل المنشور بالعدد الماضي، وصحته فيما يلي:

ا - في صفحة (848): (1)(2)(3) وفي آخر الصحيفة: وهي وحدة البحر بذاته

ب - وفي صفحة (849): (1) وقد ثار (بأول سطر)(2) البحر الإسكندري يتركب من: ست تفعيلات إيامبيه مقطعين

ص: 35