المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 542 - بتاريخ: 22 - 11 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٤٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 542

- بتاريخ: 22 - 11 - 1943

ص: -1

‌3 - في المسجد الأقصى

للدكتور عبد الوهاب عزام

لبثت في المتحف الإسلامي حتى سمعنا النداء فخرجنا لنشهد صلاة العصر في المسجد. فلما قضيت الصلاة طوفنا في المسجد فرأيناه في جلاله ورونقه؛ وقد تمت عمارته هذا العام بعد أن لبث عليه الترميم والبناء سنين. دعم أحد المهندسين الترك القبة العظيمة التي أمام المحراب؛ ثم تولى المهندسون المصريون تجديد معظم الأروقة، وأقيمت عمد جميلة من الرخام مقام العمد القديمة المبنية. وقد حدثت أن المهندسين عجبوا كيف احتملت هذه العمد المبنية هذا السقف الثقيل وما عليه من طين وتراب قدر وزنهما تقديراً هائلاً

والمسجد اليوم سبعة أروقة تمتد مع طوله من الشمال إلى القبلة أوسطها الرواق الأعلى الذي ينتهي إلى قبة المحراب العالية الرائعة. وكان طول المسجد، فيما سمعت، من الشرق إلى الغرب، وكان امتداده من القبلة إلى الشمال اقل مما هو اليوم. وإذا أدخلنا في مساحة المسجد مصلى النساء ومسجد عمر كان طوله كما كان من قبل، ممتداً بين الشرق والغرب. والمسجد يشبه جامع بني أمية العظيم الذي في دمشق، ولكن جامع دمشق أضخم بناء وأعلى عمداً وأحكم صنعة، وعرض مصلاه قليل وطوله مفرط. ورحم الله بني أمية لقد بقى على الدهر بناؤهم، وثبتت على رجفات الزمان آثارهم فما تزال دمشق وبيت القدس وقرطبة تشهد لهم بما شادوا وما عمروا. وما يفخر المسلمون والعرب اليوم بعمارة هي أقدم وأضخم مما شاد بنو أمية. وقد قلت في جامع دمشق:

رأيت فيه خلال القوم ماثلة

وللبناء من البانين أقدار

ورحم الله شوقي الذي يقول:

لولا دمشق لما كانت طليطلة

ولا زهت ببني العباس بغدان

ويقول:

بنوا أمية للأبناء ما فتحوا

وللأحاديث ما سادوا وما دانوا

ووقفت عند المنبر الجميل الذي دق صنعه، وجمل شكله، وأخرجه صانعان من حلب طرفة من الصناعة ليس فيها مسمار؛ ولكن دقائق من الخشب متماسكة ومتعاشقة. وقرأنا عليه اسم الملك الصالح نور الدين محمود وابنه

ص: 1

وقد حدث التاريخ أن هذا المنبر صنع والمسجد في أيدي الصليبيين ليوضع فيه بعد الفتح. وما كان الفتح ليستعصي على هذه العزيمة وهذا الإيمان. ثم وضعه في موضعه الذي هو فيه اليوم الملك الناصر صلاح الدين

قال الإخوان: اصعد فتأمل أعلى المنبر فصعدت وكأنما احتشدت أمامي الجموع التي شهدتها هنا القرون، والحادثات التي داولتها العصور. قلت: ما أخطب هذا المقام وما أخطب هذا المنبر! قال أحد الرفاق: وإنك لجدير به. قلت: يوم نظفر بما نبغي لهذا المسجد وأهله من سلام وعزة، يوم تكون أقدامنا جديرة بمكانها من هذا المنبر منبر التاريخ والى جانبي المسجد من جهة القبلة مصليان متصلان به يمتدان مع جدار القبلة إلى الشرق والغرب ولا يتسعان إلى الشمال بل عرضهما يقارب عرض رواق واحد من المسجد، وهما يبدوان كأنهما جناحان لهذا المسجد المبارك الذي يصعد بالأرواح كل حين؛ فالذي إلى يمين المصلى مسجد النساء (وقد اقتطع قسم منه للمتحف الإسلامي)، ويصلي فيه النساء كل يوم. وقل أن يخلو المسجد الأقصى من مصليات قانتان يذهبن جماعات إلى الصلاة ومعهن أطفالهن أحياناً. وهي سنة إسلامية حميدة شهدتها في جوامع الشام واسطنبول أيضاً

وأما المصلى المبارك الذي إلى يسار القبلة شرق المسجد فيحمل الإسم العظيم والذكرى الخالدة، اسم أمير المؤمنين عمر فاتح بيت المقدس رضي الله عنه وأرضاه. ويقال إنه المصلى الذي أمر عمر باتخاذه حينما دخل المسجد الأقصى ورفع عنه الرجس والهوان اللذين جثما عليه عصوراً، وجعل مسجداً طهوراً

والذي أدركته من كتب التاريخ أن المساحة الفسيحة التي نسميها الحرم كانت كلها تسمى المسجد الأقصى؛ ولكن هذا الإسم يخص اليوم أحياناً بالمسجد الذي وصفت. قال ياقوت:

وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي (يعني طرف المدينة) نحو القبلة أساسه من عمل داود عليه السلام وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه

وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة. وهو على غاية الحسن والأحكام مبني على الأعمدة الرخام الملونة وليس في الدنيا أحسن منه لا جامع دمشق ولا غيره

وقد نقل ياقوت عن المقدس أن طول المسجد ألف ذراع وعرضه سبعمائة وأن في سقفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام وكان له ستة وعشرون باباً الخ

ص: 2

ومن يقرأ ما ذكر المؤرخون عن هذا المسجد يعرف أن الذي نراه اليوم بقية الخطوب من هذا البناء العظيم الهائل. وإنما ذكرت من هذه البقية ما لا يشق على القارئ إدراكه مما أدركت العين في زيادة سريعة غير مستوعبة ولا مدققة

ثم انصرف الرفاق مشكورين، ولبثت في المسجد فذهبت إلى الجانب الشرقي فأشرفت من صحن الصخرة على ساحة واسعة بينه وبين السور الشرقي، سور المسجد والمدينة القديمة نفسها. وهي ساحة خربة ولكنها تصلح أن تكون بستاناً كبيراً أو حديقة واسعة أو مدرسة جامعة، أو ما يشاء التفكير والإصلاح لخير المسلمين

وضيفت الشمس للغروب فذهبت إلى حجرة الموعد معتكف الوزير التقي السيد المجددي للإفطار مع العاكفين. وصلينا المغرب في قبة الصخرة وعدنا فبسطت سفرة وضعت عليها ألوان من الأطعمة الشهية، وأحاطت بالمائدة وجوه مشرقة تتجلى فيها الطهارة الإسلامية طهارة الجسد والروح والظاهر والباطن قعدت بين هؤلاء الإخوان البررة الذين صفت قلوبهم ووجوههم واجتمعوا على البر والأخوة في هذه البقعة المطهرة. فخلت هذه المائدة صفاً للصلاة، وهذا الأكل الشهي أسلوباً من العبادة. وإن حظ الأجسام من هذه الغذاء ليس أعظم من حظ الأرواح. لقد تمنيت أني معتكف مع المعتكفين ووددت أن أظفر بهذه السكينة في حجرة من هذه الحجرات رمضان من العام القابل

قلت للاخوان مازحاً: إنكم لفي نعيم. وإن غير المعتكفين لا يظفرون بمثل هذه المائدة. وقال السيد المجددي وهو يضئ الكهرباء: هذا اعتكاف آخر الزمان. قلت: هذا اعتكاف إسلامي فيه الطمأنينة والعبادة والفكر، وليس فيه الحرمان والإرهاق (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وشربنا الشاي وتحدثنا قليلاً فسمعنا النداء للعشاء فسرنا إلى قبة الصخرة فدخلنا وقلوبنا تخفق مع هذه القناديل الخافقة. وانتظمت الجماعة في المصلى الخارجي وسمعت تسبيح النساء وراء السياج المحيط بالمصلى الذي تحت القبة فعرفت أن لهن جماعة من وراء هذا الحجاب. وأقبلنا على صلاة العشاء والتراويح. فلما قضيت الصلاة وسرت إلى الباب الشمالي رأيت جماعة أخرى يؤم بها السيد المجددي؛ وقيل لي إنها جماعة الحنفية يصلى بها هذا السيد العمري الأفغاني كل ليلة. ومما أجدر بالإمامة في مدينة عمر

ص: 3

استأذنت المعتكفين وخرجت كارهاً أود أن يطول لبثي في هذه المشاهد على طول ما لبثت فيها. خرجت وأنا أجيل الطرف فيما حولي لأثبت ذكراه في نفسي وأود أن أسير سريعاً في ظلمات الليل فأطوف مرة أخرى بهذه الساحة الفسيحة التي أمضيت فيها معظم النهار وشطرا من الليل

ذهبت إلى التكية البخارية فلبثت ساعة في ضيافة شيخها الشيخ يعقوب البخاري، وما هذه التكايا والمساكن النظيفة الطاهرة المجملة والمزينة بالأوراق والإغلاق إلا مساجد صغيرة. فقد عددت هذه الساعة من ساعات المسجد الأقصى أيضاً

ومضت بنا السيارة إلى رام الله حيث الفندق الذي أنزل فيه، ولا تزال هذه المشاهد في عيني. وملئ فكري، تاريخ من المجد، وعصور من الخطوب، وصفحات من الغير، وملء قلبي آمال وآلام. ذكر ناظرة يتخللها الألم كما تقدح النار من الشجر الأخضر - رجعت إلى مأواي وقد طويت العصور في تلك الساعات، والأحداث العظيمة في تلك الآثار، ثم طويت تلك الساعات القليلة وتلك الآثار الجليلة في فكري وقلبي.

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌مسابقة الأدب العربي

القيادة الفكرية بين الفلاسفة والأنبياء

للدكتور زكي مبارك

تاريخ لطيف!

في السبت الأول من نوفمبر سنة 1919 وقف ثروت باشا رحمه الله بقاعة المحاضرات في الجامعة المصرية وألقى كلمة طيبة قدم بها الدكتور طه حسين إلى الجمهور، وقد قال في تلك الكلمة إنه يود لو كان سعد باشا حاضراً ليقدم الدكتور طه على نحو ما صنع في العام الماضي وهو يقدم الدكتور أحمد ضيف (وكان سعد باشا يوم ذاك منفيا بأمر السلطة العسكرية)

ثم وقف الدكتور طه ليلقي محاضرته الأولى فشكر أعضاء مجلس الجامعة، ومن كان منهم في مصر ومن كان منهم خلف البحر (وهو بهذا يشير إلى سعد باشا زغلول ومحمد باشا محمود) واندفع بعد ذلك في محاضرته فحدثنا أنه عزم على إحياء التراث اليوناني، لأنه يؤمن إيماناً جازماً بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان

وما كاد الدكتور طه يفرغ من محاضرته حتى نهض أحد طلبة الجامعة واسمه زكي مبارك فرد على الدكتور طه ردا خطابيا أثار إعجاب الجمهور، فوقف الدكتور طه ورد على الطالب ردا ظفر بشيء من القبول

وبدا للأستاذ محمود عزمي أن يؤرخ وقع المحاضرة الأولى للدكتور طه بكلمة ضافية في جريدة الاستقلال، ولم يفته أن يوجه عبارة نابية إلى الطالب الذي ثار حين رأى من يقول بأن مرجع الفكر كله إلى مفكري اليونان

وفي المحاضرة التالية رأى الدكتور طه أن يبدأ بكلمة في التعقيب على مقال الأستاذ محمود عزمي، ليبين خطأ الطالب الذي ثار عليه، فنهض زكي مبارك وقال: لا تتعالوا علينا، ففي مقدورنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين

وفي تلك اللحظة مال إسماعيل بك رأفت على أذن الدكتور طه فأسر إليه كلمات، فأنصرف الدكتور طه عن التعقيب، ومضى في المحاضرة الأساسية و (ليس) في نفسه أشياء

ص: 5

بين تاريخ وتاريخ

هل تغير الرأي عندي في هذه القضية بين نوفمبر سنة 1919 ونوفمبر سنة 1943؟

وهل تغير الرأي عند الدكتور طه فيما بين هذا التاريخ وذاك التاريخ؟

لم يتغير رأيي ولا رأيه، وأنا موقن بأني على هدى وإن لم يكن الدكتور طه في ضلال

ولكن ما الموجب لإثارة هذه المشكلة وقد تقادم عليها العهد؟

والموجب هو إصرار الدكتور طه على القول بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان، وحرصه على إثبات هذا القول في الكتاب المقرر لمسابقة الأدب العربي، وكان قبل ذلك مقرراً للمطالعة في المدارس الثانوية، ونحن لا ندع أبنائنا يقرءون كلاماً يساق بلا بينة ولا يقين

يضاف إلى هذا أن الدكتور طه عقد فصلاً خاصاً بهذه القضية عنوانه (بين الشرق والغرب)، وقد أراد بهذا الفصل أن يجعل القيمة العقلية من حظ الغرب، وأن يجعل البوارق الخيالية من حظ الشرق، وانتهى إلى النص على أن الغرب وطن الفلاسفة وأن الشرق وطن الأنبياء

فماذا يريد الدكتور طه بهذا القول؟ وما حظه في أن يقرر أن العقل الشرقي انهزم أمام العقل اليوناني مرات في التاريخ القديم وأنه ألقى السلاح في التاريخ الحديث؟ وما الغرض من الإصرار على أن العقل الشرقي يذهب في فهم الطبيعة وتفسيرها مذهباً دينياً قانعاً، بدليل أنه خضع للكهان في عصوره الأولى وخضع للديانات السماوية في عصوره الراقية؟

لابد من نقض هذه الآراء قبل أن يفتن بها التلاميذ، لأنها صادرة من رجل ممتاز من الوجهة الأدبية، أو لأنها مسجلة في كتاب رقم عليه اسم وزارة المعارف العمومية

وما الذي يمنع من تبصير الدكتور طه بالصواب؟

هل نجا من شوق التعرف إلى الحق؟

وهل هان الشرق على أهله حتى نسكت عمن يرمون بالعقم والإمحال في الميادين العقلية؟

على الدكتور طه أن يسمع، وله أن يجيب إن كان يملك الجواب

نماذج من الأخطاء

ص: 6

وقبل أن نواجه المشكلة الأساسية، نذكر نماذج من أخطاء الدكتور طه في تصوير الحياة العقلية

فمن أخطائه أن يتوهم أن أخذ اليونانيين عن الشرقيين نظام النقد ونظام المقاييس ليس إلا عملية مادية. ومن أخطائه أن يهون من فنون الحساب والهندسة فيجعلها فنوناً عملية لا عقلية. ومن أخطائه أن يقول بأن سيادة النظام الملكي في الحكومات الشرقية دليل على أنها لم تنضج من الوجهة السياسية

وهذه الأخطاء في الفكر لا تحتاج إلى شرح، فمن الواضح جداً أن نظام النقد كنظام المقاييس وثيق الصلة بالحياة العقلية. ومن الواضح جداً أن فنون الهندسة والحساب ليست فنوناً عملية إلا عند التطبيق، ولكنها في ذاتها فنون عقلية. ومن أوضح الواضحات أن نظام الحكومة وسيلة، لا غاية، فإن نجح النظام الملكي فلا بأس، وليس من الحتم أن تكون القلقلات الحكومية في التاريخ القديم دليلاً على أن اليونان كانوا أرقى الناس في الحياة السياسية

والخطأ الأعظم هو أن يقف الدكتور طه موقف المقرر المتحكم في قضية واهية الأساس، فما كان اليونان كما أراد لهم أن يكونوا، ولا كان هو نفسه بموقن أنه يملك توجيه مؤرخي الفلسفة من المحدثين، كما حاول أن يقول

فلاسفة وأنبياء

حجة الدكتور طه على قوة الغرب أنه وطن الفلاسفة، وحجته على ضعف الشرق أنه وطن الأنبياء، فما قيمة هذا الكلام إذا أقيمت له الموازين؟

لا يمكن فهم هذه المسالة فهماً علمياً إلا إذا غضضنا النظر عن الناحية الدينية، وجعلنا الأنبياء والفلاسفة رجالاً كسائر الرجال، وهم كذلك بالفعل، فقد صرح القرآن بأن الوحي هو الذي يميز الأنبياء عن الناس، فما كان الأنبياء ملائكة ولا آلهة، وإنما هم ناس

يجب أولاً أن نعرف من هو الفيلسوف؟

الفيلسوف هو محب الحكمة، هو رجل يريد أن يسمو بنفسه عن الجهل، ويهمه أن يتحرر من تقاليد الأغبياء، ولكنه في اكثر أحواله يؤثر السلامة، وقد يركن إلى الخمول، ومعنى

ص: 7

هذا أن الفلاسفة لم تكن لهم فاعلية، بدليل أنهم عاشوا في عزلة عن المجتمع، ولم يفكروا في إقامة حكومة تحقق آمالهم في شرف الوجود

وسقراط أبو الفلاسفة لم يسلم عقله من الخضوع لمعبد أبو للون، وكان حاله عند الحكم عليه غاية في سوء المصير، فقد ظهر أنه لم يستطع خلق عصبية تحميه من القتل، ولم يكن تلاميذه وحواريوه إلا أنصاراً لا يجيدون غير البكاء

وكان هذا عيباً فظيعاً، لأن سقراط نشأ في عهود الفروسية، فلو كان فيلسوف متسقاً مع زمانه لجعل تلاميذه من الفرسان، في زمان لا ينتصر فيه غير الفرسان

أقول هذا وأنا أعرف أن استسلام سقراط للموت خلق صوراً شعرية قليلة الأمثال؛ فقد أوحى إلى أفلاطون ما أوحى، ثم كانت ترجمة فيكتور كوزان لأفلاطون موحية إلى الشاعر لامرتين بقصيد هو غاية في الروعة الجمال

الفلاسفة أصحاب فضل من جهة الفهم لا من جهة الفاعلية وبهذا ظلوا متخلفين عن قافلة الوجود

أنبياء ومرسلون

هنالك فرق بين النبي والرسول، والظاهر أن النبي رجل كامل من الوجهة الذاتية، بغض النظر عن المسئولية الاجتماعية، فبين وبين الفيلسوف الصادق تشابه في السلوك، مع فوارق سنفصلها بعد حين

أما الرسول فرجل مجاهد يرى من واجبه أن يستقتل في هداية المجتمع، وأن يرحب بالموت في سبيل الجهاد

وقد نجح الأنبياء المرسلون في هداية الشرق والغرب، فإليهم يرجع الفضل في إقامة الدعائم للحضارة الإنسانية

وهل من القليل أن يستطيع ثلاثة من الأنبياء المرسلين أن يسيطروا بالفكر والروح والعقل على الكثير من أقطار الشرق والغرب بأضعاف وأضعاف وأضعاف ما يسيطر الفلاسفة الثلاثة سقراط وأفلاطون وأرسططاليس؟

مثال

ص: 8

نشأ النبي محمد في بيئة وثنية، فصعب عليه أن يهدي قومه بالمنطق إلى طريق الحق، وكان منافسوه من رهبان النصارى وأحبار اليهود يعيرونه بالعجز عن خلق آية تشهد بأنه رسول

وقد حار النبي محمد في إقناع خصومه بأن الآيات من عند الله، وأنه لا يملك تبديل الأنظمة الوجودية، لأنها من وضع واجب الوجود

وفي يوم من أيام الارتياب مات ابنه إبراهيم، وفي ذلك اليوم كسفت الشمس، فأقبل أعداؤه مبايعين، لأنهم وثقوا بأن الشمس لم تكسف إلا حزناً على موت ابن الرسول

عند ذلك تعرض محمد لمحنة أخلاقية، فهو بين أمرين: الأمر الأول أن يستغل جهل معاصريه فيوافق على أن الشمس كسفت لموت ابنه إبراهيم فيكون من أكابر الأنبياء، والأمر الثاني أن يصدع بكلمة الحق، ولو تعرضت نبوته للضياع

وقف محمد ينادي بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وأنهما لا يتأثران بمؤثر، ولو كان من الأنبياء

في تلك اللحظة تناظر أصدقاء محمد عاتبين، فقد ضاعت فرصة لا ينتظرون أن تعود

ولكن محمد لا يبالي غضب أصدقائه إذا خاصموا الصدق

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أقول إن محمداً هو القائد الأول في الفكر الإنساني، بهذه اللمحة الواحدة، بغض النظر عما سبقها ولحقها من اللمحات

وإذن يكون القائد الأول للفكر هو محمد لا سقراط ولو غضب الدكتور طه حسين

وما غضب الدكتور طه وما خطره وهو يستوحي جماعة من المؤلفين في تاريخ الفكر عند اليونان؟!

صيال الآراء

أراد الدكتور طه أن يغض من العقلية الشرقية، بحجة أنها خضعت للكهان وللأنبياء. وأنا لا أتزيد عليه، فذاك كلامه، وهو كلام مدون في كتاب طبع مرتين، وتبنته وزارة المعارف بعد مجلة الهلال

ص: 9

والظاهر أن الدكتور طه يتوهم أن الكهانة ظاهرة شرقية لا غربية، وذلك توهم طريف، لأن الدكتور طه نفسه يشهد بأن سقراط قد استلهم الكهان، مع أنه في زعم الدكتور طه أول محرر للعقل الإنساني من أغلال الأضاليل

وأقول بعبارة صريحة إن الكهانة لم تصر مهنة مقدسة إلا في عهود الوثنية اليونانية، فقد كانت لها معابد، وكان لمعابدها سدنة وأمناء، وكان المصير لكل معضلة فردية أو قومية رهيناً برأي (الصوت المتنكر) في زوايا الظلام المنشور فوق معابد اليونان

أما كهان الشرق فكان مركزهم في المجتمع أيسر وأخف، لأن الشرق سبق الغرب إلى استيحاء العقل، وهل يستطيع مكابر أن ينكر فضل الشرق في السبق إلى رفع القواعد من الحضارة الإنسانية؟

ثم ماذا؟ ثم يجيء الكلام عن تفرد الشرق بالأنبياء، وهنا تثور المعضلة من جديد، معضلة الموازنة بين الشرق والغرب

وأقول إن النبوات في الشرق دانت الإنسانية بديون يراها الحاضر ويذكرها التاريخ، فالأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد من أرومة عربية، وهم قد شرقوا وغربوا، وملئوا الدنيا ضجيجاً فكرياً وروحياً في أزمان لم تعرف سوى الذي ثاروا من صيال الآراء.

إن الصراع بين الإسلام والنصرانية هو أول وثبة جريئة لإيقاظ العقلية الإنسانية، ولا نستطيع أن نتصور مدنية حقيقية تقوم على الفكر والرأي قبل الصراع الذي ثار بين المسلمين في الشرق والنصارى في الغرب

ومع أن الديانة الموسوية قد هزمت منذ أجيال، فنحن نشهد كيف قاتلت قتال المستميت، وكيف استبقت أنصارها على وجوه التواريخ

الفكر الشرقي هو الذي زود الديانة الموسوية بزاد النضال، وهي لم تهزم إلا بقوة شرفية، فما جلا اليهود عن بلد بعد جلائهم عن الجزيرة العربية

وطغيان هتلر وأعوانه في طرد اليهود من ألمانيا لم يكن إلا نزعة عنصرية، وثورة هتلر وأعوانه على الديانة المسيحية صورة من ثورته على اليهود، لأن المسيح يهودي العرق، وله في بلاد العرب أخوال

ومن المضحك أن نرى النازيين في أوقات كروبهم يفزعون إلى الكنائس، مع أنها معابد

ص: 10

شرقية لا غربية

الإسلام يحرر ألمانيا وإنجلترا

كانت دعوة (لوثر) دعوة جريئة في تحرير المسيحية من العبودية الرهبانية، فما مصدر تلك الدعوة التي حررت عقول الإنجليز وعقول الألمان؟

مصدر تلك الدعوة مصدر إسلامي، وأنا أتذكر أن الإسلام ظهر في الشرق!

(لوثر) قوة فكرية عظيمة، ولكنه لم يخطر على بال الدكتور طه وهو يتحدث عن قادة الفكر، لأنه لم يأخذ الفكر عن اليونان، مع أن (لوثر) أثر في الأخلاق الأوربية تأثيراً لا يقاس إليه تأثير سقراط وأفلاطون

وأعجب العجب أن اليونانيين لم يستجيبوا لدعوة (لوثر)، ولم يتركوا المذهب الأورثودكسي

قال هتلر في كتابه إنه لا يعترف بغير قوتين اثنتين: قوة ألمانيا وقوة إنجلترا، ولم يفته غير النص على أن ألمانيا وإنجلترا يتبعان الروح الإسلامي، وهو الروح الذي ينكر أن يكون بيننا وبين الله وسيط، ولو كان من أعاظم الرهبان

الشرق يؤثر في الغرب، ولا يزال يؤثر فيه من الوجهة الروحية والعقلية، فما هذا الذي يقول الدكتور طه حسين

هو ينقل كلاما، وناقل الكفر ليس بكافر، كما قال القدماء

بين الشرق والغرب

تجمع الغرب النصراني لمناضلة الشرق الإسلامي في أعوام الحروب الصليبية، فماذا وقع في تلك الحروب وقد طالت حتى جاوز مداها عشرات السنين؟

قهرنا خصومنا ودحرناهم، لأن أسلحة الحرب كانت واحدة، ولم يكن لخصم أن يتفوق على خصم بغير قوة العقيدة ورسوخ اليقين

وكان نصارى الغرب يهمهم أن يستولوا على مصدر النصرانية في الشرق، ومعنى هذا أنهم جاءوا مسلحين بعزائمنا الروحية، ولولا العقيدة التي نقلوها عن الشرق لعجزوا عن ملاقاتنا في أي ميدان

سيوف لله

ص: 11

كان من المؤكد أن ينهزم الشرق الإسلامي في هذه الحرب، لأن أدوات القتال قد تغيرت وتبدلت، ولم يستعد الشرق لمنازلة الغرب، لأنه غير مزود بالأسلحة التي ابتدعها شياطين الغرب الجديد

لطف الله بالشرق الإسلامي ولطف. . . ألم تسمعوا أن الحرب في روسيا لم تمس الأقاليم المأهولة بالقبائل الإسلامية؟

عتاب!

هو عتابي على الدكتور طه، فهل يميل إلي بفكره لحظة واحدة لغير رأيه فيما بين الشرق والغرب؟ وماذا يقع إن لم يسمع؟ الشرق لن يتخلى عن السيطرة الروحية، وإن عجز عن السيطرة الحربية، ولن يوهن من قوة الشرق أن يقرأ أبناؤه كلاما منقولاً عن أحد الأجانب، ولو كان الناقل طه حسين

أما بعد فأنا أوصي طلبة السنة التوجيهية أن يثيروا هذه المشكلة أمام لجنة الامتحان، ليفوزوا بدرجات التفوق، على شرط يفهموا المرامي الدقيقة لهذه الرموز والتلاميح

لجنة الامتحان في مسابقة الأدب العربي ستؤلف من رجال يسرهم أن يجدوا فتياناً يجادلون ويناظرون، فالقوهم بما أدعوكم إليه، ليفرحوا بكم، وليطمئنوا إلى أنكم فاهمون لا ناقلون. . . أنا ضامن لكم النجاح إن لاقيتم الممتحنين وأنتم مزودون بالفكر والبيان. . . إنهبوا جوائز وزارة المعارف، لتفرح بكم فرح الآباء بنجباء الأبناء

زكي مبارك

ص: 12

‌7 - حكاية الوفد الكسروي

لأستاذ جليل

6 -

يقول علقمة بن علاثة:

(. . . إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا والوفادة قربتنا فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك)

هذا تركيب مولد، ومثله قول الإمام مسلم بن الحجاج في مقدمة كتابه (الجامع الصحيح)

(فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم من الإتقان والإستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة.)

قال صاحب الكليات:

(الفاء في خبر المبتدأ المقرون بأن الوصلية شائع في عبارات المصنفين مثل زيد وإن كان غنياً فهو بخيل) وأورد أقوال نحاة أتعبوا أنفسهم في إعراب هذا التركيب. واعلم أن ما أصله مبتدأ حاله كحال المبتدأ

يقول عامر بن الطفيل:

(ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي)

دخول الباء على دون لم يجئ في كلام جاهلي أو إسلامي، وقول الأخفش في كتابه في القوافي وقد ذكر أعرابياً أنشده شعراً مكفئاً: فرددنا عليه وعلى نفر من أصحابه، فيهم من ليس بدونه) - مولد. ومثله قول ابن الفرضي:

إن الذي أصبحت طوع يمينه

إن لم يكن قمراً فليس بدونه

وقد ورد مثل ذلك في كلام معزو إلى صاحبي وهو دليل على صوغ القول وتوليده

يقول قيس بن مسعود الشيباني:

(لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة)

ص: 13

تعدية الانتساب بغير حرفه مولدة، وفي (المقامة. .) في قولها:(فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه) التعدية العربية القديمة

يقول عامر بن الطفيل:

(. . . ولبس القول أعمى من حندس الليل)

بناء (أفعل) من عمى غير جائز؛ قال الرضي: (لكون بعضها مما لا يقبل الزيادة والنقصان كالعمى)

والشاذ في هذا الباب معروف. وقول عامر يكاد يكون عصرياً. . .

وأما القول العربي الكريم: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)

فالثانية فيه مثل الأولى، وليست بمعنى (التي تقتضي من) كما قال العكبري. وقال الزمخشري:(قد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل) وأنا لا أرى ذلك، والطبري يقول:(. . . عمى البصر لا يتفاوت فيكون أحدهما أزيد عمى من آخر إلا بإدخال أشد أو أبين. فليس الأمر في ذلك كذلك، وإنما قلنا ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت، فإنما عنى به عمى قلوب الكفار عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم فلذلك جاز ذلك وحسن)

ممن اطمأن في هذا العصر إلى كلام النعمان عند كسرى وأخذ قولاً عربياً جاهلياً خالصاً - العلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي، قال في مقدمة كتابه (نجعة الرائد):

(. . . إن من اطلع على المأثور من كلام العرب. . . أيقن أن هذه اللغة قد انفردت عن سائر اللغات فصاحة وبياناً، كما انفرد أربابها في مذاهب البلاغة تبسيطاً وإفتناناً. وحسب الناظر أن يسرح طرفه في بليغ منقولها، ويتأمل ما جاء من البدائع في محكم فصولها، من مثل مقالة النعمان في النضح عن أحساب العرب، وما ورد عن الإمام علي من نوابغ الأمثال وروائع الخطب، وما جاء بعد ذلك من أقوال مصاقع الخطباء في صدر الإسلام. . .)

وقال في المقدمة في مقالة النعمان:

(كان من حديث ذلك أن النعمان بن المنذر وفد على كسرى وعنده وفود الملوك من الهند والصين والروم وغيرها وتذاكروا أقوامهم وملوكهم، فتكلم الملك النعمان، وافتخر بالعرب، وفضلهم على سائر الأمم، ولم يستثن الفرس، فدخل كسرى منه شيء، وتكلم فطعن في

ص: 14

العرب، فأجابه النعمان جواباً طويلاً. . .)

ثم نشر مقالة النعمان في مجلته (الضياء) في السنة (7) في الصفحة (460) أجابه الأدباء من قراء مجلته سألوه عنها

وإن كلاماً عربياً جاهلياً منثوراً ليحرص كل أديب أن يقف عليه ليعرف كيف كان الجاهليون - يا أخا العرب - ينثرون كما يحرص أن يقف على أقوال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين) وعلى أقوال التابعين رحمهم الله

أجتزئ من أدلة الوضع بما أوردت وأختم مكتوبي هذا بالثناء على (الرسالة) الغراء وعلى الشاعر الناثر الأستاذ محمد عبد الغني حسن الذي دعا أدبه وفضل فيها إلى تأليف هذه السطور.

(ن)

ص: 15

‌بمناسبة افتتاح العام المدرسي

أمين سامي باشا ناظر ومدرسة

للأستاذ راشد رستم

(الخطبة التي ألقاها الأستاذ راشد رستم في الاحتفال بعيد

مدرسة الناصرية عن المتخرجين من أبنائها)

لأول مرة وفي أول يوم من أول حياتهم المدرسية صغار، لا يعرف بعضهم بعضاً ولم يجتمعوا في مثل هذا الحشد أبداً، ما تعودوا غير الحرية والانطلاق، واللعب على الدوام - إذا بهم وقوف في صفوف، مجمعين على مواعيد، مفرقين في مواقيت؛ وإذا بهم في فصول وفرق، وإذا بهم في غرف لا يؤذن لهم أن يجلسوا فيها كما يشاءون، وإذا ببعضهم في (عنابر الداخلية) يقضي لياليه بعيداً عن الأهل والإخوان، بعيداً عن الآباء والأمهات

هكذا تنتقل الحياة بهؤلاء الصغار بين ليل ونهار، من حال إلى حال، من فوضى محبوبة إلى تدقيق ونظام

ثم إذا بهم مطلب منهم ألا يلعبوا دون أن يعملوا، بل أن يعملوا دائبين، فسيحملون الأمانة من جيل ويحملونها إلى جيل. . .

تلك حال يواجهها كل تلميذ في سنيه الأولى إذا هو سلم منها في أولها سلست له إلى آخرها، وسار على بركة الله وسبحان الفتاح

وإن هو تعب منها في مبدئها، أتعبته طول وقتها، وهو إذن متبرم منها قلق بها وسبحان الحنان.

فما قولكم في ذلك الصغير الذي يواجه هذه العقبة، ولكنه يمر منها على ضوء طلعة صبوح، وفي صحبة روح يشع منها الاطمئنان إليها! وفي رحاب نفس طيبة تشعرك الرضا بها والسكون إليها!

سادتي

ذلك كان حالنا يوم أن اجتمعنا لأول مرة في رحاب الناصرية

لم يكن (أمين سامي) نبياً ولا ولياً، وما كان رسولاً ولا مبعوثاً إلهياً، ولكنه كان رجلاً،

ص: 16

عاملاً، وطنياً. وكان أميناً وكان سامياً. . .

كان أمين سامي طبيعياً، يسير مع الطبيعة في بساطتها، كما يقف معها في دقتها، فلم يكن مرغماً ولا متعسفاً

لم يرغم تلاميذه على غير ما تسمح به طبيعتهم، بل يدرس تلاميذه ويدرس طبيعتهم، ثم يسوسهم ويرشدهم ثم يلقنهم ويوجههم

كان يهيئ لتلاميذه جواً مدرسياً محبوباً، يهيئ لهم نخبة من كرام الضباط والمدرسين، هم في مقام الآباء والمرشدين، يعرفون الفرق العظيم بين (ملف) من شهادات، وكنز من أخلاق

يعرفون أن الخلق مخلوق قبل العلم، وأن التلميذ أخلاق قبل أن يكون علوماً، وأن مصر في حاجة إلى أخلاق

يعرفون أن هؤلاء الشبان الصغار هم هؤلاء الرجال الكبار

يعرفون أن لهم نحو الوطن رسالة وأن عليهم واجباً

وإننا لنفخر إلى اليوم والى الغد والى الأبد بأننا تلاميذ لأولئك السادة الكرام - رحم الله الأولين الذاهبين وأطال الله حياة الحاضرين.

إن (المعهد) أمين سامي كان مخلص النية لتخريج الأبناء أعياناً لمصر، ورجالاً لمصر، ونجوماً في سماء مصر

هكذا كان الغرض وكان الإخلاص، فكان المطلوب وكان المراد

الواقع أننا كنا في مدرسة تشعرنا بأنها تهيئ لنا جميع وسائل العناية بنا

مدرسة نظيفة معنى ومبنى، لطيفة بكل من فيها وما فيها

مدرسة محترمة، تفرض علينا أن نتحلى بكل ما يجعلنا محترمين، تبث فينا الشجاعة والوطنية والإقدام، تشعرنا بأن لنا مستقبلاً وأن علينا واجباً، بل أن المستقبل لنا، وأنه مسؤول منا وأن البلاد تنتظرنا وتنتظر الخير منا.

كان أمين سامي (الرجل) مثالاً لنا بل ولغيرنا في هذا وذاك. كان نبيل الطبع نبيه التطبع، رجولة في أبوة، دقة في رحمة، مهابة في سماحة

كنا نترقبه ونتمنى أن نراه، ونغار منه (دار العلوم) إذا أطال هناك بقاه. . .

كان مثالاً لنا ولغيرنا في معنى النشاط ومداه

ص: 17

لم يفارقه النشاط أبداً، فقد كان به مؤمناً؛ بل هو نشاط المؤمن

لم يفقد نشاطه برغم ما شدت عليه الحادثات من فقد العزيز وطول العمر

وكان كلما تقدم في السن سير النشاط وفق السن، فهو لم ينزل عنه وإن سلم بالدرجات فيه

فخره أنه لم يكن عجوزاً ولا عاجزاً، بل كان دائما قادراً ماهراً، ولقد جمعنا حوله في حياته؛ وهاهو اليوم يدعونا فيجمعنا لتخليد ذكراه مثالاً لنا لا ننساه.

هانحن أولاء، أبناء الناصرية، نجتمع اليوم من عهود مختلفات، وسنين متباعدات، ولكن ألا يجمعنا جميعاً ذلك اليوم الذي يرجع بنا إلى عهد جدول الضرب وحصة المحفوظات!

ألا عودوا بنا لحظة إلى تلك العهود

ألسنا نتمناها جميعاً برغم ما كان فيها من رجفات الامتحانات!

السنا نحيا بذكراها اليوم سعداء، وسط هذا العالم المضطرب، وسط هذه الألوان من حياة الانفعالات!

نعم

لا يلبث القرناء أن يتفرقوا

ليل يكر عليهم ونهار

إنما

من عنده لي عهدٌ لا يُضيِّعه

كما له عهد صدق لا أُضيِّعه

نعم. إننا هنا اليوم مع أبناء اليوم ولكننا هناك في ذلك اليوم

أليس كذلك يا زميل التختة الواحدة؟

أليس كذلك يا زملاء المائدة الواحدة؟

أليس كذلك يا زملاء (العنبر) الواحد؟

أليس كذلك يا زميل (العيش الحاف، والحبس بعد الانصراف)؟

إن للناصرية طابعاً على كل من ورد عليها

وإن لنا لحنيناً إلى تلك الأيام الحلوة برغم (زنزانة) الحبس بالانفراد

إلى تلك الأيام الناضرة، وإن كانت قد ذهبت مع التاريخ في سجل الماضي البعيد، وإن كانت كذلك تنم لنا على ما دارت به معنا عجلات السنين من عدد السنين

وهل في الوجود معنى هو أحب إلى الرجل من عهد الصبا، ولا أسرع بالنفس ذهاباً إليه

ص: 18

مهما بعد الحاضر عنه

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا. . .

وأما أنتم يا أولادنا الصغار بل يا اخوتنا الصغار، يا أبناء الناصرية فهي أمنا جميعاً، الآباء والأبناء سواء. أنتم أملها الجديد، ارتبطوا بها وحافظوا عليها

إنكم مخلوقون لزمان غير زماننا، وقد تهيأت لكم ظروف غير ظروفنا، نرجو أن تكون خيراً وأبعد أثراً

على أنه وإن كان لكل زمان ملابساته فإن جواهر الحقائق والفضائل باقية لم تتغير، فالاجتهاد لا يزال محموداً، والإخلاص لا يزال منشوداً، والجهاد لا يزال مفروضاً

أنتِ الغراس ومنك الخير ينتظر

ما طاب أصل وخاب الفرع والثمر

احملوا الأمانة من جيل وسلموها إلى جيل

سادتي:

هذه هي الناصرية وهذا هو أمين سامي، وهذا هو المورد، وقد كنا ممن استسقى وورد، فشرب وارتوى وحمد

راشد رستم

ص: 19

‌مداعبات

شعراؤنا والناقد العبقري. . .

للأستاذ دريني خشبة

لن أثور كما ثار الدكتور مندور يا حضرات القراء، ولن أسمح لأعصابي أن تتمزق على هذه الصورة المضحكة التي تعرض صاحبها لرثاء قراءه وطلبهم المغفرة له، وذلك لأنني دعوت الأدباء في مصر أن يضبطوا عواطفهم - في الصيف - وما كنت أظنهم يهملون صمامها ونحن على أبواب الشتاء

وقد قدح الدكتور مندور فينا بالذي قدح، غير أننا نثني عليه بما هو له أهل من أكرم الثناء. . . فقد سعدنا بصداقته قريباً، ودافعنا عن رجولته التي غمزها صديقنا الكاتب المعروف الذي أغضبه منا هذا الدفاع، وعزاه إلى خصومة قديمة توهمها بيننا وبينه، مع أننا أزهد الناس في الخصومات الأدبية وأحوجهم إلى معونة الأدباء بصدد الدعوة التي ندعو إليها

نثني على الدكتور مندور فنقرر أنه أعلم منا بالموضوع الذي أثرناه له ووجد فرصته فيه، فانطلق يكتب هذه الفصول القيمة التي سنقرأها وحدنا - أو مع خمسة أو عشرة على الأكثر من حضرات القراء الذين يعنيهم هذا الموضوع

الدكتور مندور يا حضرات القراء أعلم منا في موضوع أوزان الشعر الأوربي لأنها من ضمن ما تخصص حضرته فيه، ونال عليه الدرجات العلمية العلى، فهو إذا تكلم فيها، تكلم عن علم وبصيرة وخبرة

لكننا مع هذا لا نرى أن يمنعنا أحد من التكلم في أي موضوع نشاء، إلا في الطب والهندسة والصيدلة والكيمياء، وما إلى ذلك من الموضوعات التي لا تصلها بالأدب صلة، فهل أعاريض الشعر من هذا القبيل؟

سيقول الدكتور مندور، أجل، هي من هذا القبيل، بدليل أنك تكلمت في طرف ضئيل منها ومع ذاك فقد (أخطأت وأوهمت وتوهمت وضللت وضللت وموهت ولم تتحر الدقة بل ترديت في الخطأ البين في أبحاثك التي تحشدها. . .) إلى آخر هذه المجموعة الوافية من العبارات الشافية الكافية التي أسبغها علينا الدكتور الصديق محمد مندور، الذي كنا نتمنى أن نراه وهو يكتب هذا الفصل المنفعل الصاخب الظريف الذي صب حممه فوق رأسنا!

ص: 20

وقبل أن نداعب أخانا مندور بما هو له أهل من المداعبة، وقبل أن نكشف الغطاء عما هاجه علينا وأحفظ صدره منا، نتناول تجهيلاته التي جهلنا بها، فنرى كيف أوقعتنا المقادير في ظلماتها حتى أعمتنا - والعياذ بالله - هذا العمى المطلق الذي لم تره غير عين صديقنا العزيز

عندما قلنا إن أساس العروض الأوربي هو التفعيلة لا البحر فهم حضرت صديقنا العروض المحترم أننا ننكر وجود البحور في الأعاريض الأوربية وعلى هذا بنى بحوثه القيمة، مع أننا ذكرنا كثيراً من هذه البحور في الحاشية التي أثبتناها في ذيل مقالنا وقلنا إن هذه التفعيلة هي أساس البحر (الفلاني!) ومن هذه التفعيلة ومن تلك يتكون البحر (الفلاني)، وإنما قصدنا بأن التفعيلة هي أساس العروض الأوربي أن الشعراء هناك أكثر حرية في استخدام هذه التفاعيل فلا يتقيدون بعددها في السطر (أو البيت) كما يتقيد شعراؤنا هذا التقيد الذي عبناه عليهم ولا نزال نعيبه عليهم. فمجرد (توهم) أننا ننكر وجود هذه البحور هو دليل الأعصاب الممزقة الموجدة التي تأكل قلب الصديق الحميم علينا للسبب الذي سنبينه بعد أن نرد ترهاته كلها. والمقال موجود أيها القراء بالرسالة (العدد 538)، فقوله إذن إن كلامنا لا معنى له مطلقاً وهو كلام يشبه الهوس، ونحن مع ذلك نعذره لأن معرفتنا بالدافع الذي أطلق لسانه فينا يفقد العقلاء عقولهم. وقد منعنا من تناول هذه البحور بالشرح الذي شمر له صديقنا الحميم عن ساعد الجد ما قلناه في صلب المقال من (أنه ربما لا يسر القارئ، بل ربما يضايقه جد المضايقة أن نخوض به في شيء من معميات العروض الإنجليزي). . . وربما أوهم اقتضابنا هذا لذاك السبب أننا (إنما نوهم ونتوهم أننا نعرف شيئاً. . .) إلى آخر هذا السفه الذي نمر به كراماً لأن صديقنا الحميم قاله في ساعة من ساعات الانفعال الذي سنذكر سببه كما قلنا

ويعيب علينا السيد مندور أننا قرأنا المعلومات التي سقناها في كتيب من كتيبات العروض ثم استعنا في شرحها بالقاموس؛ وهذا، لو أنه حصل، لا يضيرنا قط، ولكنه يضير الصديق الحميم كثيراً، لأنه يدل على أنه كان فاقداً لتوازنه وهو يكتب هذا الهذر، إذ كيف يقرأ الإنسان في كتاب من كتب العروض، ثم يحتاج إلى القاموس مع أن كتب العروض الإنجليزي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا تناولتها بالشرح. . . على أنني أفهم لماذا يعيب

ص: 21

السيد مندور الرجوع إلى القاموس أو الاعتماد عليه في شرح كلمة من الكلمات؟ هل ذلك لأن المعلومات التي في تلك القواميس تكون خطأ عادة؟ وكيف يا أخي يصح هذا؟ وكيف يا سيد العروضيين تغفل إنجلترا ويغفل الإنجليز عن هذا الخطر الذي جاء السيد مندور ليكتشفه لهم صبيحة يوم الأحد في السابع من نوفمبر سنة 1943؟! تالله لقد نبهتني إلى (قفشة) أقفشها لك، فقد أحسست من ثنايا كلماتك أنك رجعت إلى تلك القواميس كما لم يفعل العبد الفقير إلى الله، لتنظر في معنى بعض تلك (المعميات) كما سميتها أنا رفقاً بالقراء، فلما وجدت القواميس تنصر حقي على باطلك، وتواضعي على ادعائك العريض، عجلت فأردت توهين هذه الحجة التي أقذف الآن بها عليك لتدمغك، بالرغم من درجاتك العلمية الجامعية التي لا أنكرها قط، ولا أقدح فيها قط

اسمع يا صديقي الحميم ما جاء في قاموس القرن العشرين في مادة:

، ،

ومعنى هذا اللغو (في نظر الأخ مندور) أنه بحر (من بحور النظم) يتركب من اثني عشر مقطعاً، ست تفعيلات إيامبية، وقد سمي كذلك من أجل ما استعمل فيه في القصائد الفرنسية القديمة، عن الإسكندر الأكبر وهو البحر الشائع في المأساة الفرنسية

فهل قلنا نحن غير ذلك يا سيد مندور؟ إليكم ما قلناه أيها القراء، مما نقله الدكتور الفاضل بقلمه عن مقالنا:(ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري، نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً، وهو يتكون من اثني عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)

فأينا الذي لم يتحر الدقة ووقع في الخطأ البين كما قال الدكتور مندور الذي نال درجاته العلمية في هذا العلم؟ أينا المخطئ أيها القراء؟ أنا أم قاموس القرن العشرين، أم الدكتور مندور الذي تخصص في أعاريض الشعر قديمها وحديثها؟ على أننا نرجع إلى لاروس - القاموس الفرنسي المحترم - لنرى ماذا يقول هو الآخر: فهو بعد أن جاء بالرواية التي ذكرها السيد مندور، ويضيف إليها أنه يتركب من اثني عشر مقطعاً كما ذكرنا نحن وأنكره الأخ العزيز المتخصص في أعاريض الشعر، يقول:

' ، ' ، ،

ص: 22

فأين الخطأ البين الذي وقعنا فيه يا عالم؟! لعل الأخ مندور - المتخصص في الأعاريض بأنواعها - أخذ علينا نسبة هذا البحر إلى الإسكندر من القصائد التي نظمت فيه من هذا البحر وعدم نسبته بالذات إلى أل ' فاسمعوا يا أصدقائي القراء - وأنا في حاجة إلى تملقكم بهذه النداءات الظريفة - ما تقوله دائرة المعارف البريطانية عن هذا البحر، فهي بعد أن تذكر أنه هو البحر الرئيسي في الشعر الفرنسي، وأنه يستعمل عادة في الشعر القصصي والمآسي والملاهي الرفيعة، تقول عن أصل تسميته:

، 13

ومعنى هذا: أنه يوجد بعض الشك بالنسبة إلى منشأ اسم هذا البحر إلا أن أكثرها احتمالا أنه مشتق من مجموعة من الروايات الشعرية ذاعت إبان القرن الثالث عشر، وكان الإسكندر المقدوني بطلها.

فما رأي الأستاذ مندور في هذا الهذيان الذي لغت به دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تصنيفها ساداتنا جميعاً من علماء الأمة الإنجليزية، والذين هم بلا شك أساتذتك وأساتذتي في العروض وفي العلم وفي الأدب وفي ضبط الأعصاب أيضاً! إنهم لم يقصروا تسمية هذا البحر كما فعلت أيها المتخصص في الأعاريض الأوربية التي ذكرت والتي ذكرها لاروس، بل قالوا كما قلنا - نحن الفقراء إلى الله الذين لم نتخصص في هذا العلم، لأنه، وحياة ذقنك، لا يحتاج إلى هذا التخصص أبداً، قالوا إن ثمة شكاً في أصل هذه التسمية، وإن أكثر الروايات احتمالا نسبته إلى ال التي نظمت في الإسكندر المقدوني

فأين إذن عدم الدقة، وأين إذن هذا الخطأ الفاحش الذي تردينا فيه، وأين هو التوهم والإيهام والظلال والتظليل، وما نتخيله من أننا نعرف شيئاً ونحن لا نعرف شيئاً قط؟! عفا الله عن مستر هايد الذي كان يلقي عليك هذه الوقاحات يا دكتور جيكل، في ساعة من ساعات عدم الوعي التي يذكر إخوانك أنها كانت تنتاب جيكل المسكين كلما طار أحد أبراج عقله الجبار. . .

أما تعبيري عن المقاطع بالطول والقصر وأنه لا ينطبق (بسهولة) على العروض الإنجليزي فقد آثرته ليفهمه الشعراء الذين اكتب لهم ممن درسوا أعاريض الشعر العربي ولم يلموا بلغة أجنبية، وسأجعلك تطير من الفرح حينما أنقل لك هنا تفسير أحد القواميس

ص: 23

التي لا يعجبك النقل عنها لإحدى التفعيلات، كي تقول لقرائك ألم أقل لكم إن جل اعتماده على القواميس!

اسمع ما يقوله قاموس القرن العشرين في تفعيلة

- ،

أي:

فهل قلت أنا غير هذا الذي قاله هذا القاموس الجاهل أو دائرة المعارف التي ليس عندها علم السيد مندور؟ ولقد ضربت لذلك مثلاً لاحظت فيه أن يشمل الارتكاز الذي نبه إليه حضرة الناقد اللوذعي فقلت مثل: (ريعانه)، ولاحظت وجود الارتكاز في كل ما ضربت من أمثلة عربية

وبعد. فماذا بقي مما جهلنا به السيد مندور لم نرد عليه؟

وبعد أيضاً. . . فماذا يقول القراء في سائر الآفاق عن هذه اللهجة التي ينحط إليها أدب المناظرة في مصر؟

وبعد. وبعد؛ فما سبب هذا الموقف الذي يقفه منا فجأة هذا الدكتور مندور؟

اسمعوا إذن يا حضرات القراء

ليس صحيحاً أنه يقف هذا الموقف لأنني دافعت عن رجولته التي غمزها هو نفسه بالذي غمزها به صديقنا الكاتب المعروف، كما يتفكه أصدقاؤه وأصدقائي في القاهرة. . . وليس صحيحاً أننا نقتسم فيما بيننا تركة، فالدكتور ليس من أقربائي، وإن كان ذلك كان يسرني ويشرفني

ولكن المسألة أن الدكتور مندور يدأب منذ طويل في الطعن على شعرائنا المصريين بدون استثناء. وتجريحهم، والحط من شأنهم، بل في تجريدهم من شاعريتهم، وتفضيل شعراء المهاجر عليهم، أولئك الشعراء الذين نجلهم ونحبهم ونعرف لهم فضلهم ومعاونتهم في نهضتنا العربية الأدبية الكبرى. . . لكن أحداً لم يذهب إلى تفضيل هؤلاء الشعراء الأفاضل عامة على شعرائنا عامة غير الدكتور مندور، وهو يستشهد في هذه الدعوى بقطع تدل على مبلغ تذوقه للشعر، ومدى مقدرته على الموازنة بين الشعراء. وقد غضبنا لهذه

ص: 24

الخطة الجائرة لا تعصباً أعمى لشعرائنا، وإن يكن التعصب البصير ديناً لهم في أعناق الكتاب المصريين جميعاً، ولكن لأن الدكتور قد جاوز حد الدعابة إلى حد الجد، وأقول حد الدعابة، لأنني حسبته إنما يداعب شعراءنا أول الأمر، ولأن الموازنات التي ذهب إليها كانت كثيراً ما تغثي النفس وتقبض القلب، وتتعمد الغض من أقدار الشعراء المصريين تعمداً باطلاً بلغ حد الخطورة على سمعة الأدب المصري والشعر المصري، الذي هو مع ضيق آفاقه التي نشكو منها دائماً، ألمع مظهر من مظاهر هذا الأدب

ففي مقالنا عن - تجديد الأدب العربي - بالعدد (535) من الرسالة، كتبنا كلمات ثناء في شعرائنا الشيوخ ننفي بها ما كان يحتمل أن يفهم من أننا نقصر الرجاء على شعرائنا الشباب في القيام بتجديد الشعر العربي شكلاً وموضوعاً، فلما بلغنا الكلام عن الأستاذ العقاد قلنا إننا كنا نضع فيه أملنا للنهوض بأعباء تلك الثورة، لكن أملنا هذا - خاب - بهذا التعبير، حتى لا يظن أحد إنما نحتمي بأحد من ردنا على صديقنا مندور. . . وذلك لأن العقاد آثر أن يسلك الطريق القديمة للشعر العربي شكلاً وموضوعاً. . . ولكننا قلنا قبل هذا في المقال نفسه. . . (أما العقاد العظيم فهو شاعر المعاني غير مدافع، والذين زعموا أنه لا شأن له بالشعر هم قوم قليلو البصر بالشعر، بل ربما كان الأحسن ألا يكون لهم هم شأن بالشعر، ولو أن العقاد كان يعنى بديباجته وتجويد أسلوبه الشعري لخر أمامه أولئك النقاد جثياً. . .)

هذا ما قلناه نثبته هنا لأنه هو الذي أحفظ علينا الأستاذ مندور وذلك لأنه هو قائل تلك القولة الجريئة التي تدل على قيمة أحكامه (المائعة!) كما عبر عنها مناظرة الأستاذ المعروف، والتي يصدرها في غير وعي ليهدم أمجاد شعرائنا والعقاد ومدرسة العقاد في مقدمتهم. . . الدكتور مندور هو الذي قال: إن العقاد لا شأن له بالشعر، وهو قول يكفي للرد عليه أن نقول ما قلنا، لأن الذين يقولون هذا هم قوم لا بصر لهم بالشعر حقاً، بل ربما كان الأفضل ألا يكون لهم شأن بالشعر على الإطلاق. . . نقولها اليوم صرحاء بعد إذ كنا نلمح بها تلميحاً عسى أن ترعوي تلك الطائفة من الكتاب الذين لا هم لهم إلا هدم شعرائنا الذين نعتز بهم جميعاً وبلا استثناء لأنهم أعز علينا من ألف كاتب فج من أمثالهم. . . ونحب أن نطمئن قراءنا وأن نطمئن الصديق الحميم الأستاذ مندور، فنحن لم نر العقاد في

ص: 25

حياتنا إلا مرة واحدة في مأتم، ولسنا نطمع في صداقات جديدة بعد الذي بلوناه من صداقة السيد مندور، ولكننا مع ذلك نعرف العقاد ونقرأه من نحو ثلاثين عاماً وقد كتبنا عنه سنة 1930، إذ هو سجين في ذلك الوقت، مقالاً تجفل منه الأبالسة، بالمجلة الجديدة قدرنا فيه العقاد الشاعر والعقاد الكاتب، مما كان سبباً في الأخذ بتلابيبنا في ذلك العهد الرجعي الأسود لا أعاده الله. . . ومع ذاك فنحن ما زلنا نقول إن العقاد خيب آمالنا فيه، وعسى أن يسعدها إن شاء الله، أما أن نقول إنه لا شأن له بالشعر، فنكون مجانين - نحن فقط دون تعريض بأحد - إذا لغونا بذلك مع من يلغون به. . .

والعقاد على هذا من (الشعراء الكبار الذين يعجبوننا) كما زل قلم السيد مندور في مقاله ليسجل على نفسه الداعي الذي دعاه إلى كتابة ما كتب. وفرق بين أن يتفقه المرء في أعاريض الشعر، وبين أن يكون شاعراً، أو أن تكون له موهبة تذوق الأشعار وإصدار الأحكام عليها

وسنأخذ قريباً إن شاء الله في نشر دراسات هادئة لكثيرين من الشعراء المصريين شيبهم وشبابهم لنبصر الذين كفروا بأمجاد الوطن بما ضلت أعينهم عن إدراكه من آيات العبقرية المصرية

وبعد. . . فإني أعتذر للقراء عما فرط به قلمي من لغو القول في هذا الحديث ولن أرد على لغو آخر قط.

دريني خشبة

ص: 26

‌أوزان الشعر

3 -

الشعر العربي

للدكتور محمد مندور

ليس من شك في أن الخليل بن أحمد كان رجلا عبقرياً نفخر به مع من نفخر بهم من أجداد. ولكن العلم لا يعرف الوقوف، ولقد تقدمت الدراسات اللغوية تقدما يحملنا على أن نطمع إلى معرفة أدق من معرفة الخليل بالعناصر الموسيقية في شعرنا العربي.

والذي لا شك فيه أن الخليل قد وضح حقيقة أساسية في الشعر العربي لا نستطيع أن نغفلها، وهي انقسام كل بيت إلى تفاعيل متساوية، كما هو الحال في الرجز ولهزج وغيرهما، أو متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع) كما هو الحال في الطويل والبسيط وغيرهما. وهذا التقسيم من أسس الموسيقى والشعر عند الأوربيين اليوم؛ فهناك وحدات موسيقية متساوية وأخرى متجاوبة كما وضح الخليل.

ولكننا لا نكاد نترك وجود التفاعيل إلى بنية تلك التفاعيل حتى نختلف مع الخليل، وذلك لأنه لم يدلنا على وحدة الكلام وهي المقطع. وأكبر ظني أن الخليل لم يعرف العروض اليوناني وإلا لفطن إلى المقطع، وإن يكن قد علم فيما نرجح بالموسيقى اليونانية بفرعيها: (علم الإيقاع وعلم الانسجام والعروض اليوناني كما هو معلوم يقوم على المقطع، والسبب الذي منع الخليل من الوقوع على المقطع مزدوج فيما أظن:

1 -

عدم كتابة الحروف الصائتة القصيرة التي نسميها حركات (الفتح والضم والكسر) في صلب الكتابة العربية التي لا تزال إلى اليوم مقطعية إلى حد بعيد، بمعنى أننا نكتفي برسم الحروف الصامتة، وأما الصائتة فلا تكتب إلا الطويل منها (الألف والواو والياء). فكتابتنا وسط بين الكتابة الفينيقية والكتابة الإغريقية، ومن الثابت تاريخياً أن الإغريق عند أخذهم بالكتابة الفينيقية قد أضافوا إليها رسوما خاصة للحروف الصائتة كلها طويلة وقصيرة وأبني على ذلك أن الخليل لم يفطن إلى أن الحروف الصائتة القصيرة تكون مع الحروف الصامت الذي توضع فوق كحركة مقطعاً تاما مستقلا. ولهذا اكتفى في تقطيع التفعيل بالحروف التي تكتب مميزاً بينها بالحركة والسكون.

2 -

السبب الثاني هو أن اللغة العربة كغيرها من اللغة السامية تغلب فيها الحروف

ص: 27

الصامتة فيما يرجح، وتلك الحروف يقع معها عادة الوقف، أي السكون، ولهذا لاح للخليل أن التتابع إنما يقع في الحركات والسكنات، بينما نجد في لغة كاللغة اليونانية أن الحروف الصائتة هي الغالبة، ولهذا لا نحس فيها بالسكنات الموجودة في اللغة العربية، بل نحس فوق كل شيء باختلاف كم الحروف الصائتة في تتابعها.

هذان السببان لا يجوز أن يحجبا عنا الحقيقة اللغوية التي تصدق على كل لغة وهي أن المقطع هو وحدة الكلام. وفي اللغة العربية أربعة أنواع من المقاطع هي: (1) المقطع القصير المفتوح وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت قصير (حركة) مثل المقاطع الثلاثة في كتب (2) المقطع الطويل المفتوح وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت طويل (ألف أو واو أو ياء - حروف اللين) مثل (كا) في كانت (3) المقطع الطويل المزدوج وهو المكون من حرف صامت وحرفين صائتين مثل بي في بيت مع احتفاظنا بالمناقشة العلمية التي تدور حول طبيعة الياء في هذا المقطع أهي صائتة أم صامتة (4) المقطع المغلق وهو المكون من حرف صامت، ثم حركة فحرف صامت آخر نحو (تُن) في بيتٌ والحرف الصائت في هذا المقطع قصير دائماً؛ فهذا قانون هام من قوانين اللغة العربية وليس له استثناء إلا في حالات محصورة أهمها حالات الوقف على الاسم المنون مثل (نارْ)؛ فهي تتكون في هذه الحالة من مقطع واحد مغلق حرفه الصائت طويل، وكذلك الوقف في حالتي التثنية والجمع مثل محمدانْ ومحمدونْ، فالمقطع (دان) والمقطع (دون) كل منهما حرفه الصائت طويل، وإذن القانون العام هو قصر الحرف الصائت في المقطع المغلق؛ فهل نعتبره مقطعاً طويلاً أم قصيراً؟ الواقع أنه مقطع طويل ويأتيه الطول من الزمن الذي يستغرقه الحرفان الصامتان؛ فهذا الزمن لا بد من حسابه وإن لم يحسبه علماء العروض الإغريقي واللاتيني. ولقد أثبت البحث الحديث أنه من الواجب أن يحسب كم الحروف الصامتة في كافة اللغات ومن باب أولى في اللغات السامية حيث تغلب تلك الحروف. ثم إنه إذا كان في كافة اللغات حروف آنية كحروف الانفجار (باء وفاء مثلاً)؛ فإن هناك حروفاً متمادة كالسين واللام مثلاً، فهذه من الممكن أن نمد في نطقها كما نشاء. وإذن فالمقطع المغلق نعتبره طويلاً

ونخلص من هذا إلى وجود مقاطع في اللغة العربية. وهذه المقاطع تختلف في كمها. فهل

ص: 28

نستنتج من ذلك أن الشعر العربي كمي بمعنى أن كل تفعيل فيه يتكون من مقاطع مختلفة الكم بنسب محدودة؟

ذلك ما رآه المستشرق إوالد فقد وضع للشعر العربي عروضاً على غرار العروض اليوناني وهو عروض مستقيم سهل الفهم مبسط عن عروضنا تبسيطاً كبيراً. ولقد درسناه في العام الماضي للطلبة بالجامعة فأجادوا فهمه. ويستطيع القارئ أن يجده في الجزء الثاني (من قواعد اللغة العربية) للمستشرق المشهور ريث ولكننا مع ذلك لا نقر إوالد ومن نحا نحوه من عامة المستشرقين في اكتفائهم برد العروض العربي إلى المقاطع الكمية كما هو الحال في العروض اليوناني واللاتيني، وذلك لأنهم لم يبصرونا بالإيقاع فالكم كما قلنا لا يكفي لإدراك موسيقى الشعر بل لا بد من الارتكاز الشعري الذي يقع على كل تفعيل ويعود في نفس الموضع على التفعيل التالي وهكذا. ولقد كان للخليل على المستشرقين ميزة الإحساس بهذا الإيقاع فتتابع الحركة والسكون على نسب محددة يوضح ذلك الإيقاع ولا كذلك تتابع المقاطع المختلفة الحكم.

(للكلام بقية)

محمد مندور

ص: 29

‌3 - جامع أحمد ابن طولون

(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)

للأستاذ أحمد رمزي بك

قنصل مصر في سورية ولبنان

يذكر المؤرخون الشيء الكثير عن هذا الجامع، فيقولون: إن ابن طولون رأى الصناع يبنون في الجامع عند العشاء، وكان ذلك في شهر رمضان. فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطاراً لعيالهم وأولادهم؟ اصرفوهم العصر فصارت سنة بمصر معمولاً بها إلى اليوم

ويروى أنه في يوم الجمعة التي صلى فيها ابن طولون لأول مرة، قام الخطيب فدعا للخليفة العباسي وولده ونسى أن يذكر أمير مصر وعزيزها ثم تنبه لذلك فقال:(الحمد لله وصلى الله على محمد، ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً، اللهم وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولا أمير المؤمنين)

ثم انتهت دولة آل طولون، وزالت آثارهم، فما بقى لهم سوى هذا الجامع الخالد يذكر الناس بهم وبأيامهم، ومجدهم وهل كان مجدهم إلا مجد مصر؟

ذكر صاحب النجوم الزاهرة من حوادث سنة 292هـ (وزالت الدولة الطولونية وكانت من غرر الدول، وأيامهم من محاسن الأيام)

وقال أيضاً: ولقد بكى الناس والشعراء دولة آل طولون وقالوا من المراثي الشيء الكثير وذكر ما قال فيهم إسماعيل ابن أبي هاشم:

قف وقفة بفناء باب الساج

والقصر ذي الشرفات والأبراج

وربوع قوم أزعجوا عن دارهم

بعدَ الإقامة أيما إزعاج

كانوا مصابيحاً لدى ظلم الدجى

يسري بها السارون في الأدلاج

كانوا ليوثاً لا يرام حماهم

في كل ملحمة وكل هياج

فنظر إلى آثارهم تلقى لهم

علماً بكل ثنية وفجاج

وقال سعيد العاص:

ص: 30

وكان أبو العباس أحمد ماجدا

جميل المحيا لا يبيت على وتر

كان ليالي الدهر كانت لحسنها

وأشراقها في عصره ليلة القدر

وقال ابن أبي هاشم:

يا منزلاً لبني طولون قد دثرا

سقاك صوب الغوادي القطر والمطرا

يا منزلاً صرت أجفوه وأهجره

وكان يعدل عندي السمع والبصرا

بالله عندك علم من أحبتنا

أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا؟

لبيك يا ابن أبي هاشم لقد سمعت لهم خبراً ولكن بعد ألف عام من شعرك: إذ في سنة 1890 بينما كانت لجنة حفظ الآثار العربية تنقل بعض الأنقاض للمحافظة على هذا الجامع العتيق، عثرت على بعض قطع من الرخام، جمعت ورتبت فتألف منها اللوح الموجود الآن وهو بالكتابة الكوفية جاء فيها بعد آيات قرآنية ما يأتي:

(أمر الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين أدم الله له العز والكرامة، والنعمة التامة في الآخرة والأولى، ببناء هذا المسجد المبارك، الميمون من خالص ما أفاء الله عليه، لجماعة المسلمين ابتغاء رضوان الله والدار الآخرة، وإيثاراً لما فيه تسنية لدين، وألفة المؤمنين، ورغبة في عمارة بيت الله وأداء فرضه، وتلاوة كتابه، ومداومة ذكره، إذ يقول الله تقدس وتعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. . .)

(في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائتين)

وقد أجمع العلماء على أن هذه الكتابة أقدم كتابة تاريخها ثابت معروف من كتابات الآثار العربية

رحم الله صاحب الجامع وطيب ثراه

وتقلبت الليالي وتعاقبت الدول ودخل القائد جوهر على رأس جيش من إخواننا أهل المغرب في خدمة دولة ناشئة ذات صولة ومجد وقوة، وكانوا أهل دعوة واتباع مذهب وإمامة. وقد دانت لهم دنيا المغرب، ونزلت على أرادتهم الأمم. ألم ترفع ألويتهم على سردينيا وصقلية؟ ألم تدفع لهم مدن إيطاليا الجزية؟ ألم يمخر أسطولهم عباب البحار؟ وفي يوم الجمعة 18 ربيع الآخر سنة 359 هجرية، دخل القائد المنتصر بعسكر كثيف جامع

ص: 31

ابن طولون فأقام الجماعة، وجهر المؤذنون بآذان: حي على خير العمل فكان أول آذان شجي جهر به في أرض الكنانة، وصلى بالقوم عبد السميع بن عمر العباسي، وخطب الناس وأطال. ويذكر المؤرخون أنه جاء وعليه قلنسوة وطيلسان دبسي، وأنه زاد عقب الخطبة المعتادة ما يأتي:

(اللهم صلي على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. اللهم وصل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين. ودعا للقائد جوهر، وجهر باسم الله الرحمن، وقرأ سورة الجمعة، والمنافقين في الصلاة، وقنت في الركوع فكان يوماً تاريخياً خالداً في حياة مصر العربية التي دخلت في طور جديد بدأنه بجامع ابن طولون

هذه ذكريات توحيها وقفة أمام المحراب الكبير، بأعمدته الرخامية ذات التيجان الأربعة، والتي تملك النفس حينما تنظر إلى ما هو من جمال الرخام الملون والفسيفساء المذهبة، ثم الكتابة الكوفية الفاطمية الفائقة الجمال في تنسيق الخط وتزهيره. فإذا اتجهت إلى اليمين، فهناك محراب آخر من العهد الفاطمي، عليه اسم الأفضل والمستنصر، وهناك غير ذلك من آثار ذلك العهد، فإذا مررت بها فاذكر أياماً لهم، وترحم عليهم، فقد جد الفاطميون وأنشأوا وصانوا ولهم الأيادي البيض. وهم إن اختلف الناس فيهم وتباينوا في الحكم عليهم فنحن في زمن تعالى عن نزعات الماضي

(للحديث صلة)

أحمد رمزي

ص: 32

‌الريف المصري

الأستاذ محمد طاهر الجبلاوي

اشرق الضوء على كوخي الصغيرْ

في ظلال الريف والخلق نيامْ

فتنبهت على صبحِ نضير

ناعم الأنفاس عذب الابتسام

كشف الستر عن الكون القرير

بيد من فضة في عسجدِ

فتجلى وجه الصافي المنير

يعد النفس بيوم مسعد

وصياح الديك من فوق اليفاعْ

هاتفاً يبعث في الأفق الطربْ

يا له من شاعر هز البقاع

حين حيا بالنشيد المقتضب

والعصافير على أشجارها

صادحات بأفانين الغناءْ

أي روح حل في أوكارها

فأشاع البشر فيها والصفاء

وخوار وثغاء وبغامْ

باديَ البهجة في كل مكانْ

هي موسيقى نشوز وانسجام

تُبعث الدنيا بها في مهرجان

ونباح الكلب من خلف الغنمْ

في انتباهٍ ومراح واقتحامْ

هزه الوجد وأشجاه النغم

فجرى في نشوة بين الزحام

منظر في الريف يستهوي الْجَنانْ

أين منه ضجة في المدنِ

كل ما فيه جمال وحنان

خالد الحسن خلود الزمن

وترى الفلاح رحب المنكبيْن

باسطاً كفيه مثل الباشقِ

يرمق الزرع بعين أي عين

وفؤاد كفؤاد العّاشق

هو في الحقل عزيز الجانب

وله فيه مضاء وأملْ

ليس يغري بنعيم كاذب

أو يرى حِلف خمول وكسل

فأسه تنبض في قبضته

وهي في الحق حديد وجمادْ

عزمه الصادق في حدته

بعث القوة فيها والجلاد

يبذر الحب ويرجو الثمراتْ

في رضاء ووقار خالب

حيثما سار يبث البركات

وهو يسعى في مشوح الراهب

فإذا الأرض سرى فيها النماءْ

وكساها بالقشيب النَّضِر

ص: 33

خالج النفس صفاء وبهاء

وتجلت فتنةً للنظر

فتنة لا بل ضياء وهدى

وجمال جل في إتقانه

ذلك المخضلُّ من تحت الندى

كم أراح القلب من أشجانه

لو رأيت القطن في بهجته

وهو يختال على الغصن المديدْ

قلت حلم الصب في نشوته

يتوشى كل يوم بجديد

وكأن القمح في رَأْد النهارْ

يتراءى في شذور الذهبِ

لجة الماء يغُشّيها النضار

وتحلى من شعاع المغرب

والسواقي من قريب وبعيدْ

صادحاتُ بالمياه الجارية

يتغنى خلفها طفل سعيد

مستظلاً بالغصون الساجية

وبنات الريف يحملن الجرارْ

في دلال يكتسي بالخجل

هن للقرية زين وفخار

وعليهن صلاح المنزل

حبذا الزوجة تصفي ودها

وتؤاسي الزوج بالقلب الأمينْ

تحلب الشاة وترعى ولدها

وهي في الحقل له نعم المعين

خُلق يورق في ظل الربى

ويروَّي من معين لا يشابْ

هو والنبت ونفحات الصبا

فطرة تذكو بأرواح عِذاب

أيها الريف زهت فيك الحياة

وتجلت صنعة المقتدرِ

كلما حدثت قلبي بمناه

راعني فيك جمال الذِّكرْ

فإذا النفس تولاها الكرى

ومضت تغفل عن دنيا الزحام

لحتَ في الخاطر حلماً مزهرا

يتلاقى الصفو فيه والسلام

محمد طاهر الجبلاوي

ص: 34

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد

أشكر لك أيها الأستاذ الجليل بيانك الجيد عن الشعر المرسل، ولكني ما زلت ألح على ثقافتك الممتازة واطلاعك الواسع وشاعريتك السامية العالية ألا تؤثر على هذه الدعوة التي أدعو بها الشعراء كي يقوموا بتجاربهم في هذا اللون من ألوان الشعر قبل أن يحكموا عليه بمنافاته للذوق وعدم انسجامه وموسيقى الشعر لعربي؛ فهذه هي الاعتراضات نفسها التي صرح بها النقاد في إيطاليا في وجه ترسينو، وفي إنجلترا في وجه مارلو، وفي كل مكان في وجه الذين حاولوه المحاولة الأولى. . . التجربة وحدها هي التي تثبت صلاحية هذا الشعر أو فساده. وقد عرضنا - وسنعرض نماذج من شعر الأستاذ أبي حديد - وهي نماذج متوسطة، من نظم رجل لم يشتهر بالشعر، ولم يمارسه ممارسة المنقطعين للنظم، وهي مع ذاك لا تسف ذلك الإسفاف الذي يجعلها تنبو في الذوق، أو تصدم الأذن الموسيقية، فما بالك لو كان لدينا اليوم نماذج من هذا الشعر، وعلى الأسس التي ابتكرها أبو حديد، من نظمك الشائق الممتاز، أو من نظم مطران أو محرم أو الكاشف أو الجارم أو علي طه أو رامي أو ناجي أو الجبلاوي أو شيبوب، أو من نظم شعرائنا الشباب محمود حسن إسماعيل أو غنيم أو الصيرفي أو عتيق أو بخيت أو البحيري أو قطب أو فهمي أو العجمي أو جودت أو البشبيشي أو محفوظ أو فتحي أو الوكيل. . . إلى آخر هذا الثبت الطويل الذي تعتز به مصر الحديثة من شعرائنا الشباب والشيوخ على حد سواء. . . أظنك تتفق معي أيها الأستاذ الجليل على أن التجربة وحدها هي التي تكفل لنا الحكم الصادق على صلاحية هذا الشعر أو عدمها، وأن التجربة التي قام بها أبو حديد إنما ينبغي أن يقوم بها شعراء أقوى - ولن يضير أبا حديد هذا القول - شعراء مارسوا الشعر وامتازوا بالأسلوب القوي والديباجة المصقولة، شعراء يستطيعون أن يمنحونا هذا ال كما منحه مارلو وكما منحه شكسبير للأمة الإنجليزية

ونحن لا نرى أنه من اللازم اللازب أن يكب شعراؤنا على هذا اللون وحده من الشعر، في نظم الملاحم والمطولات، إذ يكون هذا هو التعسف بعينه، فقد تكون المقطوعات أو ال أجمع للرواية وللموسيقى من الشعر المرسل، خصوصاً إذا قام بنظمها الشاعر الفحل

ص: 35

الممتاز؛ لكننا مع ذاك لا نستطيع أن نغض من قيمة الشعر المرسل المتدفق الذي انتشر في لغات الأرض قاطبة إلا في اللغة العربية مع الأسف الشديد. وأحب أن أؤكد للشعراء أنه لا اللغة العربي ولا طبيعة الشعر العربي هما السبب في عدم إساغتنا لهذا الشعر. بل السبب الحقيقي هو أننا لم نجد التجارب الجيدة فيه، التجارب التي يحسن أن يقوم بها كبار شعرائنا لا (متأففين) ولا مستنكرين

وبعد، فأنا أعيذ العقاد العظيم من أن يكون سبباً في انصراف شعرائنا عن محاولة القيام بتجاربهم في الشعر المرسل، بل أعيذه هو من أن يصر على الانصراف عن هذا الشعر.

دريني خشبة

حول أصل الحضارة اليونانية

عرض الدكتور زكي مبارك عند حديثه عن كتاب (قادة الفكر) لمناقشة الرأي القائل بأن (الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان). وقد انتهى الدكتور من حديثه إلى تقرير أن (الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية)؛ وهذه النتيجة التي انتهى إليها، وأن كانت صحيحة على وجه العموم، إلا أنها تحتاج إلى شيء من الإيضاح

أما بيان ذلك فهو أن أرسطو قد أرجع أصل الفلسفة إلى اليونان حين قرر أن طاليس هو الفيلسوف الأول الذي نشأت على يديه (في القرن السادس قبل الميلاد) أول فلسفة عرفها التاريخ؛ ولكن ذيوجانس اللائرسي - وهو من المؤرخين اليونانيين - عارض في هذا الرأي، فتحدث في مقدمة كتابه الموسوم باسم (حياة الفلاسفة) عن وجود فلسفة سابقة للفلسفة اليونانية عند الفرس والمصريين. وعلى ذلك فإن مشكلة أصل الفلسفة قد اختلف فيها من قديم الزمان، وتبعاً لذلك فقد تساءل الباحثون: هل كانت الفلسفة شيئاً استحدثه اليونان أم تراثاً انتقل إليهم من (البرابرة)؟

بيد أن النتائج التي انتهى إليها الباحثون أخيراً قد رجحت الرأي الثاني، إذ أن الكشف عن وجود حضارات سابقة للحضارة اليونانية، كالحضارة العراقية (فيما بين النهرين) والحضارة المصرية، والتحقق من أن مدن أيونيه - وهي مهد الفلسفة اليونانية - قد كانت

ص: 36

على اتصال بهاتين الحضارتين؛ كل هذا قد ساعد على ترجيح الرأي القائل بأن الشرق هو أصل الحضارة اليونانية. ولا يمكن أن يكون التشابه القائم بين قول طاليس بأن الماء أصل الأشياء وبين العبارات الواردة في فاتحة (قصيدة الخلق) التي كتبت في العراق قبل ذلك بقرون كثيرة، راجعاً إلى مجرد الاتفاق والصدفة. هذا إلى أن البحوث المتأخرة في الرياضيات وتاريخ نشأتها، قد تأدت بالباحثين إلى نتائج مماثلة: إذ أن جاستون مليو في كتابه: (دراسات جديدة في تاريخ التفكير العلمي) قد انتهى إلى القول بأن (المواد التي استطاع الشرقيون والمصريون أن يجمعوها في الرياضيات، كانت بلا شك أكثر أهمية وأوفر غنى مما كنا نتوهم منذ نحو عشر سنين). وفضلاً عن ذلك فإن علماء الاجتماع الذين قاموا بدراسة (العقلية البدائية) قد وجدوا في الفلسفة اليونانية آثاراً تدلنا على أن المذاهب الفلسفية الأولى لليونان لا يمكن بحال ما من الأحوال أن تكون بدائية أولية، وعلى ذلك فإنها لا بد أن تكون صورة مهذبة ناضجة لتفكير أكثر من ذلك عراقة وقدما. وإذن فإن من المرجح أن تكون الفلسفة اليونانية قد نشأت عن أصل شرقي، وأن يكون الفلاسفة اليونانيون الأولون منظمين ومعدلين، لا مخترعين ومبتدعين

زكريا إبراهيم

حياة مي: للأستاذ محمد عبد الغني حسن

بين يدي الآن كتاب (حياة مي) دفعه إلى الأستاذ فتح الله صقال، لأنظر فيه، وأكتب

فتحت الكتاب لأقرأ (الآنسة مي) والفهرس، ثم أطبقه إلى أن تتاح لي فرصة لقراءته، فلما قرأت ترجمة الآنسة مي شاقني ما بعدها، وقادني حسن البيان، وسلاسة العبارة من صفحة إلى أخرى حتى رأيتني أفرغ له فلا أدعه حتى أتمه، ولا أتمه حتى أهم بالكتابة عنه، ولا أهم بالكتابة حتى يمضي بي الفكر إلى غايته. ولشد ما رغبت لو طال الحديث عن مي ليطول استمتاعي بتلك اللذة الساخرة التي لا يظفر بها المرء إلا في أمثال هذه الآثار الأدبية التي لا يحس المرء في تلاوتها ضجراً ولا تعباً.

لقد جنيت من هذا الكتاب ثمراً حلواً وظفرت منه بمتاع قيم، ووجدت فيه لنفسي غذاء كما وجدت في نفسي ترويحاً وعليها ترفيهاً. وأحب أن يشاركني القراء في هذه المتعة القوية.

ص: 37

فالكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقة وأسلوبه

أما موضوعه فمن أحب الموضوعات إلى النفس لأنه يبحث عن (حياة مي). وأنا أحب مياً وأكلف بها، وأحب التحدث عنها والاستماع للذين يتخذونها موضوعاً للحديث حين يخوضون من حياتها وأدبها. فهي من الشخصيات الجديرة بالدراسة حقاً من حيث أنها غذت نهضة الفكر العربي، والنهضة النسائية مدى ربع قرن، فكان لها في كل موضوع رأي، وفي كل مكتبة أثر

وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فأسلوب أدبي قوي لا عوج فيه ولا التواء، ينساب في كثير من المواضع كالجدول الصافي. ولا ريب أن الأستاذ محمد عبد الغني حسن، قد بلغ أقصى ما أراد في الجهة التي اختارها أو اختارها له (المقتطف) شيخ المجلات العربية الذي يحسن أن نشير إلى ما كان بينه وبين الأديبة النابغة من مودة وثيقة دامت ردحاً من الزمن، فلا عجب إذا تولى المقتطف إخراج هذا الكتاب وفاء لصديقته وقياماً بالواجب الأدبي نحو إنتاجها الفني. وقد استوعب الكتاب ترجمة مي وثقافتها ومحافظتها على الروح الشرقية، وعطفها على الحياة الإنسانية، واحترامها للشرائع السماوية، وحبها للغة العربية، وطريقتها في الكتابة النثرية، وجهودها في النهضة النسائية، وتأسيس ندوتها الأدبية، وكل ما اتصل بحياة مي الثقافية من الأحاديث والأخبار التي حصل عليها الأستاذ محمد عبد الغني حسن، من قادة الفكر في مصر كدليل على صدق خدمتها للأدب ورفيع مكانتها في النهضة

لذلك أرى أن القارئ يصيب من مطالعة هذا الكتاب غرضين، معرفة الآنسة مي، والوقوف على آراء الأدباء والشعراء فيها. وكلاهما جليل الخطر، عظيم الأثر. وهو أثناء ذلك يستمتع بتلك الروح العذبة تطالعه من بين السطور، وروح الآنسة مي، تشع بالنور، وتنضح بالعطر. وتنبض بالحياة

جزى الله الكاتب الفاضل خير ما يجزى به العامل المخلص على جهده وتوفيقه. والشكر الجزيل للمقتطف على عنايته بتقديم هذا المجهود الأدبي إلى الأدب العربي الذي لا يستغني عنه أديب.

(حلب - سوريا)

ص: 38

صبحي العجيلي

ص: 39