الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 543
- بتاريخ: 29 - 11 - 1943
وجهات نظر
للأستاذ عباس محمود العقاد
كانت الملاحظات التي أبداها النقاد على كتابي (عبقرية الإمام) قليلة فيما كتب عنه حتى الآن
وأقل منها الملاحظات التي تشتمل على وجه نظر في التاريخ أو التحليل النفسي تقوم على الدرس وتستحق المناقشة
ومن هذه ملاحظات الزميل الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك في كلمته الموجزة بصحيفة (الثقافة)
وخلاصتها:
1 -
أنني اعتمدت على بعض الروايات من غير كبير نقد، كاعتمادي على رواية نهج البلاغة في وصف الخفاش والطاووس ونحو ذلك
2 -
وأنني اعتمدت على ما روي في حديث سوءة عمرو ابن العاص، وهي رواية لم يقرأها الأستاذ الفاضل في الطبري ويذكرها المؤرخون الإثبات بصيغة (التمريض). فيقول المسعودي: وقد قيل في بعض الروايات، ويشير إليها ابن عبد البر في الاستيعاب فيقول. . . (فيما ذكروا) وكلها عبارات تدل على التشكيك
3 -
وأن تقسيم الكلمة الذي نسب إلى الإمام في علم النحو أشبه بالتقسيم المنطقي اليوناني. وهذا كله ناب عن طبيعة العصر
4 -
وعلى الجملة كنت في (العبقريات) السابقة فناناً وقاضياً فمضيت في كتابي هذا على نهج أقرب إلى نهج المحامي والفنان، فتعرضت للدفاع عن الإمام في مواقف النزاع أكثر مما تعرضت لرسم شخصيته. ولعل جو الكتابة في علي نفسه قضى بذلك، لأنه حياته السياسية كانت نزاعاً لم ينته حتى بالموت
وهذه الملاحظات كلها يصح أن تلخص في أمر واحد وهو اختلاف مقياس الترجيح والنفي والإثبات
وخلاصة هذا المقياس عندي هو أن نجزم بدليل قاطع أو ننفي بدليل قاطع، وأما الترجيح فالمعول في قوته وضعفه على مشابهة القول المرجح للمعهود والمعقول، فإن كان هذا القول
مشابهاً لهما فلا ضير من الأخذ به على أية حال، كأن نعلم أن فلاناً رجل محسن فلا يضير بعد ذلك أن يقال إنه أحسن بدينار في يوم من الأيام، وهو في ذلك اليوم نفسه لم يحسن بدينار ولا بدرهم، أو يقال إن آخر لص معروف فلا يضير أن يتهم بسرقة رجل بعينه وهو لم يسرق منه بل سرق من رجال آخرين
وعلى هذا المقياس نرجع إلى اختلاف وجهة النظر بيننا وبين الأستاذ الفاضل في موضوع الملاحظات التي أبداها، فلا نرى أننا تجاوزنا القدر اللازم من الترجيح، أو أننا قررنا شيئاً يحتاج تقريره إلى برهان أقوى من البرهان الذي اعتمدنا عليه
فأما نهج البلاغة فقد تشككنا في نسبة بعضه إلى الإمام كما تشكك غيرنا من قبلنا، ودعانا إلى الشك في تعض عباراته كما قلنا في عبقرية الإمام (. . . غلبة الصيغة الفلسفية عليها وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات)
ولكن لا يدخل في هذا ما جاء في نهج البلاغة من الكلام على الطاووس والخفاش وما إليه، لأنه لا يشتمل على شيء يستغرب صدوره من الإمام علي أو يستغرب صدوره من العصر الذي عاش فيه
لأن الإمام علياً عربي أصيل، والعرب مشهورون بوصف الأحياء الآبدة والأنيسة التي رأوها، ولهم في الخيل والإبل وبقر الوحش والظباء والكلاب والطير أوصاف لا يدق عنها دقيق من خلائق تلك الأحياء
ولأن الإمام علياً مسلم فقيه دارس للقرآن، والمسلمون مأمورون بالنظر في خلق الله، ولا سيما الفقيه الدارس المطيل للدراسة
ولأن الإمام علياً عرف بالنزعة الصوفية التي جعلت كثيراً من علماء الكلام ورجال الطريق ينسبون أنفسهم إليه
ولأن العبارات التي وصف بها الخفاش والطاووس في نهج البلاغة لا تنافر بينها وبين عبارات الإمام أو عبارات عصره
فترجيح نسبتها إليه لا ضير فيه
وإذا بطلت نسبتها إليه بطلاناً جازماً - وهي لم تبطل قط - فالحقيقة المعهودة المعقولة باقية كما كانت قبل نسبتها إليه، وهي أنه كان ينظر في خلق الله وينزع في تأمله نزعة المتصوفين
أما حديث سوءة عمرو، فقد رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد الفريد، ورواه الذين ذكرهم الأستاذ الفاضل بصيغة التمريض
فإبطال هذه الروايات إنما يقوم على تنافر بين العمل وبين طبيعة عمرو بن العاص أو طبيعة علي بن أبي طالب
ولا تنافر بين العمل وبين طبيعة الرجلين
فعمرو بن العاص في عنفوان شبابه سمع رجلاً يطلب قبلة من امرأته فحقد عليه وأضمر الكيد له، ولكنه لم يمنعها أن تقبله بل أمرها بذلك قائلاً:(قبلي ابن عمك) ثم انتقم منه بعد أن خرج من المأزق الذي كان فيه
فليس بمستغرب من معهوده ومعقوله أن يخرج من مأزق الموت في وقعت صفين بمثل تلك الحيلة، وقد بلغ الشيخوخة التي تهدأ فيها عرامة النفوس
وليس بمستغرب كذلك من الإمام أن يعرض عنه، لأنه كان لا يتبع مولياً ولا ينظر إلى عورة، وكان ينهى جنده أن يتبعوا المولين ويهتكوا العورات
وليس بناقض لهذه الروايات أن الطبري لم يحفل بها ولم يثبتها، لأن الطبري في تاريخ عمرو بن العاص خاصة مخل أيما إخلال. وقد نبه إلى هذه الحقيقة كتاب بطلر الذي طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر فقال بحق:(. . . ولكن من أكبر ما يدعو للأسف أن كتابه ناقص نقصاً عظيماً في أخبار فتح مصر، فإن روايته في ذلك قليلة قلة شديدة، وزيادة على قلتها قد دخلها خلط كبير في كل ما يتعلق بوصف البلدان وتواريخ الحوادث وذلك يدعو إلى كثير من التضليل)
فليس الطبري بالمرجع الوافي المقنع في تاريخ عمرو وما ينسب إليه، لأنه قليل الاحتفال بمعظم تفصيلات هذا التاريخ
ونعود إلى قاعدتنا في القياس الترجيح فنسأل: ترى لو لم يثبت حديث الرواة في هذه المسألة فماذا يبطل من صفاتنا للإمام؟
إننا جئنا بها مع غيرها للدلالة على نخوة الإمام
ونخوة الإمام صفة ثابتة له على كل فرض من الفروض التي تحوم حول هذه الرواية
فهي إذن شيء لا يجزم بنفيه
وهي إذا جزم بنفيها لا تغير الحقيقة النفسية التي أثبتناها للإمام أقل تغيير
وقد عرضنا نحن لرواية من قال إن الإمام علياً وضع أساس علم النحو فقلنا: (. . . وتواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولاً منها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف. . . إلى آخر ما جاء في تلك الرواية
والى هنا نحن نقرر الواقعة التاريخية ولا نزيد عليها، لأن المتواتر في كتب العرب هو هذا بلا مراء
ثم نعقب في عبقرية الإمام فنقول: (وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية ولا سيما السريانية واليونانية)
إلى أن نقول: (ولا يمنع عقلاً أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم التي كانت تخشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية)
وفي اعتقادنا أن الحد الذي وقفنا عنده هو الحد المأمون في الشك والترجيح، وليس لنا أن نقول غير ما قلناه بغير دليل قاطع من الأسانيد الصحيحة
أما إذا اعتمدنا على المقاربة الترجيحية فالسريان أقرب إلى اللغة العربية والى الكوفة من اليونان، ومذاكرة الإمام لعلمائهم أقرب من مذاكرته لعلماء اليونان. ومن شاء بعد ذلك أن ينفي الروايات المتواترة نفياً قاطعاً فعليه الدليل
هذه أمثلة لمقياس الترجيح والتشكيك عندنا في مختلف الروايات وهو على ما نعتقد المقياس الوحيد المأمون؛ لأن الرواية التي نشك فيها لا تبطل شيئاً من الآراء التي نقررها سواء مضينا بالشك إلى التأييد أو إلى التفنيد. وليس لنا أن نتجاوز الشك إلى الجزم بغير برهان وثيق وسفد لا مطعن فيه
وبعد فإننا نوافق الأستاذ الزميل على أننا قد اتخذنا موقف المحامي عن الإمام في كتابنا عن عبقريته، وأن جو الكتابة هو الذي قضى علينا باتخاذ هذا الموقف، لأن النزاع حول علي يوجب التعرض لوجوه هذا النزاع، كما يوجب إنصافه مما قيل فيه
ولكننا لا نوافقه على أن الدفاع يمنع (رسم الشخصية) على الوجه الأمثل، لأن تصحيح الأقوال التي يوصف بها رجل من الرجال هو المقدمة الأولى لتصحيح صفاته والتعريف بحقيقة شخصه، وليس من اللازم أن يكون حكم القضاء مخالفاً لبرهان الدفاع. بل كثيراً ما يعتمد عليه وينقله بنصه ويبطل كل ما عداه
وإن من الحق علينا لزميلنا الكبير أن نشكر له ملاحظاته القيمة، لأن الملاحظات التي تصدر عن وجهة نظر هي جلاء لوجهة نظرين بل لوجهات أنظار، ومنها الفائدة التي يبتغيها النقاد والقراء والمؤلفون.
عباس محمود العقاد
مسابقة الأدب العربي
البهاء زهير
للدكتور زكي مبارك
تمهيد
ينص منشور وزارة المعارف على أن المتسابقين يمتحنون تحريريا في الكتب الآتية:
1 -
ديوان البهاء زهير وديوان علم الدين المحيوي
2 -
كتاب أخبار أبي تمام للصولي
ومعنى هذا أن الديوانين الأولين جعلا في حكم الكتاب الواحد، لأنهما لشاعرين عاشا في عصرٍ واحد وفي بيئة واحدة، ولأنهما يقتربان في المنازع الشعرية بعض الاقتراب، وسنعرف هذه الشؤون حين نوازن بينهما في الأحاديث المقبلات
حياة البهاء زهير
للأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق بحث جيد عن (البهاء زهير)، وفي ذلك البحث كلام مفصل في حياة الشاعر، فمن الواجب أن يرجع الطلبة إليه، وهو يوجد في مكتبات المدارس الأميرية. وإنما أشير بالرجوع إلى هذا البحث، لأنه أوفى ما كتب في ترجمة البهاء زهير، ولأن الاطلاع عليه يقدم إلى الطلبة فوائد أدبية وتاريخية لا يظفرون بمثلها إلا بعد عناء
ومن طريف الحوادث أن وزارة المعارف كانت رأت توزيع هذا البحث على تلاميذ المدارس الثانوية، ولكن ناساً من أهل الإسكندرية ثاروا وطالبوا بسحه من مدارس البنات، بسبب قطعة وردت فيه، وهي أبيات من شعر البهاء تشبه ما يسمونه الأدب المكشوف، مع أنها لا تستوجب العنت في اللجاج، ومع أنه في كتاب عرف مؤلفه بالحرص على مراعاة الذوق في الكتابة والحديث
رأى الدكتور طه حسين
حين أظهر الشيخ مصطفى بحثه عن البهاء تفضل وأهداني نسخة، فحدثت الدكتور طه في تلك الهدية فقال: لقد أتعب الشيخ مصطفى نفسه في غير طائل، لأنه البهاء زهير لا
يستحق هذا المجهود، ولن يكون من أعلام الشعر بأي حال، فمن الظلم أن نحله ذلك المكان
قلت: ولكن البهاء زهير تفرد بالرقة بالتعبير، وتلك ظاهرة أدبية تستحق الالتفات
فقال لدكتور طه: الشعر العربي مظلوم من هذه الناحية، فالوعورة لا تغلب إلا على الشعر الجاهلي والشعر الأموي، ثم غلبت السهولة بعد ذلك على أكثر الشعراء
القول الفصل
هو القول الذي نطق به التاريخ الأدبي، فقد ثبت أن ديوان البهاء زهير ظفر بقبول لم يظفر به ديوان، فقد طبع عشرات المرات في مصر وفي غير مصر، وترجم شعراً إلى اللغة الإنجليزية منذ زمان، وقال مترجمه إنه قريب الروح من شعراء الإنجليز في القرن السابع عشر، ومعنى ذلك أنه انتقل من الصبغة المحلية إلى الصبغة الدولية، وهذا مغنم ليس بالقليل
والواقع أن في شعر البهاء نفحة عطرية لا نجدها عند أكثر الشعراء، فقد كان مرهف الإحساس إلى ابعد الحدود، وكانت قدرته على التعبير قدرة عاتية، لأنه استطاع أن يعبر عن جلائل المعاني بعبارات هي غاية في اللطف والإيناس
مشكلة المشكلات
هي مشكلة التعبير، ويعز على أن أقرر أن هذه المشكلة سيطرت على تأريخ الأدب العربي، ولم تظفر إلى اليوم بما تستحق من الحلول
ومرجع هذه المشكلة إلى اعتبار الجزالة أساس البلاغة في لغة العرب، فالكلام الجزل هو الكلام البليغ، الكلام الجدير بالانتساب إلى العرب الصرحاء
أما الكلام الرقيق فهو من أفانين المولدين، لأن الحضارة هي التي أوحت بالرقة واللطف، ولهذا استباح الدكتور طه أن يرتاب في كل شعر رقيق ينسب إلى العصر الجاهلي، كما تشهد نصوص كتابه الذي أثار الناس قبل سنين
وأقول بأن الدكتور طه لم يفطن إلى مقامات الكلام عند شعراء الجاهلية، وهي مقامات لا تعترف بوحدة الأسلوب، وإنما تلون الأساليب وفقاً لما توحي به شجون الأحاديث، فترى الجزالة هنا وترى الرقة هناك
وفي القرآن شواهد على صحة هذا القول، فهو يؤثر الرقة في مقام الوعد، ويؤثر الجزالة في مقام الوعيد، ونثر القرآن نثر جاهلي، كما بينت ذلك في كتاب (النثر الفني)، لأنه نزل على العرب وهم جاهليون لا إسلاميون
لحظة مع الشيخ مصطفى عبد الرازق
هي لحظة قصيرة أتعالم فيها عليه، لأزعم أني أعرف من أسرار البلاغة أكثر مما يعرف، وهيهات ثم هيهات!
هذا الشيخ صورة من أدب النفس، والتحامل عليه لا يليق،. لأنه يرحب بهجومي عليه، ويسره أن أسجله في أي ميدان، وأنا سأشرح صدره فأقدم إليه فائدة بلاغية لم تخطر في باله عند تأليف الكتاب
لقد نص في كتابه على أن الرقة في شعر البهاء زهير هي الطبع، وأن الجزالة هي التطبع، وأن البهاء لم يؤثر الجزالة إلا في الظروف التي يحاول فيها منافسة خصومه من أعيان الشعراء
وأقول بأن الجزالة في شعر البهاء قضى بها الطبع لا التطبع لأنه من وحي المقام لا من وحي التكلف، وإلا فما الذي يريد الشيخ مصطفى أن يقول البهاء وهو يذكر انتصار الملك الكامل، وإجلاءه الإفرنج عن ثغر دمياط؟
هل كان ينتظر أن يصطنع لغته في الغزل، اللغة التي يرق بها فيقول:
سِّلمْ عليّ إذا مرر
…
تَ فلا أقلّ من السلامِ
الغدر في كل الطبا
…
ع فلا أخصّك بالملام
ما أكثر العذّال في
…
ولهي عليك وفي غرامي
هَبْني كتمتهمُ هوا
…
كَ فكيف أكتمهم سقامي
هذه لغة في رقة الخد الأسيل، وهي هنا مقبولة لأنها أشبه بمناغاة الحبيب للمحبوب، ولكنها لا تصلح للتعبير عن اصطخاب القلوب عند انتزاع ثغر دمياط من أوشاب المغيرين
أمن التكلف أن يقول البهاء في مدح الملك الكامل:
بك أهتز عِطف الِّدين في حُلَل النصر
…
ورُدَّت على أعقابها مِلّة الكفرِ
وليلةِ غزوٍ للعدو كأنها
…
بكثرة من أرديته ليلة النحر
فيا ليلة قد شرَّف الله قدرها
…
ولا غرو إن سميتها ليلة القدر
سدَدْتَ سبيل البر والبحر عنهمُ
…
بسابحةٍ دُهْمٍ وسانحةٍ غُرِّي
أساطيل ليست في أساطير من مضى
…
بكل غرابٍ راح أفتك من صقر
وجيش كمثل الليل هولاً وهيبةٌ
…
وإن زانه ما فيه من أنجم زُهرِ
وكل جوادٍ لم يكن قطّ مثله
…
لآل زهير، لا، ولا لبني بدر
وباتت جنود الله فوق ضوامر
…
بأوضاحها تُغنِي السُّراة عن الفجر
كفى الله دِمياط المكاره إنها
…
لَمِن قبلة الإسلام في موضع النحر
وما طاب ماء النيل إلاّ لأنه
…
يحلّ محل الريق من ذلك الثغر
فهذا الشعر يراه مصطفى باشا مجاراة للقدماء، لغلبة الجزالة عليه. ولكن الواقع أن الجزالة هنا ضرورية، لأن المقام لا يسمح بالرقيق
وعند مراجعة القصائد الموسومة بالجزالة نرى مقامات الكلام هي التي فرضت على الشاعر أن يختار الجزل، وهذا من دقائق الصناعة الشعرية، فلا موجب للحكم بأنه يخرج على الطبع ليساير القدماء
ولنذكر مثالاً ثانياً من الجزل هو قوله في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب:
ولقد سعيت إلى العلاء بهمةٍ
…
تقضي لسعي أنه لا يُخفق
وسريتْ في ليلٍ كأنّ نجومهُ
…
من فرط غيرتها إليَّ تحدَّق
متى وصلتُ سرادق الملِك الذي
…
تقف الملوك ببابه تسترزق
فإليك يا نجم السماء فإنني
…
قد لاح نجم الدين لي يتألق
الصالح الملِك الذي لزمانه
…
حُسْنٌ يتيه به الزمان ورونق
ملأ القلوب مخافةً ومحبةً
…
فالبأس يُرهَب والمكارم تعشق
فعدلت حتى ما بها متظَّلمٌ
…
وأنلت حتى ما بها مسترزقُ
يا من رفضتُ الناس حين لقيتهُ
…
حتى ظننت بأنهم لم يُخلقوا
قيدتُ في مصرٍ إليك ركائبي
…
غيري يغرِّب تارةً ويشرِّق
وحللت عندك إذ حللت بمعقلٍ
…
يُلقى إليه ماردٌ والأبلق
وتيقّنَ الأقوام أنيَ بعدها
…
أبداً إلى رُتب العلا لا أُسبق
فرُزقت ما لم يُرزقوا، ونطقت ما
…
لم ينطقوا، ولحقت ما لم يلحقوا
فما عيب هذا المديح حتى يقال أنه دون سائر فنون البهاء في الطرافة والإبداع؟
وحب أن أذكر مثالاً ثالثاً يؤكد ما قصدت إليه من أن الجزالة في شعر البهاء طبع لا تطبع، لأن المقام يوجبها كل الإيجاب.
قال في مدح الملك الناصر يوسف:
ومذ كنت لم ترضَ النقيصةَ شيمتي
…
ومثلُك يأباها لمثلي ويأنف
ولا أبتغي إلا إقامة حرمتي
…
ولست بشيء غيرها أتأسف
ونفسي بحمد الله نفسٌ أبيةٌ
…
فها هي لا تهفو ولا تتلهف
ولكنَّ أطفالاً صغاراً ونسوةً
…
ولا أحدٌ غيري بهم يتلطف
أغار إذا هبّ النسيمُ عليهمُ
…
وقلبي لهم من رحمة يترجّفُ
سروريُ أن يبدو عليهم تنعُّمٌ
…
وحزنيُ أن يبدو عليهم تقشف
ذُخرت لهم لطف الإله ويوسفاً
…
ووالله لا ضاعوا ويوسف يوسف
أكلِّف شعري حين أشكو مشقةً
…
كأني أدعوه لما ليس يُؤْلَف
وقد كان معتاداً لكل تغزّلٍ
…
تهيم به الألبابُ حسنا وتُشغف
يلوح عليه في التغزل رونقٌ
…
ويظهر في الشكوى عليه تكلف
وما زال شعري فيه للروح راحةٌ
…
وللقلب مُسلاةٌ واللهمْ مصرف
يناغيك فيه الظبي والَّظبي أحورٌ
…
ويُلهيك فيه الغصن والغصن أهيف
شكوت وما الشكوى إليك مذلةٌ
…
وإن كنت منها دائماً أتأنف
هذا أيضاً شعر جزل، وهو مع ذلك برئ من التكلف، وإن زعم الشاعر أنه تكلف!
وهل كان يمكن في مثل هذا المقام أن يرق على نحو ما يتفق له في شكوى الصدود؟
لكل مقام مقال، وقد كان البهاء من أعرف الناس بمقامات الكلام.
ولكن ما هي ذاتية البهاء؟ وما حياته في مصر والحجاز؟ وما مركزه بين معاصريه؟ وما وزنه الصحيح في تاريخ الشعر العربي؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في الحديث المقبل والله بالتوفيق كفيل
زكي مبارك
5 - الدكتور طه حسين
والشعر المرسل
اكتشاف عجيب في كتابه الأخير على هامش السيرة (الجزء
الثالث)
للأستاذ دريني خشبة
مصادفة عجيبة. . .
مصادفة وقعت عليها وأنا أقرأ الجزء الثالث من كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين. . .
وقبل أن أسوق للقراء خبر هذه المصادفة أقرر أنني كنت أقرأ طه حسين هذه المرة (بنية سيئة!). . . نية سيئة جداً. . . بل هي أسوأ النيات جميعاً، وليؤول صديقي الفاضل (. . .) هذا الكلام على الوجه الذي يرضيه، فنحن في غنى عن أن نقاسمه أن كلامه الذي كتبه عنا بصدد شهرزاد لم يكن السبب في نقدنا للمستشار الفني، وصاحب كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) حين أخذنا عليه عدم اهتمامه بإحياء الترجمة في مصر، أو بتنشيطها على الوجه الأكمل الذي تقتضيه نهضتنا، برغم ما أثبته في كتابه الذي ذكرنا من أن كل نهضة فكرية أو أدبية تحاول إيجادها في مصر خاصة، وفي الشرق العربي عامة، إنما ينبغي أن تقوم قبل كل شيء على الترجمة. . . لما كتبنا ذلك لم يهتم الدكتور ولم يلق باله. . . ومع أن اللهجة التي كتبنا بها كانت مما يحتمل أن يؤاخذ عليها كاتبها في ظروفه الخاصة التي تشبه ظروفنا، فإن الدكتور أغضى ولم يحفل بشيء، وإن يكن قد شرع يمد إدارة الترجمة بوزارة المعارف بالأذكياء المقتدرين الأكفاء. وقد خيل إلينا أن الدكتور لم يقرأ ما كتبناه، فهيأ لنا غرورنا (والعياذ بالله!) أن عدم القراءة أوجع لنا من القراءة مع الإغضاء. . .
لهذا، أو لبعضه، قلت إنني كنت أقرأ الجزء الثالث من هامش السيرة بنية سيئة جداً. . . نية الناقد الذي تأثر بطريقة النقد الحديثة في مصر. . . النقد الذي يتسقط الهفوات، ويعد الغلطات، ويحصى الهنات. . . النقد الذي لا يملك أعصابه، بل يرسلها في ما ينقد إرسالاً. . .
ومضيت في القراءة. . .
فهذه عشرون صفحة ليس فيها شيء! أقصد أن ليس فيها هفوات ولا غلطات، ولا هنات هينات! وإن كان كل ما كتب فيها كان حسبه من هذه الصفحات العشرين عشر صفحات أو خمس عشرة صفحة. . .
لا. . . ليس هذا عيباً. . . لأنك إن عددته عيباً فستضحك منك قراءك. . . ابحث عن شيء آخر. . . فالأسلوب جميل خلاب، والقصص مسترسل رائع، وحسب هذه الصفحات العشرين أو الثلاثين ما فيها من ذاك جميعه، فذاك جميعه هو الأدب. . . والأدب القصصي بنوع خاص
ما هذا؟ الدكتور طه حسين ينطق ناساً من عرب الجاهلية بما هو من القرآن، أو ما يقرب أن يكون من القرآن، ولما ينزل القرآن بعد؟! ما هذا الذي يقوله نسطاس لورقة بن نوفل: وظل الصبي يتيما عائلا ضالا. . . أليس في هذا الكلام (رائحة!) من القرآن في سورة الضحى؟. . . ومثل هذا شائع في الفصول التي تسبق مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. . . وعلى ذكر صلى الله عليه وسلم هذه. . . لماذا آثر الدكتور أن يختصرها هذا الاختصار الذي يذهب بجمالها. . . (تلك الكلمة حلوة المجرى على اللسان، حسنة الموقع في القلب، خالدة في الدهر ما بقي الدهر)! لماذا يختصرها الدكتور هذا الاختصار صلعم؟ لماذا لا يقولها كما يجب أن تقال عظيمة كريمة رخيمة! كما قالها بعد ذلك مرتين أو نحوهما
لا. لا. . . ولا هذه أيضاً. . . إنما يجب أن تترك فصل نسطاس وورقة فلا تعيبه بشيء، لأنه من أروع فصول هذا لجزء الثالث، وإن يكن أروع منه هذا الفصل الذي انعقدت فيه أواصر الصداقة بين عمرو بن هشام - أو أبو جهل كما سوف يذكر لك - وبين أبو مرة، أو زعيم الأبالسة. . . ونقول أبو جهل وأبو مرة في موضع الجر عامدين كما تعمدهما المؤلف، وندع التأويل لكل قارئ لبيب. . .
بل قل إن أردت أن تنقد الهامش بشيء إن انتقال الدكتور من الرواية إلى التاريخ، ومن القصص الشائق إلى التحقيق العلمي بعد الصفحة الثانية والثمانين هو عمل لا يتفق وما أعلنه وأذاع به من أنه لم يكتب كتابه للمؤرخين. وقل إن الدكتور هيكل قد ذهب بالتحقيق العلمي كما ذهب الدكتور طه بإحياء السيرة وتجديدها، فما باله يحاول أن يكتب للعلماء
الذين لا يصدقون مطلقاً، أن ساق حمزة رضي الله عنه قطرت دماً حينما مستها الفأس خطأ بعد دفنه بسنين عددا. . .؟ ثم هذا الحديث الحلو عن زيد بن حارثه الذي يحيك في الصدر منه شيء غير قليل. . .
ولكن لا. . . فالدكتور لا يكتب للعلماء ولا للتحقيق العلمي ولكنه يقص علينا أحسن القصص وأبرعه وأروعه
إذا. . . فقل إن بالهامش أحاديث مكررة. . . إذ يحدثنا الدكتور عن سيد الشهداء حمزة عم النبي حديثاً حلواً طويلاً (ص 111)، ثم يعود فيحدثنا عن حديثاً طويلاً كذلك، بعبارات هي نفسها عباراته الأولى تقريباً في فضله عن (نزيل حمص) ص 179. وهكذا فعل في غير موضع من هذا الهامش. ولكن كيف تنكر أن هذه حسنة وليست سيئة؛ فالحديث الأول كن أكثره عن حمزة، أما الثاني فأكثره عن وحشي. مع هذا فالحديث عن الرسول وعن وأصحابه هو أعذب ما يتحدث به مسلم لمسلم، ولن يضر الدكتور شيئاً، ولن ينقص من كتابه شيئاً كذلك أن تفيض أعداد (الرسالة) الممتازة بمعظم أنباء ما تحدث إلينا به. إذ حسبنا أننا نقرأها اليوم بقلم طه حسين مبتكر هذا الأدب الديني والقصصي في مصر. . . الرجل الذي برهن بكتابه هذا على أن تصريفه لأمور وزارة المعارف لم يصرفه عن رسالته الأولى التي هي الإنتاج الأدبي القيم، كما وهم من وهم. وحسبه أن يخرج في أقل من سنة كتابين من هذا النسق القصصي الممتاز وأرجو أن يخرج الثالث قبل أن يتصرم العام، وهذا الثالث - إن لاق أن نذيع سراً ائتمننا عليه طه حسين - هو (أضياف شهرزاد)، الذي أوشك أن يفرغ منه، أو هو قد فرغ منه بالفعل. . .
ولكن الكتاب كله يوشك أن ينتهي دون أن تذكر لنا علاقة هامش السيرة بالشعر المرسل. . . فأقول. . . سوف أذكر لك تلك العلاقة بعد أن تتدبر معي هذه الأرقام، وهي التي يتألف منها معظم فهرس الكتاب:
(111 - 125 - 139، ثم 151 - 165 - 179 - 193 - 207 - 221 - 235؟؟)
فإذا قلت وما علاقة هذا بذاك، قلت لك: اطرح أي رقم سابق من أي رقم لاحق من هذه الأرقام، فإنك تحصل على الرقم (14؟) فما معنى هذا؟ أليس يعني أن الدكتور طه يؤلف وفي يده (ترمومتر) وإلا فما معناه أن يستغرق كل فصل من فصول كتابه أربع عشر
صفحة بالتمام والكمال لا يزيد عليها ولا ينقص منها؟! أليس هذا تأليف ميكانيكياً؟ فإن قلت إن هذا ليس من النقد في شيء. . . بل إن هذا هو العبث، وإنك جعلت عنوان مقالك (الدكتور طه حسين والشعر المرسل) وأنت إلى الآن لم تذكر لنا من أمر الدكتور طه حسين والشعر المرسل شيء. . . قلت لك. . . إن هذا هو أسلوب النقد في مصر اليوم، ولن أذكر لك شيئاً من أمر الشعر المرسل في هامش السيرة حتى تقرأ تلك القطعة الشائقة التي أختارها لك لترى رأيك فيها، ولتعترف معي بأن الدكتور طه حسين هو كاتب من أرق كتابنا وأسلسهم، وأقواهم بياناً: إقرأ إذن:
(أقبلت تسعي رويداً رويداً مثلما يسعى النسيم العليل، لا يمس الأرض وقع خطاها، فهي كالروح سرى في الفضاء، نشر الليل عليها جناحاً فهي سر في ضمير الظلام، وهبت للروض بعض شذاها فجزاها بثناء جميل، ومضى ينشر عنها عبيره مستثيراً كامنات الشجون، فإذا الجدول نشوان يبدي من هواه ما طواه الزمان، ردت الذكرى عليه أساه ودعا الشوق إليه الحنين، فهو طوراً شاحب قد يراه من قديم الوجد مثل الهزال، صحب الأيام يشكو إليها بثه لو أسعدته الشكاة، وهو طوراً صاخب قد عراه من طريف الحب مثل الجنون، جاش حتى أضحك الأرض منه عن رياض بهجة للعيون، ونفوس العاشقين كرات يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها ظلمت الليل وضوء النهار.)
هذا يا أخي هو ما أردت أن ألفتك إليه من بيان الدكتور طه، الذي ربما تكون قد سمعت عنه أنه ينظم الشعر، ولكنك لم تقرأ له شعراً قط. . . ومن يدري. . . فربما تكون قد قرأت له شعراً في غير كتاب من كتبه، ولكنك مررت به وأنت لا تدري أنه شعر، كما كنت عسيت أن تقرأ - على هامش السيرة - كله، من غير أن تتنبه إلى أنك قد قرأت فيها شعراً. . . وشعراً مرسلاً. . . هو هذا الشعر الذي نقلناه لك هنا. . . والذي كان السبب في هذه المقدمة التي لم يكن لها (داعي!) كما نقول في كلامنا الدارج. . .
حقيقة لم يكن لمقدمتنا الطويلة التي سقناها (داعي!) مطلقاً. . . فنحن كما يعرف القراء من تلاميذ الدكتور المعجبين به، الأوفياء له. . . وليس حقاً أننا كنا نقرأ على هامش السيرة بسوء نية. . . وليس حقاً أن الدكتور يغضب من أحد إذا نقده في حدود النقد المعقول، فلا يعمد إلى الهنات الهينات فيجعل من (حبتها قبة) أو من نمالها جمالاً. . . ولا يقول كما
تندرنا مثلاً. . . اطرح أي عدد سابق من أي عدد لأحق من هذه الأرقام، فأنك تحصل على الرقم 14 في كل الحالات! فما بال الدكتور طه يكتب عشرة فصول، فلا يزيد على أحدها ولا ينقص عن أربع عشرة صفحة؟ أليس يؤلف الدكتور طه وفي يده ترمومتر؟!
ليس حقاً إذن أي شيء من ذلك كان. . . ولكنا تعمدنا أن نمط هذه المقدمة مطاً، وأن ندس على القارئ هذا النموذج الذي اخترناه له اختياراً جاء عن طريق المصادفة ولم يأت عن طريق العمد. . . أردنا أن ندس هذا النموذج من بيان الدكتور المشرق، وأسلوبه المبين، وعباراته الشائقة. . . فلا يتنبه القارئ إلى أننا إنما وضعنا بين يديه شعراً. . . وشعراً مرسلاً. . . مما قاله عنه شاعرنا الكبير الذين نحبه ونمجده - الأستاذ العقاد - إنه ينبو في الأذن ولا يخف على السمع. . .
وقد لا يكون القارئ شاعراً فيعرف كيف يكون شعراً هذا الكلام الذي نقلناه من هامش السيرة (ج 3 ص 127) ولهذا فلا بأس من أن نعيد له هذا الكلام نفسه من نظامه الشعري الذي تعوده الناس:
أقبلت تسعى رويداً رويداً
مثلما يسعى النسيم العيلْ
لا يمس الأرض وقعُ خطاها
فهي كالروح سرى في الفضاء
نشر الليل عليها جناحا
فهي سر في ضمير الظلامْ
وَهبتْ للروض بعض شذاها
فجزاها بثناء جميلْ
ومضي ينشر فيه عبيراً
مستثيراً كامنات الشجونْ
فإذا الجدول نشوان يُبْدي
من هواه ما طواه الزمانْ
ردّت الذكرى عليه أساه
ودعا الشوق إليه الحنينْ
فهو طوراً شاحب قد يراه
من قديم الوجد مثلَ الهزالْ
صحب الأيام يشكو إليها
بثه لو أسعدته الشكاه
وهو طوراً صاخب قد عراه
من طريف الحب مثل الجنونْ
جاش حتى أضحك الأرض منه
عن رياض بهجةً للعيون
ونفوس العاشقين كراتٌ
يعبث اليأس بها والرجاء
كحياة الدهر تأتي عليها
ظلمة الليل وضوء النهارْ!
فهذا إذن هو من نظم الدكتور طه حسين من الشعر المرسل الذي أورده في آخر كتبه - على هامش السيرة - الجزء الثالث - الصادر في أول نوفمبر سنة 1943، أي في الوقت الذي كنا نحسب ألف حساب ونحن ننشر فصولنا داعين شعراءنا لإجراء تجاربهم في هذا الشعر عسى أن يوفق أحدهم أو أكثر من واحد منهم إلى أسلوب رائع بخلو من العيوب التي يأخذها عليه النقاد المحترمون
ونحن لا يسعنا إلا أن نبدي أكبر إعجابنا بهذا المجهود المشترك الذي ساهم به زعيم النهضة الأدبية في مصر، وعميد الأدب العربي، في الثورة على القديم الذي ندعو إلى الثورة عليه وإن كنا نهتف بجميع شعرائنا أن في وسعهم أن يعطونا شعراً مرسلاً أجود بكثير جداً مما عرضنا عليهم من شعر الأستاذ أبي حديد ومن هذا الشعر الذي نقدمه إليهم اليوم فخورين من شعر الدكتور طه حسين
وبعد. . .
فأحسب أن الدكتور طه قد أعلن رأيه الآن بطريقة فعلية في الشعر المرسل، وأنه في جانبنا
من قبل أن نبدأ دعوتنا. . . ونحن نقول هذا حتى لا يقعد أحد من أصدقائنا الشعراء الذين وعدوا بإجراء تجاربهم في هذا الشعر، متأثرين برأي الأستاذ العقاد، عن القيام بهذه التجارب، وذلك لما للأستاذ الكبير من أثر عميق في قلوبهم ولأن أكثرهم شعراء من مدرسته
وبقيت ملاحظة؛ فلقد كتب الدكتور طه شعره كأنه نثر فلم يوزعه شطراً شطراً كما فعلنا، ولا شك في أن غرضه من ذلك هو ألا ينبه القارئ إلى أنه يقرأ شعراً فينفر. خصوصاً إذا علم أنه يقرأ شعراً مرسلاً. . .
ولقد كنت ذكرت للقراء في إحدى مقالاتي ألا يقفوا عند آخر كل شطر، بل رجوتهم أن يصلوا القراءة حتى لا يعز عليهم الفقيد العزيز - الذي هو القافية، ويسرني بهذه المناسبة أن أقرر أن الأستاذ أبا حديد كان قد اقترح لي أن يكتب الشعر المرسل بهذه الطريقة الذي كتبه بها الدكتور طه. . . فهل هو توارد في الخواطر؟ أم أن الصديقين العزيزين كانا قد خاضا معاً مثل هذا الحديث من قبل؟!
هذا ولقد قرأنا لأستاذنا الزيات رأيه في الشعر المرسل في السنة الثانية من (الرسالة) العدد (37)، ولعله يلاحظ أن صديقه طه قد حرص في نظمه ذاك على كل المقترحات التي أشار بها صديقه الزيات منذ عشر سنوات.
دريني خشبة
أوزان الشعر
الشعر العربي
للدكتور محمد مندور
(تتمة)
الواقع أن الارتكاز في اللغة العربية موضوع شاق لا يزال في حاجة إلى البحث، ونحن لا نظن أن المستشرقين يستطيعون بحثه، لأن معرفتهم باللغة مهما اتسعت لا يمكن أن تصل إلى الإحساس بمسائل موسيقية لغوية دقيقة كهذه. فهل مستطيعون نحن ذلك؟
ليسمح لي القارئ بأن أقول إنني قد حاولت حل هذا الإشكال في بحث طويل كتبته باللغة الفرنسية بعد دراسة وتحليل لثلاثة أبحر من الشعر العربي بمعمل الأصوات بباريس، وهي الطويل والبسيط والوافر.
ولنأخذ مثلاً من هذه الدراسة بيت امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فهو يوزن على مذهب أوالد كما يأتي، (مع رمزنا للمقطع القصير بالعلامة ب والطويل بالعلامة -):
ولكن هذا الوزن لا يبصرنا بالحقيقتين الكبيرتين اللتين يقوم عليهما الشعر في كافة اللغات، وهما: الكم والإيقاع.
الكم
نقصد بالكم لا كم كل مقطع منفردا، فذلك ما سبق أن أوضحناه، بل كم التفاعيل، فنحن هنا أمام تفاعيل متجاوبة (التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع)، ولكننا مع ذلك نسلم بجواز زحافات وعلل، فكيف يستقيم الكم برغم هذه الزحافات والعلل التي تنقص من التفعيل في الغالب.
هذه المشكلة حيرت المستشرقين، ولقد حاول العالم الفرنسي الثبت جويار أن يحلها في كتاب له بعنوان: وفيه يطبق مواضعات الموسيقى وأصولها على الشعر العربي، ولكنه لا يدخل في حسابه غير الحروف الصائتة كما يفعلون في الموسيقى، فيغطى تلك
الحروف المختلفة قيما متفاوتة من نقطة بيضاء إلى نقطة سوداء إلى كروش إلى كروش مزدوج. . . الخ. ومن البين أنه قد أخطأ لسوء الحظ السبيل بإهماله كم الحروف الصامتة العظيمة الأهمية في اللغة العربية واللغات السامية عامة كما أشرنا.
والذي اهتدينا إليه بحساب الآلات الدقيقة هو ما يأتي، مقدرين كم كل تفعيل بأجزاء من مائة من الثانية:
7421 13221 77132 7721 11521 85 133
وهذه نتائج غريبة نلاحظ عليها:
1 -
أن التفاعيل المزحفة كالتفعيل الخامس والسابع قد ساوى كمها في النطق كم التفاعيل الصحيحة بل زاد.
2 -
أن هناك فروقا بين التفاعيل المتساوية كالتفعيل الثاني والرابع والسادس والثامن.
وتفسير ذلك هو أولاً: أن الفروق التي ظهرت في حساب
الآلات لا تدركها الأذن، لأنه من الثابت أن الفرق الذي لا
يزيد عنه 10016 من الثانية لا تكاد تدركه الأذن، وإذن هذه
نستطيع إسقاطها.
ثانياً: وأما عن المساواة التفاعيل المزحفة للتفاعيل الصحيحة فهذا يفسر بحقيقة هامة تحدث عند إنشاد الشعر، وهي عبارة عن عمليات تعويض تقوم بها آلياً. وهذا التعويض يحدث بطرق مختلفة، منها تطويل حرف صائت بشرط ألا ينتج عن ذلك لبس يأتي من قلب الحرف القصير بطبيعته اللغوية إلى حرف طويل، ومنها مد النطق في حرف صامت متماد كالسين أو اللام أو غيرهما، ومنها الصمت بعد لفظ أو عند حرف آني كحروف الانفجار مثل الياء والفاء وغيرها
وإذن فالزحافات والعلل لا تغير شيئا في كم التفاعيل عند النطق وهي لذلك لا تكسر الوزن
الارتكاز
الارتكاز عنصر أساسي في الشعور العربي بل عنصر غالب، ومن تردده يتولد الإيقاع،
ولهذا بحثنا عنه في عناية. والذي يبدو لنا هو أن هناك ارتكازاً على المقطع الثاني من التفعيل القصير (فعولن)، وأما التفعيل الكبير فيقع عليه ارتكازان أحدهما أساسي على المقطع الثاني والآخر ثانوي على المقطع الأخير في (مفاعيلن)، وقد رمزنا للارتكاز الأساسي بالعلامة (وللارتكاز الثانوي بالعلامة). ومن المعلوم أن الارتكاز لا يقع إلا على مقطع طويل ومن ثم نلاحظ أن هذا الوزن لا بد أن يسلم منه دائماً مقطع طويل بعد المقطع الأول القصير؛ فإذا لم يحدث ذلك انكسر البيت؛ فالمجموعة (7 - ) الموجودة في أول كل تفعيل من البحر الطويل هي النواة الموسيقية للبيت وهي عبارة عن وتد مجموع في لغة الخليل
ومن عودة الارتكاز على هذا المقطع من كل تفعيل يتكون الإيقاع، لأنه كما قلنا عبارة عن عودة ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة
وإذن فاستقامة الوزن أو عدم استقامته لا يعود إلى الكم الذي تؤثر فيه الزحافات والعلل تأثيراً ظاهرياً فقط إلا إذا نتج عن هذه الزحافات والعلل فقدان للنواة الموسيقية التي تحمل الارتكاز
ولكن هل ينتج عن ذلك أن الشعر العربي شعر ارتكازي بمعنى أن مقاطعه تتميز بأنه تحمل ارتكاز ضغط أو لا تحمله؟ الجواب أيضاً بالنفي، في المقاطع العربية كما تحمل الارتكاز تتميز بالكم كذلك؛ وإذن فالشعر العربي يجمع بين الكم والارتكاز وربما كان هذا سبب تعقد أوزانه
ونلخص طبيعة الأوزان العربية بأنه تتكون من وحدات زمنية متساوية أو متجاوبة هي التفاعيل، وأن هذه التفاعيل تتساوى أو تتجاوب في الواقع عند النطق بها بفضل عمليات التعويض سواء أكانت مزحفة معلولة أو لم تكن، وأن الإيقاع يتولد في الشعر العربي من تردد ارتكاز يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود على مسافات زمنية محددة النسب، وعلى سلامة هذا الإيقاع تقوم سلامة الوزن
وهكذا ننتهي في هذا المقال إلى ما انتهينا إليه في المقال السابق من قيام كافة الأشعار على عنصري الكم والإيقاع؛ وأما موضع الاختلاف بين الأشعار المختلفة فهو في كيفية تحقيق هذين العنصرين.
محمد مندور
العلم في روسيا
للأستاذ خليل السالم
كان العالم في السنة الماضية يعجب ببسالة الروس واستماتتهم في الدفاع عن وطنهم؛ وهو اليوم يقف مشدوهاً أمام عظمة الجيش الروسي وقدرته على سحق قوى الألمان الهائلة وتدمير آلتهم الحربية الجبارة وإيقاع الهزائم المنكرة بهم في كل ميدان
ولنحاول رد تلك المقاومة الرائعة إلى أسبابها الأساسية وتفسير هذه الانتصارات الحاسمة، نجدنا مسوقين حتما إلى الحكم بأن انتشار الثقافة العلمية وتقدم معاهد العلم وتطبيق النواميس العلمية في دور الصناعة ووفرة الابتكار والاختراع كانت بين الأسباب القوية والعوامل الفعالة التي يسرت للجيوش الروسية أن تحرز هذا النصر الباهر وتطرد الغازي الغاشم من أراضيها
كان العلم في روسيا حتى ظهور النظام السوفيتي وتوليه الأمور زينة رسمية تنصيها الحكومة وتغدق عليها الأموال الطائلة دون أمل في الربح ودون تكليف العلماء جهداً مرهقاً لخدمة الناس ونفع المجتمع. وكانت البلاد منذ أيام بطرس الأكبر الذي أسس أكاديمية العلوم الروسية على النسق الفرنسي تعتمد في نشر النظريات العلمية الجديدة وشرحها على العلماء الذين يفدون من أوربا الغربية
فدعا بطرس الأكبر مثلاً دانيال برنيولي وليونارد يولر. وحذا خلفاؤه حذوه في استيفاد العلماء الموهوبين؛ إلا أن تخلف العامة وتكبيلهم بقيود الجهل لم يتيحا للثقافة العلمية أن تشيع وتزدهر. وقصرت أكاديمية العلوم في أداء واجباتها وتبليغ رسالتها فلم يكن على العضو الذي انتخب لمقدرته وكفاءته والشهادة له بالذكاء والنبوغ إلا أن يقبض الرواتب الباهظة ويتبع وحيه الخاص في البحث سواء كان مبتكراً مجدداً أو مزوقاً وجه المعرفة بشروح وذيول للنظريات العلمية الشائعة. فعجز العلم لذلك عن أن يغير من حياة الناس ويسمو بمستوى معيشتهم، ولم يظهر في سماء العلم إلا عدد ضئيل من النجوم المتألقة من أمثال مندلييف ولومونوسوف ولوباتشفسكي. . .
وبين عشية وضحاها أصبحت روسيا بلداً عامراً بالعلم والعلماء وركناً أساسياً في بناء العلم الخالد؛ فهي تقدم اليوم لفروع المعرفة أيادي بيضاء لا تقل أثراً عن غيرها من الأمم إن لم
تزد
ومع أنها لا تستطيع في بعض الموضوعات اللحاق بالأمم التي يسر لها الحظ أن تعنى بالكشف والتحقيق قبلها إلا أن ما تسعى له من ترويج الثقافة العلمية وتشجيع البحث سيهيئ لها أن تبلغ الشأو العالي وتتربع على عرش القيادة العلمية من إنكلترا وأمريكا وألمانيا مثلاً: فقد فرضت الحكومة سلطتها في نشر الفكر المنظم بين طبقات الشعب، وهي تعمل على خلق البيئة العلمية الصالحة لأن يترعرع فيها العلم وينمو
وتنشر الصحف الكبيرة مقالات مسهبة في مواضع علمية وصناعية وفنية، كما تحتل أخبار البحث وتقدم الهندسة الآلية الصفحات الأولى منها. وتكثر المكتبات بشكل عجيب ويعم تداول الكتب؛ فقد بلغ ما بيع من طبعة روسية لأحد كتب الفيلسوف (كانت) سنة 1936 مائة ألف نسخة. وبكلمة موجزة نقول إن العلم في روسيا لقي من التشجيع أكثر مما لقي في أي قطر آخر سواء في تأسيس المعاهد أو تمويل المحترفين
لا يزيد عدد العلماء اللامعين الذين يحتلون مقاماً عالمياً على الأربعين، تثقف معظمهم على عهد القيصرية. فمما لا شك فيه أن الوضع القياسي الذي وجد علماء الروس الناشئون أنفسهم فيه قد أجبرهم على التهام الحقائق الجديدة والنظريات الواسعة بسرعة، فأعوزهم الاختبار الحصيف والنقد العنيف، نذكر من مشاهيرهم الأستاذ جوف مدير المعهد الطبيعي التكنيكي في ليننغراد، ومؤسس هذا المعهد تحت إشراف أكاديمية العلوم، ويكاد تكون بحق باني النهضة العلمية الحديثة؛ فمن معهده تخرج الأساتذة الذين يديرون المعاهد الأخرى في بقية البلدان الروسية. وميدان بحثه خواص الأجسام الموصلة توصيلاً جزئياً. وقد ألقت دراسته ضوءاً ساطعاً على كسر الأجسام العازلة. ويدرس أيضاً مقاومة الأجسام الصلبة، وكيف تزيد إمكانية الحد أو قوة المادة
ومن تلاميذه ستيبانو الذي ارتأى أن الاحتكاك بين سطوح البلورات المتجاورة الواقعة تحت ضغط عال يعقب ميوعة وقتية تفسر كيف تلتوي قطعة معدنية بسرعة ثم تبقى محافظة على الشكل الجديد الذي تأخذه
ومن تلاميذ جوف أيضاً برزلر وفينو جينوف اللذان
استخدما لأول مرة كرات الصلب الدقيقة الميكروسكوبية
أخاديد في المكائن، وانتهيا إلى أن كرات قطرها (101) من
المليمتر ممزوجة بالزيت تنقص قوة الاحتكاك مرتين ونصف
المرة عما تكون عليه لو استعمل الزيت وحده
ومن الأعلام سكوبلتزن الذي اكتشف الدقائق السريعة في الأشعة الكونية. ففي سنة 1926 ابتدأ قياس سرعة الكهارب المنطلقة من مادة مشعة باستخدام غرفة ولسن القائمة المحاطة بمجال مغنطيسي. وفي سنة 1927 نشر صوراً فوتوغرافية لدقائق انبعثت بسرعة عجيبة حتى أن مساراتها لم تتضح وتظهر. وحصل سكوبلتزن على صور للبوزيترونات وكان حسن الحظ في سبقه كل العلماء في التعرف إلى طبيعتها
ودرس سيمنوف وجارتون التفاعلات السلسلية، وقدمت مدرستها معلومات هامة عن المتفجرات، وخصائص بعض الآلات
وقد بنيت مؤسسة (للمسائل الطبيعية) في موسكو ليشتغل فيها العالم الفذ كابتزا وهو مبتكر مسيلة هواء جديدة تستخدم ضغطاً جوياً ضئيلاً لتشغيل الهواء حتى يفقد طاقته ويبرد بنفسه
ومن العلماء الناشئين ليسنكو الذي استطاع أن يكسب لنفسه شهرة عالمية بالرغم من حداثة سنه. وقد نشر أول أبحاثه سنة 1928 وهو يبحث في الحياة النباتية ويدرس العلاقة بين الزرع والبيئة، والشروط الصحية التي يحيا فيه النبات ويسرع نموه، وساعد رازوموف وليبمنكو في أن يجعلوا سهول أكرانيا الفسيحة تنتج أضعاف ما كانت تنتج بانتخاب أنسب الأوقات لبذر الحبوب. وهو عالم نظري بالإضافة إلى أبحاثه الزراعية الحيوية. ويقول في مناسبة ما:(إن الشعب في روسيا المتحدة لا يولد؛ إن هي إلا أجسام حية تلك التي تولد؛ أما سائقوا الجرارات، وميكانيكو المحركات، والعلماء والباحثون فإنهم هنا يصنعون. إنني من أولئك الرجال الذين صنعوا ولم يولدوا. ويسعد المرء جداً أن ينتسب إلى مجتمع كهذا)
ومن العلماء النابهي الذكر رهبايندر درس خواص السطوح سواء الطبيعية والكيميائية منها. وله آراء جليلة حول وظيفة العلم في المجتمع، وهو يرى أن العلم لا يخدم الصناعة وإنما يسودها بخلق صناعات جديدة وإفساح مجالات أرحب للتطبيق العملي. وله مكتشفات رائعة عن قوة المعادن وتأثير الصفائح الرقيقة في قساوة الأجسام
ومنهم فافيلوف وقد عني بدرس أصل الزراعة وتزاوج النباتات في أنحاء الاتحاد السوفياتي. وقد وجد أن هناك عشرين نوعاً من قمح الخبز في أوربا، واثنين وخمسين نوعاً في إيران، ولا أقل من ستين نوعاً في أفغانستان. ومنهم أيضاً العالم مسفسكي وقد درس قوة الأشعة الكونية في النفاذ من طبقات مائية كثيفة. وأجرى تجاربه في نهر نيفا قرب لننغراد في شمال روسيا، وأسفرت تجاربه عن نتائج أيدت نتائج ملكن العالم المشهور بدراسة هذه الأشعة
وعلى وجه العموم نرى أن علماء روسيا معنيون أول ما يكون بدرس المسائل العلمية المتعلقة بالصناعة والتطبيق والحياة. فقد فرضت السلطة سطرتها على العلم، ووجهت أكاديمية العلوم وجهة تقصد التجديد في الصناعة واستغلال القوى الكامنة في البلاد والعمل لرخاء الشعب، فنقلها إلى موسكو لتكون مؤسساتها في موقع حربي أمين، وتكون قريبة من الإدارة الحكومية. وجرى تبادل رجال العلم بين الجامعات ودور الصناعة، فأستاذ الجامعة يقضي وقتاً كبيراً في المصنع مشرفاً عليه محاولاً تحسينه وجودة إنتاجه. ويحاضر رجال الصناعة في الجامعة في مدى تطبيق العلم النظري، وعن المشاكل الراهنة التي تجابهها الصناعة والتي يتوقع من المختبر حلها. وكان لهذا التعاون الفريد نتائج باهرة في الناحيتين المهنية والتطبيقية.
ويقضي التنظيم الحديث أن يعني العالم بتطبيق ما يكتشف قبل أن يسير وراء نتائجه إلى ابعد الحدود النظرية. ولا يجوز له أن يصرف جهوده في بحث توفر عليه أحد علماء الآخرين. ويجب نشر آخر ما ينتهي إليه عالم ليوفر على آخر جهداً يقصد منه الوصول إلى تلك النتائج عينها. فيتوزع بذلك الاهتمام العلمي بين الأبحاث على وجه المستقيم، ولا يفر العلماء إلى ميادين كلاسيكية نظرية.
ولا يجوز للعالم أن يغير اختصاصه المقرر له إلا بعد مداولات طويلة مع رؤساء المعهد الذي ينتسب إليه، وندر ما لقيت رغبة العالم فيما يود الخوض فيه من أسرار الكون والحياة أدنى اعتبار.
وعند النظر في قيمة هذا التنظيم وانسجامه مع روح العلم ونجاحه في خلق العلماء والمبتكرين، نرى أن علماء أوربا الغربية وأمريكا لا يتفقون على وجهة نظر واحدة. فمنهم
من يحبذ رسم الخطط العلمية، لأن غرض العلم الأساسي، كما يجب أن يكون، خدمة المجتمع وسعادة الناس. ويرى هذا الفريق أن إرشاد العلماء وحشدهم في فئات مستقلة تدرس كل فئة منها موضوعاً بعينه يتقدم بالعلم خطوات فسيحة، ويحول دون أن تضيع جهود كثيرة عبثاً.
والذين ينكرون هذه الطريقة يعتقدون أن ضغط السلطة وفرضها أوامر متحكمة على العلماء يؤذي العبقريات ويخمد جذوتها المشتعلة، ويحرمهم من اختصاصهم الذي يلذ لهم ويشفعون به، وحجتهم أن التاريخ العلمي يوضح بجلاء أن العلماء الذين أفادوا البشر وخدموا الصناعة لم يقصدوا ذلك قبل أن يقصدوا لذتهم الخاصة وكشف الحقيقة قبل أي شيء آخر. وقد انتقل هؤلاء من بحث إلى آخر، كما تنتقل النحلة بين أزهار الرياض. فيجب أن يكون لكل عالم تفرده في البحث وحريته في اختياره كحريته في النشر والكلام.
وتدور اليوم معركة حامية في الكتب والمجلات بين كبار العلماء من أنصار الرأيين. ولا ينكر أن العلم المنظم قد نجح في روسيا نجاحاً باهراً؛ فهل يعني هذا أن تنظيم العلم ضروري؟ لعلنا نعود للجواب على هذا السؤال في بحث قريب.
(السلط - شرق الأردن)
خليل السالم
ب. ع من الدرجة الأولى في الرياضيات
عبقرية الإمام
للأستاذ محمود أبو رية
لم يؤت أحد من أصحاب رسول الله من العلم والفضل مثل ما أوتي علي رضي الله عنه، ولم يرد في حق أحد منهم بالأسانيد الجياد مثلما جاء فيه. وما ظنك برجل خرج هو والنبي من نبعة كريمة واحدة، ونشأ تحت جناح النبوة وتربي في كنفها وتولى رسول الله هدايته وتثقيفه وجعله أولى الناس به فقال له:(أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)، وعلي أنه كان بهذه المكانة فإن لم ينل أحد من الظلم مثل ما ناله، ولا لقي إنسان من المصاعب والمتاعب مثل ما لقي؛ فقد أحاط به ما نغص عليه عيشه وأفسد عليه أمره من أحقاد جاهلية وسخائم أموية وضغائن بدرية وإحن أحدية وغير ذلك. وإذا رجعنا إلى تاريخه ألفيناه قد ضاع بين متشيعين بالغوا في تشيعهم حتى ألهوه، ومبغضين أمعنوا في بغضهم حتى كفروه
فمثل هذا الإمام العظيم المؤتلف في نفسه المختلف في تاريخه كان جديراً ألا يتولى ترجمة حياته ودرس عبقريته إلا مؤرخ حكيم ينفذ إلى نفسيته بفكر ثاقب ونظر نافذ، ويدرس تاريخه بعقل القاضي العادل البصير الذي يبحث ويستقرئ فيرد الأمور إلى أسبابها والأحداث إلى عللها ليخرج هذا التاريخ صحيحاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فيعرف الناس منه فضله ويقدرونه قدره ويقبلون على سيرته يدرسونها وينتفعون بها.
ولقد سرنا أن يتولى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد درس تاريخ هذا الإمام وأن يجعل من هذا التاريخ فريدة في سمط عبقرياته النفيسة سماها (عبقرية الأيام)
قرأنا هذا الكتاب فرأينا كاتبنا الكبير يقول في تقديمه: (في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال العظماء وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقح العبرة والتأمل)، ثم نفذ إلى ما اتصف به الإمام مثل التقوى والزهد، والى ما ورث عن أسرته العربية من النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، وبين الآثار العملية لكل ذلك مع أعدائه وأوليائه على السواء، وانتهى من هذا الفصل إلى (مفتاح شخصيته) ثم تناول هذا المفتاح ليفتح به كل مستغلق من
شخصيته ويوضح كل مبهم من سيرته
كسر الأستاذ العقاد كتابه على عشرة فصول بعد التقديم ختمها بفصل عنوانه (صورة مجملة) جرى قلمه فيها كلها بما عهدناه من قبل في عبقرياته التي سبقت من حيث البحث العميق والدرس الدقيق مما كنا نود أن نعطيه حقه من البيان ونوفيه قسطه من الإشادة، ولكن المقام لا يتسع فلنجتزئ بكلمة صغيرة عن فصل البيعة الذي هو أروع فصول الكتاب
مهد المؤلف لهذا الفصل بفصل آخر عن عصر الإمام قال فيه إنه لم يكن عصر خلافة بل كان عصراً عجيباً بينما تقدمه وجاء في أعقابه؛ فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب فكان في ناحية كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي، وفي ناحية أخرى كل عوامل التذمر من هذا النظام، ومضى يبين أسباب استقرار النظام في الجانب الذي كان من نصيب معاوية؛ فذكر أن الشام كان أرضاً أموية من يوم أن لجأ إليها في الجاهلية أمية جد الأمويين وما جاء بعده من أبنائه متجرين أو مهاجرين إلى أن تولى إمارتها يزيد بن أبي سفيان من قبل أبي بكر الذي جاء بعده معاوية من قبل عمر ذلك الدرهي الذي قضى زمناً طويلاً لا يعمل عمل الوالي، ولكن يعمل عمل صاحب الدولة التي يقيمها لنفسه ولأولاده من بعده. وكانت وسيلته في ذلك أن يغمر الناس بالأعطية، السوقة منهم والشرفاء. وقد بلغ من دهائه أن طوى عقيلاً أخا علي بعطائه، أما المخالفون له فكان جزاءهم العقاب والنفي، ثم أخذ يصف الجانب الآخر الذي كان يتولاه علي؛ فقال إنه كان مصاباً بعلل التنافس بين العواصم والتبرم من العيش والتطلع إلى الخلافة وما تكنه العبيد والموالي لقريش بله ما وراء ذلك كله وهو المال الذي كان في يد معاوية وحده
ولما أنشأ يتكلم عن بيعة علي قال إنه بويع بالخلافة بعد حادثة من أفجع الحوادث الدامية في تاريخ الإسلام وهي مقتل عثمان؛ وأخذ يحلل الحوادث التي أفضت إلى قتل هذا الخليفة وموقف علي من هذه الجريمة، وناضل ببراهين قوية عن هذا الموقف، وانتهى من نضاله إلى أن علياً - لم يكن يقدر على اجتناب هذا المصير من معاوية أو من عثمان نفسه - وأنه صنع غاية ما يصنع رجل معلق بالنقيضين، مسئول عن الخليفة أمام الثوار، ومسئول عن الثوار أمام الخليفة، وإنه كان يعالج داء (استعصى دواؤه وابتلى به أطباؤه). ثم أخذ بعد ذلك يناقش الذين خرجوا في وجهه يطالبون - بزعمهم - بدم عثمان، فقال عن طلحة
والزبير إنهما كانا يمهدان أثناء حياة عثمان لتولي الخلافة؛ أما عائشة فقد كانت تنادي بقتل عثمان وتود أن يتولى الخلافة طلحة لأنه من قبيلتها أو الزبير لأنه زوج أختها
وعلى أنه قد درس موقف هؤلاء الثلاثة الذين كانوا يتآمرون على عثمان قبل قتله، ثم خرجوا على علي بعد ما تولى وأبان وجه الحق في ذلك فإن قلمه كان رفيقاً بعائشة فلم يجر بشيء من مؤاخذاتها
وقد عرض المؤلف لما قام بين علي ومعاوية من خلاف فاستقصى أسبابه البعيدة والقريبة وانتهى إلى أن أمر معاوية لم يكن كما يبدو في ظاهره من أنه كان من أجل عثمان وإنما كان من أجل أبهة الملك وسلطان الحكم، وقضى بحق أن هذا الخلاف لم يكن بين علي ومعاوية وإنما كان (بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين، كان صراعا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في علي، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية) ولا ريب في أن يكون الغلب للدولة الدنيوية، لأن هذه هو ما تقضي به طبائع النفوس وغرائز الأمم. ولقد صدق عمرو ابن العاص في قوله:(لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر)
وقد انتهى كاتبنا من دراسته لتاريخ هذا الإمام إلى أنه (هو الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية) وأجمل صورته في أنه كاد (صورة المجاهد في سبيل الله بيده وقلبه وعقله أو صورة الشهيد)
ولنقف عند هذا الحد كما وعدنا إذ لا نستطيع أن نبين كل ما تناوله قلم العقاد من بحث وما نفذ إليه من استقصاء
بقيت أشياء لابد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد، وذلك أني عثرت وأنا أقرأ ببعض ألفاظ كنت اقف عندها مثل لفظ (تعلاه ص 40) و (حانقين ص55) و (فشل ص81 و96 و110 و126) وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول فوجدته من لغة طي، وإذن يكون استعماله جائزاً؛ أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله:
هل يجوز استعمال كلمة (فشل) في معنى أخفق وخاب وإن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق هذا إذا لم تكن هذه اللفظة من أخطاء الطبع التي كثرت في هذا الكتاب على غير ما
نعهد فيما يطبع بمطبعة المعارف التي عرفت بجودة الطبع ودقته
واستشهد بعبارة مشهورة وضعها شيوخ الدين وجعلوها حديثاً للرسول ليعلوا بها قدرهم، وهي (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)
وكنا نود من مؤلفنا وهو الأديب الكبير أن يطيل الحديث في بلاغة الإمام، وأن يعرض لأسلوبه وطريقته في الكتابة والقول فيدرسها ويبين هذا الأسلوب لكي يعرف الأدباء من هذه الدراسة ما لعلي في كتاب نهج البلاغة وما لغيره، لأن الأدب وتاريخه في حاجة إلى هذا العمل الجليل؛ ولعله يجعل من هذا الدرس بحثاً فنياً برأسه يضيفه إلى أبحاثه القيمة التي ينفع بها الأدب والأدباء.
(المنصورة)
محمود أبو رية
باتوزيس يرثي أزمردا
أغنية الرياح الأربع
للأستاذ علي محمود طه
(باتوزيس وأزمردا من أبطال قصة أغنية الرياح الأربع التي تصدر بعد يومين للأستاذ الشاعر علي محمود طه، أولهما مصري وثانيهما فينيقي. كانا في بدء حياتهما صديقين يعملان في الملاحة ثم ضربت الأيام بينهما فإذا بالأول يهيم في الآفاق شاعراً منشداً يعيش ليومه قبل غده، وإذا بالثاني يصبح قرصاناً ذائع الخطر. وتجمعهما الأيام في ميناء ببلوس فيروع باتوزيس نوازع الشر والإثم من صديقه أزمردا، ويسخر أزمردا بمثل صديقه العليا وما هو فيه من فقر وتشريد. ويضيف صديقه في سفينته، وتسنح آلهة الرياح الأربع لأزمردا في صورة فتيات جميلات يتخطرن على شاطئ مصر فيدفعه الشر إلى إقنتاصهن لبيعهن في سوق الرقيق، ولكنه يعلم من أمرهن الحقيقة فيغلو في أطماعه فيفكر في اختطافهن للاستيلاء على الرياح الممثلة فيهن ليسخر قواها في غزواته الإجرامية. وتنتهي وقائع القصة في سفينته حيث تظهر معجزة آلهة الرياح الأربع وتقف دونها أروع الحيل التي لجأ إليها القرصان. فيخر أزمردا صريع غدره بالآلهة وطمعه فيما لا قبل لبشري به، فيغرق بسفينته المحطمة بينما تطير الرياح الأربع إلى الشاطئ ومعهن باتوزيس وقد وقف ذاهلا مما مر به، محدقاً في بقايا السفينة الغارقة وهو ينشد:
أثَرٌ ليس يُلْمَحُ
…
وخيالٌ مُجَنَّحُ
وشراع مُحَطَّمٌ
…
حوله الموتُ يسْبحُ
مُغْرَقاً لا تَهزُّهُ
…
نَسْمةٌ أو تُرتَّحُ
يحتويهِ مزمجرٌ
…
مظلمُ الغور أفيحُ
غرقتْ تلكم السفينةُ وانفضَّ مسرحُ
ما لرُبّانها الطمو
…
حِ! أما عاد يطمح؟ ُ
ويحهُ وهو ذاهلٌ
…
أغبرُ الوجهِ أكلحُ
يتكفّا رجالُه
…
حوله وهو يَضبحُ
بعدْ ما كان بينهم
…
يتغنَّى ويمرحُ
غرَّهُ السيفُ مُصْلَتاً
…
بالمنايا يُلوّحُ
لا يبالي إذا رمى
…
كيفُ يثري ويذبح
خالني إذ دعوتُهُ
…
دعوةَ الخير أمزحُ
عاشَ لو قَدَّرَ النصيحةَ أو كان يُنْصَحُ
يحسنُ الشتُر بالغريزةِ والخيرُ يقبحُ
صاحبَ الأمس لا رحيقَ ولا كأسَ تصدح
فاشربِ اليوم من إنا
…
ئكَ بالموت يطفحُ
أمِنَ البحرُ مخِلبيكَ وشطٌّ وأَبطحُ
وعذارى كأنهنَّ
…
الأقاحُ المُفَتَّحُ!
محصَناتٌ تصيدهنَّ
…
وتُغوى وتفضحُ
أيها الصَّقْرُ لا تُغَرَّ
…
فللرِّيحِ أَجْنُحُ!
يتلقّاكَ بأسُها
…
صامداً لا يُزَحْزَحُ
هُنَّ من رحمةِ السما
…
ء مقاديرُ تسنحُ
فإذا الطائرُ السَّجِينُ طليقٌ مُسَرَّحٌ
وإذا الصائدُ الغشَوم صَريعٌ مُطَرّحُ
من دم الغدر قَلْبُهُ
…
سائلُ العرقِ ينضحُ
فامْضِ لا فرحةً بمو
…
تكَ! ما الموتُ يُفْرِحُ
قد عفا عنكَ هالكاً
…
قَدَرٌ ليس يصفحُ!
علي محمود طه
البريد الأدبي
بين الفكر اليوناني والفكر المصري
ذهب الدكتور طه حسين بك إلى أن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافات الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب، وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان
والدكتور زكي مبارك يرى أن الدكتور طه قد قرأ في كتب تتعصب لليونان، ولم يقرأ في كتب ترد أصل الحضارات إلى مصر، وهو قد قرأ ما قرأ وهو مطمئن كل الاطمئنان إلى من ينقل عنهم في غير ما نقد ولا تحليل
فما هو وجه الحق في هذه المسألة؟
قد يكون من الحق أن العقل وجد مع الإنسان وبقى هو هو في جوهره، وقد اصطفته الأمم الشرقية في الماضي السحيق فاستحدثت الصناعات والعلوم والفنون ولقنها اليونان فحملت عنها عبء التفكير فيها وكفتها شر هذا الجهاد الذي كان لا بد أن تنفقه حتى تخلص إلى هذه النتائج التي انتهى إليها الشرقيون
نعم! لقد كانت القصص الدينية وبعض الأفكار في العالم والحياة معروفة؛ فقد كان هناك التوحيد والشرك، وكانت الثنائية الفارسية، وكانت وحدة الوجد عند الهنود
غير أنا إذا لحظنا صيغة القول ومنهج البحث عند الشرقيين لم ندع هذا الضرب من المعرفة فلسفة، لأن أفكار الشرق كانت تسيطر عليها النزعة الدينية الخيالية التي لا تمت إلى منهج البحث العقلي بأية رابطة
ومع ذلك فقد يمكن القول بأن البابليين والعبرانيين والمصريين قد جهلوا الفلسفة بالرغم مما بلغه علماؤهم من ثقافة عالية. ولعل في قصة أوزوريس وعبادة أمون ما يدل دلالة واضحة على أن المصريين لم تكن لهم فلسفة بالمعنى المعروف في الاصطلاح
هذا ما قصد إليه الدكتور طه وهو رأي لا يحتاج إلى توضيح
ماهر قنديل
المناقشة بعد المحاصرة نظام إسلامي قديم
منذ أيام كنا نستمع في القاعة الشرقية للجامعة الأمريكية إلى إحدى المحاضرات، وفي نظام
هذه المحاضرات أن يعقبها أسئلة يوجهها السامعون للمحاضر مكتوبة على أوراق صغيرة؛ وهو يجيب على ما يستطيع الإجابة عليه منها
وقد قالوا إن نظام المناقشة بعد المحاضر على النحو السابق نظام ابتدعته الحضارة الحديثة، وكان للجامعة الأمريكية فضل استحداثه وتنظيمه في مصر والشرق
والحق أن نظام المناقشة بعد المحاضرة على الطريقة المذكورة نظام إسلامي كان معروفاً في البلاد الإسلامية منذ ستة قرون أو يزيد؛ والرحالة أبو عبد الله شمس الدين ابن بطوطة المتوفى سنة 1377 م قد أشار إلى مثل هذا النظام في رحلته وهو يتكلم عن مدينة (تستر) التي فتحها المسلمون على يد خالد بن الوليد، فيقول عن الشيخ شرف الدين موسى ما نصه:
(وهذا الشيخ هو من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة، وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع. ولما شاهدت مجالسه في الوعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألقي فيمن لقيتهم مثله
حضرت يوماً عنده ببستان له على شاطئ النهر وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها، وأتى الفقراء من كل ناحية، فأطعم الجميع، ثم صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيباً وواعظاً بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية، والنفحات المحركة المهيجة، وخطب خطبة بسكينة ووقار، وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله، وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم ترامت عليه الرقاع من كل ناحية. ومن عادت الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع ويرموها إلى الواعظ فيجيب عنها؛ فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه؛ وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا) أهـ
(كلية اللغة العربية)
أحمد الشرباصي
لبشار أم لكثير عزة؟
1 -
كنت أطالع في قصة الأدب في العالم حتى وصلت إلى الباب الذي عقده الأستاذ (أحمد
أمين بك) عن الأدب العربي في العصور الوسطى، فاستوقفني ما نسبه إلى (كثير عزة)(ص 374)، وهو يعرض أمثلة من شعر الغزل والتشبيب لإمام المحبين (جميل بن معمر) ومجنون ليلى:
فقد جاء ما نصه أن (كثير عزة) قال:
يزهدني في حب (عزة) معشر
…
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
…
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو (اللب)
وما تبصر العينان في موضع الهوى
…
ولا تسمع (الآذان) إلا من القلب
وما الحسن إلا كل حسنِ رعا الصبا
…
وألف بين العشق والعاشق الصب
فلو وضع (عبدة) موضع (عزة) - والأذنان مكان الآذان حتى يستقيم المعنى جيداً - لكانت أمامنا أبيات بشار المشهورة، وقد ذكرت هذه الأبيات في الأغاني منسوبة إلى بشار (ص 65، جزء ثالث - للشنقيطي)
2 -
وبهذه المناسبة أيضاً أقول بأن الأبيات المشهورة التي رويت عن حمدونة الأندلسية تصف فيها وادياً - والتي نتخذها مثالاً بارعاً يشير إلى تأثير طبيعة الأندلس الخلابة في شعرائها:
وقانا لفحة الرمضاء واد
…
سقاه مضاعف الغيث العميم الخ
قد نسبت خطأ إلى (أبي نصر أحمد بن يوسف المغازي) في قصته مع أبي العلاء المصري.
(المنصورة)
عبد الحميد عثمان عبد المجيد
من الشعر المنسي لحافظ بك إبراهيم
نسى الأستاذان أحمد أمين والزين أن يوردا هذه القصيدة في ديوان حافظ فآثرنا نشرها في الرسالة الغراء:
أنا في يأس وهم وأسى
…
حاصرُ اللوعة موصول الأننين
مستهين بالذي لاقيته
…
وهو لا يدري بماذا يستهين
سوَرٌ عندي له مكتوبةٌ
…
ودَّ لو يسري بها الروح الأمين
إنني لا آمنُ الرسل ولا
…
آمنُ الكتب على ما يحتوين
رضوان العوادلي
الخطايا السبع
نحن في حاجة ماسة إلى القصص المترجمة بنوعيها، القصيرة والطويلة، ونحن في حاجة ماسة إلى القصص المنقولة بأقلام قوية معروفة في عالم الأدب المصري الحديث لأنها الأقلام التي تضع لنا دعامة هذا الأدب وتغذيه وتواليه في نشأته الأولى حتى يقوى ويشتد ساعده. . . أما الأقلام المرتزقة التي تمسخ روائع الأدب الغربي وتسمي عملية المسخ هذه ترجمة فهي أضر شيء بنهضتنا. . . لأن القصص المترجمة تكون عادة نماذج يحتذيها كتابنا الناشئون ولا سيما الذين لا يعرفون لغة أجنبية؛ فإذا وضعنا بين أيديهم قصصاً ناضجة أحسنا اختيارها لهم وترجمناها ترجمة صادقة قوية أفدناهم بعملنا هذا أجزل الفائدة. . . والعكس. . .
أكتب هذا بمناسبة فراغي من قراءة هذه المجموعة الجميلة (الخطايا السبع) لصديقي الأستاذ على أدهم الذي أغبطه وأهنيه بما وفق إليه من اختيار هذه القصص القصيرة الشائقة لأحسن الكتاب العالميين وترجمتها هذه الترجمة الرائعة التي أكسبها ذوقه الفنان وقلمه المبدع ثوباً حبيباً قشيباً. . .
وإن كان لا بد من أن أتناول (الخطايا السبع) بشيء من النقد، فإني أحصر ملاحظاتي فيما يأتي:
1 -
كان يحسن أن يشرح الأستاذ الكلمات التي تدق على فهم غالبية القراء في أسفل الصفحة. . . وإلا فكم من القراء يفهمون هذه الكلمات: وحف. فرعاه. ثغر شتيت. الجعافر. عقلة النفوس. . . وذاك في قصة واحدة
2 -
كنت أوثر أن يهمل الأستاذ القصة المشهورة إلى غير المشهورة. . . وذلك مثل قصة تشيكوف (قصة بلا عنوان) فقد ترجمت غير مرة، وإن تكن من القصص الروسية الرائعة
3 -
أوصاني الأستاذ أن أبدأ بقراءة قصة فرانس (في الصومعة) فلما فرغت منها عرفت
أن الأستاذ أدهم - العالم الذي يهوى الفلسفة - هو الذي كان يوصيني أن أبدأ بهذه القصة. . . ولو سألني عن رأيي الصريح لأخبرته أنها ليست قصة، ولكنها مقالة أو فلسفي. . . ولم يكن موضوعها بين هذه القصص الشائقة
4 -
كان يفيد الأستاذ قراءه جداً لو أنه سبق كل قصة بترجمة خاطفة لكل كاتب لا تزيد على نصف صفحة كما ترجم ل سينكوكز مثلاً
ومع هذا. . . فالخطايا السبع من أحسن مجموعات القصص المترجمة عندنا ونحن ننتظر من الأستاذ الصديق. . . المزيد.
دريني خشبة
جماعة نشر الثقافة - حفلة تأبين تقلا باشا
تقيم جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية حفلة لتأبين فقيد الصحافة (تقلا باشا) في تمام الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم الاثنين الموافق 29 نوفمبر سنة 1943 بمسرح نادي موظفي الحكومة (المواساة) وخطباء المحفل وشعراؤه الأساتذة الأجلاء
1 -
كلمة الافتتاح صاحب السعادة أحمد كامل باشا مدير بلدية الإسكندرية
2 -
كلمة للأستاذ عبد الحميد السنوسي المحامي
3 -
قصيدة الأستاذ خليل شيبوب
4 -
الأهرام في خدمة الصحافة والأمة الأستاذ أحمد الطاهر
5 -
قصيدة. الأستاذ عثمان حلمي
6 -
تحية القارئ العادي للأهرام. الأستاذ إلياس بدوي
7 -
قصيدة دمعة الإسكندرية. الأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن
8 -
الابن سر أبيه. الأستاذ صديق شيبوب
9 -
قصيدة. الأستاذ حسين البشبيشي
10 -
كلمة الأهرام
استدراك
جاء في المقال الأول بالعدد 537 للدكتور عبد الوهاب عزام، وفيما يليه، بعض كلمات
مبهمة، ننشر صوابها فيما يلي:
أتأمل السور الضيق. والصواب: السور العتيق
أتأمل الأطفال حول آبائهن. والصواب: حول آبائهم
وفي المقال الثاني:
قبة صغيرة جميلة تحتها قبة صغيرة. والصواب: تحتها حجرة صغيرة
صفقت في مدخل المتحف وبداخل التكية. والصواب: في مدخل المتحف وهو التكية
وفي الحاشية: وهذا التاريخ لا يوافق السلطان عبد الحميد. والصواب: السلطان عبد الحق.