المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 544 - بتاريخ: 06 - 12 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٤٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 544

- بتاريخ: 06 - 12 - 1943

ص: -1

‌تقرير معالي وزير المعارف

عن إصلاح التعليم في مصر

لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يصدر عن وزيرها تقرير كهذا

التقرير يجمع بين الرأي والعزيمة في تنفيذ خطة مرسومة لغاية

معلومة. ومن قبل كانت سياسة التعليم في مصر نمطاً من سياستها

العامة: سيراً على غير خطة، أو خطة إلى غير غاية. وكانت وزارة

المعارف على الأخص قد عاهت بالاستعمار فظل نباتها نكداً لا يغل

ولا يظل. وكان البانون على أثر دنلوب يحاولون أن يرفعوا البناء فلا

يرتفع، ويجهدون أن يدعموه بتقارير الخبراء ومباحث اللجان فلا

يندعم؛ ذلك لأنهم كانوا يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس

دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم

المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم بروتين

النظام حتى أصبح لهم فطرة. فإذا كان القائم على أمور الوزارة قوياً

انطوت هذه الفئة انطواء القنافذ وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم

والخبرة، فغيروا المناهج وقوموا الخطط ورسموا الغاية وبدلوا الكتب

وبدءوا التجربة. وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة،

ورجعيتها على كل تجديد، فاحتسبت الإرادات في الرءوس، واستقرت

الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء

بالتأليف المريب لجواز الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم

يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين

الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة جيل يكون له مع

ص: 1

العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. . .

ذلك إلى أن القائمين على ثقافة هذا البلد قد اتسموا بميسم السياسة العامة، فحصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، ولم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له ليضعوا سياستهم على مقتضيات حاله، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته

نعم، لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يتولاها وزير يريد أن يعمل ويدري كيف يعمل. وهذا التقرير الذي نشره نجيب الهلالي باشا هو المقدمة الممهدة للتاريخ الذي سيكتب بعد الحرب لمصر العالمة العاملة. وليست قيمة هذا التقرير الخطير فيما اشتمل عليه من خلاصة الآراء الفنية لأساطين التربية في إنجلترا وأمريكا؛ إنما قيمته العظمى في الروح الذي أوحاه، والغرض الذي توخاه، والعزم الذي انطوى عليه: وهل كانت تقارير الفنيين أمثال (مان) و (كلاباريد) تعوزنا حين كنا ندور على أنفسنا دوران أبي رياح لا نتجه ولا نسير، ولا نعرف قبيلاً من دبير؟

نهج معالي الوزير في تقريره الخطة المثلى لإصلاح التعليم وتجديده، ولم يعتمد في نهجه كما قال (على الخيال والأماني، وإنما اعتمد فيه على تجارب مصر في نهضتها الحديثة، وتجارب الأمم الراقية التي سبقتها إلى النهوض في أوربا وأمريكا)

وهذه الخطة تعتمد (على أسس بلغت من الوضوح حد البداهة، لا في مصر وحدها، بل في العالم المتحضر كله، وهي أن التعليم حق للناس جميعاً. . . وأن المساواة ما دامت أساس الحياة الديمقراطية يجب أن تشمل حقوق الناس وواجباتهم كلها، والتعليم من أول هذه الحقوق لأبناء الشعب، ومن أول هذه الواجبات على الدولة. . . و (أن هذه المساواة تستلزم إزالة الفروق بين القادر والعاجز؛ وسبيل ذلك تيسر التعليم للناس جميعاً بإلغاء مصروفاته شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الإلغاء عاماً. وتستلزم هذه المساواة كذلك أن يلاحظ المشرفون على التعليم مواهب المتعلمين وكفاياتهم، وأن يوجهوا كلاً منهم إلى أن ينفع وينتفع ويكون مواطناً عاملاً كريماً في وطن راق كريم)

وعلى هذه الأسس الثابتة أقام الهلالي باشا دستور التعليم المقترح. وأقوى مبادئ هذا

ص: 2

الدستور (أن الديمقراطية لا يتحقق معناها الرفيع إلا إذا اعتمدت على أساس راسخ من التعليم الصحيح)؛ و (أن التعليم ضرورة من ضرورات الحياة للأمة، وليس شأنه في سنوات الشدة بأقل من شأنه في سنوات الرخاء؛ فعليه يتوقف مصير كل أمة ويتضح سبيلها وتحدد غايتها)؛ و (أن الغرض من التعليم هو أن تيسر للأبناء طفولة سعيدة، ويهيأ لهم أن يبدءوا حياتهم بدءا حسنا، وأن يوفر للشعب كله أوفى قسط ممكن من الخير والنعيم، وأن تدبر جميع الوسائل لتنمية المواهب المختلفة وحسن توجيهها، وأن يتاح للشباب كل الفرص الممكنة ليتعلموا ويتقدموا، وأن تبذل الجهود التي تفتح لهم أبواب العمل تأميناً لمستقبل الفرد ورفاهية الجماعة)؛ و (أن كل فرد يجب أن يتعلم التعليم الذي يؤهله لمواجهة تجارب الحياة العاملة ومشكلاتها)؛ و (أن الدولة محتوم عليها أن تسوي بين جميع طبقات الأمة فيما تتيح لهم من فرص التعليم)؛ (فلا يجوز بحال ما أن يعوق الفقر طالب علم عن إتمام تعليمه، ولا أن يحول بينه وبين المدرسة التي يهيئه لها استعداده العقلي)؛ (وأن الأمة لا يمكنها أن تحتفظ بمجدها الصناعي والتجاري إلا بالتوسع في التعليم الفني)

هذه الأسس والقواعد وما بني عليها أو استند إليها معلومة في بدائه العقل فلا سبيل عليها لناقد؛ إنما سبيلنا وسبيل المخلصين أن ندعو لها الله أن يبقى الوزير في الوزارة، والمستشار في الاستشارة، حتى تخرج إلى النور، وتصبح في حمى الملك والدستور

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌مسابقة الأدب العربي

2 -

البهاء زهير

للدكتور زكي مبارك

مصرية البهاء

يقول الأستاذ مصطفى باشا عبد الرازق إن البهاء لم يكن طفلاً حين هاجرت أسرته من الحجاز إلى وادي النيل، لأنه وجد في شعره قصيدتين يذكر فيهما عهده بالحجاز، الأولى قصيدة:

أحن إلى عهد المحصَّب من مِنّى

وعيشٍ به كانت ترفّ ظِلالهُ

والثانية قصيدة:

سقى اللهُ أرضاً لست أنسى عهودها

ويا طولَ شوقي نحوها وحنيني

ثم يقول بعد إيراد هاتين القصيدتين: (وليست ذكريات طفل هذه الذكريات التي يحن البهاء زهير إلى عهدها بين المقام وزمزم، فلابد أن يكون شاعرنا جاء إلى قوص فتى مستكملاً)

وأقول إن القصيدتين تشهدان بأن البهاء كانت له ذكريات غرامية بالحجاز، فإن صدقناه فيما ادعى لنفسه من الصبوات بالبلاد الحجازية، فمن حقنا أن نسأل كيف خبت حرارة الذكريات لتلك الصبوات فلم توح إليه غير قصيدتين اثنتين؟

والأستاذ مصطفى باشا يحدثنا أن المؤرخين قالوا:

(وانتقل البهاء زهير من قوص بعد أن ربى فيها وقرأ الأدب وسمع الحديث وبرع في النظم والنثر والترسل)

ومعنى هذا أن البهاء بدأ حياته في قوص وهو في عهد التربيب، وأنه لم يجئ إلى قوص وهو فتى مستكمل الفتوة، كما حكم سعادة الأستاذ قبل لحظات وهو يدون بحثه الطريف

يجب أن نتذكر أن الكلام عن الحجاز وذكرياته الغرامية بدعة أدبية شرعها الشريف الرضي، وأتبعه فيها من تلاه من الشعراء، فكان من هوى كل شاعر قضى وقتاً بالحجاز أن يقول إن له حجازيات، كما كان للشريف حجازيات.

مشكلة لغوية

ص: 4

لغة البهاء زهير لغة شاعر عريق في المصرية، ولولا إجماع المؤرخين على أنه ولد بالحجاز لكان من الحتم أن نفترض أنه ولد في قرية مصرية من قرى المنوفية، فكيف نصدق أن أهله حجازيون؟

لقد رأينا رجالاً نشأوا بالشام أو لبنان، ثم هاجروا إلى مصر فعاشوا فيها سنين وسنين، إلى أن استمصروا بحكم القانون، ومع هذا بقيت ألسنتهم وأخيلتهم شامية أو لبنانية، فكيف جاز أن يكون هذا الحجازي أعرق في المصرية باللغة والروح والخيال؟

أنا أرجح أن تكون أسرة البهاء زهير مصرية لا حجازية، وإن كانت عربية العرق، وأرجح أنها انتقلت من مصر إلى الحجاز للتجارة، بدليل أنها لم تنتقل من الحجاز إلا إلى قوص، وكانت مدينة قوص ملتقى القوافل الواردة من الهند والحبشة واليمن والحجاز، وملتقى الحجاج من المغاربة والمصريين

ويمكن أن نقول إن أسرة البهاء هاجرت إلى الحجاز لتنضم إلى جماعة المجاورين، والمجاور في الاصطلاح القديم هو من يجاور الحرم النبوي، وبه وصف المجاور للحرم الأزهري في القاهرة، أو الحرم الحيدري في النجف. وفي القاهرة مقابر تسمى (قرافة المجاورين) من باب التشريف، فما انحطت كلمة مجاور إلا في عصور الانحطاط

ويرجح هذا القول أن مصطفى باشا رأى في أحد المخطوطات أن والد البهاء وصف بـ (العارف محمد، قدس الله روحه) و (العارف) كلمة لم يكن ينعت بها غير المعروفين بالتنسك والتصوف

ولا يقدح في هذا القول ما صار إليه البهاء من الإقبال على المناصب الدنيوية، فالرأي الغالب عند أسلافنا أن طلب الدنيا لا يغض من قيمة التمسك بالدين، ما دام طالب الدنيا حريصاً على التحلي بمكارم الأخلاق

إن البهاء مصري اللغة والروح، مصري (ابن بلد) بلا جدال، فكيف نجعله من الحجازيين؟ وهل ينطبع الرجل على لغة بلد وعلى أوهامه وأحلامه وهو في الأصل غريب؟

وما هو الروح الحجازي في أشعار البهاء لو جعلنا أسرته حجازية الأصل، وأنها لم تعرف مصر إلا في أواخر القرن السادس؟

أنا أقدم هذا السؤال، وإن كان لا يخلو من ضعف، لأني أعتقد أن الحجاز لم تكن له قومية

ص: 5

محلية في العهد الإسلامي، فقد صار الملتقى لألوان من اللغات والآداب، منذ اليوم الذي صار فيه ملتقى لألوان من الأمم والشعوب

وجملة القول أني أرجح أن أسرة البهاء أسرة مصرية أقامت مدة في الحجاز، ثم رجعت إلى مصر، ولغة البهاء تؤيد هذا الترجيح، وقد تظهر في المستقبل أشياء نعرف بها صدق هذا الترجيح

لو عرف المؤرخون أن هذه القضية ستشغل الباحثين بعد أزمان لحدثونا بالتفصيل عن المنابت الأصيلة لدوحة البهاء

ذاتية البهاء

البهاء زهير ذاتية واضحة جداً، ذاتية نفسية وذاتية فنية. ولننظر هذه الأبيات:

أحبّ من الأشياء ما كان فائقاً

وما الدُّون إلا من يميل لدون

فأهجرُ شربَ الماء غير مصفَّقٍ

زُلالٍ وأكلَ اللحم غير سمين

وإن قيل لي هذا رخيصٌ تركتهُ

ولا أرتضي إلا بكل ثمين

فهذه البيات ليست من البدائع، بالقياس إلى ما يمتدح به أكابر الشعراء، وهي مع ذلك من الطرافة بمكان، لأنها تصور المصري المتأنق في اختيار المطعوم والمشروب والملبوس

وللنظر قوله في معاتبة الأمير مجد الدين:

فيا تاركي أنوي البعيد من النوى

إلى أي قوم بعدكم أتيممُ

ألا إن إقليما نَبَتْ بيَ دارُهُ

وإن كَثُر الإثراء فيه لمعدم

وإن زماناً ألجأتني صروفُهُ

فحاولتُ بُعدي عنكمُ لمذَّممُ

وأعلم أني غالطٌ في فراقكم

وأنكمُ في ذاك مثلي وأعظم

فلا طاب لي عنكم مُقامٌ بموطنٍ

ولو ضمَّني فيه المَقام وزمزم

ومثلك لا يأسى على فقد كاتبٍ

ولكن يأسى عليك ويندم

فمن ذا الذي تُدنيه منك وتصطفي

فيكتُب ما توحي إليه ويكتم

ومن ذا الذي ترضيك منه فطانةٌ

تقول فيدري أو تشير فيفهم

وما كل أزهار الرياض أريجةٌ

وما كل أطيار الفلا تترنم

فهذا عتاب نرى مثله عند المتنبي والأرجاني وابن دراج، والمعاني فيه مألوفة، إن لم نقل

ص: 6

مطروقة، ومع ذلك نجد فيها عذوبة بهائية زهيرية تشهد بأنها صادرة من شاعر خفيف الروح، رقيق الأسلوب

وهل رأيتم في تصوير (كاتم السر) وهو ما نسميه اليوم بالسكرتير أدق من هذين البيتين:

فمن ذا الذي تدنيه منك وتصطفي

فيكتُب ما توحي إليه ويكْتُم

ومن ذا الذي ترضيك منه فطانةٌ

تقول فيدري أو تشير فيفهم

هذا هو (السكرتير) المنشود، وكذلك كان البهاء

وإيمان البهاء بذاتيته إيمان متين، فهو يثق بنفسه وبفنه ثقة بصيرة، لا ثقة عمياء، ومن شواهد ذلك قوله في مخاطبة أحد الأمراء:

هذا زُهيرك لا زهير مزينةً

وافاكَ هَرِماً على علاّتهِ

دَعْه وحولياته ثم استمع

لزهَير عصرك حسن ليليّاته

لو أُنشِدَتْ في آل جفنة أضربوا

عن ذكر حسّانٍ وعن جَفَناته

فهل رأيتم قبل البهاء من يعارض الحوليات بالليليات؟ هو شاعر الفطرة والطبع، فمن حقه أن ينتظر جود الخاطر في الليلة القصيرة بما لا يتيسر لغيره في الحمل الطويل

وللنظر كيف يمتدح بأخلاقه وأشعاره وهو صادق:

مذ كنت لم تكن الخيا

نة في المحبة من خَلاقي

ولقد بكيتُ وما بكي

تُ من الرياء ولا النفاق

برقيقة الألفاظ تح

كي الدمع إلا في المذاقِ

لم تدرِ هل نطقت بها الْ

أفواهُ أم جَرَت المآقي

لطُفتْ معانيها ورقَّ

تْ والحلاوة في الرِّقاق

مصريةٌ قد زانَتها

لطفاً مجاورة العراق

مصري ابن بلد

المصريون يسمون الفتى الحلو الفكاهة والدعابة (ابن بلد) وفي أشعار البهاء كثير من التعابير البلدية، وما نظرت في ديوانه إلا أيقنت أنه (من الناحية بلدنا) وهتفت:

يا زرع بلدي

عليك يا وعدي

ويضيق المجال عن الإكثار من الشواهد، والمهم هو أن نرشد المتسابقين إلى هذا الجانب،

ص: 7

لأنه سيرد حتماً في أسئلة الامتحان، لأهميته في الدلالة على الألوان المحلية

قال البهاء:

فيا صاحبي أما عليَّ فلا تَخَفْ

فما يطمع الواشون في عاشقٍ مثلي

وعبارة (أما عليَّ فلا تخف) لا تزال على ألسنة المصريين (ما تخافش عليه)

وقال:

أتتْك ولم تبعُدْ على عاشقٍ مصرُ

وأولاد البلد يقولون: (مصر لا تبعد على حبيب)

وقال:

سيدي قلبيَ عندك

سيدي أوحشتَ عبدك

و (قلبي عندك) عبارة بلدية نقولها في كل يوم، ومثل عبارة (أوحشت عبدك) فهي تدور على كل لسان، ومن (أدوار) الغناء عندنا هذا الدور

ياما انت واحشْني وروحي فيك

وقال:

أين مولاي يراني

ودموعي فوق خدي

فمن الشطر الثاني عبارة بلدية مألوفة

وقال:

لنا صديقٌ سيئٌ فِعلهُ

ليس له في الناس من حامِد

لو كان في الدنيا له قيمةٌ

بعناء بالناقص والزائد

والمصري يقول حين يضجره السوق: (بناقص بزائد سأبيع) وقال:

سيندم بَعدي من يريد قطيعتي

ويذكر قولي والزمان طويل

والخصم عندنا يقول لخصمه: (أنا وأنت والزمان طويل). وقال:

إياك يدري حديثاً بيننا أحدٌ

فهم يقولون للحيطان آذانُ

ففي هذا البيت عبارتان مصريتان لا تحتاجان إلى بيان. وقال:

وكانت بيننا طاقٌ

فها نحن سددناها

ففي هذا البيت عبارة بلدية صريحة. وقال:

ص: 8

جاءني منه سلامٌ

سلَّم الله عليه الله يسلّمك.

وقال:

له فصولٌ كلُّها فضولُ

يريد أن يقول إنها (فصول باردة).

وقال:

حاشاك أن ترضى بأن

أموت في الحب غَلَطْ

كما نقول اليوم: (فلان مخلوق غلط)

وقد أكثر في شعره من عبارة: (يا ألف مولاي)

ونحن نقول للزائر: (يا ألف مرحب)

وأنا أكتفي بهذه الشواهد، وأترك للمتسابقين مراجعة نظائرها في ديوان البهاء

الشاعر العاشق

يظهر أن البهاء زهير فتن بالجمال فتنة دامية، فهو عاشق من الطراز الأول، ولم يمنعه منصبه في الدولة ولا مركزه في المجتمع من إعلان هيامه بالجمال، كأن يقول:

أروح ولي من نشوة الحب هزةٌ

ولست أبالي أن يقال طَرُوبُ

محبٌّ خليعٌ عاشقٌ مّهتكٌ

يَلذّ لقبي كل ذا ويطيبُ

خلعتُ عذاري بل لبست خلاعتي

وصرّحُت حتى لا يقال مريب

وفَي ليَ من أهوى وصرّح بالرضى

يموت بغيض عاذلٌ ورقيب

فلا عيشَ إلا أن تُدار مُدامةٌ

ولا أُنس إلا أن يزور حبيبُ

وإني ليدعوني الهوى فأجيبُهُ

وإني ليَثنيني التقي فأنيب

فيا من يحبّ العفوَ إنيَ مذنبٌ

ولا عفو إلا أن تكون ذنوب

وكأن يقول:

لحا اللهٌ قلباً بات خِلواً من الهوى

وعيناً على ذكر الهوى ليس تذرفُ

وإني لأهوى كلَّ من قيل عاشقٌ

ويزداد في عيني جلالا ويَشْرُف

وما العشق في الإنسان إلا فضيلةٌ

تُدمَّث من أخلاقه وتُلطّف

يعظِّم من يهوى ويطلب قربه

فتكثر آدابٌ له وتظرُّف

ص: 9

وهو يرى الموت في العشق حياة، كأن يقول:

ما لَهُ أصبح عني معرضاً

تحت ذا الأعراض من مولاي شيّ

أنا من قد مِتّ في العشق به

هنِّئوني: ميّت العشاق حيّ

وغزل البهاء غاية في الرقة والعذوبة واللطف، وما أحلاه وهو يصور غيرته على من يهواه:

وأنزّه اسمك أن تمرّ حروفه

من غيرتي بمسامع الجلاّس

فأقول بعض الناس عنك كنايةً

خوف الوشاة وأنت كل الناس

وأغار إن هبّ النسيم لأنه

مُغرًي بهزّ قوامك الميّاس

ويروعني ساقي المدام إذا بدا

فأظن خدّكُ مشرقاً في الكاس

وما ورد (المطمع الممتنع) في الشعر العربي بأكثر مما ورد في شعر البهاء. أليس هو الذي يقول:

سيدي قلبيَ عندكْ

سيدي أوحشت عبدك

سيدي قل لي وحدِّثني متى تنجز وعدك

أترى تذكر عهدي

مثل ما أحفظ ودك

قم بنا إن شئت عندي

أو أكن إن شئت عندك

أنا في داريَ وحدي

فتفضَّلْ أنت وحدك

وأشعار البهاء تفيض بالمطارحات الغرامية، مع خفة الدم، ولطف الروح، وأنا أرجو أن يعفيني المتسابقون من إيضاح هذه الناحية، لأنها أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح

ومن سمع الغناء بغير قلب

ولم يطرب فلا يَلُم المغنَّي

وقد غنى البهاء وأجاد، فاسمعوه بالقلوب.

زكي مبارك

ص: 10

‌أنا. . . وتوفيق الحكيم

وجهاً لوجه. . .

للأستاذ دريني خشبة

ذهبت لأسلم على الأستاذ الزيات بعد عودته إلى القاهرة فوجدت إحدى الأديبات قد سبقتني إلى هذا الفضل. . . وهذا خبر لا يهم القراء في شيء. . .

إنما الذي يهم القراء حقاً أنني لم أكد أستقر في مكاني حتى فتح الباب ودخل الأستاذ توفيق الحكيم. . . فهل كنا على ميعاد؟

وعندما كنت أكتب فصولي في (شهرزاد) وأحلام (شهرزاد) أراد الأستاذ الزيات أن يعرفني إلى الأستاذ الحكيم. . . فاعتذرت. . . وقلت له حين سألني عن السبب: حتى أفرغ من هذه القضية بين الحكيم وبين طه حسين. . . وذلك لكي تصدر فصولي كلها بروح واحد. . .

ثم مضت الأيام، ولم أعرف الأستاذ الحكيم إلا من كتبه، ولم يعرفني الأستاذ الحكيم إلا من مقالاتي. . . حتى كان هذا اللقاء المفاجئ!

والعجيب أننا تصالحنا في لحظة خاطفة. . . ولم يكن هذا الصلح على حسابي. . . بل كان على حساب الأستاذ الحكيم الذي عاهدني وعاهد الأستاذ الزيات ألا يكتب كلمة واحدة ضد المرأة. . . ولقد رثيت له ورحمته وهو يوافقنا على ذلك، لأنه كان بحضرة الأديبة المهذبة فلك طرزي، فلم يكن في مستطاعه أن يدافع في قضيته بشيء

ثم دار الكلام في موضوعات شتى، حتى وصلنا إلى آخر كتب توفيق الحكيم، (زهرة العمر)، فلم أقطع فيه برأي لأنني لم أكن قرأته، بل لم أكن شهدته. . . وذلك أننا معشر الـ. . . أدباء (والسلام!) نفضل أن نشتري بنقودنا خبزاً لأولادنا هذه الأيام. . . على أن نشتري كتباً لأذهاننا، لأننا نجيد الاحتيال لقراءة هذه الكتب، حتى تسكت هذه الحرب فنشتريها كما يشتريها الأغنياء والعظماء، بل نعود كما كنا أحسن زبائن المكتبات

وكان الأستاذ الحكيم قد أهدى (زهرة العمر) إلى الأستاذ الزيات ولم يكن قرأه بعد، فوجدت من حسن الاحتيال أن أدعي أنني سريع القراءة جداً، وأنني أستطيع أن أفرغ من الكتاب قبل أن ينتهي الزيات من (تفتيح) صفحاته. . . فوافق الرجل. . . بشرط! أن أكتب عن الكتاب وطبعاً عن صاحب الكتاب!. . . كل هذا والأستاذ الحكيم يسمع وكأنه لا يعلم شيئاً.

ص: 11

ثم خضنا في المسرح وفي التمثيل، وسألته لماذا لا يؤلف للمسرح المصري روايات تمثيلية، فسمعت منه الجواب الذي سمعته من خمسين أو ستين شاعراً مصرياً وكاتباً مصرياً. . . ليس عندنا مسرح. . . ويجب، إذا ألفنا، أن يكون تأليفنا على نوعين، فنوع للخاصة، ونوع للعامة. . . نوع للخاصة الذين يسعهم أن يفهموا القطع الخاصة الرفيعة وأن يتذوقوها، ونوع للعامة الذين لا يسعهم أن يفهموا القطع الخاصة الرفيعة ولا أن يتذوقوها. . . هكذا كان جواب الأستاذ الحكيم الذي لم تمض على معاهدة الصلح والسلام والمودة بيني وبينه غير دقائق. . . ولقد سكت على هذا الكلام لأني أردت أن أجعل منه مادة لهذا الحديث، لأني لا أحب مطلقاً أن ينعقد السلام بيني وبين هذا الرجل الذي أحبه جداً وأعجب به جداً، على حساب العامة. لأن تقسيم الجمهور المسرحي إلى خاصة وعامة هو أقتل سلاح نصوبه إلى صدر المسرح الذي نحلم بإنشائه، وكل محاولة لإنشاء هذا المسرح إن لم تعتمد على العامة - وهذا رأيي وعلي تبعته - قبل أن تعتمد على الخاصة، هي محاولة فاشلة، بل هي محاولة فيها إثارة لمشكلة الطبقات، بل هي محاولة للأزراء بسواد الشعب والانتقاص من ملكاته. . . على أن الأدب الذي يكتب للخاصة هو في رأيي أيضاً أدب لا يمكن أن يمثل أمة، بل هو أدب لا يمكن أن يمثل الخاصة نفسها، لأنها خاصة تتألف من عناصر متباينة، يتعاظل بعضها على بعض، ويبالغ بعضها في بز البعض الآخر في المظاهر الكاذبة التي ربما أخفت وراءها قدراً عظيماً من العقلية المقيدة التي ترسف في أغلال من الذهب. . . وفي وسع الأستاذ توفيق الحكيم أن يقول: إنما أنا أقصد الخاصة المتعلمة ذات المواهب، وأنا أرد عليه إذن بما قلته مراراً على صفحات هذه المجلة وهو أن التعليم وحده لا يستطيع أن يصنع الحاسة الفنية لشعب ما من الشعوب، فلقد كان العصر الذهبي للمسرح اليوناني في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في زمن لم ترتفع فيه نسبة المتعلمين في أثينا نفسها عن عشرة أو ستة عشر بالمائة، وكذلك الحال في رومة والحال في إنجلترا (في القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر) حينما كان المسرح الإنجليزي في أوجه إذ ذاك، وكان جل اعتماد المسارح اللندنية على الموارد التي تتدفق عليها من طبقات الشعب، وبالأحرى من سواد الشعب غير المتعلم. . . ومن الأمانة في نقل الحديث أن أذكر ما ذكره الأستاذ توفيق نفسه من أنه إنما يرى هذا الرأي لما لقيته

ص: 12

مسرحيته (أهل الكهف) من مصير على يد الفرقة القومية وفي دار الأوبرا الملكية. . . لقد قالها الأستاذ توفيق في شيء يشبه المرارة. . . وهو مخطئ في زعمه هذا. . . فأهل الكهف كتبت لتكون من أروع آيات الأدب المصري الحديث، وقد أثبتت وجودها بالفعل، ولسوف تخلد على وجه الزمان قطعة فنية قوية أنشئت للقراءة وللترف الذهني، ولم تنشأ للتمثيل. . . والذين أشاروا بإخراجها للمسرح هم الذين كتبوا لها هذا المصير. وبهذه المناسبة أذكر أن الأستاذ توفيق أرسل إلي خطاباً يقول فيه:

. . . وجهتم إلي أمس سؤالاً التبس علي وهو: لماذا لم أوجه عنايتي إلى المسرح؟ ولعلكم قصدتم أني لم أعن بإخراج رواياتي على المسارح. . . وهذا حق. . . ذلك أن كتابة القصة التمثيلية نفسها والتأليف المسرحي في ذاته لمن القوالب الأدبية الفنية التي حرصت منذ نحو عشرين عاماً على العناية بها. . . ولقد كتبت ونشرت - كما تعلمون - نحو خمس عشرة قصة تمثيلية أو قوامها الحوار الأدبي. وهي (ثم أورد حضرته أسماءها). . . ثم قال. . . وكل هذه الروايات التمثيلية منشورة في كتب مستقلة وفي مجموعتي (مسرحيات توفيق الحكيم) في مجلدين. أما إذا كان قصدكم معرفة سبب عدم إخراج هذه القصص على المسارح حتى الآن (باستثناء أهل الكهف وسر المنتحرة)؛ فإن الجدير بالإجابة هم القائمون بأمر مسارحنا. . .) وأنا عندما وجهت هذا السؤال إلى الأستاذ كنت أفهم عنه وكان يفهم عني في غير لبس ولا عناء. وإذا كان يريد أن يقول لي إنه عني بالتأليف للمسرح المصري فإني أخالفه مخالفة تامة، مع أنني من اشد المعجبين بأدبه التمثيلي الذي يخرجه في الغالب في شكل حوار لذيذ ممتع، وهو مع هذه اللذة وذلك الإمتاع لم يخرج عن كونه قصصاً تمثيلياً أنشئ للقراءة ولم ينشأ للمسرح. وعندما أكتب فصلاً آخر أو فصولاً أخرى عن (فن توفيق الحكيم) بوصف هذا الفن ظاهرة هامة من أوضح ظواهر الأدب المصري الحديث، فسأفيض في شرح ما أريد الآن إجماله من الناحية التمثيلية في أدب هذا الأستاذ العظيم. . . هذا الأدب الذي شق طريقه بسرعة فائقة في حياة مصر الأدبية الحديثة، حتى احتل مكانه في جلالة وبهاء بين الطليعة من أدباءنا الأمجاد

لقد وجهت سؤالي إلى الأستاذ وهو يفهم عني أحسن الفهم ولا داعي مطلقاً إلى القول بأن هذه القطع الرائعة الخمس عشرة كتبت للمسرح، لأن الكتابة للمسرح شيء آخر غير

ص: 13

الكتابة للقراءة المترفة، أو القراءة للذة الفنية التي يتقنها توفيق الحكيم إتقاناً عجيباً لا نعرفه لغيره من كتابنا المصريين. وإني حينما أقول إن الكتابة للمسرح شيء آخر غير الكتابة للقراءة المترفة، لا أعني أن ألقي درساً على أحد، أستغفر الله. بل أعني أنه يحسن ألا يغالط أحدنا الآخر على هذا النحو؛ فلقد سرني جداً ما ذكره الأستاذ توفيق في كتابه (زهرة العمر) الذي لم يتسع هذا الفصل للتحدث عنه، من أنه أخذ يعنى لقراءة (برنردشو) في لغته الأصلية، أي الإنجليزية، بدلاً من أن ينتظر ترجمته إلى اللغة الفرنسية التي كانت تيسر له قراءة هذا الرجل الذي يعتبر من غير شك (عاهل المسرح الحديث) في العالم قاطبة. . . وسوف يسرني أكثر أن يكون الأستاذ توفيق قد وازن بين (فن شو) المسرحي وما في قصصه هو من هذا الفن المسرحي. ولسوف يسرني أكثر وأكثر أن يكون قد وازن بين (مثل شو) العليا، ومثله هو، تلك المثل التي تعنى بالفن من أجل الفن، قبل أن تعنى بالفن من أجل الحياة.

هذا. . . ولست أوصي الأستاذ الحكيم بدراسة إبسن أو بجورنسن من كتاب الدرامة السكندنافيين، أولئك الكتاب الذين تتلمذ عليهم شو، ووفقه الله إلى استكمال نقضهم. وذلك أن إبسن مثلاً كان يشخص علل المجتمع الإنساني وأدواءه، ثم يكتفي بذلك التشخيص. لم يكن يعني قط بوصف العلاج الذي يكفل القضاء على تلك العلل، أما شو، الذي تشبه كثير من دراماته قصص الحكيم التمثيلية، من حيث صلاحيتها جداً للقراءة دون صلاحيتها للمسرح، فكان في نقده البارع وسخريته اللاذعة مشخصاً ومعالجاً في وقت معاً

أما لماذا أوصي الأستاذ الحكيم بعدم دراسة الكتاب السكندنافيين ومن إليهم من الكتاب الواقعيين، فذلك لخشيتي على فنه الجميل الخلاب من أن يتأثر بهم، ولأن الحكيم في ذاته رجل مشبع بمذهب (المودرنزم) الذي يفتتن به افتتاناً لا حد له ويجعل منه الإطار الذهبي الذي يعلق لنا فيه ترجمته كلها، وصورته الحقيقية التي فطره عليها خالقه الذي لا نحب أن نسميه الآن!

اسمع إليه يقول في كتابه (زهرة العمر) ص 36:

(. . . انتهى رأيي إلى استحالة المضي في روايتي التي كتبت منها قليلا وأنا في هذه البيئة الأوربية العاصفة. هذه البيئة الحديثة وما يسود فيها من جو (المودرنزم) يفسد حسن فهمي

ص: 14

للأشياء ويحول دون تعرفي حقيقة شخصيتي في الفن والأدب. أنا أحب المودرنزم، وأخشى أن أقول لك إني أقلد أساليبه على الرغم مني. وهذا بالذات ما يخيفني ويدعوني إلى التريث حتى تهدأ عاصفة هذا الفن الحديث، ونعرف إلى أي حد يستطيع أن يثبت إلى جانب الأساليب التي اعترف بها التاريخ. لقد شاهدت في المسارح أخيراً قصصاً تمثيلية على طراز النزعة الحديثة، مثل قصة كما شاهدت قصص ما قبل الحرب مثل. . . وأطلعت على رأي النقاد في ذلك. أتدري ماذا فضل النقاد؟ إنهم فضلوا قصص (ما قبل موجة المودرنزم) ورأوها هي الخليقة بالبقاء

واسمع إليه يقول أيضاً ص 52: (. . . إن خيالي مع الأسف ليس من نوع الخيال المثمر الذي خدم الشعراء والكتاب، بل هو من نوع الخيال المهلك الذي أضاع في وديانه السحيقة كثيراً من عاثري الحظ الذين حسبوا أنفسهم شعراء زمناً طويلا وهم ليسو بشعراء. ثم هنالك شيء آخر أخالك لم تلتفت إليه هو طبيعتي التي تميل إلى عدم الأخذ بما يأخذ به الناس جميعاً من أوضاع، هرباً من الوقوع في الابتذال وشغفاً جنونياً بالتمييز والإغراب. ففي لبسي لا أرتدي كما يرتدي الآخرون، ولا أدخن لأن التدخين عادة عامة. وربما دخنت لو انقطع الناس عن التدخين لا أهدي إلى حبيبتي الأزهار الجميلة ولا العطور اللطيفة بل أهدي إليها ببغاء في قفص. ولا أكتب إليها مباشرة عن الحب، بل أتبع طرقا لن يتبعها عقلاء الناس. وتسألني بعد ذلك لماذا أحب (المودرنزم)؟ أليس لأنه أقرب الفنون إلى الخروج على المتبع المألوف؟ لقد قالها أحد النقاد الحاقدين على هذا الفن الحديث: (إن أهل هذا الفن يأتون كل سخيف مهجور بحجة حرية الابتداع والتفنن في الابتكار). الواقع أني وجدت في هؤلاء، لا مأواي ومعقلي، بل وجدت كل طبيعتي وما تنطوي عليه من حمق وجنون، لقد وجدت على الأقل سنداً وأساساً لرغبتي المحرقة في الخروج على ما أسميه (المنطق العام))

واسمع إليه أيضاً يقول في ص 97: (. . . إنك تعلم من غير شك أن لي منطقاً خاصاً يشط بي أحياناً عما اعتاده الناس، فإذا أنا في واد والناس في واد، ينظرون إلي ويقولون: إما أنه أبله وإما أنه فطن. لا أذكر في حياتي أن الناس حكموا علي غير الحكمين المتناقضين، ففريق ومنهم والدي يقول إنه أبله، وفريق ومنه والدتي يقول إنه فطن، ولم

ص: 15

أسمع طول عمري حكما وسطاً بين هذا وذاك.)

وبعد أن نعتذر للقراء من طول هذا الاقتباس الذي لم يكن منه بد ولا عنه معدى، نشرع في الدفاع عن أديبنا المصري الكبير توفيق الحكيم ضد هذا الكاتب (المودرنست) توفيق الحكيم، الذي وصف توفيقنا هذا الوصف المؤلم في تلك العبارة الصارمة المؤلمة. . . فالصورة وإن تكن حقاً في جملتها، إلا أنها مكتوبة في عبارات لا نحب أن يكتب بها توفيق الحكيم عن توفيق الحكيم. . . حقيقة إن توفيق الحكيم كاتب يحب المودرنزم لدرجة أنه لا يدخن لا لشيء معقول، ولكن لأن الناس يدخنون. . . فإذا امتنعوا عن التدخين أقبل هو عليه، ولو أنفق فيه جميع ثروته. وحقيقة إن هذا المودرنزم يحول بين توفيق الحكيم وبين تعرف حقيقة شخصيته في الفن والأدب، بل هو يفسد حسن فهمه للأشياء. وحقيقة إن نقاد المسرح الفرنسي قد أجمعوا على تفضيل درامات ما قبل موجة المودرنزم، وأنهم رأوها أجدر من غيرها بالبقاء. . . فهل يسمح لنا الأستاذ توفيق الحكيم بأن نوضح له سؤالنا الذي وجهناه إليه فلم يفهمه على وجهه، أو أنه التبس عليه، حتى أسرع فأرسل إلينا خطابه تصحيحاً للموقف، لأنه أيقن أننا شارعون في الكتابة عنه لا محالة؟ إذن فاعلم أيها الأديب الذي اصبح علما في الأدب المصري الحديث أن جميع آثارك الخمسة عشر هي من مذهب المودونزم أو مذهب الشذوذ على العرف، ومذهب (خالف تعرف!)، ثم هي مكتوبة لتقرأ ولمجرد الترف الذهني. . . هي فن للفن. ولولا أنني لم أعد أحب إزعاجك بتذكيرك بعداوتك للمرأة - تلك العداوة المطلقة - لقلت لك إن أصل هذه العداوة ليس حباً خائباً كما يزعم أصدقاؤك أو كما تزعم أنت عندما لطمك الحب على خدك الأيمن، بل إن أصلها هو هذا المودرنزم المضمر في مزاجك الخاص، فكل الناس يحبون الكمثرى (ورحم الله حافظ إبراهيم!) ولكنك لهذا السبب تحب الحنظل؛ وإذا عكسوا عكست! وكل عباد الله يستحمون في الشتاء بالماء الدافئ، ونحن نستنتج من المذهب الذي تأخذ نفسك به أنك تستحم، بل تستنقع في الشتاء في حوض (بنيو) مملوء بالثلج والبرد! لهذا، لا لغيره. . . سألناك لماذا لا تعتني بالتأليف للمسرح المصري كما نفهم هذا المسرح، وكما يفهم المسرح برنردشو، وكما يفهمه إبسن وبجورنسن والنقاد المحترمون الذين لم تعجبهم الروايات التي ألفت على قواعد المودرنزم. والتي شهدتها فأغرمت بها، لأنها صادفت هوى في فؤادك

ص: 16

هل عرفت إذن ماذا نقصد يا أحب الأدباء التمثيليين إلى نفسي؟ وهل رأيت كيف أن خطابك لم ينطل علينا؟

على أنني ضد السيد المحترم الوالد العزيز فيما ذهب إليه بشأنك. ولو فطن لعلم أنك أذكى البشر

واستودعك الله إلى الحديث المقبل.

دريني خشبة

ص: 17

‌الضريبة الأدبية على الأدباء النابهين

للأستاذ محمد صادق رستم

كان المذهب الخيالي (رومانتيك) في إبان ازدهاره بفرنسا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر حين وضع الفريد دوفيني الكاتب الشاعر مسرحية سماها (شاترثون)، وإنما عنى بهذا الاسم فتى إنجليزياً شاعراً مطبوعاً كان يسكن في غرفة منعزلة عالية بدار تاجر مالي، ويقضي يومه ومعظم ليله في استنزال وحي الشعر السامي، رجاء أن يعرضه للنثر فينال الربحين الأدبي والمادي. فحدث أن طال عليه دلال ذلك الوحي وتجنت عليه القريحة، ومر شهر في إثر الشهر وفي عنقه أجرة الغرفة التي يسكنها، فأوعز التاجر المالي الذي لا يفهم غير لغة النقود والأرقام إلى زوجته أن تنذر الفتى نزيل الدار بوجوب الدفع العاجل وإلا فالمقاضاة والطرد. . . وكان فتانا الشاعر البائس قد ألف الائتناس بطفلي السيدة ربة الدار، وكثيراً ما كان يلاطفهما ويرسم لهما الصور المضحكة المسلية، فأشعرت السيدة العطف على هذا الفتى الأليف، وداخلتها الشفقة عليه فسوفت في إبلاغه إنذار زوجها، وجاءت تدبر له مخرجاً، وتجد له ما يسدد به ما عليه، لذلك الذي لا يعرف عذراً ولا يصبر على حق، ولكن الجدود العواثر رمت بالفتى في طريق هذا الجبار على باب الدار، فاستطال لسان الذهب على الديباجة الرقيقة من الأدب، فكبر الأمر على فتانا (شاترثون)، فلم يجد مخلصاً إلا في الانتحار بالأفيون، ولعله (قبر في صدره القصيد الخالدة)

تلك خلاصة وجيزة للمسرحية، والذي يعنينا منها أن (دوفيني) المؤلف قدم لها يوم طبعها بمقدمة بارعة فرق فيها بين الأديب والكاتب الكبير والشاعر. فذكر أن الأولين كثيراً ما يشقان طريقهما إلى الشهرة فيكفل لهما العمل رغد العيش وميسرة الحال، وقال المؤلف إن مثل هذين الرجلين يستطيعان أن يفهما الجمهور ويفهمهما الجمهور فيسهل عليهما انتزاع الرزق من يد القراء في أي وقت شاءا، أو شاء لهما جري القلم، أما الشاعر فشيء آخر. . .

ومضى دوفيني يصف الشاعر بأنه مخلوق خاص لا يكاد يحسن شيئاً من وسائل طلب العيش في غير دائرة الشعر ويزيد في طينه بلة أنه غريب في وسط الجماهير ندر من يفهمه، وأندر من ذلك من يعرف له قدره. ثم إنه يضن بوقته إلا على التماس الوحي

ص: 18

الشعري. ويضاف إلى ما تقدم طبعه ومزاجه، ولعله كون كالساعة التي صنعت لتدور على غرار خاص. فمثل هذا العندليب الذي لم يخلق إلا ليتغنى، ولا يحسن إلا أن يتغنى، ألا ينبغي أن تسنده يد في زحام هذه الحياة التي ينحى الناس فيها بعضهم بعضاً عن سبل العيش والكسب بالمناكب. (لعل في صدر ذلك المستضعف القصيدة الخالدة) فكيف نصرفه عن مناجاة وحيه إلى الدأب المستمر وراء اللقمة، وفيما نحفل بالعندليب فنقتنيه ونتخير له القفص المزدان، ونتقدم إليه بالحب الخاص، ونقيه عاديات الجوارح، ونشفق عليه حتى من عوارض الطبيعة، وشاعرنا الإنسان العبقري في زوايا الإهمال ومطارح الإغفال!. . .

هذا ما كان يقوله دوفيني في عهد ازدهار دولة الأدب الخيالي، وهو عهد لم يطل؛ فقد ألح عليه أمثال فلوبير بالمذهب الحقيقي (ريالزم) وزولا بالمذهب الطبيعي (ناتوراليزم) فتوارى؛ بل لقد أفرد زولا لأمثال تواليف دوفيني كتاباً في النقد اسمه المذهب الطبيعي في المسرح (لوناتوراليزم أو تياتر) تناول فيه في جملة ما تناول، رواية شاترتون ومقدمتها بالذات وأبى على دوفيني وصفه للشاعر واستنكره وسخر منه. وجلي أن الناقد اميل زولا لم ينظر إلى الموضوع إلا بمنظاره الخاص، ولم ققسه إلا بمقياسه الذهبي فلندع له رأيه المحترم

ولقد عرفنا في بعض شعرائنا المطبوعين أن كثيراً منهم، وخصوصاً بعد عهد جوائز الأمراء والكبراء، بله الخلفاء، كان يعمل بيديه ليرتزق مثل الجرار وخابز الأرز والرفاء والسراج والوراق ونحوهم، ولكننا نذكر مع ذلك العهد الذي كان يعال، ولو شقة اللفظة، فيه الشاعر العبقري، أو بعبارة أخرى يكفي شيئاً من الكد وراء الرزق ليتوفر على التفكير والاستيحاء، فكان للأخطل مثلا مروانه، وللمتنبي سيف دولته، وللبحتري متوكله، كما كان لشوقي توفيقه ثم عباسه، ولحافظ الأستاذ الإمام. فقال في رثائه:

لقد كنت أخشى عادى الموت قبله

فأصبحت أخشى أن تطول حياتي

وكانت في فرنسا على الأخص للمملقين من الشعراء حاميات أو راعيات يفتحن لهم (صالوناتهن)، وإلى جنب ذلك بعض الجمعيات التي تسدي العون الأدبي، وتجيز مادياً أحياناً فيجد الشاعر وخصوصاً الناشئ الذي لم يستجل بعد وجه الشهرة متكأ وظهراً ومؤازراً، أما المنكوب بالطبع الشعري اليوم، وبخاصة عندنا فأمره بيد البؤس إذا هو لم

ص: 19

يعمل ليعيش قبل كل شيء، فهل لهذه الحال الشائنة في عصر النهضة الحديثة القائمة من دواء؟

لعل الذين يسألون هذا السؤال هم أدباؤنا وشعراؤنا النابهون الذين عبدت سبلهم ودنت قطوفهم واستقر ذكرهم، من أمثال الأساتذة: طه حسين، وزكي مبارك، والعقاد، والحكيم، والمازني، وعلي محمود طه، واضرابهم.

ثم لعل في حظ كل منهم من الاشتهار ما يجيز فرض ضريبة ولو أدبية عليه تقتضيه التفكير في حماية قرنائه في الفن إن لم نقل إن الوقت ملائم لتأسيس (جماعة أدب) يعتز بها الشاعر والأديب الخامل.

ولعلنا بعد ذلك نسمع رأياً أو مقترحا في هذا الموضوع من ذوي الشأن. وأكبر اليقين أن صفحات (الرسالة) ترحب بهذا وتفسح له خير صدر

محمد صادق رستم

ص: 20

‌في التيه!

للأستاذ سيد قطب

شيطان الحقيقية

لا تقرب. لا تقرب. إنها هكذا جميلة!

ماذا تريد! أبتغي أن تحقق فيها، وأن تمتحن صدق النظرة البعيدة؟

كلا. كلا! إنني لأشفق أن تبديها النظرة القريبة شوهاء، أو أن تظهر بها بعض الندوب والخدوش!

هي جميلة هكذا ونحن من بعيد؛ فماذا نبغي غير أن نراها جميلة؟

الحقيقة؟! ويحك! ومن أدراك أنها تبدو دائماً على مقربة؟ ولم تكون الحقيقة هي التي نراها على هذا البعد البعيد؟ وهبها ليست كذلك، فماذا يضيرنا؟ ولماذا نصر على رؤيتها عن كثب إذا كانت من بعيد تبدو لنا جميلة؟

إن قصارى ما تستطيع الحياة أن تهبنا إياه أن تبدي لنا الأشياء جميلة. فلماذا نصر نحن على نبذ هذه النعمة بحجة البحث عن الحقيقة؟

ألا ويح هؤلاء الفانين في العالم الأرضي المحدود! إن الشيطان قد نفس عليهم نعمة الوهم التي منحتنها إياهم السماء، فجعل يوسوس لهم باسم الحقيقة، ليخرجهم من هذا النعيم، وهم يحسبون أنفسهم الرابحين!

جمال الظلال

هذا المخلوق الشائه القبيح. هأنذا أرى ظله جد جميل! إنه يقفز في رشاقة ويتراءى في رواء. إنه يتثنى ذات اليمين وذات الشمال كتمثال حي من تماثيل الجمال. إن هذا الظل ليبدو طليقاً من قيود التقاسيم والألوان

ألهذه الطلاقة يا ترى هو جميل؟

وهذه الشجرة الباسقة النامية، إنها جميلة ولا شك، ولكن ظلها أجمل! إن حركاته أرشق، وخطراته أشف، إنه يتمايل هكذا وهكذا في شبه حرية لا تتمنع بها الشجرة

ألهذه الحرية يا ترى هو جميل؟

ص: 21

ما الجمال؟ إنه الحرية، إنه الطلاقة. إنه الانطلاق من الأوضاع والأشكال والتقاسيم والحدود

ألهذا يبدو الخلود جميلاً لأنه غير محدود. لأنه الظل الطليق لهذه الحياة المقيدة؟ ألهذا يخلق الناس الآلهة؛ ألهذا يركنون إلى الإيمان؟

من يدري؛ فربما كان خلق الناس للآلهة وركونهم للإيمان فما نفسهما الصلة الحقيقية بين الإنسان الفاني المحدود، والإله الباقي غير المحدود

الإله الطليق

أيها النور، أأنت طليق؟ أأنت تفيض حيثما تشاء، وتنطلق كيف ما تريد؟ أأنت تغمر الكون في سعة وفيض لا يخشى عليهما النفاذ، ولا تحد من طاقتهما الحدود؟

لقد كنت أحسبك كذلك، وكنت سعيداً بأن أحسبك كذلك، إلى أن قرأت وعرفت! عرفت أنك خاضع - ككل مظاهر الطبيعة - للقانون، عرفت أنك مقيد بالناموس

وا أسفاه! إنك أيها النور كائن محدود!

وا أسفاه! لقد تقصيت مظاهر هذا الكون، وحصرت أملي فيك - أيها النور، لأنك أنت الوحيد من بينهما الذي كنت تخيل إلي أنك طليق!

ثم ماذا؟ ثم هاأنت ذا غير طليق!

وا لهفتاه! أليس هنالك غير المحدود؟ ما أحوج القلب البشري إلى هذا اللانهائي. إنه يفقد أعز عقائده وأجمل أمانيه حين يفقده

ماذا؟ أليس هنالك عزاء؟

بلى، هنالك عزاء وحيد. هنالك الإله. الإله الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لامتداده. الإله الطليق من جميع القيود

أبهذا الإله العظيم

إنني أحبك! أحبك لأنك (غير المحدود) الوحيد في هذا الوجود. أحبك لأنك لأمل الوحيد للقلب الإنساني حين يضيق بالحدود!

قيود الملك

ص: 22

متى تستطيع الكائنات أن تكون شيئاً آخر غير (المالك) و (المملوك)؟

إن (الملك) قيد من قيود الفناء يتنزه عنه الخلود. إن المالك ليس أقل تقيداً بما يملك من المملوك المقيد بمن يملك، وإن نسبة الترابط بينهما لهي واحدة أو تكاد

إن الطبيعة حين ولدت أبنائها جميعاً، تسربت فيهم جميعاً فهم أجزاء متكاملة، كل جزء منهم يحمل جزءاً من الفكرة التي خلقوا ليعبروا عنها. إنهم متكاملون أو متداخلون، ولكنهم ليسوا مالكين ومملوكين!

كم بت أكره الملك المتحيز حتى في الحب. لا أريد أن تكون هذه (لي) أو تلك. أريد أن أكون عابداً. أن أنظر من بعيد إلى الهالات الإلهية المرتسمة حولها دون أن أمد يدي إلى شيء منها. أريد أن تغمرني غبطة شاملة. أريد أن أحس بالكمال الذي لا يحتاج، وبالرضى الذي لا يطلب، وبالإشراق الذي لا شعائر فيه!

تطهير الصنم

قال لي صاحبي - وقد رآني أدافع عنها بحرارة ضد نفسي وأدفع عنها كل ما قد رميتها به من قبل -: ويحك! أهي نكسة إليها بعد كل ما كان، وهل نويت الرجوع؟

قلت: كلا! لم أنو شيئاً، والرجوع - بعد - مستحيل. إنما أريد تطهير الصنم، كيما أتوجه إليه بالعبادة؟ فما أنا بمستطيع أن أعبده - وهو ملوث - وما أنا بقادر على البقاء بلا عبادة!

أنها يا صاحبي لم تخسر شيئاً بهذه الشكوك التي أحطتها بها، والتي حسرت عنها هالاتها المقدسة في نفسي؛ إنما أنا الذي خسرت: خسرت الإيمان وخسرت المعبود، وخسرت القبلة التي أتوجه إليها

أو تحسب يا صاحبي أن الآلهة يفيدون شيئاً من عبادة المؤمنين، أو يخسرون شيئاً من تولي الكافرين؟ كلا يا صاحبي إنما يكسب ويخسر أولئك الفانون الذين فطروا وفي قرارة نفوسهم ميل إلى الإيمان، وهو غذاء أرواحهم المعذبة، ومستقر قلوبهم الحائرة.

والرسل والأنبياء يا صاحبي! أتحسب أنهم ينشئون الإيمان في هذه القلوب إنشاء؟ كلا! إنما يحاولون فقط أن يردوا إليها الثقة والحرارة حين تخبو حرارتها ويتطرق الشك إليها، فيما كانت تعبد من قوة في السماء.

ص: 23

آه يا صاحبي! لو أستطيع أن أغمض عيني مرة أخرى فلا ترى! ولكنها جناية المعرفة. جناية الوعي المتيقظ، جناية هذا العقل الإنساني الذي يسلبنا سعادة الإيمان، ثم لا يعوضنا إلى شقوة الشكوك.

لست ابغي الرجوع أيها الصديق؛ إنما أبغي قداسة الصنم المعبود. فهل فهمتني الآن؟ استغفر الإيمان. أعني هل أحسست ما يختلج في نفسي من أحاسيس؟

الانسياب

أتدري فيم أكتب إليك؟ إنه أمر غريب حقاً! إنني في حاجة إلى من يرد على إيماني بشعر (الحالات النفسية). إنني لفي شك مؤلم في هذا النوع من الشعر الذي أصبحت أراه محدود الآفاق.

أنني لا ألجأ إلى هذا الشك راضياً ولا مختارا. لقد أحببت (شعر الحالات النفسية) وآمنت به فترة طويلة؛ ولقد كان عندي لونا من ألوان المثل الأعلى للشعر الجديد.

فما عساي يا صاحبي أريد؟

أريد الانطلاق. أريد الانسياب في الطبيعة كأنني ذرة منها لا تحس لها كيانا مستقلا. أريد ألا أحس بالقصد والغاية، ولا بالحالات الواقعية المحدودة. إنني أكره (الوعي) لأنه نوع من الحدود!

أريد الهالات التي لا حد فيها بين الأضواء والظلال. أنكر شعري وشعر الكثيرين، لأنني لا أجد فيه ما أريد. وأخشى ألا يكون بين شعراء العالم من يلبي هذه الرغبة العميقة. من ينساب في إحساسه وفي تعبيره بلا حدود. أخشى أن تكون الموجة التي تغمرني ليست سوى شعور غامض غير قابل للتعبير عنه في لغة البشر المحدودة. إنها إذن تكون كارثة. ألا يوهب البشر نعمة التعبير عن هذا الشعور؟

(حلوان)

سيد قطب

ص: 24

‌مصر والشام

للسيدة وداد سكاكيني

كنا إذا ولينا الوجوه شطر مصر كالعيس في البيداء، تتلهف ظمأ الماء وهو على ظهورها محمول. فيا عجبا لذاك الحنين الذي كان يطفو على جنبات نفوسنا كموج البحر وهو يمور ويفور، ثم لا يكاد موجه أن يندفع على الصخور حتى يحور يغور، فهو هباء منثور. كذلك كنا إذا هزنا الشوق إلى مصر هفونا إليها من ربوع غسان ودارات أمية، فكانت رياح الحنين غادية غير رائحة، ومقيمة غير مبارحة. ولقد مرت بالشام عهود وأحداث كانت من خلالها بمعزل عن غيرها، لا يبلغ مصر من هذه الديار إلا التجار ونزر من الأخبار ويتلقاها النسيب من النسيب، حتى تصرمت تلك القطائع وتواصلت بعدها أواصر ووشائج، كان وثاقها يشتد على ترادف الأيام؛ ولكن لم تبلغ مداها ولا أدركت مناها، فحنين العرب إلى مصر عريق في الدهر، ظهرت بوادره منذ تطامنت لوادي النيل مقاليد الحكم والسيادة من عهد الخصيب أميرها، وكافور الأخشيدي مليكها، فقد أتاها النواسي زائراً ومدح أميرها بقصيدته التي مطلعها:

أنت الخصيب وهذه مصر

فتدفقا فكلاكما بحر

ثم ورد عليها أبو الطيب المتنبي منتجعاً وشاعراً فكان لها في نفسه أثر ما زال أروع طوابع شعره. كأنما أراد الله لمصر بعد أن هوى تاج العز عن رؤوس العباسيين أن يتألق على رأسها فكان لها من المجد والعلم ما كان لعواصم الغرب التي أفادت من علماء الروم بعد طغيان الحرب على بلادهم فكانوا حيثما توجهوا وأينما حلوا ينابيع معرفة وثقافة، فما أديلت العباسية وطوائف الملوك حتى كانت مصر مورداً عذباً لجماعة من العلماء والكبراء، ومثابة لطائفة من المؤرخين والفقهاء، وكأنها قبلة علمية توجهت إليها الأنظار والأفكار، وذلك قبل عهد الانحطاط الشامل الأخير. ولما امتدت يد الظلمة والخمول إلى أرجاء الشرق كانت مصر في البلاد الهاجعة فانطفأت تلك الشعلة الباقية من مصابيح العرب الأوائل، حتى كان البعث الحديث زمن الغزوة النابوليونية ثم أيام النهضة المباركة التي خلق فيها مصر من جديد محمد علي باشا الكبير

وفتح العالم العربي في عينيه بعد سبات عميق، وتلفت المستيقظون صوب البلاد الآمنة

ص: 25

الخيرة، فلم يجدوا غير مصر مراحاً لأرواحهم وعبقرياتهم، وصورة لأمجادهم وذكرياتهم، فتوافدوا عليها شقين طامحين، وأكرمت هي وفادتهم ومودتهم، وقد عقدت بينهما وبينهم وشائج القربى والتاريخ وروابط اللغة والدين. وسبق اللبنانيون إليها مهاجرين فسكنوا وادي النيل وكأنهم بين أهل وعشيرة، فاستهوتهم بحفاوتها وخيراتها، وساهموا في نهضتها المعاصرة مساهمة لمعت آثارها في المرافق التجارية والحياة الأدبية، ومازالت مجاني ثقافتهم وصحافتهم دانية القطوف في المقتطف والهلال والمقطم والأهرام. على أن هؤلاء المستوطنين ما لبثوا أن تركوا طوابعهم السورية واللبنانية ما وراء العقبة واتسموا بمياسم مصر فتكلموا لهجتها العذبة واقتبسوا من عاداتها وتقاليدها، واكتسبوا من (جنسيتها) فشاركوا أهلها في التبعات والواجبات وصار لهم حق مراتب الدولة، وفي مجلسي الشيوخ والنواب

وشاءت الأحداث منذ الحرب الغابرة أن تفرق بين الإخوان والجيران في التخوم والإقليم، أما وحدة الشعور واللغة وعلائق المودة والهموم، فكانت تزيدها الأيام والآلام حدة وقرباً، وما ألمت بمصر حادثة أو دهمت بلاد الشام كارثة حتى كانت صيحات المواساة والمؤتمرات تعلن تبادل الولاء والوفاء بين القطرين المجاورين. وللشام كما قلت هوى بمصر عريق، ولكنه كان كميناً دفيناً فلم يجد له بثاً وبعثاً غير الأدب والثقافة، فكانت المنابر والأقلام مظاهر ذلك الشعور والإخاء، وأكب العرب في جميع أقطارهم على أدب المصريين وصحافتهم. بيد أن الشاميين كانوا أشد تعلقاً بأدباء الكنانة وشعراء النيل. ولا بدع إن اتجهت أنظارهم صوب مصر الشقيقة الكبرى وأعجبوا بآثار أدبائها وشعرائها ومآثر العروبة والإسلام فيها، فقد كان هذا القطر العزيز سباقاً إلى نشر الثقافة والمعرفة بما توافر لديه من أعلام الفكر والصحافة، وبما تكاثر فيه من دور التربية والتعليم ومعاهد اللغة والدين، فما يكاد يصدر عن مصر كتاب لأحد أدبائها حتى يتهافت كل مثقف في هذه الديار على قراءة هذا الكتاب واقتنائه، بل ما أحسب أن دار علم عندنا أو معهد فن أو مكتبة أديب أو متعلم تخلو من مؤلفات المصريين في ألوان الثقافة والأدب، وما تظهر مجلة مصرية أو جريدة حتى نتلقاها بشوق وترحاب، وقد عجب لهذا طابعو الكتب وبائعوها فعلموا أن جل هذه الأسفار والصحف تقرأ وتروج في بلاد الشام وسائر الأقطار العربية أكثر مما تروج

ص: 26

وتنتشر في بلاد المؤلفين المصريين والصحافيين، وإن جمهرة العرب في هذا الشرق الأدنى يحلون علماء مصر وأدباءها وأهل الفن فيها من أنفسهم محلاً رفيعاً ما يكون له من المصريين أنفسهم، بل إننا لا نمن على إخواننا وجيراننا إذا كنا لا نغادر صغيرة ولا كبيرة من شئونهم إلا نحيط بها علماً، لأننا نجد في شعورهم وتفكيرهم صدى لشعورنا وتفكيرنا، وكما أن الشاميين عبروا بحفاوتهم وأقلامهم عن إعجابهم بالأدب والطرب يطرفانهم من نحو مصر، فإن شعراء النيل ما زالوا يرسلون قصيدهم في تحية الشام وبعث ذخائرها وأمجادها. ولقد زار دمشق في ماضيها القريب أمير الشعراء أحمد شوقي فملأ عينيه وروحه بمفاتنها ومباهجها، ورأى بتحديقة واحدة دنيا أمية راقدة تحت الثرى منبثة في هذه الربوع فبعثها في شعره الملهم إلى دنيا الحياة، ونظم فيها قصيدته الفريدة التي ناجى بها جلق وتغنى بماضيها الأغر المحجل، وفيها خلع على الشام أوصافاً لا تمحوها يد الحدثان. فيا لأمية في هاماتها وربواتها، في نيربيها وغوطتها! ويا لعظمة بردى مسلولاً كسيف من فضة يوزع الخصب والبركة، ويبدع الحدائق والظلال!

لقد كانت الشام مطوية المحاسن والمفاتن، كامنة الحنين إلى الأمجاد وعز الأجداد، حتى هاجها شوقي من مكامنها ورصع بها شعره الخالد، فهب الشاميون على شعر شوقي وترنموا به ورجعوه في مغانيهم، وفي مجالسهم ومدارسهم، واهتاجت مشاعرهم شوقاً إلى ضفاف النيل وحمى الأزهر وحصن الإسلام. وما اكتفى شوقي بشعره في وصف دمشق ومجاليها، بل سكب من قريحته بلسماً لجراحاتها فرثى من أجلها وبكى، وخلد ميسلونها؛ وحين تهدم بنيانها ناح شوقي على منازل العز وهي بأيدي البلى من أحياء دمشق

وما كان حافظ إبراهيم ضناناً بقريضه في مناقب الشام ومحامد أهليها وأنهم خير من رعى الجوار والإخاء. وقد أنشدهم بلهجته الساحرة قصيدته التي حيا بها من بالشام، حياه وتمنى أن تجري المودة طلقاً في أعراق الشرق كجريه الماء في الأفنان؛ وحدث سامعيه عن وجد النيل ببردى، وأهدى إليه أشواق ولهان وتحنان

ومن قبل هذه التحية الطيبة قال حافظ:

لمصر أم لربوع الشام تنتسب

هنا العلى وهناك المجد والحسب

وقال:

ص: 27

إذا ألمت بوادي النيل نازلة

باتت لها راسيات الشام تضطرب

ولكن الأدب في هذه البلاد ما زال عاتباً على غفلة المصريين عن أهله، ولطالما تواترت الملامة من أدبائنا لتفاضي مصر عن أدبهم وتصانيفهم حتى عدوا ذلك منها إغفالاً وإهمالاً. وقد اعترف بهذا التفريط أعلام الثقافة والأدب في وادي النيل، فكتب الدكتور عبد الوهاب عزام:(وليس الأمر بيننا تشابك أقوام واتصال أوطان فحسب، ولكنه الحب المؤكد والود الصريح ينطق عن السنة القوم ويتجلى في أساريرهم ويبين في أعمالهم ويشهد به اهتمام القوم بكل صغير وكبير في مصر وتحدثهم عن علمائها وأدبائها وأحزابها وقادتها حديث المحب العارف الخبير، وحرصهم على قراءة ما تخرجه مصر من كتب ومجلات وجرائد، وكثيراً ما نرى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها. (ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا؛ فلا ريب أن فيها من الآداب والأخلاق والصناعات ما يجب علينا أن نتلقاه عنها ونحتذيها فيه)، وقال الدكتور طه حسين في حديث له عن الشرق العربي نشرته صحف كثيرة منذ بضعة أعوام وأشارت إليه (فنحن مثلاً نزعم لأنفسنا ويتفضل إخواننا الشرقيون فيزعمون لنا إننا قادة الرأي في الشرق العربي وزعماء النهضة الأدبية في العصر الحديث، ونحن نتأثر بهذا الغرور ونرى لأنفسنا حقوقاً ولا نكاد نشعر بما علينا من واجبات، نرى أن على الشرقيين أن يقرئونا وأن يتأثرونا ولا نكاد نشعر بأن علينا أن نقرأهم دائماً وأن نتأثرهم أحياناً)

على أن الحكومة المصرية الجليلة شعرت بهذا الغفول عن أدب الإخوان والجيران فأعدت العدة لتوحيد الثقافة في جميع البلاد العربية، وقررت تبادل المؤلفات والمعلمين والمعلمات بين الأقطار الشقيقة والمجاورة. أما أمنية الأدب الغالية في ربوع الشام فلم تحقق، وما يزال أدباء مصر يجهلون أدباءنا وآثارهم، ولا تكاد تجد في إحدى المكتبات المصرية كتاباً لأديب سوري أو لبناني في غير بلادهم وشاءت الأقدار في هذه الأيام أن تؤلف الهموم والخطوب بين الأقطار العربية فتسعى بالتعاون والتضامن إلى خير الإنسانية ونصرة الديمقراطية، وتطلعت مصر إلى أخواتها بمحبة وبهجة تستجلي الأماني والآمال، ومدت يدها تصافح الإخوان أو الجيران، فوجدت أن الأحداث لم تنل منالاً من أهل هذه البلاد وهم المؤمنون بعطف مصر ومساعيها النبيلة لنهضة العرب وبسط حضارتهم ونشر ثقافتهم؛ فهل يقيض

ص: 28

لأدب الشام أن يرى مصر مراعية لأمره ساعية إلى تحقيق التبادل في المؤلفات وفي الآراء التي تؤول إلى ازدهار الحياة الأدبية عندهم وعندنا؛ وإن علماء الاجتماع ليعلموا أن كل نهضة لا تقوم على الأدب مكتوب لها الخيبة والإخفاق. أما وقد لمسنا في المصريين الكرام مظاهر التعاون الثقافي في المعاهد العلمية والدينية في بعض البلاد العربية؛ فإن الأمل وطيد بأن نرى في القريب بشائر التضامن الأدبي في هذه الأقطار التي ترتقب عهداً جديداً أغر يصل طريفها بتليدها، ويحيى في مرافقها وآفاقها تراث الأجداد والأمجاد.

(دمشق)

وداد سكاكيني

ص: 29

‌آراء للمناقشة

ختان البنات في مصر

للدكتور أسامة

تختص مصر في هذه العادة دون سائر بلاد العالم المتمدن، إذ لا يشاركها فيها سوى قبائل السودان وأواسط أفريقيا. ولم أهتد إلى أصلها؛ غير أن اقتصارها على هذه المناطق واختصاص نساء الغجر بإجرائها، ويشاركهن الدايات الآن، يحمل على الظن بأنها عادة مصرية قديمة انتقلت إلى مصر من الجنوب بواسطة هؤلاء الغجر الذين اتخذوا منها مورداً للارتزاق. ولست أعرف رأي القانون ووزارة الصحة في ممارسة هذه العملية إذ أنها عملية جراحية حقيقية لها أخطارها، ويجب أن يكون لها إجراءاتها وقيودها؛ غير أنني كطبيب أريد أن أوضح لأبناء وطني ما ينطوي عليه ممارسة هذه العملية من أضرار طبية ونفسية واجتماعية، بجانب ما يظن لها من فوائد أكثرها وهمي

وأول هذه الأضرار هو الخطر الجراحي الذي ينشأ من النزيف، والأضرار الأخرى لا تحدث أعراضها إلا بعد زواج الفتاة، ومنشأها أن الجزء الذي يقطع (البظر) هو عضو تناسلي أساسي، لأن به كل الحساسية الجنسية للأنثى، وليس هو كما يظن الشخص العادي يماثل الجزء الذي يقطع في ختان الذكور، فإن هذا قطعة من الجلد لا قيمة لها. فإزالة هذا العضو تماثل في نتائجها قطع الجزء الحساس من العضو التناسلي في الذكر. فالمرأة المتزوجة في هذه الحالة لا تحصل على الاكتفاء الجنسي الذي هو أساس لحياتها التناسلية، وينتج عن ذلك الإصابة بالنورستانيا والأمراض النفسية والعصبية المختلفة، كما وهذه الأمراض منتشرة بين النساء اللواتي يجب اعتبارهن جميعاً ناقصات جنسياً لهذا السبب. وإنني أعتقد أن في اقتصار حفلات الزار على البلاد التي تمارس هذه العادة وهي مصر وأواسط أفريقيا ما يوضح علاقة بينهما، كما يوضحها كثرة انتشار الخرافات المتعلقة بالاعتقاد في إصابة بعض النساء بالجن والمشايخ والأسياد وما يجده الدجالون من سوق رابحة بينهن باستغلال هذه المعتقدات

ومما ينشأ أيضاً عن عدم الاكتفاء الجنسي لدى المرأة أنها تظن ذلك بسبب عجز تناسلي من زوجها الذي يشاركها في هذا الاعتقاد لجهله، ويظن بنفسه نقصاً في رجولته أو مقدرته

ص: 30

الجنسية (وليس به أي نقص في الحقيقة) فيحاول تعويضه أولاً بالإجهاد الجنسي (الإفراط)، وثانياً باللجوء إلى الوصفات البلدية الشائعة وهي لا تؤدي إلى أي نتيجة حقيقية، وأكثرها يتركب من الحشيش والأفيون والداثورة وبعض مواد أخرى قد تكون شديدة الإضرار بصحته وقد تؤدي به إلى الإدمان

وإن ما هو معروف من أن تعاطي هذه المكيفات إنما هو لغرض جنسي يحملني على أن أقرر أن أهم عامل في انتشار المخدرات في مصر يرجع إلى النقص الجنسي في النساء المصريات الناتج عن إجراء عملية الختان لهن

وفضلاً عن هذا فإن الشعور الجنسي للرجل يقل كلما ضعف هذا الشعور في زوجته. ولست أرى محلاً هنا للتبسط في هذا الموضوع وشرح نتائجه وصلته بنجاح الحياة الزوجية أو فشلها وبكثرة حوادث الطلاق وسواه

وقد يظن البعض في مصر أن هذه العملية عادة إسلامية، أو أن لها أصلاً دينياً، ولكن هذا الظن لا أساس له من الحقيقة ويكفي لإزالة هذه الفكرة أن نعلم أن هذه العادة لا يمارسها أهل الحجاز أو العراق أو اليمن أو سوريا أو تركيا أو إيران أو المغرب ولا أي شعب إسلامي آخر سوى المصريين. بل إن أعراب الصحراء الغربية في مصر لا يعرفونها، وفي مصر يمارسها المسلمون والأقباط على السواء، وأكبر الظن أن الأخيرين هم مصدرها وأنها انتقلت منهم لمواطنيهم المسلمين

بقى أن نقول كلمة عن الفوائد المزعومة لهذه العملية وبعضها قد يكون صحيحاً إلى حد ما، ولكنه كما سنرى لا يبرر إجراءها قط. وأولها ما يقال من أنها نظافة، والمقصود بهذا أنها تشبه النظافة التي تنتج من ختان الذكور وهذا خطأ، لأن المقارنة التشريحية للأعضاء التناسلية في الذكر والأنثى تبين لنا أن هذه النظافة حقيقية في الأولى ولا أثر لها في الثانية. ونظافة عضو لا تكون بإزالته. وهنا يجب أن أوضح أن ختان الذكر عملية سليمة من الوجهة الصحية ولا ينطبق عليها شيء من الاعتراضات المبينة هنا

وثاني الفوائد أو الحجج أن لهذا العضو شكلا بشعاً، والحقيقة أن شكل الأعضاء التناسلية منفر لكل ذي ذوق سليم من الجنسين؛ والمقرر علمياً أن الجاذبية الجنسية في الشخص المتمدين لا تحدث من الأعضاء التناسلية الخارجية؛ إنما تحدث من الصفات الجنسية

ص: 31

الثانوية، وهي في الأنثى جمال الوجه والقوام والساقين والفخذين والذراعين ورقة الأنوثة والصوت والثقافة والشعر الخ

وثالثة الحجج وأهمها فعلاً وأحقها بالبحث هي العفة؛ والحق إن ضياع العضو الذي به الحساسية الجنسية في الأنثى يقضي على المنبهات التي كانت ترد منه؛ ولكنه لا يقضي على المنبهات التي ترد من المخ وباقي الجسم (من حواس النظر والسمع واللمس)، فإزالة البظر يحدث عفة جزئية للفتاة قبل الزواج مشكوكا في قيمتها، ولكنه بعد الزواج يحرم المرأة المتزوجة من الشعور الصحيح باللذة الجنسية. وقيمة هذا العضو لدى الفتاة الأجنبية كقيمة أي عضو أساسي آخر. وليس من شك في أن هذه العملية جناية على جسم الفتاة ليس من حق أي إنسان ارتكابها، وإنها كبتر العضو الجنسي في الذكر. أما الحرص على الشرف وتعليم الفتاة العفاف فيكون بالتربية الجنسية الصحيحة

ومما تجب معرفته أن الميل الجنسي ليس مصدرة الأعضاء الخارجية، ولكن المخ والغدد الجنسية الداخلية (المبيضين في الأنثى والخصيتين في الذكر)، وأن هذه الغدد تتأثر في وظائفها بالإفرازات الداخلية للغدد الأخرى التي تسمى الغدد الصماء مما لا مجال للإفاضة فيه الآن. فإزالة كل أو بعض الأعضاء التناسلية الخارجية لا يؤثر في الميل الجنسي الطبيعي من أحد الجنسين نحو الآخر، ولكنه يحدث في الأنثى اضطرابات نفسية شديدة على صحتها

وكثيراً ما عرضت لي حالات مرضية في السيدات لم أجد لها سبباً إلا النقص الجنسي المتسبب عن هذه العملية. وقد تبينت لهذا الموضوع من الأهمية ما دعاني للكتابة فيه أخيراً. وأرى أنه يستحق اهتمام الهيئات التي تعنى بأن يكون لمصر جيل جديد سليم. ولست اطلب تشريعاً جديداً إذ يكفي تطبيق القانون الخاص بتعاطي مهنة الطب على القائمين بممارسة هذه العملية مع بيان أضرارها للجمهور، حتى يقضى عليها سريعاً ونتفادى أضرارها في الجيل الجديد. وإلى هذا أوجه نظر وزارة الصحة ووزارة الشئون الاجتماعية، وكل حريص على مستقبل وطنه وصحة أبنائه.

دكتور

ع. أسامة

ص: 32

‌أين أخي؟!

(مهداة إلى روح أخي الشاعر محمد أبي الفتح البشبيشي)

. . . كنت فيما مضى أهيم مع العط

ر واسري مع النسيم لزهرِه

وأشق الفضاء كالضوء جيا

شاً وأسعى مع الهزار لوكره

أين مني أخي وأين أخاء

سكر القلب من أفاويق خمره

اين مني أخي فإن يد المو

ت ترامت به لظلمة قبره

أين مني أخي؟ تُرى اليوم ين

ساني وقلبي مقيد بين ذكره

كلما طالعت عيوني صبحاً

ذكرتني الأنوار فتنة سحره

وإذا زهرة تهادت بحس

نفحات؛ لمست نفحة عطره!

وإذا ظلمت تمادت بليل

غامض يشمل الوجود بسره

كدت من لهفتي أراه حنيناً

يتمشى به كومضة بدرهْ!!

وإذا موجة من الأبد النا

تي ترامت على الوجود وصخره!

ذكرتني به خيالاً أبياً

يرقص الكون من ألاحين شعره

طاف بالقلب من عهودك طيف

بعث الشوق في الفؤاد الكسير

وبروحي رأيت روحك تهفو

لعهود وضبئة ووكور

وبوهمي بعثتُ ومضةَ عيني

كَ تبث المنى بميْت الشعور

وتخطيت ما أمامي من صب

ح وليل ولجّةٍ وصخور

وتهاويل بثها الزمن العا

تي هباء بعالم مسحور

كي أرى وجهك النبيل تجلّى

من وراء الفنا وليل القبور!

آه إني أحس شوقاً ويأساً

من جوىً عاصف وحزن مرير

أين مني أخي يرطب أيا

مي بصفو المنى وصفو الضمير

أين مني أخي فقد صرت دوحاً

راعش الظل مقفراً من زهوري

كنت تسعى إشراقة من شعاع الف

ن تُزْجي الحياة للخامدات!

نمقتها رؤى الخيال فكانت

فتنة لم تزل تضيء حياتي

كم ليال عبرتها يوم كنا

فرحة صُوّرت لماض وآتي

ص: 34

كنت فيها هدى لعقل شرود

لم يزل سادراً مع الترَّهات

من ترُى غالها؟ ومن بدد الشم

ل؟ ومن أيقظ الردى من سبات؟

إِن الداء. . . داء قلبك لم ير

حم دموعي ولم يصخ لشكاتي

ما عسى تنفع الحزين دموع؟

هل ترى تقهر الأسى عبراتي؟

سأظل الحياة أعبد ذكرا

ك وأطوي مع الدجى أمنياتي

(الإسكندرية)

حسين محمود البشبيشي

ص: 35

‌إلى زهرتي

اسمعيني. . .

اسمعيني كلما غنيت في دنيا الأماني

اسمعيني واسمعي الأطيارَ تشدو بلساني

أنا قلبي جدول للشدو سلسال الأغاني

كلما غنيت ألقَى سمعه لي كل عاني

أنتِ إلهامي ووحيي، أنت روحي وَجنَاني

فاسمعيني قبل أن تذبُل في نفسي المعاني

كل ما في الكون يا زهرة بسّامُ المحيا

فابَسِمي يا زهرة الآمال أو حنِّي إليّا

أنا شعر في فم الأيام فاصغَيْ لي مليّا

ردّدتْني أنَّةُ الحائِرِ لحناً موصليّا

ورآني المدلج الساري شعاعاً عبقريا

فاسمعيني قبل أن تطويني الأوهامُ طيّا

لستُ يا زهرةُ مثل الناس لكني غريبُ

كلما أشجاهم التغريد أشجاني النعيبُ

لا تلوميني فهذي قسمة لي ونصيبُ

واسمعيني فأنا سر من الغيب عجيبُ

وذكريني وذكري عهدي عسى صفوي يؤوبُ

كيف يا زهرة يُنْسى العهد، والعهد قريبُ؟؟

ذاك عودي في يدي أشدو عليه فاسمعيني

ودعيني أملأ الدنيا بأنغامي دعيني

سلسل الغيب نشيدي ورواه للسنين

غير أن الحظ يا تعسي أراه للمجون

فإذا ما حطم العود بكفي فاعذريني

ص: 36

واسألي لي الله أن يرحم شجوي وأنيني

عبد الرحمن الشربيني

ص: 37

‌البريد الأدبي

ازدواج الطبيعة الإنسانية

استوقفني في كتاب (زهرة العمر) قول الأستاذ توفيق الحكيم: (إني أعيش في الظاهر كما يعيش الناس في هذه البلاد، أما في الباطن فما زالت لي آلهتي وعقائدي ومثلي العليا. كل آلامي مرجعها هذا التناقض بين حياتي الظاهرة وحياتي الباطنة.)، وقد أثارت في نفسي هذه العبارة تلك المشكلة الخطيرة المتعلقة بوحدة الطبيعة الإنسانية في الفرد: فإن الرأي الشائع بين الناس أن في النفس وحدة قوامها التآلف والانسجام، على حين أن التجربة الباطنة تشهد بأن النفس الإنسانية مزدوجة قوامها التناقض والاختلاف. والواقع أن الإنسان (نسيج من الأضداد): كما قال رينان؛ فإننا كثيراً ما نشعر بأن ثمة نوازع متعارضة تتجاذبنا، وكثيراً ما نعاني صراعاً عنيفاً يقوم بين النفوس المختلفة التي تتقاسمنا. ولا ريب أن فرويد كان على حق حين قال إن شخصية الإنسان تتركب من: النفس الشعورية (أو الذات) وللاشعورية: والنفس العليا فإن التناقض الذي طالما يشيع في أقوالنا وأفعالنا، مرجعه إلى أننا لا نصدر في جميع الأحوال عن نفس واحدة: إذ أننا في تصرفاتنا العادية نصدر عن النفس الشعورية، وفي نزعاتنا ورغباتنا المكبوتة نصدر عن اللاشعور. وأما في مثلنا العليا ومعاييرنا التقويمية، فإننا نصدر عن النفس العليا. ولعل هذا هو السبب فيما نراه من أن بعضاً من المجرمين الذين تحجرت في نفوسهم الطبيعة الخيرة، قد يتناقضون مع أنفسهم في بعض الحالات: فيندفع اللص الذي يستلب الناس أموالهم، إلى العطف على فقير معدم، وينساق القاتل الذي يسترق الناس أرواحهم، إلى الأخذ بيد شيخ هم محطم. ولعل هذا أيضاً هو السبب فيما قاله رينان عن نفسه في كتابه:(ذكريات الطفولة والشباب): (أن شخصيتي مزدوجة؛ فقد يضحك مني جانب، في حين يبكي الجانب الآخر) ; '

زكريا إبراهيم

إلى الدكتور عبد الوهاب عزام

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد قرأت مقالتيكم النفيستين (في المسجد الأقصى) المنشورتين في الرسالة عدد 538 و540، وقد استوقف نظري في مقالتكم الثانية في العدد

ص: 38

540

1 -

قولكم: (فرأيت على بعد خطيب المسجد الأقصى يمر إلى حجرته في حلة خضراء وعمامة صلاحية وهو زي يتوارثه خطباء المسجد الأقصى من عهد صلاح الدين وهم من بني جماعة الكنانيين توارثوا هذا المنصب منذ القرن السادس إلى يومنا هذا)

2 -

وقولكم: (وانتهى بنا السير مع هذه الآثار والذكر إلى التكية البخارية وهي التي اتخذت متحفاً إسلامياً)

1 -

أقول إن إسناد خطابة المسجد الأقصى لبني جماعة لم يكن في عهد صلاح الدين ولا في القرن السادس بل في أواخر القرن السابع؛ فإن أول شيخ من بني جماعة سكن بيت المقدس هو الشيخ إبراهيم بن جماعة قدمها من حماة سنة 675 هـ في عهد الملك الظاهر بيبرس، ولم يلبث إلا أياما حتى أدركته الوفاة بكرة عيد الأضحى سنة 675 ودفن بمقبرة ماملا بالقدس: النجوم الزاهرة ج 7 ص 251 والأنس الجليل ج 2 ص 494. أما أول من ولى خطابة المسجد الأقصى من بني جماعة كما يؤخذ من الأنس الجليل فهو القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة وليها في سنة 687 هجرية في عهد الملك المنصور قلاوون بعد وفاة قطب الدين عبد المنعم بن يحيى الزهري النابلسي خطيب المسجد الأقصى، وقد مكث قطب الدين المذكور خطيباً في الأقصى أكثر من أربعين سنة: الأنس الجليل ج 2 ص 479 والنجوم الزاهرة ج 7 ص 378.

2 -

إن مكان المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى يعرف بجامع المغاربة. وهو مجاور للزاوية الفخرية وهي المعروفة قديماً باسم الخانقاه الفخرية أما التكية البخارية وهي المعروفة بالتكية النقشبندية؛ فهي خارج المسجد الأقصى ولم تتخذها متحفاً. قال في الأنس الجليل ج 2 ص 386 (الخانقاه الفخرية، وهي مجاورة الجامع المغاربة الذي تقام في صلاة المالكية من جهة الغرب وبابها من داخل المسجد عند الباب الذي يخرج منه إلى حارة المغاربة)، وهذا الوصف لجامع المغاربة ينطبق على مكان المتحف الإسلامي الحالي كل الانطباق

محمد صبري عابدين

مدرس بالمسجد الأقصى

ص: 39

حول الإبهام والغموض في التصوف

استنتج الأستاذ كامل يوسف من أبحاثه في التصوف بأن أفكار الصوفية يشوبها الإبهام والغموض، وهو في نظره نقص في التعبير من علل نفسانية ولم يأتي لنا بدليل قوي يؤيد ما ذهب إليه في وصف تلك العلل وأثرها في عقلية المتصوفه

وأقوى دليل عندي على توضيح الغموض والإبهام في كلامهم هو: غيرتهم على طريق الله أن يدعي معرفتها أحد بالعبارة؛ فإن الكتاب يقع في يد أهله وفي غير أهله فقصدوا برمزها بقاءها في الوجود بعدهم تنوب عنهم في إرشاد المريدين. وقد هلك من لم يرمز كلامه من أهل الطريق ورماهم الناس بالكفر والزندقة؛ وأما أمر الحلاج والسهروردي بخاف علينا جميعاً. . .

قال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: ما بالك أيها الصوفية اشتققتم ألفاظاً أغربتم بها على السامعين وخرجتم على اللسان؟ هل هذا إلا طلباً للتمويه وستراً لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما قلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه لعزته علينا كي لا يشير بها غير أهل طريقتنا

وقد كان الحسن البصري وبعده معروف والسري السقطي والجنيد رضي الله عنهم لا يقررون مسائل العلم بالله تعالى إلا بعد غلق أبواب بيوتهم وأخذ مفاتيحها ووضعها تحت وركهم خوفاً من إفشاء أسرار الله تعالى بين المحجوبين عن حضرته. فهل نقول إن هؤلاء السادة عندهم علل نفسية!

وبالجملة لا يسلم لهؤلاء القوم مواجيدهم إلا من أشرف على مقاماتهم. ومن لم يصل إلى هذا المقام فتارة يسلم أحوالهم على كره منه، وتارة يجحدها مجملة. ولا يزال هذا الأمر في الخلق إلى يوم القيامة، وما دمنا جميعاً رائدنا الوصول إلى الحقيقة من أي طريق فنحن في جهاد وكفاح حتى يظهر الحق واضحاً

محمد منصور خضر

إلى قراء الرسالة

اطلعت في مجلة قديمة على قصيدة قوية المبنى رائعة المعنى لشاعر مغمور لم أسمع به من قبل ولم أقرأ شيئاً عنه، يدعى حسن حسني الطويراني. والغالب على ظني أنه أحد

ص: 40

شعراء مصر في القرن الماضي أو أوائل القرن الحالي. وإني لشاكر من يتفضل من قراء الرسالة الأكارم فيروي على صفحاتها قصة هذا الشاعر الموهوب وشيئاً عن حياته وأعماله الأدبية. والله أسأل أن يجزيه عن الأدب وأهله خير الجزاء.

(بغداد)

علي الشوكاني

ص: 41