المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 545 - بتاريخ: 13 - 12 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٤٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 545

- بتاريخ: 13 - 12 - 1943

ص: -1

‌بين التزمت والإباحة

في قواعد اللغة

للأستاذ عباس محمود العقاد

قرأت بالرسالة مقال الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبي رية عن (عبقرية الإمام).

وإني شاكر له ثناؤه على الكتاب وحسن تلخيصه لفصوله وأغراضه، ومعقب على ملاحظته الأخيرة في اللغة حيث يقول:

(بقيت أشياء لابد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد. ذلك أني عثرت وأنا أقرأ لبعض ألفاظ كنت أقف عندها مثل لفظ (يقلاه ص 40) و (حانقين ص 55) و (فشل ص 81 و 96 و110 و126)؛ وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول فوجدته من لغة طيء، وإذن يكون استعمالها جائزاً. أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله: هل يجوز استعمال كلمة فشل في معنى أخفق وخاب، وأن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق؟)

وجوابي: نعم يجوز أن نأتي باسم الفاعل من حنق على حانق، لأنه لا يكون اسم فاعل إلا إذا كان على هذا الوزن

وجوازه ثابت بالنص وثابت بالقياس الذي لا يرد، وهو في بعض الأقوال أقوى من النصوص

فالزمخشري في كتابه (المفصل) يقول في باب الصفة المشبهة: (وهي تدل على معنى ثابت. فإن قصد الحدوث قيل هو حاسن الآن أو غدا وكارم وطائل، ومنه قوله تعالى وضائق به صدرك. . . الخ)

وجاراه موفق الدين بن يعيش شارح المفصل كما جاراه في هذا الحكم جلة النحاة

فإذا صح في (كرُم) التي تدل على الثبوت أن يقال كارم للدلالة على الحدوث، فذلك أصح وأولى في حنق التي ليس فيها معنى من معاني الثبوت

بل إذا كانت كلمة غداً أو الآن لا تكفي للدلالة على الحدوث ولا تغني عن الإتيان باسم الفاعل على صيغته الشائعة، فمن الحق ألا نستغني عن هذه الصيغة حين لا تقترن بلفظ يعين الحدوث في الحال أو الاستقبال

ص: 1

على أننا نفرض أن النصوص في كتب النحو لا تقرر هذه القاعدة ولا تثبتها على الوجه الصريح الذي قدمناه

بل نفرض أن النصوص قد وردت بمنع (حانق) وما شابهها وجزمت بخطئها على طريقة النحاة أحيانا في تخطئة بعض الصيغ والأوزان، فمن الواجب في هذه الحالة على خادم اللغة العربية أن يخالف النحاة ويخالف السماع الناقص تكملة له بالقياس الصحيح الذي لا محيد عنه

إذ ليس من حق لغة من اللغات أن تضطر كاتباً بها إلى الأخطاء في معناه

وليس من حق لغة من اللغات أن تبطل الفارق بين معنيين مختلفين ثم تمنعنا أن ننشئ هذا الفارق لضرورة الصدق في التعبير

فهناك فارق بين من يحنق من حادث يعرض له وبين من يلازمه الحنق في طباعه وأخلاقه

فإذا قلت عن رجل إنه (حَنِق) وعنيت به أنه دائم الحنق كما تدوم الصفات المشبهة؛ فمن الواجب أن أقول: (هو حانق من كذا)، إذا كان الحنق يفارقه بعد ذلك، ولا يلازمه في طباعه وأخلاقه

وإذا قلت إنه (حنق) وعنيت به ما نعني باسم الفاعل وجب أن نقول شيئاً آخر إذا عنيت أنه متصف بطبع الحنق في عامة أوقاته

وليس في وسع لغة ولا في وسع اللغات جميعاً أن تفرض على كتابها الخطأ واللبس في التعبير، ثم تصدهم عن تصحيح الخطأ وجلاء اللبس بتصرف لا يخرج بهم عن قياسها ولا يخل بأصولها المرعية في أعم ألفاظها

فالنص يجيز الصيغة والقياس يوجبها عند منع النص وهو بحمد الله غير مانع

وإننا لخلقاء أن نغبط أنفسنا على أن اللغة العربية (منطقية) في إجراء القواعد على الأوزان حيث تتشابه المعاني وتتخالف أوزان ألفاظها

فقد يحمل الشيء على غيره في المعنى فيجمع كجمعه. وانظر مثلاً ماذا بلغ من هذه النزعة (المنطقية) في أوزان الجموع وهي التي لا تجري على وزن واحد كصيغة اسم الفاعل؛ فليس في اللغة (هليك) بمعنى هالك ولا جريب بمعنى أجرب أو جربان أو جرب، ولكنهم يقولون هلكي وجربي قياساً على قتلي وجرحي ولدغي، لأنه جميعاً تدل على داء أو بلاء،

ص: 2

وهذا هو منطق النحو العربي الذي ينطلق أحياناً مع المعاني ولا يتحجر أبداً مع الحروف

أما (فشل) بمعنى أخفق فلها حكم آخر. فهذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر، لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق

وتجد المعاني على حسب العصور سنة لا تحيد عنها لغة من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية

فلو أننا أخذنا ألف كلمة من المعجم وتعقبنا معانيها في العصور المختلفة لما وجدنا خمسين أو ستين منها ثابتة على معنى واحد في جميع العصور

وربما غلب المعنى الجديد وبطل المعنى القديم وهو أصيل في عدة كلمات

خذ مثلاً كلمتي الجديد والقديم، وكيف ظهرا، ثم كيف تحولا إلى الغرض الذي نعنيه الآن.

فالثوب (الجديد) هو الثوب الذي قطع حديثاً من جده فهو جديد أو مجدود، وكانوا يقطعون المنسوجات عند شرائها، كما نقطعها اليوم، فيسمونها جديدة من أجل ذلك

ثم نسيت كلمة الجديد بمعنى المقطوع فلا ينصرف إليها الذهن الآن إلا بتفسير أو تعيين، وأصبحنا نعبر بالجدة عن أمور لا تقطع ولا هي من المحسوسات، فنقول:(المعنى الجديد) والفكر الجديد، وما شابه هذه الأوصاف

وكانوا يقولون تقدم فلان أي مشى بقدمه، ثم ضمنوا تقدمه بمعنى سبقه، فأصبح السابق هو القديم، وأصبح الزمن القديم هو الزمن السابق، كما نفهمه الآن

وقد نسى الناس (كتب البعير) بمعنى قيده، وأطلقوها اليوم على الخط في الورق، وهو في الأصل مستعار من التقييد ونسى الناس (خجل البعير) بمعنى تحير واضطرب، وأصبحوا يستعملونها (للحياء) الذي شبه بالخجل، لأنه يدعو إلى الحيرة والاضطراب

وكل أولئك لا ضير منه على اللغة كما رأينا، بل هو مادة إنشاء وابتكار وتنويع

والأستاذ الفاضل (أبو رية) يأخذ بالشيوع قاصداً أو غير قاصد حين يقول (المعاجم)، وهي جمع معجم بضم الميم، والمعجمات هي الجمع الذي يرتضيه المتزمتون ولا يرتضون غيره

إلا أنني هنا أنكر الإباحية العمياء، كما أنكر التزمت الأعمى

وعندي أنه لا يصح إلا ما أمكن أن ينطوي في قاعدة من القواعد المعروفة، أو أن يؤدي

ص: 3

المعنى أداء لا يناقض العقل والقياس

ومن أمثلة ذلك أنني كنت أشهد منذ أيام رواية (قيس ولبنى) للشاعر المجيد عزيز أباظة بك، فأعجبت بسلامة اللغة وصحت العبارة، ولكني لاحظت أنه استعمل كلمة (تضحية) بمعنى فداء أو خسارة، كما نستعملها نحن الآن

والتضحية عند العرب هي ذبح الشاة أو غيرها في وقت الضحى

ثم أخذت معنى الفداء أو القربان، لأن الناس ينحرون ذبائحهم في الضحى يوم عيد النحر الذي عرف من أجل ذلك بعيد الضحية

فإذا كنا نحن المتكلمين - ونعني أبناء العصر الحاضر - فلا ضير من تضمين الكلمة هذا المعنى بعد أن أخذته باستعارة معقولة، وكسبته بالاستعمال المتفق عليه بيننا

ولكننا إذا جعلنا العرب في عصر (قيس ولبنى) يستعيرون هذا المعنى، وهم لم يستعيروه فذلك خطأ في التاريخ وليس بخطأ في اللغة وكفى

والاعتراف (بالتطور) في المعاني والاستعارات لا يقتضي أن نخالف الحقيقة التاريخية

على أنني حين استعملت كلمة فشل لم أكد أخرج بها عما اصطلح عليه الأولون

فقلت: (يحاول الغلبة من حيث فشل)، ولو جعلت فشل هنا بمعنى ضعف لكانت مقابلة للغلبة أحسن مقابلة

وقلت: (ولا طائل في البحث عن علة هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل علي، أم النقمة على الأشتر). فلو أنك قلت بعد (ضعف) علي لاستقام هنا التعبيران القديم والحديث

وكذلك قولنا: (مني بالفشل لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة)؛ فإن التعبيرين فيه يتلاقيان

كذلك قولنا: (ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل)

فليس المتزمت قديم أن ينكر موقع هذه الكلمة في حيث وضعناها من هذه العبارات كلها، إن كنا مع هذا لا نحرم إطلاقها على معنى الإخفاق الذي لا يحتمل تأويلاً بمعنى آخر؛ وكل ما ننكره أن نأتي بكلمة (فشل) فتطلقها على معنى القوة والنجاح، أو معنى يناقض الضعف

ص: 4

والتراخي المقصودين بها قديماً؛ أو أن تأتي بهذه الكلمة فتضعها على لسان علي بن أبي طالب، أو رجل في زمان سابق لزماننا الذي أعارها ما نفهمه منها الآن على الشيوع والتواتر

وليس الخطأ في تجديد المعاني على حسب العصور، لأنه سنة لم تفلت منها كلمة في لغة من اللغات إلا وهي على موعد من تجديد يأتي بعد حين

إنما الخطأ هو إنكار هذه الحقيقة، وهي تصادفنا في كل ما نقرأ ونكتب بالعربية وبغير العربية

ونحن على طريق السلامة ما أبحنا مبصرين وتزمتنا مبصرين، وحينئذ لا نكون إباحيين ولا متزمتين؛ بل نجري على السواء الذي نسلكه مهتدين

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌مسابقة الأدب العربي

ديوان علم الدين المحيوي

للدكتور زكي مبارك

غرائب التاريخ الأدبي

إن تاريخ اللغة العربية أعجب من العجب، فقد مر بها عهد قدرت فيه على أن تغزو قلوباً من الجفاء بمكان. ونستطيع أن نحكم بأنه لم يتفق لأية لغة من اللغات الغنية أن تجتذب الغرباء كما اتفق ذلك للغة العربية. وصحة هذا الحكم في غاية من الوضوح والجلاء. فالإنجليز مثلاً سيطروا على كثير من بقاع الأرض، ومع هذا لم يتيسر النبوغ في الأدب الإنجليزي في البيئات الأجنبية لغير آحاد. وكذلك يقال في الأدب الفرنسي، فالنبوغ فيه مقصور على أهله، ولم ينبغ فيه من الأجانب غير أفراد

وقد قلت مرة إن الفرنسيين لا يعترفون بالأدب البلجيكي ولا يعدونه من الأدب الفرنسي إلا بتحفظ، مع أن البلجيك يتكلمون بلغة الفرنسيس منذ أجيال

فما هي الأسباب التي جعلت لغة العرب لغة محبوبة يتسابق إليها الأجانب؟ وكيف أمكن أن تكون الكثرة من أدباء اللغة العربية ترجع إلى أرومات عربية؟

السبب الظاهر هو الإسلام، وهو دين لا يعترف بالعصبية القومية، ولا يقيم لها أي ميزان، فمن حق المسلم في أي أرض أن يقول إنه من ورثة الرسول، ومن حقه أن يتسامى إلى المنازل العالية ما دام يعتصم بمبادئ الدين الحنيف

ولكني أعتقد أن هذا السبب الظاهر تؤيده أسباب خفية موصولة بروح اللغة العربية، فهي لغة خلقت للحياة ولم تخلق للموت، بدليل أنها لم تنهزم بانهزام الإمبراطورية الإسلامية، وهي إمبراطورية لم تسيطر على العالم سيطرة حقيقية أكثر من قرنين اثنين، فلو كانت اللغة العربية لم تعش إلا بحراسة الإمبراطورية لوجب أن تزول، ولكنها لم تزل، ولن تزول

للغة العربية خصائص ذاتية تستحق الدرس، فمتى ندرس تلك الخصائص؟ ومتى نعرف بالبراهين القواطع كيف استطاعت الانتصار على الموت، مع أنها تعرضت ألوف المرات

ص: 6

للموت؟

هذه قضية تستحق الدرس، فمتى تدرس؟ ومتى تفهم أن هنالك أسراراً لحيوية اللغة العربية غير الأسرار التي تحدث عنها الأسلاف؟

فخر الترك

أكتب هذا بعد ساعات قضيتها مع فخر الترك، وهو علم الدين أيدمر المحيوي، أحد شعراء مصر في القرن السابع، وهو تركي الأصل بإجماع من تحدثوا عن شعره البليغ، وهم الذين سموه (فخر الترك) لأنه في نظرهم أشعر من عرفوا من الأتراك في ذلك الزمان

وقد سكت التاريخ الأدبي عن هذا الشاعر فلم يذكره إلا في مناسبات قليلة جداً، ولولا عناية (دار الكتب المصرية) بطبع المختار من شعره لظل من المجاهيل

وهل التفت أحد إلى هذا الشاعر بعد أن نشرت مختارات أشعاره في سنة 1931؟

الذنب يقع على رأس دار الكتب المصرية، فقد غلت في ثمن تلك المختارات فجعلته ثلاثة قروش، وبثلاثة قروش نشتري علبة سجائر، وهي أنفع من أي ديوان!

مؤلف مجهول

تعب الأستاذ أحمد نسيم رحمه الله في البحث عن ترجمة وافية لعلم الدين المحيوي، ثم انتهى إلى أنه شاعر نبغ في منتصف القرن السابع، وقرر أن ديوانه ضاع، ولم يبق غير مختارات دونها أحد الأدباء المجهولين

وأقول إن في هذه المختارات قطعة تشهد بأن المحيوي كان شغل نفسه بالتأليف، على نحو ما كان يؤلف عشاق الأدب في العصور الخوالي، فأين الكتاب الذي ألفه هذا الشاعر البليغ؟

لم يقل أحد إن المحيوي كان مؤلفاً، ولم يلتفت قارئو ديوانه إلى أنه كان من المؤلفين، وأنا قد التفت إلى هذه الناحية عن غير قصد، حين رأيته يقول في إهداء مجموع له إلى الصاحب محيي الدين محمد بن سعيد:

العبد أيدَُمرُّ تْطلَّب تُحفةً

تُكسَى القبول لسيد الأصحاب

فرأى أجل هدية تُهدَى له

ذَوْبَ النُّهى ونتائج الألباب

فأجال في روض القرائح فكره

ثم انتقى منه لُباب لباب

ص: 7

من طيب نادرة ولطف فكاهة

وبديع بادرة وحسن خطاب

وسوائر الأمثال قد وشّحتها

فيه بمعجز سنّةٍ وكتاب

ثم مضى فذكر أن كتابه جمع بين الجد والهزل، وجمع نوادر الحكماء والبلغاء الخطباء الشعراء والكتاب، جمع بين رقة الحضر وجزالة الأعراب. فأين ذلك الكتاب؟

نرجو البحث عن هذا الكنز الدفين

طيف البحتري

عن هذا التركي المستعرب أطياف بخترية، فله قصيدة تضاف إلى ديوان البحتري بدون عناء، لو كان البحتري زار الروضة ورأى المقياس، مقياس النيل

هي قصيدة قافية تقع على نحو مئة بيت، وهي من الشعر الجزل الرصين، وفيها لفتات في غاية من الجمال

الروضة والمقياس

نحن اليوم لا ندرك معنى شعرياً لهاتين الكلمتين، بسبب طغيان القاهرة على الفسطاط، وهل نعرف اليوم أين الفسطاط؟

لقد قضى شعراء مصر مئات من السنين وهم يتحدثون عن الروضة والمقياس، بفضل ما صنعت هاتان البقعتان في إذكاء العواطف، وإيقاد القلوب

كان الحديث عن الروضة والمقياس سنة شعرية. وأنا رحمت البارودي في دراسات السنة الماضية فلم أقل إنه تحدث عن غرامياته بالروضة والمقياس حديثاً هو المحاكاة لما قرأ من قصائد الشعراء القدماء

وأين القاهري الذي يسأل عن الروضة والمقياس، بعد أن انتهت حروب العيون والقلوب حول الروضة والمقياس؟

هل كانت للبارودي غراميات في هاتين البقعتين؟

أنا استبعد ذلك، وأرجح أنه بكى واستبكى فوق أطلال الذكريات الموهومة لقدماء الشعراء

يوم التخليق

كان للمصريين يوم كل عام يسمونه يوم التخليق، والتخليق وضع الخلوق على عمود

ص: 8

المقياس، والخلوق هو أنواع من الطيب أشهرها الزعفران

وكان ملوك مصر في العهد الإسلامي يحرصون على أن تكون لهم آثار باقية بجانب الروضة والمقياس، وقد اهتم الملك الصالح نجم الدين أيوب فأقام الأبنية الشامخة في الروضة (وكانت تسمى جزيرة مصر) وجدد البرج القائم على المقياس، وانتهز فرصة الفراغ من هذه الأبنية ليحتفل بها في يوم التخليق

فأين الشاعر الذي يسجل مجد ذلك اليوم المجيد؟

قصيدة وقصائد

من المؤكد أن ذلك اليوم لم تنشد فيه قصيدة واحدة، وإنما أنشدت فيه قصائد، فقد كانت مصر تموج بأفواج من الشعراء

وهذا الحديث لا يتسع لأخبار ذلك المهرجان، فلنكتفي بقصيدة التركي المستعرب، أو العربي المستترك، فما نظن أن له تاريخاً عند الأتراك

هذا الشاعر عربي اللغة، وإن كان تركي العرق، وقد وصف بالعتيق، فهل كان مملوكاً لأحد الأمراء؟

إن تعقبنا هذه القضية فسنزعج التاريخ في مرقده، وسنثير حوله مضجرات لا تطاق

المهم أن نسجل أن الشاعر كان معروفاً بالجمال والظرف، وأنه قهر أحد الوافدين من حلب على أن يقول فيه هذه الأبيات:

وكنت أظن الترك تختص أعين

لهم إن رنت بالسحر فيها وأجفان

إلى أن أتاني من بديع قريضهم

قواف هي السحر الحلال وديوان

فأيقنت أن السحر أجمعه لهم

يقر لهم هاروت فيه وسحبان

وعيون الأتراك لها في الشعر المصري مكان دل عليه ابن النبيه حين قال:

يصدّ بطرفه التركيّ عني

صدقتم إن ضيق العين بُخلُ

والذين رأوا المحيوي لم يفتهم النص على أنه كان فتى خفيف الظل، ولطيف الروح، ويكفي أنه عاش في عصر البهاء زهير، فتحت يدي نص صريح بأن البهاء كان نهاية النهايات في دمامة الوجه وقبح الخلقة، واضطراب الملامح، ومعنى هذا أن البهاء ستر دمامته بحلاوة اللسان، كما صنع الجاحظ في قديم الزمان!

ص: 9

القصيدة اليتيمة

هي قافية المحيوي في تهنئة الملك الصالح بالأبنية التي أقامها في جزيرة الروضة، والبرج الذي جدده حول المقياس. ويحسن أن نذكر قراءنا بأن الملك الصالح بقيت له ذكرى هناك، فأول جسر على النيل في مشارف الفسطاط اسمه (كوبري الملك الصالح) فليترحم عليه من يمر فوق ذلك الجسر في الصباح أو في المساء، وليتذكر كل عابر أن تلك البقعة كانت ملاعب صبابة ومدارج فتون، بأقوى وأعنف مما كانت حومل والدخول

بدأ الشاعر قصيدته بوصف أيام الربيع وصفاً لو ترجم إلى لغة من لغات الغرب لاعترف الغرب بأن وطن الشعر هو الشرق، ولننظر كيف يقول علم الدين:

الروض مقتبِل الشبيبة مونقُ

خَضِلٌ يكاد غضارة يتدفقُ

نثر الندى فيه لآلئ عِقدهِ

فالزهر منه متوج ومنطَّق

وارتاع من مرِّ النسيم به ضحَي

فغدت كمائم زهره تتفتق

وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى

منها ومنه سنا شموس تُشرق

والغصن مياس القوام كأنه

نشوان يصبح بالنعيم ويُغبق

والطير ينطق معربا عن شجوه

فيكاد يُفهم عنه ذاك المنطق

غِرداً يغني للغصون فتنثني

طرباً جيوب الظل منه تشقق

والنهر لما راح وهو مسلسل

لا يستطيع الرقص ظل يصفق

فتملَّ أيام الربيع فإنها

ريحانة الزمن التي تستنشق

إن الصياغة جيدة إلى أبعد حدود الجودة، بحيث يظن أنها لشاعر من صميم العرب لا من الترك، والمعاني مألوفة، فقد طاف حولها كثير من الشعراء، ولكنها مبتكرة مبتدعة، لأن إحساس الشاعر بها غاية في التوقد، فهو لا ينقل ما قرأ، وإنما يصور ما أحس. وهنا سر الابتكار والابتداع، وهل يمكن الامتراء في أصالة هذا البيت:

والغصن مياس القوام كأنه

نشوان يُصبح بالنعيم ويُغبق

(والنعيم) هنا هو الخمر، وهي كلمة قليلة الورود في الخمريات، ولكنها لا تعظم على من ينافس أبا نواس فيقول في هذا القصيد:

وسلافة باكرتها في فتية

من مثلها خلق لهم وتخلق

ص: 10

قد عُتِّقتْ حتى تناهت جدَّةً

وكذاك يصفو التبر حين يحرق

شربت كثافتها الدهور فما تُرى

في الكأس إلا جذوة تتألق

يسعى بها ساق يهيج به الهوى

ويُرى سبيل العشق من لا يعشق

تتنادم الألحاظ منه على سنا

خد تكاد العين فيه تغرق

راق العيون غضارة ونضارة

فهو الجديد ورق فهو معتَّق

ودنا كما لمع الحسام المنتضى

ومشى كما اهتز القضيب المورق

لا غرو أن ثملت معاطفه فما

ينفك في فيه الرحيق يصفق

وأظله من فرعه وجبينه

ليل تألق فيه صبح مشرق

وكأن مقلته تردِّد لفظة

لتقولها لكنها لا تنطق

فإذا العيون تجمعت في وجهه

فاعلم بأن قلوبها تتفرق

وهذا والله من نفيس الكلام، كما يعبر محمد بن داود في كتاب الزهرة، على روحه اللطيف ألف تحية وألف سلام!

كان أبو نواس يشتري المعاني من الشعراء، يشتريها بالدنانير، ويهدد باغتصابها إن رفض البائع، وكانت حجته أنه الباقي وأن من يساومهم إلى فناء

فما الذي كان يصنع أبو نواس لو عاصر المحيوي وقرأ هذه الأبيات في وصف الخمر والتغزل في الساقي؟

كان يقدم أيامه لا دنانيره ليضيف هذه الأبيات إلى أشعاره في الخمريات

هذه أبيات نفيسة جداً، والشرح يفسدها، فنتركها بلا شرح، فهي كمقلة ذلك الساقي، تردد لفظه ولكنها لا تنطق!

ثم ماذا؟ ثم ينطلق الشاعر في مدح الملك الصالح بأسلوب يشتهيه البحتري المتفرد بإجادة المدائح فيقول:

إيهٍ مديحي لا خُطاك قصيرة

يوم الرهان ولا مجالك ضيق

هذا مقام الُمْلك حيث تقول ما

تهوى وتطنب كيف شئت فتصدق

في حيث لا شرف الصفات بمعوز

فيه ولا باب المدائح مغلق

هذا شاعر كان له ملك يتذوق الشعر فأبدع في الغناء، وطاب له أن يقول:

ص: 11

فالله نحمد ثم (أيوب) الذي

أمن الغنيُّ به وأثرى المملق

والشطر الثاني من هذا البيت يصور المجتمع المصري في ذلك الزمان، فقد كانت الغاية أن يأمن الغني سطوات الناهبين، وأن يصل المملق إلى الإثراء

في وصف الأبنية يقول المحيوي:

شيدت أبنية تركت حديثها

مثلاً يغرِّب ذكره ويشرق

من كل شاهقة تظل تعجباً

من هول مطلعها الكواكب تشهق

لبس الرخام ملوناً فكأنه

روض يفوّقه الربيع المغدِق

وَاختال في الذهب الأصيل سقوفه

فكأنه شفق الأصيل المشرق

يا حسنها والنيل مكتنف بها

كالسطر مشتملاً عليه المهرق

فكأنها طرف إليه ناظر

وكأنها جفن عليه محدق

وافاه مصطفقاً عليه موجه

فكأنما هو للسرور مصفق

وتّجاذبت أيدي الرياح رداءه

عنه فظل رداؤه يتمزق

وسرى النسيم وراءهن برفقه

فرفا الذي غدت الرياح تخرق

تلك المنازل، لَا حديث يفترى

مما سمعت ولا العراق وِجلّق

ويوم المقياس عند الشاعر هو ثالث العيدين ولكنه عيد لا يذهب الناس فيه إلى المساجد، وإنما يذهبون إلى ملاعب الصبوات

يومٌ تجلَّى الدهر فيه بزينةٍ

لما غدا المقياس وهو مخلَّق

هو ثالث العيدين إلا أنه

للهو ليس على العبادةُ يطلَق

جُمعتْ لمشهده خلائقُ غادرت

فيه رحيب البَرّ وهو مضيّق

وعلى عُباب البحر من سُبّاحهِ

أممٌ يغضّ بها الفضاء ويَشرقَ

كادت تَبين لهم على صفحاتهِ

طرق ولكن يفتقون ويرتق

خفت جسومهم لفرط صبابة

هزت إليك فما خشوا أن يغرقوا

متجردين عن المخيط لأنهم

حجاج بيتك غير أن لم يحلقوا

طافوا به سبعاً على وجناتهم

سعياً وأرخا ستره فتعلقوا

ومن هذه الأبيات نعرف أن الاحتفال بوفاء النيل كان يشترك فيه السباحون من فتيان

ص: 12

القاهرة وفتيان الفسطاط، ونعرف أن (ثوب البحر) لم يكن معروفاً في تلك العهود، فقد حدثنا الشاعر أن السباحين كانوا يتجردون على المخيط، ومنها أيضاً نعرف أن العاب السباحة في ذلك الوقت لم تكن مقصورة على الفتيان المرد، فقد كان يشترك فيها الكهول، بدليل قوله إنهم لم يكونوا يحلقون، والحلق هنا لا يراد به شعر الرأس وحده، وإنما يشمل حلق الذقون، وكان حلق الذقن مما يعيب الرجال في ذلك الزمان

أما بعد فقد ضاق المجال عن تشريح هذه (القصيدة اليتيمة) فلينظر فيها المتسابقون بتحقق وتدقيق، لأني أرجح أن يسألوا عنها في الامتحان، لأنها أعظم أثر خلفه هذا الشاعر البليغ

ولكن مفهوماً عند المتسابقين أن اللجنة لن تسألهم إلا عن المسائل الأساسية، فمن البعيد أن لا يرد سؤال عن هذا القصيد لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا

زكي مبارك.

ص: 13

‌صور من توفيق الحكيم

كتابه (زهرة العمر)

للأستاذ دريني خشبة

لو لم ألق توفيق الحكيم، ولو لم أقرأ كتابه (زهرة العمر) لظلت صورته التي صورتها له في خيالي هي هي لا تتغير. . . وهل يصدق القارئ أنني كنت أتصوره في هيئة سيدي العارف بالله السيد أحمد البدوي، مع أنني لم أر هذا العارف بالله إلا في صور تلاميذه وأتباعه ومريديه!

لا يتوهمن القارئ أنني كنت أخال أن لتوفيق الحكيم ذقناً ركبت فيه لحية مستطيلة على هيئة لحي أولئك المريدين الذين أحبهم وأعجب بهم. . . كلا. . . لقد كنت أتصوره بغير لحية، أو بلحية رباها في فوديه، تنبت بالدهن من رأسه الكبير!

ولقد ثبتت تلك الصورة التي تصورتها لتوفيق الحكيم في ذهني. . . ثم رسخت وزادت رسوخاً عندما قرأت له (عصفور من الشرق) لسبب واحد. ذلك أنه أهدى هذا الكتاب إلى

الست الطاهرة. . . السيدة زينب!!

لقد أكد هذا الإهداء العجيب صورة توفيق الحكيم في ذهني، ولولا ما أعرفه من تاريخ سيدي العارف بالله السيد احمد البدوي من أنه كان نظيفاً حسن السمت، لزدت في صورة توفيق الحكيم أشياء وأشياء. . . ولا داعي لذكر شيء منها، اللهم إلا (الشمروخ) الهائل، والعمامة الكبيرة الخضراء، والسبحة التي تزن كل حبة من حباتها رطلاً أو. . . أقة. . . ثم هذه (الفراجية) الكبيرة الفضفاضة!

ليتني إذن ما لقيت الأستاذ وما رأيته! وليتني ما قرأت زهرة العمر! ليتني ما رأيت الأستاذ الحكيم. لأن هذه الرؤية نسخت نصف الصورة التي تصورتها له، وليتني ما قرأت (زهرة العمر)، لأن هذه القراءة نسخت النصف الآخر لهذه الصورة التي كنت أحبها وآلفها، وأكبر توفيق الحكيم من أجلها. . . إن كل ما بقي من تلك الثورة هو هذا التثني الذي يجيده مريدو ولي الله البدوي وقت الذكر، أما (زهرة العمر) فإليك كيف مسخ الصورة الفقيدة الغالية الخالدة مسخاً:

(. . . لقد دخلت عليه الخادم في الصباح تحمل صينية الفطور، فوقع بصرها عليه في

ص: 14

السرير، لا يبدو منه إلا رأس يطل من اللحاف الناصع كأنه رأس يوحنا المعمدان على صينية الفضة، ولكن. . . حاشا الله أن يكون هذا معمدانا! صاحب هذا الرأس لا يمكن أن يكون من الآدميين! ذلك ولا ريب ما جال بخاطر الخادم، وهي تنظر إلى شعري الذي هب قائماً إلى ما فوق مسند السرير في شكل دائرة، كأنه هالة من (الهباب) الأسود على حافة الوسادة البيضاء. . . ثم ذهبت الخادمة تقول لسيدتها مرتاعة:(أتدرين يا سيدتي ما حل بدارنا؟) فسألتها: من؟. فأجابت! ' إنه الشيطان!)

ويقول توفيق الحكيم بعد هذا: ولعلها صدقت! ولست أدري ما ذكرني الساعة بهذه الحادثة كدت أنساها. ولم يذكرني بها حتى خطابك الممتع الذي حدثتني فيه عن ذلك القسيس الذي ظن (توفيق الحكيم بملابسه السوداء) الشيطان أو المسيح الدجال!. . . ومن يدري؟ لعلي أخذت عن إبليس صورته وهيئته! لكن. . . هل تظن أن لي أيضاً قلبه؟ لا أظن. وبعد. فلتسكت الطبول، وليغسل (البلياتشو) وجه، فقد انتهى الفصل المضحك

فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك! نتصور الأستاذ الحكيم في صورة الأولياء والصالحين، وفي مسوح القديسين. . . ويصور هو نفسه في صورة الشيطان الذي له شعر فوق مفرقه كهالة من الهباب الأسود!

لقد أوشك أن يتفق معنا في صورة يوحنا المعمدان لأنه من القديسين والشهداء، كما تصورنا. . . أما الشيطان. . . فلا! وأما قلب الشيطان فمسألة فيها نظر، ونقول. . . مسألة فيها نظر للصورة الثانية التالية:

لقد كنا نؤمن بأن مؤلف أهل الكهف، ومحمد، وسليمان الحكيم، هو من خلق الله، أي من صنعه! ولكن. ليتنا ما قرأنا زهرة العمر! فتوفيق الحكيم يقول في كتابه هذا (. . . إن الله لم يخلقني! إنما هو الشيطان أراد أن يخلق طرازاً جديداً من الآدميين. أو (موديل!) من الإنسان، يضارب به الطراز الشائع المعروف، فجاء خلقه عجيب البناء غريب التركيب، به أثر من عبقرية الشيطان، ولكن به نقصاً ينم عن تخبط في شؤون الخلق والإبداع، ومع ذلك، حتى على فرض أن الله هو الذي خلقني لا الشيطان، فإنه كان لسوء حظي يضجر ويتبرم كلما جاءه جبريل بلوحي المحفوظ ليعين فيه خطوات حياتي. فقد كان يصرخ في وجه الملاك الأمين قائلاً:(اذهب عني الآن!) فيقول جبريل خاشعاً: (لكن يا إله السموات

ص: 15

والأرض، المدعو توفيق الحكيم ولد وشب ونما وكاد يدنو من الثلاثين، وهو لم يزل يدب على الأرض ويعيش فيها بالمصادفة. وكلما جئت إليك بلوحه لأجل التعيين. . .) فيسمع كأن الصوت العلوي يصيح به:(قلت لك اذهب عني الآن ولا تشغلني بهذا المخلوق!)

ولا شك في أن الذي خلق جسم توفيق الحكيم ورأسه، هو الذي خلق قلبه، ولا شك في أن الشيطان كان يأوي إلى هذا القلب حينما أملي على توفيق الحكيم هذا التجديف! والعجيب أن ينسى الحكيم هذا اللغو فيقول عن نفسه (ص 248) إنه ملاك من ملائكة السماء! ثم يدعي (ص 255):(أن شخصي غير مفهوم الآن حتى لنفسي! على أني أعتقد أني خلقت للخير لا للشر، وإذا نفذ إلي الشر فمنكم أنتم يا أصدقائي ومعارفي!) هكذا يدعي بعد الذي وصم به خلقه أنه خلق للخير لا للشر!) ثم يختم كتابه هذا الجميل الذي تمنيت أني لم أقرأه، بتلك الوثنية:(إني أومن بأبولون. . . أومن بأبولون إله الفن الذي عفرت جبيني أعواماً في تراب هيكله. إنه ليعلم كم جاهدت من أجله وكم كافحت وناضلت وكددت. . .)

ثم اللهم لا حول ولا قوة إلا بك مرة ثانية وثالثة وألفاً وألفين حتى تغفر لعبدك وابن عبدك توفيق الحكيم! أحقاً إن صاحب هذا التجديف هو ذلك الرجل الذي كنت في سذاجتي القديمة أتصوره في صورة سيدي العارف بالله السيد أحمد البدوي، أو على الأقل في صورة يوحنا المعمدان كما صور هو نفسه؟

لا. لا. . . لا تثوروا أيها المؤمنون فأنا والله محاميه ولست جلاده! لقد قال المتهم هذا الكلام وهو في ظروف تضايق حقاً. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: أن الزاني لا يزني وهو مؤمن، وأن السارق لا يسرق وهو مؤمن. وكذلك إن توفيق الحكيم لم يقل هذا الكلام وهو مؤمن. وذلك هو السبب في بعض التناقض الذي كان يقع فيه وهو يقذف بخطاباته الكثيرة هذه على رأس (أندريه) صديقه الباريسي المسكين. ومن هذا التناقض أن يقرر أنه شيطان. ثم (يماحك!) فيقول إنه ملاك. ومنه أيضاً أن الإنسانية لم تخسر شيئاً إذا تمكن العلم الحديث من بتر الحب واستصاله. مع أنه يعود فيدعي أنه يحب الحب، وأن للحب عنده مقاماً كبيراً في الحياة. في كل حياة؛ ومن تناقضه أيضاً وقوعه في هوى (إيما) لا لشيء إلا لأنها عرفت كيف تعذبه بالتيه والدل والبعد وكل ما في معجم الهجران من هوان. ثم دلاله هو على ساشا الجميلة الجذابة التي اعترف بأنها أجمل من

ص: 16

إيما وأكثر جاذبية، وذلك لأنها كانت مفتقرة إلى بره والى قليل من دريهماته، ثم إلى مقاسمته سريره وكتبه. . . ومن تناقضه أيضاً عداوته للمرأة (قبل المعاهدة التي أبرمناها معه بهذا الصدد) بسبب حبه لإيما. إيما الهيفاء التي كنت أحس لسع حبها ولفحه. بل اضطرامه يتأجج به فؤاده في ثنايا سطور (زهرة العمر)، وهو لا يزال يتلظى بناره حتى هذه الساعة. . . إيما - وكم في الدنيا من إيما التي تملك وحدها كما قلت له ذلك أمام قاضينا الزيات - أن ترده إلى الجنة التي طردته منها في ساعة من ساعات الجنون

آه يا ساشا المسكينة لو عرفت سر توفيق الحكيم! إنه عند ما رآك أول مرة نسى إيما ونسي ببغاءها ونسي باريس كلها، وطلب سكيناً لينتحر تحت قدميك الجميلتين الصغيرتين، ولكنك حينما جئت إليه وفي عينيك لمحة من أسى، وبلة من بكاء. عند ذلك انخفضت قيمتك في عينيه، وهبط ثمنك في سوق غرامه. آه يا ساشا المسكينة لو عرفت سر توفيق الحكيم، وعرفت تناقضه في الحب، وفي الفن، وفي الله، وفي الشيطان!

لقد عرفت إيما هذا السر فعبثت بصاحبك، وصاحبها، زمناً ليس بالطويل وليس بالقصير، فلما عرف سرها طارت عنه وتركته يناصبها العداء، ويناصب كل امرأة من أجلها العداء. ثم يحتج في تناقضه مع الدنيا نفسها ومع إخوانه البشر. بهذا المودرنزم، وذلك حين يدعي، برغم الحب الذي ينشب أظفاره في نياط قلبه، أنه لا يريد أن يعصي الله من أجل التفاحة التي هي الحب، والتي خيل إليه أنه لم يذق حلوها قط! فهل صدقت يا ساشا وهل صدقتم أيها المؤمنون أن توفيق الحكيم، رجل يقع أحياناً في التناقض الشديد الذي يجعل مؤمناً مرة، ويجعله كافراً مرات، ثم يجعله مغرماً طوراً، ويجعله رجلاً لم يقع في شراك الهوى قط! اسمعي يا ساشا واسمعوا أيها المؤمنون هذا الرجل المولع بالمودرنزم يقول: (إني لم أزل أحب إيما لأنها شيء بعيد، غير موجود في كل وقت. . . يرتفع إلي غناءها من نافذتها كأنه شعاع يأتيني من بعيد. إنها أعطتني بعض أسرار نفسها وجسمها. ولكنها مع ذلك ليست في يدي، شأنها شأن الطبيعة التي تعطينا وتستعصي علينا. إن الحب قصة لا يجب أن تنتهي. قصة إيما مستمرة لا تريد أن تنتهي. . . لو أن إيما قبلت أن تترك حجرتها كما عرضت عليها وتأتي لتقطن معي في حجرتي لكان حظها عندي حظ ساشا. هنا الفرق بين الغرام والزوجية!

ص: 17

فتوفيق الحكيم لا يحب إلا المرأة التي تمزق قلبه بالهجر، وتؤرق جفنه بالسهد، وتذوي شبابه الفينان بحرق الغيرة ونيران الشك. . . لماذا لا يتزوج توفيق الحكيم؟ إليك جوابه بقلمه! (. . . إني أدرك لماذا يفتر الحب الملتهب بين الخليلين إذا تزوجا وقد يعود إلى سبق اشتعاله إذا عادا خليلين). . . (أندريه، أندريه، أخشى أن يحطمني المجتمع. . . يحطم الفنان في. . . ربما كان قد حطمني وكسرني. . . ولكني أقاوم. . . منذ أسابيع وأنا أتلقى من أهلي خطابات يغرروني فيها بالزواج. . . ويذكرون لي أسماء لامعة في الثروة والجاه. . . ويتهمونني بالحمق والغفلة والعته إذا خامرتني فكرة الرفض. . . لقد قلت لهم (لا) بأعلى صوتي، وهم مشدهون لا يعرفون السبب)

إنه يقول إنه لن يتزوج لأنه فنان. فهل جميع الفنانين غير متزوجين؟! كلا. . . ولكنه التناقض. التناقض والمودرنزم! هنا عيب توفيق الحكيم يا ساشا! عيبه الذي هيأ له أنه من صنع الشيطان لا من صنع الله، وعيبه الذي يجعله يجفل عن فكرة معصية الله من أجل التفاحة، ومن أجل هذه التفاحة نفسها يعصي الله

أيها المؤمنون لا تغضبوا! وفيم الغضب وهذه طبيعة الفنان! وفيم الغضب ونحن لا نؤمن بما كان يؤمن به اليونانيون القدماء. نحن لا نؤمن بربات الانتقام، أو ال. . ولذلك فلن يخشى توفيق الحكيم كيدهن، وحتى لو أنهن لاحقنه لأنقذه أبوللو منهن كما أنقذ (أورست) منذ ثلاثة آلاف سنة!! أليس أبوللو هو إله الفنون الذي يزعم توفيق الحكيم أنه يؤمن به، وطالما عفر جبينه بتراب هيكله؟

لا تصدقوا أن هذه هي عقيدة توفيق الحكيم، فهو رجل متناقض، لأنه رجل مؤمن. ألم يؤلف (أهل الكهف) وقد أخذ موضوعها من القرآن؟ ألم يكتب كتاباً طويلاً عن محمد؟ ألم يكتب قصة عجيبة عن سليمان أخذها من الكتب المقدسة! إن كنتم في ريب من هذا، فذاكم كتابه (زهرة العمر) الذي يفيض بالدفاع عن الأدب العربي، وعن ألف ليلة وكليلة ودمنة والجاحظ والإسلام. . . لا تراعوا إذا وجدتموه ينتقل فجأة من الكلام عن إعجابه بقصص القرآن إلى الكلام عن بنات الهوى في باريس، فكتبنا العربية قد سبقت إلى هذا الشيء من عدم مراعاة النظير، ففي العقد الفريد يأتي فصل عن المجون المكشوف وأخبار القيان بعد الفصل الذي فيه خطبة الرسول في حجة الوداع. . . وأمثال ذلك كثيرة فلا ضير على

ص: 18

توفيق الحكيم أن يقع فيه مرة في حياته. . .

أيتها العزيزة ساشا:

لقد ابتدع توفيق الحكيم لوناً جديداً في الأدب المصري هو من فنه الخالص. . . هو من عصارة قلبه النابض، هو مزيج من الموسيقى والألوان وعبير الحدائق، وفي هذا المزيج كثير من دموعك، بل من دمك، ولكن فيه أيضاً الكثير من دموعه هو أيضاً ومن دمه

إن توفيق الحكيم هو أحد أولئك الذين يخلقون لنا مصر الحديثة. . . أدب مصر الحديثة، وذوق مصر الحديثة، وروح مصر الحديثة، وفن مصر الحديثة، وكلما تفتقر إليه مصر الحديثة من لغة وفلسفة وشعر وسمعة!

إنه تلك الابتسامة الحلوة التي رفت فجأة على شفاهنا حينما كنا نفتقد المجددين ذوي المواهب فلا نجد منهم ثلاثة أو أربعة!

إن روح توفيق الحكيم تتلألأ في كل سطر من سطوره (زهرة العمر) في خطوط الفنان القوية أحياناً وفي مسوح الراهب المتأمل أحياناً أخرى. . . وقد تظهر في ألف صورة من صور الأحياء الممتارين خصوصاً في صورة (البليادشو!) من غير حاجة إلى الدقيق على الوجه أو الطرطور على الرأس. . . لأن توفيق الحكيم يستطيع أن يضحك إلى حد الإغراب بدون هذه الوسائل الشكلية. . . إنه مضحك موضوعي ممتاز. . . ولو أنه عني بالتأليف للمسرح على النحو الذي يعرفه المسرحيون لأشرنا عليه أن ينقطع للملهاة. . . إنه إذا فعل يتيح للمسرح المصري فرصة مواتية ومركزاً عالياً ومكانة عالمية لا تعد لها مكانة. . . على أنه مع ذاك أقدر من يستطيع أن يؤلف المأساة في مصر. . . لأن الضحك الذي يصنعه توفيق الحكيم مصدره البكاء. . .

وبعد، فقد ذكرت أنني كنت أصوره في نفسي على صورة العارف بالله السيد أحمد البدوي، أفتدري يا سيدي القارئ أن سيدي المرسي أبا العباس قد صدر توفيق الحكيم إلى طنطا. إلى البدوي العظيم. . . وأن البدوي العظيم قد صدره بدوره إلى سيدي إبراهيم الدسوقي!! فما معنى هذا في تاريخ حياة أديبنا الألمعي! وما الصلة الروحية بيني وبين أقطاب الأولياء في مصر؟ وما الصلة بين هذا كله وبين إهداءه عصفور من الشر إلى (الست الطاهرة. . . السيدة زينب؟!)

ص: 19

كل من رأى توفيق الحكيم ولو مرة واحدة. . . يفهم سر ذلك!

دريني خشبة

ص: 20

‌4 - جامع أحمد ابن طولون

للأستاذ أحمد رمزي بك

قنصل مصر في سوريا ولبنان

ولا أجد حرجاً من إيراد نص اللوحة التذكارية التي كتبت بالخط الكوفي المزهر لذلك العهد وفيها:

(نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، أمر بتجديد هذا الباب، وما يليه عند عدوان النار على أيدي المارقين، السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام أبو النجم بدر المستنصري، أدام الله قدرته، وأعلى كلمته، ابتغاء ثواب الله، وصلب مرضاته وذلك في صفر سنة سبعين وأربعمائة)

وتدل تلك الكتابة على حوادث الثورة، التي جرت في عهد المستنصر حينما اعتصم بعض الثوار بالجامع وتحصنوا فيه، فحوصروا وأحرق بسبب ذلك جزء منه جدده الأمير بدر الجمالي وزير الدولة الفاطمية

في تاريخ مصر العربية، وقفات حزن وأسى ولوعة، اضطرب فيها قلب مصر كما قال أحد كتابنا في دفن الزعيم مصطفى كامل، ولقد قال شوقي يومئذ:

شقت لمنظرك الجيوب عقائل

وبكتك بالدمع الهتون غواني

ولقد وقفت القاهرة صفاً صفاً، تودع الزعيم الشاب إلى مرقده الأخير، وأثر في هذا المنظر، أنا القاهري الناشئ، فصرت وطنياً وأنا في السابعة إلى نهاية ما يكون الوطني عليه في الحماس

وأثر في كرجل يميل إلى التاريخ والأدب، فصرت أتتبع أيام مصر التي اضطرب فيه قلبها، اضطراب يوم مصطفى كامل

وإني لأذكر بعد البحث، أن صفحات تاريخنا مملوءة، بمثل هذا اليوم، ولكني لا أجد حزناً ولوعة بنسبة حزن مصر وأهلها على زوال ملك الفاطميين

أن ما وصل إلينا من ذلك قليل من كثير، ولكنه يفيض حناناً. والحقيقة أن العصر الفاطمي قد ترك فينا معاشر المصريين أكبر الأثر، وصبغ حياتنا صبغة خاصة، فإذا أردت أن

ص: 21

تدرس مصر العربية، لا تنسى أن تدرس الدولة الفاطمية بالتفصيل، فنحن لا نزال نسير على سنتهم ومراسمهم؛ فزيارة آل البيت فرض على كل من يؤم القاهرة من أهل الريف، والاحتفال بصلاة الجمعة اليتيمة والعيدين، والاهتمام بالقراء والتلاوة والتلقين كلها من آثار ذلك العهد

ومنذ أيام كنت أقلب كتاب الروضتين فجاء ذكر الشاعر عمارة اليمني بأنه من أتباع الدولة المصرية وأورد له شعراً رقيقاً يفيض حنواً على الإمام العاضد آخر خلفائهم إذ يقول:

أسفي على زمن الإمام العاضد

أسف العقيم على فراق الواحد

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت

يا بن النبي من ازدحام الوافد

ولقد دفع عمارة الشاعر الثمن بحياته جزاء إخلاصه، وبشعره تطوى صفحة من تاريخ مصر، تصحبها نغمة من نغمات الحزن العميق والتقدير، لندخل طوراً من أطوار المجد والبطولة تغمره الحوادث والمعارك والنصر والغلبة

أنتقل إلى القسم الأخير من هذه الكلمة، فأعرض لوصف المسجد وصفاً مختصراً:

الجامع الطولوني هو الثالث في ترتيب المساجد الجامعة التي أقيمت فيها صلاة الجمعة في مصر، بعد الفتح التحريري العربي، بناه الأمير أحمد بن طولون على جبل يشكر في الجهة الجنوبية من القاهرة، بينها وبين الفسطاط، في حي السيدة زينب الآن، وهو أقدم مساجد مصر بلا نزاع، بل أقدم آثارها العربية، بعد مقياس النيل بجزيرة الروضة، وأول جوامع مصر هو الذي بناه عمرو بن العاص، ثم جامع العسكر. فلما قدم ابن طولون صار يصلي فيه الجمعة بجنده وسودانه، فشكا أهل مصر إليه، فعزم على بناء جامع، فأشار عليه جماعة من الصالحين أن يبنيه على جبل يشكر، وذكروا له فضائله فأخذ برأيهم.

ذكر ابن دفملق والمقريزي عن هذا المسجد من أن بناءه أقيم على مثال جامع سامرا أو سر من رأى

ولقد ذكر الأستاذ كريزول ما يأتي:

إنه على عهد بني أمية كانت الدولة عربية خالصة، وكان يغلب على العمارة التأثير السوري واستعمال الفسيفساء

ثم انتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد في عهد بني العباس، وصارت مركز التطور الدولي،

ص: 22

فغلبت على العمارة المؤثرات الفارسية وأساليب العمارة الساسانية والعراقية

وابن طولون من مواليد سامرا وقد جاء إلى مصر يحمل معه كل تقاليد البلاط، وما من شك في أنه يميل إلى تقليد مولاه

كتب الكثيرون في وصف المسجد، ولقد أخذنا ما تقدم نقلاً عن الأستاذ محمود عكوش في كتابه المطبوع 1927، ولكن ظهر بين يدينا اليوم كتاب الأستاذ كريزول العظيم؛ ويتضح من أبحاثه التي قام بها في العراق والصور التي أخذها لجامع سامرا من الجو، أن التماثل بين المسجدين عظيم، وأن مسجد ابن طولون ما هو إلا صورة مصغرة للمسجد الذي بناه المتوكل في عاصمة ملكه سامرا بالعراق

فإذا كانت البوانك على صفين من الجانبين في مسجد مصر، فهي أربعة في مسجد المتوكل، وقس على ذلك السعة والأروقة والارتفاع والضخامة، ولقد كشفت صور الجو أن تحت الثرى مدينة بأكملها قد غطتها الفيضانات العالية، بدجلة تنتظر الكشف لتخرج مدينة سامرا القديمة بشوارعها ومبانيها كما كانت في أيام العباسيين

ولا شك في أن مسجد ابن طولون سيكون انموذجاً، قد حفظته مصر للعراق، إذا فكرت الحكومة العراقية في إعادة بناء مسجد المتوكل، إنه سيكون تحفة من تحف الدنيا، ومظهراً من أضخم مظاهر مدنية العرب، وجبروتهم في العمارة والإنشاء

ونعرض هنا إلى موضوع المنارة، فهي من أغرب ما يستوقف الأبصار، وتعد من الألغاز لأنها مبنية على شكل لا نظير له في المنائر بجميع الأقطار العربية والإسلامية. ولقد انقسم العلماء واختلفوا كعادتهم هل هي لاحقة لبناء المسجد، أم بنيت معه وهل هي صورة من منارة سامرا الحلزونية؟ والعلماء وهم كعادتهم قد جزموا بأن الأثر البيزنطي ظاهر واضح في كل شيء، وأن العرب لم يأتوا بجديد، فكبر على نفوسهم أن تأتي الحفائر والاكتشافات فتظهر أن المسجد صورة من مسجد عربي، أكبر من هذا هو جامع سامرا، وأن الأسطورة البيزنطية لا شأن لها اليوم وقد وضعت العناية الحق على لسان الأستاذ كريسول فدعمه بعلم وتمحيص دقيق يعجز عنه المتصدرون لاستعمال العلم لغايات في أنفسهم هي الإقلال من شأن العرب والعروبة والمنارة حديث طويل، وفي أواخر القرن السابع الهجري لجأ إليها الأمير حسام الدين لاجين المنصوري، وكان المسجد مهجوراً، ويوقد به سراج واحد

ص: 23

ويدخله خادم، وقد تعطلت الشعائر الدينية فيه

(البقية في العدد القادم)

أحمد رمزي

ص: 24

‌من أدب التاريخ

شاعر ومنجم. . .

للأستاذ محمود عزت عرفة

العهد عهد الخليفة المستعين أبي العباس أحمد بن محمد بن المعتصم، ذلك المتولي في الخامس من ربيع الآخر عام 248هـ، إثر وفاة الخليفة المنتصر ولي عهد أبيه المتوكل وقاتله. والشاعر هو الوليد بن عبيد الله البحتري المكنى أبا عبادة؛ أما المنجم فهو جعفر بن محمد البلخي، المكنى أبا معشر

ولم يكن أبعد من هذين الرجلين على عهدهما صيتاً، ولا أثبت منهما في فنيهما مقاما؛ ومع ذلك فقد لقيا أيام المستعين من المجافاة والإعراض وقلة المبالاة ما ضاق معه عيشهما، وانسدت به مسالك الحياة الهنيئة دونهما

فقد كان الأول شاعر المتوكل الأثير. . . شهد بعينيه مصرعه الرهيب على يد ابنه وولي عهده، وسمع بأذنيه - بعد حين - قصة نقض البيعة الموثقة التي عقدها المتوكل لولده المعتز من بعد أخيه؛ فكان حزن الشاعر على الخليفة المصروع لا يوازيه إلا عطفه على الأمير المخلوع

ولما عجلت بالمنتصر ميتته المريبة فلقي بها أول ما يلقاه كل عاق ناكث للعهود، بادر نصراؤه من قواد الأتراك إلى تنصيب المستعين بالله على عرش الخلافة؛ إمعاناً منهم في إقصاء المعتز الذي طال بتدبيرهم حرمانه، وتنزت بسبب ذلك في صدره السخائم والأحقاد عليهم

وزادوا على هذا أن ألقوا بالمعتز في غيابة السجن، مع أخيه المؤيد ثالث أولاد المتوكل وأولياء عهوده؛ فلم يكن الشاعر كالبحتري أن يظهر في مثل هذه الفترة، أو أن يؤمل عند المستعين وشيعته جاهاً. . .

ذلك موجز حديث أبي عبادة؛ أما صديقه أبو معشر فأيسر ما نقول فيه أن المستعين كان يعتد له من الإحسان ذنباً، وينحي عليه ببالغ العقوبة أشد ما يكون ترقباً منه للإحسان والمثوبة؛ حتى لقالوا إنه ضربه مرة أسواطاً على ما صح من حدسه في أمر أخبر بوقوعه قبل حينه، فكان أبو معشر يعجب الناس من ذلك ويقول: أصبت فعوقبت!

ص: 25

أمضى الصديقان عاماً من خلافة المستعين وهما أبأس ما يكون حالاً، وقد انعقد واهي أملهما على سجين قصر الجوسق بسامراء، أبي عبد الله المعتز، وكان معتقلاً هناك مع أخيه إبراهيم المؤيد. ولقد كان من حقهما أن يستمسكا بهذه الآمال التي عقداها على الأمير المسجون لما كان يشهدانه من اضطراب حبل السياسة في يد المستعين؛ إذ راح الأتراك يقتتلون بدافع أطماعهم حول دعائم العرش التي أقاموها بأذرعهم، وبلغ من ضعف نفوذ الخليفة يومئذ أن امتدت أيديهم إلى وزيره (أتاش) وهو قائم بين يديه في قصره، فسلبوه الحياة مع كاتبه (شجاع)، وقد حدث ذلك يوم السبت رابع عشر ربيع الآخر عام 249هـ

ومن الطريف أن نرى البحتري - وقد قرت عينه بهذا الحادث دون شك - يبعث إلى المستعين بهذه الأبيات مادحاً ومهنئاً في موضع كانت السخرية فيه أقرب إلى لسانه، والتشفي أعلق بفؤاده:

لقد نُصر الإمام على الأعادي

وأضحى الملك موطودَ العماد

وعرفّت الليالي في (شجاع)

و (تاشٍ) كيف عاقبة الفساد

تمادى منهما غيٌّ فلجَّا

وقد تُردى اللجاجة والتمادي

وضلا في معاندة (الموالي)

فما اغتبطا هنالك بالعناد!

وما نشك في أن البحتري كان أصدق في شعوره، وأبلغ بالإبانة عن وليجة نفسه، حين انكفأ غب ذلك إلى بيته يناجي خادمه (نائلا) يخفي أمانيه فيقول:

ألا هل يحسن العيش

لنا مثل الذي كانا؟

وهل ترجع يا نائ - لُ بالمعتز دنيانا؟

عدمت الجسدَ الملقَى

على كرسي سليمانا. . .

فقد أصبح لِلَّعْن - ةِ نقلاه ويقلانا!

ازداد نفوذ المستعين بين رعاياه تقلصاً، حتى لأصبح (الجسد الملقى) حقيقة كما وصفه البحتري. وانتهى الأمر بأن انحازت إليه شعبة من الأتراك على رأسها وصيفٌ وبُغا؛ وراحت شعبة أخرى يقودها باغر تدبر له الكيد وتمشي حوله الضراء من كل سبيل. ثم قتل باغر بتدبير من حزب الخليفة، فثارت ثائرة أنصاره حتى لم يجد المستعين بدا من الانحياز إلى بغداد (في المحرم عام 251هـ)

ص: 26

وتناهت هذه الأخبار إلى البحتري وأبي معشر وهما في معتكفهما، فأقبلا يتداولان في الأمر ملياً، ويجددان من قديم أمنيتهما، وقد أملا أن تطرد الحوادث في طريقها حتى تفضي بهما إلى كل ما يسر ويرضي. . . ثم انبعثا يقولان: وماذا علينا والحال كما نرى، أن نمضي إلى المعتز بالله في محبسه فنتودد إليه ونؤصل عنده أصلاً؟

وطابت لديهما الفكرة فجدا في إنفاذها، واحتالا حتى توصلا إلى لقيا الأمير في معتقله. ولم يكن البحتري قد أعد لهذا اللقاء شعراً، وأي شعر يقال لسجين يترقب الموت في كل لحظة!

على أنه فكر هنيهة حتى استرجع في ذهنه أبياتاً له قديمة كان قد واسى بها أبا سعيد الثغري وهو في معتقله أيام المتوكل، فأعاد تحريرها في رقعة لطيفة، وكان أبو معشر قد هيأ صحيفة في أحكام النجوم سهر على ضبطها وتصحيحها الليالي الطوال

وفي إحدى غرف الجوسق مثل الرجلان أمام المعتز فواسياه بما تهيأ لهما من كلام. ثم استأذن البحتري في الإنشاد، وتلا أبياته من رقعتها. . . كأنه نظمها من يومه:

جُعلنا فداك، الدهر ليس بمنفكِّ

من الحادث المشكوِّ والنازل المُشكي

وما هذه الأيام إلا منازل

فمن منزل رحب ومن منزل ضنك

وقد هذبتك الحادثات، وإنما

صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبْك

أما في نبي الله يوسف أسوة

لمثلك محبوساً على الجور والإفك؟

أقام جميل الصبر في السجن برهة

فآل به الصبر الجميل إلى الملك

على أنه قد ضيم في حبسك العلا

وأصبح عزالدين في قبضة الشرك

وأصغى المعتز إلى الشعر في تأثر، ثم تناول الرقعة ودفعها إلى خادمه وقال: احفظ هذه وغيبها، فإن أفرج الله عز وجل عني فذكرني بها لأقضي حق هذا الرجل الحر

وتقدم أبو معشر فقال: إني جئتك والله أيها الأمير بأعظم البشرى وأصدقها. كنت قد أخذت مولدك يوم عقد لك العقد، ويوم عقدت البيعة للمستعين، فنظرت في ذلك، وصححت الحكم لك بالخلافة بعد فتن وحروب تجري. وصح عندي الحكم على المستعين بالقتل، وهاك صورة مما عملت

فتناول المعتز الصحيفة مستبشراً، وشكر للرجلين نبلهما ووفاءهما، ثم وعدهما ومناهما. فخرجا وهما أكثر الناس رضاء وأرحبهم أملاً. . .

ص: 27

وانقضى شهر على حادث المستعين إلى بغداد جرت أثناءه مداولات غير مثمرة، ثم آب الثائرون إلى سر من رأى فأخرجوا المعتز من الجوسق وبايعوه بالخلافة. واضطرمت نار الفتن والحروب عاماً كاملاً خلع في نهايته المستعين، ثم نقل مخفوراً إلى (واسط) حيث قتل بعد أشهر. واستقر أمر الخلافة للمعتز. . . وهكذا صدق فأل البحتري وصحت نبوءة أبي معشر

ومثل الصديقان بعد حين أمام المعتز فهش لهما وبش، ورفع من مجلسهما حتى رمقتهما العيون بالغبطة، ثم قال لأبي معشر: لم أنسك منذ لقيتني، ولقد صح حكمك، وأنا مجر لك في كل شهر مائة دينار رزقاً وثلاثين مزلاً، وجاعلك رئيس منجمي دار الخلافة. ثم قد أمرت لك عاجلاً بإطلاق ألف دينار صلة. . . فقبض أبو معشر ذلك كله من يومه

أما البحتري فقد أنشد في ذلك اللقاء بائيته المشهورة:

بجانبنا في الحب من لا نجانبه

ويبعد عنا بالهوى من نقاربه

وفي القصيدة مدح للمعتز وهجاء للمستعين؛ ونحن ندع للقارئ أن يراجعها بتمامها في ديوان البحتري، ولكنا نختص مع ذلك بالتسجيل هنا قوله:

بكى المنبر الشرقي إذْخارَ فوقه

على الناس ثور قد تدلت غباغبه

تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله

فطوراً ينازيه وطوراً يشاغبه

ولم يكن المغتر بالله إذ سرى

ليعجزوا (المعتز بالله) طالبه

رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر

وعُرِّي من بُرد النبي مناكبه

وقد سرني أن قيلُ وجِّه عارياً

من الشرق تُحدّى سفنه وركائبه

إلى (واسط) حيث الدجاج ولم يكن

لتنشب إلا في الدجاج مخالبه!

وكان رضى الخليفة بالغاً غايته عن شاعره الأول وشاعر أبيه من قبله، فاستحضر الرقعة القديمة بعينها وفيها أبياته الستة؛ ووهبه على كل منها ألف دينار، فأعطي البحتري ستة آلاف دينار كملا

ثم نصح إليه المعتز ألا يبادر بإنفاقها في شراء ما قد يروقه من غلام أو جاريه أو فرس. . . وقال له: (إن لك فيما تستأنف معنا في أيامنا، ومع وزرائنا وأسبابنا إذا عرفوا موضعك عندنا، غناءً عن ذلك. . .)

ص: 28

ثم حسن له شراء ضيعة ينتفع بغلتها، ويبقى عليه وعلى ولده أصلها. وكذلك صنع البحتري. . . فعاش إلى انتهاء خلافة المعتز في رفاهة من الحال ورغد من العيش.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 29

‌من حضارة الإسلام

دور التحف العربية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

المتاحف أمكنة لحفظ التحف والألطاف والآثار. وهي الآن سبيل من سبل المعرفة. وقل أن تجد عاصمة غربية من غير دار للتحف تضم أشتاتاً من الآثار. فالمتحف البريطاني بلندن معروف مشهور. وهو مؤسسة قومية تضم كثيراً من الكتب والمخطوطات والمطبوعات والرسوم والآثار القديمة وقطع النقود. وقد أسس سنة 1700، ولم تفتح أبوابه للزائرين إلا سنة 1759

وفي باريس مجموعة من المتاحف أشهرها متحف اللوفر الذي يضم مجموعة ثمينة من الآثار المصرية القديمة والآشورية واليونانية والرومانية، وطائفة كبيرة من آثار العصور الوسطى والعصر الحديث.

وفكرة إنشاء المتاحف وفتح أبوابها لإفادة الجمهور فكرة أوجدتها النهضة الأوربية الحديثة المعروفة بالرينسنس. وكانت إيطاليا أسبق الأمم إلى العمل بها. ومنها تسربت إلى بقية الدول. وقد بدأ الإيطاليون بها في القرن الخامس عشر، وهو ذلك القرن الذي شهد مصرع الإسلام في الأندلس وسقوط دولة بني الأحمر

ويظهر أن الإيطاليين أخذوا فكرة المتاحف عن العرب الذين نقلت معارفهم وعلومهم وألوان ثقافتهم إلى أوربا عن طريق الإيطاليين. ولقد مهد لذلك وجود طائفة كبيرة من الآثار والتحف والألطاف التي أخذها الأسبانيون من خزائن ملوك غرناطة المسلمين. فكانت تلك الأسلاب والنهائب النواة لإنشاء المتاحف العامة التي تزدحم الآن بكثير من الآثار العربية وغير العربية.

ولم يكن عند العرب نظام المتاحف العامة حتى يقال إن الغربيين أخذوه عنهم. ولكن الحق أن العرب كان عندهم نظام المتاحف الخاصة والخزانات العامرة في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء التي تحوي كل نفيس. وتضم كل ثمين. فرأى الغربيون أن يجعلوا ميدان الانتفاع بهذه الفكرة أوسع، ومجال الاستفادة منها أعظم؛ فنقلوها إلى بلادهم، وأخرجوها من ملكية الأفراد إلى ملك الأمة وتراث الوطن حتى يضمن لها البقاء، وتسلم

ص: 30

من الضياع والتعرض للنهب والحريق وغيره.

وكان الخاصة يجمعون التحف على سبيل المباهاة والافتخار، لأنهم أقدر الناس على جمعها. فقد حكموا أن أحشوبرش الآشوري كان عنده خزانة خاصة افتن في جمع آثارها، كما افتن البطالسة في مصر في جمع التحف وأقاموا لها المتاحف في مدينة الإسكندرية التي كانت زاهرة في عهدهم.

ولم يعن النبي عليه السلام وخلفاؤه الراشدون بجمع التحف لأنهم لم يكونوا أهل مادة ودنيا، ولكن أهل تقية وعفاف وتحرج. وقد كان عمر بن الخطاب يتحرج من مزاولة التجارة.

ولم يهتم خلفاء بني أمية بجمع التحف حتى على تشبههم بالأعاجم في اتخاذ التيجان على رؤوسهم. وهذا عمر بن عبد العزيز كان قبل الخلافة مفرطاً في النعيم، حتى لم يجد فيه حساده عيباً إلا هذا. فلما ولى الخلافة تزهد.

فلما جاء العباسيون مالوا إلى الاهتمام بجمع التحف والآثار، وكان لكل خليفة من جامعي آثارهم هوى خاص. فهذا الخليفة الراضي ابن أخي الخليفة القاهر اتخذ في داره خزانة خاصة لجمع البللور حتى قال فيه الصولي:(ما رأيت البللور عند ملك أكثر منه عند الراضي، لا عمل ملك منه مثل ما عمل، ولا بذل في أثمانه ما بذل حتى اجتمع له من آلته ما لم يجتمع لملك قط)

وكان في ملوك بني بويه شغف بجمع التحف، وخاصة عضد الدولة بن بويه؛ فقد ذكر ابن الصابي ونقل عنه المستشرق السويسري آدم متز أنه خلف من الجواهر واليواقيت واللؤلؤ والماس والبللور والسلاح وضروب المتاع شيئاً كثيراً. ويقول ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن بهاء الدولة بن بويه جمع من المال والتحف والألطاف ما لم يجمعه أحد من بني بويه.

على أن بعض خلفاء العباسيين قد غالوا في الجمع إلى حد الترف والبذخ مما يصح أن يكون موضع مؤاخذة لهم. فقد روى الثعالبي صاحب لطائف المعارف أن المكتفي - وهو قريب من عصر المأمون - ترك من الكراع والسلاح والأثاث والجوهر وعمائم مرو والحلل الموشاة اليمانية المنسوجة بالذهب وبطائن كرمان في أنابيب القصب والأبسطة الأرمنية - ترك من ذلك كله ما يعد بالآلاف.

ص: 31

وقد حاكى كثير من الأمراء الخلفاء في جمع التحف، فهؤلاء البرامكة روى عنهم سهل بن هارون، وكان خازن دار الحكمة في عصر المأمون، كثيراً من مغالاتهم في الجمع قائلاً:(فإنه لا يصف أقله، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال، وعرف منتهى الآجال)

ولا شك أن كثيراً من متحف العباسيين قد ضاعت فيما ضاع بسبب غارة التتار عليهم. فقد حدث ابن الفوطي البغدادي - وكان معاصراً لسقوط بغداد سنة 656 - : (أن السلطان هولاكو وصل بغداد في جيش لا يحصى عدده ولا ينفد مدده. فخرج الخليفة المستعصم وزيره مؤيد الدين العلقمي ومعه جمع كثير إلى السلطان. ثم دخل الخليفة بغداد ومعه جماعة من أمراء المغول، وخوجه نصير الدين الطوسي. وأخرج إلى التتار من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والأعلاق النفيسة جملة عظيمة).

أما بلاد الأندلس فقد جمع كثير من ملوكها وأمرائها الأعلاق والنفائس في دورهم الخاصة. ولا شك أن الزهراء وهي المدينة التي بناها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر غربي قرطبة كانت تزخر بدور التحف الخاصة. فقد نقل صاحب نفح الطيب عن ابن الرقيق: أن الناس لما اقتحموا الزهراء أسقطوا هشاماً وأزالوا دولة بني عامر، ونهبوا قصور الخلافة فيها، حتى أن بعض ما نهب في هذه الثورة وصل إلى بغداد وسائر بلاد المشرق وبيع في أسواقها.

وكان لهذه التحف والألطاف - كما هو الشأن اليوم - أسواق تباع فيها وسماسرة يتجرون بها. وقد روى ابن الفقيه أن تجاراً من اليهود كانوا يأتون من مقاطعة بروفنس بفرنسا، ويحملون معهم الديباج والخز الفائق والفراء الثمينة، كما ذكر ابن خرداذبة أن تجار الروس كانوا يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف. كما كانت تحف الصين وألطافها تأتي مع التجار الذين ذرعوا البحار في تلك الأزمان.

ولقد أسرف خلفاء الفاطميين في ذلك الباب إسرافاً عظيماً، ولم يكتفوا بوضع هذه الألطاف في قصورهم، بل أقاموا لها قصوراً خاصة، وكانوا يسمونها الخزائن جمع خزانة، ولم تكن تلك الخزائن - كما يفهم من اسمها - أمكنة للخزن، وإنما كانت معارض خاصة توضع فيها التحف على نظام خاص ونسق معين، فهي بعينها دور التحف التي نراها اليوم، وفرق

ص: 32

ما بين الاثنين أن الأولى كان يملكها ملك أو أمير والثانية ملك عام للأمة، فهي من منافعها العامة التي تتولى الإشراف عليها وتقوم على توسيعها وتزويدها لتكون ميراثاً وطنياً خالصاً لا يختص به حاكم ولا سلطان.

كان عند الفاطميين خزانة للأسلحة تعادل الآن المتاحف الحربية العامة التي عنيت الأمم حديثاً بإنشائها. ونستطيع أن نقول إن فكرة التخصيص في المتاحف كانت عند الفاطميين. ولعلهم أول من استعملها فيما نعرف من التاريخ. فكان عندهم للجواهر دار، وللأسلحة دار، وللفرش دار، وللطرائف دار، وللسروج دار، وللخيم دار، وللشراب دار. وكان بعض هذه الخزائن أشبه بمصانع لإنتاج ما يحتاج إليه الأمراء والجند والحاشية، كما يفعل (سلاح الصيانة) الآن في الجيوش الحديثة، ويدل على ذلك ما رواه المقريزي في الجزء الثاني من خططه. فقد ذكر أن خزائن السلاح كان من محتوياتها ذو الفقار سيف علي وصمصامة عمرو بن معد يكرب، وسيف كافور الأخشيدي، وسيف المعز ودرعه، وسيف الحسين بن علي عليه السلام، ودرقة حمزة، وسيف جعفر الصادق.

أما دار الطرائف فقد جمعت النفيس الرائع في العصر الفاطمي من البسط والستور والتعاليق وآنية البللور. التي كانت تصنع باسم الخلفاء ورسمهم. فقد روى المقريزي عمن يثق بقوله أنه رأى بطرابلس قطعتين من البللور الساذج الغاية في النقاء وحسن الصنعة إحداهما خردادي، والأخرى باطية مكتوب على جانب كل واحدة منها اسم العزيز بالله (تسع الباطية سبعة أرطال مصرية) ويسع الخردادي تسعة)، وأنه عرضهما على جلالة الملك ابن عمار فدفع فيهما 800 دينار. فامتنع من بيعهما، وكان اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من الخزائن. ووجد أكثر من مائة كأس بادزهر ونصب وأشباهها على أكثرها اسم هارون الرشيد وغيره، كما وجد للسيدة رشيدة ابنة المعز لدين الله حين ماتت ما قيمته الآف الآلاف من الدنانير. ومن جملة ذلك بيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، كما وجد للسيدة عبدة بنت المعز الأخرى ما لا يحصى من النفائس، ومن ذلك حصير من الذهب وزنها 18 رطلاً ذكر أنها الحصير التي جليت عليها بوران بنت الحسن بن سهيل على المأمون - إلى غير ذلك مما أفاض المقريزي في وصفه وسرده.

وقد يكون في ذلك كثير من المبالغة، إلا أنها على كل حال لا تعدم من الحق سبيلاً.

ص: 33

وكان المماليك يهتمون بجمع التحف والألطاف وتزيين قصورهم بها. وقد روى المقريزي في الجزء الثالث أن الأمير تنكز الأشرفي عين من قبل قلاوون أميراً على الشام، وظل كذلك إلى أن تنكر له السلطان وجهز له من قبض عليه، وصادر أمواله وكان من جملتها الجوهر واللؤلؤ والزركش والنفائس. فإذا كانت هذه حال أمير من أمرائهم؛ فما بالك بالسلاطين أنفسهم، وقد كان المال في أيديهم كثيراً؟

ومن سوء الحظ أن كثيراً من هذه التحف قد ضاع، ولا يبلغ ما جمع منها في متاحف العالم إلا قدراً ضئيلاً. وقد تكون أيدي الجهال عبثت بها فأحالتها إلى غير حالتها، فأسالت ذهبها وفضتها وهشمت زجاجها وبلورها.

ومن عجائب الأقدار أن مصائر ما بقي من التحف أو سلم منها كمصائر بني البشر أنفسهم. قد فرقتها الأقدار وبعدتها الأدهار وأنزلتها في غير أوطانها، وأحلتها في غير بلدانها. ففي لندن منها قطع، وفي باريس أشتات. وفي مدريد وروما وبرلين والقسطنطينية وغيرها.

لقد نشطت الأمم العربية وانتبهت إلى الاحتفاظ بآثارها وجمعها في دور عامة. فأنشأت دار الآثار العربية في مصر سنة 1881، وإن كان أمر إنشائها صدر في عهد إسماعيل سنة 1869، وأنشئ المتحف الأهلي في الجزائر سنة 1897، وأنشئ المتحف العلوي في تونس، ودار الآثار العربية في العراق في تاريخين غير متحققين عندي.

ولعل البلاد العربية جميعاً تضاعف الهمة حتى تحتفظ بالكثير من تراثها المفقود.

محمد عبد الغني حسن

ص: 34

‌من الشعر الحر

الحديقة الميتة والقصر البالي

للأستاذ خليل شيبوب

أمر عليها كل يوم فأبصر

أشجارها مهشومة الأغصان

ويأخذني حزن عليها فأشعر

باليأس يعقل خاطري ولساني

تهدم السور حولها فبدا

للعين عُرْيُ الحديقة

كأنها ملحية

قد خلعت جمالها

فأصبحت قبيحة

كاسية أسمالها

مرهاء غيرت الليالي حالها

تطلب عند الناس عطفاً وجَدَي

من القلوب الشفيقة

رقص البِلَى في ساحها عريانا

وشدا الفناء لرقصه ألحانا

بهما اهتدي

عادي الردى

فعدا

ومحا معالمها كأن لم تعلم

وكأن فيها الطير لم يترنم

وكأن فيها الزهر لم يتبسم

وقفت الأشجار ولهي

ص: 35

والعشب فيها جف كرها

فهو مصفر سقيم

وهو موطوء هشيم

ذبل النبت الدميث

ونما فيه أثيث

هائج السوق خبيث

شائه غطى مظنات المسالك

فهو فيها بعد ذاك اللين شائك

أين وضاح الزهَرْ

أين معقود الخَمَر

أين مسرى الحور

أين مجرى الماء كالنور

كلها صارت عِبَر

ألقصر في جانبها واقف

ذاهلُ

رسم محيل بالأسى واجف

سائلُ

يا جنة كان النعيم بها يشدو

لحن أطيارك

والحسن فيها كان صفحته تبدو

في وجه أزهارك

ألشمس تخشع حين تبصرك

ثكلى

ولذاك مالت عنك تغرمك

ظلا

ص: 36

والريح عاثرة تمر بك

خجلى

لفك الليل بالسواد جلالا

وزوى عنك حين لاح الهلاك

وأراك النجوم لا تتلالا

يا من رأى القصر قد أقْوتْ ملاعبه

وطلقته بلا رجعى كواعبه

غربت أقمارهُ

واُمحت أنوارهُ

فطويت مفاتن المجالس

واُنتهبَت ذخائر النفائس

وأصبحت فيه كرسم دارس

فماد ركناه واُزورَّت جوانبه

أين رجالاته وجودهم

كان شِفاءَ المنى وجودهم

زين الرجالات

محققو الغايات

ومقصد العفاة

ما أخلفت راجياً فضلاً وعودهم

عزاء أيها الحسن

فإنك لا تذل ولا تهونُ

إذْا فقدت مباهجك العيونُ

رآك القلب أبهج ما تكونُ

وعين الحب هادية أمونُ

عزاء أيها الحسن

ص: 37

إيه يا جنة جفاها النعيم

هكذا العمر أُنسه لا يدوم

كأنك نفس مات فيها غرامها

فلم يبقى إلا بؤسها وسقامها

حليةُ النفس الهوى

فإذا توى

عادت كغصن قد ذوى

أو ظِلِّ نجم قد هوى

على قدر ما في النفس من خالص الجوى

يكون لها قدر ويسمو بها اللب

فإن فقدته فالفناء بها ثوى

وما قيمة النفس التي ما لها حب

يا روضة ذبلت

وخميلة خملت

أنت مثال السعد إذ فاتا

بل أنت رمز الحب قد ماتا

هكذا تصبح الحياة رفاتا

أقول للغادين لو يسمعون

هنا الهدى لو كنتمُ تبصرون

هلمو انظروا كيف تبلى القصور

وكيف تموت الحديقهْ

كذلك فيكم يجف الشعور

وتخفى الأمورُ

ويعمى البصير

وتموت الحقيقةْ

ص: 38

خليل شيبوب

ص: 39

‌القصص

صديق همام. . .

لأنطون تشيكوف

وجدت (فاندا) الساحرة، أو كما جاء وصفها في جواز السفر (المواطنة الشريفة ناستاسيا كانافكن) وجدت نفسها بعد خروجها من المستشفى في حال لم تصادفها في حياتها من قبل، لا مأوى لها ولا مال عندها؛ فماذا يمكن أن تفعل؟

كان أول شيء عملته هو ذهابها إلى مصرف الرهائن، حيث أودعت خاتمها الفيروزي، الحلية الوحيدة التي كانت تملكها، وأخذت جزاء ذلك روبلاً واحداً

ولكن ماذا يفيدها هذا الروبل؟ إنها لا تستطيع أن تشتري بهذا المبلغ معطفاً أنيقاً، أو قبعة واسعة، أو حذاء من ذي اللون الفضي اللامع وهي - بدون هذه الثياب - تشعر بأنها عريانة. يخيل إليها أن كل من حولها حتى الكلاب والحمير ترمقها وتضحك من بساطة ثيابها. وكانت الثياب كل ما يشغل تفكيرها. لم يثر اهتمامها قط التفكير في ماذا تأكله ولا أين تنام؟

(آه لو أتيح لي لقاء صديق همام! إذن لحصلت على بعض المال. ما من صديق يمكنه أن يرفض لي طلباً كهذا. إني واثقة)

كان هذا اتجاه تفكيرها، ولكنها لم تلق هذا الصديق المنشود. إن من الأيسر أن تلقي أمثاله في المساء في ملهى، (الرينيسانس) ولكنهم لن يسمحوا لها بالدخول في هذا الملهى، وهي ترتدي هذه الثياب الحقيرة، ورأسها عار. ماذا يمكن أن تفعل؟

وبعد تردد طويل، وبعد أن أنهكها طول السير والجلوس والتفكير، استقر رأي فاندا على أن تلتمس ملجأ فتذهب لتوها إلى منزل صديق همام وتطلب مقداراً من المال

وأخذت تفكر فيمن تقصد. (لا يمكنني أن أذهب إلى ميشا، إنه رجل متزوج. . . والرجل العجوز ذو الشعر الأحمر سيكون في مكتبه في مثل هذا الوقت من النهار)، وتذكرت فاندا طبيب أسنان يدعى فينكل، هو يهودي اعتنق المسيحية وكان قد أهدى إليها سواراً منذ ستة أشهر. وكانت في يوم من الأيام قد صبت كأساً من الخمر فوق رأسه وقت العشاء في النادي الألماني. عمها السرور إذ فكرت في فينكل وقالت:

ص: 40

(لابد أنه سيمنحني مقداراً من المال إذا وجدته في المنزل؛ وإذا لم أجده فسأحطم كل مصابيح الكهرباء التي في منزله)

كان هذا اتجاه تفكيرها وهي في طريقها إليه

وقبل أن تصل إلى منزل طبيب الأسنان رسمت خطتها للعمل. إنها ستصعد السلم قفزاً وهي تضحك عابثة، ثم تندفع إلى حجرة الطبيب وتطلب منه خمسة وعشرين روبلا. ولكنها ما كادت تلمس الجرس حتى أحست بهذه الفكرة تتبخر من ذهنها. وبدأت فاندا تحس بالرهبة والضيق، مما لم تعهده من قبل. لقد كانت دائماً جريئة في حلقات الشراب، ولكنها الآن وهي تلبس هذه الثياب الحقيرة تشعر كأنها شخص يطلب إحساناً؛ وقد لا يسمح لها حتى بالدخول. وشعرت فجأة بالذلة والمسكنة، وأحست بالخجل والاضطراب

أخذت تفكر وهي لا تجد من نفسها الشجاعة الكافية لأن تغمز الجرس وقالت في نفسها: (ربما يكون قد نسيني. كيف يمكنني أن ألقاه في هذه الثياب وأنا أبدو كمتسولة حقيرة أو عاملة فقيرة؟) ودقت الجرس في ضعف. وسمعت وقع أقدام تقترب: إنه البواب. (هل الطبيب موجود؟) وجهت السؤال وهي ترجو أن يكون الرد (كلا) ولكن البواب بدلاً من أن يجيب صحبها إلى القاعة وساعدها على خلع معطفها

وبهرتها القاعة بفخامة مظهرها وروعته، ولكن نظرها علق بمرآة ضخمة، فواجهتها لترى فتاة رثة الثياب، لا تلبس معطفاً أنيقاً، ولا تضع فوق رأسها قبعة واسعة، ولا تنتعل الحذاء ذا اللون الفضي

ورأت فاندا أنها في ثيابها البسيطة هذه، تبدو كحائكة

أو غاسلة ثياب؛ واستغربت أنها تحس بالخجل ولا تجد في نفسها أثراً لتلك الشجاعة، بل الوقاحة التي اعتادتها. بل إنها لم تعد تفكر في نفسها أنها فاندا (الساحرة) فما هي إلا ناستاسيا كانافكين كما كانت في الأيام الخالية

وتقدمتها الخادم إلى حجرة الكشف قائلة لها: (تفضلي بالدخول. سيأتي الطبيب بعد دقيقة واحدة. اجلسي)

وجلست فاندا على مقعد مريح وأخذت تفكر: (سأطلب منه أن يعيرني هذا المبلغ. ليس في هذا أقل حرج. إن معرفتي إياه قديمة. آه لو أن هذه الخادم تخرج. إني لا أميل إلى

ص: 41

مصارحته أمامها. ما الذي يدعوها للبقاء هنا؟)

وبعد خمس دقائق انفرج الباب عن فينكل. كان يهودياً طويلاً، أسمر اللون، ذا خدين متهدلين وعينين منتفختين. كان منظر عينيه، وخديه، وصدره، وجسمه، بل منظره كله يمجه الذوق ويثير الكراهية. كان في ملهى (رينيسانس) والنادي الألماني يبدو ثملاً، ويبذل نقوده للنساء عن سعة. وكان واسع الصدر، صبوراً على ألاعيبهن (فمثلاً عندما صبت فاندا كأس الخمر فوق رأسه، لم يزد على أن ابتسم ورفع أصبعه في وجهها منذراً)، أما الآن فهو يبدو جامد الحس، جاداً، ثقيل الدم كرئيس الشرطة، وهو يفتأ يلوك شيئاً بين شدقيه

قال مخاطباً فاندا دون أن ينظر إليها: (هل من خدمة أستطيع أن أقدمها إليك؟). ونظرت فاندا في وجه الخادم الصارم ومظهر فينكل، الذي كان من الواضح أنه لم يعرفها، واحمرت وجنتا فاندا

- (هل من خدمة أستطيع أن أقدمها إليك؟) ردد الطبيب سؤاله في ضيق مكتوم، فهمست فاندا:(أحس ألماً في أسناني)

- (حسن. . . أين موضع الألم؟)

وتذكرت فاندا أن بإحدى أسنانها تجويفاً، فقالت:

- (في الفك الأسفل. . . على اليمين. . .)

- (هيه! افتحي فمك). وقطب فينكل جبينه، وأمسك أنفاسه، ثم أخذ يكشف عن السن. وسأل فاندا:(هل تؤلمك؟). ثم وضع آلة معدنية فوقها. وأجابت فاندا كذباً: (نعم)، وهي تتساءل في نفسها:(هل أذكره؟ إنه من المؤكد سيذكرني. ولكن هذه الخادم! ما الذي يدعوها للبقاء هنا؟)

وفجأة انطلق فينكل قائلاً (لا أنصحك بمعالجة هذه السن. إنها لا تستحق العلاج). وبعد فحص السن مرة أخرى ملوثاً شفتي فاندا ولثتها بأصابعه الملوثة بلفائف التبغ، أمسك أنفاسه مرة أخرى، ثم وضع شيئاً بارداً في فمها. وأحست فاندا فجأة بألم حاد، فصرخت، وقبضت على يد فينكل

فقال الطبيب: (كل شيء على ما يرام. لا تنزعجي. ليس لهذه السن فائدة. . . يجب أن تكوني شجاعة)، وأخرج أصابعه من فمها ملوثة بالدماء وممسكة بالسن. . . وتقدمت الخادم

ص: 42

ووضعت إناء تحت فم فاندا. وقال فينكل: (عليك أن تغسلي فمك بالماء البارد عند عودتك إلى المنزل، فإن هذا سيمنع النزيف)

ثم واجهها في مظهر الرجل الذي ينتظر انصرافها لتدعه في سلام. فقالت: (نهارك سعيد. ثم اتجهت إلى الباب منصرفه. وتساءل فينكل في لهجة ضاحكة: (هم! وما رأيك في أجري؟)

(آه! حقاً!) وتذكرت فاندا فمدت يدها إلى اليهودي بالروبل الذي أخذته رهناً على خاتمها

وعندما خرجت فاندا إلى الطريق تضاعف إحساسها بالخجل، ولكنه في هذه المرة لم يكن الفقر سبب خجلها. إنها لم تعد تجد الحاجة إلى قبعة واسعة أو معطف أنيق، وإنما أخذت تجوب الطرقات والدم ينزف من فمها، وهي تفكر في حياتها الكريهة، حياتها المؤلمة، والإهانات التي عانتها والتي سوف تعانيها في الغد، وفي الأسبوع القادم، بل طول عمرها حتى نهاية أجلها

(آه! كم هذا مؤلم! رباه كم هذا مخيف!)

وعلى كل حال ففي اليوم التالي، عادت فاندا الساحرة إلى ملهى (رينيسانس) لترقص هناك، وكانت ترتدي قبعة حمراء واسعة، ومعطفاً أنيقاً، وحذاء ذا لون فضي لامع. وقد صحبها للعشاء تاجر شاب جاء أخيراً من قازان.

صلاح الدين التهامي

ص: 43