الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 546
- بتاريخ: 20 - 12 - 1943
عيد اللغة العربية
للدكتور زكي مبارك
اخترت هذا الموضوع لأنبه إلى حقائق أدبية ولغوية واجتماعية أرى في التنبيه إليها فائدة تنفع الأمم العربية أجزل النفع، لأنها تزيد في ثقتها بوجودها الأدبي، ولأنها تنير الطريق أمام المهتمين بالوحدة العربية، وهي فكرة يمكن تحقيقها بسهولة، إن تعاونا على رفع ما يعترضها من العقبات والأشواك
ولأجل أن يتضح موضوع هذا الحديث أرجو أن تتذكروا ما كنا عليه قبل أعوام قصار لا طوال، فقد كان في كل قطر عربي جماعة يدعون إلى إيثار اللهجة العامية المحلية في الخطابة والكتابة والتأليف، ومع أن هذه الدعوة واهية الأساس فقد كانت تجد سبلاً إلى بعض الأسماع والأذهان، وكان العقلاء يخشون أن تنخدع بها الجماهير هنا أو هناك
والدعوة إلى اللهجة المحلية دعوة سهلة القبول، لأنها تبشر سامعيها بالإعفاء من تكاليف الفصاحة العربية، وهي تكاليف لا يقوى على حملها غير الأقوياء من أهل البيان
كانت هذه الدعوة تجد من يسمع وتجد من يجيب، ثم خفت صوتها بعد أن جلجل وصلصل عدداً من السنين، فما الذي أسكت ذلك الصوت؟
يرجع السبب إلى النهضة الأدبية الحديثة التي ظهرت طلائعها في الديار المصرية والسورية واللبنانية والعراقية، ولم يكن لهذه النهضة غنى عن لغة قوية تستطيع التعبير عن الدقائق والجلائل من المعاني والأغراض
عند ذلك انهزمت اللغة العامية، لأنها لغة العوام، والعوام لا يحتاجون إلى لغة غنية، لأن مطالبهم في التعبير لا تزيد عما تحتاج إليه الحياة اليومية في المنازل والأسواق
ومما يثير الضحك أن الذين دعوا إلى اللغة العامية لم يشرحوا قضيتهم إلا باللغة الفصيحة، وهذا شاهد ناطق بأن العامية أضيق وأعجز وأفقر من أن تعين أنصارها على التعبير عن أغراضهم بإسهاب وإطناب
اقترحت مرة أن يصدر قرار وزاري يجعل اللغة العامية لغة المصريين، لنرجع جميعاً إلى اللغة الفصيحة بعد أسبوع أو أسابيع ولكن كيف؟
كنت أنتظر أن يفكر كل كاتب وكل شاعر وكل خطيب في تجميل لغته العامية، ليتفوق
على النظراء، وليمتاز بالأناقة في البيان، ولا يتم له ذلك إلا إذا استعان بذخائر اللغة الفصيحة، وقد تحمله الرغبة في التفوق على أن يعود طائعاً مختاراً إلى اللغة التي مجدتها الأمم العربية في عشرات الأجيال، وبذلك ينهزم دعاة العامية إلى آخر الزمان
وما الذي منع دعاة العامية من أن يجعلوها لغتهم في الشعر والكتابة والخطابة والتأليف؟
هل صدر قرار يحرم عليهم أن يكونوا عاميين؟
هل حاربتهم الحكومة؟ هل حاربتهم الأمة؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما أوحت إليهم عقولهم وأذواقهم أن يسموا بأنفسهم عن الابتذال، واللغة العامية كالثوب الذي نلبسه في البيت، ونحن نعرف أننا لا نتأنق في الملبس بين جدران البيوت
إن اللغة سلاح من الأسلحة، وهي في يد الخطيب كالسيف في يد المحارب، ولا يجوز للعاقل أن يدخل الميدان وفي يده سيف مفلول
نحن لم نهزم دعاة اللغة العامية بالقوة، وإنما انهزموا بأنفسهم لأنهم خاضوا غمار المعركة بغير قلب، ولا عزم لمحارب لا يؤازره القلب.
وهل انهزم دعاة اللغة العامية حين حرصوا على التسلح باللغة الفصيحة؟
إن مكرهم أغرب من مكر الشياطين، فقد رأوا أن يسابقونا الإفصاح، وأن يحاولوا نزع راية الفصاحة من أيدينا ليتفردوا بغنيمة المجد الأدبي، فلنكن أول جيش يسلم وهو فرح جذلان
لقد أراد خصومنا أن يرفعوا أنفسهم فيكونوا خلفاء لأكابر المفصحين، لا خلفاء لعوام المتحدثين في الشوارع والقهوات والبيوت
أقول هذا وأنا أعترف بلغة الشارع والقهوة والبيت، لأنها أماكن يجوز فيها التحلل من التأنق، والتأنق حلية بيانية لا نفكر فيها إلا حين نقف موقف المحاربين بلسان البيان
اللغة العامية هي ثوب البيت عند رفع التكليف، ومن هنا جاز أن تكون لكل أمة لغتان: لغة عامية ولغة فصيحة. وهذه قضية لا تحتاج إلى براهين ولا محامين
وأين خصومنا في هذه القضية؟ أين؟ أين؟
للنوابغ منهم أغراض أدبية واجتماعية، فهم يحاولون أن يصلوا إلى أسماع العرب في
المشرق والمغرب، وهذا لا يتيسر بغير الأسلوب الفصيح، لأن الأسلوب العامي يعجز عن تخطي الحدود
ولم يبق إلا الجهالة من دعاة اللغة العامية، وهم أطفال يهمهم أن يتحذلقوا بمضغ الحديث عن فكرة نبتت على شواطئ الجهل، كما تنبت البقلة الحمقاء على مدارج الغدران
نحن في هذه القضية بين صورتين اثنتين: صورة العواطف وصورة المنافع، فما موقف خصومنا من هاتين الصورتين؟
إن فرضنا أنهم لا يبالون ما صنع آباؤهم وأجدادهم في إعزاز اللغة الفصيحة إعزازاً حماها من الاندحار في عصور كانت كلها ظلمات في ظلمات، فكيف نفرض أنهم لا يبالون منافعهم وهي من الصميم في وجودهم الحيوي؟
أيستطيعون الاستغناء عن الشرق؟
هذا ممكن، إن أرادوا العيش في ظل الخمول، ولكنه مستحيل إن أرادوا الاتصال بالشرق، في الحدود التي توجبها أواصر الأدب ومنافع الاقتصاد
لو انتصرت دعوة خصومنا - ولن تنتصر - لكان من الحتم أن يحتاج المصري إلى مترجم حين يزور فلسطين أو الشام أو لبنان، وقد يحتاج إلى مترجمين حين يزور العراق، لأن الدعوة إلى العامية قد تحيي في العراق عدداً من اللغات
وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقرر أن العصبية المحلية قد تحوج القاهريين إلى مترجمين حين يزورون بلاد الصعيد، بغض النظر عن بلاد النوبة والسودان ودار فور وكردفان!
يجب حتماً أن نترك هذا السخف الممقوت، سخف الدعوة إلى اللغة العامية، لأنه من شواهد الانحطاط، ونحن في طريق الاستعلاء
ويجب أيضاً أن نقتدي بما تصنع الأمم القوية، وهي تفكر في توحيد اللغة قبل أن تفكر في توحيد الأقاليم، لأن وحدة اللغة هي حجر الأساس في بناء القومية
يجب أن تكون للعرب والمسلمين لغة واحدة في المشارق والمغارب، لغة يتلاقون عندها كما يتلاقون في جبل عرفات، وكما يتلاقون في توحيد الله عند الصلوات
فإن لم يفعلوا - وسيفعلون - فستضيع جهودهم في الدعوة إلى الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، ولن يضيعوا أبداً، لأنهم أعقل من أن يتعرضوا إلى مخاطر الضياع
لقد استقر الرأي في البيئات الفنية المصرية على أن من حق لغة المسرح والسينما أن تتحرر من القيود التي تثقل اللغة الفصيحة مادام موضوع القصة المسرحية أو السينمائية موضوعاً خاصاً بالمجتمع المصري الحديث، وتلطف الفنانون المصريون مع اللغة الفصيحة فجعلوها لغة الروايات المنتزعة من حوادث التاريخ
فما الذي وقع بعد ذلك؟
رأينا أولئك الفنانين يقبلون على اللغة الفصيحة في المواقف التي تحتاج إلى روعة البيان، وهذا ما يصنع الفنان يوسف وهبي وما يصنع زملاؤه من المؤلفين المسرحيين والسينمائيين
وأنتم في غنى عمن يدلكم على تلك المواقف، فما خلت رواية مسرحية أو سينمائية من مشاهد لا يستطيع الممثل أن يؤدي فيها واجبه الفني بغير الأسلوب الفصيح
كانت (الفرقة المصرية) تلتزم اللغة الفصيحة، وقد نجحت كل النجاح، ولكن ناساً قالوا إنها عجزت عن غزو الأوساط الشعبية، واقترحوا أن تتحرر من قيود الإفصاح
وقد غير نظام تلك الفرقة إجابة لصراخ الصارخين من عوام الناس، وألقى الأستاذ محمد بك صلاح الدين خطبة قرر فيها أن المسرح ليس مدرسة لتعليم اللغة الفصيحة، وأنه لا بأس من أن يجري الحوار باللغة التي يتكلم بها الناس فيما يتصل بموضوع المسرحية
ولكن الأقدار قضت بغير ما قضى به هذا الرجل الأريب، فقد بدأت الفرقة موسمها في هذه السنة بمسرحية شعرية، هي قصة قيس ولبنى، وأقبلت الجماهير على شهود هذه القصة أكثر من عشرين ليلة، مع أن المفهوم أن الشعر الفصيح أصعب من النثر الفصيح
فما تفسير هذه الظاهرة الأدبية؟
تفسيرها سهل، فالجمهور المصري يؤمن بأن اللغة الفصيحة هي لغته الأصيلة في المواقف الجدية، بدليل أنه لا يتصور صحة صلاة الجمعة إذا ألقى الخطيب خطبة الجمعة باللغة العامية
ومن أغرب ما يقع في هذا العصر أن يجهل بعض رجال الآداب والفنون روح الشعب المصري، فهم يتوهمون أنه شعب يستريح إلى المطالب الهينة، ويثقل عليه الجد الصريح
وبسبب هذا الفهم المنحرف ضاعت جهود ذلك من الأدباء والفنانين
أتحداكم أن تقيموا مباراة في حديقة الأزبكية بين شخصين أحدهما خطيب فصيح، وثانيهما مهرج ظريف
إن أجبتم دعوتي فسترون أن الجمهور يقبل على الفصاحة وينصرف عن التهريج
كان في عصر شوقي وحافظ ألف زجال وزجال، فإلى من استمع الشعب المصري؟ استمع إلى الزجالين وتصام عن شوقي وحافظ!
اتقوا الله في وطنكم يا دعاة العامية بهذه البلاد، فإن لم تتقوا الله في وطنكم فاتقوه في أنفسكم، قبل أن تحل عليكم عواقب الإهمال
وما أقوله عن المصريين أقوله عن إخوانهم في سائر الأقطار العربية، وهي أقطار تنتظر من يسمو بها إلى أرفع منازل البيان
لقد جدت بنا الأيام، والأيام لا تعرف الهزل، فلينصرف الهازلون عن إفكهم المرذول، إن كانوا يعقلون
اللغة الفصيحة هي لغة العرب في هذا العهد وفيما يليه من العهود، فليعرف من لم يكن يعرف أن اللغة العامية لغة العوام لا لغة الخواص، وأن العرب قد برئت عيونهم من غشاوة الإسفاف والابتذال
أنا أدعوكم إلى الاحتفال بعيد اللغة العربية، فقد انتصرت على أبنائها، لا على أعدائها؟ فما كان للغة العربية أعداء غير أولئك الأبناء
في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا إذاعات عربية لا تعرف غير اللغة الفصيحة، لأنها تريد أن تخاطب العرب بلغتهم الدولية لا المحلية، واللغة الفصيحة هي لغة العرب الدولية، كما يفهم الأوربيون والأمريكيون، وهم أهل الخبرة بطبائع النفوس في هذا الجيل
اسمعوا صوت الزمن، إن لم تسمعوا صوت الحق، واحتفلوا معي بعيد اللغة العربية في عيد القمر، وهو عيد التضحية، وعيد الوفاء.
زكي مبارك
توفيق الحكيم
بين الأدب والفن
للأستاذ دريني خشبة
لا فرق مطلقاً بين أن تقرأ توفيق الحكيم وبين أن تقف في متحف للفنون الرفيعة، أو أن تسمع إلى قطعة موسيقية، أو أن تجلس هادئاً ساكناً في مسرح عظيم تشهد مأساة تشجيك أو ملهاة تسليك. . .
تقرأ توفيق الحكيم فتنظر إلى التماثيل الرائعة تتحرك وتتكلم وتنظر وتبتسم وتمتلئ بالحياة وتفيض بالجمال. . . ثم ترى إلى الصورة التي انسجمت ألوانها وأحكمت خطوطها وأبدع فيها توزيع المنظر، وأكسبتها (اللمسات) الأخيرة سر المصور، وجرت في أركانها بعبقريته. . . فإذا أفقت من ذلك سمعت (أزاميل) المثالين ومطارقهم تدق. . . كأنها تشترك في تأليف لحن موسيقي. . . فإذا أدرت عينيك شهدت أبهاء المتحف وردهاته قد امتلأت بالدمى والتماثيل والصور. . .
ومن الظريف اللطيف في متحف توفيق الحكيم أنك ترى به التمثال الكامل والتمثال النصفي. . . كما ترى فيه حطاماً من تماثيل لم ترقه فأهوى عليها بمنحته ومطرقته فجعلها هشيما، ثم عزت عليه فلم يلق بها خارج المتحف، بل تركها فيه. . . لأنها وإن فقدت ذراعاً أو ذراعين، أو نقصت ساق أو ساقين، فأنها تمثل في ذهنه فكرة مقدسة. . . الفكرة التي أوحت إليه (مشروع) التمثال، ولهذا تحتفظ المتاحف بالتماثيل المهشمة!
وقل مثل هذا في صور الرسام الفنان توفيق الحكيم، فإلى جانب الصور الكاملة البارعة، التي أخذت حظها الموفور من حسن التوزيع والعدل بين الألوان، ترى صوراً لم يتقن (طبخ) ألوانها حسب الأصول الفنية، ومع هذا فقد احتفظ بها في المتحف كما احتفظ بتماثيله المهشمة للسبب الذي أسلفنا
أما موسيقى توفيق الحكيم فهي من هذا النوع الصامت الذي يخامر القلب ويجري مع الدم ويرهف الأعصاب. . . وقد تكون موسيقاه (زائطة) أحياناً، وهي لا تكون (زائظة) إلا إذا أفاق من سكرة الأدب والفكر والفن، واستسلم إلى هذا الإله الطفل المعربد (أمور!) أو (كيوبيد) ذي الجناحين والكنانتين، يصيبه منها بسهم ذهبي فيخفق فؤاده بحب إيما؛ يريشه
بسهم (رصاصي!) فيلعن جميع بنات حواء! عند ذلك تأتي موسيقاه (زائطة) أو (نشازاً)، ويكاد الإنسان يفضل عليها موسيقى (المزمار البلدي!)
ترى. . . لو أن الأستاذ الحكيم كان قد فرغ إلى فنون التصوير والنحت والموسيقى كما فرغ اليوم إلى (فن الأدب) فأي ثروة كان يستطيع أن يمد بها هذه الفنون النائمة اليوم في مصر، وأي حياة كان يشيعها فيها؟
لقد نشأ الحكيم ذوقه الأدبي في أبهاء متحف اللوفر بفرنسا، ولا داعي مطلقاً لأن نكتب ما كتبه هو عن ذلك في (زهرة العمر) ذلك المفتاح السحري الذي يسلك بك إلى جنة توفيق الحكيم، وإلى جحيمه أيضاً. . . فاسمع إليه يقول لصديقه أندريه، أو يدعي أنه يقول له، وذلك بعد أن أخبره أنه ذهب إلى اللوفر كعادته، وأنه ينفق اليوم بطوله هناك، وأنه يخصص يوماً كاملاً لكل قاعة من قاعاته، لأنه ليس سائحاً متعجلاً. . . (إني أبحث أمام كل لوحة عن سر اختيار هذه الألوان دون تلك، وعن مواطن برودتها وحرارتها، وعن رسم أشخاصها وبروز أخلاقهم واتساق جموعهم وحركتهم وسكونهم؛ كل لوحة في الحقيقة ليست إلا قصة تمثيلية داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيه الألوان مقام الحوار. إني لأكاد أصغي إلى أحاديث الأبطال وهم على الموائد في أفراح (قانا) لوحة (فيرونيز)، وأكاد أسمع ضجيج الحاضرين وصياح الشاربين ورنين الكؤوس وخرير النبيذ يفرغونه من دن إلى دن. إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة لقريب من طريقة إبرازها بالقلم. إن أساس العمل واحد فيهما. . . الملاحظة والإحساس ثم التعبير بالرسم والتلوين، بل إن الروح أحياناً ليتشابه. لطالما وقفت عيناي طويلاً على صفحات ناثر أو شاعر، وأنا كالمأخوذ، أفحص السطور بيدي لأتبين إن كانت من مداد أو من أثير. . .)
وهذا تعبير صادق عن طريقة توفيق الحكيم التي يتناول بها قطعه الأدبية الرفيعة. إنه يصنع بها ما يصنع المثال أو المصور، يتناولها من كل جانب، وينظر إليها من جميع نواحيها، فإذا لم ترقه بعد ذلك كله، سهل عليه أن يمزقها: ففي أكثر من موضع من كتابه يحدثك عن القصص الحوارية التي أتمها ثم لم تعجبه فمزقها. . . كما يحدثك عن هذه الاختبارات التي كان يجريها على بعض تلك القصص، بإعطائها بعض الأدباء الفرنسيين ليروا رأيهم فيها، ومن هؤلاء هذا المسيو (هاب) الذي كان يعذب الحكيم دائماً بهذه القولة:
(نعم. . . نعم. . . لديك موهبة الحوار. . . ولكن. . .!) وكانت. . . لكن. . . هذه تعصف بنفسه كما تعصف يد الطفل بعنق الكتكوت!. . . وقد قالها ناقد آخر غير المسيو هاب بعد أن قرأ قصة أبلغها الحكيم إلى خمسمائة صفحة، حيث قال:(أفكار كثيرة وموهبة في الحوار. . . لكن. . .!) فما كان من صاحبنا إلا أن مزق هذه القصة أيضاً!
هكذا كان الحكيم ينشئ فنه وأدبه. . . وكان له أستاذ في الفن، هو رجل فقير كان يقنع منه بأجر تافه لا يعدو الأكل والشرب (من أوسط ما يطعم هو ويشرب!) على أن يصحبه إلى المتاحف والميادين والمتنزهات، حيث يشرح له دقائق الفن ويبصره بأسراره،. . . وهنا تتحشرج الكلمات في صدر قلمي. . . لقد قتل الحكيم أستاذه هذا بعد أن استغنى عنه. . . لقد جاءه الرجل في ليلة عاصفة شديدة البرد وهو يرتجف. . . ويطلب دثاراً يقيه القر. . . (فلم أرد عليه بكلمة. . . ولكني أخرجت له ورقة مالية صغيرة وضعتها في كفه كأنه شحاذ، فرفع الشيخ قبعته شكراً وانصرف صامتاً. . .!) وإذا أحببت يا صديقي القارئ أن تدخل جحيم الحكيم فاقرأ هذه المأساة (ص 74)، لأني لا أوثر أن أدخلها معك!
بصر هذا الرجل الفنان الذي كان يربي على الثمانين أديبنا العظيم بدقائق الفن، وأطلعه على أسراره، كما بصره المسيو هاب بالأدب الكلاسيكي كله، أو أحسن روائعه. . . فهل تدري من بصره بالموسيقى؟. . . إنها عجوز شمطاء. . . إنها أم المسيو أندريه الذي يقول لنا الحكيم إن هذا الكتاب الكبير الجميل هو الرسائل التي كتبها إليه من فرنسا إلى فرنسا. . . ومن الإسكندرية إلى فرنسا، ومن طنطا ومن دسوق إلى فرنسا أيضاً. فلقد كان الحكيم يجرها من المطبخ بفوطتها لتجلس إلى البيانو حيث تغني له من (كارمن) ومن (فاوست) ومن (أجراس كورنفيل). . . إلى أن عرف طريق دار الأوبرا والأوبرا كوميك ثم قاعات الكونسير (كولون) و (جافو) و (بادلو) فلم يعد إليها بعد ذلك قط! أي كما صنع مع الشاعر الفنان البرناسي تماماً. . . وهنا أيضاً تتفتح أبواب جحيم الحكيم، فاختر لنفسك أيها القارئ!
ولست أدري لماذا لا نشبها جذعة بين موسيقيينا وبين توفيق الحكيم بمناسبة جزاء سنمار الذي لقيته هذه الأستاذة العجوز على يديه بعد أن كانت السبب في معرفته الأوبرا والأوبرا كوميك والسيمفونيات وبتهوفن! أيها الموسيقيون المصريون اعلموا أن الأستاذ توفيق الحكيم لا يطرب لكم، بل هو يضيق بكم، فهو يقول، وتستطيعون أن تجدوا هذا الكلام في كتابه
زهرة العمر ص 166 (. . . أغالط نفسي؟ أخشى أن يكون حبي للموسيقى الأوربية مصدره أنها قبل كل شيء بناء ذهني. ذلك أن موسيقانا، وهي قائمة على الطرب والتأثير المادي، لا تسترعي مني اليوم أي التفات. والواقع أن الموسيقى الأوربية بناء فني ذهني، شأنها في ذلك شأن القصة التمثيلية، والهندسة المعمارية. . . بل شأن المذهب الفلسفي والتفكير الرياضي!.) فما قول الأساتذة محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي والقصبجي وفاضل الشوا في هذا الكلام العجيب عن الموسيقى؟! ومتى يحظى منكم الأستاذ الحكيم بشيء من المعادلات الجبرية وحساب المثلثات والجذور التكعيبية وقوانين طورشيلي وفيثاغورس، وجابر بن حيان والبيروني تبثونها له في ألحانكم لترتفعوا بها عن الطرب والتأثير المادي؟! لست أدري كيف تكون الموسيقى التي لا تطرب؟ ولست أدري كذلك كيف يكون تأثير الموسيقى مادياً؟! أعترف أولاً أنني لا علم لي مطلقاً بالموسيقى كعلم. . . بيد أني أطرب، وهذا ما يعيبه الأستاذ الحكيم على الموسيقى الشرقية - كموسيقى عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وفاضل الشوا، وكثيراً ما أكتفي بالإصغاء إلى المقدمات الموسيقية عن الغناء، لكنني ما أحسست مرة أن يدي أو رجلي أو ظهري مثلاً أو أي عضلة من جسمي هي التي وقع عليها التأثير الموسيقي؛ بل الذي كان يتأثر في كل مرة هي روحي:. . أي أعصابي. . . والذي أعرفه أن المخ هو مركز الأعصاب كما أنه مركز الذهن. مع علمي بأن جدلاً كثيراً يدور حول هذه الحقائق النسبية. . . فكيف إذن يريد الأستاذ الحكيم أن تقوم موسيقى على غير التطريب؟ وماذا يعني بقوله إن الموسيقى الشرقية تقوم على الأثر المادي؟! أنا أفهم أن يقال إن الموسيقى الشرقية ما تزال متأخرة بل جامدة برغم ما أنشأ فيها عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وفاضل الشوا وغيرهم من كرام الموسيقيين، ولكنها تستطيع مع هذا، أن تقف على قدميها إلى جانب الموسيقى الغربية، وتستطيع أن تفاخرها بميزات (روحية) ليست لها. . . أخشى يا حضرات الموسيقيين الشرقيين عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي والشوا أن يضحك الأستاذ الحكيم ملئ شدقيه من كلامي هذا عن الموسيقى الشرقية التي ابتدعتم فيها الأعاجيب فماذا أنتم صانعون؟
على أنني أحب أن ألفت نظر سائر الفنانين المصريين إلى ثورة الأستاذ توفيق الحكيم
عليهم وإزرائه بهم. . . الأستاذ الحكيم الذي يرى. . . (أن الفنان هو الكائن العجيب الذي يجب أن يلخص الطبيعة كلها بمادتها وروحها في ذاته الضئيلة المحدودة. . . ذلك الكائن الذي يعيش في داخله الحيوان. . . والإله جنباً إلى جنب!. . .)
لله ما أبدع هذا الكلام وما أروعه! لقد عاد توفيق الحكيم إلى مصر من فرنسا، فزعم أنه عاد إلى الصحراء! الصحراء التي لا تعرف الحياة الفكرية. لقد تعب من كل شيء، ومن كل إنسان، ويئس من أن بلداً كمصر يصبح في يوم قريب ذا حياة فكرية؛ لأنه لا حياة في مصر لمن يعيش للفكر. إنه يريد تحطيم كل شيء، ليهيم على وجهه في بلاد الأرض، لا تحده غاية ولا توقفه غاية، ولا يوقفه غرض! إنه يطلب إلى صديقه أن يحدثه عما عنده في الشاطئ الآخر المائج بأضواء الحياة الفكرية، وهو يخبره أنه حينما عاد إلى الشرق - أي مصر - أصابه بادئ الأمر ذهول، ذهول عن أندريه وعن كل شيء، كمن وقع من السحاب حقيقة، ثم أخذ يتصفح الوجوه والأشياء حوله. يا لها من حقيقة مؤلمة! لقد رأى نفسه في شبه عالم نائم. لقد شعر بما قد يشعر من يهبط سطح القمر الأجرد المعتم، وعاش بضعة شهور بغير نفس ولا إدراك. وحينما ألقى إليه خطاب من أندريه أفاقه من (أفيون الشرق!) فرأى أنه في حاجة إلى شخص يهز له المصباح من الشاطئ الآخر، لأنه يعيش في صحراء يصيح في أرجائها. وأنه يتألم آلام من يعيش في غير عصره. (قد تسألني أليس في مصر طبقة المستنيرين؟ نعم في مصر طبقة مستنيرة فيها كثيرون عاشوا في أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية، وفيهم من يعرف الفن الأوربي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم حتى عن برامس وباخ وهاندل. ولكن النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة الحقيقية شيء والكلام فيها شيء آخر. . . إن هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برؤوسهم ولا يدركونها بحواسهم. إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون. . . الثقافة ليست كلاماً نملأ به الرؤوس ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس. إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك أن ليس في مصر عدد أصابع اليدين من المثقفين)
ولست أدري إذا أردنا أن نحصي هؤلاء التسعة أو الثمانية المثقفين في مصر فكم منهم يكون من فئة المصورين وكم يكون - أو يكونون - من فئة الموسيقيين، ثم من المثالين
والممثلين ورجال الأدب والفكر والصحافة والمسرح (مؤلفين ومخرجين ومهندسين. . .)
ولست أدري ماذا يريد الأستاذ توفيق من النزول بمصر العزيزة والشرق الناهض إلى مراتب البيد، وبعدد المثقفين في نظره إلى ما دون العشرة مع أن مصر والشرق بخير، وهما يعجان بالمثقفين الذين تنطبق عليهم شروطه الثقافية انطباقاً تاماً ومع أن عدد المصورين وحدهم يربي في مصر وحدها على الثلاثة أو الأربعة، وعدد المثالين يزيد على الأربعة أو الخمسة، وعدد الموسيقيين يزيد على الاثنين أو الثلاثة، وعدد الأدباء يزيد وحده على الثمانية أو التسعة - والأستاذ الحكيم منهم بالطبع بل في مقدمتهم، وعدد المخرجين المسرحيين يقارب الثلاثة، وعدد الممثلين والمغنين والمغنيات يزيد على الستة. . . وإن كان عدد المؤلفين المسرحيين لا يصح أن يتجاوز الواحد. . . وذلك عندما يؤلف توفيق الحكيم للمسرح
لولا مغالاة الحكيم في التشاؤم. . . لكان كل ما قاله في زهرة العمر حقاً. . . ولا سيما هذا الكلام الذي قاله عن الأدب العربي واللغة العربية وأساليب الكتابة العربية، مما يحتاج حديثاً آخر، وليتأخر الكتاب على الأستاذ الزيات أسبوعاً ثالثاً، فما أكثر الهدايا التي تصل إلى الرسالة من المؤلفين اليوم
دريني خشبة
من سير الرجال
حسن حسني الطويراني
الصحافي الكاتب الشاعر
1850 -
1897 ميلادية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
سأل الأديب على الشوكاني من بغداد في العدد (544) من الرسالة عن الصحافي الشاعر حسن حسني الطويراني، ورجا من قراء الرسالة أن يتفضل أحدهم بأن يروي قصة هذا الشاعر المغمور (في نظر السائل المحترم)
وعجيب جداً أن ينسى أديب عربي مشهور، وصحافي ذائع الصيت، وشاعر قوي العبارة، ولما يمض على وفاته نصف قرن كامل؛ فكيف إذا خب المطى به عشرات القرون؟
ولعل للسائل عذراً في ذلك، فنحن هنا - أعني في الشرق - ننسى ونمعن في النسيان حتى يفتح الله علينا برجل عربي مستشرق ينبهنا ويوقظنا من غفلاتنا الطوال، ويأخذ بأيدينا - أو بيده هو - على مواضع من تاريخنا وسير رجالنا. . . والأمثلة على ذلك كثيرة
على أن للسائل الفاضل فضلاً في سؤاله؛ فقد أتاح لي فرصة للتعريف برجل كاد النسيان يطوي مساحبه على ذكره، لولا أشتات جمعتها من هناك ومن هنا، وتعبت فيها راجعاً أكثر من كتاب ما بين (تاريخ الصحافة العربية) للكونت فيلب طرازي (والأعلام) للزركلي، (وتاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان (وديوان ولي الدين يكن)، (وفارس الشدياق) للشيخ بولس مسعد (ديوان العقد) للشيخ إبراهيم اليازجي وغيرها
والمترجم له مصري بمولده تركي بأصله؛ ويرجع إلى أسرة تركية كريمة تنتهي إلى علي باشا الكبير أحد أمراء الأتراك في مقدونية. ولقد شهدت القاهرة مولده سنة 1850، كما شهدت القسطنطينية وفاته سنة 1897 فعاش في هذه الدنيا سبعة وأربعين عاماً ملأها بالبحث والتحصيل في أول حياته، والتأليف والتصنيف في بقية عمره، وهو فيما بين ذلك يتنقل من أرض إلى أرض وتسلمه بلد إلى بلد؛ لا تثنيه مشقة في سفر، ولا يصده عناء في رحلة. فطاف في كثير من بلاد آسيا وأفريقية وأوربا الشرقية، ويعبر هو نفسه عن تطوافه
بقوله:
شرَّق النسر وغرَّبْ
…
وتتركْ وتعرَّبْ
فتحرى وتدرب
…
وتناءى وتقرب
ولئن أطري وأطرب
…
فهو نصاح مجرب
وهو إن أعرب أغرب
…
وهو إن أعجم أعرب
وهو في ذلك يذكرنا بالأعشى في قوله:
وطوفت للمال آفاقه
…
عمان فحمص فأوريشلم
أتيت النجاشي في أرضه
…
وزرت النبيط وأرض العجم
وفي سن الثلاثين كانت قد انعقدت له شهرة لا بأس بها في الشعر والأدب والكتابة، فأقام في القسطنطينية وأخذ يحرر في صحفها المشهورة ما بين عربية وتركية؛ فلقد كان بارعاً في اللغتين متفوقاً فيهما حافظاً للكثير من روائع أدبهما
وكان في الرجل نزعة دينية قوية فأنشأ في العاصمة التركية مجلة (الإنسان) سنة 1884، وكانت تصدر في كل شهر مرتين في أربع وعشرين صفحة لخدمة الإسلام أولاً، ولخدمة العلوم والفنون والزراعة والصناعة ثانياً؛ ولكن الحوادث دعتها إلى الاحتجاب بعد أن ظهر منها 19 عدداً؛ ولكنها عادت بعد سنة تقريباً إلى الظهور في شكل جريدة أسبوعية، وظلت إلى سنة 1890، حينما عطلها صاحبها بنفسه مختاراً ليعود إلى مصر مستأنفاً جهاده في سبيل الصحافة العربية
ومن الصحف التي حررها المترجم له في القسطنطينية جريدة (الاعتدال)، وخاصة في أول إنشائها، وجريدة (السلام). والأولى كان يملكها أحمد قدري المترجم العربي للسلطان عبد الحميد؛ والثانية كانت للحاج صالح الصائغي، وهما عربيتان. أما الجرائد التركية التي اشترك في تحريرها، فأهمها (ارتقا) و (زمان)
وكان للمترجم له نشاط عجيب في إصدار الصحف وتحريرها كما كان نشاطه في التأليف أعجب، وما ظنك برجل صحافي يشتغل بالسياسة والتحرير ومشكلات عصره، ويطالع قراءه كل يوم أو كل أسبوع أو أسبوعين بمقال في الصحيفة التي يعمل فيها أو يملكها؛ ثم يجد من الوقت ما يتسع لتأليف ستين كتاباً في اللغة العربية وعشرة في اللغة التركية؟
وبعض هذه الستين مطبوع وبعضها مخطوط، وبعضها في مجلد واحد وبعضها في ستة مجلدات، مثل كتابه (صولة القلم في دولة الحكم)
ومناحي الرجل في التأليف تظهر عليها الروح الإسلامية القوية، فقد كان مستقيم العقيدة متين الدين، وكان فيه حكمة مضيئة ونظرة إصلاحية صحيحة. أليس من كتبه (النصيح العام، في لوازم عالم الإسلام)؛ ثم ألا يذكرنا هذا الكتاب بكتاب الأمير شكيب أرسلان (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم)؟. وله فوق ذلك كتاب (الصدع والالتئام، في أسباب انحطاط وارتقاء الإسلام)، وكتاب (الإخاء العام، بين شعوب أهل الإسلام). ولكن هذه الأخوة التي سعى إليها صاحبنا كانت في ظل الحكم التركي حتى على قساوته وظلامه. فقد كان داعية له في كل ما يكتب مدافعاً عنه في كل مناسبة
فلما قام الشيخ إبراهيم اليازجي اللغوي المشهور في الثورة العربية المصرية داعياً إلى تنقص الترك والإشادة بذكر العرب في قصيدته السينية المشهورة قام حسن حسني الطويراني يرد عليه بقصيدة من البحر والقافية يقول فيها:
دع عنك خائنة الوساوس
…
فالذل عاقبة الدسائس
واخش الكلام فكم جنبت
…
حرب البسوس وسبق داحس
ماذا تريد بشِّنها
…
دهياء توحش كل آنس؟؟
ولكن قصيدة اليازجي كانت قاسية على الترك شديدة اللهجة ففيها يقول:
قوم لقد حكموا بكم
…
حكم الجوارح في الفرائس
كم تأملون صلاحهم
…
ولهم فساد الطبع سائس
ويغركم برق المنى
…
جهلاً وليل اليأس دامس
أو ما ترون الحكم في
…
أيدي المصادر والمماكس
وعلى الرشى والزور قد
…
شادوا المحاكم والمجالس
وكان اليازجي في أثناء الثورة العرابية واقفاً للترك بالمرصاد يحط من أقدارهم ويصف من أفعالهم ما يبغضهم إلى العرب. ولعل أعنف قصائد اليازجي - والشيء بالشيء يذكر قصيدته البائية التي يقول فيها:
أقداركم في عيون الترك نازلة
…
وحقكم بين أيدي الترك مُغتصبُ
فليس يدري لكم شأن ولا شرف
…
ولا وجود ولا اسم ولا لقب
فيا لقومي؛ وما قومي سواء عرب
…
ولن يضيَّع فيهم ذلك النسب
والقصيدتان في ديوان العقد لإبراهيم اليازجي ص 56، 59
وكانت في أخلاق الطويراني شدة وحدة في المزاج؛ ولعله رحمه الله كان قليل البقاء على حال واحدة؛ فكنت تراه اليوم في جريدة وتراه غداً في غيرها؛ لا تقلباً منه في مبدئه، ولكن تعصباً منه في رأيه أو ترفعاً منه في الزلفى لحاكم أو الخضوع لذي جاه؛ ذلك هو السر في تعطيل بعض الصحف التي أصدرها
ولا يزال سجل الصحافة المصرية - إن كان لها سجل! - يذكر لصاحبنا جريدة (النيل) ومجلات (الشمس) و (الزراعة) و (المعارف) والأولى أنشئت في القاهرة في أواخر سنة 1891 أي بعد عودته إلى مصر من القسطنطينية بعام واحد؛ أما الشمس والزراعة فقد أنشأهما سنة 1894 والثانية أسبق من الأولى ببضعة أشهر في الظهور
كان لصاحبنا علاقات طيبة مع أفضل الرجال في زمانه كما كان له صلات ود مع أعظم الأدباء في عصره، ولم يكن في قلمه تلك الصرامة والسلاطة التي امتاز بها رجل كأحمد فارس الشدياق صاحب مجلة الجوائب. إلا أن العلاقة بين الرجلين الكبيرين كانت أمتن ما تكون الصلة، وأحكم ما تكون ارتباطاً. فقد رثى الطويراني أحمد فارس الشدياق حين وفاته سنة 1887م بقصيدة بائية من البحر البسيط وأرخ في الشطر الأخير منها وفاته سنة 1305 من التاريخ الهجري. كما نعاه في مجلة (الإنسان) التي كان يصدرها في القسطنطينية يومئذ في عبارات من السجع الذي كان طابع الكتابة العربية في ذلك الحين. إلا أنه في بعض مواضع من النعي عاد إلى الكلام المرسل (غير المسجوع) كقوله فيه (حكيم السكوت وقور الكلام متواضع الجانب عميق الفكر قوي الحجة كبير الهمة. . . إذا رأيته رأيت علماً متجسما، ومكارم أخلاق قد حلت فاستحالت إنساناً كاملاً)
ولما مات حسن حسني الطويراني باشا رثاه الشعراء، ولم يرثه أمير البيان شكيب أرسلان مع أنه رثى فارس الشدياق قبله ورثاه الشاعر الرقيق ولي الدين بك يكن بقصيدة تبلغ سبعة عشر بيتاً قال فيها:
يا قبر عندي طية عرضت
…
لمن استضفت فزحزح السترا
قد كنت قبل اليوم أقصده
…
أهدي إليه النظم والنثرا
لا تطرحنَّ وإن ثوى (حسن)
…
بعد المداغ فوقه الصخرا
أبكيك ما ذكر الورى أثراً
…
ووعى الخلود لفاضل ذكرا
أبكيك ما جرت البراعة في
…
ميدانها واستطردت سطرا
والقصيدة في ديوان ولي الدين يكن ص 69؛ وفي البيت السابع منها نقص وصحته:
قال النعاة طوى الردى حسنا
…
قلت اندبوه فقد طوى الدهرا
وبعد هذا البيت بيت ثامن لم يرد في الديوان؛ والتصويب عن الكونت فيليب طرازي. وهو:
وطوى الطبيعة بعده وطوى
…
ما بعدها حتى طوى النشْرا
هذه لمحة خاطفة عن حياة حسن حسني الطويراني باشا، وفي العدد الآتي من الرسالة أرجو أن يتسع المقام لدراسة شعره بشيء من التفصيل.
محمد عبد الغني حسن
اضطراب التعليم في الأزهر
بين القديم والحديث
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لم تعمل اللجنة التي ألفت للبحث في أسباب فساد التعليم في الأزهر شيئاً، بل لم تكد تجتمع حتى اختلف أعضاؤها خلافا شديداً، لأن النظام الحديث الذي قضى فيه الأزهر ما يقرب من نصف قرن لم يعمل شيئاً في توحيد آرائنا في الإصلاح، وتكوين الانسجام الواجب بين أهل البيت الواحد، بل تركنا كما كنا قبله كثرة ترى الجمود على القديم فرضاً، وقلة تمقت القديم وتبغض الجمود، وترى أن آثاره الباقية في الأزهر هي السبب في فساد التعليم فيه
وبهذا تزعزع الإيمان بين الطلاب بصلاح التعليم في الأزهر، حتى تملكتهم الحيرة، واستولى عليهم اليأس، فهم لا يزالون يرون القديم آخذاً بخناقهم، ولا تزال أساليبه في التعليم مفروضة عليهم، ولابد لهم من الأخذ بها في دروسهم وامتحاناتهم، لأن الطالب إذا لم يأخذ بها لم يمكنه أن يمضي في التعليم، ولا يلبث أن يرسب في الامتحانات ويطرد من الأزهر وفروعه، ولكنهم يسمعون كل يوم نقد هذه الأساليب القديمة، يلقيه عليهم أنصار الإصلاح في دروسهم، ويقرءونه في بعض الكتب الحديثة المقررة عليهم، وفيما يطالعون من الكتب والجرائد والمجلات، ويسمعون فيما يلقى عليهم من المحاضرات، وقد تأثروا بكل هذا، حتى صاروا لا يؤمنون بفائدة هذه الأساليب القديمة، وأصبحوا لا يستسيغونها بعد أن تغيرت أذواقهم بما يطالعون من الأساليب الحديثة، لأنها تختلف كل الاختلاف عن الأساليب القديمة، فمن يتذوق إحداهما لا يمكنه أن يستسيغ الثانية، ولا شك أن النجاح في شيء من الأشياء إنما يقوم على أساس الإيمان به، فإذا فقد الإيمان به كان المضي فيه عبثاً، ولم يكن الحصول منه على ثمرة نافعة
وقد كان الطلاب في الأزهر قبل النظام الحديث يؤمنون بالقديم كل الإيمان، لأنهم لم يكونوا يسمعون شيئاً من نقده، ولم يكن الكلام على الإصلاح الحديث قد وصل بعد إلى أسماعهم؛ وكانوا يقضون كل أوقاتهم بين جدران الأزهر، فلا يختلطون بغيرهم ممن تربوا تربية حديثة، ولا يستمعون إلى محاضرات علمية أو أدبية تلقى في ناد أو محفل، وكانوا لا يعرفون إلا أساليبهم القديمة في التعليم، ولا يدرسون إلا العلوم القديمة وكتبها، فألفوا
أساليبها وألفتهم، وامتزج حبها بنفوسهم ودمائهم، وآمنوا بفائدتها إيماناً لا يشوبه شك، لأنهم لم يطالعوا من آثار الحديث ما يزعزع عقيدتهم في القديم، أو يؤثر على أذواقهم التي تألفه وتستسيغه
وقد كان لإيمانهم بالقديم على فساده ثمرته فيما أخرجوا لنا من كتب تدل على براعتهم في قديمهم، وأنهم كانوا يتقنونه كل الإتقان، ويجيدون أساليبه كل الإجادة، وقد أخرجوا لنا من تلك الكتب ما لا يحصى ولا يعد، ما بين مختصرات بلغوا الغاية في اختصارها إلى حد التعقيد الذي كانوا يعشقونه، ويتنافسون في طلب فهمه وحل رموزه، وما بين مبسوطات بذلوا فيها كل جهودهم في التعليق على تلك المختصرات. وقد بلغ من عنايتهم بذلك أنهم كانوا لا يكتفون بشرح واحد على مختصر، بل كانوا يضعون على المختصر الواحد ما لا يحصى من الشروح، ثم يضعون على تلك الشروح ما لا يحصى من الحواشي، ثم يضعون على تلك الحواشي ما لا يحصى من التقارير، حتى ملأوا دور الكتب بمؤلفاتهم، وضاقت رحابها على سعتها بآثارهم
وليت الأمر وقف بطلابنا الآن عند تلك العوامل التي زعزعت إيمانهم بالتعليم في الأزهر، بل هناك عامل آخر قضى عليه كل القضاء، وهو عامل له خطره على الأزهر وأهله، لأنه قد حدا ببعض طلابنا أن يجعلوا من الأزهر وسيلة تعدهم لمعاهد أخرى لا صلة لها به، وتجعله في منزلة مدرسة ثانوية تعد الطلاب لما بعدها، فيصبح وليس هو الأزهر الجامعة الكبرى للمسلمين، وليس هو الأزهر الذي يجب أن يخرج لنا فطاحل العلماء، وأئمة الدين
فقد رأى طلابنا بعد أن أخذوا بالنظام الحديث أنهم صاروا أهلاً لوظائف الدولة، لأنهم درسوا فيه العلوم الحديثة التي تؤهلهم لهذه الوظائف، ولكنهم حينما يقصدون من بيدهم أمرها يجدونهم ينظرون إليهم كما كانوا ينظرون إلى أهل الأزهر القديم، ولا يسمحون لهم بشيء منها إلا بشق الأنفس، وبعد شفاعات ووساطات تذهب بكثير من كراماتهم، وتجعلهم يسخطون على التعليم الذي يزهد الناس فيهم، ولا يجعلهم يرغبون فيهم كما يرغبون في غيرهم، وتذهب بهذا البقية الباقية من إيمانهم به، وقد بدا أثر هذا العامل عليهم فيما يطلبه أبناؤنا في كلية اللغة العربية من فتح باب معهد التربية لهم، ليتخلصوا في نهاية أمرهم منا، ويصيروا إلى من بيده أمر تلك الوظائف، وهذا أمر له ما بعده، وستكون نهايته إن صبرنا
عليه سعي الطلاب جميعاً في التخلص منا
فيا قوم إذا كنتم تريدون الوصول إلى سبب فساد التعليم في الأزهر فهذا بيانه، وإذا كنتم تريدون إصلاحه فاعملوا على وضع تعليم يؤمن به الطلاب، ويؤمن به من يتصلون بهم من الذين تربوا تربية حديثة، ويوفق بين آرائنا المضطربة، ويقرب بين أذواقنا المختلفة، ويجعلنا كلنا نؤمن بالإصلاح والتجديد، ونتفق على كره الرجعية والجمود
ودعونا من هذا الترقيع بين القديم والحديث، فإن الثوب القديم يألف الناس لبسه ولو كان بالياً، أما الثوب المرقع من القديم والحديث فإنه لا يألف لبسه أحد، ومن يلبسه يكون ضحكة بين الناس، وقد مضت علينا أزمان ألفنا فيها القديم خالصاً، وكنا في عزلة عن الناس لا يروننا ولا نراهم، ولا نطلب منهم أن يولونا عملاً من أعمالهم؛ فكنا في راحة منهم، وكانوا في راحة منا، ولم يضطرب أمرنا هذا الاضطراب الذي يلفت الناس إلينا، ويجعلهم يتطلعون إلى أحوالنا، ولا يرضيهم إلا أن تكون مألوفة لهم
وما هذا الترقيع بين القديم والحديث؟ لقد صار بنا إلى أن ندرس في القديم ما ينقضه الحديث، وندرس في الحديث ما ينقضه القديم، فندرس مثلاً في تاريخ الفلسفة على الأسلوب الحديث أن الفلاسفة كانوا رجالاً من أرباب الفكر الحر، ونعد هذا مفخرة من مفاخرهم، فإذا تركنا تاريخ الفلسفة إلى علم التوحيد درسنا فيه على الأسلوب القديم، أن الفلاسفة أعداء الدين، ونفرنا الناس بكل وسيلة من فلسفتهم. وهكذا ندرس في تاريخ الأدب العربي على الأسلوب الحديث أن كتابة التدوين والتصنيف بدأت في الانحطاط من أوائل الحكم العثماني، فاخترع تأليف الحواشي والتقريرات والرسائل الخاصة بشرح قاعدة أو جملة أو قصيدة، وضعفت عباراتها وازدادت تعقيداً وغموضاً، حتى أصبح ذلك مما يتنافس فيه، ويظن في صاحبه العلم والدقة؛ فإذا تركنا تاريخ الأدب العربي وجدنا الكتب التي يذمها لا تزال هي الأساس الذي يقوم عليه التعليم في الأزهر
ولا شك في أنه لا يوجد تعليم في الدنيا أسوأ من هذا التعليم الذي ينقض بعضه بعضاً، ويوقع الطلاب في حيرة لا يدرون فيها شيئاً، ولا يوجد فيه من الانسجام ما ينسجم به بعضهم مع بعض، وما ينسجم به جميعهم مع الناس جميعاً.
عبد المتعال الصعيدي
أزاهير على قبر (وزير)
موت الأديب!
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
(ليس التحديق في لوح القدر بأسهل من التحديق في الشمس)
هنري باربوس
توفي منذ عهد قريب الأستاذ عبد المسيح وزير الذي لا يجهله قراء (الرسالة) الأفاضل، والذي كان في ربع القرن الأخير يوالي عمله بشكل متواصل لتغذية اللغة العربية بدم جديد، فأنشأ في خلال هذه المدة من عمله مفردات خاصة، وسبك تعبيرات ذات أثر فعال في الناحية العسكرية والفنية والأدبية في هذا الدور المهم من تاريخ تطور اللغة العربية الحديث، كما أضاف ثروة لا تفنى إلى المفردات التي تصاغ الآن في الحياة اليومية، وجلا عن فن الترجمة وأظهره بأحسن مظهر
مات هذا الرجل في بغداد، فكأنه ورقة سقطت في خريف! سكتة قلبية! أو ضنى أورثه طول الكد وقلة الراحة! أو غير ذلك مما يعتور حياة الأديب في بلاد الرافدين!
فماذا ترك وراءه؟
لقد ترك أهله ومعهم لا شيء!
وما أكثر أن يخلف الإنسان لا شيء!
ليست حياة الأديب في العراق ولا في غيره من البلاد العربية التي لا تفضله كثيراً في هذا المضمار بمجهولة السيرة. فإن أبخس ما يمكن أن يلقاه رجل الفكر والأدب في حياته وما يكابده رجال الأدب في بلاد الرافدين
هذه حقيقة واضحة تذكر في كل مناسبة، وأخص المناسبات لها بالذكر صوت أديب!.
والعجب في حياة العزبة التي يحياها الأديب في العراق أنها تتكرر في الأفراد بهذا الشكل من جهة وتؤكدها من الجهة الأخرى معاملة الجمهور لأولئك الأفراد في حياتهم وبعد موتهم
فقد عاش المرحوم عبد المحسن الكاظمي الذي كان أعجوبة دهره في السليقة الشعرية في مصر، منكور الحق مهملا من العراق والعراقيين، حتى مات، فعرف عندئذ حقه المهضوم
وأقيمت الحفلات التأبينية على روحه الكريمة ولذكراه التي لم يأبه لها أحد في حياته!
فهل هو (الموت) الذي يقيم لهؤلاء الأدباء شأنهم؟ وهل هو (جواز السفر) لتقدير أدبهم؟
ليس الموت وحده فيما نظن هو الذي يسبغ على الأدباء قدسيته، بل هو غرض الأحياء من (المنتفعين) في أن ينتفعوا - بعد - من موت الأموات!
فقد مات (الزهاوي) الشاعر الذي تعدت شهرته حدود العراق والعالم العربي إلى أوربا ونسي بعد موته مباشرة
ومات (محمود أحمد) القصاص الأديب، فلم يذكره أحد
ومات (خلف شوقي الداوودي) فلم يشعر به أحد!
وسيموت غير هؤلاء كما مات عبد المسيح وزير على حين فجأة، فلا تقوم في أنفس الناس عليهم سوى بعض ما يتكرم به المتكرمون ويكون أبعدهم في الكرم من يقول: رحمة الله عليه!
هذا الرصافي: وهو الشاعر الذي كانت البلاد العربية بأجمعها تردد أناشيده وأغاريده في وقت من الأوقات:
ما هي حياته الآن وما محصولها؟
إنه يعيش كما يعيش النبات، ولا يجد من يذكره، ولعله يعد أيامه عداً!
وهذا (الصافي) أمثولة البؤس الحي، تنطق أشعاره به، ولعله هو الآخر يحسب ما بقي من أيام حياته
هل يعجز العراق كله بأن يمد في حياة هذين الأديبين - مثلاً - وأن يساعدهما على مد اللغة العربية ببعض الروائع؟
كلا! على التحقيق
ولكنه يفضل أن يموت كلاهما لكي يقول عنه: رحمة الله! لقد كان أديباً فذاً!
لا يملك الأديب أن يكتب في رثاء (وزير) دون أن يكون في طبيعة هذا الرثاء شيء من رثاء نفسه، فالواقع أنه - كان - أمثولة حية للأديب العراقي في بلاد الرافدين!
فقد كان موظفاً أفنى في وظيفته ربع قرن بدون أن يحصل على إجازة يوم واحد، ومات بعد كل ذلك فقيراً!
وحاول أن يقوم بأعظم خدمة يستطيع أن يقوم بها فرد نحو أمته ولغته، وتجاهل جميع الصعوبات، وانكب على تهيئة أعظم قاموس إنكليزي - عربي، ولكن الصعوبات لم تتجاهله. بل انكبت عليه بأجمعها حتى اضطر أن يبيع ملازم الجزء الأول من قاموسه العظيم إلى باعة الجبن!
وكم كان يكسب لو أنه انصرف في حياته إلى شيء غير الأدب في هذا البلد؟ وكم كان يسعد هو وأهله لو أنه وضع نصب عينيه - مثلاً - أن يقتني سيارة لوري بدلاً من أن يكون الأول في دراسة نظرية النسبية لأنشتين؟
لقد كان (وزير) رمزاً حياً - حتى بعد وفاته، للأديب العراقي في كل صفاته المثلى
طاب ثراه، وطابت ذكراه
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين
جامع أحمد بن طولون
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سوريا ولبنان
(تتمة)
سبب ذلك الفتنة التي قامت بمصر، وانتهت بمقتل الملك الأشرف، خليل بن المنصور قلاوون، فقد بدأت تلك المؤامرة في جبال كسروان، حينما عاد منها الأمير بيدا منصوراً أتابك العساكر المصرية، والتقى بالسلطان في دمشق فأكرمه، ثم تغير عليه فأسمعه القارص من الكلام فعقد النية مع بعض القواد على الفتك به ولم تسنح الفرصة إلا في إقليم البحيرة، عند عودة السلطان من الإسكندرية وقت انفراده بالصيد، وقد ترتب على وفاة الأشرف المناداة بأخيه الناصر محمد في العاشرة من عمره فقبض على بيدا، وعلى من يميل إليه، واتجهت الشكوك إلى حسام الدين لاجين، من أمراء الألوف وقواد الدولة، فلجأ هذا إلى المنارة الحلزونية، وأعطى الله عهداً - إن سلم من هذه المحنة ومكنه في الأرض أن يجدد عمارة الجامع - وقد استجاب الله دعاءه، فأناب الأمير علم الدين الداوداري، وجعل إليه شراء الأوقاف التي على الجامع الطولوني، وصرف إليه كل ما يحتاج إليه في العمارة وأكد عليه ألا يسخر فاعلاً أو صانعاً، وألا يقيم مستحثاً للصناع، ولا يشتري لعمارته شيئاً مما يحتاج إليه من سائر الأصناف، إلا بالقيمة التامة، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله وأشهد عليه بوكالته
وقد أقام عمارة بالجامع وبالمحراب وبالقبة وبلطه وبيضه، وخلد ذلك في لوحة مكتوب عليها:
(أمر بتجديد هذا الجامع مولانا السلطان المنصور حسام الدنيا والدين لاجين)
ورتب فيه دروساً للفقه ودرساً للحديث، ودرساً للطب، وقرر للخطيب مرتباً وجعل له إماما، ومؤذنين وفراشين وخدما، وبلغت النفقة على العمارة عشرين ألف دينار
وفي المقريزي والسيوطي وابن إياس ما يدل على بقاء الأوقاف جارية والدروس وأسماء من تولى النظر عليه حتى نهاية الدولة المصرية، وفي خطط علي باشا مبارك ما يدل على
ذلك في أوائل العهد العثماني.
ولقد استعمل المسجد آناً كملجأ للمغاربة، وأخرى كمخزن لحفظ القمح، وفي عهد الملك السعيد أقام المأتم بمناسبة مرور السنة الأولى على وفاة والده الشهيد الملك الظاهر، فكان جامع ابن طولون من المساجد التي اجتمع فيها الناس للعزاء آلافا.
ولو شئنا أن نعود إلى ما ذكرنا من كتب التاريخ رأينا أنه صلى في هذا المسجد على بعض من مات من خلفاء العباسيين بالقاهرة الذي لا تزال قبورهم محفوظة بجوار السيدة نفيسة، وكان آخرهم المتوكل على الله يعقوب الذي توفي في آخر عهد السلطان الغوري.
ثم بدأ عهد تدهور للمسجد حتى وصل إلى درجة خيف من سقوط سقفه، وجار الناس على أطرافه حتى أصبحت المنازل تطل عليه، وأخيراً توجهت إرادة المغفور له ملك مصر فؤاد الأول لإقامة الشعائر الدينية في الجامع، فصلى فيه صلاة الجماعة يوم الجمعة 23 رجب سنة 1336
ثم صدر النطق الكريم بوضع برنامج لإصلاح الجامع وتبليط الأروقة وتجديد البوائك التي اندثرت، وإصلاح الطاقات، ثم أعقب ذلك نزع ملكية المباني التي شغلت جزءاً من الأروقة المحيطة به حتى يصبح المسجد خالياً من جهاته الأربع في وسط ميدان عرضه من كل جهة عشرون متراً غير الميادين التي ستفتح أمام أبوابه
وفي سنة 1926 فتحت الحكومة اعتماداً قدره 45 ألف جنيه مصري، ثم أعقبها بأخرى؛ فكان ما صرف على إعادة المسجد مبلغ 90 ألف جنيه مصري
والآن وقد تمت هذه الإصلاحات للجامع الطولوني، فقد ظهر أهم الآثار العربية بالديار المصرية وأقدمها بمعالمه الحقة وأعيدت إليه الشعائر الدينية، وأدعو كل من قرأ هذه الكلمة إلى زيارته كلما توجه إلى مصر، فهو أثر خالد لا تشبع العيون من رؤيته، وفي العام الماضي من أوائل المحرم، وقد خرجت من المسجد بعد صلاة الجمعة، وتقدمت من الخطيب. قلت: ألا تذكر صاحب الصرح العظيم بكلمة. قال: إن شاء الله سأجعل في كلامي كل يوم جمعة رحمة، أسأل الله أن تنزل على الأمير العظيم في مرقده.
وإني لأختم كلمتي بترديد شعر للمعتمد العباسي يرثي صاحب المسجد:
إلى الله أشكو أسى
…
عراني كوقع الأسل
على رجل أروع
…
يرى فيه فضل الرجل
شهاب خبا وقده
…
وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده
…
وقد كان زين الدول
وذكر ابن خلكان: (وزرت قبره في تربة عتيقة من الباب المجاور للقلعة على الطريق المتوجه إلى القرافة الصغرى بالمقطم).
عسى أن توفق مصر للعثور على قبر أول عاهل استقل بها في عهدها العربي.
أحمد رمزي
كل شيء قد خبا
للدكتور إبراهيم ناجي
ماذا انتظاري! كل شيء قد خبا
…
لم يبق لي في الليل ما أتلمّس
قدستُ حبك مُسْعَداً ومعذبا
…
والآن جرحك في الجراح مقدس!
حالت معالم حبنا وتنكرت
…
من ذا الذي يا قلب لم يتغير
نادى الرحيلُ فما اسِتطعت وسّمرتْ
…
قدمي المقادر في المكان المقفر. . .
قدمي تشبث بالبقاء وناظري
…
فيما كتبتُ على أديم رمال
ما كان يجري قبل ذا في خاطري
…
أني خيالٌ عالقٌ بخيال
ذُبح النهار ففي السماء موسدٌ
…
بسطت عليه الغاشيات ظلالها
طويت يد الراحات وامتدت يدٌ
…
حمراء تنشر في الغروب نصالها
سفك الخريف دماءه فغمائم
…
حُمرٌ وأخرى في الرياض أراقها
وكأنما الورق الشريد حمائم
…
هتك الذي صبغ السما أطواقهاَ
يرنو له قلبي فيدمي ليثني
…
لما استعان على هداكِ أعنته
الذنب ذنبي لا أماري إنني
…
مالت علّى رحى الهوى فطحنته
تحية ضائعة
للأستاذ صالح جودت
خَمسةُ أعوام وقلبي حزينْ
…
يحن للوكر الذي تعرفينْ
تخطر بي رُوحُكِ فيه كما
…
تخطر رُوحُ الله بالطائفينْ
وكلما أقبلتُ أَلْفَيْتُني
…
أعود للماضي فأنسى السنين
كأننا بالأمس منا هنا
…
ما بيننا والأمس غير اليقين
تسلل اليأسُ لخدر المنى
…
فخلّفا الوهم شَقي الجنين
فكل شيء هاهنا قائم
…
كأنما كنتِ هنا منذ حين
وكل شيء عَدَمٌ هاهنا
…
إِن لم تكوني أنتِ في الحاضرين
يا ليت شيئاً هاهنا لم يكن
…
إلاَّك يا فرحة قلبي الحزين
في ذلك الوكر وفي ظله
…
يهيج بي الشوق ويصحو الحنين
أشم في عطرك المفتدى
…
مستلقياً فوق وسادٍ أمين
وتلك مرآةٌ لها قصة
…
لو قالها الزئبقُ تستغربين
خلفت في بللورها صورةً
…
من المِثال القُدُسي المبين
تنكرها الأبصار إلا أنا
…
تحسبها عيناي في الخالدين
وهذه زهرية طالما
…
نَدَّيْتِها أمس بعطف اليمين
ثار لهيب الورد من شوقها
…
فاحترقتْ فيه مُنَى الياسمين
وهاهنا كأسان نجواهما
…
تحيةٌ في حُلُم الشاربين
كأنني منكِ على موعد
…
أناشد الغيبَ متى تحضرين
واسأل الباب أَمَا طارقٌ
…
وأنظر الساعة في كل حين
فترسل الأحلامُ همس المنى
…
وترسل اليقظة همس الأنين
كأنني في قبر أحلامنا
…
وكل شيء فيه حي دفين
يمشي إله الحب في ركنه
…
مهدم الروح شقي الجبين
أغنية الرياح الأربع
أخرج شاعر اللذة والجمال الأستاذ علي محمود طه روايته المصرية الشعرية (أغنية الرياح الأربع) في ثلاثة فصول تتسم بسمات الفن الرفيع الذي عرفه القراء في كل ما صدر عن هذا الشاعر المبدع. وقعت حوادث هذه الرواية منذ أربعة آلاف عام على شواطئ البحر الأبيض من السواحل الفينيقية إلى السواحل المصرية. ولهذه المسرحية الباسقة الفروع الدانية القطوف نواة من أصل تاريخي عثر عليه الأثري الكبير الأب (دريتون) عام 1942، فنقله من اللغة المصرية إلى اللغة الفرنسية؛ ثم نشره في كتيب صغير قدم له بكلمة شارحة نقتطف منها ما يأتي:
(أغنية الرياح الأربع تقوم على الحوار، فبعد. أربع مقطوعات تغني كلا منها فتاة، يدخل رجل فيحييهن ويشرع في خطفهن ليستولي على الرياح الممثلة فيهن، فيغريهن بإثارة الفضول في نفوسهن، وذلك بأن يعرض عليهن زيارة سفينته (وتلك كانت خطة البحارة الفينيقيين في عهد هذه الأغنية يلجئون إليها عندما يريدون اقتناص الجواري من بلاد البحر الأبيض)، ولما قوبل طلبه بالرفض، لم يستسلم للهزيمة كما هو واضح من المقطوعة الأخيرة في الأغنية (إن وسائلي لا تنفد)، ولكن لسوء الحظ لم نعثر على تكملة الأغنية والوسائل التي لجأ إليها الرجل، وأكبر الظن أنها مما يثير الشراهة التي تكشف مواطن الضعف في النساء.
ويبدو من قراءة هذه الأغنية أنها لم تصل إلينا كاملة، بل امتدت إليها يد التغير، تشهد بذلك مقطوعتها الثالثة التي تتغنى بريح الشرق فإنها تزيد على المقطوعات الأخرى، وربما تعمد ذلك الذي قام بجمع أجزائها حتى تبدو هينة سهلة.
ومهما يكن من أمر هذا الحذف فإن هذه الأغنية قد وسعت من آفاق معارفنا عن أقدم نصوص الأدب المصري وأضافت إلى معلوماتنا شيئاً جديداً جديراً بالتقدير.
ولسنا مغالين إذ نقول إنها أثبتت وجود شعر غنائي ملئ بالخيال والعذوبة في مثل هذا العهد البعيد).
ونص أغاني الرياح كما عثر عليه الأب دريتون:
تقول الفتيات أنهن أُعْطِينَ هذه الرياح
فهذه ريح الشمال التي تُطوِّق بحر إيجه
والتي تمد ذراعيها فتبلغ أطراف مصر
والتي تخلد إلى النوم بعد أن تترك في نفس الصديق البهجة التي يأنس إليها كل يوم
إنها ريح الحياة أُعْطِيْتُها وبها أحيا
تقول الفتيات: (لقد أُعطينا هذه الرياح)
وهذه ريح الشرق التي تُفتِّح طاقات السماء
والتي تهبَ الشرق أنفاسَه
والتي تَهبُّ مع الشروق وتصحب الشمس إلى ضحوتها
أمسكت الشمس بيدي
وهيأتْ لي في ساحتها مكانا
حيث أقبل على الطعام بشغف كما يقبل أبيس
وألتهمه في نهم كما يفعل (سيت)
إن ريح الشرق هي ريح الحياة أُعطيتها وبها أحيا
تقول الفتيات: (أعطينا هذه الرياح)
وهذه ريح الغرب شقيقة (ها) وسليلة (ياوٌ)
والتي جعلت من جسد الآلهة موطناً لها تعيش فيه
قبل أن تكون في هذا الوادي مملكتان مختلفتان
إنها ريح الحياة أُعطيتها وبها أحيا
تقول الفتيات: (لقد أعطينا هذه الرياح)، وهذه ريح الجنوب، ريح زنجية تسوق الماء
الذي يبعث الحياة في كل شيء
إنها ريح الحياة أعطيتها وبها أحيا
الفاتن:
تحية لكُنَّ يا رياح السماء! ألا تحدثنني عن أسمائكن واسم من وهب هذه الأسماء! هل لي
أن أعرف من منحكن هذا السلطان!
إحدى الرياح:
لقد وجدنا قبل مولد الناس، بل قبل وجود الآلهة، وقبل أن يقع طير في شرك، أو يوثق
ثور في حبل، وقبل أن يتعرض جسد (هاتريت) بنت الآلهة للضم والعناق، وقبل أن تُشْبَع رغبة الإله الأزلي سيد السموات والأرض. لقد طلبتها إلى آلهة الريح فأجابتني ومنحتني إياها
الفاتن:
تعالي معي أرك سفينتي، هلا نزلت
إحدى الرياح:
لا، أن لي سفينة أروح بها إلى الثغر؛ وعنده أتزود بسفينة طولها ألف ذراع، فأصعد بها
إلى دارة الشمس
الفاتن: إن وسائلي لا تنفد
هذه هي النواة أو جزؤها الذي استنبتته قريحة الفنان علي طه، فجاء كما شاء أيكة فينانة باسقة. وقد تخيل الشاعر وسائل القرصان لإغراء الفتيات، فصورها تصويراً نفسياً عجيباً، لم ينجهن منها إلا ذكاء (حروازا) وعناد (باتوزيس). والرواية بأصلها القديم وفروعها الحديثة من مآثر الأدب المصري ومفاخر علي طه.
البريد الأدبي
عبد المسيح وزير
قراء (الرسالة) يذكرون القصة العذرية المنقولة عن اللغة الكردية بقلم الأستاذ عبد المسيح وزير، والذين زاروا بغداد يذكرون أنهم رأوا في هذا الرجل حلاوة الدعابة، ولطف الذوق وكرم النفس، فمن العزيز علي أن أتلقى من أحد أدباء كربلاء خطاباً أعرف به أنه مات، وأن الجرائد العراقية لم توفه حقه من الرثاء، وهو يدعوني إلى نعيه بمجلة الرسالة، رعاية لحقوق الأخوة الأدبية بين مصر والعراق
كنت أتمنى أن أسمع عن الأستاذ عبد المسيح وزير خبراً غير هذا الخبر الأليم، فقد كان من أعز أصدقائي، ولعله كان لجميع من عرفوه خير صاحب وأعز صديق
كان عبد المسيح وزير تحفة أدبية، وكانت نفسه على جانب من الصفاء، ولهذا اهتم اهتماماً عظيماً بآثار طاغور، فأوحى إلى مريديه معنى الإعجاب بشاعر الهند، كما تشهد المجموعة التي نشرها الأستاذ فخري شهاب السعيدي، وهي أوفى ما نقل من آثار طاغور إلى اللغة العربية
وقد اشترك عبد المسيح وزير في نقل مصطلحات الجيش في اللغة التركية إلى اللغة العربية، كما حدثني يوم شهدنا مباراة الطيران في بغداد
من العزيز علي أن أفجع بموت صاحب لم أجد منه غير الجميل ولم تكن اللحظات التي قضيتها في صحبته غير أقباس من الصفاء
وأنا بعد هذا أستبعد سكوت الجرائد العراقية عن رثاءه، كما جاء في الخطاب الوارد من كربلاء، فمن المؤكد أن محنة الجرائد بغلاء الورق وضيق الصفحات هي المسئولة عن هذا العقوق
أما بعد، فهذه كلمة وجيزة نؤدي بها واجب التوديع لأديب عرفناه فأحببناه، وستلوح فرصة ثانية نتحدث بها عنه بإسهاب. . . وسلام عليه، وعلى روحه اللطيف.
زكي مبارك
حول بيت لعلم الدين المحيوي
في مقال الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك عن الشاعر التركي (أيدمر المحيوي)، ورد هذا البيت:
والغصن مياس القوام كأنه
…
نشوان يصبح بالنعيم ويُغبق
وقد نص الدكتور على أن (النعيم) هنا هو الخمر. قال: وهي كلمة قليلة الورود في الخمريات، ولكنها لا تعظم على من ينافس أبا نواس
وأقول إنه يبدو لي أن تصحيفاً طرأ على هذه الكلمة، وصحتها (النسيم) لا النعيم، فيكون البيت:
والغصن مياس القوام كأنه
…
نشوان يُصبح بالنسيم ويغبق
ومعناها أن الغصن يتمايل كالنشوان، ولكنه لم ينتشي من اصطباحه واغتباقه بالخمر، كما يفعل النشاوي من الناس، وإنما هو مصطبح مغتبق بالنسيم الذي يغاديه ويراوحه
فنائب الفاعل ليصبح ويغبق هنا هو (الغصن) لا (نشوان) وتلك زيادة في المعنى لا تحسبها قد فاتت الشاعر. ونحن نرفض كلمة (النعيم) هنا، لأنها تحرمنا من هذا المعنى الذي ذكرناه، ثم لأننا لم نسمع بأن النعيم من أسماء الخمر، وأخوف ما نخافه أن يستطرد شعراؤنا فيلقبوها بالسعادة أيضاً، وبالهناء والسرور. . .
وقد رجعت إلى (حلبة الكميت) لشمس الدين النواجي، فوجدته يورد البيت بلفظ النعيم لا النسيم؛ وكذلك فعل البهاء الدمشقي صاحب (مطالع البدور). والتصحيفات - كما قلت مرة - هي آفة الآفات في مطبوعاتنا ومخطوطاتنا. وإنها لكثيرة - وسخيفة أحياناً - إلى الحد الذي تستوجب معه الإهمال وترك التصحيح، ولكني أردت بهذه الكلمة أن أستطلع أستاذنا الجليل زكي مبارك، ولعله يقتنع برأيي فأكون سعيداً.
هذا وقد راقني حديثه الموجز عن الروضة والمقياس ومكانتهما من نفوس الشعراء في أزمانهما. وأنا مثبت هنا تأييداً لرأيه ما قال بعض الشعراء (المجهولين) في المقياس:
إن مصرا لأطيب الأرض عندي
…
ليس في حسنها البديع قياسُ
ولأن قستها بأرض سواها
…
كان بيني وبينك (المقياس)
(جرجا)
محمود عزت عرفة
ختان الأنثى في الإسلام
نفي دكتورنا الفاضل (أسامة) في بحثه (ختان البنات في مصر) بالعدد 544 من الرسالة الغراء وجود أصل لختان الأنثى في الإسلام معتمداً في نفيه على: خلو بلاد إسلامية كالحجاز والعراق والشام وغيرها منه، واستئثار مصر وحدها به - لا ينفك عنه مسلموها وأقباطها على السواء - ويرجح لهذا، تقدم الأقباط في العمل به، وانتقاله إلى المسلمين بالوراثة
أما صلته بالإسلام فقد نص الأئمة في أحكامهم المستنبطة من السنة، على الختان في حق الأنثى: فقال الشافعي وكثير من العلماء إنه واجب، وقال مالك وأبو حنيفة إنه سنة. ومأخذ هذه الأحكام أحاديث كثيرة منها (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء). ومنها:(يا نساء الأنصار اختضبن غمساً واختفضن - من الخفض وهو ختان المرأة. ولا تنهكن - أي لا تبالغن - وإياكن وكفران النعمة).
دسوقي إبراهيم
تأريخ الأخلاق
(تأليف محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين -
الطبعة الثانية 317 صفحة)
الأستاذ محمد يوسف موسى عالم فاضل جمع بين الثقافتين، ثقافة الأزهر القديمة، وثقافة الغرب الحديثة، ويسرت له معرفته باللغة الفرنسية الاطلاع على المراجع الأجنبية في أصولها. وهو إلى جانب ذلك يبغي الحق لذاته شأن طلاب الحكمة. قلت له: قد لا يروقك ما أكتب، قال: إني لا أخشى النقد. ولعمري هذه هي روح العلماء، من الاعتراف بالخطأ، والسعي إلى الصواب. وإنما الكمال لله وحده
وكتاب (تاريخ الأخلاق) هو الأول من نوعه في اللغة العربية، ويعتبر بذلك سداً لفراغ
عظيم في تاريخ الفلسفة على اعتبار أن الأخلاق فرع من فروعها
وفي الكتاب دراستان: إحداهما منقولة، والأخرى أصيلة: أخذت المنقولة عن المصادر الأجنبية وذلك فيما يختص بالأخلاق عن أمم الشرق القديم وعند اليونان وعند الأوربيين بعد عصر النهضة. والجزء الأصيل هو الخاص بالأخلاق الإسلامية. وهذا فضل للمؤلف غير منكور، وجهد مشكور
ولا أحب أن أعرض للأجزاء المنقولة بشيء، لأن نقدها يعتبر نقداً للمراجع الأولى التي استسقى منها المؤلف، ولكني أقول من حيث الشكل إنه عرض للسائل عرضاً سريعاً لا يشبع النهم، وعذره في هذا هو طول الموضوع وضيق الورق. وما بالك بكتاب يريد أن يحيط بتاريخ الأخلاق من يوم أن ظهرت الحكمة الإنسانية حتى الآن، في بضع مئات من الصفحات
ونقف قليلاً عند الجزء الأصيل، وهو تاريخ الأخلاق عند المسلمين. قال المؤلف في مستهل الكلام عن الأخلاق في الإسلام ص 159:(إن الضمير، وإليه المرجع في بيان الخير والشر، فطري في جرثومته وأصله. . .). وهذه القضية، وأعني بها فطرة الضمير، موضع خلاف بين العلماء والفلاسفة، ولم يكن ينبغي أن يقطع فيها المؤلف برأيي كما يقتضي التحقيق العلمي الصحيح
وتقسيم الأخلاق الإسلامية غير واضح، فهو يضع في القسم الأول الذين سادت كتاباتهم النزعة الدينية والأخلاق العملية كما فعل الماوردي في أدب الدنيا والدين. وفي القسم الثاني الذين سادتهم النزعة الدينية والصوفية مشوبة بالنظر الفلسفي كالغزالي. وفي القسم الثالث الأخلاق الفلسفية كما نجدها عند الكندي والفارابي وغيرهما. والتقسيم على هذا النحو يعتبر غير جامع ولا مانع كما يقول المناطقة
ويرى المؤلف أن القرآن والحديث لا يكونان مذهباً أخلاقياً وفي ذلك يقول: (إلا أنه حذار من المبالغة والقول بأن ما في القرآن والحديث من أخلاق يكون مذهباً أخلاقياً، فإن هذا لا يعدو، كما نعرف جميعاً، طائفة لها قيمتها من المواعظ والحكم تدل على الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. أما أنا فأعرف أن في القرآن فلسفة وأخلاقا وتشريعاً وقصصاً كأغلب الكتب السماوية. والجانب الخلقي في القرآن عملي يصف ألوان السلوك
الواجب اتباعها، على أن هذا السلوك العملي يستمد كيانه من قواعد نظرية نستطيع استخلاصها. والمجال لا يتسع لبسط هذه النظريات، وأكتفي بضرب مثل بإحداها وهي نظرية أن الفضيلة وسط بين طرفين، فهي سائدة في أغلب السور مثال ذلك:(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)
والأخلاق عند إخوان الصفا كسبية لا فطرية، لا كما ذكر المؤلف من أن منها (ضرب جبلي وآخر كسبي) ص 180. وفي ذلك يقول إخوان الصفا ج1 ص 236 (والمثال في ذلك أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربوا معهم تطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم. وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي ينطبع عليها الصبيان منذ الصغر) والسبب في اعتناق إخوان الصفا مذهب الكسب في الأخلاق، لأنه يخدمهم في نشر عقيدتهم التي يريدون تغليبها في الأمصار. ولو قالوا بالفطرة ما كانت هناك جدوى من نشر مذهب جديد
والغريب أن المؤلف أخرج الغزالي من زمرة المتصوفة حيث قال ص 197: ولسنا في حاجة للقول أن الغزالي أصاب الحق بمجانبته للمتصوفة وموافقته للنظار والفلاسفة. ونقول أن الغزالي يقصد بالنظار أولئك الذين يسلكون طريق التصوف عن نظر لا عن تقليد أعمى
هذه النقدات لا تنقص من قيمة مجهود موفق جليل، نرجو أن يتابعه بمؤلفات أخرى في القريب.
الدكتور
أحمد فؤاد الأهواني