المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 547 - بتاريخ: 27 - 12 - 1943 - مجلة الرسالة - جـ ٥٤٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 547

- بتاريخ: 27 - 12 - 1943

ص: -1

‌كتب السياحة

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب السياحة كانت توفيقاً ونجاحاً يوم كانت السياحة نادرة عسيرة

بل هي كانت يومئذ أكثر من توفيق ونجاح: كانت واجباً إنسانياً أو (فرض كفاية) يقوم به قليل من الناس عن جميع الناس

فقد كان الانتقال من قطر إلى قطر عملاً مقصوراً على التجار أو المقاتلين، وربما ساهم فيه من حين إلى حين شاعر يقصد ممدوحاً وتلميذ يحج في طلب أستاذ. وكل هؤلاء يعنيهم ما طلبوه وتعمدوه، وقلما يعنون بالمشاهدة أو بتسجيل ما يشاهدون

إنما كان يعني بالمشاهدة والتسجيل أفراد معدودون في كل جيل، يخرجون في مسوح الزهاد أو حباً للرحلة بين أرجاء البلاد، ويعمد واحد منهم في كل جيلين أو ثلاثة أجيال إلى تسجيل ما رآه ووصف الأقوام التي عاشرها والأقاليم التي عاش فيها، فيؤدي (فرض الكفاية) الذي أشرنا إليه، ويدل الأمم على الأمم والعصور على العصور

وكان هذا العمل لازماً في زمانه، ولا يزال كذلك لازماً لنا في هذا الزمان

ففي زمانه كان كل قطر غريباً عن كل قطر غيره وإن قاربه مقاربة الجوار، فالسائح على ثقة من حمل الغرائب التي تشوق وتروق، وهي كذلك تعلم وتفيد

وفي زماننا هذا نقرأ الرحلات لنعرف بلادنا كما نقرأها لنعرف البلاد الأخرى، فالقاهرة في القرن الرابع عشر غريبة عن أبناء مصر الحديثة كغرابة الصين في زمانها أو في هذا الزمان، ونحن نود أن نسمع عنها كما نود أن نسمع عن توكيو وبكين وستالنجراد، لأنها خبر شائق وعلم مفيد

وقد نحيط بعادات الأمم الخالية فنصحح بعض الغرور الذي يركب أبناء العصر الحاضر فيخيل إليهم أنهم هم السابقون إلى كل طرافة وأن المتقدمين في باب الطرائف هم اللاحقون

نحن اليوم نغرق في العملة الورقية ونعلم ما نعلم عن سبائك الذهب والفضة في المصارف والخزانات الدولية، فيسبق إلى وهمنا أنها حال طريفة وأنها عرض من أعراض الحروب في الآونة الحاضرة، ولكننا نفتح ابن بطوطة فنراه يقول عن أهل الصين في القرن الرابع عشر للميلاد: (وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا بدرهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من

ص: 1

ذلك يسبكونه قطعاً كما ذكرناه، وإنما بيعهم وشرائهم بقطع كاغد: كل قطعة منها قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت وهو بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عوضها جدداً ورفع تلك، ولا يعطي على ذلك أجرة ولا سواها، لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء. . .)

فقد كان أهل الصين إذن (عصريين) في ناحية من النواحي يوم كان العصريون في ظلمات القرون الوسطى، يجهلون أنفسهم كما يجهلون أهل الصين!

ونحن اليوم نحسب أننا قد أحطنا بالقاهرة خبراً، وذرعنا أحياءها شبراً شبراً، وجعلناها امتحاناً للريفي الذي يضل فيها، ويخطئ الطريق إلى معالمها وضواحيها، فإذا نحن غرباء في القاهرة نسوح بين بقاياها التاريخية كما نسوح بين بقايا المدن التي لم نطأها بأقدامنا، لأن ابن بطوطة يرينا قاهرة أخرى، وإن شابهت قاهرتنا في بعض المشابهة، حين يقول في بعض أوصافها:(. . . ويقال إن بمصر من السقائين على الجمال أثني عشر ألف سقاء، وإن فيها ثلاثين ألف مكار، وأن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفاً للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط، بأنواع الخيرات والمرافق. . . وأهل مصر ذو طرب وسرور ولهو: شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين كل أهل سوق سوقهم وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياماً. . . وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها، وأما المارستان الذي بين القصرين - عند تربة الملك المنصور قلاوون - فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر، ويذكر أن مجباه - أي مورده - ألف دينار كل يوم)

فكتب السياحة التي بهذه المثابة تصيب توفيقاً لا ينقضي بانقضاء زمانه، لأنها تتلقانا بالغرائب من بلادنا ومن بلاد غيرنا، ولولاها لاحتجبت هذه الغرائب عنا وجهلنا أموراً لا يخلق بنا أن نجهلها

أما السياحة في زماننا هذا فالتوفيق فيها يقل على قدر سهولتها وتيسر أسبابها، وكأنما تزداد صعوبة الكتابة عن الرحلات كلما تمهدت الرحلات وقلت صعوباتها.

ص: 2

فالأرض اليوم دار واحدة أو يوشك أن تصبح داراً واحدة: لا ينقضي اليوم حتى تعم أخباره جميع أنحائها، ولا تنقضي الأيام المعدودات حتى يشاهد هذا الخبر رأي العين بشخوصه ومواقعه ومشاهد أرضه وسمائه حيثما طابت رؤيته لساكن من سكان البلاد المعمورة. فلا غنى للسائح عن جهد في تمثيل ما يراه على الصورة التي تستغرب أو تشوق أو تنم على طرافة، ولا سبيل له إلى الإتيان بالجديد إلا أن تتسنى له الوسائل التي لا تتسنى لغيره، أو المكانة التي تقترن بكلامه ولا تقترن بكلام الآخرين من السائحين.

ألقيت من يدي كتاب دنيا واحدة لمؤلفه السياسي المشهور مستر وندل ويلكي فلم أتمالك بعد الفراغ منه أن أستحضر هذه الخواطر في خلدي جملة واحدة

فالرجل لا شك جم الذكاء جم الحصافة جم الدراية

ولا شك أن وسائله إلى الاطلاع على دخائل الدول أوفر من وسائل السائحين من الصحفيين والمتفرجين، أو أشباه الصحفيين والمتفرجين

ولا شك أنه قد جاء بالمفيد الشائق فيما أحاط به من طريق هذه الوسائل الخاصة بمقامه ومقام دولته في السياسة العالمية

ولكنه كلما تجاوز هذا وقف حيث يقف غيره بين مآزق السياحة العصرية، فهو قد يبحث عن الغرائب حيث لا يجدها، وهو قد يصادف التوفيق مصادفة أو يعدوه التوفيق كما يعدو كل سائح غيره في بلاد هو غريب عنها

والخطأ في هذا خطؤه من جانب، وخطأ من يلقونه ويلقاهم بالأسئلة والأجوبة من جانب آخر

إليك مثلاً كلامه عنا وعن أحاديثه مع بعضنا حيث يقول: (إن السحر الذي كان لأفكارنا الغربية في شئون السياسة قد قوبل بالتحدي في عقول العرب واليهود والإيرانيين، وقد راقبونا الآن عن كثب زهاء جيل كامل كنا خلاله نختصم فيما بيننا وفيما بين أبناء الأمة الواحدة منا، ونتساءل في قيمة الأسس التي قامت عليها عقائدنا)

فهذا كلام رجل مستعد لأن يتلقى وجهة النظر من غيره لو أجابه الذين سألهم عنها، ولكنه كان يسأل فلا يجاب، أو كان يسأل فيجاب بالتحفظ والمراوغة كما قال: (حيثما ذهبت لقيت أناساً مؤدبين ولكنهم شكوكيون أو متوجسون يقابلون أسئلتي عن قضاياهم بأسئلة من عندهم

ص: 3

عن قضايانا نحن فيها تهكم لا يخفى، وكثيراً ما كانت مسألة الأجناس وسوء وضعها ببلادنا تبرز إلى الأمام في أحاديثنا، كما كان كل عامل في حكومة يعجب لموقفنا من حكومة فيشي. ويود العرب واليهود معاً لو يعلمون أهذه التصريحات التي تهتف فيها باسم الحرية إنما تعني كما عنت في الماضي توسعاً في الانتداب والوصاية؟). . . إلى آخر ما قال من هذا القبيل

وعندي أن الصراحة المطلقة في جواب رجل يقابل الأمور هذه المقابلة المفتوحة للنقد والاستطلاع قد كان أنفع وأجدى، وأن المراوغة أو الشكوكية هنا ليست من أمانة الفهم والوطنية وإن عدت من أدب الخطاب، بين السائل والمسئول

ويشبه هذا قوله بعد ذلك: (لقيت باشوات في كل استقبال حضرته، ومنهم كثيرون متزوجون بأجنبيات، وهم من الوجهة الاجتماعية جذابون مرحون، ولهذه الطبقة تماثيل تمتلئ بها الميادين

(ولقب الباشا تراث متخلف من العصور العثمانية، وكان يخلع من قبل على القادة العسكريين أو حكام الأقاليم الذين أبلو في خدمة الدولة، فأصبح اليوم عنوان تشريف

(. . . ولكني حين سألت مضيفاً لي - وكان شاباً مصرياً صحفياً - عن هذا اللقب هل يخلع على أحد لأنه ألف كتاباً عظيماً؟ أجابني: يجوز أن يخلع. . . لولا أنه في مصر قل أن يحفل أحد بتأليف الكتب!

(وسألته: أينال الرجل لقب الباشا لأنه يشتغل بتصوير الصور؟

(فأجابني: ولم لا؟ إلا أن الذين يصنعون الصور في مصر لا يوجدون

(وسألته أيضاً: هل استطاع مخترع عظيم قط أن ينال لقب الباشوية؟ فكان جوابه مرة أخرى أن ليس لدينا مخترعون ولا علم لي بأحد منهم منذ عهد الفراعنة)

فالخطأ هنا من جانبين لا من جانب واحد

لأن المستر وندل ويلكي لا يسأل عن الخطأ في فهم هذه الأمور كما يسأل عنها ذلك الصحفي (المصري) الذي جرد مصر من التأليف والتصوير والثقافة تجريداً يحق لمن يسمعه من (مصري) أن يسبقه في المضمار، وهو غير متهم النيات

ويلوح لنا أن الرجل كان حسن النية باحثاً عن الحقيقة غير متعنت في إنكارها، ولكنه سأل

ص: 4

من لا يحسن أن يجيب فكان في ذلك عذره، أو كان مشاركاً في اللوم إذا اتجه إليه ملام

وقد ننصفه حين نقول إنه جمع في كتابه الصغير أوفر عدد من الحقائق وأقل عدد من الأخطاء. فقال في مائة وسبعين صفحة صغيرة ما يقوله غيره في ألوف الصفحات، وذلل صعوبة الصناعة - صناعة الكتابة عن الرحلات في الزمن الحديث - تذليلاً يشهد له ببراعة صحيفة وملكة قصصية ليست موفورة الشيوع بين الكبراء من رجال السياسة

وقد ذكر في الفصل الأول من كتابه أنه عبر في سياحته واحداً وثلاثين ألف ميل ولم يقض في الهواء أكثر من مائة وستين ساعة، وهذا عنده - وعندنا - دليل صادق على أننا نعيش اليوم في (دنيا واحدة) كما اختار أن يسمي كتابه، ولكن الدنيا الواحدة، بل الدار الواحدة، بل النفس الواحدة، تحتاج إلى أكثر من مائة وستين ساعة، بل مائة وستين يوماً لفهمها على جليتها، وتصويرها في ظواهر أحوالها وبواطن حقيقتها. ولعل الرجل الذي يستطيع أن ينظر إلى الدنيا نظرة واحدة مستطيع أن يستدرك من أخطائه ما تتفرق به الأقوال وتتشعب حوله الآراء.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌مسابقة الأدب العربي

2 -

ديوان أيدمر المحيوي

للدكتور زكي مبارك

حياة الشاعر

في الأخبار التي جمعها الأستاذ أحمد نسيم - وهي على قلتها كل ما يمكن الوصول إليه في هذا الوقت - سكوت عن العمل الذي كان يتعيش منه هذا الشاعر المجيد، فلم يكن كاتب إنشاء كما كان البهاء، ولا كان يتولى إدارة أحد الدواوين، كما كان يتفق لبعض الشعراء

والظاهر أنه كان يتكسب بشعره، كما تدل الأبيات الآتية، وهي من قصيدة يمدح بها الملك الكامل، ويذكر ظفره بالفرنج يوم قصدوا دمياط:

أشكو الخمول إلى علاك فإنني

فيما أقول لمحسنٌ ومجوِّدُ

أُبدي البديع ولا يزال ظلهُ

ظلي ومنه ما يسوء ويكمد

إن القريض وإن تكاثر ساكنوِ

أفيائه للعبدُ فيه الأوحد

لكنه أدناهمُ قدراً إذا

وردوا وأغلاهم إذا ما أوردوا

ومعنى هذا أن الشعر نفع من ليسوا في مثل منزلته من الفصاحة والبلاغة، وأنه برغم براعته ظل من الخاملين

وهنالك أبيات حزينة نص فيها على رضاه بالمقسوم له من دنياه، مع أنها في قصيدة مديح، وهي قوله بعد التشبيب:

لم تعطني الأيام مطلب همتي

من رفدها فأخذت ما تعطيني

ورأيتُني سخطي يدوم إذا أنا

لم أرض إلا بالذي ترضيني

حالٌ لعمرُك دون قدري إنما

أرضى بها نظراً إلى من دوني

وهي أبيات في غاية من النفاسة، ومنها نعرف أنه كان مقلقل الحياة بين العطاء والحرمان

الغزل والتشبيب

المختارات التي بقيت من ديوان أيدمر تدل على أمرين: الأول أنه لم يكن يبدأ جميع قصائده بالنسيب، كما كان يصنع اكثر الشعراء، وهو مذهب حاربه المتنبي حين قال:

ص: 6

إذا كان مدحٌ فالنسيب المقدَّمُ

أكلُّ فتىً قد قال شعراً متيّم

والأمر الثاني أن النسيب عنده كان في الأغلب من فواتح المدائح، كالذي رأينا في قصيدته القافية، وهو يذكر يوم التخليق بالمقياس

ولو ظفرنا بديوان أيدمر كاملاً لعرفنا مذهبه في التشبيب، فمن المحتمل أن يكون خصه بقصائد طوال أو قصار، كما فعل البهاء

أقول هذا لأني أستبعد أن يكون الغزل نافلة عند من يقول:

ومُضْنَي الخصر لا يدري يقيناً

أوردٌ وجنتاه أم حُمَيّا

أتاني زائراً من غْير وعدٍ

وقد مالت لمغربها الثريا

فوفَّى دَين شوقي حين وافى

وأحيا مَيْتَ أنسى حين حيّا

وبتُّ أرى يقين الوصل شكا

وقد ملأ الهوى منه يديّا

أفكّر في الجفا أنّى تقضَّى

وأعجب للرضا أنَّى تهيّا

والمعاني هنا مألوفة أو مطروقة، كما قلت في مثلها من قبل، ولكنها في حيوية قوية تشهد لصاحبها بالابتكار والابتداع

وأين من يلاحظ كلمة (يقيناً) في البيت الأول، وهي من القوة بمكان، مع أنها لو وقعت في غير هذا الموقع لكانت من المبتذلات، وسر قوتها يرجع إلى حيرة المحبوب في إدراك سحر وجنتيه الورديتين أو الخمريتين، وهل يعرف الورد أنه ورد؟ وهل تعرف الخمر أنها خمر؟

والبيت الثالث أعجب وأغرب؛ فالعاشق يرتاب في اليقين، لأنه فوق ما تسمح به الأوهام والظنون، وقد أوضح ارتيابه بهذا البيت:

أفكر في الجفا أنّى تقضّى

وأعجب للرضا أنَّى تهيّا

ولهذا الشاعر لوعة أفصح عنها حين قال:

ذُكِر الحِمَى فأطال رجع أنين

وغدا يواصل زفرةً بحنين

واعتاده وَلَهٌ يقَسِّم لبَّهُ

ما بين حالة حيرةٍ وجنون

وجَرَتْ محاجرُهُ دماً فكأنما

شرقت بذوب فؤاده المحزون

وَلها يكفكف دمعه بشماله

أسفاً ويمسك قلبه بيمين

ص: 7

يا منزلاً قضت الصبابة لي به

ذمم الصبا ومآرب العشرين

أيام البس للغواية ثوبها

وأجر ذيل خلاعة ومجون

وأجيب داعية التصابي ملقياً

رَسَني إليه يضل أو يهديني

ليت الذين ولعت من كلَفٍ بهم

حفَلوا بحرّ تلهفي وحنيني

قد كان يضحكني الزمان بقربهم

فاليوم عاد ببعدهم يبكيني

وأقول من جديد إن المعاني ليست جديدة، فقد طاف بها كثير من الشعراء، ولكنها في نظري جديدة ومبتكرة، لأن الشاعر يحسها بأقوى ما يكون الإحساس، أليس هو الذي يقول في مطلع إحدى المدائح:

طاف بنا والليلُ في ثوب خَلَق

يلمع من خلاله نور الفَلَق

والنجم يخبو تارة ويتألق

مثل عيونٍ كابدت طول الأرق

خيالُ من أسكنَ جنبيَّ القلق

جبينهُ الشمس وخدُّه العَبَق

يبدو فما أرمقه فيمن رمق

يأمرني الوجد وينهاني الفَرَق

وهنا أقول إن هذا خيال لم أجده عند غيره من الشعراء، وهو بهذا الخيال وثب وثبة تطرب الإنس والجان

وعلى المتسابقين أن يتأملوا في معاني هذه الأبيات، فقد يكون فيهم من يعرف من أسرارها مالا أعرف، والشعر كالحسن تتفاوت في فهمه الأذواق

شاعر مبدع

هو أيدمر الذي أراد أن يأتي في المديح بالطرب والرقص، فهو الذي يقول في ممدوحه بعد ذلك النسيب:

ألذَ من وصف الغزال المنتطقْ

ومن مناجاة الخيال إن طرَقْ

مدحُ فَتًى ذكراه مِسكٌ ينتَشَقْ

لكنها في حلق شانيه شَرَق

صدرٌ بهىُّ الخَلق مرضىَّ الخُلُق

خوَّله الله تعالى ورَزَقْ

من المعالي كل ما جلّ ودقّ

سابقَ أرباب المساعي وسبقْ

مشياً وهم بين ذميلٍ وعَنَقْ

لو قذف النجم بعزم لاغترق

أو ضرب البحر بكفّ الفَرَق

أو رجم الطود بحلم لصعق

ص: 8

وهذا شعر، بل سحر، وهو في ديباجة أيدمريه، لا بحترية، لأن الشاعر هنا مفترع لأبكار المعاني وهي مدثرة بأفواف الخيال

الموشحات

نترك للمتسابقين مراجعة ما ألمعنا إليه بإيجاز، لأن الغرض هو التوجيه إلى ما سيرد في أسئلة الامتحان، وهي لم تخرج عن العناصر الأساسية، العناصر التي نشير إليها في هذه الأحاديث

ونواجه مسألة جديدة هي اهتمامه بالموشحات، كالذي صنع في معارضة الموشح الذي مطلعه:

أيها الساقي إليك المشتكى

قد دعوناك وإن لم تسمع

ولم يذكر جامع المختارات صاحب هذا الموشح، ولكن الأستاذ أحمد نسيم نص في الهامش على أنه من نظم أمير المؤمنين ابن المعتز العباسي

وما قاله الأستاذ أحمد نسيم هو ما كان يقوله جميع مؤرخي الأدب في العصر الحديث، وهو أيضاً ما قلته في الطبعة الأولى من كتاب مدامع العشاق، ولكني بعد ذلك ارتبت في نسبته إلى ابن المعتز فقلت في الطبعة الثانية إنه لأحد الشعراء

ثم اهتديت إلى صاحبه فيما بعد فكتبت عنه كلمة في جريدة البلاغ سنة 1934، وهو محمد بن زهر الأندلسي، ومثله موشح ابن بقي القرطبي وأوله:

غلب الشوق بقلبي فاشتكى

ألم الوجد فلبّتْ أدمعي

أيها الناس فؤادي شِغُف

وهو من بَغْي الهوى لا ينصف

كم أداريه ودمعي يكف

أيها الشادن من علمكا

بسهام اللحظ قتل السَّبُع

ولا أعرف في هذه اللحظة أي الشاعرين أسبق: ابن زهر أو ابن بقي، لأني أكتب هذا المقال في ليلة مطيرة وفي مكان بعيد من المراجع الأدبية، فليسأل المتسابقون أساتذتهم عن المبتكر والمعارض في هذين الموشحين

والمهم هو النص على أن أيدمر فاز وهو يعارض ابن زهر، فقد استطاع أن يقول:

ص: 9

عَهِدَ البينُ إلى عيني البكا

ثم أوصاها بأن لا تهجعي

وسقى قلبيَ من خمرته

فهو لا يعقل من سكرته

فمتى يُنقَذُ من غمرته

في سبيل الحب قلب هلكا

شيَّع الركبَ ولما يرجع

هزّ عِطف الغصن من قامتهِ

مُطلعاً للشمس من طلعته

ثم نادى البدر في ليلتهِ

أيها البدرُ تغيّبْ ويحكا

ما احتياج الناس للبدر معي

ثم مضى الشاعر فقال في ممدوحه ما شاء، ولكن الفن غلب عليه، فختم الموشحة بهذه الأقباس:

فاقتدحْ بالمزْج نار القَدَحِ

نصطلي إنْ نحن لم نصطبح

وأغنَّيك ولم تقترحِ

أيها الساقي إليك المشتكى

قد دعوناك وإن لم تسمعِ

أفانين طريفة

قد عارض أيدمر بعد ذلك موشحة ثانية، ولا يتسع المجال للكلام عن الموشحات الأندلسية وتأثيرها في الآداب المصرية، ومن السهل أن يرجع المتسابقون إلى كتاب (بلاغة العرب في الأندلس) لأستاذنا الدكتور أحمد بك ضيف، فقد وفى هذا الموضوع حقه من البيان

والفنن الذي أقصد إليه هو موشحه الذي وصف به الخمر والرياض:

دع الصبا يمرّ في التصابي

قبل تحلي سكرة الشباب

وانتهز اللذات فالعيش فُرَصْ

رُبَّ سرورٍ كامنٌ فيه نَغَصْ

قم يا غلامُ هاتها وهاكا

واعص هوى العاذل في هواكا

أما ترى ظل السرور سابغا

ومشرب العيش هنيئاً سائغاً

فيْ روضة قيد النظر

تشكر آلاء المطر

ص: 10

ترنو بأحداق الزهر

تحسبها بعد السَّحَر

قد انتثرْ

فيها دُررْ

أو انتشرْ

فيها حَبَرْ

تجلت الشمسُ عليها سافره

فقابلتْها بنجوم زاهرهْ

ترمقها حين دنا طلوعُها

بمُقلٍ ترقرق دموعها

تبكي وفي الأوجه بشر الضحك

فأعجب لها تضحك وهي تبكي

تمايلت تمايُل السقيم

لما أحست بسُرى النسيم

فأشفقتْ على حَذَرْ

وفَرقَتْ من الخفر

من قبل أن يُقضى وطرْ

نود لو كان استمرْ

ذاك العَطَرْ

لما خطرْ

على الزهَرْ

ساء وسرْ

بات الندى يُشربها نعيما

كما يغذِّي والدٌ فطيما

فأصبحتْ ودرعها بليلُ

تكاد من قطارِه تسيل

وأهدت الصَّبا لها كافورا

فملأت أردانها عبيرا

كأنما نوّارها المستحسنُ

ألسنةٌ تنطق فهي أعينُ

تفصح في بث الخبر

عن الحديث بالنظر

بمقلة فيها صور

حسناء من غير حور

فمنْ نظرْ

فقد خَبَرْ

ما قد ظهرْ

وما استترْ

قد تقولون إن الغزل والوصف هما اللذان منحا هذه الموشحة هذا اللطف، ولكن المدح فيها لا يقل طرافة عن هذا الغزل

وقد أثنى الشاعر على نفسه في ختام هذه الموشحة، وهو فرح جذلان، لأنه يؤمن بأنه من أكابر أهل البيان

الشعر التاريخي

وأريد به الشعر الذي ينظم حوادث التاريخ، وقد نظم أيدمر قصيدة طويلة سماها (الوسيلة

ص: 11

المشفعة، في مناقب الخلفاء الأربعة)، وقد يرد عنها سؤال، لأنها تصور فهم هذا الشاعر للعهود الأولى من التاريخ الإسلامي، فمن واجب المتسابقين أن يلتفتوا إليها كل الالتفات أو بعض الالتفات، وموضوع هذه القصيدة مفصل في الكتب المؤلفة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء

زكي مبارك

ص: 12

‌الأدب العربي واللغة العربية

في كتاب (زهرة العمر)

للأستاذ دريني خشبة

غرق الأستاذ توفيق الحكيم في الأدب العربي - على حد تعبيره - بعد عودته من فرنسا ليدرس قضيته من أساسها، محاولاً أن يعيد النظر في أمر اللغة العربية، وأن يكشف أسرارها ويضع إصبعه على مواطن ضعفها وقوتها. . . وهو قد شرع يفعل هذا بعد أن أخذ من مختلف الآداب العالمية بنصيب، فهو يقرأ نصوص الأدب العربي في عصوره المتعاقبة بعين جديدة، عين عامرة بالصور، حافلة بالمقارنات، وبنفس رحيمة عادلة. . .

هذه لمحة من المقدمة التي مهد بها الأستاذ الحكيم لفصله أو لفصوله، التي كتبها عن اللغة العربية، وتعليم اللغة العربية، ومعلمي اللغة العربية، وأساليب الكتابة العربية، وعن ماهية الشعر، ثم عن الأدب العربي، ونقص تكوينه من حيث هو خلق فني، وعن العلاقة بين الفنون الكبرى والآداب الكبرى، وعدم محاولة الأدب العربي أن يزيد في نثره بالرغم من ازدهار الفنون الإسلامية، وما ابتلعته المدنية الإسلامية في جوفها من المدنيات الكثيرة، وعناية الأدب العربي الإنشائي باللفظ أكثر مما يجب، وأنه لم يشأ أن ينزل عن تكلفه الذي يعتبره فصاحة وبلاغة. . . وما حدث من جراء ذلك من:(أن روح الشعب قد تعطش للون جديد من الأدب غير لون البداوة الأولى. لون من الأدب مستمد من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة. . . أدب جديد قائم على فن مشابه ومسايرة للفنون الزاهرة المعاصرة، التي يراها بعينه ويهيم في مراميها بخياله. . . فلما لم يشأ أدباء الفصحى أن يمدوا الناس بحاجتهم، لجأ الناس إلى أدباء من بينهم لا يملكون أداة اللغة ولا جمال الشكل، ولكن يملكون السليقة الفنية وروح الخلق. . . وهنا ظهر الأدب الشعبي. . . فما ظهور الأدب الشعبي أحياناً إلا علامة قصور أو تقصير من الأدب الرسمي، أو صرخة احتجاج على جمود الفصحاء. . . هكذا ظهر القصص الشعبي في صورة عنترة ومجنون ليلى وكثير عزة. . . وسارت الحضارة الإسلامية، فسار معها الأدب الخيالي الاجتماعي الشعبي، فإذا نحن أمام عمل فني رائع هو (ألف ليلة وليلة)، ثم نبت في كل شعب من شعوب الإسلام قصصه الذي يطبعه بطابع عصره. فكان في مصر قصة أبى زيد الهلالي،

ص: 13

وسيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس. . . ومن الغريب أنك إذا تأملت (التصميم) الفني والبناء الروائي لهذا الأدب الشعبي وجدته من حيث الفن لا اللغة هو السائر في الطريق الصحيح. . . فلقد كان من المستغرب حقاً للباحث أن يرى حضارة إسلامية عظيمة ذات فنون زاهرة وعلوم راقية، ولا يجد في أدبها أثراً إنشائياً مثل (الشاهنامه) أو (الرمايانه) أو (الإلياذة) أو (كليلة ودمنة) حتى كادت تتهم العقلية الإسلامية بعقمها. ولكن الأدب الشعبي الإسلامي صحح الوضع أمام التاريخ العلمي. . .)

وبعد، فما أريد أن ألفق مقالاً من كلمات الأستاذ الحكيم، وإن كنت أتمنى أن يكون كل متأدب في مصر، بل كل أديب في الشرق العربي، قد قرأ هذه الفصول القيمة التي دبجها قلم فنان، أديب فنان لا يرى حرجاً في أن يقول إنه أخذ من مختلف الآداب العالمية بنصيب، ثم غرق في الأدب العربي فوجده أدباً فقيراً شاحباً؛ أدباً يعني بالزخرف اللفظي، ولا يمتاز بأثر خالد مما امتازت به اليونانية أو اللاتينية أو الفارسية، أو لغات أوربا الحية من آثارها الأدبية الخوالد. . . أدباً غير مستمد من روح الشعب المتعطش إلى ألوان جديدة غير ألوان البداوة الأولى. . . ألوان مستمدة من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة

هذا كلام نوافق الحكيم عليه، لأننا رددناه، ولسوف نردده، ولن نسأم من ترديده، حتى نحيله رجاء إلى أدبائنا بل توسلاً، إن كان لا بد من الرجاء أو التوسل لكي يخلقوا لنا أدباً جديداً صادراً عن روح الشعب المتعطش إلى ألوان جديدة مستمدة من إحساسه بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة

نحن نوافق على هذا كله لأنه أمنية كل رجل يحب الخير للأدب العربي، وكل رجل شدا شيئاً - ولو قليلاً - من الآداب الأوربية، واستطاع أن يقارن بينها وبين هذا الأدب العربي الذي لم يعد يصلح بحالته التي هو عليها لشفاء روح العصر الجديد ومجاوبة الحياة الجديدة التي تغمر العلم بأسره. على أننا مع ذاك نريد أن نناقش بعض ما جاء من الآراء في زهرة العمر عن أساليب الكتابة العربية، وعن الفنون الكبرى والآداب الكبرى، وعدم محاولة الأدب العربي أن يزيد في نثره بالرغم من ازدهار الفنون الإسلامية، وعن تاريخ القصص العربي. . . ثم هذه السخرية التي صبها الأستاذ الحكيم على رؤوس معلمي اللغة العربية

ص: 14

أولئك المعلمون الذين نظلمهم بتوجيه نقدنا إليهم وهم لا جريرة عليهم ولا ذنب لهم، فهم يعلمون كما أعدوا لهذه الطريقة من التعليم، وقد صبوا في قوالب من صنع الدولة لم يصنعوها بأنفسهم بل صنعت لهم ثم خرجوا على غرارها، وقد أصبح معلم اللغة العربية كالقاطرة التي لا تستغني عن شريط السكة الحديدية، وهي تجر ورائها جميع العربات - أبناءنا التلاميذ - على الشريط نفسه والى المحطة نفسها، والويل للمعلم الذي تحدثه نفسه بالخروج عن هذا الشريط! الويل للمعلم الذي يخالف عن سنة المنهج. . . تلك الشريعة المنزلة التي ترتبط بحسن تنفيذها التقريرات والعلاوات والدرجات. . . والفصل من الوظيفة والبقاء فيها أحياناً. . . الويل للمعلم الذي لا يجيد أن يعلم تلاميذه أن (نون) العاقلون هي نيابة عن التنوين في الاسم المفرد! وما إلى ذلك من اللغو الذي تركنا المدارس ونحن لا نحسن أن نفهمه، بله أن نعلله. . . لا نحن ولا معلمونا المساكين. . . ماذا يصنع المعلم يا أخانا الجليل مؤلف كتاب زهرة العمر بعد أن صبته وزارة المعارف في هذا القالب الشاذ؟ هل قرأت ما كتبه عنه صديقك طه حسين وشريكك في القصر المسحور؟ لقد كتب طه حسين فصولاً قيمة في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عن تعليم اللغة العربية ومعلم اللغة العربية والمعاهد التي تعد هذا المعلم في مصر. . . ذلك المعلم الذي تقول عنه إنه كان، سواء في المدارس الابتدائية أو المدارس الثانوية يجهل، لا معنى اللغة العربية وحدها، بل معنى اللغة على الإطلاق! ترى من كان معلمك في المدارس الابتدائية، ومن كان معلمك في المدارس الثانوية ليسمعا إلى هذا الكلام الجريء الذي ترسل به لسانك فيهما الآن بعد أن أصبحت كاتباً نابهاً من كتاب العربية؟ أكبر الظن أنهما كانا يفهمان معنى اللغة العربية، بل معنى اللغات جميعاً إنما أسطورة القاطرة العربات وشريط السكة الحديدية هي التي أظهرتهما في نظرك على هذا النحو من الجهل. . . بل من العمى. . . أسطورة المنهج، وشريعة وزارة المعارف المنزلة التي لا يحيد عنها إلا كل مجازف. . . وأرجو أن أتحدث إليك حين نلتقي كيف كان صديقك الزيات يجعل من مادة اللغة العربية التي كان يعلمنا إياها أحب مواد التعليم إلى نفوسنا. على أن أستاذاً جليلاً قد نشر في هذه المجلة فصولاً عظيمة عن تعليم اللغة العربية فأرجو أن تراجعها إن لم تكن قد فعلت

أما أساليب الكتابة العربية وعناية معظم الكتاب المنشئين باللفظ دون المعنى، فهذا لم يحدث

ص: 15

إلا في عصور انحطاط اللغة العربية. على أن الكتاب الذين عنوا باللفظ أكثر مما عنوا بما ورائه قد خدموا اللغة خدمة جليلة بانتخالهم الألفاظ انتخالاً، وبتجويدهم استعمالها على النحو الذي قربها إلى أفهامنا وجعلها ذخيرة لنا نرجع إليها كل ما أعوزتنا الكلمات أو التعابير، فكان عمل كتاب المقامات والرسائل مثل عمل أصحاب المعجمات والقواميس من حيث تنظيم تلك الثورة اللفظية الهائلة تنظيماً قصصياً أو تنظيماً استعمالياً أفدنا منه في استحداث تعبيرات جديدة لا حصر لها. . . وأنا ألاحظ أن انصراف الأستاذ الحكيم إلى دراسة الأدب العربي وإكبابه على قراءة نصوصه كما ذكر قد أفاده فائدة كبيرة، فقد جود أسلوبه وصقل لغته وأسلس له عنان البيان العربي، آية ذلك هذا الفرق الكبير بين أسلوبه القديم في أهل الكهف وشهرزاد وعودة الروح وبين أسلوبه الحديث في بجماليون وسليمان الحكيم وزهرة العمر. . . على أنني لا أرى أن العناية بالأسلوب وصقله وتجويده تكون سبباً في الانصراف عن تجويد الموضوع والسمو بأهدافه ما دامت للكاتب القدرة على أن يجود عبارته عفواً وطبيعة من غير تعمل ولا إعانات. وقد استحدث جون للي أسلوب (اليوفوزم) في الكتابة الإنجليزية فبهر ألباب القراء الإنجليز بعنايته بتجويد عباراته مما كان له صدى كبير في أساليب الكثيرين من الكتاب الإنجليز وفي روائع شتى من النثر الإنجليزي نفسه

ولست أقصد أن أدافع عن أسلوب الحريري أو البديع أو عبد الحميد أو أبي العلا الكتابي، بل لا أطيق أن أرى الناس يكتبون بأسلوب الجاحظ الذي أعجب به الأستاذ الحكيم وأثنى عليه ووضعه في رأس الثائرين من كتاب العربية على أوضاع الكتابة المتعارفة. وصديقي الأستاذ الدكتور زكي مبارك هو المسئول الأول عن رأي الأستاذ الحكيم في أسلوب الجاحظ العظيم، فلو أنه أهدى نسخة من كتابه الخالد (النثر الفني) إلى الأستاذ الحكيم لما رأى في الجاحظ هذا الرأي. ويحسن أن أثبت هنا رأي الدكتور زكي، وإن كنت ألح على الأستاذ الحكيم أن يراجع (النثر الفني) كله، وإن لم يكن قد فعل إلى الآن:

(وقد شاع هذا الأسلوب في القرن الثاني والثالث (أسلوب الإطناب وبسط المعاني وتأكيدها بتكرير الجمل المتقاربة في مغزاها ومدلولها لدرجة الأثقال) واتخذه الجاحظ خاصة اسلوباً مختاراً له لا يحيد عنه. . . وفي رأيي أن الجاحظ وصل إلى درجة من الغلو والإملال، ولولا أنه كان يخلط في كتابته بين الهزل والجد والحلو والمر لانصرف الناس عنه)

ص: 16

إنما أريد أن أذكر أن النثر العربي، وخصوصاً النثر القصصي وهو الذي يهمنا هنا، كان نثراً زاهياً مزدهراً، وذلك منذ صدر الإسلام، وكان الفضل في إيجاد للقرآن أولاً، ثم للأحاديث الطوال ثانياً، ثم للقصاص (الذين كانوا يجلسون إلى الناس في المساجد، يفصلون ما في كتاب الله من قصص الأنبياء، ويسرفون في تهويل هذه الأنباء، ابتغاء للعبرة والتماساً للموعظة. ولما ازداد إقبال الناس على هذا الضرب من القصص، وكثر إفك القصاص فيه، طردهم أمير المؤمنين علي من المساجد ما خلا الحسن البصري). . . وقد كان أشهر القصاص الذين فرغوا لتفصيل قصص القرآن تميم الداري ووهب ابن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام وغيرهم. . . وبغض النظر عن قيمة قصصهم من حيث التحقيق العلمي، فقد كانت أساليبهم شائقة، وعباراتهم سليمة لا تعمل فيها ولا التواء. وفي كتاب (أصول الأدب) أن معاوية عرف للقصص قيمته في الدعاوة السياسية فولى عليه رجلاً كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله ورسوله، ثم دعا للخليفة وحزبه، ودعا على أهل خصومته وحربه، وكان هو (أي معاوية) إذا انفتل من صلاة الفجر جلس إلى القاص حتى يفرغ من قصصه، وكان ولاته وقواده يقدمون القصاص في بعض حروبهم ليقصوا على المقاتلة أخبار الشهداء وما وعدوا به من حسن الجزاء، فعل ذلك الحجاج في العراق، وجاراه فيه من حاربهم من زعماء الفرق

وفيه أيضاً (أن أول من تولى القصص الرسمي في مصر سليمان بن عنتر التجيبي سنة 38هـ تولاه مع القضاء، ثم تعاقبت القصاص من بعده في مصر.) وقد اشتد الإقبال على القصص في عهد الفاطميين)، فقد كان يعقوب بن كلس وزير المعز يعتمد على المناظرات في فقه الشيعة، وعلى القصص في جذب القلوب لأهل البيت، وكان مقتل الإمام (علي) ومأساة الإمام (الحسين) موضوع المنابر والسوامر في شهر رمضان والمحرم. . .)

وقد صدق الأستاذ الحكيم في استنتاجه من حيث نشأة الأدب الشعبي في مصر، إذ (حدثت ريبة في قصر العزيز فتناقلتها الأفواه، ورددتها الأندية، فطلب إلى شيخ القصاص يومئذ يوسف بن إسماعيل أن يلهي الناس عنها بما هو أروع منها، فوضع قصة عنترة ونشرها تباعاً في اثنين وسبعين جزءاً)

أما في العراق، في القرن الرابع الهجري أيضاً؛ فقد جمع فن القصص بين روعة الأسلوب

ص: 17

وجمال الفن. . .) فما جمعه ووضعه الجهشياري وابن دلان وابن العطار من الأقاصيص في الحب الطروب والترف المسرف، وما وضعه من قبل هؤلاء سهل بن هرون وعلي بن داود وأبان بن عبد الحميد من الأسمار. . . وما صنعه من قبل هؤلاء عيسى بن دأب وهشام الكلبي والهيثم ابن عدي من الأخبار في الهوى العذري والسخاء العربي في الإسلام والجاهلية)

وهكذا نرى أن هذا اللون من ألوان الأدب الرسمي، أو أدب العربية الفصحى قد ساير نهضة الفنون الكبرى في العراق، كما سايرها في مصر إلى أيام الفاطميين. وإن كنا نعترف أنها مسايرة ليست من نوع ما حدث في اليونان أو الرومان أو أوربا، وموضع الأسف هنا هو انقطاع القصصيين: العربي الفصيح في العراق، والشعبي الراقي في مصر، بعد غزوة التتار والحروب الصليبية، ونشوء صنف من القصص الوضيع في مصر في عصر المماليك هو اضعف ما نجد من القصص التي تغازل الشهوات في كتاب ألف ليلة وليلة

أما رأي الأستاذ الحكيم في الشعر شكلاً وموضوعاً، فهو رأينا الذي جاهرنا به، والذي لا نزال نجاهر به وندعو شعراءنا إليه. . . (فما من فن عظيم بغير شعر، أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني ما لا يدركون بحواسهم وملكاتهم. . .)

وأما التمثيل والروايات التمثيلية، وانعدام ذلك كله في الأدب العربي، فماذا أقول فيه؟! وعلى كل فما بح صوتي بعد، ولن أتعب أبداً من مناشدة الأستاذ الحكيم أن يؤلف للمسرح المصري، لأنه كاتب الحوار الأول في مصر، بل في الشرق العربي كله

وبعد. . . فها هو توفيق الحكيم يفرغ لما خلقه الله له. فماذا هو صانع؟ وهاهو ذا يكتب في زهرة العمر آراء، فهل دري أنها تصلح أن تكون برنامجاً مفصلاً لحركة إنهاض واسعة النطاق؟

متى يضيء المصباح في شاطئنا ويشع كما يضيء في الشاطئ الآخر ويشع؟

متى يكون لنا أدب مصري وفن مصري ومسرح مصري وشعر مصري وشخصية مصرية؟

متى يعود توفيق الحكيم من فرنسا إلى مصر فلا يقول إني عدت إلى الصحراء؟!

ص: 18

إن في عنق توفيق الحكيم ديناً للوطن فليؤده كاملاً. . . وإني أختم كلماتي فيه بما قلته عنه من قبل من أنه أحد بناة مصر الحديثة فليرهف قلمه وليتوكل على الله. . .

دريني خشبة

ص: 19

‌كتب وشخصيات

للأستاذ سيد قطب

1 -

على هامش السيرة. . . . . . لطه حسين

2 -

إبراهيم الثاني. . . . . . للمازني

3 -

زهرة العمر. . . . . . لتوفيق الحكيم

4 الصديقة بنت الصديق. . . للعقاد

مدرسة طه حسين وفنه

للدكتور طه حسين مدرسة - على معنى من المعاني - له فيها تلاميذ كثيرون، كلهم يحاول أن يتأثره ويتشبث بخصائصه وينسج فيها على منواله، ولكن وأحداً منهم لم يحقق هذه الخصائص على الوجه المطلوب. ومن بين هؤلاء التلاميذ من يبذل جهداً مضنياً يثير الإشفاق في أن يصبح نسخة أخرى من طه حسين، فتكون قصاراه أن يخرج نسخة (مشلفطة) كالصورة التي تنطبع على ورق (النشاف)!

وأوضح مثال لهذه المحاولة الأستاذ شوقي ضيف، وبخاصة في كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) الذي نال به الدكتوراه أخيراً من كلية الآداب، ونال عليه فوق الدكتوراه شكر الجامعة أيضاً!

ونستطيع أن نطلق على مدرسة الدكتور طه حسين اسم (مدرسة الأسلوب التصويري؛ فالدكتور في خير حالاته يرسم لوحات متتابعة، أدواته فيها الكلمات والجمل. لوحات للمناظر، وللحوادث، وللمعاني، وللخطرات النفسية، والالتفاتات الذهنية، على السواء. وتلك مزيته الكبرى كصاحب شخصية أدبية

والدكتور طه صاحب موهبة في هذا وصاحب طريقة، فأما تلاميذ مدرسته فقد أخطأتهم الموهبة واتبعوا الطريقة. أخطأتهم موهبة التصوير واتبعوا طريقة التعبير. ولهذا يجوز أن نعود فنستدرك شيئاً، وهو أن مدرسة الدكتور طه حسين، هي الدكتور طه حسين نفسه؛ ثم محاولات لم تبلغ بعد حد النضوج، ولم يوجد فيها صاحب الطبيعة الموهوبة هذه الهبة الخاصة؛ بل لم يوجد فيها من يدرك سرها الأول وهو طبيعة التصوير، لأنهم جميعاً يفهمون أن هذا السر كامن في طريقة التعبير!

ص: 20

بقى أن نعرف شيئاً عن نوع هذا التصوير في مدرسة طه حسين، أو بتعبير أصح في طبيعته. فهو التصوير الحسي الذي يرد المعنى والخواطر صورا حسية، أو كالحسية - بله المناظر والحوادث - فهذه يعيدها كما بدأت أول مرة توشك أن تكون مجسمة.

وهو يخلع على هذه الصور الحسية ألواناً من ألوان الحياة والحركة؛ ولكنها الحياة اللطيفة والحركة الوئيدة التي تدب على هينة، وتخطر في رفق. فالسرعة النابضة والحيوية الدافقة ليستا من مطالب هذه الصور في يوم من الأيام.

وقد يكون المثال هنا أوضح من مقال:

(هذه شهرزاد قائمة منه غير بعيد، تنظر إليه نظرات فيها الحنان والمكر؛ وهي مغرقة في ضحك هادئ عذب يرتفع له صدرها وينخفض، ويغشى وجهها بغشاء من الجمال الرائع ليس إلى تصويره من سبيل. وهذا الملك ينظر إليها مسحوراً مبهوراً وهي تضحك من ذهوله وحيرته، ولكنه ينهض خفيفاً ويسعى سريعاً، إذا بلغها أو كاد جثا أمامها غاضباً بصره إلى الأرض، رافعاً يده إلى السماء، كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال؛ وهي تضع يدها على رأسها ضاحكة، كأنها تبارك عليه، ولكنها لا تلبث أن تستحيل إلى حنان خالص، وإذا هي تميل إليه مترفقة، فتضع على جبهته قبلة حلوة حارة طويلة. ولو أنها تحدثت في تلك اللحظة لأحس شهريار في صوتها تهدج العبرات التي تريد أن تندفع من العيون، ولكنها الإرادة القوية تمسكها فيظهر أثر هذا الصراع في الصوت المحتبس والألفاظ التي لا تبين. ولكنها لم تقل شيئاً، وإنما استقام قدها المعتدل، وامتدت يدها الرخصة إلى الملك فأنهضته صامته، واستجاب لها الملك صامتاً طيعاً فمضت به خطوات إلى نشز من الأرض قريب يكسوه العشب، فأجلسته وجلست بجانبه، وأحاطت عنقه بيدها؛ ثم أمالته في رفق حتى وضعت رأسه على كتفها، وظلت تنظر إليه وهو ينظر إليها، وهما مغرقان في صمت عميق. ثم يسمعها شهريار تتحدث إليه في صوت هادئ وادع، وهي تقول له: (ألم يأن لنا بعد أن نهبط من السماء، وأن ننزل إلى الأرض فنعيش فيها مع الناس؟)

(ولكن شهريار لا يجيبها، وإنما تنحدر من عينيه دمعتان هادئتان تمسحهما شهرزاد في رفق، ثم تنعطف إلى الملك فتقبل جبهته مرة أخرى؛ ثم تقيمه حتى إذا استوى في مجلسه

ص: 21

جعلت تمر أصابعها في شعره رفيقة به باسمة له مطيلة النظر إليه صامته مع ذلك لا تقول شيئاً. وكأن هذا العطف الصامت الحار قد بعث الحياة والنشاط في قلب الملك وجسمه، وفي عقل الملك وإرادته، فهو يرفع رأسه إلى شهرزاد ويسألها في صوت كأنه يأتي من بعيد: ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟)

ولقد أطلنا في هذا المثال لأنه يجمع كل ألوان التصوير الحسي في طبيعة الدكتور: فيه المعاني الذهنية والخواطر النفسية، وفيه الحركات والحوادث والمناظر وكلها مرتسمة مصورة متحركة هذه الحركة اللطيفة المتتابعة في يسر وتؤدة

فمن شاء أن يرجع إلى أمثلة خاصة لكل نوع فليرجع إلى كتب، الأيام، وأديب، وأحلام شهرزاد، وهدية الكروان، والحب الضائع. ثم ليرجع إلى هامش السيرة. كتابنا اليوم الذي جرنا إلى هذا الكلام! واقرأ في الصفحة الأولى من الجزء الثالث

(كان الشيخ مهيباً رهيباً، وكان فخماً ضخماً، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء؛ وكان وجهه جهماً عريضاً، تضطرب فيه عينان غائرتان بعض الشيء، ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكاد أن تستقران؛ وهما متوقدتان دائماً ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئاً أو أطلنا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر، أو تسلطان عليه شواظاً دقيقاً قوياً من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكياً حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقاً لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي، ثقيل الحركة، وقوراً في كل ما يصر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتاً ضخماً عميقاً، يسمعه السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكباراً وإعظاماً، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش ورجل عظيم من رجالات البطحاء). . . الخ

هذه اللوحات المرسومة في بحبوحة، وهذه الصورة التي تخطر في وناء وتدب في رفق، هي مزية الدكتور الأصيلة، مزيته التي يتجلى فيها فنه ويؤدي بها رسالته. ولقد يخطئك في

ص: 22

بعض ما يكتب أن تجد الفكرة الكبيرة أو المعنى المتكبر؛ ولكنك لن تخطئ اللوحة الهادئة والصورة الحية، هذا اللون من الحياة المريحة المستريحة. نعم قد تبطؤ الحركة في بعض الأحيان إلى حد الخمود فيدركك نوع من الاستبطاء تهم أن تغمر به الكاتب ليسرع فيه خطواته بعض الشيء؛ ولكن ذلك قليل على كل حال

ومن هنا كان إعجاب الدكتور بلبيد ثم زهير خاص من شعراء الجاهلية لأنه يلبي حاجته من هذا التصوير.

وبعد فما قيمة كتاب على (هامش السيرة)؟

قيمته من الوجه الذاتية أنه - وبخاصة الجزء الخير - يجمع أفضل خصائص الدكتور طه وأحسن مزاياه، وينجو من كل عيوبه التي توجد في بعض الكتب الأخرى

وقيمته من الوجهة الموضوعية أنه الكتاب الأول في اللغة العربية الذي يجعل في بعض حقائق السيرة وبعض أساطيرها فناً حياً جذاباً؛ ولكنه لا يقف عند هذا الحد بل يحيل هذا الفن الحي الجذاب، صورة (علمية) صادقة للجزيرة العربية وأطرافها في الفترة بين قبيل مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الجزء الأول وبين رسالته وانتصار دعوته في الجزء الثالث. صورة للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وصورة لما يهجس في الضمائر والأخلاد، وما يبدو من الاتجاهات والآراء وصورة للبيئات والأفراد في تلك الحياة. . . وذلك كله حسب كتاب ليكون عملاً يستحق التقدير. وإنه للكتاب الأول في أعمال الدكتور - حسبما أعتقد - لا يوازيه في هذا الميزان إلا كتاب الأيام

(حلوان)

سيد قطب

ص: 23

‌دراسة نقدية

شعر الطويراني

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

أسلفت القول في العدد الماضي من (الرسالة) عن ترجمة حسن حسني الطويراني باشا الشاعر الصحافي المصري المولد، والتركي الأصل، واليوم أكتب هذه الكلمة - وفاء بالوعد - في شعره الذي جمع في ديوانه (ثمرات الحياة)

وديوان الطويراني ضخم الحجم مملوء بكثير من القصائد الطوال والمقطوعات والموشحات والأدوار والزجل، وقد طبع بمطبعة إدارة الوطن سنة 1300هـ، ثم سافر الشاعر إلى الآستانة في العام نفسه، ووكل أمر الإشراف على طبع الديوان إلى نائب له، فلم يعتن بتصحيح الجزء الثاني، فحصلت غرائب في التحريف والتصحيف والسهو، وفقدت أصول الديوان حين وصل الطبع إلى صفحة 216؛ وهنا علم الشاعر بما حصل فبعث بنسخة أخرى من الأصول لتتميم الأبيات. وبقي في الآستانة ثماني سنوات والديوان لم يكمل طبعه. فعاد إلى الإسكندرية في 20 ذي الحجة سنة 1308، ووصل إلى القاهرة في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، ولما استراح من السفر أخذ يصحح الديوان استنجازاً لإخراجه (ولكنه وجد أن تصحيح الأخطاء يستلزم صرف الأوقات المديدة وتحمل المشاق العديدة، وأن الاهتمام بتصحيح ما وقع فيه من الخطأ الخطل، شيء زائد على الأمل والعمل)، فختمه بمعذرة إلى القراء، وأنجزه وأخرجه في 20 محرم سنة 1309 هـ

ويظهر في شعر الديوان والإمعان في مطالعته أن الشاعر متأثر بالمذهب التقليدي إلى حد كبير، فهو يحذو حذو شعراء عصره الذين كانوا أصداء بالية للشعر العربي القديم، فأغراضهم أغراض السابقين، وأبوابهم ومذاهبهم هي أبواب الأولين، ومذاهبهم مع اختلاف الأحوال وتباين المقتضيات

ولم لا يكون شعراء عصر الطويراني كذلك، وأمامهم محمود سامي البارودي باشا كان مقلداً إلى حد بعيد حتى في مطالعه ومواقفه وتشبيهاته بل في عباراته؟ ولكن البارودي كان يمتاز عليهم جميعاً بالطبع العربي الأصيل في قرض الشعر؛ فهو بارع في المحاكاة، حتى ليخيل إليك وأنت تقرؤه أنك تقرأ شعراً قديماً لم تفسده لوثة الأعاجم وفساد الملكات

ص: 24

ويظهر المذهب التقليدي في شعر الطويراني واضحاً، حتى في طريقة تبويبه للديوان؛ فقد قسمه إلى أربعة وعشرين باباً: الأول منها في الإلهيات، وقدمه لشرف موضوعه، وهو الحمد والثناء على الله تعالى مفيض هذا الوجود. ولم يعد في هذا الباب أن يكون (نظاماً) لا شاعراً؛ فلم يصل إلى أعماق الوجود ولم تتجل عليه فيوض الحكمة وإشراقاتها، ولم تزد إلاهياته على أن تكون خطوات عابرة نظمها في قالب من قوالب عصره. وقد حاولت أن أعرض أحسن ما في هذا الباب، فلم أجد غير هذه الأبيات:

يا مالك الروح يشقيها ويسعدها

وحافظ الجسم إفناء وإبقاء

أوجدت من عدم روحي وكنت لها

أوقات لم أدر فيها الطين والماء

متعتني في صفاء النفس منفرداً

مطهراً لم أخف رجساً وبأساء

أما الباب الثاني ففي المدائح النبوية وسماها (النبويات)، كما سميت قصائد الكميت (بالهاشميات)، وهي قصائد ليس لها في الشعر من شرف إلا أنها صنعت للرسول عليه السلام! فلا نجد فيها قوة حب الكميت ولا متانة البوصيري وحكمته في ثنايا المديح

والباب الثالث في الحماسة والفخر، وقدم هذا الباب (لعلة وفاء حقوق النفس التي لا تعرف حق غيرها إلا بعد معرفة ناموسها؛ فإن النفس إذا جهلت حقها جهلت حقوق غيرها بالطبع فلم تقم بها)، وهذا تعليل لطيف لشعر الفخر، ولكن يشترط ألا يغالي فيه، وإلا صار إسرافاً وكذباً. ولقد أسرف الطويراني في هذا الباب إسرافاً كثيراً ووضع فيه ما ليس منه، كالأبيات التالية التي هي أشبه بشعر الحكم منها بشعر الحماسة:

الناس في الدهر أنباء وأخبار

والكون كونان أعيان وآثار

لا خير في العيش إن لم يصطحب شرفاً

ولا اقتحام الردى دون العلا عار

اعمل مع الصبر ما يرضى الكمال به

وكتم مصابك إن الدهر دوار

لا يرغم الدهر إلا من يطيش له

فاعتز بالنفس إن خانتك أنصار

وقد يكون في هذا الكلام فخر خفي، فهو يأمر الناس بما كمل هو به نفسه من اصطحاب الشرف واقتحام الردى والصبر وكتمان المصاب والاعتزاز بالنفس حين يخون النصير

وأكثر ما يفتخر الطويراني في هذا الباب بآبائه الترك، فهو يتعصب لهم على العرب الذين حفظ لغتهم وآمن بنبيهم؛ وقد يصل به التعصب إلى إنكار كل فضيلة للعرب وتجريدهم من

ص: 25

كل مكرمة. ولا شك أن الأحوال السياسية في عصره، والخلاف بين العرب والترك، ومحاولة الأولين التخلص من حكم الآخرين، وقيام الشعراء من العرب بمهاجاة الترك؛ لا شك أن ذلك كله كان حافزاً للطويراني على الاجتراء على العرب وتنقصهم. ووجد في صحفه ومجلاته التي أنشأها أو اشترك في تحريرها مجال الكلام واسعاً؛ فأحفظ ذلك عليه كثيراً من الشعراء العرب كالشيخ إبراهيم اليازجي

ولقد نقل الطويراني الخلاف بين العرب والترك إلى خلاف بين الأصل السامي والأصل اليافثي. فهو يقول:

أرى الفخر للأتراك من عهد يافث

ومن عهد افراسياب ليس مرسغاً

فلا شهم في الدنيا كجنكيز قاهر

ولا ثأر أغلى من طغا جار إذ طغى

ويقول من قصيدة أخرى:

فإنا بنو عثمان لا الضيم عندنا

يعان ولا يوماً على جارنا يقضى

وهو هنا يرد على ما رماهم به العرب من الظلم ونقض الجوار، ولما استفزه اليازجي بالشعر المر الموجع في تعداد مظالم الترك رد بقصيدة ميمية طويلة خانته فيها لباقته، فرمى العرب بما لا يليق أن ترمى به أمة كريمة عزيزة من دولة كان يرتفع فوقها علم الخلافة الإسلامية، حيث قال:

ملكناكم حيناً سوائم جهلا

تتيهون في دوِّ الهوان نعائما

فلما اكتسى العاري وأشبع جائع

وأصبح مخدوماً فتى كان خادماً

جهلتم حقوق الترك وهي جليلة

ولم تحفظوها، شيمة الحر، أنعما

وشوهتم الحسنى بما قد بدا لكم،

وقلتم كذا كنا وكنتم وبئس ما. . .

وقد طالت هذه القصيدة وجمح القلم من يد صاحبها، ولكنه عاد في النهاية فلطف الكلام بقوله: -

وقد أنزل الله المؤاخاة بيننا

فلا تجعلوها أخوة تسفك الدما

وأنا بكم حقاً كما أنتم بنا

كلانا أخ في الدين يبغي التلازما

ولا فضل إلا بالتقى وهو بيننا

سواء وفضل الله خص وعمما

وكل أبوه في الحقيقة آدم

فمن شاء تذليلا لأصل فآدما

ص: 26

وأما نبي الله فالكل قومه

وأكرمه من لم يسئه وأكرما

نصحت بني مصر وحذرت كلهم

وقلت المقال الحق لكن تجرما

ولو سلك الطويراني هذا المسلك الرقيق من أول الأمر ما تأججت نار المهاجاة بين شعبين أخوين مسلمين، يرجى من تآلفهما للإسلام خير كثير

أما قصيدته السينية التي رد بها على سينية الشيخ إبراهيم اليازجي، ففيها من الفخر كثير، ولكن فيها على العرب تجنياً صارخاً. ومنها هذه الأبيات: -

والترك نيران اللظى

فاقدم ورم إن كنت قابس

والترك قد تركوا أبا - ك ومثله بالخزي ناكس

ولولا بنو عثمان ما

نبست لشرقي نوابس

سهروا ونمتم والتقوا

وحشا وأمسيتم أوانس

برزوا لساعرة الوغى

وهمامكم كالظبي كانس

ولكن هذه الأيام قد ولت وانتهى زمان الملاحاة، ونرجو أن يكون المسلمون، على اختلاف أجناسهم، قوة يعمل حسابها ويخشى بأسها. ولعلهم فاعلون ذلك إن شاء الله.

أما فخر الطويراني بنفسه، لا بجنسه، فكثير في شعره وقد أعانه على ذلك نفس أبيه وهمة قوية، فقد تنقل في البلاد وطوف في الآفاق، ولقي الخير والشر، وشرب الحلو والمر، ولكنه ظل عزيز النفس. اسمعه يقول: -

على أنني إن لان قومي ظالم

وإن طالبوني بالتذلل ظالم

وأني لأستلقي الكريهة باسما

وأجهل عقباها وأني لعالم

إلا أنه قد يغرق في الفخر ويغالي فيه على عادة شعراء عصره.

فترى الإسراف فيه واضحاً، والكذب فيه ظاهراً كقوله:

خلقت للسيف والقرطاس والقلم

فالدهر عبدي وأهل الدهر من خدمي

والشطر الثاني سخيف مرذول وما أشبهه في السخف بقول ابن سناء الملك

وأنك عبدي يا زمان وأنني

على الرغم مني أن أرى لك سيداً

وسبحان من غير نظم شعراء اليوم إلى الفخر، فلو أن واحداً منهم قال مثل هذا القول لقال الناس: هذا ناظم كذاب!

ص: 27

أما باب المديح فيشمل جزءاً كبيراً من الديوان. فقد مدح السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد والخديو إسماعيل باشا، والخديو توفيق باشا، كما كانت له مدائح وصلات أدبية ومكاتبات ومساجلات مع إسماعيل بك عاصم والأديب الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري والشاعر الأديب عبد الله فريح

أما غزله فيظهر فيه التصنع والتقليد للقدماء حتى في الوقوف على الأطلال والبكاء عليها وذكر المرابع والعيس والأماكن العربية كمنعرج اللوى. فيقول:

تعرفت أطلال الحمى بعد مجهل

فأوقفت عيسي بعد طول الترحل

ويقول:

سقى الله صوب القطر منعرج اللوى

وحسبي به دار الشبيبة والهوى

ويقول:

أمن دار سلمى دراسات المعاهد

بكيت طلولا بَعْدَ بُعْدِ المعاهد

ويقول:

بانت سعاد فرغد العيش منكود

وودعت فجليد القلب مكمود

وشتان بين المحاكاة والطبع، وبين الصوت والرجع!

وشعر الطويراني لم يسلم من الزحافات والعلل والضرورات الشعرية التي لجأ إليها لجوءاً كثيراً. فهو يمد المقصور ويقصر الممدود ويجزم المرفوع، ويسكن أواخر الكلمات فلا يعربها، ويقطع همزة الوصل، ويصل همزة القطع، ويأتي بعيوب السناد ويمنع المصروف من الصرف كقوله في صفحة 242

والورق تسجع في الغصون كأنما

هاتيك غيد وتلكم الأوتار

فمنع من الصرف كلمة غيد وحقها التنوين

وقوله في ص 9

لأن التلازمْ بين ذات وعارض

من الكون لا يخفى لمن يتبصر

بإسكان الميم من كلمة التلازم

وقوله في ص 17

يا نبي الهدى عليك سلام

لا ابتداء له ولا انتهاء

ص: 28

بقطع همزة الوصل من كلمة انتهاء

وقوله ص 8

يا إله الخلق ارحم عاجزاً

مد للألطاف نحو الباب يد

بقطع همزة الوصل من الفعل ارحم

وقوله:

ولا والله لا في العلم خير

ولا في الجهل شرُّ ولا مخاوف

فمنع كلمة شر من التنوين وذلك قبيح، ولو قال (ولا في الجهل شرٌّ أو مخاوف) لسلم من الضرورة القبيحة

والطويراني نسبة إلى طويران وهي بلد وكان يكاتب ابن عمه علي بك عطا الله وهو فيها

وبعد فقد أتاح لي الأديب الفاضل علي الشوكاني ببغداد كتابة مقالين عن الشاعر الصحافي التركي المصري حسن حسني الطويراني باشا؛ فله الشكر على ما أتاح؛ ولصديقي محمود بك نصير نائب المنصورة أجزل الشكر على تفضله بإعارتي ديوان الشاعر. فلولا ذلك ما ظهر هذا المقال.

محمد عبد الغني حسن

ص: 29

‌البريد الأدبي

بين الدين والعلم ختان الأنثى

نشر الدكتور الفاضل أسامة في مجلة الرسالة الغراء مقالا له قيمته الطبية في ختان الأنثى، وقد ذكر بعد أن أثبت ضرره أنه ليس من الدين في شيء وإنما هو عادة خاصة بأهل مصر مسلميها وأقباطها. وقد رد عليه بعض الفضلاء بأن ختان الأنثى من الدين، لأن الأئمة نصوا عليه في أحكامهم المستنبطة من السنة، فقال الشافعي وكثير من العلماء إنه واجب، وقال مالك وأبو حنيفة إنه سنة، ومأخذ هذه الأحكام أحاديث كثيرة منها: الختان سنة للرجال مكرمة للنساء. ومنها: يا نساء الأنصار اختضبن غمسا، واختفضن ولا تنهكن. والخفض في هذا الحديث هو ختان المرأة

وإني أرى أن الدين لا يخدم بهذه الطريقة، لأنها تخلق بينه وبين العلم من العداء ما تخلق، وليس من مصلحة الدين معاداة العلم، وقد قرر سلفنا الصالح في مثل هذا أنه إذا تعارض دليل النقل ودليل العقل وجب تأويل دليل النقل بما يوافق دليل العقل. وهذه قاعدة جليلة توفق دائماً بين العلم والدين، ويجب أن نجعلها دائماً نصب أعيننا، وألا نحيد عنها في كل ما يعرض من خلاف بين الدين والعلم

فلنقل للدكتور (أسامة) دعك الآن من التعرض لختان الأنثى من ناحية الدين، فالتعرض له الآن من هذه الناحية سابق لأوانه، لأنه يجب أولا أن نصل إلى قرار إجماعي في هذه المسألة من الأطباء، وبهذا نكون أمام دليل قاطع من العلم والعقل، ويمكننا أن نبحث هذه المسألة على ضوئه من ناحية الدين، والأحاديث التي وردت فيها من أحاديث الآحاد، وأمرها في ذلك أسهل من غيرها من أدلة النقل

عبد المتعال الصعيدي

الإبهام والغموض في التصوف

قرأت كلمة الأستاذ محمد منصور خضر في عدد الرسالة 544 تعليقاً على كلمتي عن الإبهام والغموض في التصوف، وهو في دفاعه عن التصوف يؤيد فكرة الغموض صوناً لأسرار المتصوفين؛ على أن المنطق السليم يأبى أن يكون معرفة الحق احتكار الفئة

ص: 30

مخصوصة تلجأ إلى طرق معوجة لإدراك كنهه، وقد قامت الديانات الكبرى اليهودية والنصرانية والإسلام برسالة الحق بأسلوب صريح سهل كان عاملا قوياً في سرعة قبولها. وإني أعيذ الإنسانية أن تكون وسيلتها في تعرف الحق الإلهي طرق المتصوفين، إذ لو كان الأمر كذلك لبات الحق مجهولا إلا من أفراد معدودين.

وقد لاحظت أن الغموض طبيعة في المتصوفين، وأنه غير معتمد، وإذ يرون أنفسهم قد بعدوا عن الطريق السوي، يعمدون إلى تعليل هذا الغموض بأنه مقصود لذاته يصون أسرارهم، وقد وجدت أن كل متصوفي العالم تتخذ للتعبير عن إرادتهم في الحق أسلوب العشاق لا عن مران سابق أو تعمد، بل عن سجية خاصة بهم، وهذا يسقط حجة القائلين بأن الإبهام وسيلة مقصودة لحفظ الأسرار

ويذكر القراء أن المتصوفين لا يتفقون في تأويل لغتهم الملتوية، وحسبي أن أذكر البيتين اللذين نشرتهما الرسالة منذ أكثر من عام؛ وكيف اختلف كل شارح في تأويل معناهما وعارض بعضهم، وكلهم يدعي العلم بالتصوف. وبتنا نحن القراء في حيرة من أمر الشعر الصوفي الذي لم يهتد لمعرفة ما يضمره قائله.

ولنعتبر بكلمة الحق التي تلوكها ألسنة المتصوفين، والتي أطاحت برأس الحلاج عندما قال كلمته المشهورة (أنا الحق)؛ فإن من ينشد الحق لا بد له من الصدق والصراحة والوضوح، ومن يلتمس الحق عن طريق الغموض والإبهام فإنه يناقض نفسه

وقد ذكرت في كلمتي السابقة أمثلة من غموض المتصوفين، وإن بيتاً من شعر ابن الفارض لا تكشف مخابئه آلاف من الصحف. ولعل قولة الحلاج (أنا الحق) مثل من أمثلة الغموض حمل الناس على اعتباره زنديقاً فقتلوه، ولو كان يحسن التعبير عما يضمره لنجا من الخاتمة المشئومة التي جره إليها الإغراق في الغموض.

وختاما أسائل الكاتب الفاضل ماذا يريد المتصوف عندما يذكر الحب والحبيب والدلال والوصال والهجر، ومن اصطناع لغة العشاق في معرض الكلام عن الحق الإلهي، أيعد هذا تنزيهاً لهذا السر الرباني، أم يعد إفلاسا وفقرا في الإيضاح والبيان له سيئات كل قصور؟

أما عن البحث في نفسية المتصوفين فليس هذا مجاله كما قلت

(أسيوط)

ص: 31

كامل يوسف

عضو في المعهد البريطاني للأبحاث الفلسفية بلندن

جماعة النهضة العلمية

أنشأ بعض الجامعيين جماعة صغيرة غرضها نقل الثقافة الأوربية إلى اللغة العربية، حتى تكون مادة يمكن استغلالها في تلقيح الثقافة العربية وتزويدها بالعناصر اللازمة. والكتب التي رأت هذه الجماعة أن تنقلها إلى العربية في هذا الموسم هي الكتب التالية:

1 -

(الإنسان هذا المجهول) ' لألكيس كارل:

2 -

(المتطور الخالق)(أو المبدع) لبرجسون

3 -

(لغز الكون) لإرنست هيكل

4 -

(إميل أو التربية) ' لجان جاك روسو

5 -

(ذكريات الطفولة والشباب) ' لإرنست رينان

6 -

(العالم كما أراه) لإينشتين

7 -

(الأفكار) لبسكال

8 -

(الانتحار) لدور كايم

9 -

(الضحك) لبرجسون

10 -

(أول الأشياء وآخرها) لويلز

ونحن إذا نظرنا إلى هذه القائمة نجد أن الجماعة قد أحسنت الاختيار، (وإن كان التنويع محدوداً في دائرة صغيرة). . . وكل ما نرجوه لهذه الجماعة الناهضة أن تمضي في تحقيق مشروعها دون أن تتخلف، فإن محك كل شيء هو التنفيذ لا التشريع، التحقيق لا التصميم.

زكريا إبراهيم

ص: 32