الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 548
- بتاريخ: 03 - 01 - 1944
الرسالة
في عامها الثاني عشر
في بصيص من الأمل يلمع في دياجي الآفاق استهل عامنا الوليد!! وهذا البصيص قد لاح من الشرق أيضاً من صحراء لوبيا! ولصحاري الشرق أسرار يبوح بها القدر كلما قضى الله أن يخرج العالم من ظلمة إلى نور! ولرب السموات والأرض نظام يدبره على مقتضى أمره. فلا الزلزال ولا الإعصار، ولا الحديد ولا النار، ولا الدمار والموَتان، ولا الجبروت والطغيان، ولا النارَّية النازَية، ولا الفاشيَّة الفاشِيَة، تستطيع وإن تظاهرت أن تعقب على حكمه، ولا أن تبدل ما سبق في علمه.
كان العالم كله في النصف الأول من العام الذاهب يتيه في يِدٍ قواتم الأعماق من مجاهل الأرض، نجومها رجوم، وآفاقها غيوم، ورياحها سموم، ومسالكها لغوم، وهواتفهاِ جنة. وكانت الوحوش النازية تزأر في جنباتها السود فتردد زئيرها الرعود، وتنزل بوعيدها الصواعق. ثم أراد مالك الملك ألا يشركه في ملكه أحد، فبدا في غياهب (العلمين) ودياجي (ستالنجراد) شعاع من نوره، فإذا الظلام يشف والطريق يستبين وإذا اليأس يتحول رجاء، والزئير ينقلب عواء، والمارد الجبار يعود إلى القمقم، والتنين الخرافي يرتد مثخناً بالجراح إلى قفصه الهائل، وقد شرع مخالبه الكثيرة بين قضبانه الطوال الغلاظ ليعوق القدر الهاجم ويؤخر الأجل المحتوم!
في هذا الشعاع الإلهي الذي هدى المجوس ليلة ميلاد المسيح، وضلل المشركين يوم هجرة محمد، ثم عاد فبين للإنسانية نسم الطريق في معامي هذه الحرب، تستقبل (الرسالة) عامها الثاني عشر، وهي باعتبارها لساناً من ألسن الإصلاح الإنساني تجد بهذا التحول الحربي والسياسي روحاً وغبطة: ترتاح لأن تباشير النصر تكاد تنبئ عن سلام رخي يرد الوئام على الناس ويعيد النظام إلى الدنيا؛ وتغتبط بعقبى هذه الحرب التي لا نعت لها في لغات الناس إذا استطاعت نارها التي لم تخب ساعة في أربع سنين أن تنفي خبث الغرائز عن العصر السماوي في ابن آدم المسكين. وما أسعد الإنسانية جمعاء إذا عوضها الله من ملايين الأنفس التي أزهقت، ومن قناطير الذهب التي أنفقت، ومن آلاف المدن التي أحرقت، تلك الأماني العذاب التي اشتمل عليها ميثاق الأطلسي، وعبرت عنها حريات رزفلت!
لقد ظلت هذه المنى دعوة الدين ورسالة الحكمة منذ هبط هذه الأرض آدم؛ فكانت تقص كالأحلام، وتسمع كالأنغام، فتهدهد الغرائز العارمة ساعة الشبع والغفوة، فإذا انتبه الإنسان على وخز الحاجة كثر عن الناب وشمر عن المخلب، ثم يفعل ما يفعل كل حيوان من كل جنس. فلما جاءت المدنية لم تزد على أن جعلت للناب غطاء من الذهب الوهاج، وللظفر غشاء من الصبغ القاني! فهل آن لعقول الناس أن تفهم عن وحي الله؛ وللخلائق المكسوبة بالتهذيب أن تتغلب على الغرائز الموروثة بالفطرة؟ لا نظن ذلك. إنما هي القوة التي تحولت بتأثير الكثرة والثروة إلى تهديد مستمر: وهي الحرب التي تطورت بتسخير العلم والفن إلى فناء عام! فإذا فكر قادة الإنسانية اليوم أن يحسموا أسباب الحرب فيما بقى من عمر الدنيا، فذلك لأن الحرب المقبلة معناها انفطار السماء وانفجار الأرض وقيام الساعة. والنزاع الدولي مهما اختلفت دواعيه نزاع على مادة الحياة. فإذا كان يؤدي إلى الفناء المطلق، وجد في أصل الفطرة الإنسانية ما يمنعه. والأصل في طبيعة الحرب أن تنتج النصر من قوة وضعف. فإذا تكافأت القوى بطل عملها أو تفانت. وكل دولة من الدول التي تمتاز اليوم بكثرة الأرقام في عدد الأنفس والأموال ومعاهد العلم ودور الصناعة، تستطيع أن تعبئ الجيوش وتهيئ الأسلحة، ولكنها لا تستطيع أن تضمن الغلب؛ فلا مناص إذن من تحالف دولتين أو ثلاث منها لتبطل التكافؤ وتثقل الكفة. ولا يدوم هذا التحالف الحتمي بين الدول المختارة لحفظ السلم إلا إذا انقدعت نفوسها عن الطمع والأثرة. لذلك كنا متفائلين بنتائج هذه الحرب إذا دارت دوائرها على المحور؛ فإن جنوح الأحلاف إلى تحكيم العقل المسلح في النزاع، وتوخي العدل الممكن في القسمة، وإيثار التبادل الحر في المعاملة، هو حلم الأمم الضعيفة بطبعها في العدد والعدة.
على إن سلطان العقل والعدل وإن قوى أثره في نظام العالم المرجو لا يضمن وحده سلامة شعب اجتمعت على أهله القلة والذلة والفرقة والجهالة؛ فإن لهذه الصفات الخسيسة أثرها قي تخفيف الموازين وتخفيض القيم. ولن تستطيع ولو حرصت أن تعدل بين متفاوتين في العقلية والحرية المدنية والقوة. ولا يستوي في طلب الحق أو الدفاع عنه واحد وجماعة. والدول الصغيرة كالآحاد قوتها في أن تجمع. ودول البلطيق والبلقان والشرق الأدنى قوى متفرقة؛ فلو تجمعت المتجاورات منها لكان لها في الحرب والسلم شأن غير هذا الشأن. وإن
العروبة التي فرقتها المطامع ومزقتها الأحداث قد أدركت فضل تعاونها في حادث لبنان القريب فأخذت تعمل على أن تكون يوم يجتمع الناس للصلح وحدة سياسية قي أي صورة من الصور نرجو أن تنتظم دولها جمعاء من المحيط إلى المحيط
اللهم رحماك ورضاك! هذا خامس شتاء يقضيه عبادك في زمهرير جهنم! ونار الطاغين يا أعدل الحاكمين غير نارك، يصلاها البر والفاجر! لم يبق في العالم المحروب صدر من غير بلبلة، ولا بلد من غير زلزلة، ولا أمة من غير أزمة! فاجعل اللهم هذا العام حداً لهذا البلاء الشامل!
ربنا اصرف عنا العقاب إنا براء، وخفف عنا المصاب إنا ضعفاء، واكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
احمد حسن الزيات
قصر أنطونيادس
للدكتور زكي مبارك
هو أنطونياذس، بالذال لا بالدال، في النطق اليوناني، ونحن ننطقه بالدال على أسلوبنا في المراوحة بين هذين الحرفين، كما نقول: دا، في مكان ذا، وكما نقول: دي، في مكان ذي، وكما نقول: خد، في مكان خذ. . . وكان ذلك لأن الدال أخف في النطق من الذال، لا تحوجنا إلى بروز اللسان بين الأسنان.
أترك هذه الفائدة اللغوية لأواجه الموضوع فأقول:
كانت أيام الصيف الماضي أيام أعياد لقصر أنطونياذس، فقد ورد اسمه مرات ومرات في الجرائد المصرية والسورية والحجازية والعراقية، إلى آخر ما هنالك من الجرائد التي تصدر باللسان العربي، ثم ورد اسمه أيضاً مرات ومرات قي الجرائد التي تصدر بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية واليابانية والصينية، إلى آخر ما هنالك من الألسنة التي يهتم أصحابها بالمشكلات الدولية
ونحن نعرف الأسباب التي جعلت لقصر أنطونياذس هذه المنزلة التاريخية، فقد كان المكان المختار لمشاورات الوحدة العربية، المشاورات التي اشترك فيها رجال يمثلون العراق والشام والحجاز. . . ولو تمهلت الحوادث لاشترك فيها رجال يمثلون لبنان قبل أن ينتهي ذلك الموسم الجميل
وأنتم رأيتم الصور التي سجلت بعض المناظر لأولئك المتشاورين، ففي الجانب المصري يجلس رفعة النحاس باشا ومعالي الهلالي باشا وسعادة الأستاذ محمد بك صلاح الدين، وفي الجانب العراقي أو السوري أو الحجازي يجلس من اختارتهم أمتهم لتلك المشاورات، ثم يكونون ضيوف الحكومة المصرية في قصر أنطونياذس، إلى أن تنتهي مهمتهم الرسمية
فما هو قصر أنطونياذس الذي شغل الجرائد والمجلات والإذاعات والبرقيات عدداً من الأسابيع في الصيف الذي سلف؟
أعترف بأني ما كنت رأيت ذلك القصر من قبل، فما كان يهمني من الإسكندرية غير الشواطئ، ولا كنت أتصور أن فيها مكاناً أبهج من محطة الرمل. عليها تحية الحب!
الصورة التاريخية هي التي دفعتني إلى رؤية قصر أنطونياذس لأكتب عنه كلمة توضح
بعض ملامحه لمن يجهل من أحواله ما كنت أجهل، وما أكثر ما أجهل من أحوال بلادي!
منطقة شعرية
أخذت العربة طريقها بمحاذاة نادي سبورتنج، ثم اتجهت شرقاً إلى ناحية خفق لها قلبي، القلب الذي تذكر أنه زار تلك الناحية في الليالي البواسم قبل أن تولول أبواق الحرب!
نعم، هذا كازينو النزهة، وهذي موسيقا الرقص في ضحوات الآحاد، بعد أن امتنع فيه الرقص بالليل
وتلك طيوف الماضي تعاودني برفق أو بعنف، فقد كان لي في ذلك الكازينو ذكريات
متى تعود أيامي؟ متى تعود؟
من حق الأيام أن تنتقم مني، فقد أكرهتها على أن تكون في مذاقي رحيقاً في رحيق، وهي بلؤمها تريد أن تكون غسليناً في غسلين
وهل استطاعت الحياة أن تنتقم مني؟
وكيف وهي مثقلة بالديون لقلمي؟
نحن نبتدع الحياة بأفكارنا وأحلامنا، لنجد ما نصوره بأقلامنا، فإن فكرت الحياة في أن تمن علينا فلتنزجر ولترتدع فليس لها في أعناقنا جميل، وإنما نحن أصحاب الجميل
إن الإنسان خليفة الله في الأرض، ونحن لا نخترع هذا القول، فقد جهر به القرآن المجيد، فما مصير الحياة لو عاشت بلا أبناء، ونحن وحدنا الأبناء الأصلاء؟
إن خطيئة أبينا آدم كانت نعمة على هذه الأرض، فما كان للأرض تاريخ قبل أن يهبط إليها من الفردوس، وما صنع إلا لأنه مجموعة نفيسة من الآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل
بإرادة إلهية خلقناك خلقاً يا هذه الأرض، وصيرناك مؤتمرات سلام وميادين حروب
حديقة الورد
هي حديقة نموذجية تذكرنا بالجوانب الوردية من حديقة لكسمبورج في باريس، وقد هجعت الورود بسبب قسوة الشتاء
الآن عرفت ما لم أكن أعرف
عرفت أن البرد يؤذي أهل الرقة واللطف، وينفع أهل القسوة والعنف
الآن عرفت كيف كان العرب يصفون المرأة الرقيقة بأنها (تؤوم الضحى)، ومعنى ذلك أنها لا تستطيع الاستيقاظ في برد الصباح، لأنها في رقة الورد، والورد لا يستيقظ في ساعات البرد
هل تذكرون حياة النمل؟
إن النمال تكون من العمالقة في الصيف، ثم تأوي إلى مساكنها المطمورة في الشتاء
ولا كذلك بنو آدم، فقوتهم في الشتاء لا في الصيف، ومن هنا جاءت فكرة (عيد الميلاد)، وهي تعبير عن نزعة إنسانية قبل أن تكون تعبيراً عن نزعة مسيحية، فما يعرف أحد بالضبط في أي شهر ولد المسيح، لأنه ولد قبل أن يلتفت الناس إلى تقييد المواليد
البرد هو الذي نفع روسيا فنصرها على نابليون، وقد ينصرها على هتلر بعد حين.
وتأخر البرد في هذه السنة آذى المزارع المصرية بعض الإيذاء، لأن في الدفء حياة للديدان، وحياة للنمال، وحياة للذباب، وفي حياة هذه المخلوقات جور على أرزاق الناس
البرد هو الذي يعلمنا كيف نستعد لمقاومة التقلبات الجوية، وهي تقلبات لا ينتصر عليها غير من يتدثرون بالأثواب والقلوب
وآية (يا أيها المدثر) تدل على أن الرسول تفتح قلبه للوحي في ليلة شاتية، وسنجد دليلاً على صحة هذا الافتراض، إن كان يحتاج إلى دليل
وهل تهجع الأرض في الشتاء كما يتصور الناس؟
إن الحرارة تتحول إلى جوف الأرض فتعدها إعداداً صالحاً للإنبات والإيراق والإزهار والإثمار، وسبحان من لو شاء لكشف الحجاب عن حكمته العالية في مداولة الأيام بين الصيف والشتاء.
وهل تهجع شجيرات الورد كما تصورتها وأنا أجول في حديقة الورد؟
إنها تستجم، ولعلها تدير في نفسها الصور المنتظرة للربيع المقبل، كما يستجم الفنان ليدير في نفسه الصور المنتظرة لربيع الفكر والخيال
لا نوم ولا موت في هذا الوجود، لأن الله خلقه لليقظة والخلود.
لو زحزح الحجاب لحظة واحدة لرأينا جميع الموجودات في اقتتال أو اعتناق، وإن ظهر للعيون أنها غافيات
لم يرحم الشتاء غير طائفة قليلة من الازاهير، فرأينا ما تصنع النحل، وتذكرنا أن النحل تمنح وهي تنهب، لأنها تشعر الزهر بمعاني الحنان، والحنان غذاء الجمال
تدخل النحلة إلى جوف الزهرة فتعتصر ما فيها من رحيق، ثم تنتقل بسرعة إلى زهرة ثانية وثالثة ورابعة، ولا تكف إلا حين تغلبها النشوة فتميل إلى القرار والاطمئنان
والنحل تترك الخلايا من وقت إلى وقت، وتسافر في طلب الرزق، ثم ترجع بدون أن تضل الطريق، فسبحان من أوحى إلى تلك الخلائق اللطيفة ما أوحى، سبحانه سبحانه، وإن كان غنياً عن الثناء
التمثال
دخلنا الروضة النائمة بسب البرد، فراعنا التمثال، وأي تمثال؟
ذلك وثن أقيم لفتاة عارية تتلقى شآبيب المطر، أو أكواب الشمس، في لحظة صفاء
تلك فتاة قتلت صباها وهي تخضع لصانعي التماثيل، وإلا فأين هي اليوم؟
بعشرين جنيهاً أو بثلاثين سمحت الفتاة المسكينة بالجلوس على تلك الصورة أسابيع وأسابيع، ليصاغ منها ذلك التمثال
قلت للجنان: افتح صنابير النوافير لأرى كيف تغتسل هذه الشقراء
لقد كادت الفتاة تستيقظ لتتعلق بعنقي، فما تحدث عنها شاعر قبل أن تراني كان الماء على شفتيها، وكأنها عروس في ليلة حمراء أين النموذج؟ أين؟ إنه فتاة ذهبت إلى غير معاد، فما يعمر مثل هذا الجمال، وهل تطول أعمار الورود؟
ركعت هنالك طفلة ظريفة، وهي تقول في بغام يشبه الحنين:
فما عرفت أي الروحين أرق وألطف، الروح الناطق، أم الروح الصامت!
النموذج مات، بدليل أنه سكت عن مطالبة البلدية بحقوقه في روضة الورد، ولأن زيارته ميسورة بنصف قرش، وما أهون الجمال الذي يزار بأنصاف القروش!
أين أنا مما أريد؟
كان الغرض أن أصف قصر أنطونيادس، فشرقت وغربت، واتهمت وأنجدت، ولم أقل شيئاً عن القصر ذي الشرفات والروضات، القصر الذي سمع نجوى القلوب الصوادق
بأماني الأمم العربية، حقق الله تلك الأماني
وهل كان يجوز أن أتحدث عن ذلك القصر قبل أن أصف ما يحيط به من رياض هي ملاعب أهواء، ومراتع ظباء؟
كل شيء ينبض بالحياة في تلك المنطقة الشعرية، وإليها تهفو الأرواح في ضحويات الشتاء، وعصريات الربيع، ولا ينافسها، إلا رمال الشواطئ حين يقبل الصيف!
ما هو قصر أنطونيادس؟ إن له عندي شجوناً من الحديث، وموعدنا المقال المقبل، والله هو الموفق
زكي مبارك
1 - أغنية الرياح الأربع
لشاعر اللذة والجمال علي محمود طه
للأستاذ دريني خشبة
هكذا أصبح الشاعر المبدع (علي محمود طه) أغنية في فم الجيل الجديد. وهكذا أصبح شعره إحدى أناشيد مصر الحديثة التي تهتف بها في جنات الجمال، وتتغناها في بساتين الحب، وتغازل بها روح الفن، وتحفز بموسيقاها همم الشباب، وتعطر بأريجها أجواء المجتمع، وتثبت بها شخصيتها في دنيا الشعر العالمي
انتظروا يا أصدقائي الشعراء!
انتظروا. فو الله إني لأعرف لكل منكم فضله، ومسجل، إن عشت لكل من بلابلكم يده، وما بدأت إلا بواحد منكم كنت أنتظر أن يفي بوعده الذي وعد منذ سنوات عشر حتى أنجزه، وأرجو أن يأخذ قي إنجازه إلى ما يشاء الله
أما كيف أنه وعد وعداً ولم ينجزه إلا بعد سنوات عشر، فمرجعه إلى وفاة شوقي أمير الشعراء رحمه الله وغفر له، وذلك أنه كان قد ألقى قصيدة من نظمه في رثاء الشاعر الخالد، في حفلة أقامتها ممثلة الشوقيات الأولى (السيدة فاطمة رشدي) في يناير سنة 1933، يقول فيها الأبيات التالية التي علقت بذاكرتي طول هذه السنوات العشر:
أيها المسرح الحزين عزاَء
…
قد فقدت الغداة أقوى دعامهْ
ذهب الشاعر الذي كنت تستو
…
حي وتستلهم الخلود كلامهْ
واهب الفن قلبه وقواه
…
ومصافيه ودَّه وهيامهْ
رب ليل بجانبيك شهدنا
…
قصة الدهر روعة وفخامهْ
أسفر الشعر عن روائعه في
…
ها وألقى عن الخفاء لثامهْ
فأعد عهده، وأحي ليا
…
ليه، وجدد على المدى أيامهْ
(ولك اليوم همة في شباب
…
ملئوا العصر قوة وهَمامهْ)
نزلوا ساحه يشيدون للمج
…
د وشقوا إلى الحياة زحامه
فاذكروا نهضة البيان بأرض
…
أطلعت في سمائها أعلامه
إنها أمة تغار على الف
…
ن وترعى عهوده وذمامه
(لم تزل مصر كعبة الشعر في ال
…
شرق، وفي كفها لواء الزعامه)
إن يوماً يفوتها السبق فيه=لهو يوم المعاد، يوم القيامه!
كنت أردد هذه الأبيات ثم أبحث عن علي محمود طه فلا أجده إلا في قصيدة أو مقطوعة تسفر بها إلينا جريدة أو مجلة، حتى لقيته في المقتطف ذلك اللقاء الكريم المفاجئ، في منظومته الطويلة (الله والشاعر). . . فقلت: نفحة أرجو أن تتلوها نفحات. . . وكان علي محمود طه في هذه المنظومة الرائعة عاصفة مكبوتة تريد أن تنطلق. . . أو تريد أن تحاج الأرض والسموات
ما أثمت روحي ولا أجرمت
…
ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصر الروح بما ألهمت
…
أوحت إلى الجسم فما قصرا؟
فلما أتيت على آخر المنظومة
فابتهلي لله، واستغفري
…
وكفري عنك بنار الألم
وقدمي التوبة، واستمطري
…
بين يديه عبرات الندم
رثيت له وأعذرته
ثم ملأ أيدينا الممدودة (بالملاح التائه) فبادرت إلى (الله والشاعر) أستعيدها، وأستغفر الله لهذا البلبل الشادي. ثم ذكرت رثاءه لشوقي فطويت الصفحات إليه، ووقفت عند هذا البيت:
أيها المسرح الحزين عزاء
…
قد فقدت الغداة أقوى دعامه
فطويت الملاح التائه، وجلست مسترخي الأعصاب شارد اللب، لا أفكر لا في مسرحنا هذا الحزين، وأدبنا ذاك الشاحب؛ فلما عدت إلى نفسي، أو عادت إلي نفسي، أخذت أقرأ حتى استوقفني هذا البيت:
ولك اليوم همة في شباب
…
ملئوا العصر قوة وهمامهْ
فوجدتني أردد بيت شوقي.
شباب قنع. . . . . .
رددته مرتين ثم أمسكت، فلما قرأت هذا البيت:
لم تزل مصر كعبة الشعر في ال
…
شرق، وفي كفها لواء الزعامه
ذكرت وفود الشرق التي بايعت شوقي في بيت حافظ، فطويت الملاح التائه وانصرفت عنه
زمناً طويلاً. . . ووالله ما انصرفت عنه قالياً أو سالياً، لكنني ذكرت ما وعدنا به علي محمود طه ولما ينجزه. . . فتجدد حزني على شوقي. . .
ومضت سنون سبع، وطلع علينا شاعر اللذة والجمال بليالي ملاحه التائه، وبه تلك المجموعة الشائقة من روائعه التي قرأناها كلها في الصحف، ثم ذكرت وعده الذي وعد، وأنه لم يف لكعبة الشعر في الشرق بشيء من هذا الوعد، فرحت أردد الذي رددته من قبل من شعر علي محمود طه:
أيها المسرح الحزين عزاء
…
قد فقدت الغداة أقوى دعامه!
ثم طلع علينا الملاح التائه (بأرواحه الشاردة)، فقلت: لا بأس. . . روح الشاعر تعانق أشباح أشباهه! ومن يدري؟ لعله لا يزال يستعد. . .
ثم فاجأنا (بأرواح وأشباح) فلما قرأتها فغمني فيها أريج من دانتي. . . إنها رحلة الشاعر إلى السماء، حملته إليها ربة الشعر:
إلى قمة الزمن الغابر
…
سمت ربة الشعر بالشاعر
يشق الأثير صدى عابرا
…
وروحاً مجنحة الخاطر
مضت حرة من وثاق الزمان
…
ومن قبضة الجسد الآسر
وأوفت على عالم لم يكن
…
غريباً على أمسها الدابر
فلما فرغت منها، وأفقت من حلمها اللذيذ، سمعت رجع أصدائها تملأ أذني من منظومته القديمة (الله والشاعر)، فعدت أستغفر له الله. . . وأشبهه بالدهر الذي يقول فيه أبو العلاء:
يا دهر يا منجز إيعاده
…
ومخلف المأمول من وعده!
لولا هذا الجمال الذي عوضنا به مؤقتاً، والذي أودعه أشباحه وأرواحه
ثم حيانا علي محمود طه بزهر وخمر، وكنا ننتظر البشرى الثمينة التي كان قد زفها إلينا صديق عزيز، ثم ملأ أيدينا بالبشرى نفسها. . . لقد أنجز علي محمود طه ما وعد. . . لقد أصدر أغنية الرياح الأربع! ولقد أصدرها باقة يانعة من السحر والشعر والجمال والخيال
حانة جميلة على شاطئ فينيقية الساحر في ثغر ببلوس حيث وجدت إيزيس جثمان أخيها وزوجها أوزيريس، في ميثولوجيا المصريين القدماء، يملكها ويديرها خمار يوناني يدعى أرسطفان، لا يهمه من الحياة إلا حطامها الفاني. . . وله زوجة رائعة الجمال لا يهمها من
الدنيا إلا أن تملك منها جلباباً أو تزهي فيها بحلية. وقفت تساعد زوجها في تنظيف الحانة وتنظيمها، ووقف زوجها يداعبها ويلاعبها. وراحت هي تدل عليه وتتيه، وتستنجزه ما وعدها من جميل النعم، فإذا مد يده يداعب خدها الناضج أو فمها المفتر، اقتحم الحانة شاعر مصري جواب آفاق يدعى باتوزيس، يحمل على كتفه كل ما يملك من عرض دنياه. . . قيثاره و. . . قلبه و. . . أمانيه. . . تلك الأماني التي لا تزيد على كأس يشعشع بها أحلامه، أو أغنية يسكن بترديدها آلامه، أو قينة يريق تحت قدميها أنغامه؛ وما أرخص هذه الأماني في حانة أرسطفان هذا الببلوسي!
ويرى باتوزيس زوجة الخمار، فيعتمد القيثار ويتغنى أعذب الأشعار؛ إلا أن أرسطفان يضيق به وبأشعاره، حتى إذا قال باتوزيس
لو كنت في طيبة يوماً معي
…
رأيت باتوزيس في المجلس
يسقيك من خمرة كهَّانها
…
مصرية عذراء لم تُمسس
انتفضت زوجة الخمارة الحسناء لذكر طيبة، ولذكر مصر، وتسائل الشاعر عن ملاعب صباها في وادي النيل، فيجيبها ودموعه تترقرق قي عينيه شوقاً إلى مراتع حبه وجنة قلبه
أي صدى هزَّني
…
وأي حلم عجاب
هل لي إلى موطني
…
يا ربّتي من إياب؟
يا ربتي رددي
…
هذا النداء الجميل
اليوم أم في غدٍ
…
أرى ضفاف النيل؟
وتقدم الزوجة الحسناء بيدها البضة وأناملها الغضة كأساً من الخمر إلى باتوزيس، ويأخذ الخمار وزجه والشاعر المصري في حديث طلي طويل عن مصر، تقطعه ضجة يسمعونها من بعد، وهي تقترب، فيخبرهم باتوزيس أن اليوم عيد البحار، وأن البحارة المقبلين نشاوى قدموا ليحتفلوا بعيدهم
ربابنة السفن المواخر أقبلوا
…
يحيّون عيد الماء عيد السفائن
يلوحون من أقصى الطريق بموكب
…
تصايح فيه كل نشوان ماجن
ألا حبذا عيد البحار وحبذا
…
شرابيَ فيه أو شجيُّ ملاحني!
ويخشى أرسطفان على زوجته من هؤلاء السكارى العزابيد:
حبيبي أخشى عليك سكرهم في حانتي فاجتنبيهم واذهبي
فتسأل زوجها:
مم تخاف؟ فتنة؟ أم غَيْرةً؟
…
تظن بي سوءاً؟ أما وثقت بي!
فيضحك أرسطفان، ويخبرها أن هؤلاء البحارة إنما يغشون الشواطئ لخطف الحسان
إني أخاف عليك وسوسة الطلي
…
في كأس عربيد الصبا نشوان
أرسى سفينته هناك كأنها
…
مقصورة العشاق في بستان
إن يَدْع زائرة له فسبيلها
…
سوق الرقيق وعالم النسيان
(للكلام بقية)
دريني خشبة
كتب وشخصيات
2 -
إبرهيم الثاني. . . للمازني
للأستاذ سيد قطب
خصائص المازني وفنه
أخيراً يهتدي المازني إلى نفسه ويمضي على نهجه، ويستغل أفضل مزاياه.
و (أخيراً) هذه تعني سنة 1929 يوم أخرج المازني كتابه (صندوق الدنيا)، وإن كان قد نشره متفرقاً من قبل في صورة مقالات.
وإذا علمنا أن المازني بدأ ينشر سنة 1910 أو حواليها، فإننا نسأل: وفيم إذن أنفق أكثر من خمسة عشر عاماً قبل أن يتجه اتجاهه الأصيل؟
والجواب أنه أنفقها أولاً قي التمهيد والتحضير لدوره الأخير، وأنفقها ثانياً في التهيئة العامة للأذهان والأذواق، متابعاً في هذا وذلك زميله العقاد، مع بعد ما بين الرجلين في الطبيعة والاتجاه.
والواقع أنني لم أعجب لشيء عجبي لاقتران هذين الاسمين في الأذهان فترة طويلة من الزمان، وهما يكادان يتقابلان تمام التقابل في الطبيعة الفنية والإحساس بالحياة
فالعقاد موكل بالفكرة العامة والقاعدة الشاملة، والمازني موكل بالمثال المفرد والحادثة الخاصة؛ وبينما يضع العقاد يده مباشرة على مفتاح القضية أو الفكرة يمضي المازني في استعراض أجزائها ودقائقها مستلذاً هذا الاستعراض مشغولاً به عن كل ما عداه. وفي العقاد ثورة وزارية وسخط على النقائص والعيوب الكونية والاجتماعية والنفسية (وإن أدركه العطف على الضعف البشري)، ومع ثقته وتفاؤله بالحياة، وفي المازني قلة مبالاة وسخرية واستخفاف، وشيء من التشاؤم يبطنه بالفكاهة والشيطنة.
ومن هنا احتفال العقاد واهتمامه وجده فيما يأخذ وما يدع من الأمور حتى في فكاهته وسخريته؛ واستخفاف المازني وسهولة أخذه للمسائل والأشياء، وإن لم تنقصه الفطنة لما فيها من متناقضات
ومن الأمثلة الحاسمة التي يهيئها الاتفاق فتصور الفارق الأصيل بين اتجاهي التفكير
وطريقتي النظر والتعبير، إجابتا المازني والعقاد على سؤال في مجلة، كان عنوانه:(هل أخلاقنا في تقدم)؟
فأما العقاد فقد سارع بوضع القاعدة ونصب الميزان، وهو يقول:
(نعم الأخلاق المصرية في تقدم، أو أن الرجاء في تقدمها أقرب من اليأس، وربما منعنا أن نرى دلائل التقدم أن الرجة عنيفة، وأن الغبار كثير حول الأقدام وفوق الرءوس. فإذا انجلى غداً عرفنا ما خطوناه، وما لا يزال أمامنا أن نخطوه
(ومن الواجب أن نعرف مقياس التقدم قبل أن نقيس ونضبط القياس فمقياس التقدم عندي هو احتمال المسئولية لأنه الفارق بين كل متقدم وكل متأخر بلا استثناء
(. . . وإذا كانت المسئولية مقياس التقدم الأوحد، فالحرية إذن هي شرط التقدم الذي لا غنى عنه بحال من الأحوال، لأنك لا تفرض المسئولية على إنسان مكتوف اليدين، ولا بد من حرية حتى تكون مسئولية، ولا بد من مسئولية حتى يكون تقدم في الحاضر أو المستقبل
(هذه الفوضى التي نراها في أخلاقنا هي مظاهر الحرية الأولى، أو هي أول مفاجأة من مفاجأتها. . . الخ
وقد تخالف العقاد أو توافقه، ولكنك مضطر أن تنظر أولاً في (مقياس التقدم) أو في (مفتاح الفكرة) الذي يلخص الرأي ويبلور التفصيلات
وأما المازني فراح يستعرض المظاهر الخلقية ويحكم عليها واحداً بعد الآخر حسبما رآه. فقال:
(كيف تصلح أخلاق أمة والبيت فاسد والتفاوت بين الرجل والمرأة شديد، والتربية سيئة، والمدرسة عقيمة النهج، والقدوة العامة على أسوأ ما يمكن أن تكون، ولا تقدير للتبعات والمسئوليات، ولا احترام للحقوق، ولا اعتراف بوجود حدود، ولا ثقة بإنصاف. . .) الخ
ويلاحظ أن المازني ذكر (تقدير التبعات والمسئوليات) التي ذكرها العقاد ولكن هذا جاء هنا عرضاً ومظهراً، بينما جاء هناك قاعدة وأصلاً
وعلى هذه الوتيرة تسير طبيعة العقاد وطبيعة المازني في عملهما الفني بل في حياتهما كذلك. والفرق كما ترى بين الطبيعتين بعيد
وبينما كان العقاد يسير على نهجه الأصيل منذ نشأته في النقد الأدبي والدراسات الفلسفية والعلمية، وفي دراسة الشخصيات والسير؛ ويتهيأ للمكانة الملحوظة التي بلغها فيما بعد في دراسة التراجم والمذاهب الفنية، ويقطع مراحل التحضير إلى مرحلة النضوج الأخيرة على بصيرة واستواء. كان المازني يتنكب عن نهجه ويسير في غير طريقه وهو يتناول هذه الموضوعات التي يتناولها العقاد يومذاك، إلى أن اهتدى إلى أفضل مزاياه في عام 1929 وقبله بقليل. وكان ذلك لخير الأدب بلا جدال
وقد أخرج المازني - وهو في التيه - كتاب حصاد الهشيم وكتاب قبض الريح، والقارئ يعجب لتشابه الموضوعات في هذين الكتابين مع موضوعات كتابي الفصول والمطالعات للعقاد ولتشابه الاتجاه في الرأي كذلك، وإن بقى الفارق الكبير بين الطبيعتين والطاقتين حتى في هذا الطور المختلط، الذي لم يكن المازني فيه يفطن إلى حقيقة مزاياه؟
ولا نحب أن نظلم المازني فنغفل عن عوامل الزمن والبيئة التي كانت تحتم عليه هذا الاتجاه في ذلك الزمان. فأغلب الظن أن الحالة الفكرية وفهم الأدب وتقدير الفنون في هذا الوقت لم تكن تسمح بظهور أديب يكتب على نهج المازني الأخير الذي بدأه بصندوق الدنيا سنة 1929 أو قبلها بقليل
وحسبنا لمعرفة هذه الحالة ولتقدير الجهد الذي بذله المازني بجوار العقاد في تصحيح مقاييس الأدب والفنون عامة، أن نعلم شيئاً عن المشكلات التي كانا يعانيان شرحها وهي اليوم في حياتنا الأدبية من البديهيات. فمسائل مثل: وحدة الشعر هي القصيدة لا البيت؛ اللغة وأساليبها تتطور بتطور الزمان؛ التصوير (الفتوغرافي) في الفنون لا يعد عملاً فنياً. . . إلى آخر هذه البديهيات، كانت في ذلك الحين من أعوص المشكلات!
ولقد قرأت بعطف كبير قول المازني في (الحصاد الهشيم)
(ما مصير كل هذا الذي سودت به الورق وشغلت به المطابع وصدعت به القراء؛ إنه كله سيفنى ويطوى بلا مراء. فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم. ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ من الذي يعنى بالبحث عن أسماء هؤلاء المجاهيد الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد؟
(وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق، يأتي نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم، وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها سامقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد!
(فلندع الخلود إذن، ولنسأل: كم شبراً مهدنا الطريق؟) أدركني عطف كبير وأنا أقرأ هذه السطور، وأراجع جهد المازني وجهد العقاد في التمهيد نحو ربع قرن من الزمان، ووددت لو كان المازني بجانبي حينئذ، لأقول له:
(لا يا مازني! إن نصيبك ونصيب زميلك الكبير أكبر جداً من مجرد التمهيد، فلقد بنيت بعد ذلك - على طريقتك - بنايات جميلة نابضة بالحياة في (إبراهيم الكاتب، وإبراهيم الثاني، وفي صندق الدنيا، وفي الطريق. كما أٌقام هو - على طريقته - بنايات سامقة معمورة الأركان. وفي التراجم الأخيرة على الخصوص)!
اهتدى المازني إذن إلى خصائصه وسار أخيراً على نهجه. فما هذا النهج وما تلك الخصائص بالتفصيل بعدما تقدم من الإجمال؟
والمازني فكاهة ودعابة وسخرية. وقد يفهم بعض الذين تصدوا للنقد بلا عدة وافية أنها غاية خصائصه ومزاياه. وهي منها ولها قيمتها في تلوين أدبه بلونه الخاص؛ ولكني لا أراها في مجموعها خير ما في المازني الفنان. فكثيراً ما تقوم دعابات المازني على نوع من سوء التفاهم المتعمد والمفارقات الكثيرة في الحركات الذهنية التي تقابل مفارقات الحركات الحسية في بعض أدوار (لوريل وهاردي) المشهورة، ولو عدل هذا (التوليف) الخاص لفقدت كل مزيتها، وليس هذا من الدعابة العميقة الأصيلة. ولا يمنع هذا أن يصل بعضها إلى القمة حين يلاحظ المفارقات الإنسانية والنفسية وينسي العبث بالحركات الذهنية والمغالطات اللفظية، وأبرز ما يكون ذلك حين يضبط نفسه أو نفس سواه؛ وهي تغالط نفسها لتهرب من مواجهة موقف أو تتوارى من الكشف في وضح النهار، أو تدعي فضلاً ليس لها وتنكر سيئة عملتها. وللمازني في هذا نماذج قليلة نسبياً، ولكنها من أمتع وأقوى ما تحويه الآداب.
أما مزية المازني الكبرى فهي طريقة إحساسه بالحياة.
إذا كان بعض العيون يأخذ الحياة جملة، فعين المازني تأخذ الحياة بالتفصيل، وهي عين
مفتوحة واعية فاحصة، لا تفوتها حركة ولا يند عنها لون؛ وهي تستعرض الحياة والمناظر والنفوس والأشياء، ولا تشبع من النظر ومن التقاط هذه الدقائق في يقظة وانفعال.
وليس كل كائن في الحياة موجوداً بالقياس إلى النفس الإنسانية؛ إنما تملك النفس ما تفطن له وما تنفعل به. واللحظة القصيرة تطول وتضخم إذا هي امتلأت بالأحاسيس وأفعمت بالانفعالات، والتقطت العين والنفس كل أو معظم ما تنطوي عليه من الدقائق والتفصيلات.
وكذلك يصنع المازني باللحظات، وكذلك يملؤها حتى يكظها ويزحمها بالانفعالات. وقد لا يبلغ أغوار الحياة ولا قلالها؛ ولكنه يذرعها طولاً وعرضاً، ويلحظ كل دقيق لا تأخذه العيون، فإذا هو في حفل من الصور والحركات والتصورات، إذا هو يعيد إليك هذه الصور المتحركة في حرارة فائرة كأنها حية حاضرة.
تلك مزية المازني التي لا نظير له فيها في اللغة العربية كلها، إلا ما قد يقع لابن الرومي في بعض قصائده مع الفارق بين قيود النظم وضروراته، وانطلاق النثر وحريته.
وبعد فما قيمة (إبراهيم الثاني) التي كنا ننوي الحديث عنها، فأعدانا المازني في هذا الاستطراد!
هي قصة قلب إنساني يضطرب في عواطفه اضطراباً طبيعياً حياً صادقاً تجاه ثلاث من النساء، كل منهن نموذج من المرأة يلتقي مع الأخريات في الجنس ويفترق في الطراز. وكل منهن امرأة طبيعية في هذا الاتجاه
وهو قلب إنساني حافل بالتجارب مثقل بالقيود - وفي أولها قيد المعرفة الثقيل - ولكنه فائض بالحيوية، زاخر بالعواطف، يضطرب بين الأثقال ويتفلت من هذه القيود. والمؤلف الواعي يسجل كل حقيقة وكل اختلاجة في دقة كاملة ويبطن ذلك كله بالدعابة الساخرة التي لا تنجو منها شخصية من شخصيات القصة جميعاً!
وهي من حيث كونها قصة تقف في أواسط الصف؛ ولكن من حيث مزية المازني التي أسلفت الحديث عنها تقف في أول الصف بلا جدال
والذي أريد أن أقوله: إن (الحدوتة) في ذلتها قد لا تكون خير ما في القصة، ولكن الفطنة للمواقف والمشاعر، والدقة في رسم اللحظات والانفعالات، والانسياب الطبيعي الذي يشعرك أن الحياة تجري في الورق كما تجري في الواقع اليومي. . . كل هذه مزايا ذات
شأن في تقويم القصة وتقديرها وكلها تتفق (لإبراهيم الثاني) أحسن اتفاق. فالحركة والملاحظة والوعي لأدق الخلجات وأخفى التصورات، وخلع الحياة الفنية على الفتات التي لا يعنى به الكثيرون، يشيع الحيوية واللذة والانفعال.
ويصعب في مثل هذه الأعمال الأدبية - الاجتزاء بالمثال، فليقرأها من يريد التطبيق على هذا المقال!
ولا بد من الاعتذار في النهاية عن هذا البيان المقتضب السريع المحدود بهذا المجال.
(حلوان)
(سيد قطب)
حرية أحرار. . . وحرية عبيد
(إلى الإنسان الحر عباس محمود العقاد)
للأستاذ نظمي لوقا جرجس
هل رأيت حماراً سعى يوماً إلى غير طعام أو شراب أو ضراب؟ لا أظن!
فما لغير هذا (تسوقه) طبيعته وضرورات حياته! وهو لا حياة له وراء هذه الضرورات، ولا مذهب له غير أن تقضي من أقرب سبيل وعلى أيسر وجه
هكذا جميع الحمير من جميع الأجناس. . . ذوات الأربع منها وغير الأربع على السواء!. . .
يعضه الجوع، أو ينخسه في الحين بعد الحين. . . ولكنه مركوب للجوع في جميع الأحيان؛ فهو حين ينقصه الطعام مشغول بالبحث عنه، وهو مشغول وقت حضوره بالإقبال عليه بالقلب والسمع والبصر. ولا شغل بعد هذا ولا انشغال، إلا أن يكون انتظار فراغ جديد يملؤه في غير فتور ولا ملال. فهو جائع حين تخلو معدته من الطعام فتطالبه به، وهو جائع كذلك والطعام ملء معدته وبين يديه. إنه جائع على الدوام، ولا ذنب له في قلة الخلاء أو ضيق الأمعاء! هذا مخلوق، الجوع محور حياته وفلكها الذي فيه تدور!
وغير جائع - وإن جاع حياته كلها! - من تتلوى أحشاؤه، لأنها لم تحظ منذ أيام بما يقيم الأود، لأنه إذا حضر الطعام وسكتت المعدة كانت له في الحياة أشواط ليست كلها قضاء ضرورات ولبانات، وإن كانت كلها إرضاء نفس تطلب الكمال في تحقيق ذاتها، باعتبارها معنى قائماً بذاته في الحياة، ونغمة مستقلة في الوجود
فالنفس الحية بمعنى الكلمة هي التي لها معنى خاص لوجودها. وهي التي تحس في أعماقها دوافع ذاتية مستقلة عن دوافع الحياة الخارجية وموانعها
الحجر بغير (حركة) ذاتية. . . لأنه لا يتحرك بذاته وإنما بحركة غيره
والحيوان (حركة) ذاتية. . . لأنه يتحرك بذاته وليس بحاجة إلى غيره كي يتحرك
والحمار بغير (دوافع) ذاتية. . . لأنه لا يريد وإنما تريد له خلقته الشائعة بينه وبين أفراد نوعه
والشخص ذو دوافع ذاتية، لأنه يريد بوجه خاص بخلاف الطبيعة الشائعة بين جميع الأفراد
ودوافع الحياة الشائعة أن تطلب منك القوت واللذة وما في حكمها مما يطلب من جميع النظراء في النوع. وهذه هي كل الدوافع التي تحرك الحمار، فإذا فرغت أو كفيت لم يخرج مع هذا عن تكرارها والانحصار فيها، لأنها هي وحدها الموجودة بالنسبة إليه
فالحمار ليس بذي وجود شخصي أو (عالم نفسي) مستقل بدوافعه الذاتية بعيد عن ضرورات الحياة الشائعة في النوع
ولكنه - وككل حيوان بغير تخصيص - مجرد مدفوع بدفعات الحياة ودوافعها. وليس بذي دفعة في الحياة إلى جانب ذلك الاندفاع. فهو نسخة شائعة أو رقم في نوع. . .
أما النفس التي لها وجودها الخاص، فهي النفس التي لها مطالبها وغاياتها التي تتميز بها عن بقية أفراد جنسها الذين يطابقونها في تلقي دفعات الحياة الشائعة، ولكنهم لا يطابقونها في دفعات حياتها الخاصة. . . التي هي عالمها النفسي الخالص لها بغير شريك. . .
تلك النفس ليست نفس جائع أو معدة مبطان، لأن الجوع ليس كل ما لديها من علامات الحياة. . . ويستوي بعد هذا أن يجهل الجوع صاحب تلك النفس، وإن يعوزه الطعام طيلة أيامه. والحمار بعد جائع أو صاحب جوع، ولو لم يغب عن فمه المذود طرفة عين!
ولكن هذا وذاك قد يتشابهان في السمت أو في الاسم، وقد تضمهما - بغير تفريق - رتبة واحدة في مملكة الحيوان!
افترى حياة المعدة وحياة النفس بعد هذا سواء؟
افترى الاسم الواحد يحمل معنى واحداً عند هذه وتلك؟
افترى الحرية واحدة بعد هذا، لا في معسكرين متقابلين، بل عند أصحاب الفريق الواحد، لأن الفارق فارق الطبائع لا فارق الأوضاع؟
إن اللقمة الواحدة يأكلها اثنان على مائدة واحدة، ولكنها عند هذا غيرها عند صاحبه. . .
فهي في هذا الجانب من المائدة أصل المسعى وغاية الطلاب. وهي في الجانب الآخر منها عارض يجب رفعه من الطريق التي ليس هو من غايتها في كثير ولا قليل. . .
وحساب اللقمة بعد كحساب كل شيء يشترك في مظاهره اثنان في هذه الحياة. لأن الحياة نفسها بمعناها الأصيل مختلفة كل الاختلاف خلف تشابه المظاهر والسمات
فهل الحرية بعد هذا يمكن أن تكون واحدة خلف وحدة اللفظ على لسان هذا وذاك؟
كلا!
فكما أن هناك جوعة عارض وجوعة مبطان، فكذلك هناك حرية أحرار وحرية عبيد!
أما الأحرار، فالحرية لديهم هي عين حياتهم النفسية: تفيض نفسهم بالدوافع الذاتية، فإذا بالحياة من خارج تنازعها الميدان، ولا تتركها طليقة تأخذ مداها كما تريد. فتحس النفس - لأنها حرة أصلاً وبطبعها وحكم وجودها الشخصي - أنه محال بينها وبين الاستمتاع بحريتها. فتطلب لذلك الحرية كمال موجود طبيعي، لا قضاء مطلب مطلوب من الخارج طلب فرض واضطرار!
أما العبيد فالحرية عندهم أن يطلبوا الطعام - حاشا! بل أن تطلبهم معداتهم بالطعام - فلا يحال بينهم وبين الطعام. وهم - إلى هذا - تطالبهم غريزة (هي معدة من نوع آخر لا أكثر ولا أقل) أن ينفلتوا من القيد انقلات البهيم يأنف العقال إذا نسى الشبع وأحس البطر. أو حين يعضه الجوع فيدفعه إلى السعي وراء القوت
آية الحرية عند الحر ألا يرغم على ما لا يريد، وأن تترك إرادة حياته الفردية أو النفسية بغير حد يقيد مداها. ويحول دون كمال وجودها، سواء أكان ذلك من صنع المخلوقات أو كان من طبيعة الخلقة الشائعة.
فهو يرفض كل إرادة على الإطلاق، لأن له إرادته الخاصة التي يسعى لتحقيقها بغير قيد
وآية الحرية عند العبد ألا يرغم على مالا تريده له طبيعة خلقته الشائعة بين أفراد نوعه. .
إنه بغير إرادة خاصة - إذ هو بغير عالم نفسي - فهو لهذا لا يفهم أن تكون لأحد إرادة، وبالتالي أن تسيطر عليه إرادة أحد. . .
ولكنه يحس إرادة الحياة الشائعه وهو كله لها. . . فيكره لهذا أن يشارك تلك الإرادة مريد
الحر صاحب نفسه، والعبد ملك خلقته
وكل يذود بعد هذا عن ملكه: فالنفس تأبى الشريك في إرادتها وعالمها. . . والخلقة الشائعة تأبى الشريك في مملوكها المسخر. . . وهو يكره أن يتقاسمه سيدان، فيكافح الدخيل ليخلص للأصيل. . .
والكفاح هنا وهناك يقال إنه في سبيل الحرية!
فمن ينكر كل إرادة، لأن عالمه لا يتسع لغير حياته الخاصة وإرادتها، فهو طالب حرية
ومن ينكر كل إرادة - لا لأنه صاحب إرادة خاصة تريد أن تأخذ مداها من السلطان، بل لأنه بغير إرادة على الإطلاق غفل في الحياة مسخر لها، لأن إرادتها وحدها كافية لديه ومعقولة - فهو كذلك طالب حرية. . .
أهذا كلام أيها الناس؟ بلى محض كلام! فما كل حرية بحرية أحرار
وليس المعول على طلب الحرية، ولكن المعول على الحرية نفسها وكيف تكون. . .
ولنا إلى مقوماتها رجعة بعد هذا أو رجعات
(أسوان)
نظمي لوقا جرجس
روسيا والثقافة الإسلامية
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
كبر على الأستاذ راشد رستم أن يقول الأستاذ إخناتي كراشوفسكي أحد علماء روسيا المستعربين: (ولا يزال بعض سكان داغستان يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة حتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة) فقال في مقال له: (والواقع أن للغة العربية مكانة بين هذه الشعوب لأنها لغة الدين ولغة القرآن غير أن الذين يدرسونها هم العلماء والمتفقهون الخ)
وأرجو أن يسمح لي الأستاذ راشد رستم أن أوجه نظره إلى أن الأستاذ إخناتي كراشوفسكي ليس أول من قال: إن بعض الداغستانيين يتكلمون العربية ويستعملونها في التخاطب والكتابة ونظم الشعر على وفق الأوزان العربية
فقد قال ذلك من قبله سعادة رشاد بك رئيس محكمة مصر سابقاً في كتابه (سياحة في روسيا) إذ يقول: (ولغاتهم (يعني القوقازيين) أكثرها لا تقرأ ولا تكتب ما عدا الداغستان فإن لغتهم لها قراءة وكتابة خاصة بها، وحروفها هي نفس حروف الهجاء العربية. ولكن من ضمن هذه الحروف حرفا لام وكاف تحت كل واحد منهما ثلاث نقط. وهذه اللغة لا تشبه أية لغة من اللغات الشرقية ولا غيرها بل هي لغة قائمة بذاتها وفيها كلمات عربية كثيرة. وفي العهد الأخير أسسوا مطابع عديدة في (تيمور خان شورا) مركز ولاية الداغستان تطبع فيها كتب ومجلات باللغة العربية الفصحى، وباللغة الداغستانية. . . وكل معاملاتهم وصكوكهم تكتب باللغة العربية، وعلماؤهم وأئمتهم يعرفون هذه اللغة قراءة وكتابة لأنها لغة دينهم. وزيادة على ذلك فإن الداغستان يقرءون ويكتبون بالعربي ويتكلمون). وليس هذا فقط فقد قال الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي (ج 1 ص 79 - 83) من الطبعة الأولى:(. . . وبلاد الداغستان متعددة اللغات. . . ولكن لسان العلم في جبال الداغستان هو اللسان العربي، وهو اللسان الذي يتكاتب به أعيان تلك الأمة. وقد صادفت سنة 1919 الوفد الداغستاني الجركسي في (برن) قاعدة سويسرة، ولزمتهم مكاتبات إلى رؤساء بلادهم فكلفني حيدر بك بامات بتحريرها لهم بالعربية الفصحى، وكثير من علماء الداغستان معدودون من علماء العربية.
وجاء في الطبعة الثانية من الكتاب المذكور (ج 3 ص 368)(أما الداغستان، فهي قسمان: داغستان لزكي والثاني داغستان التركي. فاللزكيون يتكلمون ويكتبون بالعربية، ومحاكمهم لسانها العربي)
ولعلي إلى هنا استطعت أن أثبت للقارئ الكريم أن اللغة العربية لغة العلم والثقافة العامة في الداغستان وليست خاصة بالعلماء والمتفقهين فقط كما يقول الأستاذ راشد رستم
ولكن بقى أن نقول في أي عصر من عصور التاريخ انتشرت اللغة العربية في تلك الربوع؟. . وما الذي جاء بها من وراء الحدود حتى أصعدها الجبال وأنزلها الوهاد في الداغستان؟
وفي هذا يقول الأستاذ راشد رستم: (ويرجع الفضل في انتشار اللغة العربية في القوقاز وخاصة في بلاد الداغستان واللزكي والششن إلى إحدى الطرق الصوفية المعروفة باسم المريد)
وأبادر فأقول: إنه ليس في الداغستان، ولا في أي بلد من بلاد الله طريقة صوفية معروفة باسم (المريد)، إنما المريد كلمة عربية فصيحة واضحة المعنى جلية المبنى اسم فاعل من أراد يريد، وتطلق كلمة المريد في عرف الصوفية على كل سالك طريق من طرق الصوفية. وأما الطريقة التي يشير إليها الأستاذ وكانت موجودة في الداغستان فعلاً؛ فهي الطريقة النقشبندية المشهورة؛ ولكن هل هذه الطريقة هي صاحبة الفضل في انتشار اللغة العربية في الداغستان؟ وما شأن الطريقة النقشبندية؟ ومشايخ النقشبندية قوم بخاريون؛ وليسوا من الحجاز ولا من نجد؟
لا. . . لا. . . الواقع أن اللغة العربية في الداغستان قديمة عريقة دخلت البلاد مع سراقة بن عمرو وبكر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن ربيعه القواد الفاتحين في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 22 ومع إخوانهم الغزاة المجاهدين من كبار الصحابة والتابعين الذين اندفعوا كالسيل يجاهدون ويرابطون.
ثم استقرت واطمأنت وألقت عصاها يوم وطد مسلمة ابن عبد الملك الحكم العربي في تلك الأصقاع في خلافة أخيه هشام سنة 105هـ، وكان يؤيدها على مر الأيام ذلك السيل الذي لا ينقطع من المرابطين الذين كانوا يقصدون إلى (دربند) - وهي ثغر من ثغور المسلمين
- للمرابطة في سبيل الله
بقى أن نقول كلمة عن مدى انتشار اللغة العربية وحدود استعمالها في بلاد الداغستان
فالأستاذ راشد رستم حاول أن يصورها لغة الأسرار والأحاجي (الشفرة) يلجأ إليها المحاربون والقواد إلى إخفاء شئونهم. ونشر للتدليل على ذلك رسالة بعث بها أحد نواب الشيخ شامل إلى الشيخ شامل نفسه وقال: (ننشر نصها للدلالة على قدر معرفة بعضهم بهذه اللغة)
وهو يريد بهذا الإشارة إلى ضعف أسلوب تلك الرسالة وغموض موضوعها بعض الشيء
وأنا أكتب هذه الأسطر وبين يدي عشر رسائل مختلفة كتبت في الشئون العامة من شئون الناس في الحياة، وفيها الطويل المسهب والقصير الموجز، وليس فيها ما هو أدنى أسلوباً من الرسالة التي نشرها الأستاذ. بل إن فيها رسائل كتبت بأسلوب أدبي عال إلى حد ما. وكنت أريد إثبات بعضها لولا ضيق نطاق الصحف في هذه الأيام
وأمامي أيضاً قصيدتان إحداهما للشيخ غازي محمد الكمراوي في تسعة أبيات، والأخرى للشيخ اسحق المشهور بجمال القرباني في نحو أربعين بيتاً، والقطعتان من الشعر الذي لا بأس به، إذا لوحظ العصر الذي قيلت فيه، وهو القرن التاسع عشر الميلادي، والبلاد التي نشأ بها الشاعران وهي بلاد انقطعت صلتها بالحكم العربي من نحو ألف عام تقريباً
وفي مكتبة رواق الأتراك في الأزهر الشريف قصيدة في نحو ألف بيت من الشعر القوي الرصين للشيخ نجم الدين الداغستاني
وهكذا إلى ما لا يحصى من الآثار النثرية والشعرية والعلمية التي خلفها الداغستانيون في اللغة العربية، مما يثبت أن اللغة العربية في الداغستان كانت أوسع مدى وأكثر انتشاراً مما يبدو لأول وهلة. بل يثبت إلى حد ما أنها كانت لغة الثقافة العامة والثقافة الدينية بصفة خاصة. ومما يزيد هذا القول أنه كانت تصدر في الداغستان صحيفة عربية إلى وقت قريب؛ أصدرها أحد العلماء قبل الحرب العالمية الماضية باسم (الداغستان)
فإذا كان لا يفهم العربية في الداغستان إلا العلماء والمتفقهون - كما يقول الأستاذ راشد رستم - فهل في الداغستان من العلماء والمتفقهين تلك الكثرة التي تكفي لحياة صحيفة عربية ليس لها من القراء إلا هؤلاء العلماء والمتفقهون؟
الواقع أن التعليم في الداغستان كان إلى حين قريب أهلياً محضاً ودينياً خالصاً، يقوم به أئمة المساجد في القرى والمدن، فكان على الإمام في مسجده أن يعلم الطلبة الوافدين إليه العلوم الدينية والعربية. وكان الإقبال على هذا التعليم شائعاً بين الداغستانيين؛ وقلما من يحسن القراءة والكتابة من غير هؤلاء الذين تعلموا في مدارس المساجد
على أنه قد أنشئت في العهود الأخيرة بعض المدارس المنظمة الحديثة، وكانت عنايتها باللغة العربية شديدة إلى جانب العلوم الأخرى
فاللغة العربية في الداغستان هي لغة العلم والثقافة الدينية العامة ولغة الكتابة الغالبة.
وليس معنى ذلك أن الداغستانيين انسلخوا من قوميتهم، لغتهم الأصلية وتركوا عاداتهم وتقاليدهم وانقلبوا عرباً خالصين؟ لا. فالقوم لا يزالون محافظين على مقومات قوميتهم من لغة وعادات وتقاليد، ولكنهم مع ذلك مسلمون أشد ما يكون المسلمون تعلقاً بدينهم وحباً للغة القرآن.
برهان الدين الداغستاني
في الثرى
للأستاذ محمود عماد
كل شيء قد انتهى
…
وانقضى العرسُ يا عَروسْ
والذي كان يُشتهى
…
صار تشقى به النفوس
صار ما كان مقصفا
…
لك يا قلب معبدا
ثم هدوه فاختفى
…
فكأنْ لم يكن بدا
أقلع الركبُ وامدثرْ
…
بعده واضحُ الأثرْ
هل لدى الحيّ من خبر
…
أنّ ركبا هنا عَبَر
لم يَعد ثم من شهود
…
بعدهم غير واحدِ
والقضايا لدى الوجود
…
لا تزكي بشاهد
هم إذن فِريةُ ثوتْ
…
صعبة الفهم شائكه
مثل أحدوثةٍ حوت
…
جِنةً أو ملائكه
ما دليلي عليهمو؟
…
طاحت الدار والنزيلْ
أنت يا قلب تقسِم؟
…
حسبهم أنت مِن دليل
هاهنا إنّ هاهنا
…
نهرَ نُعمَى لنا جرَى
موهنا ثم موهنا
…
بعده غاب في الثرى
احفروا الأرض حفرة
…
واضغطوا تُربَها الندِي
علّ في الترب قطرة
…
تنفع الهائمَ الصدِى
اعصروا النبت ربما
…
فيه من نهرنا وشلْ
واسألوا الريح أين ما
…
قد روت عنه من بلل
اسألوا السحب هل ترى
…
نهرنا عندها رُفعْ
كل ماء تبخرا
…
في سحاب سيجتمع
إن في ذلك الثرى
…
عهدنا مات واندفنْ
ويحه كيف لا يُرى
…
منه عَظمٌ ولا كفن؟
بئسَ ما يفعل التراب قد حوَى أيَّ كيمياء؟
كل جسم به يذاب
…
دون نار ودون ماء
كل جسم به يصير
…
غير جسم على الزمن
راجح الرأي والغرير
…
والذي شاهَ والحسَن
إن في القفر مقبرة
…
من بترب بها درَى
اهو من جسم عنتره
…
جاء أو جسم قيصرا؟
كل من قد تباينوا
…
شأنهم في الثرى سواءْ
ذاك عدل مطمئِن
…
لو ثوى العدل في الفناء
ليت لا ينقضي النعيمْ
…
أو تراءى لدى الخَبرْ
لا كما خبَر الهشيم
…
عن مدى نضرة الشجر
ليتنا حين نشتهي
…
أيَ عهد لنا نأى
جاءنا ثم ينتهي
…
مثلما تنتهي الرؤَى
قد عرفناك في المآلْ
…
يا جسوما لدى الثرى
والأحاديث والخصال
…
أين يذهبن يا ترى؟
هل لها داخل الفضا
…
من قبور نزورها؟
أو مضت حيث قد مضى
…
مِن رياض عبيرها؟
يحبس العلم باحتيالْ
…
في قناِنيَه العبيرْ
ليته يحبس الجمال
…
في حبوس فلا يطير!
ليته سجل الهناء
…
في شريط له يذاعْ
مثلما سجل الغناء
…
أو حديثاً لنا يشاع
سوف تبقى لنا العلوم
…
معلنات غباءها
أو نرى ميتاً يقوم
…
مستجيباً نداءها
انتهت قصة الشباب
…
وانطوت شاشة النجوم
غير نجم هنا عجاب
…
أرهقت ضوءه الغيوم
بينما المخرج الكبيرْ
…
من يسمونه القدرْ
لم يزل يخرج الكثير
…
من رواياته العِبَرْ
هاهو النجم في المُحاق
…
ساربُ وحده كليلْ
أفسحوا الجو يا رفاق
…
واتركوا عابر السبيل
محمود عماد
من أزهار الشر
لشارل بودلير
الشرفة
يا نبع ذكرياتي، يا أحب الحبيبات
أنت يا كل لذاتي، أنت يا من لك حياتي
ستذكرين يوماً جمال مداعباتي
وعذوبة مثوانا وسحر الليالي
يا نبع ذكرياتي يا أحب الحبيبات
والليالي الساطعة بسعير المجامر
وأمسياتنا في الشرفة في ظلام تغشاه غمائم وردية
فكم كان في نهدك من عذوبة! وكم كان في قلبك من حنان
وقد تبادلنا عهوداً لا تزول مع الزمن
في الليالي الساطعة بسعير المجامر
كم كانت الشمس جميلة في الآصال الدافئة!
وكم كان الفضاء عميقاً والقلب قديراً
وكنت حين أميل إليك يا ملكة المعبودات
إخال أنني أشم رائحة دمائك العاطرة
كم كانت الشمس جميلة في الآصال الدافئة
حين كان الليل يرخى سدوله بيننا كحجاب
كانت عيناي تتمثلان عينيك في الظلام
وكنت أحتسي أنفاسك فيا لها من عذوبة! ويا لها من سم!
وكانت قدماك ترقدان على يديَّ الأليفتين
حين كان الليل يرخى سدوله بيننا كحجاب
أنا أعرف فن إحياء اللحظات الهانئة
وكيف أبعث زماني الغابر الجاثم بين ساقيك
فما الجدوى من البحث عن محاسنك الفاترة
في جسد غير جسدك المحبوب، وفؤاد سوى فؤادك الوديع
أنا أعرف فن إحياء اللحظات الهانئة
هذه العهود، وهذه العطور وهذه القبل الخالدة
هل تعود مرة أخرى من أعماق هاوية، حزم علينا سير غورها
كما تعود الشمس، إلى الأشراف فتية
بعد أن تطهرت في أغوار اللجج العميقة
إيه أيتها العهود! إيه أيتها العطور! إيه أيتها القبل الخالدة ترجمة
عثمان علي علي
البريد الأدبي
غصن المحيوي
قرأت كلمة لحضرة الأستاذ محمود عزت عرفة في الاعتراض على بيت المحيوي:
والغصن ميّاس القوام كأنه
…
نشوانُ يُصبَح بالنعيم ويُغَبقُ
والاعتراض وارد على كلمة (النعيم) وقد فسرتها بالخمر، وهو يقول إنها مصحفة عن النسيم، ويأسف على أن يرى التصحيف مثبتاً في كتابين آخرين، هما حلبة الكميت ومطالع البدور
وأقول إن ورود الكلمة بصورة واحدة في ثلاثة مصادر يبعد التصحيف، وأقول أيضاً إن ترنح الغصن بالنسيم ليس فيه صبوح ولا غبوق، لأن النسيم يراوح الغصن في كل حين
أما استبعاده أن يكون (النعيم) من أسماء الخمر فهو مستبعد عندي، لأن الحمر سميت (الراح) وهو في معنى النعيم، وبيت المحيوي نص صريح في تأييد ما أقول
وأنتهز هذه الفرصة السانحة فأذكر أن للأستاذ محمود عزت عرفة أبحاثاً تشرح الصدر، وما قرأت له كلاماً إلا رأيته يعني ما يقول بفهم وبيان
زكي مبارك
الاختزال كفن قديم
أشار الأستاذ الكبير عباس العقاد في مقاله عن (كتب السياحة) إلى بعض ما نفيده من مطالعة المؤلفات القديمة في مثل هذا الموضوع؛ فذكر أننا قد نحيط بعادات الأمم الخالية (فنصحح بعض الغرور الذي يركب أبناء العصر الحاضر فيخيل إليهم انهم السابقون إلى كل طرافة، وأن المتقدمين في باب الطرائف هم اللاحقون). وقد أذكرتني عبارته هذه، ثم إشارته إلى قدم استعمال العملة الورقية في الصين، بما وقعت عليه مما يتصل بفن الاختزال - وتاريخ ابتداعه في الصين قديماً رغم ما يعتقده أكثر المعاصرين من أنه فن غربي حديث. . .
فقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) أن للصين كتابة يقال لها (المجموع) كانوا يأتون بها على المعاني الكثيرة في القليل من الحروف؛ (فإذا أرادوا أن يكتبوا ما يكتب في مائة
ورقة كتبوه في صفح واحد).
وذكر قصة رجل من الصين أقام سنة بحضرة محمد بن زكريا الرازي يتعلم العربية وفنونها؛ ثم أزمع الرجوع إلى بلده، فجاء قبيل سفره يستملي الرازي كتب جالينوس الستة عشر. وكان لضيق وقته يكتب بالمجموع، فلا تكاد يد المملي تجاري لسانه سرعة وانطلاقاُ! وقد زعم الأستاذ (أن الإنسان الذكي السريع الأخذ والتلقين لا يمكنه أن يتعلم ذلك في أقل من عشرين سنة)
وذكر ابن النديم في موضع آخر أن للروم قلماً يعرف بالساميا، يحيط الحرف الواحد منه بالمعاني الكثيرة. قال:(وجاءنا من بعلبك في سنة ثمان وأربعين - يعني بعد الثلاثمائة - رجل متطبب زعم أنه يكتب بالساميا، فجر بنا عليه ما قال فأصبناه إذا تكلمنا بعشر كلمات أصغي إليها، ثم كتب كلمة، فاستعدناها فأعادها بألفاظنا)
وهكذا نرى أن القدماء من أهل الأمم المتحضرة لم يسبقوا في زمنهم، بأكثر مما سبقونا في دقة تفكيرهم وبراعة مخترعاتهم.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
تنبيه لغوي
الفعل ساح يسيح سيحا وسياحة أي ضرب في الأرض، ومنه قوله تعالى في سورة التوبة (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي وان الله مخزي الكافرين) وليس من الصواب (نسوح بين بقايا القاهرة التاريخية. فعين هذا الفعل بائية قطعاً من غير خلاف. وقد نبه اليازجي إلى ذلك من زمن طويل
وبناء على هذا نقول مثلاً: إن المستر وندل ويلكي والأمريكي من السياح لا من السواح، كما يقول العوام.
(م. ع)
الصديقة بنت الصديق
طالعت كتاب الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد - الصديقة بنت الصديق - فوجدته خير كتاب أخرج عن عائشة رضي الله عنها، وقد سلك الأستاذ الكبير طريقة الباحث الذي يحكم العقل قبل النقل في مسائل التاريخ، ولكني وجدته حاد عن هذه الطريقة في موضعين: أولهما ما ذكره من قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل إليها ابنه إبراهيم لترى ما بينهما من عظيم الشبه، فأنطقتها الغيرة بما رأى الأستاذ أن يترك مكانه بياضاً، لأن فيه نفياً لما بينهما من شبه، ومقام السيدة عائشة ينبو عن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، فكيف بهذا الأمر الذي يثير الريبة في مارية القبطية، وفي نسبه إبراهيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
وثانيهما ما ذكره من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في حديث الإفك: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألمحت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه - فمثل هذا لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يعرض لمن أقر بالزنا عنده أن يرجع عن إقراره، فكيف يخالف ذلك مع عائشة، ولأن حديث الإفك لم تلكه إلا ألسنة المنافقين المعروفين بعدائهم للإسلام، فلا يمكن أن يكون له أثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من جهة براءة عائشة، وإنما كان منه شيء من الإعراض، لأنها أتت من التصرف ما أدى إلى هذا الإفك. ولو أنها حين ذهبت لبعض حاجتها تركت في الركب خبراً بذهابها لما تحرك الركب وتركها ليأتي بها صفوان بن المعطل.
عبد المتعالي الصعيدي
حول ختان البنات في مصر
اطلعت بالعدد 546 من مجلة الرسالة الغراء على تعليق حضرة الأستاذ دسوقي إبراهيم على البحث (ختان البنات في مصر) ولما كانت الناحية الدينية للموضوع ليس لي فيها مجال فقد استعنت بأحد الأساتذة الإجلاء فأطلعني على فتوى للمرحوم السيد محمد رشيد رضا نشرت في 25 أكتوبر سنة 1904 في الجزء السادس من المجلد السابع من المنار، وفي المقطم في 13 أكتوبر سنة 1936 وقد جاء فيها ما يأتي:
(قال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع. واحتج القائلون بأنه سنة بحديث أساسه عند احمد والبيهقي: (الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء) وراوية الحجاج بن أرطأة مدلس. والذي لا نزاع فيه هو ما قلناه من أنه سنة عملية كانت في العرب وأقره النبي صلى الله علية وسلم وعده من خصال الفطرة وهو من ذرائع النظافة والسلامة من بعض الأمراض الخطرة)
وكانت هذه الفتوى عن ختان الذكور فقط. وأذكر أنني اطلعت على فتوى رسمية في هذا الموضوع صدرت من دار الإفتاء بطلب جماعة من فضلاء الهنود بمناسبة زيارة البعثة الأزهرية للهند وهي بنفس هذا المعنى. ولعل الأستاذ الفاضل أقدر مني على الاهتداء إليها. والموضوع قبل كل شيء علمي اجتماعي صحي وليس فيه نزاع أوشك من هذه الوجهات، وليس في شيء منها ما يقر هذه العادة الخطرة وهي ختان البنات التي استأثرت بها مصر دون سائر أقطار العالم.
دكتور
ع. أسامة
إلى الدكتور الأهواني
تفضلت أيها الأخ الجليل بنقد كتابي (تاريخ الأخلاق) في طبعته الثانية بالعدد 456 من الرسالة، وكنت أود بعدما كان منك من ثناء لا أراني مستحقاً له كله أن أتقبل جميع ما أخذته عليّ من غير تعقيب، ولكن طلبي الحق الذي وصفتني به يجعلني أتقدم بهذه الكلمات أرد بها على بعض ما جاء بالنقد
1 -
لم أخرج يا أخي الغزالي من زمرة المتصوفة، بل ذكرت فقط أنه لم يكن معهم فيما رأوه من سبيل السعادة وهو العمل وحده، واليك نص ما قلته
باشتراط (أبي حامد) العلم لبلوغ السعادة القصوى يكون مخالفاً للصوفية الذين لا يأبهون للعلم ولا يعدونه من أدوات السعادة، بل يرون أن سبيل السعادة هو العمل وحده. كما قلت بعد هذا: (ولسنا في حاجة للقول بأن الغزالي أصاب الحق بمجانبته للمتصوفة وموافقته للنظار والفلاسفة، في اشتراط العلم للسعادة الحقة، وجعله العمل مقدمة ضرورية لها، لا
طريقاً يكفي وحده للوصول)
وإذاً فليس غريباً إخراج الغزالي من طائفة المتصوفة في هذه الناحية، وإن كان متصوفاً في نواحيه الأخرى وفي طابعه العام
2 -
أما الأخلاق عند (إخوان الصفا) فمنها بلا ريب كما ذكرت جانب فطري، ومنها جانب كسبي، وإليك الدليل من أقوال الإخوان أنفسهم
يذكر إخوان الصفاء في بيان أن من الأخلاق ما هو مركوز في الجبلة، وما هو كسبي يكون بمجهود ومعاناة:(إن الأخلاق المركوزة في الجبلة هي تهيؤ ما يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال من غير فكر ولا روية. مثال ذلك متى كان الإنسان مطبوعاً على الشجاعة، فإنه يسهل عليه الإقدام. وهكذا متى كان مطبوعاً على السخاء يسهل عليه بذل العطية. وعلى هذا المثال والقياس سائر الأخلاق والسجايا المطبوعة في الجبلة المركوزة فيها، إنما جعلت ليسهل على النفس إظهار أفعالها بلا فكر ولا روية)
وأصرح من هذا ما قرروه في فصل آخر بعد ما تقدم، إذ يقولون:(الأخلاق كلها نوعان؛ إما مطبوعة في جبلة الناس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة استعمالها)
أما النص الذي أتيت به أيها الأخ الجليل فهو - كما تعلم - قد جاء في أثناء كلامهم في أثر التربية، ليؤكدوا به ما للدرس والمران من أثر كبير في بلوغ كرتبة الحذق والأستاذية في الصنائع واكتساب الأخلاق والسجايا. وذلك أن الدرس ونحوه كالنشوء في بيئة خاصة، وجه من الأربعة التي ذكروا أن الأخلاق تختلف من أجلها
وأخيراً، فللأخ الفاضل المحقق، وللأستاذ الكبير صاحب الرسالة، خالص تحيتي وشكري وتقديري.
محمد يوسف موسى
ختان الأنثى بين الدين والرأي
قرأت مقال الدكتور الفاضل أسامة وانتظرت ما يكتب في موضوعه، فكتب الأديب الفاضل دسوقي إبراهيم ينبه الدكتور إلى خطئه في قوله إن الختان ليس له أصل ديني ذاكر قي
ذلك ما ذكر من الدليل. وعقب عليه الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي يرى أن الدين لا يخدم بمثل ما كتب الأديب الفاضل، لأن ذلك يخلق عداء بين الدين والعلم، وأظهر الاستعداد إلى التوفيق بين الدين والعلم في هذه المسألة عن طريق التأويل، إذا كان هناك قرار إجماعي من الأطباء
ولست أدري ما وجه الخطأ في ما كتب الأديب الفاضل الذي نبه إلى حكم الدين في ختان الأنثى ما دام قد نبه إلى واقع وقرن قوله بالدليل. إن الدكتور أسامة كتب في هذه الناحية كتابة من لا يعرف حكم الدين في الموضوع، فنبهه الأديب الفاضل إلى حكم الدين. ولو لم يفعل لكان حقاً على أحد شيوخ الدين أن يفعل بدلاً من أن يأتي منهم من يلوم الذي فعل خوفاً من خلق عداوة بين العلم والدين. فهل يا ترى يكتم حكم الدين كلما ادعى مدع أنه يخالف العلم في قليل أو كثير؟
إن قراراً إجماعياً لو صدر من الأطباء بالفعل بتأييد الدكتور الفاضل أسامة لا يغير من الحكم شيئاً في هذه المسألة بالذات؛ لأن الدكتور من ناحية يقر بحكمة أخلاقية لختان الأنثى إذ أقر بأنه ادعى للعفة واعون عليها عند الأنثى، والدين من ناحية أخرى ينهى عن الإنهاك في الختان أي عن استئصال الزائد التي يدعو الدكتور أسامة إلى الإبقاء عليها كاملة. فالدين قد أيد عادة تعين على عفة الأنثى، ونبه فيها إلى الطريق القصد الذي يبقى من تلك الزائدة ما يحقق من وظيفتها مما يكفي لإسعاد الزوجين في غير جموح. فماذا يراد من حكم الدين وراء هذا الجمع بين المصالح للإنسان؟
ومن العجيب أن الحديث الشريف قد نص على الوظيفة الفسيولوجية للزائدة قبل مقال الدكتور أسامة بثلاثة عشر قرناً ونصف. وكان الرجاء في مثل الأستاذ الصعيدي أن يكشف لمثل الدكتور أسامة عن هذا. والحديث الذي أشير إليه هو حديث (يا أم عطية) - وكانت تخفض - (إشمى ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج). فأما أنه أحظى عند الزوج، فقد تنبه إلى ذلك العلم. وأما أنه أسرى للوجه فيظهر أن العلم لم يتنبه إليه إذا كان مقال الدكتور أسامة يمثل كل ما وصل إليه العلم في هذا الموضوع.
أما الحالات المرضية التي أشار إليها الدكتور في مقاله فمردها إما إلى الإنهاك الذي نهت عنه السنة الشريفة، وإما إلى تبديد للقوة العصبية ببعض عوامل التبديد الكثيرة في هذه
المدنية، وعلى أي حال فليست هي مما يبنى فليه حكم أو مما يدعو إلى العدول عن عادة أيدها الدين.
محمد أحمد الغمراوي
في عبقرية الإمام
لقد بلغ العقاد العظيم الذروة في (عبقرية الإمام) فجاء كتابه على خير ما تجئ، الكتب من قوة الأسلوب ونضج البحث وعمق التحقيق والنفاذ إلى أغوار الأشخاص. غير أن لنا على الكتاب بعض الملاحظات التي نرى لزاماً أن يتوجه بها إلى المؤلف الفاضل بعد أن رأينا الحقائق وحدها كانت هدفه ومبتغاه
يقول المؤلف في الصفحة 157 في معرض بحثه عن حكومة الإمام: (وكان أنصار الإمام أبداً من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة وبين بني هاشم على الأخص وبين قبائل العرب جميعاً على التعميم)
ولا ندري إذا كان حفظه الله يعني بذلك أنصار الإمام في حياته وخلال خلافته، أم يعني أنصار الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه. فإذا كان الأول فلا نحسب أنه كان بين جيوش الإمام من هو غير عربي؛ بل الذي نعرفه أن جيشه من أكبر قائد إلى أصغر جندي كان جيشاً عربياً خالصاً قوامه تلك القبائل العربية الشهيرة التي ما خالطتها عجمة ولا شابتها هجنة، وأن مؤيديه كانوا صفوة المهاجرين والأنصار، وخلاصة المسلمين الأقحاح الذين أنبتتهم رمال الجزيرة العربية وغذاهم نخيلها. فهمدان ومضر وربيعة وتميم وكندة والأوس والخزرج وطئ وعبد القيس ومذحج وبكر بن وائل والنخع وخزاعة وفزارة وأسد وكنانة وقضاعة وبجيلة وذهل وغيرها كانت عدة علي في حروبه وجنوده في قتاله. وهذه كلها قبائل عربية صريحة، وإذا كان المصريون من أشد أنصاره حماسة وأكثرهم في تأييده اندفاعاً، وإذا كانت مصر هي البلد الذي هتف باسمه بين لدد الخصوم وتصبح الأهواء، ورشحه للخلافة دون هوادة ولا لين، فلا شك أن مصر كانت بلداً عربياً، والمصريون فيها كانوا - كما هم اليوم - من العروبة في الصميم. وأما المغاربة فما سمعنا لهم بين تلك الصيحات صيحة لنعرف أين كانت وجهتهم ومن كان رجلهم المرموق بقى أن يكون ما
عناه المؤلف أتباع الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه. والإمام وغيره سواء في هذا الشأن؛ فإذا كان في أتباعه الفرس وغير الفرس ففي أتباع غيره الترك وغير الترك مثلاً. وإذا شايعه غير العرب فقد شايعته كثرة من لباب العرب. ولا أختم القول قبل أن أتقدم إلى المؤلف العبقري بكل إكبار وتقدير.
حسن الأمين
حاكم النبطية
رابطة فكرية بين مثقفي البلاد العربية
الواضح أن الدعوة لتحقيق الوحدة العربية آخذة في التطور والانتقال من عالم النظريات إلى دنيا الحقائق والواقع
والنجاح الشكلي المنتظر لتحقيقها عامل مهم للتشجيع ولكنه ليس كل العوامل لأنه ظاهري أسمى
وإن أمتن معاني الوحدة: هو التفاهم العقلي، والتقارب الشعوري، والكيان المشترك بكل الوسائل الممكنة وهي كثيرة
وإني أعرض إحداها ليس لأنها أفضلها بل أنها أسهلها وأسرعها تنفيذاً. وسأعرضها كاقتراح قابل للتهذيب والتعديل
أقترح إيجاد رابطة فكرية بين مثقفي البلاد العربية بواسطة الاتصال الشخصي بالمكاتبة والتزاور. وليتم هذا تخصص الصحف والمجلات في مختلف الأقطار العربية قسماً منها للبحث في هذا الموضوع، وتنشر أسماء الراغبين في دخول هذه الرابطة مع شيء من المعلومات عن كل منهم ليسهل على الآخرين انتخاب من يرون فيه من الصفات الثقافية والفكرية ما يشجعه على التعرف والاتصال الشخصي به بالمكاتبة
ويمكن إيجاد مراكز أو نواد خاصة في كل بلد عربي لمؤازرة هذا الاقتراح وتوجيهه إلى الغاية السامية من هذه الوحدة وهذه الرابطة. ويمكن أيضاً بواسطة هذه المراكز أو الأندية تسهيل الرحلات والتزاور بين شباب كل قطر وآخر
فهذا الاحتكاك الفكري والتعارف الشخصي وما ينتج عنهما من تآلف شعوري صحيح وكيان
روحي واحد نصل إلى معرفة حقيقة المشاكل الأساسية في كياننا فنراها ونقترب بسرعة من حلها.
(الرملة - فلسطين)
أبو أكرم
الأستاذ صلاح الدين المنجد
ورد القاهرة فيمن وردها من رجال الأدب والفضل الكاتب السوري المعروف الأستاذ صلاح الدين المنجد. فعلى الرحب والسعة.