المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 549 - بتاريخ: 10 - 01 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٤٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 549

- بتاريخ: 10 - 01 - 1944

ص: -1

‌خلاف يستحق الاختلاف

للأستاذ عباس محمود العقاد

ذلك هو الخلاف الذي أشار إليه الفاضلان: الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، والأستاذ حسن الأمين حاكم النبطية في العدد الأخير من (الرسالة): أولهما فيما يرجع إلى كتابي عن (الصديقة بنت الصديق)، والثاني فيما يرجع إلى كتابي (عبقرية الإمام)

فالعالم الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي يقول: إنني حكمت العقل قبل النقل في مسائل التاريخ إلا في موضعين: أولهما ما ذكرته من قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد حمل إليها ابنه إبراهيم لترى ما بينهما من عظيم الشبه، فأنطقتها الغيرة بما أشرت إليه، ومقام السيدة عائشة ينبو عن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء

وثانيهما ما ذكرته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في حديث الإفك: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. ومثل هذا - كما يرى الأستاذ الصعيدي - لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يعرض لمن أقر بالزنا عنده أن يرجع عن إقراره فكيف يخالف ذلك مع عائشة؟. . . إلى آخر ما ورد في كلمة الأستاذ

ورأيي كما قال الأستاذ أن العقل مقدم على النقل، ولكن النقل لا يبطل إلا بالبرهان أو باستحالة القبول

وليس فيما لاحظه الأستاذ الصعيدي موضع لبرهان، ولا لاستحالة عقلية تقوم مقام البرهان

فالصحيح أن السيدة عائشة لا تكذب النبي عليه السلام في شيء من الأشياء، ولكن الذي حدث في أمر إبراهيم ليس فيه من تكذيب ينبو عنه مقام السيدة عائشة

رأى النبي عليه السلام شبهاً بينه وبين ولده إبراهيم وسأل السيدة عائشة في ذلك فقالت: إنها لا ترى شبهاً

فالتكذيب هنا إنما يكون إذا قالت: (إنك يا رسول الله لا ترى شبهاً بينك وبين إبراهيم)

أما أن تقول عن نفسها إنها ترى الشبه - وهي لا تراه - فذلك هو الكذب الذي ينبو عنه مقامها

ص: 1

ومن السهل جداً أن تفشي الغيرة عين المرأة المحبة فلا ترى في ابن ضرتها المحاسن التي تحبب تلك الضرة إلى رجلها العزيز عليها، فإذا غاب هذا الشبه عن عين عائشة فلا غرابة في الأمر ولا مخالفة فيه للطبائع الإنسانية والطبائع النسوية على التخصيص، وإذا قالت إنها لا ترى الشبه - وهي لم تره فعلاً - فقد صدقت في مقالها ونطق لسانها بما تادى إلى نظرها ولم تزد عليه

وقد ورد في الخبر أن السيدة عائشة كانت تغاضب النبي وتقول له (اقصد) في مقالك أمام أبيها، فيلطمها أبوها عقاباً لها. وليس كلام المغضبة أو الغيور بالكلام الذي يصدر عن تكذيب أو بغضاء.

أما أن النبي عليه السلام لا يصح أن يقول للسيدة عائشة: إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)

فهذا ما نخالف الأستاذ فيه كل المخالفة

إذ هذا المقال هو الذي يصح أن يقوله النبي عليه السلام في هذا المقام. وماذا فيه إلا أنه عليه السلام يدعو من ألم بذنب إلى الاستغفار؟ وأي عجب في ذلك وقد صحت فيه آيات من القرآن فضلاً عن الأحاديث النبوية؟

ويلاحظ أن النبي عليه السلام قال للسيدة عائشة: (إن كنت ألممت ولم يقل لها إن كنت اقترفت ذنباً) ولا يخفى أن الإلمام يناسب اللمم الذي هو دون كبائر الإثم والفواحش، وفيه يقول القرآن الكريم:(ولله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين حسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة)

وفي كلام النبي موافقة لهذه الآيات. وفي القرآن الكريم أن نبياً هم بأمر وعدل عنه. والهم والإلمام قريبان: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)

فدعوة النبي للسيدة عائشة أن تستغفر عن لمم ليست بالدعوة التي ينكرها العقل ويجزم باستحالتها، وليس فيها ما يناقض الآيات ولا الأحاديث. ومقطع القول بعد هذا كله في حديث الإفك أنه كما قلنا في كتاب الصديقة بنت الصديق (سخف لا يقبله إلا من يفتري بوشاية أو بغير وشاية، وسواء فيه منافقو المدينة ومن يصنع صنيعهم من المؤرخين في

ص: 2

العصر الحاضر لأنهم لا يؤمنون بنبي الإسلام. بل هؤلاء أنذل وأغفل لأنهم يؤمنون بمريم والمسيح وكان عليهم أن يعصمهم عاصم من هذا الإيمان)

أما الأستاذ حسن الأمين حاكم النبطية فقد عقب على قولنا في عبقرية الإمام أن أنصاره من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة وبين بني هاشم على الأخص وبين قبائل العرب جميعاً على التعميم)

فأحصى في تعقيبه أسماء القبائل العربية التي كان منها أناس في جيش الإمام، ثم قال:(بقى أن يكون ما عناه المؤلف اتباع الإمام بعد وفاته وانقضاء زمانه، والإمام وغيره سواء في هذا الشأن، فإذا كان في اتباعه الفرس وغير الفرس ففي اتباع غيره الترك وغير الترك مثلاً، وإذا شايعه غير العرب فقد شايعته كثرة من لباب العرب)

والقول الأخير هو الذي نخالف فيه الأستاذ الفاضل، مع شكرنا إياه على جميل تحيته وكريم ثنائه

فالمقصود بالأنصار هم شيعة الإمام الذين يشايعونه خاصة ولا يشايعون غيره

إذ العرب الترك والأمم الأخرى التي شايعت كل خليفة في زمانه ليسوا بأشياع ذلك الخليفة على التخصيص، ولكنهم أشياع الدولة ومن يقوم عليها من الخلفاء واحداً بعد واحد، وليسوا مع ذلك بأعداء لعلي كعداوة بعض الشيعة لمن ينازعهم الرأي في حق الإمام وتقديمه على جميع الحقوق

ومتى كان هذا هو شرط الأنصار الذين يختص بهم الإمام ولا يختص بهم غيره فلا جدال في كثرتهم بين العرب والشعوب الأخرى، ورجحانهم على شيعة الإمام من العرب ولا سيما أقرب الناس إليه من بني هاشم ومن قريش

وهذا موضع العبرة في تلك الملاحظة:

موضعها أن الإمام قد ظفر بهؤلاء الأنصار ممن لا يشايعونه عصبيته، لأنه قام بالأمر على الخلافة الدينية، ولم يقم به على العصبية الجنسية أو النزعة الوطنية

وهذه هي الخصلة التي ينفرد بها الإمام بين الخلفاء من قديم وحديث، فليس في الأئمة جميعاً من كان الانتصار له مذهباً في الدين، وكان الدائنون بهذا المذهب أرجح عدداً من الدائنين به في الشعوب العربية على اختلاف الأقطار، فيما خلا الإمام

ص: 3

وليس بين الأئمة جميعاً من له نصراء في الشعوب الأخرى يساوون نصراء علي بين المسلمين من غير العرب، سواء في الزمن القديم أو الزمن الحديث

وهذا الذي عنيناه، وهو جدير بالتقدير والتعليل

وربما استتبع الكلام في هذه الكتب أن نشير إلى الذين ذكروها فقالوا عنها إنها لم تأت في التاريخ الإسلامي بجديد

فإن كان الذي يعنونه بهذا القول أن موضوع الكتب ليس بجديد، وأننا لم نخلق حوادث العصر النبوي ولا حوادث عصر الخلفاء، فنحن معهم فيما يقولون

ولكن على هذا الاعتبار لا يوجد في الدنيا ولن يوجد فيها أبداً كتاب جديد أو رأي جديد أو علم جديد

فالكيمياء الحديثة ليست بالجديدة، لأن الأجسام التي هي موضوع الكيمياء اليوم وموضوعها بالأمس لم تخلق في هذا العصر، ولم تزل على وصفها الذي رآه الأقدمون

والجغرافية الحديثة كذلك ليست بالجديدة، لأن القارات والبحار والأنهار والكواكب والرياح والأمطار ليست من صفة الجغرافيين المتأخرين، وليس أحد منهم بأقدر على خلقها من الجغرافيين السابقين

وقل مثل ذلك في علم الفلك وعلم الطبيعة وعلم الطب وعلم القانون وسائر العلوم والفنون

أما إن كان الذي يعنونه بقولهم إننا كررنا في كتبنا ما تقدم في كلام المؤرخين قبلنا فدون ذلك وتقصر الألسنة، ودون ذلك ويفتح الله ثم يفتح الله. . . إنهم يقولون إذا أراحهم القول، ولكن لن يريحهم يوماً أنهم مسموعون أو مصدقون!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌2 - أغنية الرياح الأربع

لشاعر الحب والجمال علي محمود طه

للأستاذ دريني خشبة

تنطلق الزوجة الحسناء داخل الحانة برمة، ثم يقبل البحارة، فيأخذون في هرج ومرج، تزيدهما النشوة ضجة واصطخاباً، فإذا سألوا من صاحب الحانة وقدم لهم أرسطفان نفسه، عبثوا به وضحكوا منه:

أنظر إلى وجهك في المرآة

وصف لنا عجيبة الحياة

من أي غاب يا وحيد القرن

وما اسمك الصحيح؟ لا تكنى

فيقول لهم: أرسطفان. . . فيقول أحدهم

. . . علَمُ مغلوط

صحته وشكله المظبوط

تنبئ عنه هذه الخيوط

أرسطفان أنت أخطبوط!!

وهكذا يستغرق الجميع في ضحك متصل، تزيده القيان الحسان اللائى صحبن البحارة بهجة وإيناساً ومرحاً. ثم تأخذ إحداهن في رقصة بارعة يدخل بعدها بطل الدرامة الرهيب (أزمردا) فيأخذ مكانه في ناحية، ويسود الحانة جو من الوجوم لا يفيقون منه إلا على إنشاد باتوزيس الذي يتغنى لهم قصة تلك الآشورية التي تعشقها فتى ملاح، ووقع هو الآخر من نفسها فدعته إلى سفينتها وانطلقا يذرعان البحار عامين سعيدين حتى فرقت بينهما يد الأقدار حين نزل الفتى إلى الشاطئ للصيد فأتي قرصان فصاد حبيبته وذهب بها إلى حيث لا يدري العاشق المسكين. . . وروى أن هذه الحسناء قد تزوجت من بعض الآلهة فأنجبت منه (ربات الرياح الأربع)

فإن سمعتم في صدى الأمواج

أو لحن شاديكم

أغنية تهفو على الأثباح

حيرى تغاديكم

فهي لها، وهي تناديكم

فإذا سأله البحارة عن هذا القرصان الفاجر أين مقره، قال باتوزيس إنه يجلس بينهم كواحد منهم. . معرضاً بأزمردا. . . أزمردا القرصان الهائل الذي دوخ أطراف البحر، وزلزلت سطواته جزائر إيجة وشطئان مصر، وأحرز من خطف الحسان ثروة طائلة وبأساً شديداً. .

ص: 5

فيظن البحارة أن باتوزيس يمزح، ثم ينصرفون من الحانة إلى ملذاتهم ومعهم حظاياهم بعد أن ينقدوا الخمار ثمن شرابهم. . . ويقبل أرسطفان على الشاعر المصري مسروراً باشاً لأنه كان روح هذه الليلة بشعره وغنائه وموسيقاه، ويقدم إليه كأساً راوية فيأمر له (أزمردا) بأخرى، ثم يأخذان في حديث طويل نعرف منه انهما كانا صديقين منذ زمن طويل يعملان في البحر ثم افترقا، وأن أزمردا يعمل الآن في القرصنة والاتجار في سوق الرقيق الأبيض، ثم يعاتبه لتعريضه به بين أولئك السكارى، وما غمره به في قصته التي رواها لهم. . . ويحدثه باتوزيس حديث (ربات الرياح الأربع) الذي سمعه في آخر زيارة له في طيبة المصرية:

فتيات أربع يظهرن في

كل عام صوراً مختلفات

رائعات يتخطرن على

هذه الأمواج مثل النسمات

فوق شط رمله من ذهب

لؤلؤي الماء درّي الحصاة

من يحزهن يحز ملك الثرى

ومقاليد البحار الطاغيات

فإذا جادله أزمردا في أمرهن أكد له باتوزيس حقيقتهن، فيعرض عليه أزمردا أن يعيش معه في سفينته

تعال في سفينتي وكن أخي وساعدي

وذق مباهج الحياة عذبة الموارد

ثم تسمع ضجة عند باب الحانة، وتدخل جماعة من الشذاذ وعلى رأسهم زعيمهم أزيرو ومعه حظيتان من حظاياه لا تلبثان أن تخرجهما حميا الخمر عن رشدهما، فتشاجر إحداهما الأخرى فيصفع أزيرو إحداهما ويطرحها أرضاً فينتصر لها أزمردا ويرفعها بيديه إلى كرسيها فتثور ثائرة ازيرو ويمتشق حسامه ليغمده في صدر ازمردا. . . فينتفض ازمردا كالأسد، ويكشف عن نفسه ويضرب بسيفه سيف أزيرو فيكسره. . . ويذهل الجميع حين يعرفون أنهم في حضرة القرصان الأكبر، وترتفع صيحة من جوانب الحانة يرددها الجميع مشدوهين:

أز. . . مر. . . دا

وينزل ستار الفصل الأول!

ص: 6

ويتألف الفصل الثاني من منظرين. . . من أروع ما وصل إليه خيال شاعر - لا في مصر وحدها، بل في الدنيا قاطبة! وهكذا أقولها غير عابئ بجميع الابتسامات التي أراها الآن ترقص على شفاه الكثيرين من قرائي، وعلى أرنبات أنوفهم!! ومن الخطر الأدبي تلخيص هذا الفصل. . . فهو وحدة فنية كاملة يجب ألا تشوه بالتلخيص. وحسبك أن تعلم أن سفينة أزمردا ترمي في ميناء رفح المصرية قبيل الشروق، وأن أزمردا ينزل إلى الشاطئ وحده فيلقى ربات الرياح الأربع يتواثبن راقصات على الرمال النائمة، فيغريهن بزيارة سفينته ويمنيهن الأماني، فإذا طلبن إليه برهانه أبرز لإحداهن وهي حروازا، ربة ريح الشرق، ياقوتة حمراء تبهر العين وتذهب باللب. . . ثم ينتصر بيان أزمردا، فيرضين بزيارة سفينته آخر الأمر. . .

ونرى في الفصل الثالث جانباً من سفينة أزمردا، فهنا مخدع الشاعر باتوزيس، حيث يوقظه العبد ماتوكا ويقدم إليه طعام الإفطار، ويأخذ معه الشاعر في حديث عن حظوظ بني الإنسان، ندرك منه أن ماتوكا لا يبغي بحياة الرق بدلاً

سفينتي هي الحياة والغد المؤمَّل

قد طاب لي في ظلها العيش وطاب المنزل

ومن كساء سيدي الربان هذا المخمل

ومن شرابه أعل هانئاً وأثمل

أي حياة لي من هذى الحياة أجمل؟

وينصرف العبد، ويدخل أزمردا إلى بهو مجاور وفي صحبته ربات الرياح الأربع فما يلبثن أن يوجسن خيفة ويستربن فتطمئنهم حروازا وتذكرهن أنهن آلهة. . . ويمضي أزمردا ليخبر باتوزيس الذي لا يصدق إلا بعد لأي. . . . فإذا سأله عم يصنع بهن وهن آلهة، قال:

أسخرهن قوى ينتظمن

شراعي ما قادني مطمعُ

وأغزو بهن منيع الثغور

وأجني الثراء وأستمتع

فيسأله باتوزيس: أتطمع في ملكوت السماء؟ فيقول أزمردا. . . أو يقول علي محمود طه. . . بيته الخالد الذي هو أثمن من ديوان:

ص: 7

خُلقنا غرائز منهومةً

فليست تروَّي ولا تشبع!!

ويوشك باتوزيس أن يجن جنونه لهذا القرصان الجريء المغامر الذي لا يبالي أن يخطف حتى الآلهة. فيثور على أزمردا ويثور أزمردا به، فينطلق باتوزيس، ويسمع أزمردا أصوات ربات الرياح الأربع فيقصد إليهن ليسري عنهن، ثم يدخل ماتوكا العبد ليدعو سيده لتسكين ثائرة إحدى المخطوفات فيذهب معه، ويبرز باتوزيس، فإذا سألنه من هو قال:

لا وقت للسؤال من أنت هنا ومن أنا

أنتن في سفينة القرصان، لا وقت لنا

ويخبرهن خبر أزمردا فيطمئنه، ويدخل أزمردا متقلداً سيفه فيرى باتوزيس ويدرك أنه قد فضح سره فيهم بقتله لولا أن تحول الربات بينهما ويأخذن في السخرية بأزمردا، نيهم بقتل باتوزيس ثانية فتمد حروازا ذراعها السحرية فيجمد الدم في عروق أزمردا ويسقط السيف من يده، ثم يرجف بدنه رجفاً شديداً وتغرورق عيناه بالدموع التي تخنق عبراتها صوته ويطلب الصفح على أن يكون خير عباد الله براً وصلاحاً واستقامة. ثم ترق الربات له ويسمعن ضجة، وإذا الحسناء التي كانت ثائرة بالداخل مقبلة، فتلتفت إليها حروازا ويبطل سحر ذراعها فتدب الحياة في أزمردا الذي يتناول سيفه مرة ثانية ويهم بالغدرة مهدداً الربات وكل الحاضرين بالقتل، فتمد حروازا ذراعها ثانية فيجمد الدم في عروق حروازا من جديد، ويسقط السيف من يده، ثم ترفع الربات أيديهن وينفخن. . . فإذا ريح صرصر عاتية تحمل أزمردا فتقذف به في أعماق اليم

وبعد. . . فهذا سحر وشعر وجمال وفن!

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 8

‌كتب وشخصيات

زهرة العمر. . . لتوفيق الحكيم

للأستاذ سيد قطب

مدرسة توفيق الحكيم الفنية

ترددت قبل أن أكتب (مدرسة توفيق الحكيم) فالواقع أن كلمة (مدرسة) تعني في نفسي شيئاً كثيراً؛ وليست هي مجرد الأسلوب الفني وطريقة التعبير؛ إنما هي هذا وشيء آخر، هي طريقة الإحساس والتفكير؛ بل هي طريقة حياة حين تؤخذ بمعناها الواسع الأصيل.

وليس من الضروري أن يكون هناك أتباع وتلاميذ، كي يتحقق معنى (المدرسة)، فتلك مسألة تأتي مع الزمن؛ إنما المهم أن توحد العالم الواضحة المستقلة التي يلتقي عليها التلاميذ والأتباع حين يوجدون في زمن قريب أو بعيد.

هذه المعالم هي سمات إنسانية وفكرية ونفسية تجتمع أصولها لتلاميذ المدرسة الواحدة ثم تفترق ألوانها وأنماطها حسب الأمزجة الخاصة والملكات الفردية. وتتبعها طريقة التعبير، أي الأسلوب الفني الجامع لتلك السمات.

فهل نستطيع بعد هذا البيان أن نقول: إن لتوفيق الحكيم مدرسة؟

نعم نستطيع! ولكننا نحتاج بعدها إلى التحفظات المحددة لحقيقة ما نعنيه. فتوفيق صاحب أسلوب فني واضح السمات - هذا ما لا جدال فيه - وهو كذلك صاحب طريقة في الإحساس والتفكير، ولكن هذه الطريقة ترجع إلى مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي، أكثر مما ترجع الطبيعة العامة وهذا كلام يحتاج إلى التوضيح!

يجنح توفيق الحكيم إلى أن يعيش في داخل نفسه أكثر مما يعيش في خارجها، فلا تهمه الحياة المنطلقة في الخارج كما تهمه الحياة التي يصورها خياله كما يريد، وهنا تولد وتعيش تلك المخلوقات الفنية التي يرسمها على هواه من أمثال شهرزاد وشهريار وبيجماليون وعنان ومختار. . . الخ.

فما منشأ هذا؟ منشؤه هو إشفاق توفيق من الحياة، وضعف الحيوية في كيانه الجسدي. وقد يكون هذا الضعف علة ذلك الإشفاق، ولكن مما لا شك فيه أن هناك أسباباً أخرى في نشأته

ص: 9

الأولى، يمكن أن يقف عليها من يقرأ كتابه (عودة الروح)، وإلا فالضعف الجسدي كثيراً ما يكون سبب دفعة حيوية في الفكر، كما في (نيتشة) مثلاً

وليس بنا في هذا المقال القصير أم نقوم بدراسة جسدية ونفسية؛ ولكن حسبنا أن نشير إلى هذه الأسباب لتوضيح ما قلناه من أن طريقة توفيق في الإحساس والتفكير مردها إلى مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي.

فالذين يشبهون هذا الفنان في مزاجه وتكوينه هم الذين سيكونون أتباعه وتلاميذه في هذه الحياة الفكرية الباطنة التي ترسم الشخوص رسماً فنياً خاصاً. ولا بد لكل فنان من قسط من هذه الحياة الباطنة ينقص أو يزيد. ولكن يبقى أن يوهب هؤلاء التلاميذ - كما وهب - أسلوباً قوياً فنياً في التعبير، وأداة فنية ناضجة في الحوار، ليكونوا تلاميذ حقيقيين. وهو سالم يوجد بعد، على الرغم من المقلدين الكثيرين في مصر وفي بلاد الشرق العربي الذين حسبوا الحوار هو كل موهبة توفيق الحكيم، وحسبوا استيحاء الأساطير هو كل ما يميزه بين الفنانين!

نعم إن الطاقة محدودة، وقد يأتي - في هذا المجال - من هو أكبر طاقة وأبعد غوراً من توفيق الحكيم؛ ولكن سيبقى له فضل السبق، وابتداع الطريقة وإكمال الأداة

في هذه الحدود نستطيع أن نقول: إن لتوفيق الحكيم مدرسة؛ ولكننا نعود فنرد إليه حقه كاملاً حين نثبت له النضوج الكامل في أسلوبه الفني عامة والقوة البارعة في حواره على وجه الخصوص. هنا موهبة متفردة لا شك فيها، مهما قيل في الطاقة التي يعمل بها وفي الموضعات والتي يتناولها وبعد فما العنوان الذي يمكن أن نضعه لتلك المدرسة أو لهذه الطريقة؟

هو عنوان (التنسيق الفني)

يقول توفيق الحكيم في إحدى رسائله إلى (أندريه) في كتابه (زهرة العمر)

(إن فن الإغريق هو تجميل الطبيعة إلى حد إشعارها بنقصها. . . لكأنهم يريدون أن يقولوا للطبيعة: انظري. . . كان ينبغي أن تصنعي هكذا!. . .)

ثم يقول: (إن فن مصر القديمة هو تحد صارخ للطبيعة؛ فكأنهم يقولون للطبيعة انظري. . لا شأن لنا بك ولا بمخلوقاتك، إننا نستطيع من مخيلتنا ومن تفكيرنا أن نخرج مخلوقات

ص: 10

أخرى غريبة عجيبة لم تخطر لك على بال. . .)

ويخيل إلى أن فن توفيق الحكيم هو تنسيق للطبيعة وتهذيب، بالنقص هنا وبالزيادة هناك، حتى يستوي له خلق فيه من الطبيعة مشابه ولكنه منسق على نحو خاص يرضي مزاجه الفني الذي يجد مجاله في مخلوقات الفن المنسقة على طراز مطلوب. . . وكأنه يقول للطبيعة: إنك في منتصف الطريق، ولا تزالين تخلطين بين الجمال والقبح وبين الرذيلة والفضيلة وبين الفكر والغريزة. . . إلى آخر هذه الأمشاج؛ فدونك مخلوقات أخرى مصفاة على نحو خاص، ذات اتجاه موحد لا اضطراب فيه ولا اختلاط. . .!)

وهذه المخلوقات التوفيقية يتفق لبعضها الجمال الفني فيغنيها عن جمال الحيوية ويضعها أنداداً مقابلة لمخلوقات الطبيعة؛ ويخطئ بعضها التوفيق فتبدو باردة هامدة، ولكنها لا تهبط إلى الموت أو الابتذال

وهنا نجدنا ملزمين بأن نرد لتوفيق حقه مرة أخرى فننص على أن هذا الاتجاه لا يستغرق جميع أعماله؛ فهناك أعمال تنبض بالحياة الطبيعية والحركة الحيوية - على نحو من الأنحاء - كيوميات نائب في الأرياف، ورصاصة في القلب، وعودة الروح، والزمار، والعوالم، وراقصة المعبد، وعصفور من الشرق؛ وهي تؤلف جانباً كبيراً من أعماله الفنية المطبوعة بطابعه الخاص

وفي بعض هذه الأعمال تتهيأ الحبكة الفنية والحركة الحيوية، إلى جانب الدعابة الفكهة والسخرية العميقة. وبخاصة (يوميات نائب في الأرياف والزمار) وفيهما معالم واضحة للفن القومي المنشود!

ثم نعود إلى اصطلاح (التنسيق الفني) الذي جعلناه عنواناً لمدرسة توفيق الحكيم فنقول: إننا نعني به معنى آخر بجانب (تنسيق الشخصيات) نعني به معنى في طريقة العرض، في الأسلوب الذي تعرض به الشخصيات والحوادث والأفكار، فهذه الطريقة موحدة سواء كان المعروض قصة أو تمثيلية أو فكرة في مقالة. ولسنا نعني به ما يعبرون عنه بالحبكة، فهو أوسع من ذلك مدى. إنه (التصميم الهندسي) للعمل الفني كله، بحيث يبدو متساوقاً منسقاً مطرداً، وبحيث يتهيأ هذا العمل الفني كله في ذهن الفنان قبل أن يبدأ اللمسة الأولى، كما يضع المهندس تصميم مشروع كامل من المشروعات، ثم ينفذه بعد ذلك حسب التصميم.

ص: 11

وما قرأت عملاً من أعمال توفيق إلا كان هذا (التصميم الهندسي) واضحاً فيه كل الوضوح

ولعل أوضح ما يوضح ذلك هو (زهرة العمر). فهذا كتاب مكون من مجموعة رسائل إلى صديقه أندريه؛ وليس مطلوباً في (رسائل) متفرقة أن تؤلف موضوعاً متناسقاً. فإذا هي كانت كذلك، كان هذا دليلاً على أصالة ملكة (التنسيق الفني)، وظهورها حيث لا يرتقب منها الظهور

وتقرأ هذه الرسائل في تتابع فتلحظ عملية التنسيق الداخلي، وتحس شيئاً فشيئاً أنك أمام قصة: قصة مخلوق حقيقي أو روائي، يسير في الحياة وكأن يداً خفية تسوقه إلى مصير مرسوم، وكلما أراد لنفسه أو أراد له أهله أو أرادت له ظروفه أن يحيد عن هذا المصير ردته هذه اليد الخفية إلى طريقه المرسوم!

شاب يريد له أهله الوظيفة بعد الليسانس فلا يوفقون، ويبعثون به إلى أوربا للحصول على الدكتوراه، فيجاهد في سبيلها بما يستطيع - بعد أن يغرق في الدراسات الفنية إلى أذنيه -

ولكن تخونه ذاكرته في الامتحان، وتقيض له الحياة متع المرأة الحية جميعاً - مع ساشا الجميلة وسواها - فيمل هذا المتاع ويتعلق بالمرأة الأخرى التي طردته من جنتها بعد أسبوعين وتتركه يتعذب ويتلظى (لأن تعلقه بها جزء في الطريق المرسوم طريق الفن الملعون) ويعود فيوظف وينجح في وظيفته ويأخذ أهله أو يأخذ المجتمع في تكبيله بقيد النجاح العملي ثم بقيد الزواج. . . وهنا يستجمع المؤلف كل قوته الروائية في المشهد الأخير وهو يستعد للوثبة النهائية وللخلاص من جميع القيود؛ فيجمع هذه القيود في مشهد واحد في الرسالة الأخيرة، قيد الوظيفة على أتمه، وقيد الزوجية في إبانه، وقيد المجتمع في احتقار الفنون؛ وفي اللحظة نفسها يبدو كأنه نضج للفن واهتدى إلى سره وأمسك بالأسلوب الذي طال بحثه عنه. . . ثم يسدل الستار بين الهتاف والتصفيق! وبطل القصة أشبه بأبطال الروايات، بل هو أشبه ما يكون (ببجماليون)!

هذا تنسيق يدل على أصالة في فن التنسيق، وهو ظاهره ملحوظة في (زهرة العمر) كل الظهور، وهي كذلك ملحوظة في (يوميات نائب في الأرياف) بمثل هذا الوضوح. وقد اخترت هذين العملين لأنهما ليسا قصة وليسا تمثيلية. فإذا توافر لهما هذا التناسق الكامل، فما أولى القصص والتمثيليات بأن يتوافر لها من أيسر سبيل. وفي (زهرة العمر) رسائل

ص: 12

تحوي كل منهما قصة صغيرة كاملة مثل (قصته مع ساشا) يبدو فيها التناسق في أعلى مستواه

ومعنى ثالث نعنيه (بالتنسيق الفني) هو إحالة الحوادث والملاحظات إلى مواد فنية خامة في (الأستوديو) الدائب العمل! فالناس يعيشون الحياة وتوفيق الحكيم يشفق أن يعيشها وينزوي عنها مرتداً إلى نفسه ليحولها إلى عمل فني هناك، وكلما لحظت عينه أو نفسه مشهداً من مشاهدها لم يكن همه أن يستمتع بهذا المشهد وأن يزاوله ويضطرب فيه، ولكن كان همه التقاطه لأنه مادة صالحة (للأستوديو) اللعين! ومرد ذلك إلى مزاجه وتكوينه كما سلف. وكثيراً ما يكون انحراف المزاج مزية للفنان الذي يعرف كيف يحيل كل ما يصادفه إلى مادة فنية. وتوفيق من خذا القبيل. وقصة (ساشا) في (زهرة العمر) من الأمثلة على ما نقول. وغلطة هذا المزاج هي اعتبار الفن مقابلاً للحياة لا متفاعلاً مع الحياة؛ ولكن ليس من الضروري أن توافق توفيق في مزاجه لتستسيغ فنه فقد تخالفه في الرأي والإحساس، ولكنك تجد المتعة في الأثر الناشيء عنهما في الفنون

ثم نلخص إلى الحديث الخاص عن (زهرة العمر) فما قيمة هذا العمل الأخير؟ إن هذا الكتاب يستمد قيمته التي ترفعه إلى مستوى أحسن أعمال توفيق الحكيم من ثلاثة أصول

من اللهجة الإنسانية الأليفة التي صيغت بها معظم الرسائل من الألم والشك والجهاد والقلق والاضطراب والتذبذب المستمر بين الحالات النفسية المختلفة. . . هذه اللهجة التي تعقد أواصر الصداقة بين المؤلف وبين القارئ، وتشعرهما معاً أن بينهما صلة إنسانية، وأن الإنسان ضعيف أمام القوى الخفية التي تسيطر على أقدار الناس وخطواتهم في هذا الكون الكبير!

ومن (التنسيق الفني) الذي يجعل من هذه الرسائل الواقعية وحدة مطردة في سياق روائي، والواقع حين يكتسب التنسيق الروائي تجتمع له بساطة الصدق وجمال الفن، وهذا واضح في (زهرة العمر) لمن يقرؤه متنبهاً إلى التنسيق الفني الخفي الملحوظ!

ومن البيان الحي لمرحلة التكوين الفني الصحيح، حتى ليصح أن يطلق على الكتاب (سفر التكوين). فالطريق إلى النضوج الفني طويل، ووعر، ومليء بالأشواك، والفن عسير، والذي يثبت إلى النهاية هو الذي يحق له أن يتطلع إلى النجاح بعد الجهد الجهيد. . . هذه

ص: 13

خلاصة ما يشير إليه المؤلف في (زهرة العمر) وبدلاً من أن يلقيه نصائح وعظات، عرضه مصوراً في حياة إنسانية، فكان أقرب إلى النفوس

وإذا اجتمعت هذه المزايا الثلاث لعمل أدبي كانت حسبه ليعد عملاً فنياً ذا قيمة. ولكنها لا تجتمع وحدها في هذا الكتاب، فهناك الومضات الفكرية والإشعاعات الشاعرية التي لا بد منها لكل عمل حتى تسلكه في عالم الفنون

وعيب هذه المقالات المحدودة المجال أنها لا تتسع للنموذج والمثال، فليعد القارئ إلى أعمال توفيق الحكيم وبيده هذا المفتاح الذي قصرنا عليه المقال!

(حلوان)

سيد قطب

ص: 14

‌الهوى تحت النجوم

للأستاذ صلاح الدين المنجد

(نَشْوى) يا حبيبتي الجميلة!

يا فراشة مزركشة فرَّت من الفردوس

يا قطرة ندى تتأرجح حالمة فوق ورق الورد

انظري! فالنجوم الزُّهر يسبحن في البحر، كالحسان يتغامزن ويتضاحكن، ويتراشقن

بالنور والسناء

وعبدُنا الزنجي يختلس إليهن النظرات

ووادينا يضحك بالأنس، ويندى من العطر، ويشرق بالضياء!

والنسيمات رشيقات يرفرفن كالعصافير، ويقبلن الأزاهير!

فاقتربي، نلذ الهناءة والنعيم

لعلك ترأبين الصدع، وتواسين الجرح، وتخففين الهموم

اقتربي، فالهوى حلو الجني، تحت النجوم!

نشوَى يا عبقة الروض الجني، وحُلُمَ العمر السعيد

شفتاك ذابلتان، ونداهما في شفتي

عيناك فاترتان، والهوى في غَزَلي

أرأيتِ عصفور الحقول، يغدو مع الفجر الضحوك، ليسرق القوت الهني

إن شئتِ كنتُ اليوم عصفور الحقول

وقطفتُ من فمك الشهي زهر الثغور

لهّابة كالنار، تحيي الهوى، تنسى الهموم.

اسمعي همسات الرمان اسمعي

تعالي نجعل هوانا دماً كزهراته، أخضر رفافاً كورقاته، متصلاً كالليالي والأيام، ناغماً

كترانيم الحمام، صافياً كدموع الغمام

اقتربي، فعبدنا الزنجي يحرس الوادي، ويرعى الجبال

والهوى حلو الجني، في ليلك العطري يا ذات الدلال

ص: 15

نشوىِ! ياُ حلما زوّقته بالفتون

ودميةً صنعتُها من الوهم والظنون

لمَ يشحب الوجهُ البهيّ، ويَرْعش الثغر الشهيّ، إذا رأيتني؟

مالك مرعوبة يا نشوى؟

أهذا حفيف الصنوبر الحزين، في الغاب، أم آهات صدرك؟

وتلك ومضات البرق الجريح، فوقنا، أم خفقات قلبك؟

لقد تمنينا المنى حتى مللناها

فتعالي نسحقها بالوصال، ونقتل الخوف باللقاء، فنصبح أقوياء كالظفر، بسامين كالنور، تياهين كالأبطال

اقتربي

فيا هناء من ارتوى من حبَّه تحت النجوم!

اذكري ليلة الكرم يا نشوى

ليلة كنا نعد النجوم

وكلما قلتِ هذى نجمة

قلتُ هذى قبلة

وضممتُك إلى صدري، وروَيتك من حبي

لقد كنت ترعشين بين ذراعيَ وتبسمين، وتتلهين عن قُبَلي وتحُلمين

وكان قلبي يعربد تارة ويرتجف ساعة

فهمست في أذنك الرهيفة: (سيبقى حبنا متوقداً كهذه النجوم يا نشوى، فإذا غيّبني الثرى

يوماً، فاذكري حبي إذا زرتِ الكروم، واذكري قبَلي إذا رنوت إلى النجوم)

فرقرقت في عينيك الدموع، وقلتِ: (سأذكر حبك، وقبلك، كلما نظرت إلى النجوم أو

وطئت الكروم)

فمالك الليلة صامتة يا نشوى؟

لا ترعبي، فالهوى حلو الجني، تحت النجوم!

أين قلبك الشارد يا نشوى؟

ص: 16

أيضل، وهنا يرف النور؟

اقتربي، ويحك اقتربي

عمرنا شعلة، الفجر يطفئها وهوانا ومضة، القبر يرعشها

فَلِمَ تبكين وبم تحلمين؟

اقتربي نلذ لذة عاصفة، فنطيش بها كالفراش بين الزهور، ثم نلفظ الروح، ونرتمي

كالصدفات الفارغة، على حفافي النهور

يا هناء من ارتوى من حبه تحت النجوم!

(القاهرة)

صلاح الدين المنجد

ص: 17

‌دراسة ومقارنة

الطبيعة توحي

والشاعر ينطق

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

الطبيعة مصدر إلهام عظيم في الأدب، وللشعر فيها مجال فسيح. افتن بها الشعراء، وتردد إليها الملهمون من أهل الفنون، فوجدوا بين أحضانها منفسحاً من القول ومتسعاً من الكلام. ووجدوا في مختلف مظاهرها صوراً تستحق التسجيل؛ فانتضوا أقلامهم، وجردوا ريشتهم، يجمعون الألوان من هناك وهناك. ويؤلفون بين الظلال، ويوانمون بين الأضواء، ويخرجون من ذلك لوحات شعرية تمتاز من لوحات المصريين.

ولاشك أن اللوحة التي يخرجها الشاعر الموهوب يكون فيها من صدق الأداء وبراعة الوصف وإظهار الدقائق والتفاصيل وحرارة الإحساس ما لا يكون في لوحة يخرجها رسام أو مصور

ولقد اولع الشعراء من قديم بالطبيعة؛ فأووا إليها وصوروها في شعرهم تارة باسمة، وأخرى عابسة ساخطة. ووصفوها على اختلاف الحالين كما فعل هوميروس في الإلياذة، فلم يجعلها ملحمة فقط للحروب والغارات؛ ولكنها كانت معرضاً لألوان شتى من الطبيعة.

ولم يغفل شعراء العرب في الجاهلية وصف الطبيعة؛ ولكن اللوحات التي خلفوها لنا ليست من التنوع والكثرة وخصب الألوان وغناها بحيث تستحق أن نطيل الوقوف عندها والتحدث عنها. ولكنها على كل حال لوحات صادقة التصوير لتلك البيئة.

ولو قد أطال الشاعر الجاهلي تأملاته إلى الطبيعة، وأمعن التفكير في ظواهرها، وعود نفسه السكون إليها والأنس بها والتحديق فيها لأخرج لنا صوراً رائعة من تلك الفيافي الممتدة، والرمال المتناثرة والصخور العارية، كما فعل الشاعر (توماس هاردي) في بعض قصصه وفي كثير من أشعاره. فقد صور منطقة (المور) في جنوبي إنجلترا تصويراً صادقاً؛ وهي إقليم مملوء بالصخور الموحشة، والأشواك الجافة، والوحشة الرهيبة. ولكن ريشة (هاردي) استطاعت أن تقلب وحشة هذا الإقليم أنساً، وأن تخرج من تلك الطبيعة

ص: 18

الجافة الخشنة ألواناً تعجب النفس. لهذا تهافت السياح والزوار على مشاهدة هذا الإقليم بعد ما قرءوا رواية هاردي التي عنوانها (عودة المواطن)

وقد ترتبط ذكريات خاصة ببعض الأمكنة أو ما دار فيها من حوادث، ويحن إلى الماضي الذي انطوى في غبار اليوم، كما فعل (امرؤ القيس) في يوم الغدير بدارة جلجل. فقد أشار إلى ذلك في بيت واحد من معلقته التي تبلغ الثمانين بيتاً. والبيت هو:

ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح

ولا سيما يوم بدارة جلجل

وكان حق امرؤ القيس أن يقف طويلاً عند هذا الغدير، لا أن يمر عليه مروراً عابراً سريعاً؛ ولكن شاعراً فرنسياً كان له مثل هذا الموقف فصنع قصيدة عنوانها (البحيرة). والبحيرة هي بحيرة ليمان بسويسرا، والشاعر هو (لامارتين)

والبحيرات والغدر والبرك كانت وحياً وإلهاما للشعراء في كل أمة وجيل؛ فامرؤ القيس يشير إشارة سريعة إلى دارة جلجل وغديرها؛ والبحتري يصف بركة المتوكل على الله العباسي في قصيدة واحدة، ويطول فيها نفسه ويجود فيها وصفه،

فيقول:

تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة

كالخيل خارجة من حبل مجريها

فحاجب الشمس أحياناً يضازحكها

وريّق الغيث أحيانا يباكيها

إذا المجوم تراءت في جوانبها

ليلاً حسبت سماء ركبت فيها

والسرى الرفاء الموصلي الذي خرج من الموصل إلى حلب واتصل بسيف الدولة بن حمدان له شعر جميل في وصف الغدر والبرك والمياه. وقل أن تجد لشاعر عربي ما للسرى من الشعر في البحيرات كثرة إجادة.

ولعبد الله بن المعتز الشاعر الحسن التشبيه الكثير الوصف شعر في البحيرات، إلا أن الصنعة تغلب عليه وتعمل التشبيه يلوح فيه. ولو أنه أطلق الوصف على سجيته، وأرسله على فطرته لكان شعراً تصويرياً للطبيعة التي أولع ابن المعتز بتصوير كثير من مظاهرها. فإذا سمعته يقول:

غدير ترجرج أمواجه

هبوب الرياح ومر الصَّبا

إذا الشمس من فوقه أشرقت

توهمته جوشنا مذهبا

ص: 19

بدا لك أثر الصنعة. وأين هذا من قول البحتري في المعنى نفسه:

كأنما الفضة البيضاء سائلة

من السبائك تجري في مجاريها

إذا علتها الصبا أبدت لها حُبكا

مثل الجواشن مصقولا حواشيها

ولقد أوحت بحيرات سويسرا الجميلة إلى كثيرين من الشعراء أمثال (لامارتين الفرنسي)(واللورد بيرون)، (وشيلي) الإنجليزيين. واللورد بيرون له في رحلته الأولى إلى جنوبي أوربا أشعار طبعها ما بين سنتي 1812، 1818. وفيها إشارات جميلة إلى ذكرياته السعيدة على بحيرات سويسرة

وفي هذه المناسبة أستطيع أن أذكر اسم الكاتب الأمريكي (هنري دافيد ثورو) الذي نزح من المدينة الصاخبة سنة 1845 إلى غدير (والدن) وغابته الفيحاء؛ ووجد في زقزقة الطيور، وطنين الحشرات، وخرير المياه وحفيف الشجر أنساً لنفسه الظامئة إلى رحيق الطبيعة. وله في ذلك كتاب اسمه والدن) كتبه بالنثر إلا إنه يفيض بالشعور والأحاسيس والفناء الكلي في الطبيعة وتقديسها كما تقدس الآلهة

ولا تجد شاعراً - فيما نعرف من الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي - أعطى من نفسه وشعره للبحيرات والغدر ومساقط المياه ما أعطاه الشاعر الإنجليزي (وليام وردسورث) لمنطقة البحيرات الإنجليزية المعروفة باسم

كان (وردسورث) شاعر الطبيعة في أي مظهر من مظاهرها، وكان يعتقد أن الطبيعة تحمي الإنسان من الشرور، وتجعل الخير أليفاً عنده حبيباً لديه، كما أشار إلى ذلك في ديوانه المعروف (الفاتحة) قضى حياته جوالاً في منازه أوربا وإنجلترا. وعاش في قرية (جراسمير) بين البحيرات الإنجليزية التي ألهمته ديوانه المعروف باسم (شعر البحيرات) ودفن هناك في الأرض التي ألهمته، وأوحت إليه أسرار جمالها. وقد أتيح لي أن أزور قبره وقبر شقيقته في تلك البقعة الجميلة الهادئة من بقاع شمالي إنجلترا

ومنطقة البحيرات الإنجليزية مدينة في التعريف بجمالها للكاتب النقاد (جون رسكين) الذي أدرك (وردسورث) وعاش بعده زماناً؛ فقد أبان للإنجليز جمال هذه المنطقة مما جعل أغنياءهم يشدون إليها الرحال بدلاً من زيارة بحيرات سويسرة. ولهذا أقام له الإنجليز في تلك المنطقة تمثالاً اعترافاً بفضله ووفاء لحقه

ص: 20

أما وصف السماء والنجوم والسحاب والمطر والرعد والبرق والليل، فقد ورد كثيراً في شعر العرب. وهو وصف مجرد لا تمسه عاطفة، ولا تدخله خوالج النفس ولا هزات الحس. ولكنه على كل حال تصوير صادق، كثير الإحاطة للتفاصيل. ومن فرسان هذا الميدان ابن خفاجة الأندلسي والسري الرفاء الموصلي وأبو تمام الذي أكثر من وصف الغيث والسحاب، وابن الرومي، وابن المعتز الذي يقول في وصف سحابة

وموقرة بثقل الماء جاءت

تهادي فوق أعناق الرياح

كأن سماءها لما تجلت

خلال نجومها عند الصباح

رياض بنفسج خضل نداه

تفتح بينه نوْر الأقاحي

ولأبي تمام هذه الأبيات الرائعة في وصف الغيث:

لما بدت للأرض من قريب

تشوقت لو بلها المسكوب

تشوق المريض للطبيب

وطرب المحب للحبيب

وفرحة الأديب بالأديب

وخيمت صادقة الشؤبوب

فقام فيها الرعد كالخطيب

وحنت الريح حنين النوب

والشمس ذات حاجب محجوب

قد غربت من غير ما غروب

والأرض من ردائها القشيب

في زاهر من نبتها رطيب

ومن شعراء الإنجليز في هذا الباب (شيلي) وله قصيدة عنوانها (إلى الليل)، وهي من النوع العاطفي؛ والشاعر (جراي) وله (أغنية الربيع)، والشاعر (كيتس) وله (أغنية الخريف)، والشاعر (كامبل) وله (أغنية الشتاء). وهو شعر يذكرنا بما قاله البحتري في وصف الليل والربيع. ويذكرنا كذلك بقصائد رائعة للسري الرفاء وأبي تمام والبحتري وابن الرومي في وصف الربيع والخريف والشتاء والسحاب، وهو شعر منثور في مواضع من دواوينهم ومن السهل الرجوع إليه.

أما البحر ذلك الخضم الواسع الذي يقصر الطرف عن إدراك مداه، وتعجز السنون عن سبر أغواره، فقد كان له من الشعر العربي نصيب، إلا أنه ضئيل، وقد أشار إليه امرؤ القيس إشارة عابرة في معلقته وهو يشبه الليل بموجه، كما وصفه ابن خفاجة الأندلسي بثلاثة أبيات. ووصفه الشاعر الأندلسي يحيى ابن الحكم البكري المشهور بالغزال في

ص: 21

قصيدة طويلة قالها يصف رحلته إلى القسطنطينية موفداً من قبل الخليفة عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام سنة 225 هـ إلى قيصر إمبراطور الروم في مهمة سياسية، والقصيدة لطيفة البحر والتصوير، ومنها:

قال لي يحيى وصرنا

بين موج كالجبال

وتولتنا رياح

من دبور وشمال

شقت القلمين وانبت

َّت عرى تلك الحبال

وتمطَّي ملك المو

ت إلينا عن حيال

فرأينا الموت رأي ال

عين حالاً بعد حال

ولن يذكر نفح (الطيب) من القصيدة إلا أحد عشر بيتاً اخترنا منها هذه الخمسة. وهي في الجزء الأول ص 444

وللدكتور جورج صوايا من شعراء المهجر في أمريكا الجنوبية قصيدة في البحر المتوسط تجدها في الصفحة التاسعة وما بعدها من ديوانه (همس الشاعر) المطبوع في (بونس أيرس) ألا إنها ضعيفة الصياغة، على الرغم من حفولها ببعض المعاني التي توحيها وقفة أمام هذا البحر الذي شهد ازدهار حضارات ومصارع دولات

وأحجم شاعر أو - ناظم - عن ركوب البحر خشية أن يذوب فيه، لأنه من طين. . .! ولكن شوقي وحافظ ركبا البحر ووصفاه. ولحافظ رائيته التي مطلعها:

عاصف يرتمي وبحر يغير

أنا بالله منهما مستجير

ألا إن ذلك قليل على الشعر العربي، وأين ذلك من قصيدة (وردسورث) التي عنوانها (على شاطئ البحر)؟

أما الرياض والأشجار والأزهار، فلم يترك شعراء العرب نوعاً مبها إلا وصفوه، فابن خفاجة له في شجر النارنج والأراك والريحان شعر كثير. والسري الرفاء له شعر كثير جداً في وصف الرياض والبساتين والنرجس وشجر الليمون وزهر السوسن والورد وشقائق النعمان والأترج والنخيل ورياض الموصل ومتنزهات الشام

وتلك ناحية في الشعر العربي تذكرنا بشعر (هربك) في النوار والبراعم، وبقصيدته الفاتنة في زهرة (الدافودلس) التي يفتتحها ويختتمها بهذين البيتين:

ص: 22

أيتها الزهرة الجميلة! نحن نبكي لأن نراك

تسرعين الخطوات إلى الذبول

مثل أمطار الصيف أو قطرات الندى

التي تمضي إلى غير رجوع

كما تذكرنا بقصيدة (مارفل) الإنجليزي التي عنوانها (أفكار في حديقة)

ولقد أخذ الشعور بوصف الطبيعة يزداد عند نفر من شعراء المشرق، وشاع عند شعراء المغرب؛ وظهرت الطبيعة مجلوة في شعر أمثال ابن خفاجة وابن حمديس وابن جهور وابن زيدون وابن عبدون وابن سهل. وهذا الأخير كان يمزج في شعره بين وصف الطبيعة ووصف العواطف وخلجات النفس كما يفعل الفرنسيون أمثال: هوجو، ولامارتين، والكونت دي ليل، وألفريد دي موسيه. ولكن الفرق بعيد. .

ولقد ظهر في مصر في أيامنا هذه (الشاعر الهمشري)، الذي عني بتصوير الطبيعة المصرية في مختلف صوره. تسمع وترى وتحس وتشم في شعره كل شيء في الطبيعة، حتى رائحة الكلأ. وكان يرجى له في هذا الباب مجال، وتناط به آمال لولا أن الموت عاجله وهو نضير الشباب

ولعل قراء العربية يجدون في (شاعر البراري) مثالاً لشاعر الطبيعة المصرية البحت الذي يغنى على قيثارتها في كل مكان.

محمد عبد الغني حسن

ص: 23

‌شلي

(سيبقى شعرك ينبوع الأرواح الظامئة، لأنك روح ظامئ)

للأستاذ محي الدين السامرائي

بعض العباقرة لا تكاد نفهمهم الفهم الدقيق النافذ، إلا إذا فهمنا أطوار حيواتهم فنربطها بتجاربهم الميتافيزقية الخفية، والاختلاجات النفسية، لندرك ما وراء الحس في حياة كل عبقري من صدام وصراع

وشلي أحد أولئك الذين تعيننا ترجماتهم على كشف البواعث والولائد في أطباق نفوسهم القصية إذا ما أراد أحدنا درس واحد منهم دراسة عميقة، يقوم أساسها على الفهم الحي للعنصر الوحداني الدفين المستتر في قرارة كل نفس، ليخرجه إلى عالم النور

وإذاً، فقد ولد هذا العبقري الثائر في الرابع من أغسطس عام 1792 في ورشهام، بين الأجراج النضرة والمراعي الجميلة؛ فنشأ في أحضان الطبيعة القروية الساذجة، فاستشف مكامن الروعة من الكون بعينين ناعستين (كأنما أثقلهما وسن حالم عميق)، كما يقول أحد نقاده المعاصرين. ثم سافر حدثاً ليلتحق بكلية (إتون) باكسفورد، فبرم من تقاليدها المدرسية الرتيبة، وحاول مراراً التخلص منها، ولكن إرادة والده حالت دون ذاك؛ إلى أن نشر رسالة عن (ضرورة الإلحاد) وذلك عام 1811، هاجم فيها العقائد والأديان، وسخر من جميع المثل السائدة في عصره، وبشر بضرورة تحطم اللاهوت المسيحي وسحقه؛ فما كان من الجامعة إلا أن أقصته عنها، فغادرها وفي نفسه حز عميق من السخرية والسخط اللذين أثارهما بيديه من الأساتذة ورفاقه الطلاب. وهنا فعل الكبت فعله العجيب في مطاوي هذه النفس الحساسة النزوع. ومنذ هذا الوقت مضى طليقاً ينظم الشعر ويقرأ المثولوجيا اليونانية والآثار الكلاسيكية، ولا سيما أفلاطون وأسخيلوس اللذين أعجب بهما كثيراً، وصاحبهما طوال حياته؛ فأشربت روحه هذه الثقافة الحية المفعمة بدوافع الفن والحياة. وبقى يتنقل بين أقطار أوربا بعد أن ودع إنجلترا إلى غير رجعة، حتى وطئت قدماه أرض إيطاليا الجميلة، فاتخذها مقراً له، بصحبة زوجه ابنة الفيلسوف الإنجليزي وليم كودون؛ وهنالك استكمل تكوينه الفني المدهش فبقى يبدع الروائع الشعرية السامية دراكاً حتى وافته المنية غريقاً في ليجهورن على شاطئ سبيزا وذلك في الثامن من (يولية) عام 1822 وقيل

ص: 24

بل مات منتحراً أثر اضطراب نفساني أصابه، يأساً من حياته المترعة بالآلام والأوصاب. فأحرقت جثته في حضرة صديقه العظيم بيرون، ودفنت بقاياه، حيث كتب على قبره باللاتينية:

(هنا يرقد قلب القلوب الشاعر بيرسي بيش شلي) وفي أسفل منها بيت من شعره يقول: (لقد عاش ومات وغنى وحيداً)

وهكذا انتهت حياة خذا الشاعر الستوحد الغريب بفاجعة من أعنف الفواجع التي عرفها تاريخ الأدب الحديث

ما كان شلي ممن يأخذ بدخيلات عصره، وتوافه بيئته؛ فقد عاش ما عاش هائماً في أجواء نفسه، وأقطار أوهامه، (مأخوذا بالسماء المكوكبة الساطعة بالأنوار) وبكل مظهر من مظاهر هذا الوجود الرحيب. فأثر ذلك تأثيراً عميقاً في روحه الفنية، وطبعه بتلك الانطباعات المتسعرة التي اعتصرت روحه العبقري على أساس من الثورة والألم، إلى جانب تشاؤم في الحساسية عميق، أشعره بالآم العصر الذي يضطرب فيه، وشاع في جوانب نفسه ميولاً متدفقة قوية، ولكنها تتأرجح بين (الشؤاطئ الزرق البعيدة الحالمة)، وبين (الجروف الصخرية الصماء)

فملخص ما يقوله الأستاذ الفيلسوف هوايتهيد فيه: أنه مؤمن بالعلم التجريبي يعالج الطبيعة ومظاهرها تحت ضوئه، في الحين الذي يستند فيه إلى المذاهب المثالية الأخرى مثل: كانت، بركلي، أفلاطون

فهو مزيج من نوازع متباينة تتجاذبه، فمن الناحية الواحدة نزعة إغريقية قوية تؤمن بالطبيعة وتقدسها، ومن الناحية الأخرى إحساس ديني عميق يربط مظاهر الوجود في وحدة كيانية واحدة

(عندئذ اتحد الجسم بالروح

وعرت كيان (أيانث) رعشة رقيقة

فأطقت جفنيها المحتقنين بهدوء

وعند ذاك توقفت الأجرام المعتمة الزرقاء. . .)

ومن هنا كانت ابتداعيته الطامحة، القلقة، المشرئبة إلى مثل إنساني يحرر النفس ويعتقها

ص: 25

من ربقة المادة، وهدآته النفسانية المحلقة في عالم الأحلام: عالم المثل الرفيعة، حيث الحقائق متلاحمة يعروها الغموض. فشعره صورة صادقة للرومانتيكية التي تغلب الإبهام على الوضوح، ولو أنها لا تمت إلى الرمزية بصلة ما. فهي تسبغ صفة الجلال على كل شيء، وتنصر الباطن من الظاهر؛ فهي (رومانتيكية صوفية) بالمعنى الدقيق. وأكبر مظاهرها، ذلك الطرب الساذج - الذي يقرب من العبادة - لغرائب الطبيعة، والتمجيد العنيف لصور الوجود، الذي يذهب بنا إلى حالة انقياد روحي شديد، هي من أسرار الطلاقة الفنية في شعره. ويظهر هذا الأثر واضحاً في قصائده الأخيرة: القبرة، وانتصار الحياة، وأبيسكديون التي حار النقاد فيها، ومنظومتي هيلاس وبرمنيوس، التي يصور فيها الجبروت الإبليسي في شخصية البطل الخرافي بريشة تفوق ريشة ملتون في تصوير إبليسه

وفي الطور الأخير من حياته تأخذ (صوفية شلي الرومانتيكية) شكلها الأخير؛ إذ يخضع للقوى اللاواعية السلبية في النفس، فيستشعر الألفة والإنجسام في صلب الوجود العام، ويدرك أن هناك عقلاً سامياً وراء كل شيء، تتوقف السعادة الدائمة بالاتحاد الحبي به - كما يعبر الصوفيون - بعد أن أنكر ذلك من قبل. وتحت تأثير هذا الشعور الجديد في كيانه، نظم أغنيته الفذة أبيسكديون، التي هي (نشيد باطن) لتلك الروح التواقة لذلك الحب المثالي السامي، ولو أن فيها بعض الأثر من شلي القديم. وقد يخطئ من يظن أن شلي هنا، يبحث عن الحب الحسي الأرضي؛ فما الحب الذي يفتقده إلا الحب الروحي المغرق في المثالية الزاخرة بأحفل العواطف والأشواق، حيث العناق المكين بين الزائل الفاني والخالد الباقي. . . (كل شيء يحول إلا إياك أيها الحب. . .)

والآن استمع لشلي صاحب (ضرورة الإلحاد)، ينشد في آخر سنيه على لسان (النبي محمد) في افتتاحية منظومته السامية هيلاس إذ يقول:

أسرعوا واملئوا الهلال الباهت

بالأنوار الحادة، كتلك التي شقت عتمة ذلك

الليل المسيحي الذي انسحب إلى الغرب

حيث امتطي القمر المشرقي صهوة النصر. . .

ص: 26

ألا فلتحل اللعنة على أولئك الذين ديدنهم الإشراك وتقسيم الإله الأعلى المتعالي. . .

فشعره - كما يبدو لأول وهلة - مزيج من الرومانتيكية الجامحة والتصوف الرزين، مزيج من الأنوار والظلال، ومن العقل والجنون؛ فحيالة المحلق النفور قد عصف بكل الفواصل الأرضية، فانقطعت الصلة بينة بين أكثر القراء. حتى أن النقادة الكبير (ماتيو أرنولد) أطلق عليه لقب

(الشاعر السماوي المجنون)، إذ عاش حالماً بعوالم أثيرية قصية، مفعمة بأنفاس المحبة والجمال، (محدقاً تشفق الحياة الغائم) - وقد كرر هذا المعنى في شعره كثيراً -

ألا نهيم يا حبيبتي

نحو غابة الشفق.

حيث يتعالى القمر الوضئ؛

وهناك سأهمس إليك

في هواء الليل البارد

ما لست قادراً على البوح به في النور؟)

ولقد اختلف النقاد في تقدير ملكة شلي الفنية اختلافاً كبيراً، فهاجمه كثير منهم، أمثال صديقه الخائن (هوج) و (بيكوك) وغيرهما. بينما انتصر له النقادة الكبير ماتيو أرنولد وأنصفه من أعدائه. كما أن الكاتب الكبير لورد ماكولي كتب عنه يقول: إن شعر شلي لم يكن فناً وحسب، إن هو إلا وحي. أما البروفسور إيفور إيفانس أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة لندن، فقد رفعه إلى رتبة النبوة في شعره، واعتبره من أصحاب الرسالات المثلى في تاريخ البشرية

ومهما يكن من رأى النقاد فيه، فالحقيقة. أن فيه عنصراً غبر عادي، هو الذي حمل معاصريه على أن يروا فيه - على رأى ستيفن سبندر - رجلاً هستيري المزاج، منحرف السريرة، مزيجاً من الغول والإنسان، حتى أن رفاقه في المدرسة زروا عليه شذوذ سلوكه واندفاعاته الطائشة، فلقبوه بـ (شلي المجنون)، كما أن مؤسسة (شانسري) قررت حضانة ابنته من زوجه الأولى، بحجة أنه رجل متهوس مخبول، ليس أهلاً لإعالة إنسان. وفي ذلك - كما يبدو لنا - مظهر من مظاهر العبقرية السامقة التي لا تخضع لمقاييس الناس

ص: 27

وموازينهم. أو ليست العبقرية - قبل كل شيء - انطلاقاً من كل قيد، وشروداً عن كل مصطلح ومألوف؟

أما عقيدة شلي الفلسفية ورسالته التي بشر العالم بها فلها قصة طويلة لا يستطيع جلوها ناصعة إلا عن طريق الدراسة الدقيقة لشعره في مختلف أطواره الروحية. مع أنه - بالحقيقة ليس صاحب فلسفة متبلورة ناضجة ذات حدود، إن هي في مجموعها إلا تجارب نفسية متباينة ذات أصباغ مشوشة غامضة

فشلي يرى ظواهر الوجود سيلاً مندفعاً من أزل الآزال إلى أبد الآباد لأي لحظة واحدة من الزمان. فهو - إذا شئنا الدقة الفلسفية - خلق مستمر، وامتداد من عالم الحرية إلى عالم الحتمية والضرورة.

(الكون السرمدي لهذه الأشياء

يتراكض خلال العقل. ويضرب بأمواجه الخاطقة.

آونة قائمة. وآونة ملتمعة؛ حيناً تقبض النفس،

وحيناً تنيرها. . . . . .

كجدول رقراق يأخذ سمته، خلال الغاب الكثيف

وبين الجبال، حيث الشلالات المتدافعة حولها إلى الأبد،

وحيث الغاب والريح يتصارعان؛ يندفع النهر الكبير

دائباً على الصخور بلا انقطاع، وهذه الكائنات - وفيها الإنسان - (كسحب تغشى القمر الليلي،

وسرعان ما تنقشع، فتلتمع، ثم ترتعش،

فترى الظلام بلألأئها! ثم يطبق الليل

ثانية. . . فتضيع هاتيك السحب إلى الأبد.

. . . ألا إن أمس الإنسان لا يشبه غده

فهو لن يعاني غبر التغير المستديم.)

أما حيال ذلك السر المحجب القديم: سر هذا الوجود ماذا يحول؟ وأيان منتهاه؟ فكثيراً ما وقف واجماً مبهوتاً لا يرى غير ظلمات يركب بعضها.

ص: 28

(يا أشباح الموتى! ألم أسمع عويلك المرتفع مع أنفاس الليل الدائرة، حيث تشتد العاصفة على الأثير المظلم

وعلى الريح الرخية تيلاشى هزيم الرعد؟

ألا ما أكثر ما وقفت على قمة جورا المظلمة العابسة فوق الوادي المنفرج في الحضيض.

وما أكثر ما صمدت أمام ثورة إعصار الليل القارس إذ يحوطني، كما يبدو لي، رجع أصداء الموت الهامسة!

فالموت يطارد جميع الكائنات (بأقدام لاهبة وأنفاس بارد صفراء)، حتى الشموس والأفلاك يصيبها الخمود والاندثار

(أخبرني أيها الكوكب ذو الأجنحة النورانية

المسرعة بك في دورانك المشتعل،

في أي من كهوف الليل ستنطوي أجنحتك

وأنت أيها القمر الأشيب الهزيل

في أية أعماق من الليل أو النهار

تطلب الراحة والسكون؟. . .)

لا! لن يقوى أمام ناموس الفناء غير (ذلك النور السماوي المؤتلق إلى الأبد)؛ أما الظلال الأرضية (فتتناثر بدداً تحت وطئ الموت. . . بينما تبقى روح أدونيس مشتعلة في أعمق أطباق السماء ككوكب هاد حيث الخالد الباقي.)

. . . وأخيراً طوته ظلمة الموت بعد أن ترك للعالم تجربة حية صادقة، وسجل لنا اعترافاً روحياً طويلاً مكتوباً بدم القلب

(بغداد)

محي الدين السامرائي

ص: 29

‌على ضفاف الجحيم

(إلى ذلك الروح الذي نفث القدر في دمي معناه فأخرس كبريائي ومزق رغباتي وصرب على مشاعري جواً من الضباب، تخبط فيه حكمتي وتتعثر أشواقي)

علام أبعث للدنيا بأنغامي

لا الظل ظلي ولا الأنسام أنسامي

// لا الشمس في ضحوتي أسعى بموكبها

ولا الحقيقة في آفاق إلهامي

هيمان أطوي الليالي البيض في سَغَب

تُفَلسِفُ الوزر والحرمان أوهامي

حيران تصطرع الأهواء في خلدي

وساوس الشك في صحوي وأحلامي

مروّع العقل والوجدان ذو أمل

مشترد الرأي أفّاق الخطى ظلمي

موزَّع الحسِّ مخدور المنى شَرِقُ

مفزع القول هّدامٌ لأصنامي

دنياي خلوُ من الأفراح يا عجباً

علام أبعث للدنيا بأنغامي

هنا ذوت حكمتي وانهار إيماني

وعربد الشك في عقلي ووجداني

بالأمس كنت هنا قديس حانتهم

أحدو الجنون وأحدوها بألحاني

أجامل الزور في أفواه من شربوا

وآخذ القول بهتاناً ببهتان

جُنَّ الجميع فهذا عبد شهوته

وذاك تاجر زهدِ بين رهبان

باقة الراح هاجت إفك مسرحهم

كلُّ وفي يده مصباح شيطان

حقيقتي فوق ما في الكأس من سَكَرٍ

فلم أُجَنَّ ولكن جُنَّ حرماني

من لي بسبعة أيقاظ لأنشدهم

هنا ذوت حكمتي وانهار إيماني

يا وحدتي بين نادي الصحب والآل

كلُّ بمثل ولم أظفر بأمثال

أنا الغريب ونفسي في مجاهلها

حيرى تلَفَّتُ عن قومي وآمالي

تهفو إلى النور في جوع وفي ظمأِ

كأنها ذلة في وجه رئبال

تمضي على الشوك لا تشكو تعثرها

ولا يفزَّعها تحويم أهوالي

مضى الشباب سدىً ما كان أجمله

لو لم أُقَضِّ سنيه بين أغلالي

طويت أيامه إِثماً وسخريةُ

أصانع الإفك في حلي وترحالي

من يفهم النفس إن أفضت بقولتها:

يا وحدتي بين نادي الصحب والآل

أخرجت من معبد الأوهام خفَاقي

وعشت في حكمتي مجنون آفاق

هدمت محرابي الأسمى وكم سجدت

على قداسته روحي وأشواقي

ص: 30

أحرقت إنجيله كفراً وكم خشعت

نفسي لما فيه من نور وإشراق

ماتت صلاتي وكانت آيُها سكناً

لما أكابد من يأس وإملاق

خلا المصلى وطافت حول هيكله

معالم المجد في صمت وإطراق

وأطفأ المعبد الوضاء راهبه

وودع القدس في زيغ وإشفاق

وأرسل الحكمة الهوجاء هاتفة:

أخرجت من معبد الأوهام خفاقي

(كلية الآداب)

محمد العلائي

ص: 31

‌البريد الأدبي

بين الدين والعلم في ختان الأنثى

قرأت كلمتين في العدد - 548 - من مجلة الرسالة الغراء: إحداهما للدكتور أسامة، والثانية للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فأما الدكتور أسامة فقد عاد إلى بحث ختان الأنثى من الناحية الدينية، ونحن لا نريد هذا منه، وإنما نريد منه أن يبين لنا رأي غيره من الأطباء في هذا الختان، لأن رأيه وحده فيه لا يفيد القطع في هذه المسألة من الناحية الطبية، ولا بد من الوصول إلى رأي قاطع فيها من هذه الناحية قبل بحثها من الناحية الدينية

وأما الأستاذ الغمراوي فلا أدري ما يأخذه علي وقد مضى يعالج مسألة الختان على طريقتي من التوفيق بين الدين والعلم، وخالف طريقة من رددت عليه حين يريد أن يثبت أن هذه المسألة من الدين، ولا يريد أن يعالجها من ناحية العلم، بل يرى دكتوراً فاضلاً يريد أن يوفق بين الدين وبين ما يراه مخالفاً له في الطب، فيقطع عليه طريق هذا التوفيق، ولا يقول له إلا أن مسألة الختان من الدين؛ فإن معنى هذا أن حكم الطب فيها لا يعبأ به، وهذه هي الطريقة التي قلت إن الدين لا يخدم بها، وقلت إنها تخالف ما اعتمده سلفنا الصالح في تعارض دليل العقل ودليل النقل

ومن العجيب أن يقول الأستاذ الغمراوي: إن قراراً إجماعياً لو صدر من الأطباء بتأييد الدكتور أسامة لا يغير من الحكم شيئاً في هذه المسألة بالذات، ثم يمضي بعد هذا في محاولة التوفيق بين الطب والدين في مسألة الختان، وهذا تناقض لا أدري كيف وقع فيه. وقد يعقل أن يأخذ الإنسان في هذه المسألة بحكم الطب ولو خالف الدين، وأن يأخذ فيها بحكم الدين ولو خالف الطب، ولكنه لا يعقل أن يضرب بإجماع الأطباء فيها حصل عرض الحائط ثم يمضي في محاولة التوفيق فيها بين الطب والدين، ولكن الأستاذ الغمراوي يريد أن يمسك بذيل الرجعية والتحديد معاً، وأن يجمع بين إعجاب الرجعيين به والمجددين، وهو في هذا كمن يحاول الجمع بين الضدين

عبد المتعال الصعيدي

ختان البنات بين الطب والدين

ص: 32

فائدة الختان تتلخص طبياً فيما يأتي:

أولاً - الإفراز الدهني المنفرز من الشفرين الصغيرين وجزء من البظر إن لم تقطع في الختان تتجمع وتتزنخ ويكون لها رائحة غير مقبولة وتحدث التهابات قد تمتد إلى المهبل بل إلى قناة مجرى البول، ورأيت حالات كثيرة بهذه الالتهابات في بعض السيدات سببها عدم الختان

ثانياً - هذا القطع يقلل الحساسية الجنسية للبنت، حيث لا شيء لديها ينشأ عنه احتكاك جالب للاشتهاء، وحينئذ لا تصير البنت عصبية من صغرها

وإن عملية الختان لا تقطع البظر من جذره بل تقطع جزءاً منه؛ فهي تقطع الحشفة وجزءاً من العضو، وهذا الجزء الأعلى هو ذو الحساسية الشديدة، ثم يبقى جزء منه توجد فيه أيضاً الحساسية ولكنها أقل أثراً

ويقول الدكتور الفاضل أسامة (إن إزالة البظر يحدث عفة جزئية للفتاة قبل الزواج مشكوكاً فيها، ولكنه يحرم المرأة المتزوجة من الشعور الصحيح باللذة الجنسية) ولكن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الفتاة التي استهدفت لعملية الختان قلت فيها حساسية الشهوة بخلاف التي لم يحدث لها الختان فإن أي احتكاك (بالبظر) حتى بثوبها يحرك فيها حساسية شديدة ربما لا يؤمن جانبها في الفتيات. وأما قوله إن المتزوجة تحرم من الشعور الصحيح باللذة الجنسية، فهذا غير صحيح؛ فالشعور لا يزال فيها لكنه شعور غير فياض رزين غير عابث، مضبوط زمامه غير منفلت

ثم إن حضرة الدكتور يقول إن الجاذبية الجنسية لا تحدث من الأعضاء التناسلية الخارجة، وإنما تحدث من الصفات الجنسية الثانوية، وهي في الأنثى جمال الوجه. الخ.

إذاً فالتأثير الجنسي لم ينعدم في المرأة بعد ختانها إنما وجد بمقدار إن زاد أضر بها

هذا هو رأى الطب في ختان البنات فانظروا إلى رأى الدين: يقول صلى الله عليه وسلم (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء). وأية مكرمة للنساء أفضل من هذه المكرمة التي تضبط شهواتهن وتقلل من اشتهائهن، وفي الوقت نفسه لا تحرمهن لذاتهن.

ثم انظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجرت النساء، وكان فيهن امرأة يقال لها أم حبيبة، وكانت تختن الجواري؛ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

ص: 33

لها يا أم حبيبة، هل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ فقالت نعم يا رسول الله إلا يكون حراماً فتنهاني عنه، قال بل هو حلال، فادني مني حتى أعلمك. فدنت منه فقال يا أم حبيبة إذا أنت فعلت فلا تنهكي، فإنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج.

فانظروا إلى كلمة (لا تنهكي) أي لا تستأصلي. أليس في هذا الحديث معجزة تنطق عن نفسها، وتدل بوجهها، فلم يكن الطب قد أظهر شيئاً عن هذا العضو الحساس (البظر) ولا التشريح أبان عن الأعصاب التي فيه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علمه العليم الخبير، عرف ذلك فأمر ألا يستأصل العضو كله حتى لا يفقد الحساسية جميعها

فأي تعارض بين الطب والدين في هذا؟ أما عن قول الدكتور عن أضرار الخطر الجراحي كالنزيف، فهذا أيضاً في ختان الذكور وإن كان حضرته لا يمانع فيه في الذكور فما كان هذا الضرر الممكن منبعه ليمنع هذه الفائدة. وهانحن نرى هذه العملية تعمل يومياً بين نساء جاهلات ولم نر أضراراً كثيرة بل قل أن تنزف منها فتاة

وختاماً أخالف الدكتور أسامة في رأيه، وأرى أن ختان البنت مكرمة لها، وأقول إنني ما رأيت الدين يدعو إلى شيء إلا وجدت الطب يتبعه في ذلك، ولمن يريد التثبت من ذلك أن يقرأ كتابي (الطب الحديث يترسم خطى الإسلام) وكتابي (الحمل وخلقته الإنسانية بين الطب الحديث والقرآن) فيرى صدق ما أرمي إليه والسلام.

الدكتور حامد البدري الغوابي

طبيب أول رعاية الطفل ببني سويف

نبغاء الأقزام في رسالة الغفران

في أكثر اللغات مثل سائر أو كلمة مأثورة أو اطروفة ضاحكة تؤكد للأقزام وقصار القامة من الناس الذكاء والنبوغ وحدة الذهن والحيوية. حتى لتكاد كلمة قصير تصبح بنفسها علماً على العبقرية أو مرادفة لها. والإحصاء نفسه يبرهن عليه. وفي ذلك بحث طريف لم يتنبه له الكتاب بعد ولم يقيموا له بحثاً بذاته على ما فيه من سعة وعمق وإمتاع

دعاني إلى هذا التقديم كتاب ظهر منذ أيام باللغة الإنكليزية مترجماً عن العربية تعاون على إخراجه أقزام ثلاثة مشهورون، بدأه أولهم قبل ألف سنة وأتمه الآخران منذ أيام. هؤلاء

ص: 34

الأقزام الثلاثة هم: أبو العلاء المعري وكامل كيلاني ومستر براكنبوري. وضع أبو العلاء رسالة الغفران وقذفها في تيار الفكر الإنساني تنحدر مع الأيام وطال بها حلك الليالي عصوراً مديدة حتى جاء الكيلاني فتناولها بالتحقيق والتهذيب ونشرها في الفكر العربي الحديث نوراً قوياً ساطعاً. والكيلاني يعشق أبا العلاء عشقاً عنيفاً ويرى فيه صورة العقل العربي الجبار ويبرهن على أن في كل جملة منه توجيهاً جديداً، وأنه أسمى تفكيراً وأسلم منطقاً من كثير من مشهوري الغرب قدمائه ومحديثه. وهذا ما حثه فتعاون والمستشرق الإنكليزي جيرالد براكنبوري على ترجمة رسالة الغفران إلى الإنكليزية. وقد تم طبعها الأنيق منذ أيام فجاءت تحفة ممتازة من تحف العقل العربي في المكتبة الإنكليزية. ولئن كان الإنكليز قد اطلعوا على شيء من أدبنا القديم فإنما اطلعوا على أضعف ما فيه غالباً وهو ما يمثلنا في عصور الأنحطاط كمقامات الحريري مثلاً؛ على أنها في حقيقتها لا تمثل إلا القدرة اللفظية وألاعيب التراكيب مما لا يروق العقل المفكر. أما رسالة الغفران ففخر لنا نباهي به؛ وأنا على مثل اليقين أنها ستستحوذ على الشهرة التي نالتها ترجمة فيتر جرالد لرباعيات الخيام. وترجمة الرسالة هذه تكاد تكون حرفية لكنها قوية لا تحس فيها موضع ضعف أبداً ونقل فيها الشعر إلى الإنكليزية شعراً. وساعد براكنبوري على ذلك سعة اللغة الإنجليزية نفسها وليونتها وتعدد الألفاظ الدينية وترادفها بمعانيها نفسها أو بمعان أخرى قريبة منها مما لا نجد له مثيلاً في سائر اللغات غير العربية. أضف إلى هذا كله قدرة براكنبوري الفائقة في لغته وفي العربية والتشابه القوي في حياة المؤلف والمترجم وطراز التفكير، ثم إمداد الكيلاني وتحقيقه وجهوده

فأبو العلاء المعري وكامل الكيلاني وجيرالد براكنبوري؛ هؤلاء هم الأقزام الثلاثة الذين تعاونوا على تقديم رسالة الغفران إلى الإنجليز. ومن أجدر في القيام بهذا العمل الجبار من هؤلاء النبغاء الثلاثة؟

(القاهرة)

ممدوح حقي

الشيخ عياد الطنطاوي

ص: 35

في تاريخ الأدب العربي الحديث شخصية عملت على نشر الأدب العربي خارج نطاق مصر، وهي تكاد تكون مجهولة من المعاصرين. تلك هي شخصية الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810 - 1861) الذي كان يقوم بتدريس الأدب العربي في مدرسة لازاروف بمدينة موسكو ومؤلف كتاب (أحسن النخب في معرفة لسان العرب)

ورجائي ممن يعثر على تاريخ هذا الرائد المجهول أن يدلي على صفحات الرسالة بالمصادر التي يمكن الرجوع إليها عن شخصيته

محمد أمين حسونه

حفلة تأبين الشيخ إبراهيم باكير عالم طرابلس الغرب

أقيمت في طرابلس الغرب حفلة تأبين لشيخ علمائها المغفور له الشيخ إبراهيم باكير دعا إليها الأفاضل أبناء المشيرقي وفريق آخر من الأدباء. فافتتحت بآي الذكر الحكيم، ثم قام سماحة المفتي فشكر للداعين سعيهم وذكر مآثر الفقيد، ثم تتابع بعده الخطباء والشعراء فعددوا مناقبه ومواهبه.

وقد ولد رحمه الله عام 1273، ونشأ في بيت علم وفضل شهر منذ الفتح العثماني بالقضاء والفتيا والخطابة؛ فكان نموذجاً سامياً في الأخلاق الكريمة والخصال النبيلة والآداب العالية. وكان معروفاً بتواضعه وعزة نفسه ورقة عاطفته وصدق عزيمته ونزاهته وجده في كل شيء وتقديره واحترامه للغير

وكان يعتبر بحق شيخ مشايخ القطر وخاتمة المحققين. فقد كان حجة في كل العلوم، وثقة يرجع إليه في المشكلات. ولم تكن منزلته العلمية ومكانته الأدبية وشهرته قاصرة على وطنه ومواطنيه؛ بل كان فضله مذكورا بين علماء دمشق وأدبائها حيث تسنى له أن يؤدي رسالة العلم والأدب في العاصمة الأموية زهاء ثماني سنوات كان فيها موضع الإجلال والتقدير

وله عدة تأليف ورسائل تذكر منها:

1 -

فتاوى على الذهب الحنفي

2 -

فتاوى في الوقف على الذهب الحنفي

ص: 36

3 -

منظومة في الحكمة والأدب

4 -

رسالة في علم البيان

5 -

منظومة في علاقات المجاز المرسل

6 -

رسالة في المنطق

7 -

منظومة في المقولات مع شرح لها

8 -

ديوان شعره

وقد تولى من المناصب في العهد العثماني: عضوية الاستئناف، ورآسة المحكمة الاتهامية من سنة 1206 إلى 1324. ثم الفتوى ورآسة الأوقاف من سنة 1324 إلى الاحتلال الإيطالي. ووكالة رآسة مجلس الإًدارة قسم المحاكمات والجنح من سنة 1325 إلى 1328 عن أربعة ولاة. وفي دمشق حين هاجر إليها عرض عليه إفتاء طرابلس الشام فلم يقبل، وخصص له معاش باعتباره من هيأة كبار علماء المشيخة. ثم رأس بعثة أثناء الحرب العالمية وفدت إلى المدينة المنورة فقام بها خير قيام. ورجع إلى طرابلس بعد الاحتلال الإيطالي فعين حاكما بالمحكمة العليا وظل فيها 15 عاماً إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة 1362

الهوى العذري

لا يؤمن كثير من أهل الرأي بما دونه مؤرخو العرب من القصص الغرامي الملتهب (كقيس ليلى)(وقيس لبنى) بل لقد يذهب بعضهم إلى الضحك منه، والسخرية به، ويعتقدون أن هذا القصص تصوير روائي، وخيال شعري

وأحسب أن الذين يعتنقون هذا الرأي بنوا عقيدتهم على خبرتهم الصادقة بالطبيعة البشرية فهذا العشق الذي يهيم له الرجل على وجهه، ويدخل الضيم على مروءته ليس من طبيعة الرجل، وهو الذي يجري بفطرته وراء النفع والطمع، ويسعى بغريزته إلى النضال في معارك الحياة وتكاليف العيش، إنما الحب زخرف من زخارف صباه وزينة من زينات شبابه، بل هو أغنية من أغانيه يتطرب بها في مجال نضاله في الحياة، ويتغنى بها في خلال جهاده للعيش

من طبيعة الرجل أن يسعى إلى الشهرة والثروة، وأن يتبوأ مكانها ملحوظاً في رأى الدنيا،

ص: 37

وقم التاريخ، ومن أظهر ميوله حب السيطرة والسيادة وبسط السلطان

هذا الرجل قد يحب، وهذا طبيعي أيضاً، وقد يحدث الإخفاق في حبه لوعة ومرارة تجرح شعوره وعواطفه، لكنه مخلوق نشيط تشغل مخه أفكاره متباينة في دائرة الحوادث المختلفة، وفي مناحي القرص المتعددة التي تسنح بين حين وآخر في ميدان النضال الحيوي، فإذا كانت الفجيعة أليمة، مفعمة بالهواجس والخيالات والأحزان، فقد يجد من وسائل الكسب ومباهج الأفراح والملاهي، وحزم الإرادة القوية ما يتلهى به فينسى

هذا شأن الرجل إذا أحب، وهو كثير المشاهدة بين الناس تجري الحوادث فيه على ما رسمته الطبيعة البشرية، أما هيام الرجل على وجهه، وتدلهه وإغفاله تكاليف الحياة ومسئوليتها جرياً وراء امرأة، على الوصف الذي دونه مؤرخو العرب في (قيس ليلى)(وقيس لبنى) فهو بعيد حتى عن الذوق الإنساني

ومن عجب أن يهيم الرجل ويذهب، وتصبر المرأة وتتسلى فلا تهيم على وجهها، ولا يذهب بها التدله شتى المذاهب، فتأنس إلى الغزلان في مسارحها، وإلى الوحوش في مساربها إلى غير ذلك من مؤثرات التأليف المسرحي

كيف يكون هذا والمرأة كلها قلب، وحياتها تاريخ كامل للعاطقة؟ هي، عمرها، أسيرة أفكارها، رقيقة عواطفها، فإذا تسلط على هذه الأفكار والعواطف حكام من الخيبة والفشل، فأين تجد التأسي؟ لاشيء؛ إلا أن تكون كالقلعة المقتحمة قد انهارت أسوارها

كم من عيون براقة خبا بريقها، وكم من خدود متوردة ذبلت حمرتها، وكم من قوام معتدل هصره الأسى فأماله، كل ذلك والحب فيها خجول صامت لا يجري في الطرقات، ولا يتسكع في الصحاري. قد تمتص الفجيعة دمها ولكن في صبر وتجلد

هل كان قيس يحب ليلى وليلى تكرهه؟ لا. إنما كان بقلب ليلى من العشق والوله ما بقلب قيس. إذن ففيم يهيم الرجل ويذهل، وهو أقوى عزما، وتتجلد المرأة هي القلب المتفجع؟

هذا وضع مقلوب للطبائع البشرية لم يجنح إليه المؤلفون إلا للقصة والرواية

ولم اختص بالجنون عشاق المرأة وحدها؟ ومن الناس عشاق متدلهون في المال، ومنهم عشاق الشرف والمروءة والرجولة الكاملة، وقد أصيب كثير من هؤلاء في مالهم ورجولتهم فما هاموا على وجوههم، ولا فقدوا رجولتهم، ولكنهم عالجوا الحياة من جديد بما وهبوا من

ص: 38

المزايا الطبيعية لينالوا نصيبهم منها

ومن أظهر ما يدل على أن هذا القصص موضوع ما يشاهد في طبيعة البشر من أن الرجل إن استحلف بالله رب كل شيء وبرسله وكتبه سهل عليه الحلف ولم يأنف منه، فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه واستطاره الغضب وعصى وامتنع حتى لو كان الحلف سلطاناً مهيباً، هذا وإن لم يكن يحبها وكانت هي قبيحة المنظر، فكيف يسوغ عقلاً أن يطلق قيس ليلى وهو يحبها؟ وهي جميلة الخلق والخلق، لمجرد أن أبويه طلبا إليه هذا الطلاق وكفى؟ لقد خير ملك عظيم بين عرشه وبين زوجة ارتضاها، فنزل عن العرش ولم يفترق عن زوجته

ألا أن العرب لم يكونوا بدعاً من الناس. . .

عز العرب علي

ص: 39