الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 55
- بتاريخ: 23 - 07 - 1934
بمناسبة ذكرى حافظ
بين السياسة والأدب
ينظر الأدب المصري اليوم إلى السياسة نظر الَمغِيظ الحانق لطغيان جلالها على جلاله، وعدوان سلطانها على استقلاله، وعبث أهلها بأقدار أهله عبث الهوى المتحكم بقوانين العدالة!
شهد الأدب في هذه الأيام جنازة سياسية لمرقص حنا باشا. وجنازة أديبة لأحمد زكي باشا، وسمع بذكرى سياسية لسينوت حنا بك، وذكرى أدبية لحافظ إبراهيم بك؛ فأما الجنازة السياسية والذكرى السياسية فكانتا مظهرين من مظاهر الوطنية الرائعة، ومظاهرتين من مظاهرات القومية المتحدة، شملت البلاد، وشغلت الصحف، وأرهفت الشعور، وأرهبت الحكومة، ونفَّست عن العاطفة العامة المكروبة؛ وأما الجنازة الأدبية والذكرى الأدبية فكانتا شاهدين على هذا التواضع المسكين الذي يصاحب العلم، وأثرين لهذا البؤس المهين الذي يلازم الأدب، فشيَّع الأولىبعض الأصدقاء وبعض الخاصة، ونسى الثانية كل الأصدقاء وكل الخاصة، ثم تهامست بين الناس الشكاوي، وتملقت من الأنصار المعاذير، وتجاوبت في الأقطار الشقيقة أصداء الأسف، ونعى كاتب سورية الكبير صاحب (فتى العرب) على مصر عقوق الأدباء وجحود العباقرة؛ وليس في نظرنا مما يبعث الشكوى من السياسة، ويثير السخط على الجمهور، ويستوجب الملامة على مصر، فان السياسة تقوم بواجبها، ولا تحول بين أحد وبين واجبه.
السياسة عقيدة، والعقيدة تحييها الشعائر، وتنميها المظاهر، ويقويها الحشد، وينشرها الإعلان، ويديمها التذكير، وتجددها الدعاية.
والسياسة مبدأ، وهذا المبدأ نفسه يريد أن يكرم في ذكرى الميت كما كان يكرم في وجود الحي، وما حالات السياسي إلا مناسبات يُهتف فيها بفكرته لا بصورته.
والسياسة جهاد، والجهاد يدعو بتكريم البطولة إلى البطولة، وبتعظيم التضحية إلى التضحية.
والسياسة حكومة وخصومة، ومن حق السياسة المكبوتة أن تتلمس الحرية في كل فرصة، وتتنشق الراحة من كل فُرْجَة
والسياسة جاه وقوة، ومن طبيعة النفوس أن تشايع الجاه وتبايع القوة ابتغاء لمنفعة أو اتقاء لمضرة
والسياسة بعد ذلك كله للشعب، فرجالها زعماؤه، وضحاياها شهداؤه، ومواقفها مواقفه
أما الأدب فلا نصيب له من بعض ذلك، ليس عقيدة للعامة، ولا فكرة للأمة، ولا ساحة للنفوس المجاهدة، ولا مطمعة للعيون الرغيبة؛ إنما هو فن الخاصة وبغية الرجل المثقف، فإذا لم يحتفل أهله بأهله، وينوه جمهوره بفضله، ذهب أثر رجاله من الدنيا كما تذهب أنغام موسيقى الجيش بعد المعركة، ثم لا يبقى الفخر والذكر إلا للجند والقادة
الأدباء هم الملومون على هذا العقوق، والصحفيون هم المسئولون عن هذا الإهمال، وشهوة المنافسة وعداوة الحرفة، هما اللتان تفسران البواعث على هذا والدوافع إلى ذاك؛ والأديب الذي يَنْفِس على أخيه محنة الوجود، يجد الأولى أن ينفس عليه نعمة الخلود، والأدب في الحياة وفي الممات شر على صاحبه، فإنما لا نزال نشهد كل يوم معارك الأهواء بين الأدباء الأحياء تقطع وشائج الصداقة، وتخفي دلائل النبوغ، وتزيف حقائق الفضل، ثم لا تترك منهم للتاريخ إلا أشلاء منكرة من الأدب والفن والخلق. ولا نزال نسمع من يذكر المنفلوطي بالسوء لأنه اصطنع الأدب الباكي، كأن للكاتب يداً في تركيب مزاجه، وتكوين بيئته، وتأليف ظروفه، وتثقيف ملكاته. كذلك لا نزال نسمع من يشدد النكير على شوقي لأنه عالج في بعض عمره شعر المديح، كأنه نشأ في ظل الدستور وعهد الديمقراطية وعصر الجماعة، وكأنه كان يمدح عباساً لأن المتنبي كان يمدح سيف الدولة!
نعم كان أمس ذكرى حافظ، وكان أول أمس ذكرى سينوت! فهل رأيت بعينك وفاء السياسة وجحود الأدب؟. إن حافظاً رحمه الله ما يزال يقتضي أصدقاءه الخلَّص حفلة التأبين وتأليف الكتاب، فهل من المعقول أن نطلب من شعبه المغلول إحياء الذكرى وإقامة التمثال؟
ولقد كان من جرائر نحسه الذي ظل بعد موته حياً يعيث، أن مواهبه السامية في الشعر والبلاغة قد أخذ ينالها النسيان وتشوهها الغفلة، فما يذكره الناس حين يذكرونه إلا بحلاوة النادرة وبراعة (النكتة) وحسن الحديث، حتى خشينا أن يصبح في الخاصة ما أصبح أبو نواس في العامة.!
فَمَنْ مُبْلغٌ حافظاً الصديق أن المودة بعده أصبحت لا تبقى على المحن، ولا تقوى على
الأهواء، ولا تثبت للظروف، ولا تتجاوز كذب الحياة إلى صدق الموت!
ومَنْ مبلغٌ حافظاً الأديب أن الأدب بعده أصبح داء كداء الضرائر، تهيمن عليه المنافسة الكاذبة، وتغض منه المحاسدة اللئيمة، وتتحكم فيه الأغراض الحقيرة؟
ومَنْ مبلغ حافظاً الفنان أن فنه الجميل سيبقى على لؤم الإنسان وظلم الزمان، رائعاً ما راع الجمال، ساطعاً ما سطعت الشمس، خالداً ما دام الخلود؟!.
احمد حسن الزيات
سمُوُّ الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
- 2 -
قالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلئ جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعاً قَطّ، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً ولا يتشهّاه، إن أطعموه أكل، وما أطمعوه قبل، وما سقوه شرب.
وقالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يوميين متتابعين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعنها: كنا آلَ محمد نمكث شهراً ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء.
وقالت: ما رَفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قَط غداءً لعشاء، ولا عشاء لغداء، ولا اتخذ من شيء زوجين، لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا زوجين من النعال.
ويروي عنها، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي.
وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير.
وعن أبن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت اللياليَ المتتابعة وأهلهَ طاوياً لا يجدون عشاءً، وإنما كان خبزهم الشعير.
وعن الحسن، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أمسى في آل محمد صاعٌ من طعام، وإنها لتسعة أبيات) والله ما قالها استقلالاً لذكر الله، ولكن أراد أن تتأسى به أمته.
وعن أبن مجير، قال: أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم جوعٌ يوماً فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: (ألا رُبَّ نفس طاعمةٍ ناعمة في الدنيا - جائعةٌ عارية يوم القيامة؛ ألا ربَّ مُكرمٍ نفسه وهو مهين لها؛ ألا رب مهين نفسه وهو مكرم لها)
وخُيّرَ صلى الله عليه وسلم أن يكون له مثل (أُحد) ذهباً فقال: لا يا رب، أجوع يوماً فأدعوك، وأشبع يوماً فأحمدك.
وكان يقول في دعائه ويكثر منه: اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين.
هذا هو سيد الأمة، يمسكه في الحياة نبياً عظيماً ما يُخرج غيره منها ذليلاً محتقراً، وكأنما أشرق صفاء نفسه على تراب الأرض فردّه أشعة نور، على حين يُلقِى الناس على هذا التراب من ظلام أنفسهم فلا يبقى تراباً، بل يرجع ظلاماً، فكأنهم يطئون المجهول بخوفه وروعته؛ ثم لا يستقر ظلاماً، بل يرجع آلاماً، فكأنهم ينبتون على المرض لا على الحياة؛ ثم لا يثبت آلاما، بل يتحول فورة وتوثباً تكون منه نزوات الحمق والجنون في النفس. هؤلاء الذين تعيش أنفسهم في التراب، ويتمرغون بأخلاقهم فيه - ينقلبون على الحياة من صنع التراب ناساً دُوداً لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذَّره؛ أو قوماً سوساً لا ينال شيئاً إلا نخره أو عابه، فهم يوقعون الخلل في نظام أنفسهم فإذا هي طائشة تخيَّل لهم كأنما اختلت نواميس الدنيا، وكأن الله قبضهم وبسط غيرهم، وشَغَلَهم وفَرَّغ مَن عداهم، وابتلاهم على مسْكَة الرزق بالشهوة المسعورة التي لا تتحقق، فضربهم بالمجاهدة التي لا تنقطع؛ وأنعم على غيرهم في بسطة الرزق بالشجرة المسحورة التي لا تُقطع منها ثمرة إلا نبت غيرها في مكانها.
إن ما وصفناه من فقر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن له عتيدٌ حاضر، وأنه لم يجعل نفسه في همّ المال، ولا جعلته نفسه في هم الفقر، وأنه لقي الحياة حاملاً لا محمولاً، واستقر فيها هادئاً لا مضطربا - كل ذلك إنما يثبت للدنيا أنه خلق وبُعث وعاش ليكون درساً عملياً في حل المشكلات الاجتماعية، يعلَّم الناس أنها لا تتعقّد بطبيعتها، ولكن بطبائعهم فيها؛ ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها؛ ولا تغلب بصولتها، ولكن بجَزَعهم منها؛ ولا تُعضل من ذات نفسها، ولكن من سوء أثرهم عليها، وسوء نظرهم لأنفسهم ولها.
فإذا قرأت الأحاديث التي أسلفناها فلا تقرأها زهداً وتَقلُّلاً، ولا فقراً وجوعاً، ولا اختلالاً وحاجة، كما تترجمها نفسك أو تحسها ضرورتك؛ بل انظر فيها واعتبرها بنفسه هو صلى الله عليه وسلم، ثم اقرأها شريعةً اجتماعية مُفصَّلة على طبيعة النفس، قائمةً على أن تأخذ نفس الإنسان من قوى الدنيا عناصرها الحيوية، لتعطي الحياة من ذلك قوة عناصرها.
والحياة العاملة غير الحياة الوادعة، هما ذكر وأنثى؛ فأما الأولى فهي ما وصفنا وحكينا، وأما الثانية فهي تَغلُّل النعمة، وإطلاق قانون التناسل في المال ينمي بعضه بعضا، وينبت بعضه على بعض، ثم إقامة الحياة على الزينة ومقوّمتها، وقيام الزينة على الخداع وطبائعه، فيُقْبل المرء من دنياه على ما هو جدير أن يصرفه عنها، ويحب منها ما كان ينبغي أن يباغضه فيها. وكل ما رأيت وعلمت في رجل قُوَّته القوة فهو هناك؛ وكل ما علمت ورأيت في أنثى قوتها الضعف فهو هنا.
فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هو السواد الحيّ؛ سواد الليل حول الروح النَّجْميَّة الساطعة؛ وذلك التراب هو التراب الحيّ؛ تراب الزرع تحت النضرة والخضرة؛ وتلك الحاجة الجسميّة هي الحاجة الحية الدافعة إلى حرية النفس؛ وذلك الإقلال من فهم اللذة هو الإقلال الحيّ الذي يزيد قوة فهم الجمال في السماء والأرض وما بينهما؛ وذلك الضيق في حيز المتاع للحاسة هو الضيق الحي الذي يوسع حيّز المتاع للروح. وبالجملة فذلك النقص من المادة لم يكن إلا لنفي النقص عن الفضيلة، وذلك الاحتقار للعرَض الفاني الزائل هو المعنى الآخر لتقديس الخالد الباقي.
فليس هناك خبز الشعير، ولا الجوع، ولا رهن الدرع عند اليهودي. كلا، كلا، بل هناك حقيقة نفسية عقلية، ثابتة متزنة. قائمة بعناصرها السامية: من اليقين والعقل والحكمة، إلى الرفق والحلم والتواضع، تخبر هذه الدنيا العلمية الفلسفية المفكرة أن ذلك النبي العظيم هو الرجل الاجتماعي التام بأخلاقه وفضائله، وهو الذي بُعِث لتنقيح غريزة تنازع البقاء، وكسر هذه الحيوانية، وقمع نزواتها، وإماتة دواعيها، والسمو بخواطرها فهو بنفسه صورة الكمال الذي بعث لتحقيقه، وإثبات أنه الممكن لا الممتنع، والحقيقي لا الخيالي.
ليس هناك درع مرهونة في ثلاثين صاعا، ولا الفقر، ولا خبز الشعير. كلا، كلا، بل هناك تقرير أن النصر في معركة الحياة لا يأتي من المال والثراء والمتاع، ولكن من المعاناة والشدة والصبر، وأن التقدم الإنساني لا يباع بيعاً، ولا يؤخذ هوناً، بل هو انتزاع من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات ولا تتغلب الأزمات عليها، وأن هذا المال وهذه الشهوات - في حقائق الحياة ومصائرها - ككنوز الأحلام لا تكون كنوزاً إلا في مواضعها من أرض الغفلة والنوم، فلا لذة منها إلا بمقدار خفيف من هذه الغفلة. وليس إلا
الأحمق أو المخذول أو الضائع هو الذي يقطع العمر نائماً أبداً ليظل مالكاً أبداً لهذه الكنوز، وهو يعلم أنه لابد مستيقظ، وأنه متى انتبه في آخرته لم يجد منها شيئاً (ووجد الله عنده فوفاه حسابه)
كلا، كلا، ليس هناك فقر ولا جوع وما إليهما، بل هناك وضع هذه الحقيقة: ينبغي أن تجد نفسك، وموضع نفسك، وإيمان نفسك، وعزة نفسك، فإذا أدركت ذلك ورفعت نفسك إلى موضعها الحق، وأقررتها فيه وحبستها عليه، وحددتها بالإنسانية من ناحية، وبالله من الناحية المقابلة - رأيت إذن أن قيمتك الصحيحة في أن تكون وسيلة تعطي وتعمل لتعطي، لا غاية تأخذ وتعمل لتأخذ - ومهما ضيق عليك، فنما أنت كالشجرة الطيبة تأخذ تراباً وتصنع حلاوة. وما قط نبتت شجرة في مكانها لتأكل وتشرب وتختزن السماد والتراب، وتحصنهما وتمنعهما عن غيرها، ولو قد فعلت ذلك شجرة لكان هلاكها فيما تفعل، إذ تحاول أن تضاعف فائدتها من قانون العالم، فيكون طمعها سريعاً في إفساد الصلة بينهما، فلا يجد القانون فيها نظامه، ومن ثم لا تجد في القانون نظامها، فيهلكها الذي كان يحييها، وتستبعد لحظّ نفسها فيفقدها ذلك حرية الحياة التي كانت لها في نفسها.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تنزع من بين جبينه وهو يحمد الله عز وجل.) فهذا هو أسمى قانون اجتماعي يمكن أن تظفر به الإنسانية وما يأتي لها ذلك إلا إذا أصبحت تلك المعاني التي أومأنا إليها شعوراً اجتماعياً عاماً، مقرراً في النفس، قائماً فيها على إيمان راسخ بأن الفرد هو صورة المجتمع لا صورة نفسه وحدها، وأن الناس كحب القمح في سنبلة ليس لجميعه إلا قانون واحد، فموضع كل حبة من السنبلة هو ثروتها، علت أو سفلت، وكثير ما تأخذه أو قل، وإذا كان أساس الحياة في الحبة منها أن تجد قوامها وكفايتها من مادة الأرض فتمام الحياة فيها أن يغمرها النور من حولها، وأن يستمر النورمن حولها يغمرها.
فالحبة من السنبلة بكل خير على كل حال، وإنها لتُنْزَع وما بها أنها نُزِعت، ولكنها أدت ما تؤدِيّ، وانقطعت من قانون لتتصل بقانون غيره، وما اغتنت ولا افتقرت، ولا أكثرت ولا أخَفَّتْ؛ بل حققت موضعها، فإنها ما نبتت لتبقى، وما نمت إلا لينقطع نماؤها. وكذلك المؤمن الصحيح الإيمان، الصادق النظر في الحياة؛ هو أبداً في قانون آخرته؛ فهو أبداً في
عمل ضميره.
والناس في هذه الحياة كحشد عظيم يتدفق من مضيق بين جبلين ينفذ إلى الفضاء؛ فإذا هم أدركوا جميعاً أنهم مُفْضُون إلى هذه النهاية مرّوا آمنين وكان في يقينهم السلامة، وفي صبرهم الوقاية، وفي نظامهم التوفيق، وفي تعاونهم الحياة؛ فهم بكل خير على كل حال، ما دام هذا قانون جميعهم، فأيما رجل شذَّ منهم فاضطرب فطاش هلك وأهلك من حوله، ومن عكس منهم موضعه ونكص على عقبيه أهلك من حوله وهلك. والموت أشقى الموت هنا - اعتبارُ الحاضر بنفسه، والضجرُ منه، وجعل الإنسان نفسه غاية؛ والحياة أهنأ الحياة - اعتباره بما وراءه، والصبر على شدته، وجعل الإنسان نفسه وسيلة.
فذلك معنى خبز الشعير، والقلة والضيق، ورهن الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومن لو شاء لمشى على أرض من الذهب. فهو صلى الله عليه وسلم يعلم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفاً نازلاً على نفسه.
ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبز الشعير هو رمز من رموز الحياة على التحلُّل من خلق الأثَرةِ، والبراءةِ من هوى الترف؛ ورهن الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع؛ والعُسْرة رمز ثالث على مجاهدة الملل الحي الذي يفسد الحياة كما يفسد بعض النبات النبات. ومجموع هذه الرموز رمز بحاله على وجوب الإيقاظ النفسي للأمة العزيزة التي تقود أنفسها بمقاساة الشدائد ومجاهدة الطباع، لتكون في كل فرد مادة الجيش، وليصلح هذا الجيش قائداً للإنسانية.
على أنه صلى الله عليه وسلم حثّ على طلب اليسار، والتغلٌّل من الأعمال الشريفة بالغلَّة والمال، فقال:(إنك إن تدع عيالك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس). ورأى عابداً قد انقطع للعبادة حتى أكلت نفسه جسمه، ووصفوا له من زهده وعبادته، فقال صلى الله عليه وسلم: من يعوله؟ قالوا كلنا نعوله. فقال: كلكم خير منه!. . إلى أحاديث كثيرة مروّية، هي تمام القانون الأدبي الاجتماعي في الدنيا، تثبت أن الحي إن هو إلا عمل الحيّ. ولكن حين يكون سيد الأمة وصاحب شريعتها رجلاً فقيراً، عاملاً مجاهداً، يكدح لعيشه ويجوع يوماً ويشبع يوماً، فلم يقلب يده في تِلاد من المال يرثه ولم يجمعها على طريف منه يورّثه - فذلك هو ما بيناه وشرحناه وذلك كالأمر نافذاً لا رخصة فيه على ألاّ يتخذ الغني
من الفقير عبداً اجتماعياً، لفقر هذا ولمال ذاك؛ بل هي المساواة النفسية لا غيرها، وإن اختلفت طبقات الاجتماع. والأكرم هو الأتقى لله، بمعنى التقوى؛ والأقوم بالواجب، على معنى الواجب؛ والأكفأ للإنسانية، في معاني الإنسانية.
فقر ذلك السيد الأعظم ليس فقراً، بل هو كما رأيت: ضبط السلطة الكائنة في طبيعة التملك، لقيام التعاون الإنساني على أساسه العمليّ؛ هو المحاجزة العادلة بين المصالح الاقتصادية الطاغية يمنع أن تأكل مصلحةٌ مصلحةً فتهلك بها، ويوجب أن تلد المصلحةُ مصلحةً لتحيا بها.
والنبي الفقير العظيم هو في التاريخ من وراء كل هذه المعاني كالقاضي الجالس وراء موادّ القانون. صلى الله عليه وسلم.
مصطفى صادق الرافعي
بين يدي شهرزاد
للأستاذ توفيق الحكيم
شهرزاد متكئة على الوسائد تنظر باسمة في حوض ماء من المرمر وبين يديها الوزير قمر. . . .
شهرزاد - (في مكر) أراك يا قمر تسرف في إطرائي وتبخس قدر صديقك.
الوزير - لم أبخس قدره.
شهرزاد - (في مكر) يخيل إلى أنك نسيت ما بينكما من ود عجيب.
الوزير - (في حدة) لم أنس شيئاً.
شهرزاد - (في خبث) بلى!
الوزير - (في حدة عمياء) إني لم أنسى شيئاً. إنما أبين لك لماذا أنت تحبينه أسمى الحب، فلا تزعمي لي غير هذا مرة أخرى. إني لست أُخدع. لست أُخدع. لست أُخدع!
شهرزاد - (هادئة) قمر؟ ماذا دهاك؟
الوزير - (يثوب إلى رشده) مولاتي مغفرة. . إني. .
شهرزاد - انك أحياناً لا تملك نفسك.
الوزير - إني. . أردت أن أقول انك غيرِتِه، وأنه انقلب إنساناً جديداً منذ عرفك.
شهرزاد - انه لم يعرفني.
(يسمعان طرقاً شديداً)
الوزير - (يرهف السمع) هذا هو.
شهرزاد - إن شهريار يحمل دائماً مفتاحه ولا يدخل القصر ليلاً إلا من سردابه.
الوزير - مَن هذا الطارق إذن؟
شهرزاد - اذهب وجئني بالخبر.
(الوزير يخرج مسرعاً)
شهرزاد - (كالمخاطبة لنفسها) مسكين أنت يا قمر!
(الوزير يعود على عجل)
قمر - مولاتي! أتدرين من الطارق؟ رجل عجيب الزي، يقول انه المؤلف، ويلتمس المثول
بين يديك.
شهرزاد - (في عجب) المؤلف؟ أي مؤلف؟
قمر - لم أفهم مراده. إنما هذا ما قاله لي.
شهرزاد - أدخله لنتبين أمره.
قمر - أفي مثل هذه الساعة من الليل؟
شهرزاد - وماذا يضير. انك معي.
قمر - نعم سألبث معك.
(يخرج قمر في الحال)
شهرزاد - (كالمخاطبة لنفسها) المؤلف؟: أتراه أحد السحرة قد أرسل في طلبه شهريار؟
(قمر يعود وخلفه توفيق الحكيم يلتفت يمنة ويسرة منبهر البصر مما في القصر من عجائب لم يسبق لعين مثله أن وقعت على مثلها)
شهرزاد - (تلتفت إليه وتتأمل زيه وتأذن له في الدنو منها ولكنه يقف مكانه جامداً)(تقدم يا هذا)
توفيق - مولاتي. . .
شهرزاد - ماذا بك؟
توفيق - أأنا بين يدي شهرزاد؟
قمر - نعم أنت في حضرة الملكة العظيمة.
توفيق - (كالمخاطب لنفسه) نعم، لا يمكن لهذا الجمال أن يكون لغيرها.
شهرزاد - بِمَ تهمس كمن به مس؟
توفيق - مغفرة أيتها الملكة، إني. . .
شهرزاد - لماذا تنظر إليَّ هكذا؟
توفيق - هذا الجمال. . .
شهرزاد - (لقمر) أرأيت يا قمر! انك قد جئتني آخر الليل بمُعْجَب مفتون.
قمر - (لتوفيق) ماذا جئت تصنع هنا أيها الرجل؟
توفيق - (همساً) لست أدري. . . (يعود فيتأمل شهرزاد)
شهرزاد - أرجو منك ألا تطيل النظر إلى هكذا.
توفيق - مولاتي! لا أستطيع.
شهرزاد - أين الجلاد؟
توفيق - خير لك أن تأمري بي فتطاح رأسي من أن تطلبي إلى ألا أعجب بك.
شهرزاد - أتراني حقَّا جميلة؟
توفيق - نعم.
شهرزاد - إن لي جسداً جميلاً! أليس لي جسد جميل؟
توفيق - ليس الجسد وحده.
شهرزاد - اقترب.
توفيق - كلاَّ.
شهرزاد - لماذا؟
توفيق - (يشير إلى الحوض) هذا الحوض. . .
شهرزاد - أيخيفك هذا الحوض؟
توفيق - أخشى أن تزل قدمي فأسقط وأنا لا أحسن السباحة. . .
شهرزاد - انه قليل الغور
توفيق - لا شيء عندك قليل الغور.
شهرزاد - (تتفرس فيه) عجباً! انك تتكلم كما يتكلم شهريار! من أنت؟
توفيق - خادمك توفيق الحكيم.
شهرزاد - أتعني أنك صاحب توفيق أم أنك صاحب حكمة؟
توفيق - لا هذا ولا ذاك، ولكنه اسم من الأسماء.
شهرزاد - وما صناعتك؟
توفيق - أؤلف القصص.
شهرزاد - مثلي؟
توفيق - لم أيلغ شأوك. وليس لي ذكاؤك ولا خيالك.
شهرزاد - انك تسرف في إطرائي وتبخس قدر نفسك.
توفيق - قدر نفسي؟ وما أدراك به؟ وهل عرفت لي قصصاً على الأقل أيتها الملكة؟
شهرزاد - كلاَّ. ماذا صنعت من القصص؟
توفيق - قصة (شهرزاد)
شهرزاد - (في عجب) أنا؟
توفيق - نعم أنت.
شهرزاد - متى صنعتها؟
توفيق - ليس يعني الزمن الذي صنعت فيه.
شهرزاد - أصنعتها في الماضي؟
توفيق - بل في المستقبل.
شهرزاد - فهمت. هذا الزي العجيب. . .
توفيق - نعم. إني أهبط إليك الساعة من المستقبل الذي أعيش فيه لألقاك في الماضي الذي فيه الآن تعيشين كما يهبط الطائر من الشمال إلى الجنوب في غابة متسعة الأرجاء.
شهرزاد - يا للعجب! كلامك هذا يذكرني بشهريار.
توفيق - أترين هذا؟
شهرزاد - لكنك أهدأ نفساً منه.
توفيق - نعم، الآن.
شهرزاد - (تنظر إليه ملياً) إني أعجب كيف أن القدر لم يجمع بيننا قبل الآن؟
توفيق - لقد جمع بيننا دائماً.
شهرزاد - أين؟
توفيق - (يشير إلى قلبه) هنا.
شهرزاد - (في عجب تشير إلى قلبه) هنا؟
توفيق - نعم. ومن هنا خرجت أنت إلى الوجود. فما أنت إلا صنع النار والنور الكائنين هنا (يشير إلى قلبه)
شهرزاد - هذا جميل.
توفيق - أرأيت من أي مادة أنت مصنوعة يا مخلوقتي العزيزة!
قمر - (يتململ) من هذا الرجل!
توفيق - صه أيها الوزير. فكر في شأنك أنت، ودعني فيما أنا فيه. فما جئت الليلة إلا من أجل شهرزاد.
شهرزاد - جئت من أجلي؟
توفيق - نعم.
شهرزاد - وماذا تريد مني؟
توفيق - أريد أن أعيش إلى جانبك.
قمر - (في غضب وهياج) أيها الرجل! من أنت أيها الرجل؟
توفيق - أنا كائن أشقى منك حالاً.
شهرزاد - (باسمة لتوفيق) لماذا؟
توفيق - لأني أشعر ببرد الوحدة يكتنفني في تلك السماء ذات السحب.
شهرزاد - ويل للمبدعين.
توفيق - صدقت، أَجل يا شهرزاد لو لم يعش المبدع في مخلوقاته لقتله برد الوحدة.
شهرزاد - تريد إذن أَن تهبط إلى الأرض.
توفيق - لقد قلتها يا شهرزاد. لا شيء غير الأرض؟
شهرزاد - أَين شهريار يسمع منك؟ وهو الذي هجر الأرض يريد السماء.!
توفيق - لا تخشى عليه من بأس. سوف يعود إليك.
شهرزاد - متى؟
توفيق - يوم يعلم أَن السماء في الأرض.
شهرزاد - يا هذا. أريد منك شيئاً. . .
توفيق - ماذا؟
شهرزاد - أَمنحك قبلة.!
توفيق - تمنحينني قبلة؟
شهرزاد - نعم.
توفيق - وهبتها قمرا.
قمر - (في استنكار) مولاي!
توفيق - خذها أَيها الأبله. من ذا يرفض قبلة من شهرزاد؟
قمر - (يخرج سريعاً). . .
توفيق - هرب الأحمق.
شهرزاد - (تنظر إلى توفيق ملياً) عرفتك أَخيراً.
توفيق - (باسما) أَعرفتني؟ من أَنا؟
شهرزاد - أَأَنت هو؟ أَم أَنك تعيش فيه؟
توفيق - من هو؟
شهرزاد - شهريار!
توفيق - صه. لست أَدري. . . لست أَدري. . . هذا سؤال لا ينبغي أَن يوضع. ولا ينبغي أَن يلقى عليّ.
شهرزاد - إذن ارتفع. فما أَنت إلا شبح من الأشباح.
توفيق - شبح من؟
شهرزاد - شبح شهريار.!
توفيق - لا تقولي هذا. إنما هو الشبح وأَنا الحقيقة.
شهرزاد - أَمام الأبد هو الحقيقة التي ستبقى وهو خالقك وهو مخلدك، وما أَنت إلا خيال سوف تتبعه صاغراً على مرّ الأيام. وان ذكر اسمك على الدهر فإنما يذكر خلف اسمه. انك تزعم الآن أنك صانعنا ومبدعنا أَمام ذلك الزمن المحدود، وإنما نحن في الحقيقة صانعوك ومبدعوك في الغد أَمام الخلود. . .
توفيق - ويل لي.
شهرزاد - ماذا بك؟
توفيق - أأنا عنك شبح؟ تلك هي السخرية الكبرى! في وحدتي ينخر في نفسي الشك. فإذا هبطت بينكم ألتمس اليقين علمت إني شبح لا حقيقة. وإني وليد صنعكم أنتم أمام الدهور.
شهرزاد - كل شيء يصنع كل شيء. . .
توفيق - نعم.
شهرزاد - ليس هناك إلا حقيقة واحدة.
توفيق - ما هي؟
شهرزاد - أننا جميعاً لسنا حقيقة.
توفيق - وأَنا معكم.
شهرزاد - وأَنت معنا لا فرق بينك وبيننا.
توفيق - (بعد لحظة) صدقت! ولا أَمل لي مع ذلك في أَن أَعيش إلى جانبك.
شهرزاد - اليوم كلاَّ.
توفيق - ومتى إذن؟
شهرزاد - في الغد، يوم تصبح من مادتنا، لو أَن لنا اليوم مادة.
توفيق - فهمت. وداعاً يا شهرزاد.
شهرزاد - إلى الملتقى!
توفيق الحكيم
3 - من روائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل عال للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
زج بنفونوتو تشلليني إلى غيابة الحصن الرهيب (حصن سانت انجيلو) مرة أخرى، وهو كسير الساق، طريح الفراش وألقي في تلك المرة إلى غرفة مظلمة ضيقة رطبة، تتمثل فيها روعة الأسر، ورهبة العدم؛ وشعر أن لهب حياته يخبو، فانكب على قراءة الكتاب المقدس استعداداً للقاء ربه؛ ولكنه بعد أن لبث أياماً في قراءته، شعر أن قبساً جديداً يضئ حياته، وتولاه نوع من السكينة المعنوية وصفاء النفس؛ ويصف لنا تشلليني ذلك التطور النفسي الغريب الذي حقق له خلال الألم المبرح نوعاً من السعادة، وحوّله من فتى مضطرم الأهواء والنزعات، إلى شبه قديس يتجرد بعواطفه نحو الملكوت الأعلى، لا يذكر شيئاً من ملاذ هذا العالم وحواسه؛ ويقص علينا في عدة صحف شائقة حوادث حياته في ذلك الظلام الدامس، وكيفعرضة للأحلام الروحية البديعة، ويبدو تشلليني في هذا الوصف كاتباً بارعاً، في بيانه كثير من القوة والسحر؛ والمحن تطلق البيان والشاعرية؛ أجل، وغدا تشلليني شاعراً أيضاً، يكتب فوق الصفحات البيضاء من (توراته) أبياتاً من الشعر الصوفي، ويشتغل بوضع قصيدته الكبيرة (الكابيتولو) في وصف السجن ومديحه، ووصف ما عانى من ألم، وما آنس من سعادة نفسية
ثم توفي محافظ الحصن، صديقه القديم الذي كان يرعاه ويجتهّد في تخفيف محنته وخلفه أخوه في منصبه. وكان البابا كلما خطر له أن يطلق تشلليني من أسره تدخل ولده السنيور بيرلويجي وحال دون قصده. وكان خصوم تشلليني يودون موته بأي الوسائل، وكان السم بالطبع أيسر وأنجح الوسائل التي تستعمل في هذا العصر الفياض بالجريمة والغدر. وعلى ذلك عهد أحد رجال البطانة إلى أحد حراس السجن أن يضع شيئاً من مسحوق الماس في طعام تشلليني، وعهد بسحق الماس وإعداده إلى صائغ من أريزو؛ وقدم الطعام المسموم إلى تشلليني فأكله، ولكنه لاحظ في النهاية ذرات تلمع في أحد الصحون، فخفق قلبه، واعتقد
بعد فحصها أنها ذرات الماس القاتلة. يقول: (فأيقنت عندئذ بأني هالك، وامتزج الحزن والإيمان في قلبي حينما هرولت إلى الصلاة. ولبثت مدى ساعة أواجه الموت المحقق، وأضرع إلى الله، وأشكره على أن هيأ لي هذا الموت الهين، وشعرت برضى عميق، وباركت العالم والزمن اللذين عشت فيهما؛ والآن فإني أعود إلى أرض أفضل برعاية الله التي أيقنت إني كسبتها). ولكن أملاً غامضاً في الحياة حمله على أن يتأمل الذرات اللامعة مرة أخرى، وأن يفحصها بواسطة مدية صغيرة، فانتهى بعد فحصها وسحقها إلى أنها لا يمكن أن تكون من الماس، وأنها مسحوق مادة لامعة أخرى لعلها لا تؤذي الحياة. والظاهر أن الصائغ الذي عهد إليه بسحق الماس قد طمع فيه واستبقاه لنفسه واستبدله بهذه المادة. وعلى أي حال فقد نجا تشلليني من هذه المحاولة، واستمر أياماً يرفض الطعام الذي يحمل إليه ما لم يذقه أمامه حارس السجن
وقضى ربك أخيراً أن تختم المأساة المروعة وأن يطلق سراح البريء. ذلك أن الكردينال دي فرارا مبعوث فرانسوا الأول ملك فرنسا قدم إلى رومة لمفاوضة البابا في بعض الشئون، وانتهز هذه الفرصة فالتمس من قداسته أن يفرج عن تشلليني، وأن يسلمه إليه، منوهاً باهتمام ملك فرنسا بأمره، فاضطر بولس الثالث أن يجيب ملتمسه، وأوفد رسوله في الحال إلى الحصن مع كبيرين من حاشية الكردينال، وأفرج عن تشلليني، وأخذ إلى الكردينال دي فرارا، فاستقبله بترحاب، وأنزله بقصره. فلبث به مدى حين ينفض عنه عثار السجن، ويستجمع قواه الذاهبة، ويستعيد مواهبه التي كادت أن تخبو. ولما انتعشت نفسه، عاد فانكب على عمله المحبوب، وأخذ يشتغل بطائفة من الأواني والتحف التي عهد إليه الكردينال دي فرارا بصنعها. ولما أتم الكردينال مهمته في رومة اعتزم السفر إلى فرنسا، فسار تشلليني في ركبه مع فتاه اسكانيو وزميل له يدعى باجولو، وسبفه الكردينال إلى فرنسا، وتخلف هو حيناً في فلورنس وفيرارا، ثم كتب إليه الكردينال ليوافيه إلى باريس، فسار إليها مع عامليه، ولم يكن راضياً عن معاملة الكردينال له من الوجهة المادية، ولكنه لم يستطع التخلف قياماً بحق الوفاء والعرفان لأنه هو الذي أنقذه من إسار السجن. ووصل إلى باريس، ثم سار إلى فونتنبلو حيث كان يقيم الملك وبلاطه، وهنالك لقي الكردينال، فأكرمه وأنزله منزلاً حسناً، ثم استقبله الملك فرانسوا الأول بترحاب وأغدق
عليه عطفه، وقدم إليه التحف والحلي التي صنعها لحسابه، فأعجب بجمالها ودقتها وهنأه على براعته، وعهد إليه بصنع تحف أخرى، وأقطعه منزلاً للعمل والإقامة، وأجرى عليه راتباً حسناً. وهنا يفيض تشلليني كعادته في وصف التحف التي عهد إليه ملك فرنسا بصنعها والزخارف التي وضع نماذجها لبعض أبواب قصر فونتنبلو، ثم يصف لنا حياته اليومية في عاصمة فرنسا. وكانت كالمعتاد حياة عاصفة مليئة بالشجار والمنازعات، وكان قد اتخذ له صاحبة جديدة، هي فتاة فرنسية تدعي كاترينا، تشتغل لديه كنموذج فني، فكانت هذه العلاقة مثاراً لعدة منافسات وفضائح غرامية يصفها لنا تشلليني بصراحته المعروفة. ويقص علينا كيف فاجأ ذات يوم فتاه باجولو متلبساً بالخيانة مع كاترينا، وكيف تسممت بينهما العلائق من أجل ذلك، وطرد الفتاة الخائنة وصاحبها، ثم انتهى بأن رتب لهما انتقاماً جهنمياً هو أنه عقد زواجهما بالإكراه، وسيفه معلق على رأسيهما ثم عاد بعد ذلك فاستخدم كاترينا نموذجاً وخليلة لكي يذل بذلك أنف عامله السابق باجولو، وكيف أنه استخدم بعد ذلك فتاة أخرى، وأولدها طفلة ثم صرفها مع طفلتها بشيء من المال، ولم يرهما بعد ذلك قط
ولبث تشلليني في خدمة ملك فرنسا حيناً من الدهر، ولكنه لم يحظ بعطف الدوقة دتامب صاحبة الملك، وكانت تستأثر يومئذ بالنفوذ في البلاط، وأنفت نفسه من أن يترضاها بوسائل لا تتفق مع كبريائه، فلبثت من جانبها تدس له لدى الملك وتخلق الصعاب في وجهه. ولكن الملك أعرض عن تحريضها حيناً، وعهد إلى تشلليني بأعمال فنية كبيرة منها تماثيل فضية عديدة، وأحواض زهر، وباب برنزي وغيرها، وأدى الفنان هذه الأعمال كلها ببراعته الفائقة، وأعجب بها الملك أيما إعجاب. وأخيراً شعر تشلليني بأن عطف الملك قد فتر، وعاف هذه الحياة المضطربة الفياضة بالأحقاد والدس، فاستأذن في السفر، وذهب إلى الكردينال دي فرارا يلتمس إليه العون في العودة إلى وطنه، فأجاب ملتمسه، وغادر فرنسا غير آسف على فراقها، ووصل إلى إيطاليا بعد رحلة شاقة، وقصد إلى مدينة فلورنس مسقط رأسه، وكان ذلك في صيف سنة 1445. وبعد أن أقام أياماً إلى جانب أسرته، سعى إلى لقاء الدوق كوزيمو دي مديتشي أمير فلورنس، فاستقبله بترحاب وعهد إليه بصنع تمثال (لبرسيوس) وتمثال نصفي له، وقضى حيناً في خدمته، ولكن سوء تفاهم وقع بينه وبين الدوقة زوج الأمير، حمله على مغادرة فلورنس، وعندئذ سافر إلى البندقية وأقام بها
حيناً ثم سافر إلى رومة وزار هنالك ميشيل أنجلو المهندس والفنان الخالد، وكان يومئذ يعني ببناء كنيسة القديس بطرس وزخرفتها، ليفاوضه في بعض المسائل الفنية. ثم عاد إلى فلورنس، بعد أن عاد التفاهم بينه وبين الدوق، واشترى هنالك ضيعة صغيرة بما اجتمع له من المال، واستقر هنالك منكباً على تحفه وتماثيله
وهنا ينتهي ما كتبه بنفونوتو تشلليني عن حياته. وقد كتب تشلليني هذه الصحف بين سنتي 1558 و1566، ولكنه يقف فيها عند سنة 1562. وكانت أوصاب الشيخوخة قد دهمته يومئذ، وذهبت بذلك العزم المضطرم الذي كان يلتهب أبدا؛ وملك تشلليني سحر القلم فكتب في ذلك الحين أيضاً قصته (تراتاتي) يكرر فيها القصة القديمة المعروفة بذلك الاسم. وليس في حياته ما يستحق التدوين يومئذ غير زواجه سنة 1565، وهو في الخامسة والستين من خادمته بيرا دي سلفادوري، تزوجها عرفاناً بما قدمته في خدمته أثناء مرضه من الغيرة والإخلاص، ورزق منها بولدين هما أبنه أدريا سيموني، وأبنته مادلينا، وتبنى أيضاً أبناءها من زوجها الأول. وتوفي الفنان الكبير في 13 فبراير سنة 1571، بمنزله في فلورنس، ودفن باحتفال فخم، وخبت تلك الحياة التي لبثت سبعين عاماً تملأ ما حولها حركة ونشاطاً واضطراما.
هذه خلاصة لذلك المجلد الضخم الذي تركه لنا بنفونوتو تشلليني عن حياته الغريبة الحافلة. وإذا كان تشلليني قد عُدّ من أقطاب الفنانين في عصر الأحياء، فانه يرتفع بأثره إلى صف أقطاب كتاب هذا العصر. ولم يكن تشلليني كاتباً كما قدمنا، ولم تهيئه تربيته الساذجة، ولا حياته الشريدة المضطربة لمعالجة الكتابة؛ ولكن البيان هبة الطبيعة؛ وقد كان تشلليني أبن الطبيعة، وهبته كثيراً من خلالها الباهرة؛ فكان القلم في يده يدون به حوادث حياته، كالريشة يرسم بها نماذج تحفه. وليست روعة ترجمة تشلليني في هذا البيان القوي الساذج الساحر فقط، ولكنه أيضاً في تلك الصراحة الخشنة التي يحدثنا بها تشلليني، وفي تلك البساطة الرائعة التي يكشف لنا بها عن دخائل نفسه. ويقول لنا تشلليني في الخطاب الذي يوجهه إلى صديقه بنديتو فارشي بشأن ترجمة أنه لم يكتب إلا ما وعته الذاكرة من حقائق حياته. يقول: (والواقع أنني لم أكتب سوى الصدق، وقد أغضيت عن كثير من الحوادث العجيبة التي كان غيري يعطيها أهمية خاصة. ذلك أن لدي شئوناً عظيمة كثيرة أقصها،
وقد تركت كثيراً مما هو أقل أهمية منها لكي لا يفيض بي القول فأخرج مجلداً ضخماً جداً). ولم ينته إلينا قبل تشلليني أو بعده أثر كأثره يمتاز بتلك الروعة والصراحة والحقائق المدهشة، وإن كانت هنالك ثمة تراجم شخصية عديدة غربية وشرقية ترتفع إلى ذروة البيان والطرافة الأدبية. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما بين ترجمة تشلليني و (اعترافات) جان جاك روسو من وجوه الشبه والتباين، وأخصها أن جمال ترجمة تشلليني مستمد بالأخص من روحه التي تكاد تمثل في كل صفحة من صفحاته؛ أما جمال الاعترافات، فهو مستمد على الأغلب من السحر الذي يسبغه بيان روسو وقلمه على حوادث حياته. وفي رأينا أن ترجمة تشلليني تتفوق من ناحية الفن والطرافة والروعة على اعترافات روسو؛ وعلى أي أثر غربي آخر من نوعها.
ولدينا في العربية أثر هام من نوع التراجم الشخصية القوية. ذلك هو ترجمة المؤرخ الفيلسوف أبن خلدون لنفسه، وهي المشهورة (بالتعريف). فقد دوّن أبن خلدون حوادث حياته في مجلد خاص في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، أعني قبل أن يكتب تشلليني ترجمته بقرن ونصف؛ و (التعريف) ترجمة شخصية، ولكن الحياة السياسية العاصفة التي خاض أبن خلدون غمارها والتي يقصها علينا في هذا السفر، تسبغ على (التعريف) لون التاريخ العام؛ ذلك أبن خلدون ضنين علينا بمواطن الإفضاء الشخصي التي تملأ ترجمة تشلليني، وهو يؤثر دائماً أن يدون من حوادث حياته ما يرتفع إلى أهمية الحياة العامة وحوادث التاريخ؛ بيد أنه يحدثنا أيضاً عن نفسه وعن خلاله، ولا يتردد في الافضاء بكثير مما لا يحسن الإفضاء به، لا عن حياته الداخلية ولكن عن حياته العامة. وفي تعريف أبن خلدون، كما في ترجمة تشلليني عنصر القصة الشائقة لحوادث حياة حقيقية. فان فيلسوفنا يصف لنا في تعريفه كيف يجوز من قصر إلى قصر، ويتعرض لمخاطر النقمة والاعتقال والمطاردة، ويسير في ركب الجند، ويمثل إلى جانب أميره في المعارك الحربية، ويقوم بقضاء المهام الخطرة في أعماق الهضاب والصحاري. ونراه في دمشق في السبعين من عمره يجوز مخاطر جديدة، وينزل من أبراج المدينة المغلقة مدلى بحبل ليقصد إلى معسكر الفاتح التتري تيمورلنك، وغير ذلك من الحوادث الغريبة الشائقة. والواقع أن هنالك شبهاً عظيما بين ترجمة أبن خلدون وترجمة تشلليني مع اختلافهما في
النوع، فكلتاهما تفيض بمواطن الجرأة والمخاطرة ومواطن الإفضاء والصراحة. وإذا كانت ترجمة الفنان الإيطالي تعتبر في الأدب الغربي نموذجاً بديعاً للترجمة الشخصية، وقطعة رائعة من العرض الساحر والقصص الشائق، فان (تعريف) أبن خلدون يتبوأ مثل هذه المكانة في أدبنا العربي.
ولأثر تشلليني فوق ذلك أهمية تاريخية، فهو يصور لنا كثيراً من ألوان الحياة الاجتماعية في عصر الاحياء، وهو عصر تطور عظيم في تاريخ الإنسانية؛ وفيه وصف شائق لكثير من أحوال البابوات وبذخهم وقصورهم، ووصف لأخلاق الأحبار ودسائسهم واستغلالهم لطبقات المجتمع الأخرى، ووصف لأحوال الجمهوريات الإيطالية في ذلك العصر وأمرائها وسادتها؛ والخلاصة أنه يلقى أكبر الضياء على تاريخ عصر من أهم عصور إيطاليا، وعصر يعتبر بحق فجر التاريخ الحديث. وفي رأينا أن كتاب تشلليني من أجدر الآثار الغربية وأحقها بالترجمة العربية؛ وقد ترجم فعلاً من الإيطالية إلى جميع اللغات الأوربية؛ فعسى أن يتقدم بعض شبابنا المثقف فيتحفنا بترجمة عربية بديعة لذلك الأثر البديع.
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان المحامي
2 - الامتيازات الأجنبية والضرائب
للأستاذ زكي دياب المحامي
يرى بعض الشراح أن إعفاء الأجانب من الضرائب التي تفرضها الحكومة المصرية قائم على اتفاقات دولية، وهم في زعمهم خاطئون. وآية ذلك أن الاتفاقات الخاصة بالامتيازات كانت ترمي إلى إعفاء الأجانب الكيدية، وخصوصاً ضريبة الرأس وهي ما تقضي قواعد الشريعة المطبقة في الدولة العلية حينذاك بأن تجبى من كل أجنبي يقيم أكثر من سنة في بلد إسلامي. وكانت تعتبرها الشريعة أيضاً نوعاً من الجزية، فضلاً عن أن في دفعها مظهراً للاستبداد والتعسف المالي. هذا ويلاحظ أنه وإن كانت هذه الاتفاقات تحمي الأجانب من حملة المكايد إلا أنها لم تعفهم إعفاء مطلقاً من الضرائب بكافة أنواعها. وقد كان الأجنبي منظوراً إليه بعين الكراهية لنزعته الدينية، وبدراسة نصوص الاتفاقات الفرنسية والإنجليزية يظهر ذلك جلياً. على أنه وإن كانت الاتفاقات الفرنسية تعفي الأجانب من فرائض صغيرة فيها شيء من التعسف، فان ذلك الوضع لا يمنع من فرض ضرائب معروفة لدى الدول المتمدينة، فالهوة سحيقة بين الجزية القديمة التي كانت تفرض من جانب الظافر على المهزوم وبين الضرائب التي تفرض في الدول الحديثة.
وترى الأوساط الأجنبية هنا وجوب الإعفاء من كل تلك الضرائب، ضريبة الأراضي العقارية والرسوم الجمركية، ويرد على هذا بأن العامل الوحيد الذي حدا بالدول إلى طلب هذا الامتياز والحرص عليه هو وضع الأجانب في مأمن من تيار الضرائب الكيدية التي كان يفرضها الحكام في ذلك الوقت بدليل أن نص الاتفاقات لا يتضمن إعفاء عاماً للأجانب، فالدول في الواقع كانت تقصد حماية رعاياها من حيث طريقة جباية الضريبة ولكنها لا تعارض في فرضها. وما دامت قد ذهبت العلة فلا داعي لبقاء المعلول. فدوافع الكيد معدومة.
ولا غرو فمبدأ المساواة في تحميل الضرائب قد حبذته لجنة التحقيق في بيانها سنة 1878. وهي مؤلفة من أجانب عينوا بعد مفاوضات مع الدول. أليست هذه حجة قوية؟ وأليست هذه شهادة شهود من أهلها؟
وفي مؤتمر لندن سنة 1885 أكدت الدول بصراحة رغبتها في المساواة، ورأت من العدل
إخضاع الرعايا الأجانب القاطنين بمصر لنفس الضرائب التي يخضع لها المصريون. . وقبلت (الدول) تنفيذ ديكريتو سنة 1884 الخاص بالضرائب على أراضي البناء فسرى على الأجانب والمصريين كما سبق القول. وفي قرارات ذلك المؤتمر الخطير حجة لنا دامغة لا يأتيها الباطل من بن يديها ولا من خلفها.
وفي مستهل القرن العشرين استنكرت الشخصيات الكبيرة المعروفة في عالم السياسة نظام الامتيازات في مصر فصرح اللورد ملنر في كتابه أو (إنجلترا في مصر) بأن إعفاء الأجانب من الضرائب في القطر المصري من المنح التي خلقتها الامتيازات بدون وجه حق، وفي عبارته التالية مبلغ ذوده عن رأيه الحكيم:
'
وأعرب لورد كرومر بأنه لا يتردد في القول بأن النظام المعروف بالامتيازات في مصر لا يتفق إطلاقاً وحالة مصر الحاضرة:
' ، ' ' ، '
وبعد، أليس من الجور في أخص صورة أن مصر وقد خطت في سبيل المدنية الصحيحة والتقدم خطوات لم تنكرها عليها الدول؟ أليس من الجور أن مصر هذه إن أرادت فرض ضريبة جديدة تستعين بها على ما تقوم به من أعمال كبار أن تلجأ إلى اثنتي عشرة دولة تلتمس موافقتها. إنه مظهر من مظاهر قصور السيادة، وجرح لا يندمل في صميم العزة القومية.
ومن ذلك ما حدث خلال المدة التي أعلنت فيها الأحكام العرفية على البلاد، إذ جرت السلطة العسكرية على إصدار أوامر تسري على الوطنيين والأجانب سواء بسواء، وكان بين هذه الأوامر ما يتعلق بفروض مالية قبل الأجانب، والوطنيون يحملونها. فلما ألغيت الأحكام العرفية أثار إلغاؤها دفائن العصيان المدني لأوامر الحكومة المصرية، فامتنع أكثر الأجانب عن دفع ضريبة الحفر، وأشار بذلك بعض القناصل وعللوا الامتناع بأن دولهم لم توافق عليها. وما كانوا ليقولوا كلمة وقت أن فرضتها السلطة العسكرية.
ومجمل القول أن نظام الضرائب في مصر جد متناقض، وعلة ذلك نظام الامتيازات العتيق والتوسع الضار الذي خلقه العرف السائد الآن والقواعد القديمة البالية، والأوضاع الكيدية
المهينة التي صورتها الامتيازات. وهل ترى من العدالة أن الأراضي الزراعية وجلها في يد المصريين تثقل بالضرائب حتى لتكاد تستغرق الإيراد، أما التجارة الواسعة وهي في يد الأجانب، والصناعة الممتازة المكسبة، والمصارف الكبرى وكل ذلك في يدهم، فمعفى من الضرائب.
وأخيراً فلا تردد في إبراز الحقيقة نيرة في سطور معدودة ذلك أن قيام الأجانب متمسكين في وجه مصر بامتيازاتهم كلما حاولت الحكومة المصرية السعي لإلغائها أو تخفيف وطأتها سيكون له من الأثر الخطير ما يقرب أجل الامتيازات، لأن الحال على ما هي عليه لن تدوم طويلاً ولابد لمبادئ العدالة أن تسود يوماً ما.
(تم البحث)
زكي دياب
الذكرى
للأديب حسين شوقي
مضى عام كامل منذ أن رافق (س) رفاتها إلى المقرّ الأخير، فرأى أن يزور القبر بهذه المناسبة وأن يضع على الضريح طاقة من البنفسج، لأنها كانت تحب هذا الزهر الذي طالما لاحت زرقته في إنسانيْ عينيها، ثم قصد إلى محل الشاي حيث اعتاد مقابلتها لدى خروجها من عملها، وجلس إلى المائدة التي كانت تجلس إليها وهي تنتظره في شغف وسرور. . ثم أقبل الخادم وكان هو بعينه الذي خدمهما في العام الماضي، فحياه (س) كالعادة في لطف ودعة، ثم طلب الطلب نفسه: قدحْين من الشاي، فدهش الخادم لأن الرجل لم يكن معه أحد، ثم أخرج (س) مجموعة من الرسائل التي علتها صفرة القدم ثم أخذ يتلوها واحدة واحدة للمرة المتمّمة للمائة، ولكن كان يجد فيها دائماً لذة جديدة كأنها لحن من ألحان ديبوسي الشجية التي لا تملها النفس أبداً. .
ها هي ذي ذكريات الماضي ماثلة أمامه: مقابلاته الأولى مع محبوبته، رحلاتهما، نزهاتهما، نوادرهما، جلساتهما في هذا المكان نفسه، تناولهما الشاي في هذه الساعة نفسها، كل ذلك كان يحسّ وجوده، حتى المحبوبة خيل إليه أنها بجواره. . كان يشعر بلذّة عظيمة من أجل هذا، لقد أتى عملاً يعدّ من معجزات الرسل إذ تحدّى الفناء وعلا سلطانه فوق سلطان الدهر، ولو إلى زمن قصير!
مضت ساعة، فساعة ولم يحضر أحد. . وكان الخادم يرقبه فظن أن الرجل ضحية خيبة أمل من عشيقة. . ولكن على حين فجأة تذكر قصة هذا الرجل ففهم الحقيقة المؤلمة لما كان يبدو على (س) من مظاهر اليأس المتجلد، فخجل من نفسه وأشفق على الرجل شفقة عظيمة، كما أعجب من تحدّيه للموت ومن وفائه لمحبوبته المتوفاة، ثم اقترب منه ومد إليه يده معتذراً لسوء ظنه قائلا: آسف جداً يا سيدي لقد شككت في وفائك، سامحني! فصافحه (س) في حزن وألم مردداً: لا بأس لا بأس. . وكأنه أفاق من حلمه الجميل فعاد إلى عالم الألم والشقاء، يئن تحت سلطان الزمن.
حسين شوقي
رأي عربي مسيحي في محمد
محمد والعرب
قصيدة في ذكرى مولد الرسول
بقلم وصفي قرنفلي
توطئه
عقيدتي الشخصية، أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كبقية الرسل، وكما جاز للمسيحيين أن يجمعوا للمسيح (ص) صفتيْ الألوهية والإنسانية الممتازتين، فقد يجوز لي أن أرى في سيّد قريش نبياً دينياً ومنقذاً قومياً في آن واحد. فأنا أحترمه (ص) كنبي جاءنا بالهدى والرجمة، وانضوى إلى لوائه كمنقذ الشرق من إسار الفرس والرومان، وأنا أرى في الدين الإسلامي قوة للشرق في جهاده يجب استغلالها، وإذا لم يكن للقرآن من يدٍ إلا صيانة لغتنا - واللغة أجلّ مظاهر القومية - لكفاه ذلك فضيلة تحمد، ويداً تشكر.
فاعترافاً بفضل محمد وقرآنه على العرب والعربية كتبت ما كتبت، وأكتب من طوال الفصول في جرائد الفتح في (مصر) والاعتصام في (حلب) والرابطة في (دمشق) وسواها من الصحف الإسلامية، عدا رسائلي وقصائدي القومية في بقية الصحف العربية
وفي سبيل محمد وقرآنه لقيتُ وألقى ما أكابد من عَنَتِ الجهل وسخر رجاله، فُحبيتُ (الرياء) وساماً، ورُميت بالكفر والضلالة، وقيل إنني أداري الأكثرية فأصانع المسلمين، وأني حزب القوة أنّى كانت القوة، وكان أشد أولئك الغاضبين عنَتاً وغيظاً، كهل مسيحي يدعى (سمعان) قرأ لي مقالاً في (الجزيرة) فهزّه الغضب حتى لقد همّ بى لو استطاعني، ولكني هزأت به وترفعت عن خصامه، فالى (سمعان) هذا ومن أخذ أخْذَهُ صرفتُ وجه الخطاب في مستهل القصيدة.
إنني مسيحي كما يحب (سمعان) أن أكون، ولكني لا أرى في مسيحيتي ما يمنعني عن الاعتراف بهدى محمد ويده على الإنسانية والعرب!
ولعل الضلالة كل الضلالة أن نحصر الفضيلة والهدى في دين من الأديان، فلكل دين ميزاته، ولكل دين فضائله، ومرجع كل دين إلى الله (ولله ما في السموات وما في الأرض،
والى الله تُرجع الأمور)
القصيدة
قد يقولون (شاعر نصراني
…
يُرسل الحبَّ في كذاب البيانِ)
(يتغنى هوى الرسولِ ويهذي
…
بانبثاق الهدى من القرآن)
(ينتحي الجبهة القوية يحدو
…
ها رياءً، والشعر (لا وجداني)
(قسماً بالمسيح، لو قام للشيطا
…
ن حزب، أشاد بالشيطان.)
كذبوا والرسولِ، لم يجر يوماً
…
- بخلاف الذي أكنّ - لساني
ما تراءيت بالهوى، بل سقاني
…
طائفُ الحبّ والهوى ما سقاني
أوَ عارٌ على فتى يعربيٍ
…
أن تغنّى بالسيد العدنانى؟
أوَ ليس الرسول منقذَ هذا (م)
…
الشرق من ظلمة الهوى والهوان؟
صاح بالشرق واستثار بنيه
…
فتنادوا بالفرس والرومان
ومشوا للحياة تحت رايته السم
…
حاءِ صفّاً موطَّد الأركان
وبنوا مجدنا المؤثّل صرحاً
…
من نِثار العروش والتيجان
وأتوا قمة الزمان فكانوا
…
سادة الأرض في شباب الزمان
أَفكُّنا لولا الرسول سوى العب
…
دان؟ بئست معيشة العُبدان!
أو ليس الوفاء أن تُخلص المن
…
قذ حباً إن كنت ذا وجدان؟
فالتحيات والسلام أبا القا
…
سم تُهدى إليك في كل آن
قلْ (لسمعان) إن ما في عروقي
…
عربي، وأن ما في لساني
أتغنى بالحق، والحق يا صا
…
ح لا مسلم ولا نصراني
إنما الشاعر الذي أنا منه
…
فوق ذاك الارتجاف والبهتان
قد تعالى عن الرياء بريئاً
…
من هوى الشيخ أو هوى المطران
كلُّ هذي الأديان - لو عقل النا
…
س - سبيل هادٍ إلى الرحمن
أخذته الغاياتُ فانشعب السي
…
رُ وضلت قوافل الركبان
فاذا الناس في مريج من الأم
…
ر حيارى مشلولة الأذهان
يترامون بالكبائر والاث
…
م ويمضون طيّة الأضغان
أيها الناس! ما أتى الرسل للتف
…
ريق لكن لوحدة الإنسان
كلنا مسلمون لله، فحتا
…
م الترامي بالكفر والإيمان؟
كلنا صائرون لله يوماً
…
(يوم تنشق وردة كالدهان)
أتدينون بعضَكم؟ مَن حباكم
…
أيها الناس سلطة الديان؟
فاتقوا الله! واتركوا الأمر لل
…
هـ، وخلّوا ضلالة الكهّان
أم نراكم علمتم الغيب فأصدر
…
تمُ إذ أصدرتمُ عن عيان؟
فقذفتمْ في زيداً وبوّأ
…
تُم عميراً مقصورة في الجنان
جلّ سبحانه عن الشرك في الرأ
…
ي وعلم المصير والسلطان!
منقذ الشرق! قد أتيناك نشكو
…
ضيعة الحق وانخذال الأماني
فاحي فينا ميْتَ العزائم وابعث
…
نائرات الهدى ودُرس المباني
قد أضعنا ذاك التراث وضِعنا
…
في شعاب الحياة والوديان
منقذ الشرق! أنت لم تنقذ المس
…
لمَ دون المواطن النصراني
فجزاء الإحسان أن ينهض الشر
…
ق جميعاً بواجب المهرجان
حمص (سورية)
وصفي قرنفلي
لماذا أخفقت جمعية الأمم في نشر السلام في العالم؟
للكاتب الإنجليزي الشهير
(ولز) من أعظم كتاب العالم اليوم، أصالة رأي وقوة بيان، يزيد كتاباته روعة نزعته الإنسانية الصادقة التي تتجلى في كل ما يكتب. لا يشاطره مكانته الرفيعة في عالم الأدب الغربي من كتاب اللغة الإنجليزية سوى (برنادشو) الكاتب الالرندي الشهير بنقده اللاذع. غير أنه يختلف عن (شو) في أنه لا يقتصر على هدم الأنظمة الاجتماعية التي يتراءى له فسادها، وإنما يكلف نفسه عناء خلق أنظمة جديدة تخلفها. فهو يهدم ليبني، وينتقد ليصلح.
من أحدث ما كتب (ولز) ومن أروع ما أنتج، كتابه (شكل الأشياء القادمة) الذي بحث فيه ما يكون عليه العالم في سنة 2116؛ فقد تصور شخصاً يعيش في هذا التاريخ، أخذ يدرس تطورات العالم الاجتماعية منذ سنة 1913، حيث انتهى ذلك التطور بحكومة عالمية يعيش فيها كل فرد سعيداً، لا استعباد فيها ولا استبداد، ولا احتكار ولا منافسة.
وليُلمّ قراء الرسالة الذين لم تصل أيديهم إلى هذا الكتاب بعض ما فيه، ترجمت فصلاً منه بالعنوان المذكور آنفاً ترجمة حرة مختصرة:
بحث في الفصل السابق لهذا الفصل معاهدة فرسايل بحثاً مستفيضاً وانتقدها انتقاداً مراً، ثم أخذ في هذا الفصل يشرح أسباب فشل جمعية الأمم كما يأتي:
(قبل أن نضرب صفحاً عن ذكر (ويلسون)، ذلك الرجل الخيالي، يجدر بنا أن نلفت الأنظار إلى العوامل التي أدت إلى فشله.
لم تكن شخصيته مكتملة للميزات الضرورية لنجاح الهدف الذي كان يرمي إليه. ولكن هذا النقص يجب ألا يجعلنا نتناسى استحالة تحقق مطمحه في ذلك الوقت.
فأنانيته الضيقة، والروح الانتقامية التي عوملت بها دول أوربا الوسطى وما إلى ذلك، جعلت من الخطر مجابهة العالم غير المستعد آنئذ بجمعية أمم.
فلم يكن في ذلك الوقت استعداد فكري كاف لقبول نظام عالمي؛ و (الحكومة العالمية) أو الحكومة الحديثة الحاضرة كانت مجرد فكرة غامضة لم تبحث جيداً. فلا ريب إذن أن وليسون تسرع في خلقه جمعية الأمم، إذ كان لزاماً أن ينتشر علم النفس الاجتماعي، وأن يطبق قبل القضاء على فوضى الحكومات الملكية واستبدالها بسلطة مركزية.
غير أن ويلسون الذي لم يسبر غور الواجب الذي ألقي على عاتقه، ولم يحط بما يكتنفه من عقبات، رأى من غير روية ولا تبصر، انه من السهل عليه توحيد البشر. فقد حاول أن يرتق نظام ذلك الزمن البالي، وأن يجيزه كنظام جديد.
لم يحلم بتهذيب نظام النقد، ولم يفكر بالحاجة إلى انتشار النظام الاشتراكي في العالم، وانقلاب النظم التربوية انقلاباً شاملاً، قبل أن يكون في الإمكان استقرار السلام في العالم.
ولكن على الرغم من كل نقائصه يظهر أنه كان أبعد رجالات زمنه نظراً.
فجمعية الأمم هذه غير الناضجة، والعديمة الأثر، لم تساعد على توطيد السلام الدولي، وإنما على العكس من ذلك كانت حجر عثرة في سبيله؛ إذ منعت الناس أن يفكروا تفكيراً حراً في هذا الموضوع.
ومن المؤسسات التي وجدت لمساعدة جمعية الأمم وعرقلة مساعي ناقديها (جمعية الأمم البريطانية) فكانوا يقولون بأن (وجود جمعية الأمم خير من عدمه). وقد فاتهم أن البد الخاطئ أسوأ من عدمه.
في العشر سنين التي تلت الحرب العالمية لم تكن أفكار مجددة في السياسة العالمية يؤبه لها، ولم يرجع البشر إلى بحث توحيد العالم، إلا بعد أن ثبت لهم ثبوتاً لا شك فيه عدم صلاحية جمعية الأمم للغرض الذي كونت من أجله.
ظلت حركة (الحكومة العالمية) في الاثنتي عشرة سنة التي تلت تلوح وتختفي. وكان من الضروري أن تتوحد جهود محبي السلام والشيوعيين والاشتراكيين، وكل من سار على نهجهم من الذين حاولوا حل المعضلات الاجتماعية، وكانوا لا يزالون يقضون أوقاتهم في مناضلة بعضهم وفي التراشق بالتهم.
وعلى كل فقد انقضى منتصف القرن العشرين قبل أن يتسع نطاق الدعاية في العالم (للحكومة الحديثة).
نابلس
عبد القادر صالح
1 - كتاب نهج البلاغة
بقلم محمد محمد العزازي
ذلك الكتاب المنسوب إلى فارس الفصاحة وصيقل البلاغة وإمام الخطابة، والضارب في ميدان البيان بما لم يلحقه فيه لاحق، ولا وصل إليه سابق. أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. كتاب نابه الشأن، رفيع القدر، بليغ الموعظة، صادق الحكمة، قد توفرت عليه سنين طوالاً أقرأ ما بين دفتيه مرة وأخرى وثالثة حتى بدت لي فيه آراء أردت بها تحقيق أمره. والكشف عن سره. مستنداً في بحثي إلى ما هدتني إليه الفكرة وطول المراس. . وجل الذي قيل في الكتاب كلمات مجملة. لا تشفي غليلاً ولا تقوم دليلاً، فالشيعة على أن الكتاب بجملته وتفصيله لأمير المؤمنين علي، والمنصفون من النقدة والنظار على أن فيه ما هو مدخول منحول بدعوى أنه يتعرض لبعض الصحابة بالطعن والتجريح. .
وهناك من يدعي أن الذي لعلي من القلة بحيث لا يصح أن ينسب الكتاب إليه. وعلى كل فهذه كلمات - كما قلنا - مجملة لا تشبع الباحث. ولا توقف الناظر عند حد أو تلزمه رأياً. وهذا ما يدعونا إلى بحث المسألة على ضوء العلم والأدب والحقيقة والتاريخ. والكتاب في جملته عالي الأسلوب فخم العبارة صقيل الديباجة، لطيف الروح يتحدر إلى النفس بسهولة. والذي يدور عليه الكلام في الكتاب كما يقول الرضى (أقطاب ثلاثة أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ) وهذا تقسيم حسن، والمعقول ألا يخرج كلام أمير المؤمنين عن هذا. . فأمير المؤمنين أحد رجالات الإسلام غير مدافع. وله في الفصاحة والشجاعة والفضل والنبل يد طولى. بايع أبا بكر نزولاً على حكم الإجماع. ورضى بعمر نزولاً على اختيار أبي بكر، وأخطأته الشورى بعد أبن الخطاب، ثم انتهت إليه بعد عثمان. فكان أمير المؤمنين أربع سنين وتسعة أشهر أخذ يصلح فيها ما يراه فاسداً ويجمع كلمة المسلمين ويلم شعثهم. وقد نقض بعض الصحابة بيعته فكانت حروب. انتهى بعدها الحكم إلى معاوية بعد تنازل الحسن. فكل هذا يدعو أمير المؤمنين إلى الخطب في شأنه. وفي صلاح المسلمين وفي رجال جيشه. يحثهم على الأخذ بحقهم، ويستفزهم للقاء عدوهم وإلى الأوامر يصدرها إلى عماله ورجاله وأعوانه. وإلى الكتب والرسائل يبعث بها إلى الثغور والعمال، بل وتجري بينه وبين معارضيه، كل يؤيد رأيه ويقيم حجته ويدعي
الحق في جهته والباطل في جهة صاحبه. أما الحكم والمواعظ فأشياء كانت في نفس على غرسها فيها حب الصلاح للناس يلقيها عليهم يبين لهم طريق الهدى ومنارة الحق ويذكرهم بالله ويفهمهم المعاش والمعاد، مما يدل على إخلاص علي وطيبة نفسه وسمو روحه وكرم أخلاقه وقوة إيمانه وحبه للمسلمين. . .
ولكن الذي يعنينا هو: هل كل ما في الكتاب من خطب وأوامر وكتب ورسائل وحكم ومواعظ لأمير المؤمنين علي.؟ أم أن فيه ما ليس له. . نريد أن نعرض أمام القارئ صوراً مختلفة من الكتاب نشرحها له تشريحاً دقيقاً ثم نخرج على ما يهدينا إليه البحث. وليكن أول ما نعمل فيه المبضع الخطبة الأولى من الكتاب التي يقول الرضى في عنوانها إنها خطبة يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم، وعبارات هذه الخطبة منسجمة ميالة آخذة بعضها بحجز بعض. وهي ميتدأة بتحميد بديع يعقبه تنزيه لله عما لا يليق به، وكلام في معرفته مترتب على بعضه على مثال القضايا المنطقية، ثم ذكر للخلق من ابتدائه إلى انتهائه على مثال ما في الكتب المقدسة، وذكر لخلق آدم ومعصيته وخروجه من الجنة. وذكر لذريته في الأرض، وكلام عن الأنبياء من أبنائه حتى انتهى إلى محمد وبعثه؛ والقانون السماوي الذي نزل به، وخص من ذلك الحق، فتكلم فيه كلاماً كثيراً. ولو نظرنا إلى هذه الخطبة لوجدنا أسلوبها أقرب إلى الأسلوب التأليفي منه إلى الأسلوب الخطابي، فهي خالية من الاندفاعات الخطابية، ويظهر على عباراتها أنها وليدة التفكير، فترتب العبارات على بعضها ترتباً مطرداً على مقتضى قوانين المنطق مما لا يتيسر في الخطابة ولا يتأتى في الارتجال، وما كان علي ليخطب غير مرتجل، والتحميد الذي في أولها (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصى نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا غوص الفطن. الخ.)
هذا التحميد أشبه بالتحاميد التي تبتدأ بها الكتب. وهو يخالف التحاميد في صدر الإسلام. وهو ملحق بتنزيهات كالتي تلحق التحاميد في العصر العباسي حتى أن في العصر العباسي ما يوافقه في المعنى ويكاد يشبهه في اللفظ، ويجري معه في النسق والترتيب والروح، مما يجعلنا نرجح أنه من تحاميد ذلك العصر التي منها (الحمد لله المتعالي عن تشبيه الجاهلين، وتحديد الواصفين، وتكييف الناعتين. يوصف لا بالعرض والطول، وينعت بغير الشبح
الممثول. ويحد لا بالخلق المعدود، والجسم الموجود، بل يتناهى من وصفه، إلى ما دل عليه من صنعه، ويوقف من نعته، على ما أخبر به عن نفسه. وكيف يوصف من لم يره أحد، أو يحد من لم يحده بلد، أو يشبه غير ذي أعضاء، أو يكيف غير ذي أجزاء. لو رئي لوصف، ولو وصف لمثل، ولو مثل لكان له نظير الخ) فكل هذه التنزيهات من منع التحديد والرؤية، ونفي الصفات على نسق واحد في التحميدين. مما يجعلنا لا نشك في أنها وليدة عصر واحد، ونشك في أنها وليدة عصرين، ثم لو قارنا هذا التحميد بتحميدات أمير المؤمنين التي يهدينا البحث إلى أنها له. . لوجدنا بوناً شاسعاً في المعنى والأسلوب والروح مما يظهر منه أن القائل غير واحد. . . ثم لنا نظرة في هذه التنزيهات وهي قوله في صفة الله (الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود. ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل محدود. . . أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده. وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه. ومن ثناه فقد جزاه. ومن جزاه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حده. ومن حده فقد عده. ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه). . هذه التنزيهات تجري على نسق بديع من البيان والمنطق وكلها عقائد كلية في علم الكلام.
وأهم ما يطالع الباحث فيها شيئان: هما المحور الذي تدور عليه. والغرض الذي صيغت من أجله هما منع رؤية الله ونفي الصفات. فمنع الرؤية يؤخذ من العبارات الأولى، لأن الإدراك قد نفي، والرؤية أحد الأدراكات، ولأنها تقتضي تكييفاوقد دلل على بطلان التكييف. ولذلك نرى أبن أبي الحديد عند شرحه لهذا الكلام يطنطن في هذه المسألة، ويدلل عليها بأدلة المعتزلة، ويرد على الأشاعرة رداً قوياً ومعقولاً. وأما نفي الصفات فقد جاء صريحاً في قوله. (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة). . ونفي الصفات كلام جرى بين علماء الكلام وأخذ به المعتزلة - واحتدم فيه النزاع والجدال بينهم وبين الأشاعرة. والمعتزلة ينفون الصفات بدعوى أنها تثبت تعدد القدماء، وأنه لابد من تغاير بين الصفة والموصوف،
وأن الموصوف يسبق الصفة، ولذلك يحرجون الأشاعرة فيسألونهم عن كيفية قيام الصفات بالذات إن كانت زائدة عنها. والذي يعنينا من هذا الكلام أن مسألة الرؤية ومسألة نفي الصفات لم تنشأ إلا بعد نشوء مذهب الاعتزال، وإلا بعد أن اختلف واصل بن عطاء وأستاذه الحسن البصري في مسألة الاختيار ومسالة مرتكب الكبيرة إن لم يتب. فلم يكن لهذه المسائل أثر في زمن علي. ولم يكن لعلي أو الناس وقت يخلون فيه إلى نفوسهم ويفكرون في مثل هذه الأشياء. وليس عندهم ما يدعوهم إلى التفكير في هذه الأشياء. وإنما كانوا في زمن الرسول والخليفتين من بعده يفكرون في الفتوح وفي أنها الدين الجديد وأغلب الخلاف كان في فروع الأحكام لا في أصول العقائد. وفي زمن الخليفة الثالث حصلت فتن سياسية أفضت إلى قتله. ولم تكن هذه الفتن لتترك الناس يفكرون في مثل هذه العقائد، وفي زمن علي قام الخلاف بين أمير المؤمنين وبين ناقضي بيعته فاشتعلت به نار الحرب وانتهى الأمر إلى الأمويين. وحصل بهذا الانقسام خلاف جديد لا في الأشياء التي نحن بصددها وإنما في شيء آخر هو الإمامة، انقسم الناس به إلى شيعة وخوارج ومعتدلين. . فالمعقول إذن والمعروف من التاريخ السياسي وتاريخ علم الكلام أن هذه العقائد جاءت متأخرة عن علي وزمن علي وأنها نشأت بعد نشوء مذهب الاعتزال وصارت من مسائله وكلياته. . . فالدليل ناهض والحجة ناصعة على أن علياً لم يقل هذه العبارات ولا نشأت في عصره. . وربما كان الرضى قائلها. أو أنها وقعت للرضى منسوبة للأمام فألحقها بالكتاب
وبنظرة في هذه العبارات نجدها عبارات تأليفية محضة، فعبارة (نفي الصفات) وعبارة (لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف الخ) هي بعينها الجارية على ألسنة المؤلفين والباحثين في علم الكلام حتى أن أبن أبي الحديد يقول عند العبارة الأخيرة هذا دليل المعتزلة بعينه. . ويظهر على هذه العبارات بأجمعها أنها جاءت وليدة جدل وبحث، وان فيها تكلفا محسوسا جاء من إقامة الدليل المنطقي ومن قرع الحجة بأختها مما يشهد على أن هذا الكلام من أحد المتحمسين لهذا المذهب. والمنافحين عنه وأنه حدث بعد احتدام الجدل بين الفريقين.
(يتبع) - أبو حماد
محمد محمد العزازي
العلم الحديث ينصف العرب
العصور المظلمة تسمية تاريخية خاطئة
للأستاذ بشير الشريقي
هذا هو الموضوع الطريف الذي أثاره في هذه الأيام الدكتور جورج سارتون أستاذ علم التاريخ في جامعة وشنطون، وإني أنقله فيما يلي كما لخصته مجلة (أخبار العلم في عددها 674 سنة 1934
(ليعلم المؤرخون المعاصرون بأن (العصور المظلمة) لم توجد حقيقة؛ من الجائز أن غربي أوربا قد عانى المتاعب خلال القرن السادس حتى العاشر الميلادي من جراء تراجع الثقافة الرومانية التي لم ينعم بها غربي أوربا الاّ زمناً قليلاً؛ وان المشعل الروماني قد همد تحت أقدام البرابرة المهاجرين؛ ولكن نور الثقافة لم يخمد أبداً في الأرض التي تطل على شرقي البحر الأبيض المتوسط، والتي هي الوطن الحقيقي والطبيعي لما نسميه خطأ (بالمدنية الغربية)
لقد انتقل مصباح الثقافة الدري من أيدي اليونان البيزنطيين إلى أيدي العرب الفاتحين المؤمنين بالله وبمحمد، وكان في أيديهم أكثر تألقاً وبهاء.
إن سبب اضطراب آراء مؤرخي القرون الوسطى هو أنهم وان كانوا يجيدون اللغة اللاّتينية، فقد كانوا يجهلون اللغة العربية جهلاً تاماً، على حين كان كل تقدم في العلم والثقافة، يسجل منذ عهد محمد حتى منتصف القرن الثاني عشر باللغة العربية.
ولكن هذا لا يعني بأن مدينة الإسلام المشرقة التي امتدت من قلب الهند حتى منتهى غربي أسبانيا المتوحش كانت من عمل الفاتحين فحسب؛ يقول الدكتور سارتون، إن العرب أول من نزلوا الميدان أسيادأ للعالم، لم يكونوا أحسن ثقافة من قبائل الهند الغربية، ولكنهم كانوا ذوي أهبة ممتازة فاقتبسوا بسرعة عجيبة كل ما يمكن اقتباسه من مدنية البيزنطيين، واستطاعوا في خلال جيلين اثنين فقط أن يرتقوا في العلم منزلة لم يرتق إليها أحد من قبلهم، وكذلك برهنت الثقافة التي نشروها على أنها توافق طبيعة كل الشعوب.
إن تكييف العرب لعلوم اليونان وتوسيعهم لفنونهم قد بلغ بهم الذروة في الفلك والرياضيات والطب والطبيعيات والكيمياء، وهم لم بقتصروا على نشر الثقافة فيما بينهم، بل نشروها
خارج ممتتلكاتهم. إن موسى بن ميمون أعظم فلاسفة اليهود، لم يكن يكتب بالعبرية، بل بالعربية، ومن المسلم به الآن أن تأثير العرب كان قوياً في نجاح القديس توماس أكونياس مؤسس مناهج الدرس في العصور الوسطى التي تعتبر بحق جسراً بين تفكير القرون الوسطى والتفكير الحديث.
وعلى ذلك فان سلسلة الثقافة ظلت تامة ولم تنقطع من عهد اليونان إلى ثقافة العرب إلى مدينة أوربا الحديثة
شرقي الأردن
بشير الشريقي المحامي
تحليل نفسي
الأفعال المفقودة أو الفلتات
للدكتور عبد الفتاح سلامة
إذا كانت الأمثلة السائرة والقصص المتداولة بين الجمهور تدل على شيء، فإنما يكون ذلك لأنها نتيجة لتجارب كثيرة، لمس كل فرد حقيقتها، وعرف مقدار الحكمة فيها ويمكن له الاستفادة منها بتطبيقها على ما قد يصادفه من حوادث. وقد تكون القصة الآتية واحدة من هذه القصص، وإنا لنذكرها هنا لأنها تحتوي على فعل مفقود أو فلتة. وإذا عرفنا أن راوي هذه القصة هو أحد رجال البوليس فان من السهل معرفة إلى أي حد يمكن للبوليس والقضاء الاستفادة من هذه الفلتات.
قال صديقنا - والعهدة على الراوي - إن اثنين كانا يسيران في جهة بعيدة عن العمران فأراد أحدهما اغتيال الآخر، وبعد أن استعطفه دون جدوى قال له: وهل تظن أنك ناج من القصاص؟ فأجابه: ولمَ لا؟ فقال المسكين: (الهوا يخبر). ولكنه قتله ووارى جثته التراب ورجع وحده إلى بلدته؛ ولم يهتد أحد إلى مقر القتيل المسكين. مضى على ذلك وقت غير قصير، واطمأن القاتل إلى النجاة. وفي ذات ليلة قمرية جميلة جلس القاتل وزوجه يتبادلان الحديث - والحديث ذو شجون - وتوالت الأفكار على رأسه، وإذا به يبتسم في غير موضع للابتسام، وإذا بزوجه تصر على معرفة سبب الابتسام، فيقول لها إنه تذكر كلمة قالها رجل معتوه أثناء قتله، وهذه الكلمة هي (الهوا يخَبّرْ). فلا تزال هي به حتى يعترف لها بكل شيء يتعلق بالجريمة وبمكان الجثة. فالابتسام إذن هو الفلتة التي كشفت سراً كان يحرص على كتمانه؛ وهي التي حققت المثل القائل:(مهما تبطن، تظهره الأيام). ولا حاجة بنا إلى القول بأن فلتات مشابهة لهذه قد اضطرت الزوجة إلى الاعتراف إلى صديقة لها، وهكذا شاع الأمر وأمكن إدانة القاتل. ولعلنا نكون قد توصلنا بإيراد هذه القصة إلى إيضاح ما نقصد من كلمة (فلتات، أو أفعال مفقودة)، إذ أننا بعد أن تكلمنا عن تأثير الإيحاء في بعض الأمراض العصبية وكذلك في بعض الأمراض الأخرى، نود أن نتكلم عن التحليل النفسي، لأنه هو الوسيلة الوحيدة للكشف عن المشادة اللاشعورية، وهي التي تحدث بين ذلك الشيطان - اللاشعور - والنفس.
ويكون التحليل النفسي ممكناً بالمناقشة والاستفادة من الفلتات ومن الأحلام ومن الأعراض عند المرضى. وقد سبق أن تكلمنا عن تفسير الأحلام التحليلي.
أما الفلتات أو الأفعال فإنها أفعال تصدر في الغالب عن غير إرادة الإنسان، كأن ينطق في سياق حديثه بكلمة لا يريدها، وقد ينتبه أو لا ينتبه إلى ما صدر منه، (فلتة لفظية). أو قد يكتب كلمة غير التي يريد كتابتها، أو قد ينسى كلمة كان يود أن يكتبها، (فلتة كتابية). وقد ينسى الإنسان شيئاً كان يذكره منذ لحظة قصيرة، فيبحث عن قلم وهو في يده، أو يريد أن يتذكر اسم شخص أو بلد كان يعرفهما تماماً، ولكنه لا يمكن له ذلك، (فلتة من فلتات الذاكرة، وهو ما نسميه بالنسيان).
وكذلك قد تتحدث إلى شخص وهو منتبه اليك، ولكنه لا يلبث أن يسرح ببصره في الفضاء، أو أن يتغير لونه، أو أن يلعب بأصابعه في أي شيء، ثم يسألك أو لا يسألك بعد ذلك عما كنت تتحدث به إليه لأنه (لم يأخذ باله). وهذا بالطبع معناه أنه حدث له ما صرف انتباهه إلى ناحية أخرى.
فلماذا لفظ الإنسان أو كتب ما لا يريد؟ ولماذا نسى ما كان يعرفه تماماً منذ لحظة قصيرة؟ السبب في ذلك هو في وجود رغبتين عند الإنسان، وفي أن إحداهما مكبوتة والرغبة المكبوتة قد تكون لا شعورية أو شعورية أو تمييزية كذلك، حيث لا يعرف عنها صاحبها شيئاً إلا بعد التحليل. أما إذا كانت شعورية أو تمييزية فان صاحبها ليس في احتياج إلى تحليل لمعرفتها. هذا فيما يتعلق بالرغبة المكبوتة. أما الرغبة الأخرى فإنها في الغالب رغبة تمييزية، ولكنها قد تكون شعورية أو لا شعورية كذلك؛ فصاحب الفعل المفقود إذن يجد نفسه أمام رغبتين، وهو في أثناء تعبيره عن الرغبة غير المكبوتة عنده تتحين الرغبة المكبوتة أي فرصة للظهور، وهي عند ما تسنح لها هذه الفرصة تجد سبيلها إلى الظهور بواسطة أي لفظ أو حركة تنم عليها. وهذا اللفظ أو الحركة هو ما تسميه الفلتة أو الفعل المفقود أو الفعل غير الإرادي أو
ومع أن الفعل المفقود قد أظهر الرغبة المكبوتة فانه لم يتمكن من تنفيذ هذه الرغبة. لأن الإنسان سرعان ما يستنكر صدور هذه الفلتة منه، ويتساءل كيف أخطأ في تعبيره. والواقع أن الرغبة المكبوتة وهي التي سببت هذه الفلتة قد اكتفت بهذا التحقق الرمزي أو التلميحي
بواسطة الفعل المفقود، لأن التحقق الفعلي تأباه عليها ظروف الحياة، فهو إذن غير ممكن لها. وهكذا تكتفي الرغبة المكبوتة بالأوهام بدلاً من الحقيقة الواقعة، ومثلها في ذلك مثل الأفكار الذاتية التي سبق أن تكلمنا عنها سواء بسواء. لأن الرغبة المكبوتة مهما كانت شعورية أو تمييزية فإنها في الأصل من اللاشعور، وهو الذي يكتفي في تنفيذ رغباته بالأوهام.
وأما الفرص التي تنتهزها الرغبة المكبوتة فهي كثيرة: فالتعب واهتياج الشعور والاجتهاد الفكري وكل ما من شأنه أن يقلل من انتباه الإنسان يساعد على إيجاد هذه الأفعال المفقودة.
والرغبتان اللتان نشأ عنهما الفعل المفقود قد تكونان متعارضتين، فيكون اللفظ إذن عكس ما كان يراد تماماً، وقد تكون إحدى الرغبتين معدلة للأخرى أو مكملة أو مؤكدة لها؛ وسنذكر فيما بعد بعض الأمثلة على كل نوع منها. ولنرجع الآن إلى ابتسامة القاتل التي سببت اكتشاف سره، ونرى هل هي الأخرى وليدة رغبتين عنده؟ وهل في هاتين الرغبتين ما يدل على التعارض؟ والى أي حد يمكن استخدام الفلتات في الكشف عن خفايا نفسية المجرم؟ فلقد جلس هذا إلى زوجه وعنده رغبتان: الأولى حب الظهور بالبطولة، وإظهار بأسه وقوته. والثانية حب كتمانه لما فعل خوفاً من تسرب الأخبار والوقوع تحت طائلة العقاب، فهو إذن بين رغبتين تتنازعانه، وبينما تشتد رغبة النجاة في كبت رغبة الزهو والاعتداد بالنفس إذا بهذه الرغبة الأخيرة تنتهز الفرصة للظهور في وقت ضعف الرغبة الأولى تحت تأثير الهوى. وهكذا يتحقق الزهو والفخر، ولكن هذا التحقق إن هو إلا تحقق رمزي وذلك بالابتسام، وما الابتسام إلا رمز الانتصار، لأن رغبة النجاة مهما ضعفت فإنها لا تسمح بالاعتراف والفخر الصريح. وهكذا كان، فقد ابتسم الرجل في غير موضع الابتسام، ولكنه مع ذلك يأبى الاعتراف الصريح أولاً. وهنا نرى الزوجة تقوم بدور المحلل النفسي فتستخلص منه ما كان يأبى الاعتراف به.
وإذا كنا فيما سبق قد قلنا إن الشعراء والأدباء والفنانين يستخدمون الخيال، فان ذلك من دواعي الفخر لهم، لأن التخيل ممكن وموجود عند كل إنسان، وإنما امتاز هؤلاء بإمكان استخدام خيالهم وتحقيق أحلامهم على صورة رمزية جملية تأخذ بالألباب. وفوق ذلك فان لهم من حسن الذوق ودقة الحس ما يسمح لهم بملاحظة كل ما يمر أمامهم من دقائق الحياة،
وهكذا فان الأفعال المفقودة أو الفلتات لم تفت عليهم، بل انهم استخدموا هذه الأفعال لتجميل الأسلوب وتوضيح المقصود، وقد أظهر لنا فرويد مثلين من ذلك. ففي رواية تاجر البندقية لشكسبير تقول بورشيا لبسانيو الذي يتقدم إلى الصناديق الثلاثة ليجرب حظه في نيل يدها (إن عينيك هذه تقسمني إلى نصفين. فالنصف الأول لك وأما النصف الثاني فهو لك. . . . أريد فهو لي). والسبب في هذه الفلتة الكلامية هو أن بورشيا تريد أن تقول إنها كلها له. وفي رواية أخرى. يقول كاستنبرج لاوكتافيو. (إلى أين أنت ذاهب). فيجيب اوكتافيو (إليها. . . إلى الدوق هيا بنا) والسبب في هذه الفلتة أيضاً هو رغبة اوكتافيو في اللحاق بالفتاة التي يحبها
وأما النكت والفكاهات التي تقال على البديهة فإنها نوع آخر من الأفعال المفقودة، إلا أن قائلها يتذرع بالضحك لستر رغباته الكامنة، ومع ذلك فان هذه الرغبات كثيراً ما تكتفي حقيقة بالأوهام، فلا تصر على التنفيذ الحقيقي لها، وإنما تكتفي بالرموز والتلميح كما تقدم.
ويمكن استخدام هذه الأفعال في انتخاب الأسئلة المحرجة وفي توجيه الاتهامات والمناقشة إلى الهدف الذي يرمي إليه المحقق، أما فيما يتعلق بالمرض فان التحليل النفسي لا يطمع من المريض أن يعترف برغباته اللاشعورية، ولكنه يطمع فقط في أن يعرف المريض رغباته في أثناء المناقشة معه، ولو أنه قد ينكرها بتاتاً، وقد يكون ذلك الإنكار خجلاً أو لأي سبب آخر، ولكن إنكاره هذا لا يمنع من وصول رغبته إلى الشعور، ومن ثم إلى التمييز لمناقشتها. فليس الاعتراف إذن ضرورياً للشفاء ما دامت الرغبة قد وصلت إلى التمييز، والإنكار نفسه قد يكون طريقة من طرق السمو بالرغبة، وهذا السمو هو في الواقع ميزة من ميزات التحليل النفسي ومن أجلها يفضل على الإيحاء. والرغبة المحرمة يسمو بها الإنسان إذا صورها وعدلها فأصبحت غير مخالفة لنظام المجتمع وتقاليده. فقد يفكر الإنسان في الأضرار بأي شخص كان لكراهيته له، وذلك إظهاراً لمقدرته على البطش والأذى، ولكنه قد يسمو فيكتفي فقط بإظهار قدرته على الأذى ثم يعفو ويتسامح بعد ذلك. وهذا هو ما يحدث تماماً عند ما يسمو المريض العصبي رغبته. ولكن رغبة هذا المريض العصبي ليست من هذا النوع البسيط من الرغبات فإنها هي والرغبات التي تتجلى في الأحلام والتي تملي على الفنان فنه ليست إلاّ رغبات جنسية تتعلق بأشخاص من ذوي القربى، وقد
عرف كل من المريض العصبي، وصاحب الرؤيا، ورجل الفن طريقه إلى تحقيق رغبته. وإن كان هذا التحقيق رمزياً مشوهاً لا يدل في الظاهر على أي رغبة محرمة، ولكن التحليل في كل الحالات قد أثبت أن أعراض المريض والرؤيا ومنتجات الفن ليست إلاّ هذا التحقيق الرمزي المشوه لهذه الرغبات. فالرغبة المحرمة المجهولة لصاحبها لأنها مكبوتة بفعل الضمير هي أصل كل أعراض المرض، وهي أصل الرؤيا، وهي التي توحي الفن إلى الفنان، بل هي سبب التخيل وكل ما يبينه الخيال من تصورات وأمان، وإذا كنا قد ذكرنا الفنان هنا فان من الإنصاف أن نقول إنه عرف كيف يسمو برغبته ذلك السمو البارع الجميل.
ولا يمكن أن يكون هذا الموضوع تاماً إلا إذا تلكمنا عن المسألة الجنسية، وعن قصة أوديب الملك كما ينظر إليها فرويد، وهذا ما نرجو أن نتمكن من إيضاحه فيما بعد، إلاّ أن ما سبق أن أوردناه يسمح لنا أن نقول إن الإيحاء وحده لا يمكن أن يثمر الشفاء التام الدائم إلا إذا سبقه التحليل والكشف عن الرغبات الكامنة السالفة الذكر. ولنرجع الآن إلى الموضوع الذي يشغلنا وهو الفلتات أو الأفعال المفقودة. فقد بينا أن هذه الفلتات قد تكون كلامية. كأن يذكر كلمة غير التي كان يود أن يقولها أو يقرأها إذا كان يتكلم أو يقرأ من أي ورقة أو كتاب. أو فلتة سماعية، كأن يسمع كلمة غير التي قيلت له أو بمعنى آخر يتخيل سماع الكلمة المعينة، أو فلتة كتابية كأن يكتب غير الكلمة التي كان يريد كتابتها أو يمحو كلمة غير التي كان يريد محوها. أو فلتة من فلتات الذاكرة وهو ما نسميه بالنسيان - وقلنا إننا سنذكر بعض الأمثلة على كل هذا، وأن الكلمة الخطأ قد تكون عكس الكلمة المطلوبة - المخالفة قد تكون في ترتيب الحروف وفي معنى الكلمة - أو معدلة لها أو كلمة مدغومة في غيرها. الخ والواقع أن الأمثلة على كل نوع منها كثيرة ولا تدخل تحت حصر، ومن منا لم يسمع أو يلاحظ الكثير منها في كل يوم وفي كل مكان؟. ولهذا فإنني أترك الأمثلة لمن يود أن يلاحظ بنفسه هذه الفلتات وأن يتعرف إلى الغرض الذي حدثت من أجله. وأتكلم الآن عن فلتات الذاكرة أو النسيان، فقد أخبرني صديق لي أنه أراد مرة أن يتحدث عن شخص عرفه من مدة قريبة وعرف اسمه وسمع ذلك الاسم مراراً، ولكنه مع ذلك كان ينسى اسمه كلما أراد أن يتحدث عنه. وبعد جهد في محاولة استذكار الاسم فانه يذكر اسما آخر على
أنه الاسم مطلوب - وهكذا يسمى صديقي ذلك الشخص (شافعي) دائما بدل اسمه الحقيقي، وذلك بعد جهد في التذكر بدون جدوى، وهو إذ يقول إن اسمه شافعي لا يقولها بصفة التأكيد أيضاً في كثير من الأحيان: وفي ذات مرة بعد لحظة قصيرة من التأملات أخذت الأفكار تتوالى على عقله ولم يكن يقصد أن يتذكر الاسم الذي ينساه دائماً وإذا به يصيح فجأة إن اسمه (شبلي)
نعم. هذا هو ما حدث لصديقي، وأراد أن يعرف لماذا نسى ذلك الاسم، ثم لماذا ذكر شافعي بدل شلبي مع شكه أيضاً في أن ذلك هو اسمه الحقيقي. ولما سألته أن يذكر لي كل ما يعرفه عن أي شخص آخر يسمى بنفس هذا الاسم (شلبي) أخبرني أنه كان يعرف شخصاً بهذا الاسم ولكن لم تكن بينهما صادقة ما. بل بالعكس فانهما كانا متنافرين - هذا يفسر لنا نسيان الاسم (شلبي) ولكنه لا يفسر لماذا يسميه شافعي في كثير من الأحيان فسألته ان يذكر لي شيئا عمن يعرفهم باسم شافعي هذا. وهنا صاح متعجبا انه يعرف شخصاً محترماً بهذا الاسم وأن هذا الشخص المحترم (شافعي) من حيث الخلقة والشكل العمومي يشبه (شلبي) ذلك الشخص المكروه الذي مضى على معرفته إياه وقطعه كل علاقة به زمن طويل - هذا هو إذن سر إبدال الاسم، وهو جواب ما كان يسأل عنه.
وقد ذكر فرويد أن رجلاً كان بينه وبين زوجته نفور، ولكنه لم يكن قد صارحها بأي شيء، وهي مع ذلك تحبه وتخلص له. وقد أهدته كتاباً شيقاً في نظرها ليقرأه. ولكنه وضعه في جهة معينة ولما أراد البحث عنه لقراءته لم يتمكن من تذكر المكان الذي وضعه فيه برغم كل الجهود التي بذلها في هذا السبيل. ثم حدث أن والدته مرضت مرضاً شديداً حمل زوجته على أن تعتني بها وتمرضها، وكان من نتيجة ذلك أن شعر الزوج بشكره لزوجته لعنايتها بوالدته، وتحول هذا الشكر إلى تقدير، ثم رجع الحب إلى سابق عهده. ثم لما رجع إلى بيته ذات يوم فتح درجاً من أدراج المكتب بدون أي فكرة عن إمكان العثور على الكتاب ولكنه لدهشته وجده فيه، برغم مضى أكثر من ستة أشهر على وجوده فيه، وبحثه عنه على جملة مرات في هذه المدة.
أليست عوامل المودة والنفور هي التي تؤثر في النسيان والتذكر وحدها؟ فإننا سبق أن تكلمنا عن فعل الضمير في هذا الشأن، وكيف أنه يكبت الرغبة فيردها إلى اللاشعور،
ولست في حاجة إلى القول بأن الإنسان لا يذكر أو بمعنى آخر لا يشعر إلا بما يعرفه الجزء الشعوري من عقله. فكل فكرة تتمكن من الوصول إلى الشعور فهي شعورية، أي أن الإنسان يعرفها ويذكرها، وكل فكرة ترتد إلى اللاشعور أو تحفظ فيه فهي فكرة لاشعورية لا يعرفها الإنسان ولا يذكر الحوادث المتعلقة بها. على أنه من السهل التنقيب عما يوجد في ذلك المخزن - اللاشعور - إذا ترك الإنسان لحرية تفكيره العنان، فلا يعترض حرية التفكير هذه بنقد أو تجريح ولا يرمي أي فكرة تأتي إليه بأنها غير معقولة أو غير جائزة أو الخ. . . بل يترك نفسه للتفكير فلا تلبث الأفكار إذن أن تتوالى كما يقول المثل - الشيء بالشيء يذكر - لأننا سبق أن بينا أن الأفكار والرغبات مسجلة على قواعد الاصطحاب والقرينة، أي أن الأشياء المتشابهة أو المتضادة - والمتقاربة والمتباعدة مسجلة بالقرب من بعضها، وإذا ذكر أحدهما فلابد من تذكر الآخر. وإذا ذكر الإنسان صديقه فلا يلبث أن يذكر أشياء كثيرة معه كبيته أو المقهى الذي يجلسان به أو الكلام الذي حدث بينهما، وإذا تذكر هذا المقهى فقد يذكر مقهى آخر في أوربا أو أي بلد آخر، ويذكر معه الحوادث التي مرت به في هذا المقهى الآخر وهلم جراً.
فاذا كانت الفلتات تخدم التحليل النفسي لأنها توجه نظر المحلل إلى وجهات مهمة فتوحي إليه بالأسئلة الواجب إلقاؤها على المريض، وهذا يتطلب من المحلل ذهناً صافياً وفكراً سليماً، فان على المريض واجباً آخر يجب عليه أن يرعاه، وهو أن يلتزم الإخلاص في كل إجاباته على الأسئلة التي توجه اليه، ويجب أن يعلم أن مقدار إخلاصه هذا يعرفه الطبيب المحلل نفسه. وفوق ذلك فانه يجب أن يترك أفكاره حرة من كل قيد فيجيب بكل ما يخطر على باله بصرف النظر عن موافقة ذلك للمعقول والجائز أو مخالفته لهما.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أن شاعرنا شوقي بك في روايته الخالدة (مجنون ليلى) قد ذكر فلتة على لسان ليلى العامرية، فقد ذكرت المسكينة اسم قيس مرتين دون أن تشعر، ولما نبهتها زميلة لها إلى ذلك قالت: وأي شيء في ذلك لو ذكرت قيساً ثلاثا. ثم قالت (يا قيس ناجي باسمكالقلب اللسان فعثر)
دكتور عبد الفتاح سلامة طبيب مستشفى برقاش
9 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
محمد أفندي أكمل
هو محمد أكمل بن عبد الغني بك فكري بن لطف الله بن حسين، الشاعر الأديب الظريف؛ ولد بالقاهرة ونشأ بها واعتنى والده بتعليمه وتهذيبه، ثم أدخله في الديوان الخديوي للتعليم كتلميذ، وكان كبار هذا الديوان مدة الخديو إسماعيل باشا، فجود الخط به وألمّ باللغة التركية، وكانت له حدبة بظهره شوهت خَلْقه، ورأى والده أن لا مطمع في استخدامه بمنصب لائق، لحدبته وقصر قامته، فاستحسن له طلب العلم بالأزهر، وكان يرجو أن يكون من كبار العلماء، فلازم الطلب به وقرأ النحو والعلوم العربية على الشيخ أحمد المنصوريّ، والشيخ محمد البجيرميّ، وكان أحدب مثله، وكثيراً ما كان يقعده بجواره في حلقة الدرس. ثم انقطع عن الطلب ولازم والده، وكان والده جماعة للكتب، مغالياً في اقتنائها شراء واستنساخاً، ينفق عليها جلّ ما يصل ليده، ويحي الليالي في مقابلة ما يستنسخه منها وتصحيحه وضبطه، فكان المترجم يعاونه في ذلك، واطلع بهذا السبب على كثير من الكتب العلمية والأدبية والدواوين الشعرية، وعاشر من كان يجتمع بوالده من العلماء والأدباء وتردد عليهم واستفاد منهم، وعرف مدة طلبه بالأزهر كثيراً من أدبائه وشعرائه المجيدين كالشيخ عبد الرحمن قرّاعة، والشيخ أحمد مفتاح وحفني بك ناصف وغيرهم، فاستفاد منهم أيضاً، ونظم الشعر والزجل وأدوار الغناء، واشتهر بحسن المحاضرة وملاحة التندير وسرعة الجواب وخفة الروح، وكان كثيراً ما يجعل محور تنديره دائراً على حدبته، فيأتي بما يضحك الثكلى، بل كان لا يأنف من ذكرها في شعره، كقوله من زجل في الوباء الذي حلّ بمصر أوائل سنة 1320 وما فعله الأطباء من الهجوم على الدور وترويع ربات الخدور:
شاعرْ وناثرْ زّجالْ عالْ
…
فنّ الأدبْ فيدُه لِعْبَهْ
لطيفْ زكيِ وفَهْمُهْ سَيَّالْ
…
وِرِقّتُهْ منَ اللهْ وَهْبَهْ
مخْلِصْ لاْخواُنه ومَيَّالْ
…
نَادْرِةْ زَمَاُنهْ ولُه حَدَبَهْ
ما فِيهْش عيْب ظاهرْ معروفْ
…
قَصِيرْ ولكنِ فِيهْ أقْصَرْ
واللى يعيش يَاما بِيْشُوْف
…
واللى بِيمْشى بِشُوف أكتَرْ
ومن ولوعه بحدبته شرع في جمع كتاب في نوادر الحدبان وما قيل فيهم من الأشعار، وتراجم مشهوريهم، أخبرني أنه جمع منه جزءاً إلا أنه لم يتمه
ونقل والده مدة محمد توفيق باشا الخديو من الديوان إلى المحاكم الأهلية قاضياً، وتوفي يوم الثلاثاء 29 المحرم سنة 1307 وخلف له ولاخوته ضيعة بالصعيد أصاب المترجم منها ستون (فداناً) باعها وبدد ثمنها بالإسراف حتى احتاج للاستخدام بديوان الأوقاف بمرتب قليل دون الكفاف، وعاش في ضيق ومضض بعد ما تعوده من السعة والرفاهية، وأخذ يتقرب للخديو بنظم التواريخ في كل عيد واحتفال وحل وترحال وينشرها في صحف الأخبار رجاء أن تبلغه فيأخذ بيده فلم يستفد شيئاً وراح تغزّ له في الريح، وكان قصر شعره في أواخر عمره على هذه التواريخ فنظم منها الغث والسمين. وكنا إذا قرب عيد أو سفر أو قدوم للخديو لا ننتفع به لاشتغاله بالنظم والحساب وإعمال الروية فيصير هذا ديدنه في غدوه ورواحه وقيامه وقعوده حتى يمن الله عليه بشيء يرتضيه
وترك له والده غير الضيعة داراً بسوق الزلط بيعت أيضاً، وترك خزانة كتب كبيرة قل أن تضارعها خزانة في نفائس الكتب ونوادر الأسفار، وهي التي أفنى عمره وماله في جمعها، وأتعب نفسه في تصحيحها وضبطها، وصبغ الورق وصقله لنسخ ما كان يستنسخه منها، فوق ما كان يتكلفه من السعي في البحث عنها في الخزائن المهجورة وعند الورّاقين، واتخذ له في داره مصنعاً للتجليد، واستخدم عدة نساخ أجرى عليهم المرتبات فاختصوا بالنسخ له لا يشتغلون لسواه، وكان هو وعبد الحميد بك نافع من أدباء القرن الثالث عشر يتباريان في ذلك ويتسابقان. أخبرني المترجم عن والده أنه بلغه أن تاجراً من الورّاقين قدم من سفر بكتب أوصاه عبد الحميد بك نافع بجلبها له وبينها ديوان البحتري وكان اذ ذاك لم يطبع بل لا يعرف في مصر إلا باسمه، فأسرع إليه وبذل له مالاً فوق قيمة الديوان على أن يعيره له يوماً وليلة فقط يطالع فيه، فرضى وأعاره إياه، فلما أتى به لداره أعطاه لمجلده ففك له تجليده وأحضر في الحال عدة نساخ فرقه عليهم كراريس فنسخوه وقابلوه، ولم يمض اليوم والليلة إلا وقد ردت النسخة الأصلية لصاحبها مجلدة كما كانت، ثم قابله بعد ذلك عبد الحميد بك وأخذ يفاخره بوجود الديوان عنده واختصاصه به، فقال له خفّض عليك يا أخي
هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة. وبلغه مرة وهو يسمر مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك حتى اهتدى إليها بعد ما مضى هزيع من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها ولم يمهله للصباح بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحه ليلاً وأخرجها له ولم يهدأ له بال حتى باتت الرسالة عنده. فلما مات عرّض المترجم كتبه للبيع فبيعت وتفرقت واقتنى نفائسها ونواردها الكونت لندبرج قنصل السويد بمصر، وكان من مستعربي الأفرنج المولعين بجمع الكتب العربية، وأدركت أنا أوارخها فاقتنت منها بضعة عشر كتاباً، منها ما هو بخط عبد الغني بك نفسه، وبحواشيها آثار التصحيح واختلاف النسخ التي كان يقابلها بها
وكان أول التقائي بالمترجم في دار أبن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر علي فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متوالين على تفهمه، فلم يفتح علي بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت علي فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. ثم تأهل ببنت حنفي بك، وكان لأسرتها نوع اتصال بنا، فاتصلت المودة بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمته لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كل يوم ويبقى حتى نسمر معاً ثم ينصرف، فتارة كنا نحي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية، أو بمطالعة بعض الكتب، وتارة بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يمل من المقابلة مهما يطل الوقت فيها، ويقول هذا شيء دربني عليه والدي وعودني إياه من الصغر. وأشار عليّ مرة أستاذنا العلامة محمد محمود الشنقيطي أن أطالع أمالي أبى عليّ القاليّ مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، وأخبرت المترجم أنني سأحتجب عن الناس بضعة أيام حتى أستوفي ما يهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام ثم حضر ومعه زجل، ينحي فيه على الأستاذ وعلى أبي على القالى اللذين تسببا في انقطاعي عن الإخوان
ويذكر فيه بعض من كان يجتمع بنا
وقد أطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ احمد الفحماوي صاحب الخط الحسن، المشهور بكتابة لزوم ما يلزم للمعري وسماها (بنات أفكار وعرائس أبكار في ألقاب أهل العصر) ذكر بها كنى وألقاباً وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر عبد الحميد بك نافع، وإبراهيم افندي طاهر الشاعر الرقيق المشهور على سبيل المزاح والدعابة، فقلبا كل واحد بلقب شاعر متقدم، أو رجل مشهور يوافق اسمه هيئة الملقب به، أو شيئاً يغلب على أخلاقه وأحواله، كتلقيبهما مصطفى أفندي المنعوت بكامل بالعكوَّك، لأنه كان قصيراً جداً معوَّج القدمين، وتلقيهما الشيخ محمد الرافعي الكبير شيخ رواق الشاميين بالأزهر وأحد كبار علمائه بملاّ مسكين، لأنه كان نحيفاً وبقوامه بعض احديداب يرى كأنه تواضع وانكسار، وتلقيبهما عبد الغني بك أبا المترجم بالأخطل، لأنه كان ضخم الجسم كبير الهامة. فلما اطلع المترجم عليها جن بها جنوناً وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها كما فعل ذانك الأديبان فامتنعت خشية اللوم، فانفرد هو بتأليفها وأتى فيها بغرائب ذهب أغلبها عن الذهن لطول العهد، فمن ذلك تلقيبه للعالم الفاضل على رفاعة باشا أبن رفاعة بك المشهور، بابن المقفع لنحافته ودخول شدقيه، وتلقيبه للعالم الفاضل يحي أفندي الأفغاني، بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبهاً له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم من الحنفية مشهور. وكان الشيخ محمد الحفني المهدي أبن أخي مفتي مصر الشيخ العباسي المهدي ولعاً بذم الناس منقباً عن معايبهم، لهجاً بها في المجالس، لم يسلم منه أحد حتى عمه، واشتهر بذلك حتى أبغضه عارفوه وتحاموا عن الاجتماع به، فلقبه بابن هِرمهْ، وهي كلمة سب عند العامة، فقلت له هذا لا يستقيم لك لأن ابن هرمة الشاعر بفتح أوله فتأنف وقال لا أجد له لقباً ينطبق عليه غير هذا فدعني من شنقيطيتك. ثم لما فرغ منها سألته عما لقب به نفسه، ففكر وقال أحسن لقب ينزل علىَّ ابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس. وضاعت هذه الرسالة فيما ضاع من أوراقه وأشعاره، ويغلب على الظن أنه مزقها لأنه وقع له بسببها نفور بينه وبين بعض من لقبهم، فانه لما لقب صاحبنا وصاحبه الشيخ احمد مفتاح لسلامة طويته، بالأبله البغدادي، غضب منه وكاد يتفاقم الشر بينهم، وغضب منه صاحب آخر كان قصيراً ممتلئاً يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط لأنه لقبه
بابن بطوطة، فأخفى الرسالة لهذا السبب وطوى ذكرها.
وكان رحمه الله في الزجل، متقناً لصياغة الأدوار التي يتغنى بها، وأكثر ما كان متداولاً منها بين المغنين في عصره كان من نظمه، وأما شعره فالإجادة فيه قليلة إلا ما ضمنه النكت والتنديرات العامية، فمن أحسن ما وقفت عليه منه قوله من مرثية في صاحبه علي رفاعة باشا
جزعت وللحرّ أن يجزعا
…
وودَّعت صبري إذ ودَّعا
وجادت عيوني على بخلها
…
وحُق لها اليوم أن تدمعا
وروَّع قلبي النوى بعد ما
…
أمنت ومثلي كم رُوّعا
لحا الله يوماً أشاعوا به
…
وقالوا أمير العلا شيعا
فما كان أصعب تأبينه
…
وما كان أسوأه موقعا
وما كان حق البكاء ولكن
…
فزعت ولا بدع أن أفزعا
تجرعت من هوله كل صاب
…
وغيري من الناس كم جرعا
وما دار في خلدي أنني
…
أرى البدر يرضى الثرى مضجعا
ولكن شأن الزمان عجيب
…
فما كان أضيع عهداً رعى
يقول النعيّ عليّ قضى
…
ولم يدر أن العلا قد نعى
نعى سيداً صيته طائر
…
حوى الفضل في شخصه أجمعا
فدكت رواسي الدنى بعده
…
وماد الزمان بما أودعا
وغابت شموس المعارف لما
…
ذوى غصنه بعد ما أينعا
فقل للخطابة ذوبي أسى
…
ولا تطلبي بعده مصقعاً
وقل للكتابة لا تحفلي
…
بمن يتبّجح في المدعى
وقل للعلوم فقدت أميراً
…
مضى تاركاً فضله مشرعاً
وقال مورّيا باسم الطبيب سعد بك سامح:
يا سعد مالك معرضاً
…
عنيّ وقلبي فيك طامحْ
إني أتيتك قائلاً
…
أنا تائب يا سعد سامح
وقال مورّيا باسم محمد ثابت:
ان كنت في ريب بصدق محبتي
…
وسمعت عني ما تقوَّل شامت
فاعلم فديتك دائماً إني على
…
عهد المحّبة يا محمد ثابتُ
ولما مرضت شقيقتي السيدة عائشة التيمورية وأحست بدنو الأجل نظمت في مرضها أبياتاً لتكتب على قبرها وتركت مصراع التاريخ لمن ينظمه بعدها وهي:
قد كنت عائشة فنوديت ارجعي
…
للقبر مأوى كل حيّ فان
فأتيت صفر الكف عن مرضاته
…
ومقرة بالعجز والعصيان
جرّدت من ثوب الهدى لكنّ لي
…
تاجاً من الإسلام والإيمان
ونزلته مستشفعاً بمحمد
…
وتوّسلي عفواً من الرحمن
أصبحت ممن زار لحديَ راجياً
…
خير الدعا وتلاوة القرآن
لكم البقا إخوان ديني أرّخوا
فنظم المترجم التاريخ بقوله: (قبر لعائشة سما بجنان)
302 811 101 106
1320
وله غير ذلك مما ذهب عن الذهن الآن، ولكثرة ممارسته للتواريخ الشعرية كان يأتي فيها أحياناً بغرائب في ابراز المقصود بدون حشو كقوله في تاريخ ولادة ولده عبد الغني:(عبد الغني ابن أكمل).
وكانت وفاته فجأة قبل ظهر يوم الثلاثاء 22 ذي القعدة سنة 1321 ودفن بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.
من طرائف الشعر
تعالي
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
تَعَالَيْ نَسْأَلِ الذِّكْرَى
…
عَنِ الحُبَّ وَمَاضِيهِ
وَعَنْ سِحْرِ لَياليهِ
…
وَعَنْ حُلْوِ أَمَانيهِ
حَكايَا مَا تَني تَنْ
…
هَلُ مِنْ ضِحْكٍ وَتمْويهِ
قَصَصْنَاهَا عَلَى قَلْ
…
بيْنِ مَغْمُورَيْنِ بالتِّيهِ
وَهَذَا اللَّيْلُ كَمْ أَصْغى
…
وَكَمْ أَصْغَتْ دَرَاريهِ
لَقَدْ قَرَّبَنَا الْحُبُّ
…
وَضَمَّتْنَا أَوَاخيهِ
وَلَمْ تَنْوِ القِلَى أَهْليِ
…
فَلِمْ أَهْلُكِ تَنْويهِ
حَيَاتي مِنْكِ في نَوْحٍ
…
وَتَعْذِيبٍ وَتأْوِيهِ
فَهَلْ أَظْفَرُ في الهَجْرِ
…
بطَيْفٍ مِنْكَ أُصْبِيهِ
أُفَدِّيهِ بأَحْلَامِي=فَيُسْليني وَأُسْليهِ
وَأُغْرِيهِ بِأَشْعَارِي
…
فَيَبْكيِني وَأَبْكيهِ
وَكَمْ قَاسَمَني اللَّيْلُ
…
أَنيناً بِتُّ أُخْفِيهِ
شَجَانِي مِنْهُ مَا أّشْجى
…
وَأَضْنَانيَ مُضْنيهِ
أَسًى للْقَلْبِ مَا يَن
…
ْشُدُ إِلاَّ مَا يُعَنَّيهِ
وَمَا يَبْرَحُ طُولَ الدَّ
…
هْرِ طِفْلاً في تَمِّنيهِ
يُعِدُّ الفَرْحَةَ الكُبْرَى
…
لِحُبٍ كامِنٍ فِيهِ
إِذَا سَاوَرَني الْوَجْدُ
…
وَأَطْيَافُ لَيَاليهِ
وَأَضْنى قَلْبيَ الْهَمُّ
…
وَأَحْزَانُ عَوَادِيهِ
لَمًسْتُ الْبُرَْء في اللَّيْلِ
…
وَفي صَمْتِ دَياَجيهِ
كلَانَا موُحَشٌ رُوخاً
…
سَقِيمٌ غَابَ آسِيهِ
إِذَا ضَاعَ لَكَ الحُلْمُ
…
الذي عِشْتَ تُرَجَّيهِ
فما تَطْمَعُ في الْعَيشِ
…
وَلَا يُغْريِكَ حَاليهِ
لَقَدْ لَقَّنِتني الحُبَّ
…
وَمَعْسُولَ أَغَانِيهِ
وَأَوْحَيْتِ ليَ الشَّعْرَ
…
وَمَنْ غَيْرُكِ يُوحِيهِ؟
وَنَجْوَى لحْنِهِ البَاكِي
…
وَأَنَّاتِ قَوَافيهِ
قَطَعْنَا الْعُمْرَ في الُحْبَِ
…
وَفِي غَمْرَةِ وَادِيهِ
فَلَمْ يَبْقَ لَنا مِنْهُ
…
سِوَى طَيْفٍ نُنَاجِيهِ
دمشق
أنور العطار
ليلة الزورق
لعبد العزيز أفندي عتيق
حينما ذَهَّب الأصيلُ مياه الني
…
ل، واختال في الرياض جميلا
أبصرتني أطوف حول حِماها
…
سادرَ الخطوِ، حائراً، مخبولا
هتفتْ بي: إليّ يا صاح أقبلْ
…
أنا مَن قد بحثت عنها طويلا
ذاك وكرُ الهوى، ألستَ تراه
…
مثلما كان شاعرياً ظليلا؟
ذاك روضي، فقرَّ عيناً ونفساً=يا حبيبي، واجلسْ إليَّ قليلا
واسقني بالجمال والسحر شعراً
…
شفقياً يُميت مني الغليلا
كيف جانيتَ روضكَ الفينانا
…
أتسلّيتَ؟ أم نسيت المكانا؟
كلما طفتُ بالمكان أثارتْ=وقفاتُ الوداع مّني الحنانا
وأرى القلب في غيابك أمسى
…
يا حبيبي موزّعاً حيرانا
أيها الغائب الذي خالط القل
…
ب هواه، تعال نحي هوانا
خُذْ ذراعي إلى ذراعك واصعدْ
…
ربوةَ الأمس، واسقني الألحانا
رُبَّ ليلٍ سهرتُه أتقّلى
…
فيه وحدي، وأشتكي الحرمانا!
ها هو النايُ حالماً بالأغاني
…
فأعِدْها سحرّيةَ الأنغام
ها هو الناي يا حبيب فؤادي
…
غنّ للحِب، للنفوس الظوامي
فاذا ما شُغلتُ عنكَ بنفسي
…
وبما هاج من هوى وضرام
فدعِ النايَ جانباً، وأدِرهْا
…
قُبُلاتٍ من ثغركَ البسّام
ودع الربوةَ السحيقة تخفي
…
أثرينا عن أعين الأقوام
ولنعش ها هنا كما نتمنى
…
للأغاني، للحب، للالهام
وانظر الشمس! هل شجتك اختلاجاً
…
وهي تخطو إلى الفناء السريع؟
كم أضاءت وجددت من الحياة
…
وتجلت في كل أفق وسيع
ثم همَّتْ فليس في الكون إلا
…
نائحٌ في مواكب التشيع
يا حبيبي خلِّ الوقارَ وهيا
…
نوقظ اللهو بعد طول هجوع
بالأغاني، وبالحديث، وبالشع
…
ر، وبالسحر، والهوى والدموع
فغداً تذهب الحياة بشمسْي
…
نا وتمضي بنا لغير رجوع!
وانظر البدر في الفضاء سَبوحاً
…
يغمر الكونَ وجهُه بالنور
أطَلق السحرَ في السماء وفي الأر
…
ض، فبتنا في عالم مسحور!
لا نرى فيه غير ليلٍ وضئٍ
…
يبعث الشوق والهوى في الصدور
يا حبيبي خذني إليك وأنعِشْ
…
شفتينا بثغركَ المخمور. .
قرَّب البدر بيننا ورعانا
…
فتمَّتعْ بساعة من سرور
ما غناء الساعات، تمضي خُواء
…
من لقاء، أو رحلة، أو سمير؟
وارقب الزورق المقدسَ يبدو
…
من بعيدٍ كالطائفِ الجّوالِ
كم عبرنا به الخَضمَّ وقد أغ
…
فى وجُلْنا به كل مجال
نوقظُ الموجةَ الصغيرة بالهم
…
سِ، فتبدِي تثاؤب الأطفال
وأغاني المجداف تُضِفي على اليمِّ (م)
…
رداءً من رهبةٍ وجلال
يا حبيبي حان الوداع فهيا
…
جئتَ نقضي حقَّ الليالي الخوالي
كم حبتنا بصفوها ورعتنا
…
نضّر الله وجهَها من ليال
ورسا الزورق المقدسُ للشطْ
…
طِ فيا للصفاءِ يخطو الينا
ودعانا الملاّحُ بالنغم العذْ
…
ب، فأروى بصوته مهجتينا
أيهذا الملاحُ أيَّةَ ذكرى
…
فوق هذا الخضمِ هجتَ لدينا؟
قرّب الزورقَ المقدس كالأم
…
سِ، وهيئ لنا به مجلسْينا
وامض في اليمّ حيث تسعد بالصف
…
و، ونُحيي في ظلّه أملينا
طال شوقي إلى المطاف بدنيا
…
كم شجتنا وأطلقتْ خاطرينا!
قلتُ والبدرُ، والدراري
…
حالماتٌ، والكون وسنان صاح
يا رجاَء القلبِ الجريح - ومازا
…
ل - أمَا آن أن تداوي جراحي؟
بي ظِماءٌ إلى حديثكِ عذباً
…
واشتياقٌ لوجهكِ الوضاح
قد سَهوْنا عن الحياة وبتنا
…
في محيطٍ من الطلاقة ضاح
فابعثي النور في جوانب نفسي
…
وارحميني من وحشة الأرواح
شدّ ما ضقتُ بانفرادي وسُهدي
…
واغترابي، في غُدوتي ورواحي!
أنا لولاكِ لم أعشْ في حياةٍ
…
ثقلَتْ محملاً وساءت مَقرّا
ليس تصفو لنا، وهيهات تصفو
…
للذي ازداد بالحقائق خِبْرا
أنتِ جَمَّلِتها لعيني ونفسي
…
وفؤادي، فلست ألوكِ شكرا
فتعالَيْ نعِشْ هنا في حمى اليمّ (م)
…
وننسى ما ساءنا، أو سرّا
نتناغى كالطير في كنَف الدو
…
ح ونطوي الساعات أنساً وبشرا
ذاك لبُّ الحياة، بل ذاك أندى
…
ما حوته الحياة برّا وبحرا
وصحا الشوقُ عارماً فإذا هِي
…
في جنونٍ ورعشةٍ قبلتني
ثم ألقتْ برأسها فوق صدري
…
كالذي نام من مَلاٍل وأيْنِ
وسرى الريح ليناً فاطمأنت
…
واستراحتْ في جانبي المطمئن
وشجاها الهوِى فألقت بأذني:
…
يا حبيبي طاب المكان فغَنِ
غنّ لى غنوةَالربيع على اليمّ (م) =ورَوِّ الفؤاد من كل لحنِ
فاختضنتُ العود الحبيب إلى النف
…
س، وأيقظته ورحت أُغني:
حينما يشرق الربيعْ
…
في سماء الحدائق
ونرى حسنَه البديع
…
في وجوه الشقائق
سوف ألقاكِ ها هنا
…
فوق ذا الزورق السبوحْ
حيث تصفو لنا المنى
…
ويَقرُّ الهوى الجموحْ
يا مُحياً عبدْته
…
مثلما يُعبدُ الآلهْ
وجمالاً عشِقتُه
…
عِشق من لا يَرى سواه
كم تمنيت لو نكونْ
…
في حمى اليمّ مفردْين
في وقاءٍ عن العيونْ
…
حيث نحيا كطائرين!
قدَّر الله يا حبيبْ
…
للغريبين بالتلاقْ
فمتى تسعدُ القلوب
…
بلقاءٍ بلا افتراق؟!
ورسا الزورق المقدس للشطْ
…
طِ، فصاح الملاح: هيا، فقمنا
ومشينا على بساط من العُش
…
ب نديٍ، يهتز في حيث سرْنا
ووقفنا في كل مجلس حُبٍ
…
وادَّكرْنا من سحره ما ادكرنا
ثم ودَّعتها وعدْتُ وأحلا_مي إلى عالمي الشقيِّ مُعنّى
ثم ودَّعتها وعدْتُ وأحلا
…
مي إلى عالمي الشقيّ مُعّنى
أسأل القلب: كيف يا قلب مرَّت
…
ليلةُ الزورق الحبيب، وأينا؟
وأراني مُردّداً في حنين:
…
ليت أنا نعيدها! ليت أنا!!
ميت غمر
عبد العزيز عتيق
بمناسبة ذكرى وفاة الإمام
وقفة على دار الإمام محمد عبده بعين شمس
للشاعر الحاج محمد الهراوي
أظلاماً وأنت في عين شمس
…
وعبوساً من بعد صفو وأنس؟
كيف أصبحتِ يا مثابة غاد؟
…
كيف أمسيتِ يا منارة ممسي؟
كنت والعهد منك غير بعيد
…
بيت مَلك بغير تاج وكرسي
كنتِ للفضل والمكارم والنب
…
ل جميعاً، للناس من كل جنس
كنت للعلم، والمعلم، والطا
…
لب، مجلي نهي، ومعهد درس
عطلت هذه الدروس وكانت
…
ملء أهل الزمان في كل حس
وانطوت ثم لا يزال صداها
…
بين صدر يرن فيه وطرس
فانظر الدار وهي قفر خلاء
…
بعد أهل، فهل ترى من محس؟
واسأل الرسم إن أصبت جواباً
…
في كلام أو في إشارة خرس
هيه يا دار بعد أنس أجيبي
…
كيف أوحشت بين يوم وأمس؟
لا تراكِ العيون من دمعها المس
…
بل حزناً، إلا بنظرة خلس
نظرات تعيد ذكرى إمام
…
كاد ينسى، وصنعه غير منسي
حسدت مجدك الليالي فمالت
…
بعد لين عليك ميلة بأس
أقفرت هذه الربوع وأقوت
…
واستحالت إلى معالم درس
لا يكاد البناء يقوى على الأر
…
ض ولا يثبت الجدار بلمس
ما بناك الذي بناك ليزهى
…
بالذي شاد من قباب وأس
هو لو شاء شاد عرشاً وفرشاً
…
من لجين ومن حرير الدمقس
إنما آثر التواضع حكماً
…
للذي فيه من تواضع نفس
ليس يعني بزخرف العيش حُرٌّ
…
قطع العيش بين نفي وحبس
فأقام البناء من لبنات
…
خشنات أطرافها غير مُلس
لا يبالي وكل شيء سيبلى
…
أن يطوف البلى عليه بطمس
أنكر النفس ثم باع هواها
…
في سبيل الأوطان بيعة بخس
ومضى يحمل الكريهة فرداً
…
مستعيناً بكل بأس وبؤس
مستعيناً بالله والحزم والعز
…
م ووحي الحجى وتدبير رأس
نفس حر تجملت بخلال
…
يتجافين عن صغار ورجس
خصه الله بالمواهب والرأ
…
ي بعيد المرام صلب المجس
رجل كان حين يقطع أمرا
…
يتقاضاه من مخالب يأس
ليس يثنيه عن أياديه قوم
…
يصبغون الجميل صبغة ورس
فلقد عاش (عبده) في زمان
…
جل من فيه أهل كيد ودسّ
حسدوا فيه نعمة الله فيهم=ورموه بكل منكر حدس
فاذا مات أيقنوا أي ركن
…
هدمته يد الضلال بفأس
قل لشعب حظ النوابغ منه
…
حظ سقراط حين أودي بكأس
تقتلون النبوغ حياً وتمضو
…
ن بُكيا عليه في بطن رمس
أيها الناس، ههنا قام بيت
…
فوق آثار خفرع وكيوبس
لم يكن من صروح هامان فرعو
…
ن ولا كان من حصون الفرس
فاذا ذل فالذي قد بناه
…
ليس من طينة الذليل الأخس
آه لو كان شكسبير بناه
…
أو بناه أخوه (هيجو) الفرنسي
لرأى الناس أي دار تجلت
…
واستحالت إلى حظيرة قدس
أثر النابغين في كل شعب
…
هو ميراث كل جيل وحرس
أيها الناس ههنا سر مجد
…
قبست منه نورها عين شمس
وهنا ههنا أشعة ذكرى
…
تستضيء العقول منها بقبس
فأقيموا البناء من قبل أن يأ
…
تي يوم يحول من متاع للبس
واجمعوا فيه ما تشتت منه
…
بيد الدهر من متاع ولبس
واجعلوه للعلم داراً وللد
…
ين مناراً، أو مرجعاً للتأسي
ينبري للوفود منه خطيب
…
صامت القول من بلاغة قُس
يوعظ العقل للحياة ويمضي=يفتح العين من عماء ونعس
ذاك من جانب الوفاء إلى الشع
…
ب نداء لصاحب غير نكس
محمد الهداوي
بمناسبة ذكرى حافظ
شاعر النيل
بقلم الأديب أحمد عثمان عبد المجيد
لولا أن الخطب في شاعر النيل هو خطب الشرق الذي كان الفقيد لساناً من ألسنته، وعموداً من عمد نهضته، وبطلاً من أبطال المحاماة عن حريمه، والذود عن حقيقته، وقائداً من قواده البسلاء الميامين، وداعية فيه إلى الإخلاص في الجهاد، والإحسان في البلاء، ليظفر بحقه في الحياة والسلطان. لولا أن الفقيد كان ذلك الرجل ما جل الخطب فيه وما فدح وما كان لمثلي أن يجاوز طوره، ويصطنع ما لا يطيق، ويدفع نفسه دفعاً في مزدحم الكرام الكاتبين عن حافظ شاعر النيل فيعرضها لشيء كثير من العنت والمشقة.
ومن أعجب العجب أن يريغ هذا القلم اللدن تلك السبيل برغم ما يتعاور حامله من تبلد القريحة، وركود الذهن، وأن يأسره ذكرى شاعر النيل وحده فيتحدث عنه يوم مضى على وفاته الأربعون، ثم العام، وها هو ذا يتحدث عنه وقد تصرم العام الثاني على وفاته أمس.
وأعتقد أن حافظاً ما ملك من نفسي إلا بما غلب عليه من إيثار الوطن وفدائه، وغلب على شعره من الحماسة الوطنية والنزوع إلى الحرية، والولوع بالاستقلال والسيادة. ولعل أقل ما نجزي به حافظاً رحمه الله أن نكثر الحديث عنه، وأن نقدمه إلى شعرائنا الذين آثروا أدب الصبابة واللذة، وجنحوا بالأدب عن أن يكون وسيلة من وسائل إلهاب الشعوب المستضعفة وإنهاضها للمطالبة بالحقوق والدفاع عن الذمار، وظنوا أن تزويق الحديث وتليين المعارض والمقاطع ووصف الغانيات، وأسباب الترف من الأوليات التي يجب أن يعنى بها الأديب، وأن يخلص لها الأدب.
لمثل هؤلاء يجب أن نقدم حافظاً مثلاً للأديب الذي عرف غاية الأدب السامية فجعل نتاجه الجم وقفاً عليها، وجهاداً في سبيلها، ولم يحاول أن يسلك بالأدب مسلك أكثر أدبائنا الذين جحدوا حق الوطن عليهم، وتأثروا طريقة الأدب العربي في فنونه التي خلت إلا قليلاً جداً من الشعر الوطني الذي يحدث عن آمال الشعوب ورغائبها.
لذلك لم يأل جهداً في تسجيل ما للشرق من مفاخر، عز بها حقبة من الزمن، وما ينبعث لتحقيقه في إيمان ثابت، وجهاد صادق من مآرب وغايات. ضارباً له الأمثال ليشد أزره،
ويصحح عزيمته، ويثير حفيظته، ويزيد إيمانه بحقه، واعتزازه بمجده
فتش في آثار حافظ كلها يأخذ ببصرك هذا الطابع المجيد، وتر أنه لم ينس الحديث عن مصر والشرق حتى في مدائحه، ومراثيه، لأنه لم يمدح ولم يرث إلا الغطارفة الذين عرفهم وعرفتهم مصر مجاهدين في سبيلها، مخلصين في الذود عنها، بل لم ينسه في خمرياته التي يستعبد الحديث عنها السمع والبصر واللب جميعاً، ويأخذ بذمام الفكر فلا يدعه يجنح إلا إلى اللهو والخمر والقيان والندمان وما إليها.
لم يذهب حافظ في أدبه ذلك المذهب إلا متأثراً بمصريته الصميمة، وما أفاده من صحابة الأحرار من كره الاستعمار وضيق بالذل، وما لقيه من عناد الإنجليز بالسودان وما مني به بعد من بؤس وشدة.
كل هذه العوامل قربت بينه وبين الشعب، فأحس منه ضعف النفوس، وتزايل الوحدة، وتردد المستضعف، وخوف الذليل، وأراد الإصلاح ما استطاع فاتخذ سبيله ليرضى بسعيه عن نفسه، ويكون كما قال:
لعمرك ما أرقت لغير مصر
…
وما لي دونها أبداً مرام
وقوله:
إني لأحمل في هواك صبابة
…
يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لذلك لم يدع باباً من أبواب الجهاد إلا ولجه، فكان له في سبيل الوطن والدين والأخلاق مواقف عز بها وبز، وأقعد غيره عن أن يلحق به ويدانيه، واصطنع في جميعها الجرأة والصراحة وخلطها أحياناً بالتهكم اللاذع، والسخرية المرة، لتكون أبلغ في التأثير وأبقى في الآذان. واليك حديثه مع غادة اليابان مثلاً تر فيه كيف برز حافظ في هذا المضمار، وجمع إلى سلامة الشعر وشرف المقصد دقة التصوير، وسمو التصور:
لا تلم كفى إذا السيف نبا
…
صح مني العزم والدهر أبى
أنا لولا أن لي من أمتي
…
خاذلا ما بت أشكو النوبا
أمة قد فت في ساعدها
…
بغضها الأهل وحب الغربا
وهي والأحداث تستهدفها
…
تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها
…
أم بها صرف الليالي لعبا
ثم يمضي يصف تفريط أمته. وعشقها الألقاب في غير العلا، وجهادها بالنفوس في سبيل الرتب، وتباغضها وتحاسدها، وما إلى ذلك مما يقعد بالمصلحين، ويثبط همم المجاهدين إلى أن يقول مخاطباً غادة اليابان:
قلت والآلام تفري مهجتي
…
ويك ما تصنع في الحرب الظبا
فسليني إنني مارستها
…
وركبت الهول فيها مركبا
وتقحمت الردى في غارة
…
أسدل النقع عليها هيدبا
جال عزرائيل في أنحائها
…
تحت ذاك النقع يمشي الهيدبى
فدعيها للذي يعرفها
…
والزمي يا ظبية البان الخبا
وهو بذلك الحديث كله يمهد لما يريد أن يقدمه نصيحة للشباب ويجعله مثيراً لهممهم، باعثاً لهم من مراقدهم، فأي شاب يعرف للرجولة حقها يسمع حديث حافظ على لسان هذه الغادة فيرضى أن يسيغ المذلة، ويقيم على الخسف الذي يراد به فيكون أحد الأذلين؟
فأجابتني بصوت راعني
…
وأرتني الظبي ليثاً أغلبا
إن قومي استعذبوا ورد الردى=كيف تدعونيَ الا أشربا
أنا يابانية لا أنثني
…
عن مرادي أو أذق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم
…
تستطع كفاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
…
وأواسي في الوغى من نكبا
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: إن حافظاً قد بلغ في هذه القصيدة مبلغاً من الإحسان يحسد عليه، وأشرف بها على الغاية، وأسمعت كلماته من به صمم
ولم يزل يتبع الصيحة المدوية أخرى أشد وأعلى ليستقيم له قياد النفوس. ويدفع الشباب المترف المنعم الذي سدر في شهواته وغلا في مباهجه، ونسى حق الوطن عليه - إلى ما يجب أن يعمل له ويشغل نفسه به فانه
عار على ابن النيل سباق الورى
…
مهما تقلب دهره أن يسبقا
فتدفقوا أسداً وصونوا نيلكم
…
فلكم أفاض عليكم وتدفقا
فمن البلية أن تباع وتشترى
…
مصر وما فيها وألا تنطقا
تلك هي البلية البالغة، والهوان الأكبر، والفعلة النكراء، فأحر برجال الغد المأمول أن يلموا
الشعث، ويرأبوا الصدع، ويسعوا إلى خير هذا الوطن المسكين سعياً ملاكه التضحية بالنفس والتفدية بالعزيز
رجال الغد المأمول إن بلادكم
…
تناشدكم بالله أن تتذكروا
فكونوا رحالاً عاملين أعزة
…
وصونوا حمى أوطانكم تتحرروا
ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا
…
تبيتوا على بأس ولا تتضجروا
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله
…
ولا ناله في العالمين مقصر
لست أدري إذ أقرأ لحافظ هذا وكثيراً غيره فأرى دعوته إلى الثورة سافرة غير مقنعة، وحفيظته على الاستعمار صريحة غير منكتمة، ماذا يكون منه لو أفسح له القانون قليلاً في الحرية؟ وأي شيء بعد هذا نرتقبه من مجاهد، ونرجوه من حر.؟
إن من يعرف صرامة القانون إذ ذاك وما رمي إليه المشترع الإنجليزي من كبت الشعور، والتفزيع والكيد للاحرار، ليعتقد أن حافظاً آثر عنت القانون، وشدته ليقضي حاجة نفسه، وحاجة أمته في ذلك الوقت العصيب الذي سعى فيه كثير من الخاصة إلى رجال الاستعمار متزلفين مؤثرين أنفسهم على الوطن
فهذا يلوذ بقصر الأمير
…
ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير
…
ويطنب في ورده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين
…
على غير قصد ولا مأرب
لله درك يا حافظ! لقد جاهدت والغمرات من حولك منكرات والقوم مشغولون عنك بذات نفوسهم. فما فنيت عزيمتك ولا وهى صبرك، ولا دفعك ذلك إلى اليأس إلا حين ترجو الإلهاب والتهييج، فما أجمله يأساً يوقظ الشعور ويحفز الغافل إلى المناداة بالحقوق
حطمت اليراع فلا تعجبني
…
وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب
…
وما أنت بالبلد الطيب
وكم فيك يا مصر من كاتب
…
أقال اليراع ولم يكتب
فلا تعذليني لهذا السكوت
…
فقد ضاق منك ما ضاق بي
أيعجبني منك يومَ الوفاق
…
سكوت الجماد، ولعب الصبي
وكم غضب الناس من قبلنا
…
لسلب الحقوق ولم نغضب
غضب الناس لحقوقهم فاستردوها، ونمنا نحن عن حقوقنا وهي ملء الأرض، وشغلنا عن مجدنا الدابر وهو ملء التاريخ، ورضينا بالدون من العيش قسما وحفظاً وقد
كنا قلادة جيد الدهر فانفرطت
…
وفي يمين العلا كنا رياحينا
كانت منازلنا في العز شامخة
…
لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
وكان أقصى مُنى نهر المجرة لو
…
من مائه مزجت أقداح ساقينا
والشهب لو أنها كانت مسخرة
…
لرجم من كان يبدو من أعادينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا
…
شزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا حسب
…
ولا صديق، ولا خل يواسينا
في هذه الأبيات وفي كثير غيرها يذكرنا حافظ بسلطان الشرق وملكه، وعلمه وفلسفته، وأيامه الخالية، ثم بعبوديته وفقره المادي والأدبي ليبعث من ألقى السمع إلى النهوض، وينبه الغافل الكسل إلى ماله من حقوق مسلوبة
ولبس من شك في أن شاعرنا قد أدى بقصائده هذه ما وجب عليه كمصري صميم إنيكن زاد وأربى، وأن الشعب قد أحمسه تذكير بنعمى عريضة تحولت أبؤساً، وعز باهر آض ذلاً. ولكن نفسه الكبيرة ما كانت لترضى بهذه التضحية الحق، فلولا صرامة القانون لأرتنا عجباً، فمثلها لا يقنع بما دون النجوم.
متى أرى النيل لا تصفو موارده
…
لغير مرتقب لله مرتهب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت
…
جادت دموعي لها باللؤلؤ الرطب
إذا نطقت فقاع السجن متكئ
…
وان سكت فان النفس لم تطب
وكما لم يحمد حافظ جهاده وبلاءه لم يحمد للشباب نهوضهم المقدور، وجهادهم المحدود، وهو يريدهم أسوداً ضارية لا ترتد عن الغاية أو تبيد، فأنحى عليهم باللائمة وأغلظ لهم في القول، وقرعهم وتحدى رجولتهم فقال:
أنابتة العصر إن الغريب
…
مجد بمصر فلا تلعبي
يقولون في النشء خير لنا
…
وللنشء شر من الأجنبي
أفي الأزبكية مثوى البنين
…
وبين المساجد مثوى الأب
وكم ذا بمصر من المضحكات
…
كما قال فيها أبو الطيب
هذه النابتة التي راضها حافظ على التضحية فارتاضت بعد شماس، وأدبها ذلك الأدب الجميل وطالما أوضعت في اللهو وجنحت إلى الأثرة فجنت على الأمة، هي التي تسعى اليوم غير وانية، وتمضي غير متريثة، لا يشغلها عن جهادها الشريف ما يُمنى لها من كيد، وما يراد بها من هون، لقد علمها بالصراحة، وعرض عليها شر ما فيها من الخصال لتتوقاه، وكان عليها حديد اللسان إن ترددت حين العزم وتقاعست عند النائبة
حسبي هذه الصور البارعة التي تدل دلالة واضحة على أن حافظاًً - أحسن الله جزاءه - كان شاعرا الوطنية الثائرة، لم يقدع ثورته الخوف، ولم يأسر قلمه التزلف والرياء، ولم يخالف بين قوله وفعله
وستظل هذه الناحية من شعر حافظ شغل الباحثين ما دام الحديث عنها يمتد ويمتد فلا يقوم بالإيفاء فيه الإطناب المطنب، وما دامت النفوس الأليمة تستروح برد الراحة في دراسة هذه الآثار التي تحدث عن أشهى أمنية من أمانيها، وما دام - حافظ - نفسه يأبى أن يحتفل بغير هذه الناحية، ويقول ما معناه (إن من قضى شبابه في الجيش، ثم انغمس بعد تسريحه في شعر الوطنية؛ هيهات أن يجد متسعاً لما وراء ذلك) وأختتم الكلام بعرض مختار من إحدى قصائده في داهية دنشواي الدهياء، وقد صاغها من حسرات نفسه وآلام شعبه، ورثى فيها العواطف الشريفة - يقتلها حب الاستعمار في نفوس أهله - فجاءت طرازاً وحدها في قوة التأثير وجمال النظم قال:
خفضوا جيشكم، وناموا هنيئاً
…
وابتغوا صيدكم، وجوبوا البلادا
واذا أعوزتكم ذات طوق
…
بين تلك الربى فصيدوا العبادا
انما نحن والحمام سواء
…
لم تغادر أطواقنا الأجيادا
لا تظنوا بنا العقوق ولكن
…
أرشدونا إذ ضللنا الرشادا
ثم يقف بعدُ من المستعمر موقف الخصم العنيد، فلا يدع له حجة ولا ينجيه من التثريب والملامة:
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
…
أقصاصاً أردتمُ أم كيادا؟
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
…
أنفوساً أصبتم أم جمادا؟
ليت شعري أتلك محكمة التف
…
تيش عادت أم عهد نيرون عادا؟
كيف يحلو من القوى التشفي
…
في ضعيف ألقى إليه القيادا؟
ثم يمضي بعدُ حسراته وزفراته حتى ينتهي إلى تقريع أبناء مصر الذين ينقلبون حرباً عليها، ويكونون عوناً للمستعمر على خضد شوكتها؛ ويخلص من ذلك إلى قوله وقد أنكر تصرف هؤلاء الأعيان وزرى عليه:
لا جرى النيل في نواحيك يا مصر
…
ولا جادك الحيا حيث جادا
أنت أنبتّ ذلك النبت يا مصر
…
فأضحى عليك شوكاً قتادا
أنت أنبتّ ناعقاً قام بالأمس
…
فأدمى القلوب والأكبادا
إيه يا مْدرهالقضاء ويا من
…
ساد في غفلة الزمان وشادا
أنت جلادنا فلا تنس أنا
…
قد لبسنا على يديك الحدادا
هذه الروح القوية التي استبانت فيما أوردنا من شواهد هي التي صدر عنها حافظ في جهاده الوطني الذي صار من أجله شاعر النيل غير مدافع ولا منازع.
وما زال رحمه الله يغذي الحركة الوطنية، ويشيد بها حتى ألقى عصاه بدار الكتب، فصرم بها زماناً لا ينشدنا إلا لماما.
وما كان للنفوس التي خالطها حبه، وغذاها أدبه، وطبعت على أن تسمع صوته متصلاً لا ينقطع، أن تسكن إلى تلك الحال، وأن ترضى بذلك القليل يأتيها منجما في أوقات متباعدة.
فلما ترك رحمه الله المنصب محالاً إلى الراحة والدعة، أمّلت خيراً واستشرقت وأنست إلى مقطوعاته التي كان ينظمها اليوم بعد اليوم، ولكن ما هي إلا جولة أو جولتان حتى رفع القلم، وطوى الأثر، وودعنا حافظ
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أبى البؤس الذي ألح على حافظ حياته أن يدعه بعد وفاته، فكفرت الأمة بأياديه عليها، ولم تعرف لذكراه حقها، وكان أقل ما يجب عليها لمن عاش حياته مجاهداً في سبيلها، مسبحاً باسمها، أن تجعل يوم وفاته أحد أيامها الخالدات، تهرع فيه إلى تمجيد ذكره وإعلاء قدره، وأن تنشر صحيفة جهاده للأدباء ليتأثروه فيه ويعملوا على شاكلته.
وليس هذا وحده هو كل ما أصاب حافظاً من بؤس بعد وفاته، فان خلصاءه الذين عاشروه ولابسوه ولزمهم بذلك ما يجب على الصديق للصديق، قد نفضوا أيديهم مما تعاهدوا عليه
إثر وفاته واجتمعوا من أجله، وقد كان فيه قليل من كثير جداً يجب عليهم لذلك الشاعر الصديق الذي أضحى بين هؤلاء الصفوة الأنساء أو النسيان وكلاهما شر.
وبعد، فتلك كلمة فيها إيجاز وقصور، لم أرد فيها كشفاً عن فضل مستور، وبياناً لقدر منكور، ولكني أردت أن أؤدي لشاعر النيل بعض ما وجب علّي بالأخذ عنه، والانتفاع بآثاره. فان أك قد قاربت ما أردت فحسبي، وإلا أكن فالمجتهد يعذر.
أحمد عثمان عبد المجيد
بين الشك والإيمان
الشاعر الإيطالي (ليوباردي)
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
أعجب ليوباردي بالموت والفناء، فقال في مقطوعة له:
_ أيها الموت الرحيم الذي لم أزل أدعوه إلى منذ تألق صباي: تعال أغلق إلى الأبد عينيَّ، فقد طرحت بعيداً عني كل أمل خادع يتعلل به العالم، ويلهو كالطفل. أنا لا رجاء لي إلا بك، ولن أرتقب إلا النهار الذي أرقد فيه مسنداً جبيني على صدرك الطاهر)
وهكذا أصبحت نفسه لا يشبعها لون من ألوان الحياة وآمالها، لا الحب ولا زهوه، ولا الأمل وآفاقه؛ لا يشبعها ولا يطفئ رغائبها إلا لقاء الموت.
قد تسمع هذه اللهجة من غير ليوباردي فتصد عنها، ولكنك تسمعها من هذا القلب الخافق والروح المعذب فتوقظ نفسك الهاجعة وتهيج قلبك الهامد، لأن اللهجة التي ينطق بها الشاعر ليست لهجة خاصة، وإنما هي لهجة الإنسانية التي تأتي من حيث لا تعلم، وتنطلق إلى حيث لا تدري.
يقول ليوباردي: إن الجميل هو عدو الحقيقي، ولكن هذا الجمال الخادع هو - عندي - خير من الحقائق الأرضية الدنيئة. ألا فلنهذب الأشياء التي تفسح ساحات الخيال، فهي أجدى نفعاً على الناس لأنها تبعث على النسيان. إن الآداب هي رفيعة المقام، وهي القائدة إلى المثل العليا، والدرس يبعث على التعزي، وهو يبهج ويلهي النفس. أما الحب فهو نعمة لأنه يتصور ويتأمل. أما الأمل فهو الأريج الفواح الذي يعطر مسارب كل مكان. وإذا كنت أعتقد أن الموت هو خير هذه الأشياء، فلأنه يفاجئ الإنسان المسترسل في أوهامه، لا يقتل هذه الأوهام إلا بقضائه على الحياة؛ لماذا تصلح حياتنا؟ هل تصلح إلا للازدراء؟
- 5 -
ومن الغريب أن ترى ليوباردي الكاتب يناقض ليوباردي الشاعر، فرسائله لا تكاد تخلو من ذكر الله وهو في شعره جاحد لوجوده، يقول في إحدى رسالاته (والأجل الذي كتيه الله لي
لما يحن! ولكنني أرجو من الآلام التي أنهكتني أن تسوقني إلى الراحة الخالدة التي أطلبها كل يوم، هرباً من العذاب الذي أضواني.)
كان ليوباردي يجحد وجود العناية الإلهية، والآن يثبتها لأنه يحس وجودها بالضرورة التي تفرض وجودها. يقول الشقي (إذا كان هنالك كائن في السماء أو الأرض أو في قاع البحار، فلا أقول عنه إنه رحيم، ولكنه شاهد على عذابي)
كان ليوباردي يحتقر البراعة، وينسى الأسماء الخالدة اللامعة وها هو الآن في ذات مساء، في مدينة (رومة) يرقى ربوة ((سانت أتومزيو) حيث قضى (لوتاس) نحبه، ينحني إزاء قبر هذا الشاعر الكبير، ويستوي تحت ظلال الشجرة التي ألف الشاعر أن يفئ إليها متأملاً في غروب الشمس، هنالك يقول ليوباردي لا شيء جميل على الأرض؛ عظمة اليراعة التي تعيش وتخلد هي فوق كل عظمة. وكان يقول عن الحب إنه حلم فارغ، غير خليق به أن يقلق نفساً صافية، وها هو ذا الآن يجعل من الحب رسول السعادة الحقيقة، ترسله الآلهة إلى قلوب بني الإنسان. (فهو إذا هبط الأرض تحرى عن أشرف القلوب وأطهرها، وبث فيها من روحه وعذوبته. حتى ليحس صاحب الحب أن في قلبه روحاً غريبة تثنيه عن العالم) وهو الكاتب إلى أخيه (بالله أجبني. . . أنا في حاجة إلى الحب. . . الحب. . . النار. . . الهيام. . . الحياة) وهو الذي يحدث عن صداقة أنقذته، وبدلت بؤسه هناء وجعلته يؤمن بأن في الحياة أفراحاً كان يحسبها مستحيلة.
كان ليوباردي يساير مذهب الجاحدين وجود المشاعر السامية في الإنسان، والآن أصبحت هذه الأكاذيب عنده أسمى شيء في أخلاق الإنسان، تدل على شيء هو أعظم من الرداء الترابي، فيصرف وجهه عن الأرض ليتأمل في عظمة الفضاء الشاسع والعوالم السابحة فيه، فيرى كل شيء صغيراً حقيراً عند هذه النفس، فيعرف أن النفس هي أوسع بخاطراتها وتأملاتها من كل عالم، فتشكو هذا النقص وتحس الفراغ والسأم؟ أليس هذا بما فيه برهاناً على شرف الطبيعة الإنسانية؟
هذه المشادة هي المعركة التي تقوم بين القلب والروح، ولكن هذه المعركة التي تتخذ من صدر (ليوباردي) ميداناً عنيفاً هي معركة دائمة لا انتهاء لها. يحفزها الألم ويسعر ضرامها الشقاء ذلك الألم الذي نحا بالشاعر إلى هذه الوجهة العابسة من فلسفة الشك، وطبيعي أن
تكون هذه الوجهة غيرها فيما لو قيَّضت المقادير لهذا الشاعر حياة ناعمة وعيشاً رغداً، إذا لكبست الحياة متفائلاً جديداً يشدو بمحاسنها ويلهج بالثناء على جمالها، وسيان عندها شاعر بكى وشاعر شدا:
فلله ما أظلم الفلسفة إذا كان قليل من هناء يبيض وجهها فيبيض العالم، وقليل من شقاء يسوَّد وجهها فإذا العالم كله ظلمات بعضها فوق بعض. والحقيقة - وأجدر بالحقيقة أن تكون وراء هناء الإنسان ووراء شقائه، ولكن قل لي من الذي يستطيع أن يتجرد من جميع هذه الظواهر، ومن ذا الذي يقدر على أن يضمن سلامة عقله إذا جاع بطنه، وأن يبقى على هنائه إذا عضه ألم أو فرَّ منه أمل
- 6 -
وهكذا ظل ليوباردي تتشاطر قلبه نوازع مختلفة، وينحط على جسده الداء إثر الداء، يحاول أن يهدئ ثائرتها عنه بتنقله من رومة إلى بولونيا، ومن بولونيا إلى فلورنسا، إلى نابولي، والداء لا يزيد إلا تمكناً منه، حتى آثر الشاعر الموت لنفسه على ان يذلها بسبب الحاجة، وقد دفعه ألمه هذا للكتابة إلى والده (. . . ان ما رتبته لي لا يكفي. . . على أنني أريد ألاّ أحيا كما يحيا الناس، ولكن الموت هو أفضل عندي، ولكن الموت يجب ارتقاب أجله، فلو كان الأمر بيدي لما طلبت إليك - والله شهيد علي - أن تمنحني شيئاً.)
تعرف في نابولي إلى صديقه (رانيري) ذلك الصديق الذي أخلص له كل الإخلاص، وظل أميناً حتى اللحظة التي غادر فيها ليوباردي الوجود، وفي نابولي اعتزل الشاعر الناس، فلا يبصر منهم أحداً، ولا يسمع عنهم شيئاً، كأنما عزلته هذه هي عزلة الموت. ينطبق عليه فيها قوله (أصبحت جزعاً يفكر ويقاسي العذاب، هو لا يزجى حياته إلا في التفكير، ولا يشغله في عزلته ألاّ التأمل. إذا رآه الناظر يخطر بين خرائب (بومباي) عند الغروب، تمثل شبحاً قديماً يزحف بين الخرائب يرثي حظها وحظ نفسه
وجد على قمة جبل تنفث مائعاً نارياً نبتة ضعيفة تحاول أن تنزل فيها جذورها، فمثل الشاعر نفسه بالنبتة الحقيرة وناجاها قائلاً:(وأنت أيضاً، ستخضعين لقوة النار، وستنحنين تحت الأثقال، ولكنك لن تنحني جبانة أمام الظالم، ولن تلتفتي إلى السماء بكبرياء أهوج)
يطغى على ليوباردي هذا الشك العنيف، فينكر الخلود ويعلن قبل موته أن هذه الفلسفة
البائسة - كما يدعوها - ليست نتيجة ألمه وشقائه، ولكن نتيجة اعتقاد وايمان، ويؤلف مقطوعة الموت والحب، معنوناً إياها ببيت للشاعر (لمينادر)(هنالك يموت شاباً من تحبه الآلهة)
وإزاء هذا التناقض الذي شاهدناه بين قصائده ورسائله كتب أيضاً (وداعاً يا صديقي العزيز. . إنني أحس في نفسي رغبة هائجة لعناقك، ولكن كيف؟ وفي أي موطن أستطيع؟ أخاف جداً ألا يكون هذا بقدر طول حديقة (أسفوريل). حدثني عن دروسك، وأحببني دائماً، وداعاً لك من كل قلبي)
انتشرت الكوليرا في نابولي وكثرت ضحاياها، فنقله (رانيني) صديقه الحميم إلى (بورتيسي). وفي الرابع عشر من يونيو عام 1839 أخذت الشاعر نوبة إغماء قوية تزايلت لها أعضاؤه، ولم يكن عند الشاعر إلا صديقه وأخت صديقه، كانت تمسح العرق المتصبب من جبين العليل، وكان (رانيني) يساعده بحركات رياضية على التنفس، وكل هذا لم يغنه شيئاً. فعاد بعد لأي إلى وعيه واتسعت عيناه، ونظر إلى صديقه نظرة عميقة، وقال به بلهجة يمازجها التنهد:(لن أراك أبداً) ثم انقطعت أنفاسه وهمد قلبه الهمدة الأخيرة
ووري جثمانه في الكنيسة الصغيرة (سانت فينال) حيث يرقد غير بعيد عنه رفات الشاعر الأكبر (فرجيل). فيا لله من هذا الحظ الذي جمع بين لحدي هذين الشاعرين العظيمين، وهما على قربى في الوطن والفكر والشعر. قد انشق الاثنان من نبعة، وانطلقا ليرقدا في رقعة واحدة. كلاهما تألم، وكلاهما لقي حتفه في ميعة الصبا، وكلاهما أيس من العالم الثاني، وود أن ينتقم من المقادير ويثأر لشقائه فقالا:(هي المقادير! ما أوجدت الإنسان ليحيا، وإنما أوجدته ليموت)
وهذه الفكرة التي تجعل الموت غاية الوجود قد رددها ليوباردي في مقطوعته (أنشودة الديك)
_ يخيل اليَّ أن المآل الوحيد لكل موجود هو الموت، لن يموت شيء لم يوجد، ولن يولد شيء من العدم.
يتجه كل مخلوق بأعماله وآماله إلى السعادة.
فيسعى ثم يقف مجهوداً دون أن يدركها.
ثم يجد أن جميع أعماله - لا تؤول وا أسفاه! إلا إلى مشيئة الطبيعة المكتوبة على كل موجود - وهي الموت)
وكأنه يقول، وهو المتألم، خلقنا لنتألم، ثم لنفنى.
(بيروت)
خليل هنداوي
العلوم
تطور فكرة النظام الشمسي عند اليونان
بقلم فرح رفيدى
. . . هذه أول مقالة من عدة مقالات في تطوير فكرة النظام الشمسي عند اليونان وعند الكنيسة في العصور الوسطى، وعند العرب، ثم الانقلاب الأخير الذي حدث على عهد كويرنيكس وجاليليو.
وقفت في مساء ليلة من ليالي الصيف متأملاً انحدار الشمس إلى المغرب انحداراً بطيئاً، وكان الشفق بألوانه ممتعاً للأنظار، محركا للنفوس. لكني لم أبال بجمال المنظر أكثر من أن الشمس ستتوارى عني وراء الجبال بضع دقائق
وأجهدت نفسي في تلك الآونة لأرى الشمس واقفة وأشعر نفسي متحركاً مع الأرض، لكن جهدي ذهب عبثاً، إذ مازلت أرى الشمس تهوي مسرعة لتختفي عن ناظري، والشفق يزداد احمراراً كلما دنت من المغيب. فبالرغم عني لم أرها إلا متحركة وبالرغم عن كل شيء لم نلاحظ الشمس تقف ثانية واحدة في مجراها اليومي، فهي أبداً في كل يوم نشاهدها صباحاً في المشرق، ترتقي رويداً في هذه القبة الزرقاء، إلى أن تصل أوجها في منتصف النهار، ثم تأخذ في الانحدار والاختفاء وراء الأفق الغربي، فتضئ هناك ما كان مظلماً، وتبقى خلفها الظلمة ترتقبها النجوم بأعين ساحرة متلألئة.
وقد نشاهد القمر أحياناً يظهر بعد اختفاء الشمس، فيسلك مسلكها، ويتبع خطاها واحدة واحدة، إلى أن يتدرج في انحداره وراء الجبال أو وراء البحار. ففي أثناء هذه الدورة العظيمة من الشمس، أو هذا الانقلاب الخطير المتعاقب من ليل ونهار، من بفكر أو يشعر أنه دائر حول محور الأرض بسرعة تقرب من الألف ميل في الساعة، وأنه في اثنتي عشرة ساعة ينقلب أسفله إلى أعلاه وأعلاه إلى أسفله؟ وكيف يكون هذا الدوران السريع ولا نرى البنايات تتهدم، والأشجار تتساقط، والمياه تتطاير في الفضاء والناس تقع وتقوم؟. إن هذا الدوران حركة عنيفة قادرة على تفتيت الأرض وهدمها. فبما أن كل هذه الأشياء لا تحدث، فالأرض إذن ثابتة لا تتحرك في وسط هذه القبة المستديرة. نعم ذلك ما اعتقده اليونان الأقدمون وجاهر به بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد. فثبات الأرض في
مركزها كان النقطة الأساسية في النظام اليوناني القديم.
لنقف الآن قليلاً، ولنتصور أنفسنا في يوم 22 يوليو عند ما يكون النهار على أطوله، والشمس مشرقة تماماً على الخط المار بين الغرب والشرق منا. لندع الشمس تدر حول الأرض كعادتها ونحن نرقبها كل يوم من مسقطها ونعين موضعها بين الجبال أو ان شئنا بين النجوم، فبعد أيام نرى أن الخط المار بنا وبها قد بدأ في الانحراف قليلاً عن خط الشرق والغرب، ولا يزال الخط في الانحراف ولا تزال الشمس متنقلة بين النجوم إلى أن يأتي الخريف بعد الصيف الحار، ويقترب الشتاء ببرده القارس، ويأتي يوم 22 ديسمبر حيثما يكون النهار على أقصره، فبلغ الخط منتهى انحرافه، وبدأ بالرجوع إلى مكانه الأول. ثم لحق الربيع الشتاء، وما كاد يطرب بنضارته وجماله الشعراء حتى يباغته الصيف بحره وجفافه، ويأتي يوم 22 يوليو حيث يرجع الخط لمكانه الأول. وذلك بعد أن أنهت الشمس مسيرها بين النجوم. لأن ذلك كان ما اعتقده أرسطو وبطليموس في النظام الكوني وعللاه بقولهما: إنه لو كانت حركة الشمس هذه ظاهرية فقط ومسببة عن حركة في الأرض في جهة معكوسة، لكنا رأينا النجوم أيضاً تسير بهذه الحركة الظاهرية مع الشمس، وبما أنا لا نلاحظ أي انتقال أو تغيير في النجوم فالأرض إذن ثابتة لا محالة، وأي تغيير قد يحدث في بعض هذه اللوامع في الليل فانه راجع إلى الأجرام نفسها لا إلى حركة الأرض أو دورانها. وهذا التعبير الذي أذاعه المعلم الأول أرسطو تعبير منطقي يسلم به العقل، ولذلك ظل معتقداً راسخاً في قلوب الناس قروناً عديدة
أول ما يلاحظ الناظر في الليل إلى السماء هو الاختلاف البيّن في لمعان النجوم، فاستدل اليونان من ذلك على أن النجوم الأشد لمعاناً هي أقرب إلى الأرض من غيرها، وقد وجدوا أن من غريب أمر بعض هذه النجوم، أنها تنتقل من مكان إلى أخر، لذلك سميت بالنجوم السيارة فبثوا العيون وراءها ترصدها أينما حلت، واعتقد أرسطو أن هذه النجوم السيارة إن هي إلا أجسام طبيعية تدفعها إلى الحركة أرواح حالة فيها. وبما أن الأرواح تسير بقوة الإله الأكبر، والكاهن هو الواسطة بين الله والإنسان، فالكاهن إذن عالم بأمر هذه النجوم. فادعى الكاهن هذه المعرفة فأخذ يدرس حركاتها، فلما لم يعلم بسر حركتها ظن أن الروح تحركها، ولما رآها تسير بنظام لا يدركه قال هي تسير بلا نظام، وأن بعضها يسلك على
حسب حظ الواحد وسعده، فمنها ما يتحرك لخير ومنها يتحرك لشرّ. ومن ذلك انتشر الاعتقاد بمعرفة حظوظ الناس من معرفة حركات النجوم، فصار العالم بالأرواح عالماً بالنجوم ومسالكها، وأصبح صاحب الدين في الدنيا وهو صاحب العلم أيضاً، ولم يمكن عند ذلك التمييز بين الاثنين.
عرف اليونان من الكواكب خمسة غير الشمس والقمر.
عرفوا: (1) الزهرة، وهي الكوكب المتألق في السماء عند الصباح أو عند المساء، وقد دعاها الرومان إلهة الحب لجمالها وافتتانهم بها؛ وليس من الغريب أن يقرن نابليون حظه بها، إذ قال لأحد جنوده ذات ليلة:(انظر! هذه نجمتي، ما دامت متألقة فلا شك في نجاحي).
(2)
عطارد، رسول الآلهة، يُرى أحياناً في الشفق فقط بعد مغيب الشمس، يلبث قليلاً ثم يتبعها، وهو كالزهرة يرى أيضاً في الصباح.
(3)
المريخ، ونراه أحياناً متألقاً، وأخرى ضعيف الإشعاع، أحمر اللون، وهو إله الحرب عند الإغريق.
(4)
المشتري، إله الآلهة، وهو كزوس عند اليونان، وثاني الكواكب بشدة لمعانه، فلا عجب إن عرفه الناس من زمن قديم.
(5)
زحل، المعروف ببطء حركته بين النجوم الثوابت، عرفه الأقدمون كأبعد سيار عن الأرض.
ليس لنا أن نبين الأبحاث التي قام بها علماء اليونان في علمي الهيئة والنجوم، ولكن المهم الآن أن نعرف بعض من قاموا بتأسيس فكرة النظام الشمسي التي عرفت بالنظام البطليموسي، والتي ما كانت إلا تعديلاً لما اعتقده أرسطو العظيم في هذا الكون العجيب.
في سنة 532 ق. م قام فيتاغورس وأنشأ أخوية دينية كان لها اعتقادها الخاص في كروية الأرض، وكان هو أول من فرض حركة الأرض حول الشمس، لكن أرسطو رفض هذا الفرض لعدم ظهور دواع تؤيده، وكان أيضاً هبارخس أول من أظهر استدارة فلكي الشمس والقمر حول الأرض.
وفي سنة 370 ق. م، أظهر يودكس فكرة الكرات المتراكزة، فبنى على هذه الفكرة من
بعده أرسطو ورؤساء الكنيسة في العصور الوسطى.
وفي القرن الرابع قبل الميلاد قام المعلم الأول أرسطو، الذي تلقى على أفلاطون فيلسوف ذلك العصر، وجمع ورتب التعاليم اليونانية بعد أن حللها وناقشها مع تلاميذه، وقاسها بمقياس العقل والمنطق، وعزا الحوادث والتغيرات في النجوم إلى مسبباتها الظاهرة، وخلّف للملأ خلاصة التعاليم اليونانية منقحة بفلسفته المنطقية، فأكبر العالم هذه العظمة فيه، فمال على كتبه ومؤلفاته يدرسها، فوجدها غاية المنطق، وسداد الرأي، وقوة الدليل، فاقتنع وآمن بها إيماناً ذهب بالشك في صحتها من قلبه
لم يكتف أرسطو بأن جعل الأرض ثابتة، بل تصور النظام الكوني كله مؤلفاً من كريات مستديرة الشكل في أحجام مختلفة والواحدة في جوف الأخرى؛ وعلى هذه الكرات جعل الأجرام السماوية تدور حول الأرض.
وقد حسب النجوم الثوابت كلها على أبعاد متساوية من الأرض، لذلك جعلها على سطح كرة واحدة، وقد علل اختلاف الأضواء المنبعثة من بعض السيارات باختلاف بعدها عن الأرض. ولما زادت العناية بمراقبة النجوم، ودقت ملاحظاتهم لها، تبينوا اختلافات كثيرة في حركاتها، لم يقدروا على تعليلها بكرة واحدة، فزادوا عليها كرات، وقالوا إن هذه الحركة الظاهرة ما هي إلا مجموع حركات دائرية على كرات مختلفة، وزاد أرسطو على هذه الكرات اثنتين وعشرين كُرة، كانت سبباً في تعقيد النظام اليوناني بدلاً من تسهيله.
الاسم الأكبر الذي كثيراً ما نصادفه في كتابات اليونان القديمة في علوم الهيئة وبين مؤلفات العصور الوسطى، وفي الكتب العربية المنقولة عن اليونانية هو بطليموس مؤلف كتاب الماجسطي الذي ترجمه إلى العربية الحجاج بن يوسف بن مطر سنة 786م. وكان لهذا الكتاب المقام الأول بعد أرسطو لمدة أربعة عشر قرناً.
عاش بطليموس من سنة 100 إلى سنة 170 ب. م. وكان مولده على أيام الإمبراطور هدريان، وكان مقيماً طول مدته في الإسكندرية، وهو معدود من أشهر رياضي ذلك العصر. وكتابه الماجسطي يحوي كثيراً من العلوم الرياضية والجغرافية عن أبحاثه في علمي الهيئة والنجوم. وقد وافق هبارخس في تراكز الأجرام السماوية ودورانها حول الكرة الأرضية، ونزع فكرة الكرات فكرة أرسطو، وأدخل نظام الدوائر الصغيرة وهو النظام
الذي عرف باسمه من بعده، وهو أن الكواكب تدور في دوائر مراكزها تدور في دوائر أكبر منها حول الأرض.
بهذه الفكرة تمكن بطليموس من تعليل حركات الكواكب السيارة في السماء ذهاباً وإياباً، ومن تعليل ثباتها مدة من الزمن عند تغييرها من ذهاب إلى إياب وبالعكس. فقد قال إن حركة الذهاب والإياب مسببة عن كون حركة الكوكب في جهة عمودية لاتجاه خط النظر وثبات الكوكب مسبب عن كون حركة الكوكب في اتجاه واحد مع خط النظر، وذلك كما يلاحظ في حركة اقتراب أو ابتعاد الكوكب عن الأرض، إذ يعجز الإنسان عن إدراك الحركة فيظن صاحبها ثابتاً.
وأما انحراف السيارات عن دائرة البروج أو فلل الشمس فهو ناتج عن ميلان سطوح الدوائر الصغيرة عن سطح الدائرة الكبيرة.
وهذا النظام الكوني نظام بطليموس وهبارخس، وان كان مرتكزاً على جعل الأرض ثابتة بالنسبة إلى عوالم النجوم حولها فان الأرصادات الدقيقة للحركات الظاهرية لم تذهب قط سدى، وهي من الأهمية بمكان في تقدم علم الهيئة الحديث. والحقيقة في فكرة النظام البطليموسي أنها لم تبتدئ مع بطليموس، فأول من عرض هذه الفكرة كان ابولونيوس في القرن الثالث قبل الميلاد، فقبلها هبارخس في القرن الثاني قبل الميلاد، ولما أتى بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، توسع فيها وزاد عليها وشرحها شرحاً وافياً في كتابه الماجسطي، وظلت أساس معتقد الناس والكنيسة في النظام الكوني أربعة عشر قرناً.
فرح رفيدي
القصص
الهيكل العظمي
للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور
في الغرفة المجاورة لحجرة نومنا - نحن الأطفال - كان هناك هيكل عظمي معلقاً، يجلجل في الليل حين يداعب النسيم عظامه، أما في النهار فقد كنا نحركه بأنفسنا، وكان يدرس لنا علم العظام طالب بمدرسة طب كامبل، ذلك لأن مَن حولنا وطدوا العزم على أن يجعلوا منا أساتذة مبرّزين في كل المواد، ومهما كان نجاحنا فلم نكن لنخبر به أحداً ممن يعرفنا، كما كنا نخفي ذلك عمن لا يمت إلينا بصلة.
مرت سنون اختفى في أثنائها الهيكل من الحجرة، كما محيت بقايا علم الأستولوجيا من ذاكرتنا، ولم تترك وراءها أثرا، وفي يوم من الأيام كان منزلنا في هرج يموج بالضيوف، وقدّر لي أن أقضي الليلة في الحجرة القديمة، وعبثاً كنت أحاولإغراء الكرى ليطرق جفوني؛ وبينما أنا أتقلب في مضجعي سمعت كل ساعات الليل تدق دقة واحدة إثر أخرى في المعبد المجاور لي، وبعد عدة دقائق انطفأ المصباح الموضوع في ركن الحجرة، بعد أن ظل شعاعه الخفَّاق يضطرب، فأسلمني الظلام إلى تذكر بعض أحباء فقدناهم، وتأملت خفوت الشعاع في محيط من الديجور القاتم، ومن ثم قارنت بينه وبين خروج الروح من أجسامنا البشرية الضئيلة وهالني الشبه العظيم بينهما.
وقد جعلني تداعي الأفكار أفكر في الهيكل العظمي، وبينا أنا أرسم في خيالي صورة للجسد البشري الذي كان يكسو هاتيك العظام النخرة، خيّل إليّ إني أسمع وقع أقدام تجوس خلال الحجرة وحول الفراش وتتلمس الجدران، وأحسست إني أسمع أنفاس المتجول المضطربة، وكأنما أعياه البحث فمضى يذرع الغرفة جيئة وذهوباً، وخدعت نفسي بأن ما أسمع ليس إلاّ من قبيل الوهم، وما صوره لي إلا الأرق الطويل، وتشتت العقل، ومحاكاة اضطراب أعصابي حاكي لوقع الأقدام؛ ومع ذلك فقد عرتني قشعريرة سرت في جسدي، ولكي أتخلص من هذا الوهم هتفت صارخاً:(مَن هنا؟) وإذا بالساري يقف حذاء فراشي ويقول: (إنه أنا، لقد جئت أفتش عن هيكلي الذي بارحته). فرأيت من الجبن أن أتخاذل أمام مخلوق صوّره وهمي، وجسَّمه خيالي؛ فأمسكت جيداً بالوسادة وقلت: إنه عمل جميل في هذا الوقت
المتأخر من الليل! ما جدوى هذا الهيكل لك الآن؟ وإذا بالصوت يصدر من الكلة نفسها ويقول: يا له من سؤال عجيب! إن في هذا الهيكل عظاماً كانت سياجاً يقي قلبي الفتى الذي لم يجاوز السادسة والعشرين، أفلا يحق لي أن أراه مرة أخرى؟. فقلت له:(لا شك في ذلك، إنها رغبة سامية محترمة، فلتبحث عنه ما شئت، ودعني أنعم بالكرى قليلا!)
فقال الصوت: (أظنك هنا منفرداً، حسن، إني لأغتنم هذه النهزة لأجلس برهة معك، نتجاذب فيها الحديث، وتلك سجيّتي، فقيماً كنت أجلس إلى الرجال نتحادث، ولكن في الخمسة والثلاثين عاماً الأخيرة، أبدلت ذلك بأنيني مع الرياح الداوية عند قبور الأموات، وهاأنذا أتكلم مع فرد من بني البشر لأول مرة منذ مماتي).
وأحسست أن شخصاً يجلس قرب كلة سريري، فأذعنت الواقع وأجبت:(إن هذا في الحقيقة لشيء جميل جدا، وهيا بنا نتكلم في شيء طريف) فقال الصوت: (إن أجمل شيء أتذكره هو تاريخ حياتي، فدعني أقصه عليك)
وحينذاك دقت الساعة دقتين فانطلق محدثاً وقال:
(عندما كنت في ميعة العمر في دنياكم، كنت أخشى شيئاً واحداً كما أخشى الموت، ألا وهو زوجي، وكانت احساساتي أشبه باحساسات سمكة علقت بالشص، إذ كنت أحسبني هذه السمكة، وقد نزعت من ذلك الهدوء الذي شعرت به في منزل الصبا. لقد مات زوجي عقب زواجي بشهرين ولم يكن حزنهم على وفاته أكثر من حزنهم على حظي التعس، أما أبوه فقد نظر إلى وجهي ذات يوم وقال لزوجه: ألا ترين في عينها نذير الشؤم؟
ثم قال الصوت: (أمنصت أنت لقصتي: آمل أن تكون قد أعجبتك!)
فقلت: (لقد أخذت على جماع مشاعري وإن مبدأها ليشوق المرء إلى نهايتها.)
(ثم عاد الصوت يقول: دعني أتمها، لقد عدْت إلى منزل والدي، والسرور يملأ نفسي، واستنكر الناس هذا مني، ولكني كنت أعرف جيداً إني على قسط وفير من الجمال، ألا ترى ذلك؟)
(فقلت: لا شك في ذلك، ولكن يجب أن تتذكري إني لم أرك أبداً.)
فصاح الصوت: (عجباً لك! ألم ترني مطلقاً! إذن فما هذا الهيكل العظمي، ها ها، لا بأس عليك، لقد كنت أمزح معك وهل في مقدوري أن أعرفك كيف كان في هاتين الحفرتين
الغائرتين عينان يشع منهما السحر، وألاّ تشابه بين الشفتين الياقوتيتين اللتين كانتا تفتران عن ابتسامة فتانة وبين تلك الأسنان القاتمة التي تعودت أن تراها، وإني كلما حاولت أن أصور لك ما كنت عليه من جمال عبقري، وحسن وبهاء ورقة، ابتسمت طربا كما أشعر بشيء من الحزن والغضب، وإن أشهر أطباء عصري لم يكن يخطر على بالهم أن عظامي ستكون يوماً وسيلة لتفهيم دروس الاستولوجي، أتعرف طبيباً شاباً - كما أعرف - قارن بيني وبين زهرة (الشامباك) وما دار بخلده أن هذا الهيكل المحطم لفتاة كانت هي زهرة الجمال، وكلما سرت شعرت بأني قطعة من الماس المتلألئ ألقيت في جوف الثرى، وأن كل حركة مني تثير عاصفة من الإعجاب، وكم أمضيت الساعات الطوال أتأمل هاتين اليدين اللتين تمناهما كثير من الشبان المتيمين، ولكن هذا الهيكل الجامد، لا يستطيع أن يحرك شعورك نحوي، ولست أملك وسيلة أدحض بها هذا الافتراء الذي يوحيه إليك هيكلي، ولذلك أشعر بمقت للرجال، وهاأنذا أطرد الكرى عن مقلتيك بوصفي لك شفتي الورديتين.)
فصحت قائلاً: (أقسم لك بجسدك، أنك لو كنت محتفظة به حتى الآن لما كان للاستولوجي أثر في ذاكرتي، ولكان الذي يملؤها هو صورة الحب القوي العاصف يلوح لي في غياهب الليل، ولست أذكر لك أكثر من ذلك.)
فتابع الصوت كلامه قائلاً: (لم تكن لي فتاة شقيقة، أما أخي الوحيد فقد وطد العزم على ألاَّ يتزوج، وكنت أقضي الوقت منفردة في الحديقة أتفيأ ظلال الأشجار المتهدلة، وأسبح في بحر الخيال. فأتصور العالم كله يعبد جمالي، وأن النجوم الزهر تسكر من حسن طلعتي، وأن الرياح تدوي إعجاباً بي، والعشب المخضر يضطرب ثملاً حين أخطر فوقه، وكنت أحسب شباب العالم كلهم كالأعشاب التي أطؤها بقدمي، ولكن قلبي لأمر ما كان ينطوي على شيء من الألم، وكان لأخي صديق اسمه (شيكار) أتم دراسته بكلية الطب وأصبح طبيب العائلة، وكنت أرقبه عن كثب من خلال الأستار، أما أخي فقد كان رجلاً شاذاً اعتزل الناس، وأوى إلى ركن مظلم، وإذ كان (شيكار) صديقه الوحيد فقد أبيح لي أن ألقاه، وكنت إذا مضيت إلى الحديقة مساء، تخيلت كل عشبها (شيكارا) آخر. أمنصت أنت إلي؟ فيم تفكر الآن؟)
فقلت (أفكر فيما لو كنت (شيكارا) هذا!)
فقال الصوت: (تمهل قليلاً، وأنصت للقصة كاملة، ففي يوم ممطر، أصابتني الحمى، وجاء الطبيب يعودني، وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها، وكنت أتكئ على حافة النافذة حتى تصبغ حمرة الشفق المودع وجنتي، وحين جاء الطبيب تأمل في وجهي ملياً فقلدته، وتأملت في نفسي فخيل إلى أن وجهي وردة حمراء، قد ألقيت على وسادة بيضاء، فسأل الطبيب أخي أن يجس النبض، ولم أر طبيباً أجبن منه، حتى أن أصابعه كانت تضطرب ولا تستقر حين أقبل يتلمس معصمي، وفي النهاية سجل حرارة الحمى التي انتابتني، أما أنا فقد قدرت خفقان قلبه، أعندك شك في ذلك؟)
فقلت: (كلا. كلا، إن خفقات الفؤاد لتحكي قصته!!)
فقال الصوت: (بعد أن أبللت من مرضي المنهك، ألفيت كل أحبابي قد رغبوا عني، وأخيراً أصبح الطبيب يعود مريضاً فحسب، وكنت في هذه الأمسيات أرتدي ثوباً أبيض، وقد تدلت عليه ضفائر شعري المحلاة بزهور الياسمين الأبيض، ومن ثم أتخذ مقعدي المعتاد تحت أفنان الأشجار ومرآتي في يدي، وربما تظن أن رؤية الشخص لصورته وجماله في المرآة تجعله ملولاً. ولكن الواقع غير ذلك، لأني لم أكن أرى نفسي بعيني رأسي، لقد كنت شخصين في جسد واحد، فكنت أنظر لنفسي بعين الطبيب، وشعرت بجنون الحب، ولكن برغم هذا الدلال الذي أسرفت فيه قد كانت آهة حبيسة تتردد في صدري وتئن كما تئن رياح الليل، ولم أكن في ذلك الحين وحيدة، بل كنت حين أسير أتطلع بعين كئيبة إلى أصابع قدمي وأعجب ماذا تكون حالة الطبيب لو أنه شاهدني الآن، أما في الظهيرة، حين تتوسط ذكاء كبد السماء، ولا يسمع صوت هنا أو هناك إلا صيحة حدأة لا تلبث أن تتلاشى، فقد كان يمر خلف سور حديقتنا بائع الصقور ينادي (صقور زجاجية للبيع) وحينذاك أبسط على العشب خرقة بيضاء أجلس عليها وأعتمد رأسي بكفي، ويدي الأخرى تعبث بالحشائش، وكنت أتخيل أن هناك من يرقبني في مجلسي هذا ويعجب بي، ويود لو أنه طبع قبلة على أطراف أصابعي الوردية. . ولكن كيف أتم لك قصتي، وفي استطاعتي أن أسامرك حتى الصباح ولكن ذلك يبغضها لك. . . . إذن دعني أظل في قصتي، أما الطبيب فحين مارس صناعته جيداً استأجر غرفة في الدور الأرضي بمنزلنا وجعلها عيادة
للمرضى، وكنت أتسلى بسؤالي إياه عن الأدوية والسموم والمقدار الذي يميت من هذا الدواء أو ذاك، ولكن هذه الأحاديث أخذت طوراً آخر، فقد جعلتني أتأمل في فكرة الموت، وكان الحب والموت شاغلي تفكيري وحياتي
مضى على ذلك ردح من الزمن، لاحظت فيه على الطبيب تشتت الذاكرة، وخيل إلي أنه يحتفظ في صدره بسر يخجل أن يحدثني عنه، وفي ذات ليلة جاء مرتدياً كثيراً من الملابس واستعار مركبة أخي، وهنا ثارت الدهشة في نفسي، ومضيت استفسره عن كل شيء، وبعد أن تجاذبت معه الحديث سألته: ألك أن تخبرني يا (دادا) عن وجهة الطبيب هذه الليلة وقد استعار مركبتك؟. . . . فأجابني أخي في صوت أجش (إلى الموت) فصحت به (أخبرني حقيقة أين هو ذاهب). . فقال في شيء من الصراحة (مضى ليتزوج) فتعالت ضحكاتي طويلاً وقلت: أحقاً ما تقول؟
وعرفت حينذاك أن العروس وريثة ثرّية، ستنفح الطبيب مبلغاً كبيراً من المال، ولكن لماذا كان يخدعني طيلة الوقت بإخفائه ذلك عني، وهل توسلت إليه ألا يتزوج حتى لا يحطم قلبي؟ ولكن تلك سجية الرجال طبعوا عليها فتصديقهم ضرب من البلاهة، لقد عرفت في حياتي كلها رجلاً واحداً، ولكنه سرعان ما اختفى وتفقدته فلم أجده.
وبعد أن أتم الطبيب عمله وعاد الينا، وتهيأ للعمل سألته ضاحكة: لقد أحسنت يا دكتور، أعزمت على الزواج هذه الليلة؟ ولم يُفقده سروري ابتسامة محياه فحسب، بل أثاره ذلك فسألته:(ولمَ لم توقد الثريات ولم تعزف الموسيقى؟)
فأجابني في تنهد: (وهل تحسبين في الزواج سعادة أو لذة؟)
فانفجرت ضاحكة وقلت: لا، لا، لن يكون ذلك، وهل هناك عرس لم توقد فيه المصابيح ولم تعزف الموسيقى؟
وظللت أزعج أخي حتى أصدر أمره بإحضار جماعة الموسيقى، وكنت أبتسم طيلة الوقت، وأتحدث عن العروس وحياتها، وما سأفعله حين تأتي المنزل. وسألته: خبرني يا دكتور هل ستظل تجس النبض؟ ثم انفجرت ضاحكة؛ وتم عقد الزواج في ساعة متأخرة من الليل، وقبل ابتدائه كان أخي والطبيب قد جلسا إلى خوان صغير يشربان كأساً من الخمر، ولما هتك القمر أسداف الظلام، سألت الطبيب:(أنسيت عروسك وقد حان الوقت؟) ومضيت إلى
صيدليته أتلمس فيها قليلاً من مسحوق وضعته في كوبته حين كان مشغولاً عنها. وإذ ذاك رفعها إلى فمه وتجرّعها دفعة واحدة، ثم صوّب إلى نظرة اخترقت شغاف قلبي وقال: الآن سأذهب إلى حيث لا عودة لي أو مآب.
ولما صمتت الموسيقى للراحة، مضيت إلى غرفتي وارتديت ثياب عرسي الحريرية الموشاة بالذهب، وأخذت جواهري كلها ووضعت شارة العرس الحمراء على مفرقي، ومن ثم هيأت فراشي تحت شجرة في الحديقة.
وكانت ليلة جميلة ناعمة، ورياح الشمال الهادئة تقبّل ما تمر عليه فتحمل الطمأنينة إلى القلوب، وقد فاح في أرجاء الحديقة عطر الياسمين الشذى، وبينما الموسيقى آخذة في الهدوء شيئاً فشيئاً، كان وجه القمر يلتحف حجب السحاب المغبر القاتم، وبدأت أغيب عن الدنيا رويداً رويدا، وأفقد شعوري، وأغلقت عيني مبتسمة، وتذكرت مجيء الناس ومشاهدتهم إياي هنا، ولكن وا أسفاه على الملابس الحريرية المذهبة؛ وحين استيقظت على صوت لغط حولي، ألفيت ثلاثة شبان يدرسون علم العظام على هيكلي، فجاشت في نفسي الآلام وأخذت زهرات الشباب تتفتح عن أكمامها، وإذا بالأستاذ يشير بعصاه إلى عظامي مسمياً إياها بأسمائها العلمية، ولكن أترى أثراً لهذه الابتسامة الأخيرة، وهل أعجبتك القصة؟ فقلت يالها من قصة رائعة!
وفي هذه اللحظة زنت أول صيحة وقلت: (أأنت هنا؟) فلم يجيبني سوى الصدى، وحينذاك كانت أشعة الصباح قد نفذت إلى الحجرة.
حسن محمد محمود