الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 550
- بتاريخ: 17 - 01 - 1944
عبقرية الإسلام
عبقرية الإسلام عنوان وضعته لكتاب اشتغلت بإعداده منذ اشتغل العالم بهذه الحرب. وكان الذي وجه فكري إلى هذا الموضوع ما وقع فيه الناس كافة من هذا التفاني الذريع لأسباب لا يصعب حسمها على العقل الأصيل. وبداهة الرأي أن نرجع إلى ما شرع فاطر الأرض وواهب الحياة ومنزل الوحي، بعد أن عجز الذين طاولوه في ملكه من دهاقين الحكم واساطين العلم عن قسم رزقه بين أشتات خلقه. وما كان لبشر سليم الفطرة ليرتاب في أن الذي برأ الخلق على اختلاف في القدرة والحيلة، وأنشأ الغرائز على اتفاق في الطمع والغيلة، هو أعلم بما سينشأ في كونه من تصادم القوى وتعارض الأهواء؛ فلا جرم أن يكون شرعه دستوراً كاملاً تصلح عليه شؤون الفرد وأحول الجماعة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض
ولقد كانت إدامتي النظر والفكر مدى هذه السنين الأربع في مصادر الإسلام الصافية مصداقاً لهذه الفكرة؛ فإن غير الله لا يملك أن يضع في الإسلام هذه الأسس والقواعد التي تضمن نظام العالم وسلامه. وهل كان - لولا وحي الله - في مقدور رجل أمي نشأ ربيب اليتم والعدم في قرية جاهلة من قرى الحجاز الجديب أن يعلن في أوائل القرن السابع حقوق الإنسان وحرياته، وهي التي أعلنت بعضها بالأمس فرنسا نتيجة لتلك الثورة، وتمنت بعضها اليوم أمريكا غاية لهذه الحرب؟!
عبقرية الإسلام هي ذلك الإشراق الإلهي الذي انبثق من غار حراء فكشف للرسول عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة إلى تكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة، من طريق التوحيد، والمؤاخاة، والمساواة، والحرية، والسلام. فالتوحيد سبيل القوة، والمؤاخاة سبيل التعاون، والمساواة سبيل العدل، والحرية سبيل الكرامة، والسلام سبيل الرخاء. وتلك هي الغايات التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق العلم والمدنية فلا تتكشف أماليها بعد طول السري وفرط اللغوب إلا عن سحاب خلب وسراب خادع
هذه المبادئ المثالية التي تضمنتها دعوة الإسلام معلومة من القرآن بالنصوص الصريحة، فلا موضع فيها لتأويل أو تحميل أرتعسف. فالتوحيد ركن من أركان الدين وعنوان من عناوينه وهو من الكلم الجوامع التي وعت جوهر الإصلاح وسر النجاح لكل مجتمع وأمة.
هو توحيد الله، وتوحيد العقيدة، وتوحيد الغاية، وتوحيد اللغة، وتوحيد الحكم، وتوحيد التشريع، وتوحيد الدين والدنيا. وشواهد التوحيد في أشتات معانيه مذكورة في كتاب الله لا يختلف في مدلولها أحد
وفكرة الوحدة الإنسانية هي مزية الدعوة المحمدية على كل دعوة. وفي سبيلها صدق الإسلام بكل دين أنزل، وبكل نبي أرسل، ودعا الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً إلى خطة واحدة وكلمة سواء. ثم وصل الدين بالدنيا، وكانت اليهودية والنصرانية تفصل بينهما؛ فالأولى كان همها الصفق والاجتراح، والأخرى كان سبيلها الرهبانية والتنسك. ولكن الإسلام جعل الدين للدنيا كالروح للجسد، فلا تعمل إلا بوحيه، ولا تسير إلا بهديه. ثم آخى بين المؤمنين ليجتمعوا على صدق المودة، ويتعاونوا على لأواء العيش، فلا يبغي قوي، ولا يبخل غني، ولا يظلم متسلط. بدأ ذلك بالتأليف بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين؛ ثم توثقت عرى الإخاء بين المجاهدين في سبيل الله حتى صار المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأصبح هؤلاء الإخوان القلال الضعاف في بضع سنين أئمة للناس وورثة لكسرى وقيصر!
كذلك في سبيل الوحدة الإنسانية والأخوة الإسلامية فرض الإسلام الزكاة، وشرع الحج، وأمر بالإحسان والبر، ثم سوى بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في الحقوق والواجبات، بمحو العصبية الوطنية، وقتل النعرة الجنسية، وجعل التقديم والتكريم للتقوى، فقال الرسول الكريم في خطبة الوداع:(إن ربكم واحد، وأن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)
في هذه الأصول الإسلامية كما ترى أفضل ما في الديمقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية، فهي حرية أن تصلح ما فسد من أمور الناس، وتقيم ما اعوج من نظام الدنيا. ولقد كانت كذلك يوم كان لحماتها دولة ولدعاتها صوت ولمعتقديها يقين. فلما دالت الدولة، وخشع الصوت، وأراب اليقين، تمزق المسلمون قطعاناً في فدافد الأرض لا مرعى يجود، ولا راع يذود، ولا حظيرة تؤوي. ثم كانوا بتخلفهم عن ركب الحياة حجة على الإسلام في رأي السفهاء من مرضى الهوى أو الجهل، فصموا عن دعائه، وعموا عن ضيائه. فليت شعري متى يتاح لدعوة محمد من يجدد حبلها، وينشر فضلها، ويقول لأولئك
الذين يحاولون أن يرفعوا قواعد العالم على أساس جديد: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)
احمد حسن الزيات
الروحانية بين الأنبياء الثلاثة
للأستاذ عباس محمود العقاد
الأديان الثلاثة: الإسرائيلية والمسيحية والإسلام، ظهرت كلها بين السلالات السامية وكان أنبياؤها جميعاً من الساميين
والإجماع منعقد على هذا بين المؤرخين كافة، نعني انتساب موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام إلى هذه السلالة، يشذ عنهم (فرويد) العالم النفساني الإسرائيلي المشهور، فهو ينسب موسى إلى الجنس المصري القديم. وبعض الباحثين يقولون إن الجنس المصري القديم منحدر من الأصول الأوربية
ويشذ عنهم في أمر المسيح أولئك الدعاة الجرمانيون الذين يعتسفون الأنساب لكل عظيم فيردونه إلى الأصل الجرماني أو السلالة الآرية على التعميم. فهؤلاء الدعاة يزعمون أن صفات المسيح المتواترة أقرب إلى الملامح الآرية الشمالية، وينظرون من جهة أخرى إلى الملامح الفكرية أو الأدبية فيزعمون أن الروحانية التي تظهر في أقوال السيد المسيح أكبر وأرفع من طاقة (السلالة السامية) التي يحسبونها مقصورة على الماديات الملموسة والمطالب الأرضية القريبة
وكلا القولين - قول فرويد وقول الدعاة الجرمانيين - لا يؤيده دليل قاطع ولا يتعدى الأخذ بالظنون
فمن المستبعد أن يكون موسى مصرياً ثم تجتمع له زعامة الإسرائيليين من جميع القبائل والبطون في الديار المصرية؛ ومن السخف أن يكون المسيح (آريا) تطبيقاً لقاعدة يخترعها دعاة الجرمانية، ثم يسندونها بالظنون ويعودون فيسندون الظنون بتلك القاعدة المخترعة
وعلى هذا يصح أن ينعقد الإجماع - كأصح ما انعقد في مسألة من المسائل - على أن البيئة السامية هي البيئة التي ظهرت فيها الأديان الثلاثة، وأن موسى وعيسى ومحمداً جميعاً من سلالات الساميين
ألهذه المزية الجنسية دلالة عامة! وهل نشأت الأديان الكبرى الثلاثة بين أبناء الجنس السامي لسبب عنصري يخص هذه السلالة، أو لسبب نفساني يرجع إلى طبيعة العقيدة الدينية؟
تكلم في ذلك المتكلمون فأثبتوا وأنكروا كما يحبون أو يكرهون. فمن قائل إن العقل السامي بفطرته مستعد للاعتقاد غير مستعد للتفكير أو الخلق الفني والنظرات الفلسفية المجردة؛ ومن قائل إن العقيدة الدينية نفسها طور من أطوار الزعامة العنصرية التي تطور فيها الساميون إلى مداها الأقصى، قبل أن يخرج الآريون الشماليون من نظام القبيلة الأولى
ولا يتسع المقام للتقصي في أقوال المثبتين والمنكرين، فحسبنا أن نقف في أول الطريق على بر الأمان، فنقول إن العقائد الدينية ظهرت في السلالات السامية يوم كانت تظهر فيهم جميع المعارف الكونية والنهضات الثقافية، فلا محل لتخصيص الأديان هنا بالعنصر السامي أو اتخاذ هذه الخاصة دليلاً عنصرياً من تلك الأدلة الكثيرة التي تختلط بالعصبيات
كانت الدول الكبرى كلها قائمة في الرقعة الغربية من القارة الآسيوية، وهي الرقعة التي أقام فيها الساميون منذ مئات الأجيال. فشاعت المعارف الكونية من هذا الوطن القديم، ولم ينحصر الأمر يومئذ في ظهور العقائد دون غيرها من النهضات أو الفتوح في عالم الروح
نحن لا ننكر الفوارق العنصرية ولا نستخف بآثارها في اختلاف الأمزجة والأخلاق وتباين المشارب والميول، ولكننا لا نحب أن نعزو إلى الفوارق العنصرية إلا الذي يثبت ثبوتاً قوياً أنه راجع إليها. فلا نقول إن (العقائد) سليقة سامية إلا إذا تبين أن الآريين بمعزل عن العقائد، وأن الساميين لا يمتازون بغيرها، وأن المسألة محصورة فيهم على مدى العصور وليست مسألة عصر ومناسبة زمانية أو مكانية
كذلك نرجع إلى الروحانية بين الأديان الثلاثة فلا نجعل العنصرية حكما فيها قبل أن نستنفد العوامل الأخرى جميعاً، وإن جاز أن يذكر الاستعداد العنصري بين عوامل شتى يحسب لها حسابها في هذا الموضوع
فالذي يقال مثلاً إن السيد المسيح عليه السلام كان صاحب دعوة روحانية لا تشتغل بشئون الدنيا ولا بالمطالب العملية التي تحتاج إلى وضع النظم وفرض الشرائع، وأن علة ذلك في رأي بعض الباحثين أن المسيحية تشابه العقائد الآرية التي جعلت الدين للروح والضمير ولم تجعله لمطالب الجسد أو مطالب الحياة الاجتماعية والنظم السياسية
وهذا الذي يقع فيه الخلاف الكثير
فاهتمام السيد المسيح عليه السلام بالجانب الروحي من الدين لم يصرفه أولاً عن الجوانب
الأخرى التي تناولتها سائر الأديان، ولم يكن لفارق عنصري بين الذين خوطبوا بالدعوة المسيحية والذين خوطبوا بالدعوة الإسلامية أو الدعوة الموسوية
واهتمام السيد المسيح بالجانب الروحي ليس معناه - من الوجهة الأخرى - أن هذا الجانب لم ينل حظه من الاهتمام في دعوة محمد أو دعوة موسى عليهما السلام؛ وإنما معناه أنه جانب من الجوانب الكثيرة التي عني بها الإسلام خاصة، وكان لها سهم في العناية من وصايا الأنبياء الذين ظهروا في بني إسرائيل
وقبل أن نحصر الأمر في علة (الاستعداد العنصري) نعود إلى العلل المختلفة فنسأل: ألم تكن هنالك علل أخرى جعلت رسالة السيد المسيح أقرب إلى الروحانيات منها إلى العمليات والشئون الدنيوية؟
فإذا سألنا هذا السؤال لم نستطيع أن نقول إن السامية أو الآرية هما الحد الفاصل في هذا الموضوع
فقد كانت هنالك علل كثيرة خليقة أن تقصر الدعوة المسيحية الأولى على مواعظها الأخلاقية التي أوشكت أن تقتصر عليها
فمن تلك العلل أن بني إسرائيل كانوا أصحاب شريعة دينية مفصلة في شؤون الحقوق والمعاملات قبل أن تتجه إليهم دعوة السيد المسيح، وكانت آداب القائمين على تلك الشريعة هي موضع العهدة أو موضع الحاجة إلى الإصلاح، فلا جرم تتجه إليهم الدعوة من هذه الناحية ولا تتجه من ناحية التشريع المفصل في شئون الحكم وشئون المعيشة، بل كان من قول السيد المسيح الصريح أنه لا ينقض الناموس ولكنه يثبته ويزكيه
ومن تلك العلل أن السيد المسيح ظهر في بلاد يحكمها الرومان ويتولى إدارتها أولئك القوم الذين اشتهروا بالنظم والشرائع وتبويب الأوامر والقوانين، وما لم تكن الدعوة المسيحية ثورة سياسية معززة بقوة الجند والسلاح فلا سبيل في بدايتها إلى تفصيل الشرائع وانتزاع سلطان الحكم من أيدي القابضين عليه، وإنما السبيل لأوحد أن تنصلح الأخلاق والضمائر بالعظة والهداية الروحية على السنة التي اختارها السيد المسيح ويختارها في مكانه كل داع إلى دين جديد يتذرع إلى دعوته بالإقناع لا بالسلاح والصراع
فهذه العلة كافية لتعليل الصبغة الروحانية التي غلبت على المسيحية، وإنها لأقرب إلى
تعليلها من الرأي القائل باقتباس المسيحية من العقائد الهندية أو الآرية في جملتها، لأن هذا الرأي يلجئنا إلى إقامة فاصل بين ساميين وساميين، ولا يبطل الاعتراض الذي يرد في هذا الصدد حين يسأل السائل: وماذا كانت الدعوة المسيحية صانعة إذا هي فرضت الشرائع بغير حكومة وبغير ثورة مسلحة وبغير موافقة من أصحاب الأمر بين الرومان أو بني إسرائيل؟
أما الإسلام فلم يكن معقولاً أن ينحصر في المواعظ الروحانية دون غيرها، لأن العرب لم يدينوا بشريعة عامة مفصلة قبل الإسلام تغنيهم عن تشريع جديد، ولأن الإسلام قد تولى الحكم كما تولى الهداية النفسية، فلا مناص هنا من إقامة الحدود وبيان الحقوق وتقرير الحكم في كل شأن من شئون المعيشة تتولاه الحكومات
وكذلك موسى عليه السلام في قيادته للقبائل الإسرائيلية، لأنه كان في مقام الزعيم الذي يسوس تلك القبائل بالشرائع المرعية في زمانه والشرائع التي اقتضاها خروجه من ديار مصر إلى ديار كان فيها لبني إسرائيل موطن قديم. فاهتم بتسجيل الشرائع المصرية والإسرائيلية والموسوية، واهتم إلى جانب ذلك بمصالح قومه، لأن العمل الأكبر الذي تصدى له إنما هو إنقاذ إخوانه في العنصر والعقيدة، فهو عمل (وطني) مقدم في زمانه على الوصايا الإنسانية العامة التي تشمل الأمم كلها كما تشملها كل نصيحة أخلاقية أو موعظة روحية
وهذه العلة كافية أيضاً لتعليل الصبغة العملية التي غلبت على الدعوة الموسوية فأصبحت شيئاً غير المسيحية في الروحانية أو البشارة الإنسانية التي تخاطب جميع الأمم كما تخاطب بني إسرائيل. ولا حاجة في هذا المقام إلى التفريق بين ساميين وآريين، أو التفريق بين طائفة من السلالة السامية وطائفة أخرى، إذ لو كان موسى آرياً وكان أبناء إسرائيل آريين لما سلك غير مسلكه معهم في شئون التشريع والمصالح الوطنية أو المصالح العنصرية
ونعود فنقول إننا لا ننكر الفوارق بين العناصر والأقوام، ولكننا ننكر الفوارق التي يفرضها بعض الباحثين المتعسفين بغير دليل ولا قرينة راجحة، ونحب أن نقيم البحث في أسرار العقائد وأسرار نجاحها في زمانها ومكانها على العلل الكونية التي جرى عليها نظام
الوجود، لأن الأسرار الإلهية التي توحي بها الأديان لن تناقض المعقول من سنن الكون وفطرة الأشياء.
عباس محمود العقاد
فقه عمر
للأستاذ محمود شلتوت
(عمر بن الخطاب هو أول من كتب التاريخ بالهجرة، فأحيا
بذلك مجدها، وخلد على الزمان ذكرها، فحق على الذين
يحتفلون بهذا العيد أن يذكروا عمر!)
للرسالة المحمدية جانبان: جانب التلقي عن الله رب العالمين، وهو خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد من أمته، وجانب الفهم والبيان، والدعوة والإرشاد، والعمل على توسيع نطاق الإسلام ومد رواقه، وتنظيم الشئون بأحكامها، وإلى هذا الجانب ترجع عزة الإسلام وبقاؤه على الدهر فتياً لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه الأحداث. ويشارك الرسول من أمته في هذا الجانب من آتاه الله العلم والحكمة، وقذف في قلبه النور والهداية، وكشف له عن سر تشريعه، وبصره بمواقع الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، ووهبه غيرة تحمله على الجهاد في ذلك كله، وعلى الصدق والإخلاص في هذا الجهاد!
وإذا كانت عزة الإسلام ترجع إلى الجانب الثاني، وإلى قيمة ما يتصل به من جهود موفقة مخلصة صادرة عن الإيمان واليقين، فإن من يقرأ سيرة عمر، ويقف على جهاد عمر، ويعرف مواقفه المجيدة أثناء خلافته وقبلها، وأفكاره السديدة في حياة الرسول وبعدها، يدرك بوضوح: لماذا كان عمر على رأس الذين أعز الله بهم شريعة الإسلام، وركز أصوله، وأرسى قواعده، كما كان على رأس الذين أعلى بهم كلمته، وأعز سلطانه، ووسع ملكه، ويدرك سر هذه الدعوة النبوية التي توجه بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه حين أنكره الناس، وتألبوا عليه، وتحالفوا على الكيد له ولرسالته:(اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك) وقد ضمن الله لنبيه إعزاز دينه، ونصرة شريعته، فأجاب دعوته وهدى أحب الرجلين إليه، فكان إسلام عمر تنفيذاً للإرادة الإلهية، وتحقيقاً للدعوة النبوية، وكان إعزازاً لدين الله برجل العزة والسلطان، ونصراً لشريعة الله برجل الفهم والبيان!
لعمر رضي الله عنه نواح كثيرة: فهو رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وسلطان، ورجل تقى وإيمان، ورجل عدل ونصفة، ورجل إشراق ونور، ورجل فقه وقانون، ولسنا
بمستطيعين في مثل هذا المقال أن نلم بشواهد تلك النواحي من عظمة عمر، فحسبنا أن نلم ببعض تلك الشواهد في ناحيته الفقهية التي هي أبرز نواحيه، وأخص ميزاته، فقد كان عمر في هذه الناحية نسيج وحده: شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفها فيه أصحابه رضي الله عنهم:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) وقال: (بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قيل: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم!
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله)(ولو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم. ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم!)
وقد سئلت عنه عائشة فقالت: (كان والله أحوذياً نسيج وحده)
لم يكن فقه عمر من هذا النوع الذي أودعه الناس بطون الكتب. لم يكن من هذا النوع الذي تجلت فيه روح العصبية الحادة، ولوته الاتجاهات الطائفية، والنزعات المذهبية، لم يكن من النوع الذي جافى الحياة الواقعية في كثير من صوره ومسائله، ولا من النوع الغامض الذي التوت مسالكه، وتعقدت أساليبه، فصار بعيد المنال على من يريده أو يلتمس الانتفاع به من غير أهله. لم يكن من هذه الأنواع التي زعم الناس أنها فقه، بل التي اغتصبوا لها كلمة الفقه لتدل عليها، وإنما كان فقهاً ناصعاً واضحاً صافياً تستريح إليه النفوس، وتطمئن إليه القلوب، وتقضي به روح هذه الشريعة السمحة!
إن الفقه هو الفهم والفطنة والإدراك لما يريده الله تحقيقاً لمصالح عباده، وتنظيماً لشئونهم، وتيسيراً عليهم، وإسعاداً لهم برغد العيش وطيبات الحياة
هذا هو الفقه، هذا هو فقه عمر!
كان أساس الفقه عنده هو المصلحة، يقدرها قلب امتلأ بالإيمان والإخلاص، ويزنها عقل راجح منصف لا يميل به الهوى، ولا يفسده الغرض؛ ذلك بأنه رأى الكتاب الكريم يعلل الأحكام بالمصالح، ويربط بينهما وجوداً وعدماً، وبقاء وانتهاء، وأدرك ذلك في جميع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد ظهرت أثار هذا الفقه من عمر في صنفين من الحوادث:
أحدهما: الحوادث التي كانت تنزل بالناس وليس فيها وحي يتبع، فيقول الناس فيها ويقول عمر، فينزل القرآن على نحو ما قال، فكأنما ألهم به إلهاماً، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر)
وقد ذكر العلماء الوقائع التي وافق فيها الوحي رأي عمر، وأوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين، نذكر منها على سبيل المثال والتطبيق رأيه في أسرى بدر، ورأيه في الحجاب، ورأيه في الصلاة على من مات من المنافقين
فأما رأيه في أسرى بدر فإنه لما تم النصر للمسلمين في هذه الغزوة، ووقع كثير من المشركين أسرى في أيديهم، عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم على أصحابه، فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام. وقال عمر: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة) ثم ضرب إبراهيم وعيسى مثلاً لأبي بكر، وضرب نوحاً وموسى مثلاً لعمر، وأخذ برأي أبي بكر فحكم بالفداء، فأنزل الله قوله:(ما كان لنبي أيكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)
قررت الآية رأي عمر، ونعت عليهم فكرة الفداء مبينة أن سنة الأنبياء الداعين إلى الله، المنشئين للأمم، ألا يأخذوا الأسرى طلباً للفداء إلا بعد أن يكونوا قد أثخنوا في الأرض، وظهرت لهم القوة والغلبة على أعدائهم، وتمكنوا من إبادة جراثيم الشر والعدوان التي من شأنها أن تقف دون نجاح الدعوة وتكوين الدولة. ولا ريب أن هذا هو الفقه الذي يرمي إليه عمر بقوله (إن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) وإنه لخير للمجاهدين قبل أن يتمكنوا من خصومهم أن تجرد نفوسهم من كل غرض مادي، وأن تملأ قلوبهم بالروح المعنوية التي تحملهم على بذل النفس والتضحية بها في سبيل الله ابتغاء لما عنده وإيثاواً لعقبي الدار
ولذلك نهى عن الفداء أولاً، ثم شرع أخيراً بعد أن استقرت دولة المسلمين، وقويت شوكتهم
وأما رأيه في الحجاب فأنه يؤخذ من كثير من الروايات أن عمر كان شديد التطلع إلى أن يحتجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم تمييزاً لهن عن سائر النساء، وحفظاً لجلال الرسالة وتوفيراً للهدوء النفسي على النبي صلى الله عليه وسلم، وإبعاداً لأسباب الأذى عنه، فكان يقول:(لو كنت أطاع فيكن لما رأتكن عين) ويقول (يا رسول الله: لو اتخذت حجاباً، فإن نساء لسن كسائر النساء)
فنزل القرآن في ذلك تقريراً لما أشار به عمر، وتأييداً لفقهه الذي بني عليه (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)(وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
(إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق)(وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)
وأما الصلاة على من مات منافقاً، فقد روى كثير من المحدثين عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: (لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فلما أراد الصلاة قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا، ورسول الله يبتسم، حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت، ثم صلى عليه ومشى حتى قام على قبره، قال عمر فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فقد وجهت الآية منع الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم بمثل ما وجه به عمر رأيه: قالت (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) وقال عمر (أتصلي على عدو الله القائل كذا وكذا؟)
والصنف الثاني من الحوادث التي تجلى فيها فقه عمر، هو الحوادث التي عرف فيها حكم، واتخذت صورة عملية بين المسلمين، وقد كان عمر يغلب في هذا الجانب أيضاً روح الشريعة وعدالتها وتقديرها للمصالح على الصور التي عرفها الناس من قبل، وكما حفظ له العلماء موافقاته حفظوا له كثيراً من هذه المسائل التي كان له فيها رأي غير ما كان معروفاً، واتخذ رأيه صورة عملية أقرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقة منهم بفقهه وعدالته، وأنه لم يحد قيد شعرة عن الحق
وحسبنا اليوم لضيق المجال أن نشير إلى رأيه في المؤلفة قلوبهم، وفي صلاة التروايح، وفي الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وفي توزيع العطاء، وفي الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة، وفي متعة الحج ومتعة النكاح، وفي حد شارب الخمر، وفي السرقة عام المجاعة، وفي قتل الجماعة بالواحد، ونحو ذلك من المسائل التي تدل على أن عمر كان فقيهاً بروحه وطبعه، وعلى أن فقهه كان مبنياً على إدراك المصالح التي انبنى عليها التشريع، وأرشد إليها القرآن الكريم، حيث يقول (والله يعلم المفسد من المصلح)(قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) إلى غير ذلك من الآيات
أما بعد: فإذا كان هذا المبدأ قد عمل به عمر، ونزل به الكتاب، وأيده الرسول ورضى به الأصحاب، فجدير بالعلماء أن يجعلوه مبدأهم، وأن يبنوا عليه فقههم، فذلك أجدى عليهم وأدعى إلى أن يتقبله الناس عنهم، وأقوى أن يدفعوا به في صدور أعداء الفقه الإسلامي، وأجمع لكلمة المسلمين، وأنفى لهذا التفرق المذهبي الذي جعلنا شيعاً وأحزاباً ونزع هيبتنا من صدور أعدائنا. أسأل الله الكريم أن يهدينا إلى الصواب، ويبصرنا بالرشاد، ويجمع على الحق كلمتنا إنه سميع مجيب.
محمود شلتوت
عظة العيد وعبرة الذكرى
لصاحب العزة الأستاذ أنطون الجميل بك. .
إذا كانت (الهجرة النبوية) من (مكة) إلى (يثرب) قطب الدائرة في انتشار الرسالة المحمدية واستطارة الدعوة إليها من المشرق إلى المغرب في حقبة قصيرة من الزمن، فإنها إلى جانب هذا حادثة من أعظم حوادث التاريخ وأبلغها أثراً في تغيير اتجاهات الإنسانية. وقد صار يوم الهجرة أو التاريخ الهجري بداية تاريخ جديد إلى جانب تاريخ الخليقة والتاريخ الميلادي. فلا بدع أن ينصرف الباحثون والمنقبون من جميع الأمم منذ ثلاثة عشر قرنا، إلى درس ذلك اليوم التاريخي، فيتناولوا بالبحث والتحليل ما سبقه من المقدمات، وما صاحبه من الحوادث، وما أعقبه من النتائج، حتى أنه ليخيل أنه لم يبق من زيادة لمستزيد.
ولكن الحوادث الكبرى في تاريخ البشرية كنز عبر لا يفنى، ومعين فوائد لا ينضب، يرجع المرء إليها كلما تعقدت حوادث حاضره، والتبس عليه مصيره في مستقبله.
والشرق اليوم، في صبره على الحاضر وانتظاره المستقبل، أحوج ما يكون إلى استخلاص الفوائد والعبر من عظائم الحوادث الغابرة. والإنسان أمام المستقبل المجهول يبحث في الماضي عن قبس ينير له الطريق: فالسياسي يعود إلى السوابق، والقانوني يرجع إلى العرف والتقاليد، والاجتماعي يذهب منقباً في ثنايا التاريخ.
أما العبرة التي نحتاج إليها من هذه الذكرى في حاضرنا فهي ما اكتنف الهجرة من اضطهاد؛ وأما الفائدة التي ينبغي أن نستخلصها لمستقبلنا فهي ما قضت به على ذلك المهاجر المقدام من تضحية. فنفهم حينئذ حق الفهم أن كل دعوة تقوم على يقين صادق وإيمان راسخ لا يستطيع أحد أن ينال منها. فهي كالحرية: كل ما يصنع ضدها يعود بالخير عليها. والإرادة الثابتة لا غالب لها، فهي تتخذ من كل ما يقوم في وجهها من العقبات درجات ترتقيها إلى هدفها الأسمى.
فالالتجاء إلى الهجرة انتهى بتآلف المهاجرين والأنصار، والعودة إلى الديار تحت رايات الانتصار
والاضطرار إلى الاختباء في ظلمات (الغار)، مهد الظهور في وضح النهار
ومن السكون الموحش الذي خيم في تلك الليلة الليلاء، انطلق ذلك الصوت المدوي في
جميع الأرجاء.
كل فكرة لا تضطهد لا تعيش. وكل دعوة لا تقاوم لا تقوم على أساس. وكل صاحب رسالة لا يضحي في سبيلها بأعز ما لديه يفشل وينكص على الأعقاب.
تاريخ الأنبياء والرسل شاهد على ما تقول. بل هذا تاريخ أبطال العالم وعظمائه يدل من الوجهة الإنسانية البحتة على أن الفكرة الكبيرة تحتاج إلى مقاومة، وإلى اضطهاد، وإلى تضحية، لترسخ وتقوى وتنتشر، كالشجرة تعمل فيها الفأس قطعاً فتزداد نمواً، أو كالأرض لا تخرج أحشاؤها خيراتها إلا إذا ذهب المحراث فيها شقاً.
وفي الشرق اليوم (فكرة) تجتمع حولها أماني الأفراد، وتتلاقى نزعات الجماعات - في السياسة وفي الاقتصاد وفي الثقافة. إذا كان المقام لا يتسع للتفصيل، وإذا كانت صبغة هذه الصحيفة الغراء لا تسمح بالتصريح، فإننا لا نتعدى النطاق المرسوم إذا قلنا إن هذه (الفكرة) تلاقي مقاومة من أهوائنا وغاياتنا المتنازعة في الداخل، ومن المطامع والمصالح المتضاربة في الخارج. وهذه المقاومة نفسها كفيلة بتحقيق هذه الفكرة في يوم يقاس قربه أو بعده بمقياس استعدادنا للتضحية في سبيلها.
فيا رجال السياسة والاقتصاد، ويا رجال القانون والاجتماع، أيها المهيمنون على مقدرات هذا الشرق، المسؤولون عن مصايره، اتخذوا اليوم من ذكرى هذا الحادث التاريخي العظيم - التي يحتفل بها مئات الملايين من المسلمين ويشاركهم فيها مواطنوهم من سائر المذاهب - اتخذوا لنا ولكم من هذه الذكرى عظة، ومن هذا العيد عبرة!
أنطون الجميل
بركه خان
أول مسلم من ملوك التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
انقسمت مملكة جنكيز خان بين بنيه الأربعة: جوجي وجقتاي وأوكتاي وتولوي، وذرياتهم. تسلط تولوي أصغر أبنائه على مغولستان الشرقية، فورث ملك أبيه في مملكته الأصيلة.
وكان من أولاده الذي فتحوا إيران والعراق، وأزالوا الخلافة العباسية من بغداد. وتولى أوكتاي على جونغاريا في أواسط آسيا. وماك جغتاي فيما وراء النهر. وحكم بنو جوجي وهو أكبر بني جنكيز في صحراء القفجاق (دشت قبجاق) وما يجاورها.
- 2 -
وكان جنكيز أعطى ابنه الأكبر جوجي الأرض التي شمالي نهر سيحون حيث قامت من قبل مملكة قراختاي، ولكن جوجي سار صوب الغرب فاتحاً ثم خالف على أبيه، ومات في حياة والده، فورث ملكه ابنه الأكبر أوردا
وكان لجوجي أربعة أبناء آخرين: باتو وتوقاتيمور وشيبان ونوغاي، تولوا هم وذرياتهم الملك في شرقي أوربا، صحراء القفجاق وما يتصل بها كما تقدم، وقد دام الملك في شعبة منهم حكمت في القريم حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (1783م). وفي شعبة أخرى ملكت في بخارى وخيوه إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)
وكان أعظمهم شأنا وأوسعهم سلطانا باتو وذريته؛ ودام الملك لهم زهاء قرن ونصف (612 - 760 ق). وكانت دار ملكهم مدينة سراي على نهر إتل (نهر الفلجا)
- 3 -
توفى باتو سنة 653 فخلفه ابنه سرتاق سنة واحدة، ثم تولى بركة (بركاي) عشر سنين بين سنتي 654و664 بركاي حفيد جنكيز وسليل هؤلاء المغول الذي دمروا الحضارة الإسلامية، دخل في أخوة الإسلام، وصار من بناة الحضارة الإسلامية، وحماة علمائها، فلم يعرف بعد باسم بركاي، ولكنه صار (أبا المعالي ناصر الدين بركة خان)، وحالف المسلمين
ولاسيما ملوك مصر على ابن عمه هلاكو ليرد عدوانه عن المسلمين، ويكف يده عن تدمير حضارتهم.
كان إسلامه من بركات الشيخ نجم الدين كبرى الصوفي المعروف؛ فقد بث دعاته في الأقطار للدعوة إلى الإسلام. وكان من تلاميذه الشيخ سيف الدين الباخرزي فأرسله إلى بخارى وأرسل سيف الدين أحد تلاميذه إلى بركاي فدعاه إلى الإسلام، وبين له عقائده وشرائعه، فاستجاب له وأسلم، ثم ذهب إلى الشيخ الباخرزي، فأكرمه وأجله وجدد إسلامه ورجع إلى دار ملكه يدعو إلى الإسلام، ويعظم شعائره، ويبر علماءه، فأسلمت زوجه ججك خاتون واتخذت مسجداً من الخيام يحمل معها إن سارت
وكاتب ناصر الدين بركة الخليفة المستعصم وبايعه وأرسل إليه الهدايا. يقول ابن عربشاه وهو عليم بأحوال بركة وأمور مملكته؛ أقام في مدينة سراي دار الملك سنين وتزوج بها وولد له فيها أولاد:
(ولما تشرف بركة خان بخلعة الإسلام، ورفع في أطراف الدشت للدين الحنيفي الأعلام، استدعى العلماء من الأطراف والمشايخ من الآفاق والأكنان، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، ويبصروهم بطريق توحيدهم ويقينهم. وبذل على ذلك الرغبات، وأفاض على الوافدين منهم بحار الهبات، وأقام حرمة العلم والعلماء، وعظم شعائر الله وشعائر الأنبياء. وكان عنده في ذلك الزمان وعند أوزبك خان بعده وجاني بك خان، مولانا قطب الدين العلامة الرازي، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والشيخ جلال الدين شارح الحاجبية، وغيرهم من الفضلاء الحنفية والشافعية، ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي ومولانا أحمد الخجندي رحمهم الله تعالى. فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات، مجمع العلم ومعدن السعادات، واجتمع فيها من العلماء والفضلاء، والأدباء والظرفاء، ومن كل صاحب فضيلة، وخصلة نبيلة جميلة ما لم يجتمع في سواها، ولا في جامع مصر ولا قراها)
ويقول ابن بطوطة عن مدينة سراي: (وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية. وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً.)
أسلم بركة فشملته أخوة الإسلام الجامعة، وهدته سننه الرشيدة، وتبنته الحضارة العظيمة التي اجتمعت عليها عقول المسلمين وأيديهم منذ قرون. وتقطعت الأسباب بينه وبين قرابته
من المغول، وانفصمت بينه وبينهم الأواصر، ووقعت العدواة بينه وبين ابن عمه هلاكو، وثارت الحرب بينهما. فأمر بركة جنده الذين كانوا في جيوش ابن عمه أن يخذلوه ويرجعوا فإن لم يستطيعوا فليتوجهوا تلقاء الشام ومصر ليعينوا الملك الظاهر بيبرس على هلاكو. فانظر إلى أمراء المغول الذين شاركوا في تدمير البلاد الإسلامية، وقاتلوا المصريين في عين جالوت وغيرها، يقودهم الإسلام إلى مصر نجدة للمسلمين على حرب هلاكو وأشياعه
بلغ أمراء بركة دمشق في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ستين وستمائة، وهم زهاء مائة معهم نساؤهم وأولادهم، وأخبروا بانتصار بركة على هلاكو فشاعت البشرى في الشام ومصر، وسر الملك الظاهر بقدومهم، وكتب إلى نوابه في الشام فأكرموا وفادتهم وأرسل إليهم الأقوات والخلع. ثم ساروا إلى مصر، فبلغوا القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة، وخرج السلطان للقائهم يوم السبت، وخرج أهل القاهرة والفسطاط لرؤيتهم، واحتفوا بهم حفاوة عظيمة، وانزلوا في دور بنيت لهم في اللوق، وأرسل إليهم السلطان الأموال والخيل والخلع ولعب معهم الكرة وأمر أكابرهم على مائة فارس. وأسلموا وحسن إسلامهم. ولما بلغ التتار ما نال هؤلاء من الكرامة في مصر وفدوا جماعة بعد أخرى. وقدم البريد من حلب في ذي القعدة سنة إحدى وستين بأن جماعة من التتار يزيد عددهم على الألف ومعهم ثلاثمائة فارس من المغل قادمون إلى مصر؛ فأمر السلطان بالحفاوة بهم، ثم استقبلهم حين قدموا كما استقبل إخوانهم من قبل ولحقت بهؤلاء جماعات أخر
وتوالت الرسائل بين الملك الظاهر بييرس وبين الملك بركة خان وحرضه الظاهر على جهاد هلاكو ومحاربة التتار ولو كانوا أهله (فأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل عشيرته الأقربين وجاهد قريشاً، وليس الإسلام قولاً باللسان، والجهاد أحد ما له من الأركان)
كذلك سبق بنو باتر إلى الإسلام وشرع الدين الحنيف يفتح قلوب التتار، ويدخلهم في اخوته وينظمهم في جماعته ويطبعهم بحضارته. وهزم بالدعوة الظافرين بالسيف، وغلب في السلم الغالبين في الحرب، ولم تستعص قسوة التتار على هدى الإسلام ولا كبرياؤهم على عزته، ولا عداوتهم على مودته، ولا إفسادهم على إصلاحه، ولا تخريبهم على تعميره. وإنها لآية من آيات هذا الدين، وحجة على من زعم أن الناس دخلوا في الإسلام كارهين
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
هزيمة الشيطان
للأستاذ علي محمود طه
ألَا ما لهذا الليلِ تَدْجَي جوانُبهُ
…
على شفَقٍ دامِ تَلَظّى ذوائبَهْ!؟
وما ذلك الظَّلُّ المَخُوفُ بأُفِقِه
…
يُطِلُّ فترتَدُّ ارتياعاً كواكبُهْ!؟
أَأَيتها الأرضُ انظري، وَيْكِ! واسمعي!
…
توثَّبَ فيك الشُر حُمْراً مخالبهْ
أرى فتنةً حمراء يلفظُها الثَرى
…
دُخاَناً تُغَشِّى الكائناتِ سحائبهْ
وأشتمُّ من أنفاسها حَرَّ هَبْوَةِ
…
كأنَّ هجيَر الصيف يلفحُ حاصبهْ
أرى قبضةَ الشيطان تستلُّ صارماً
…
توَهَّجُ شوقاً للدماء مضاربهْ
تسلَّلَ يبغي مَقْتَلاً من (محمدٍ)
…
لقد خُيِّب الباغي وخابت مآربهْ
تقدَّمْ سليلَ النار! ما الباب مُوصَدٌ!
…
فماذا توقَّاهُ، وماذا تُجانِبهْ؟
تأمَّلْ! فهل إلاَّ فتَى في فراشه
…
إلى النور تَهفُو في الظلام ترائبهْ!؟
يسائلك الأشياعُ زاغتُ عيونهم
…
وأنت حسيرٌ ضائعُ اللُّبِّ ذاهبهْ:
ترَانا غَفَوْنا أم تُرَى عَبَرَتْ بنا
…
نُفاثُة سِحْرِ خدَّرتْنا غرائبهْ!؟
وما زال منا كلُّ أَشْوسَ قابضاً
…
على سيفِه لم تَحْلُ منه رواجبه
ترَى كيف لم تُبْصِرْ غريمك سارياً
…
وأين تُرى يمضى؟ وتمضى ركائُبهْ؟
تقدَّمْ، وجُسْ في الدار وَهنْاً؟ فما تَرَى؟
…
لقد هجر الدارَ النبيُّ وصاحُبهْ!!
يحثان في البيداء راحَلَتيهما
…
إلى جبلٍ يُؤْوى الحقيقةَ جانُبهْ
فقف وتنظَّرْ حائراً نَصْبَ غارهِ
…
تَحدَّاكَ فيه وُرْقُهُ وعناكبهْ
لتعلم أن الحق رُوحٌ وفكرةٌ
…
يذلُّ لها الطاغي وتَعْنُو قواضبهْ
فطِرْ أيها الشيطانُ ناراً أو انطلق
…
دُخَاناً، فَأَخسِر بالذي أنت كاسبهْ!
خَسِأتَ! ولو لم يَعْصِمِ الحقَّ رُّبه
…
طوى الأرضَ ليلٌ ما تزول غياهبهْ
الطريقة المثلى
في دراسة الفقه الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
كلما أقبل عيد من أعياد الإسلام أو أظل الناس موسم من مواسمه، ذكرت الفقه الإسلامي فجعلت الحديث عنه هديتي إلى العيد، واحتفالي بالموسم، ذلك بأني رأيت الكفاح في هذا العالم مهما تنوعت أشكاله، وتعددت صوره إنما يبدأ من الفكرة: لكل أمة في الحياة شرعة ومنهاج، وكل أمة تكافح لتسمو فكرتها، ويسود منهاجها، وهذا الفقه هو برنامج الإسلام العملي لهذه الحياة، فهو فكرتنا ومنهاجنا، ويجب أن يبتدئ منه كفاحنا، وأن يعتمد عليه جهادنا، وأن تصدر عنه جميع دعوات الإصلاح والتقدم فينا
يجب أن نستقبل هذا الفقه بعناية، وأن نديم النظر فيه، والتأمل في أصوله ومصادره، وأن نخلصه من الشوائب، ونلائم بينه وبين العصر الذي نعيش فيه
يجب أن ندرسه دراسة جيدة تكون الغاية منها تخريج أعلام أئمة ذوي بصر وإدراك وملكات فقهية يرجع إليها في المشكلات، وينتفع بها في المعضلات
الفقه نوعان: فقه الفروع، وفقه الأصول، ولكل منهما كتب تهتم به، وتبحث فيه، ولكن النوع الأول قد فاز بالحظ الأوفر فعكف عليه الناس، وأمعنوا فيه بحثاً ودرساً، واختصاراً وشرحاً، بينما ظل النوع الثاني مهملاً، وظلت كتبه في زوايا المكتبة الإسلامية لا يكاد يشعر بها أحد
والسر في هذا الاهتمام بالنوع الأول، وفي هذا الإهمال للنوع الثاني، يرجع إلى الفكرة القائلة: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأن عهد المجتهدين قد انقضى فلن يعود. هذه الفكرة هي أصل الداء في كل ما أصاب الفقه الإسلامي، مما أوقف نموه، وأظهره بمظهر الجمود والتخلف ظلماً وزوراً. راجت هذه الفكرة بين أهل العلم فصرفتهم عن فقه الأصول إلى فقه الفروع، فقصروا هممهم على نوع معين من الكتب، ولم يكتفوا بأن يمنحوا هذه الكتب تقديرهم واعترافهم، وأحياناً تقديسهم حتى ساروا في دراسة الفقه على طريقتها شبراً بشبر وذراعاً بذراع: فالفقه في هذه الكتب أبواب بعضها في المعاملات وبعضها في العبادات، وكل باب من هذه الأبواب هو في جملته وتفصيله مجموعة من الأحكام الفرعية تجمعها
رابطة واحدة هي أنها أحكام الصلاة أو أحكام الزكاة أو البيع أو نحو ذلك، ولهذا تعد هذه الكتب سجلاً واعياً لكثير من الفروع الفقهية التي تكونت بمرور الزمن من فتأوي المفتين واجتهاد المجتهدين وأحكام القضاة ونحو ذلك، وكثيراً ما تجد فيها أحكاماً هي وليدة الفرض والتقدير لا وليدة الحس والوقوع والمولعون بهذه الكتب يسيرون على نمطها لا يعدونه، ولا يسمحون لأنفسهم بالانحراف عنه، بل إنهم ليضعون مناهجهم الدراسية على أساس فهارس الكتب، وربما نقلوها نقلاً حرفياً إلى هذه المناهج!
وليتهم يتمون قراءة هذه الكتب، أو يقطعون في دراستها شوطاً بعيداً، ولكنهم يكتفون منها بالقليل الذي لا يعد تحصيلاً وجمعاً ولا يحسب درساً وفحصاً
ليست هذه الطريقة في نظر المصفين دراسة للفقه، ولو عكف عليها إنسان مدى عمره لما كان - إن نجح فيها - إلا محصلاً للفروع، جامعاً لكثير من صور المسائل الجزئية وليس هذا هو الفقيه الذي نبتغيه!
إن هذه الطريقة تقضي على الفقه بالركود والجمود، وتقضي على روح التفكير والإنتاج العلمي، ولا تثير في نفس الباحث شعوراً باللذة الفكرية، ولا تغريه بالاسترسال مع البحث وتذليل صعابه، وهي تعتبر السبيل على الذين يريدون مجاراة التقدم العلمي والعملي في هذا العصر، ويدعون إلى تيسير وسائل الانتفاع بالفقه الإسلامي
نحن ندعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية وجعلها أساساً للقانون والتشريع، فكيف نقدم هذا الفقه لرجال القانون الذين ألفوا النظام والترتيب والمبادئ الواضحة؟ كيف نقدمه لهم في هذا الثوب المهلهل، في هذه الكتب المضطربة، في هذه المسائل المبعثرة؟ بل كيف نقدم للمحاكم قاضياً ليس عنده روح الفقيه المتصرف المرن البصير بمبادئ التشريع وأصول الأحكام؟
إن هذه الطريقة تفرض علينا عناية بعرف المتقدمين، وعادات السابقين لا تحظى بمثلها عاداتنا وأحوالنا وما جد من نظمنا ووسائل حياتنا: نحن نعرف جيداً من هذه الكتب أحكام النقد الإسلامي فيما يتصل بشركات العنان وشركات الوجود وشركات المضاربة، ولا نعرف شركات التضامن، ولا شركات التوصية ولا الشركات المساهمة! إننا نعرف أحكام الفقهاء على المزابنة والمراطلة، وبيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب والدراهم الناقصة
بالدراهم الكاملة والمغشوشة بالصحيحة ولا نعرف معرفة شافية حكم أوراق (البنكنوت)، ولا نظام القرض المضمون، ولا كيف تغطى أوراق النقد، ولا كيف يتم البيع والشراء في أسواق الأوراق، ولا ما هو نظام القطع ونحو ذلك!
ونحن نقول أن شركات التأمين على الحياة أو على المصانع والمتاجر تتعامل مع الناس تعاملاً محرماً مع أننا لا نعرف التفاصيل الكافية لتكون الحكم الصحيح على هذا النوع من التعامل بالحل أو الحرمة!
ونحن نقول: إن قضاة المحاكم الأهلية لا يحكمون بما أنزل الله حين يقضون على هذا بالسجن ويقضون على هذا بالغرامة، ويحكمون على بعض الأموال بالمصادرة. . . الخ ولعلنا لو تأملنا أحكامهم لوجدناها غير متعارضة مع الشريعة، ولا مختلفة مع المبادئ الفقهية السليمة! ونحن نشغل أنفسنا ونضيع أوقاتنا في الفروض الفقهية التي لم تقع، فنبحث عن الحكم (فيما لو غربت الشمس، ثم عادت هل يعود الوقت أولا يعود) وفيما (لو أحيا الله ميتاً بعد موته وتقسيم تركته، فهل له أن يأخذ ما بقى من ماله في أيدي ورثته) وفيما (لو تزوج شرقي بمغربية ولم يدخل بها وبينهما مسيرة عام وجاءت بولد لستة أشهر من وقت العقد، فإنه يكون من الزوج لولاية أو استخدام)
نحن نشغل أنفسنا بمثل ذلك، بينما رجال القانون والتشريع في البلاد وعلى رأسهم معالي وزير العدل يطلبون إلى كل مشتغل بالفقه والتشريع في حفل عام أن يدلي برأيه في مشروع تنقيح القانون المدني، ويتحدى خطيبهم من يدله على حكم فيه أو مادة تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فلا يغرينا ذلك ببحثه ولا النظر فيه مع أننا رجال البحث والنظر والنقاش والجدال
إن الفقه الذي ينبغي أن يعكف عليه أهل العلم ويشتغلوا بخدمته ودراسته، ولا سيما في أقسام الدراسات العليا هو فقه الأصول لا فقه الفروع، ولست أقصد بالأصول هذا النوع من البحوث التي ترجع إلى معرفة الأدلة وكيفية الاستفادة منها وأحول الألفاظ من حيث ما يعرض لها من النسخ والتعارض والترجيح. . . الخ ولكني أريد معرفة القواعد الكلية المشتملة على أسرار الشريعة وحكمها، أريد النظر في المبادئ العامة، ودراسة النظريات الفقهية الجامعة التي تتفرع عنها أحكام الجزئيات في شتى نواحي الحياة، كأن ينظر الباحث
في (قاعدة الملكية) مثلاُ فيدرسها درساً وافياً، ويعرف ما يتصل بها من التصرفات، وما هو اتجاه الشريعة في شأنها، ومن الذي يثبت له هذا الحق، وما مدى حرية المالك في تصرفه، وهكذا يتتبع آثارها، ويسجل فروقها، ويعرف آراء العلماء وأصحاب المذاهب فيها معرفة البصير الناقد المتخير الذي يعرف ما يعرف وينكر ما ينكر عن بينة وفحص وروية وإعمال فكر وإدمان نظر، ثم ينظر في قاعدة أخرى على هذا النحو، وقد ذكر العلماء كثيراً من هذه القواعد كقولهم:(المشقة توجب التيسير)، (الضرر يزال)، (العادة محكمة)، (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، (الخراج بالضمان)، (الوسيلة والمقصد)، ما يؤثر فيه الغرر وما لا يؤثر)، (اليقين لا يزول بالشك). الخ
وقد دعا إلى هذه الطريقة الفقيه المصري (شهاب الدين احمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684) فبث كثيراً من القواعد الفقهية في كتابه (الذخيرة) ثم ألف كتابه الجامع المعروف (بالفروق) وفي مقدمته يقول:
(وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلرلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره)
والأستاذ الأكبر المراغي يرى هذه الطريقة واجبة فيقول في مذكرته التي جعلها برنامجه لإصلاح الأزهر منذ 1928 لم ينفذها:
(يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم كما كان يفعل السلف من الفقهاء)
وإني في مطلع هذا العام المبارك أسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يوفق الأزهر
الذي هو حصن الدين والعلم والفقه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين
محمد محمد المدني
ذكرى الهجره
للأستاذ محمد فريد وجدي
إننا إن ذكرنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب في العام الثالث عشر من الرسالة المحمدية، وجب علينا أن نذكر أنها كما كانت فاتحة عهد جديد للدعوة الإسلامية، كانت كذلك مقدمة لقيام أمة عالمية، تألفت من طريق الإعجاز على غير السنن الطبيعة، أمة نموذجية لما يجب أن يكون عليه العالم تحت سلطان الأصول الخلقية، ولآداب النفسية، لا تحت حوافز الحاجات المادية والضرورات المعاشية
إن اجتماع القبائل لأجل أن تقوم من مجموعها أمة، ليس بالأمر الشاذ في تاريخ البشر، وإن كان يستدعي مقتضيات كثيرة، وآماداً طويلة، فإن الحاجات الحيوية، والمطالب المادية كثيراً ما تدعو إليه وتحتمه. فالعوامل التي اضطرت الأفراد إلى الاجتماع على هيئة قبيلة لتأمين حياتهم، وضمان معاشهم، هي نفسها التي تضطر تلك الجماعات الصغيرة إلى التآلف والتضامن لتأليف أمة. وإذا كانت هذه العوامل تضطر بعض الحيوانات لتأليف جماعات منها لتتعاون على تدليل العقبات التي تحول بينها وبين ما هي في حاجة ماسة إليه، فلا محل للتعجب من حدوث ذلك في العالم الإنساني، ولكن العجب كل العجب أن تتألف أمة تحت سلطان أصول خلقية، وآداب نفسية، ومبادئ عالمية، لم تقم عليها أمة من قبل حتى ولا في عهد الرسالات الدينية في مثل هذه البرهة القصيرة التي تألفت فيها الأمة الإسلامية
إن كل العوامل التي عملت لتأليف الأمة الإسلامية، ليست من جنس العوامل التي دفعت لتأليف الجماعات البشرية، فقد جرت السنة الطبيعية في تآلف الجماعات العظيمة، أن تنتدب قبيلة كبيرة تحت قيادة زعيم معترف به، لدعوة القبائل المجاورة تحت حافز قوي من مطلب أو مطالب مسلم بضرورتها لدى الكافة للقيام بتحقيقها، فتحدث أولاً بينها اتفاقات جزئية مع حفظ كل منها لاستقلالها الذاتي، ثم تأخذ هذه الاتفاقات في التطور تحت تأثير الحوادث الاجتماعية، فتسقط موجبات التخالف بين هذه الجماعات الجزئية شيئاً فشيئاً حتى ينتهي الأمر باندماج بعضها في بعض، بعد مرور آماد طويلة.
ولكن الأمة الإسلامية قامت على غير هذه السنة الطبيعية فبدأت بدعوة رجل واحد إلى عقائد ومبادئ غير مسلم بها من الكافة، بل كان قومه وعشيرته الأقربون أشد معاداة لها من
غيرهم، وتبعه أفراد منهم لا يغنون عنه ولا عن أنفسهم شيئاً. ثم اتفق أن تأثر بدعوته أفراد من قبيلتين في مواطن بعيدة عن موطنه، تولوا دعوة ذويهم فقبلها كثيرون منهم. وهنا يجب أن يعلم أن العرب الجاهدين لم يكونوا يأبهون بتمحيص العقائد، ولم يعتادوا أن يقتبسوا شيئاً من غيرهم، بل كانوا يأنفون أن يخضعوا لزعيم من غير قبائلهم، بله أن يعينوه على قومه ويستجلبوا بذلك على أنفسهم عداوة قبيل ليس بينهم وبينه ثأر قديم، ولا سخائم موروثة
فلما هاجر النبي إلى موطن هؤلاء الذين قبلوا الدخول في دينه، احتفلوا به أيما احتفال، وخولوه الزعامة عليهم، وعاهدوه على أن يحموا دعوته وينافحوا عنها بأموالهم وأنفسهم. وانتشر الإسلام في تينك القبيلتين بيثرب وهما بنو الأوس وبنو الخزرج، حتى لم يبق بيت فيهم لم يصبأ أهله إليه
تطور غريب لم يعد له شبيه في عالم الاجتماع البشري: جماعتان كانتا بالأمس على الوثنية تقبلان ديناً ليس بين دينهما وبينه أقل شبه، ومناقض لما نشأنا عليه كل المناقضة. وليس ذلك فحسب، بل يدعو إلى أصول ومبادئ كان يمقتها العرب قاطبة، ولا تتفق وما طبعوا عليه، وأشربوه من العصبية الجاهلية، كمبدأ التوحيد في العقيدة، ومبدأ المساواة بين الأجناس البشرية، ونبذ التفاخر بالآباء، والمباهاة بالمغامرات الحربية، ويصرفها إلى العمل على تطهير القلوب بالمجاهدات النفسية!
هذا تطور عجيب في ذاته، وأعجب منه أن يكون في بيئة كل ما فيها يدعو إلى التعويل على الوسائل المادية، والإخلاد إلى الحياة الأرضية؛ وأدعى للعجب منهما أن يتم ذلك التطور طفرة، وهو لا ينشأ عادة إلا بعد تطورات متوالية، وظروف مواتية
قلنا في مقدمة هذه المقالة أن تأليف هذه الجماعة كان مقدمة لقيام أمة عالمية جعلت نموذجاً لما يجب أن تكون عليه الأمم، بعد أن تبلغ من التطور حداً يسمح لها أن تقوم على مثل ما قامت عليه من الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية. فإذا صح ما يقال من أن الحياة الإنسانية أصبحت في حاجة إلى مقومات اجتماعية غير التي تقوم عليها اليوم، تتفق ومقررات العلم، وتتلاءم وما هدى إليه البشر من الأصول الإنسانية، بحيث تبطل بالقيام عليها الحروب، ويتم بينها التعاون على توفير الخير لجميع الشعوب، فلا سبيل إلى ذلك إلا باستبدالها
الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية، بالأصول المادية البحتة التي تقوم عليها. وقد آنسنا في غضون هذه الحرب العالمية المستعرة أن التفكير أخذ يتجه صوب هذا التطور العظيم، بإقامة الصلح على قواعد إنسانية تسمح لكل شعب أن ينال حظه من المواد الأولية، وأن يعيش على قدم المساواة مع غيره من سائر الشعوب الأرضية. وهذه من مبادئ الدولة النموذجية التي كانت الهجرة النبوية فاتحة لإقامتها
فإذا احتفل المسلمون بيوم الهجرة وجب أن يذكروا معها أن هذا اليوم كان بدء إقامة الدولة الإسلامية التي بلغت من امتداد السلطان، ورونق المدينة، وزعامة العلم والسياسة إلى ما لم تبلغه أمة قبلها، وشيدت للمبادئ الإنسانية صرحاً لن يزال قائماً ما دامت الحياة الأرضية.
محمد فريد وجدي
في الرفيق الأعلى
للأستاذ دريني خشبه
لن أعفيك يا قلمي الحبيب من أن تذرف دموعك صلاة خالصة على فخر الكائنات، بعد هذه القرون الطوال التي غبرت منذ أذرفت عيون المؤمنين حينما لحق الروح الكريم بالرفيق الأعلى
ما كان أجلها لحظات تتصل فيها الأرض بالسموات!
إن لم يكن بد من رفيق في هذا السفر الطويل فما أختار لك! إلا قلبي ودموعي!
لا عليك يا قلمي الحبيب، فقد تستطيع أن تصم أذنيك عما يجلجل في تيه الزمن، من هتاف المجد، أو أنين الهزيمة. . . في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، فما أريد لك إلا أن تصل سالماً إلى ما وراء هذه السنين الألف والثلاثمائة والخمسين والإثنتين، لتشهد فخر الكائنات محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فوق ناقته بأرض عرنة يخطب المسلمين، بل يخطب البشرية كلها، قائلاً فيما يقول:
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا!)
لشد ما وجفت قلوب المؤمنين لدى هذه الكلمة التي أرسلها فخر الكائنات بأرض عرنة في حجة الوداع التي كره بعضهم أن يطلق عليها هذا الاسم فدعاها حجة الإسلام وحجة البلاغ!
لقد نظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد غشيهم من تلك المبادأة بالوداع غاشية. . . ألا ترى إلى الرسول الكريم يتلو عليهم بعد صلاة العصر في اليوم نفسه ما أوحي إليه ثمة من قول الله تعالى:
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فيسمعها أبو بكر فيبكي، لأنه يضيفها إلى الكلمة التي قالها الرسول حينما زالت الشمس وهو قائم مقام إبراهيم يخطب، فيعلم أنهما أمارتان من أمائر الفراق!
ثم ما هذه النوق الثلاث والستون ينحرها فخر الكائنات بمنى يا رفاق؟! أتكون عدد الدرج إلى الرفيق الأعلى؟ أليس قد بلغ الرسول الكريم عامه الثالث والستين من التقويم الهلالي؟ أليست هذه هي الأمارة الثالثة؟ ليبك أبو بكر إذن، ولتبك الأجيال كلها معه. . . فوالله لقد
ظهرت الإشراط قبل هذا كله. . . لم يكن النبي قد حج قط، فأمر هذه السنة أن يحج ليبين للناس مناسكهم؛ وكان يعرض القرآن على صاحبه جبريل مرة واحدة كل سنة في رمضان، لكنه عرضه عليه مرتين في هذه السنة؛ وكان يعتكف العشرة الأواخر من رمضان لا يكلم الناس إلا رمزاً، فلأمر ما اعتكف عشرين هذا العام؟ أليس لأنه العام الأخير؟
ويحك أيها الرجل محمد بن سيرين فيم رجوت أن تكون قراءتك هي العرضة الأخيرة؟ أكان قلبك يحدثك كما حدث ابن عباس قلبه حينما نزلت: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال: داع من الله ووداع من الدنيا!. . . أجل. . . فهي العلامة التي حدث الرسول عنها عائشة، قال: إن ربي كان اخبرني بعلامة في أمتي فقال إذا رأيتها فسبح بحمد ربك واستغفره، فقد رأيتها. . . وقرأ إذا جاء نصر الله. . .
لله هذا المدلج إلى البقيع متكئا على ذراع مولاه أبي مويهبة حتى إذا بلغ مراقد السابقين إلى الجنة، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، توقف قليلاً ثم قال يكلمهم: السلام عليكم أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. . . ثم أقبل على مولاه يقول له: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة؛ فيقول أبو مويهية: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فيقول له فخر الكائنات: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة!
ثم يأخذ في الاستغفار للنائمين في التراب، أستغفر الله، بل للنائمين في روضات الجنة، أولئك الذين استجابوا لنداء السماء الذي يسره الله بلسان محمد! فيا للوداع ويا للوفاء يا رسول الله!
أهذا فقط؟ كلا يا رفاق، القلم والقلب والدموع! فقد حدث عقبة بن عامر الجهني قال: إن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم اطلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها
ففي هذا الكلام معنى مما خاطب به رسول الله شهداء البقيع فقد هنأهم بما أصبحوا فيه مما أصبح الناس فيه. . . وذكر إقبال الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها. . . وهو بعد صلاته على شهداء أحد يخطب الناس فلا يخشى عليهم أن يشركوا، بل يخشى عليهم الدنيا أن ينافسوا فيها!
كان الرسول عند زوجة ميمونة عندما بدأ بالرسول شكوه الذي توفى فيه، فذهب إلى زوجه عائشة، وكأنها رأت أثر ما به من وعكة، فقالت مداعبة: وا رأساه! فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مداعباً: وددت أن ذلك يكون وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك. فقالت عائشة غيري: أو كأنك تحب ذلك؟ لكأني أراك في ذلك اليوم معرساً ببعض نسائك في بيتي. فتبسم النبي أيضاً، وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فأستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماء الأرض عاصباً رأسه حتى دخل بيتي.
وقد سئل ابن عباس عن هذا الرجل الآخر من هو فقال: إنه علي بن أبي طالب ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع!
وذهب الرسول إلى الفضل بن عباس فأخذ بيده حتى جلس على المنبر وهو معصوب الرأس ثم قال: نادٍ في الناس، فاجتمعوا إليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني احمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من اخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني، فلقيت الله وأنا أطيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغنٍ عني حتى أقوم فيكم مرارا
أي والله يا رفاق، القلم والقلب والدموع، إن رسول الله وفخر الكائنات يخشى أن يلقى الله ولأحد عنده حق لم يأخذه منه، فهو يعطي ظهره لمن يرى أن يستقيد منه، وهو يريد أن يحلله من لا يريد أن يأخذ حقه حتى يلقى الله وهو أطيب النفس. ثم هو يرى أن ذلك كله غير مغن من الله شيئاً. . . فوا رحمتاه لنا نحن يا رفاق!
ثم صلى النبي الظهر وعاد على المنبر ليحاسبه الناس، فقال له واحد منهم: يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم، فأمر النبي الفضل أن يعطيه إياها؛ ثم قال النبي: يا أيها الناس
من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة. فقام رجل فقال يا رسول الله عندي - أي في ذمتي - ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال ولم قال ولم غللتها، قال كنت إليها محتاجا، قال خذها منه يا فضل. . . ثم قال الرسول يا أيها الناس من خشي من نفسه شيئاً فليقم أدع له، فجعل الناس يقومون يعترفون بذنوبهم بين يدي رسول الله يدعو الله لهم، حتى قام أحدهم فقال: يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق، وما من شيء إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل! فقال رسول الله يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيماناً وصير أمره إلى خير، فقال عمر كلمة، فضحك رسول الله ثم قال: عمر معي وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان!!
فهل عرفتم هذا يا رفاق؟ رسول الله يجلس ليحاسب نفسه وليحاسبه الناس وليحاسب الناس على ثلاثة دراهم، لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة! ورسول الله لا يدع لليأس من رحمة الله سبيلاً إلى نفوس الؤمنين؛ فهو يعرض على من يخشى من نفسه شيئاً أن يقوم فيدعوا له! وهذا عمر بن الخطاب يتميز على الرجل من الغيظ فيضحك رسول الله ويداعبه، كما داعب عائشة من قبل. فمن منا حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله؟ ومن منا عمل حساباً لفضوح الآخرة الذي ينكشف بين يدي الله لا فضوح الدنيا الذي ينكشف بين أيدي الناس؟!
رب أين نحن اليوم؟!
أسمعوا إلى الرسول الكريم وهو يناجي ربه ويسأله الشفاء يا رفاق!
واسمعوا إلى أزواجه يداعبنه لما يرين من شكواء فنقول إحداهن: لقد اشتكيت في شكوك شكوى لو أن إحدانا اشتكته لخافت أن تجد عليها، فيتبسم ويقول: أو لم تعلمي أن المؤمن يشدد عليه في مرضه ليحط به خطاياه؟
واسمعوا إليه وهو يطلب ماء يصب عليه من سبع آبار عسى أن تخف عنه برحاء الحمى كي يدخل فيخطب الناس موصياً بأسامة وبعث أسامة لما سمعه من لغط الناس عن تأمير أسامة!
واسمعوا إليه وهو في المسجد يوصي المهاجرين بالأنصار ويأمر (بسد هذه الأبواب
الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر؛ فإني لا أعلم امرأ أفضل في الصحابة من بكر)
واسمعوا إليه يأمر أن يصلي بالناس أبو بكر، فتراجعه عائشة في ذلك، متذرعة بشتى الحجج، مشيرة أن يصلي بالناس عمر، فيغضب رسول الله ويذكر صواحب يوسف! ويصلي بالناس أبو بكر. فإذا سئلت عائشة بعد عن سبب مراجعتها رسول الله قالت:(وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً. ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر!)
وهذا هو أبو بكر يصلي بالمؤمنين الصبح في هدأة الفجر. . . وهذا هو رسول الله قد خرج عاصباً رأسه لينظر إلى أمته وليفرح بها واقفة بين يدي الله فيتفرج المصلون ليمر رسول الله وقد أوشكوا أن يفتتنوا من الفرح بفخر الكائنات، فيعرف أبو بكر أن الناس لم يفعلوا ذلك ولا يصح أن يفعلوه إلا لرسول الله فينكص عن مصلاه، فيدفع رسول الله في ظهره ويقول: صلَ بالناس، ويجلس إلى جنبه فيصلي عن يمين أبي بكر، فإذا قضيت الصلاة أقبل رسول الله على الناس رافعاً صوته وهو يقول: أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علىّ بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن)، ويفرح المسلمون بصحة وهموها في رسول الله، ويفرح معهم أبو بكر، ويستأذن أن يلحق أهله بالسنح. فاليوم يوم بنت خارجة!)
إلا أن واحداً من المؤمنين فحسب لا تخدعه صحوة الموت في أمر رسول الله! ذلك هو ابن عباس الذي يقول لعلي وقد فرح بشفاء محمد: (والله لأرى رسول الله (ص) سوف يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت)
وعاد رسول الله إلى بيت عائشة فاضطجع بين سحرها ونحرها. . . (ودخل عبد الرحمن بن أم رومان، أخي، وفي يده سواك رطب، وكان رسول الله (ص) مولعا بالسواك، فرأيته يشخص بصره إليه، فقلت يا عبد الرحمن اقضم السواك فناولنيه فمضغته ثم أدخلته في فم رسول الله فجمع بين ريقي وريقه)
وأخذت عائشة تعوذه بعد ذلك بدعاء كان من عادتها أن تعوذه بها إذا مرض. لكن رسول الله رفع رأسه إلى السماء وقال:
(في الرفيق الأعلى. . . في الرفيق الأعلى. . .)
يا رفاقي الأحباء الأعزاء الأوداء، القلم والقلب والدموع! أين نحن الآن من هذا الرفيق؟ أين نحن الآن من رسول الله ومما ترك لنا رسول الله!
دريني خشبة
الله. والإنسان. والحياة
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
- 1 -
جددوا الإيمان بالله رب الوجود واهب الحياة كما وصفه القرآن القديم، وحدثنا عن أعمال يده العلم الحديث! فروا من طنين لشكوك والفلسفات الحائرة حول (الموجود الأول) الذي صدرت عنه جميع الموجودات وأنشئت بتدبيره واختراعه، ونسقت بفنه وابتداعه، ودامت بحفظه ورعايته!
واعلموا أن مفتاح الشر وباب الضياع هو الشك في تلك الحقيقة الأولية العظمى، والانفلات من قيودها وهي قيود أمانات الحياة كلها!
ابدءوا حياتكم الفكرية بالحديث النفسي والقلمي عن تلك الحقيقة لتتعرفوا إلى جلالها وجمالها، ولتطردوا عن أذهانكم وسوسة الشر وشوشرة الباطل
ابنوا أساس حياتكم على صخرة تلك الحقيقة الراسية، وقاعدتها العريضة الواسعة؛ لتطمئنوا على أن وجودكم مستند إلى وجود اعظم! وليس وهما طائراً في أجواء هذه القوى العمياء التي يزخر بها الكون المادي.
اضربوا في رحاب الحياة ومتاهاتها ثم عودوا إلى مكانكم الأول في أحضان تلك الحقيقة مهتدين بالنور الذي يشع من هيكلها بالعرى الوثقى التي تمتد منها في كل اتجاه إلى الغرقى والضائعين والشاردين!
املئوا وجودكم بهذه الحقيقة واجعلوها تستبد بخواطركم؛ فستكونون سعداء بهذا الاستبداد، لأنه استبداد أساس البناء بالبناء كله إن يحدث نفسه بالبعد عن دعامته الأولى؛ فينهار ويذهب هباء تذروه الرياح
إنها حقيقة تبعث ذلك الشعور الصادق العجيب بالانسجام مع الكون كله، وحسبكم به من سعادة! وبالاستناد إلى دعائم الكون كله، وحسبكم به من حماية! وبالوصاية على أماناته كلها وحسبكم بها سيادة! وبارتفاع العقل والقلب إلى مستوى رفيع يعلو بنظراتهما ويرحب بخطراتهما ويعمق بأسرارهما؛ وحسبكم بها كرامة!
وعلى الباحثين عن مصادر السعادة الفردية والجمعية وعن المسرات الأصيلة في الحياة أن
يفتحوا عيونهم وعيون الناشئين في الجيل الجديد على هذه الحقيقة دائماً ويمسكوا بعرى أسبابها، ويعرفوها معرفة الرأي في عقولهم والدم في قلوبهم
وعبث لا طائل وراءه، بل عناء ضائع، بل جريمة موبقة أن يتجه محبو الإصلاح بقلوب الناس إلى قطب غير قطب تلك الحقيقة، فإنه لا حق ولا طهر ولا عدالة ولا أمانة إلا في محيطها
فليعرف ذلك الذين يدعون إلى تأسيس حضارة نفسية جديدة ويريدون أن يلائموا بين سياسة الاجتماع الإنساني والسياسة التي تتجلى في الطبيعة كلها
وحسب الإنسانية ما مضى من تجارب الشرود والجحود واللعب بالألفاظ. والانطلاق وراء خداع الفلسفات الشاذة وافتنان أرباب (الترف العقلي) الذين يتشهون كل غريب من الآراء يقدم إليهم على موائد الفكر، كما يتشهى أرباب الترف المادي كل غريب يقدم إليهم على موائد البطون
- 2 -
آمنوا بالإنسان الذي تحملونه في أجسادكم، وتستوحونه في أفكاركم، وتبادلونه ما صح وما فسد من شئونكم!
آمنوا به لتؤمنوا بالكون ورب الكون. . . فلن يؤمن بهما من لم يؤمن به؛ لأن عقله هو المنظار الذي ترون به كونكم وربكم. فإذا أهدرتم قيمة الإنسان أهدرتم عقله، فلم يبق لكم ما تدركون به وجودكم وربكم!
ولكي تدركوا اللمحات التي تتراءى في أعماق معنى الإنسانية حاولوا أن تتحروا وتتجردوا وتخرجوا من نفوسكم ونوعكم وترصدوا الإنسان بعيون غريبة عنه وتروه بنظرات الملأ الأعلى ممن هو فوقه، والملأ الأدنى مما هن دونه!
فأيقظوه لنفسه، ونبهوه إلى امتياز وضعه، وأقروه ما يكتبه الآن على صفحة الأرض
واتركوا الجدليات القديمة حول قيمته فقد هدرت شقاشقها حين كان عاجزاً عن شق الطريق أمام فكره
اخرجوا من غبار التاريخ القديم، وافتحوا عيونكم على العالم كمخلوقين الآن، تفكيرهم ابن زمانهم هذا، ومنطقهم من وقائع الحاضر
انظروا إلى الإنسان في نصابه الأعلى دائماً، ولا تنظروا إليه في حضيضه الأدنى، فإن من طبيعة كل كائن حي أرضي أن يكون له جذر في الطين والعفونات، أو أصل في الدم وبعض القاذورات
وإن النطفة التي خلق منها الإنسان أخلاط وأمشاج أخذت من العناصر الحادة والقوى العمياء، ما يجعله منها على اضطراب وابتلاء. . . وإن الفرد يحمل في مجاري طعامه وفي أحشائه أوضاراً وأقذاراً نجسه تشمئز منها نفس حاملها، ومع ذلك هو يقنع من نفسه بتقدير الوجه والرأس الذي يحمل الشخصية وقوى الفكر. . .
فلا تنظروا دائماً إلى الذين هم فضلات في جسم الإنسانية، وتتخذوا منهم (مقطع) النظر إليها جميعاً. فيحملكم ذلك على التشاؤم والسخط والشك في الخير والجمال الذي فيها
هم كالثمار الفجة المعطوبة عطبت وتلوثت، لأنها سقطت لضعف روابطها بفروع الشجرة التي تسمو
إننا نحمل اقباساً منيرة مطهرة من عالم الحق والطهر والجمال ولكنها وضعت في أجسامنا: تلك الأوعية الطينية السريعة التعفن. فمن الناس من يدوم على تطهير وعائه وصقله حتى يستحيل إلى زجاجة شفيفة رائعة تساعد ذلك القبس على السطوع والإشراق
ومنهم من يتركه كما هو من غير تطهير وصقل بالعلم والتهذيب فيظل معماً ويحول بين ذلك القبس وبين السطوع الكامل. . .
ومنهم من يضع في ذلك الوعاء ما يزيده عتمة وكثافة تطغي على ذلك القبس وتمحق شعاعه وتجعله منيع ظلام
فلأجل النور! نبهوا كل مصباح إلى رسالته، وحولوا بين الظلام وبين زجاجته. . .
ولا تحملنكم حياة الظلام الراهن على أن تتشاءموا وتسخطوا وتحطموا ما بقى لكم من مصابيح، فتعيشوا في عمياء نهارها كليلها. . .
وصدقوا الحياة وكذبوا المتكلمين الذين يعارضونها، ويزعمون أنهم أصدق منها، ويغرون الناس بسبابها وتحقيرها، ويملئون قلوب فتيانها الناشئين بأحاسيس السخط عليها قبل أن ينالهم منها ما يبرر ذلك، ويخلقون لأنفسهم عوالم خيالية منفصلة عن الحياة ومنطقها العملي، ويقذفون بكلمات جوفاء على كلمات البداهة والطبع فيحجبونها عن أنظار
القاصرين الذين ينظرون نظراً سطحياً، فيذهبون ضحايا الانخداع بزخارف القول الغرور وأوهام الفكر الشرود
والحياة بالغة الحجج مفحمة المنطق جارفة التيار، تدفع الإنسانية دائماً إلى مجراها الذي يعب عبابه وتتضرب أمواجه على رغم هؤلاء المتكلمين المتشائمين. فلا سبيل إلى الوقوف في وجهها وتحويلها. وكل من زعم أن منطقه أصدق من منطقها فله ما شاء من زعمه. أما أبناء الحياة الذين سادوا فيها فلا يعرفون إلا وجه أمهم الواضح القسمات المعروف السمات. . .
واعتقادي أن الذي جنى على التدين أن الناس حسبوا منطقة الدين منفصلة عن الإحساس العام بالحياة، وزعموا الدين لغير الحياة الدنيا، فجابهوهما بقلب موزع وفكر حائر بينهما، وحاول المتعبدون منهم الفرار من الدنيا قبل أن تستوفي ضرائبها منهم ويستوفوا تجاربهم فيها، وظنوا العبادة فترات انسلاخ من الحياة بالطقوس والرسوم وما إليها من المظاهر التي هي مواقف (استعراض) للمؤمنين لا أكثر. . . مع أن لب العبادة هو أن تشعر دائماً في نفسك بفيض الحياة: ذلك الشأن الإلهي العجيب! وأن تتيقظ لفعله في ضربات قلبك وخطرات فكرك، ونبضات خلاياك وهمسات نفسك ولمحات عينك. . . وألا تنسى أنك دائماً نتلقى ذلك الفيض من ينبوعه الأعظم إلى أجل. . . فيحملك ذلك الشعور الملازم على أن تحافظ على وجودك الذي هو مظهر تلك الأسرار ومشكلة تلك الشعلة، فلا تعطل قوة من قواه، ولا تطمس رسماً من رسومه، ولا تقعد به عن الزحام في مجالات العمل الكريم الذي يذكي شعلة الحياة ويلقى إليها حطباً يشب ضرامها. . . والوجود الإنساني الكامل الصحيح هو الذي ينتج الشعور الصحيح
والفكر الصحيح والخلق الصحيح والعمل النافع الدائم؛ وهو الذي أنتج وسائل التغلب والسيادة على عقبات الطبيعة، والقدرة على تمهيد الأرض للإنشاء والتعمير، وتخفيف المشقات والآلام؛ وهو الذي حقق تلك (الكرامات) العجيبة الدائمة التي أكرم الله بها الإنسانية على أيدي علمائها الذين جعلوا همهم البحث عن أسرار صنعة الله وقراءة كلماته الظاهرة والباطنة في الآفاق وفي الأنفس ومحاكاة نماذجها.
وإذا كانت كرامات الأولياء أمراً مؤقتاً خاصاً بهم، فأن كرامات علماء الطبيعة أمر دائم
مشاع للإنسانية جميعها. . .
فلنعرف ذلك جيداً ليحملنا على الاعتراف بصدق الحياة والإقبال على الكشف عن أسرارها، والإيمان بأن جميع أحلام الإنسانية في السيطرة على شئون الأرض ستحقق قبل انقضاء رحلتنا على سطحها
وينبغي ألا نخلط بين شرور الإنسان وبين آلام الحياة التي لا دخل للإنسان فيها حين نتحدث عن صدق الحياة. فإن الحياة من يد الله بريئة صحيحة قليلة الشر والألم، ولكن الذي يضاعف الشر ويمحو بشاشة الحياة هو الإنسان القاصر الجاهل الناشئ في أحضان السفاهات والجرائم والإهدار لقيمته. . . ومن هنا وجب الإيمان بالإنسان وإيقاظه لنفسه أولاً على نحو ما قدمناه في هذا الصدد لكي يحتجب شره وينمو خيره فيظهر وجه الحياة الجميل البرئ، ويظهر وجه الإنسان الكامل المنشود، ويظهر وجه الله الرحمن ذي الجلال من خلالهما حتى يراه كل فكر جحود وقلب كنود!
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق!)
وتلك نبوة الحياة الصادقة، يبعثها سر الإنسان الذي نفخ الله من روحه وجعله خليفة في الأرض ليظهر غيوبها ويثير دفائنها، ويلبس بروحه الحية موادها الميتة فيجعلها تحيا بروحه وتفكر بعقله وتخطو بسرعة فكره!
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم! فسجدوا. . .)
ذلك هو حديث الزمان يرسله هامساً في أذن الإنسان خلال صيحات وحوش الحديد والفولاذ الرابضة والسائرة والسابحة والطائرة، وبين دوي الآراء والمذاهب الهدامة والفلسفات الشاردة الحائرة. وأعتقد أنه نداء يجب أن يكون عنوانا لتجديد الدعوة الدينية في هذا العصر الحائر المتهافت، وأساساً فكرياً صالحاً لوصل العقول والقلوب بأعناق الكون ولباب الإنسانية وصدق الحياة!
عبد المنعم محمد خلاف
هجرة الروح
للأستاذ زكي نجيب محمود
قال صاحبي وهو يحاورني: ما أنا بمؤمن بما زعمت لي من رأي
فقلت أي رأي تريد؟ فما أكثر ما جادلتني مذ أخذت فيما أنت آخذ فيه هذه الأيام من قراءة الفلسفة
فقال: ألا تذكر إذ كنت تسايرني وتسامرني في مماشي حديقتك الغناء ليلة الهجرة؟ ألست تذكر حين أخذت تقص علينا كيف أوذي النبي في مكة فهاجر إلى المدينة، وكيف نشب القتال بين المسلمين والكافرين، حيث اضطرمت نفوس المؤمنين بحماسة الإيمان فاندفعوا يريدون: إما نصرة الدين وإما الخلود في دار النعيم؟. . . وعندئذ أبصر زميلنا (م) المتفلسف الشكاك بزهرات متناثرات هنا وهناك، فقهقه ساخراً وهو يقول:(خلود!) ثم أدار عينيه ناحية الجدار فإذا هو يرى جماعة من النمل عركتها قدم فلبثت جامدة على الأرض صرعى حيث كانت، فارتفعت قهقهة الزميل مرة أخرى، ورنت فيها نبرات السخرية التي عهدناها في ذلك الزميل الساخر. . .
فقلت: نعم، إن لما تقول لأثرا خافتاً كادت تنمحي من صفحة الذهن معالمه فلا أكاد أتبينه في وضوح، فما الذي أضحك (م)؟
فقال أضحكه أن يرى منثور الزهر ومبتور النمل راقداً كأنما هو جثث القتلى في حلبة القتال يوم المعركة، وقد علق بقوله: أليست الحياة هي الحياة حيثما تبدت في بشر أو حشر أو زهر؟ أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وجماعة الجند في حومة الوغى تصفعهم بالحديد والنار فتوردهم موارد الحتوف؟ لكنه الإنسان المغرور ظن بنفسه الامتياز فاختص روحه بالخلود والبقاء، وطوح بسائر الأحياء في مهاوي البلى والفناء. . .
ولست أكتمك الحق يا صديقي، فقد أخذت أعيد قول زميلنا (م) بيني وبين نفسي، وأديره مرة بعد مرة في رأسي، حتى ارق الفكر جنبي في غير طائل؛ فبعد طول التفكير لم أجد في قبضتي غير ريح، ولم يكن حصادي سوى هشيم! ولجأت إلى كتبي أقلب صفحاتها، أنزع كتاباً وأضع كتاباً، فما صادفت غير الحيرة والشك المميت؛ فما زلت أسائل نفسي بما
سأل (م) أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وفرقة من الجند تصفعها بالحديد والنار يوم الوغى فتوردها موارد الحتوف. . .؟ فلا بأس يا صديقي أن نعيد الحديث بعد عام كامل، في مماشي حديقتك وفي ليلة الهجرة؛ أفيكون غرور الإنسان حقاً هو الذي. . .
فقاطعت صديقي قائلاً: كفى، كفى، فلم أعد أميل إلى مثل هذا الجدال وإنه لعقيم، فلقد قرأت في صدر شبابي كل ما أتت به اليوم معجب مفتون، واجتزت عهداً أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كرب وضيق. وكم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدب على ظهر الأرض وتسعى، فتصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وتحضر إن كانت تزحف فوق الحقول. كنت أقرأ الشكاك فأشك، ثم أقرأ المؤمنين فأومن. . . هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي. وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاش الباش المرح الطروب؛ لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني، وهداني الله سواء السبيل. أتريد أن تسمع مني - إذن نصح الخبير؟
فقال: أحبب إلى نفسي بما تقول!
فقلت: إني منتزع لك القول من هذا اليوم الخالد؛ فنصيحتي أن تهاجر كما هاجر الرسول
قال: وكيف وأنت أعلم الناس بأمري، فمالي بغير هذا البلد مأرب ولا عيش
قلت: لئن هاجر الرسول الأمين في عالم المادة، فهاجر أنت في عالم الروح
قال: وماذا تريد بهجرة الروح
قلت: لقد هاجر النبي الكريم بمعنى الرحلة من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف! لقد أوذي النبي الكريم في مكة فهاجر إلى المدينة، فجاءه نصر الله والفتح، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل في بعض الكتب فدعها إلى سواها، لعلك بذلك منتقل من ضلال العقل إلى إيمان القلب حيث السكينة والقرار. ولقد كانت هجرة النبي مولداً جديداً لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتب إلى كتب بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن. إن من ابتل جسمه بالماء وهو في البحيرة مغمور لا بد له من الخروج إلى الشاطئ المشمس إن أراد لنفسه الدفء والجفاف.
أما أن يثب من البحيرة إلى البر فقد ازداد بلة على بلة، وذلك ما صنعته أنت حين أرقتك فلسفة صديقنا (م) فطلبت النجاة في كتب الفلسفة!
إني مذ أراد الله لي الهداية أكره أن أناقش مسائل الدين بمنطق العقل، ولكني لا أزال ألمح في عينيك حيرة الشك، مما سمعته من سخرية صديقنا بروح الإنسان وخلودها، فدعني لحظة أخاطب فيك الفطرة والبداهة، فأقول: أليس أمل الإنسان في خلوده بعد الموت دليلاً على خلوده؟ إن رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً، ورغبة الإنسان في زمالة الأصدقاء يستحيل أن تنشأ إن لم يكن إلى جانب الإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه؛ فالزهرة والنملة فانيتان وهما لا تنشدان خلوداً، أما الإنسان فراغب فيه ساع إليه، ويستحيل أن يكون له ذلك ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد؛ فلماذا لا يستوحي صديقك (م) فطرته بدل أن يلقى بسمعه وفؤاده إلى هذا وذاك؟ أإذا اهتدى بوحي البصيرة إلى الحق أنكره، لأن غيره لم يجد السبيل إلى الهدى؟ إنه إذن كمن يحدج ببصره في الشمس ساطعة فينكرها لأن زميله المكفوف لم يرها!
ألم تقرأ عن (مذهب الذرائع) الحديث الذي يصور آخر ما بلغه العقل الفلسفي؟ إنه يقيس صدق الفكرة أو بطلانها بمقدار نفعها؛ وذلك لأن الحق المطلق في رأيه معدوم، فإن أدت الفكرة إلى نجاح الحياة الإنسانية وازدهارها فهي الحق، وإلا فهي كذب وباطل. فلنسأل صديقنا المتفلسف: أيهما أنفع للحياة الدنيا نفسها أن يعتقد الإنسان في خلوده أو في فنائه؟ أي العقيدتين يؤدي إلى الفضيلة والخير؟ فإن كانت الأولى فحسبنا ذلك وليس بنا بعدئذ حاجة إلى لجاجة وجدال. . .
كلا يا صديقي، لا تلق بنفسك في هذه الشكوك التي قد تغري بها غاشية الحرب، فيتجهم أمام ناظريك الأفق وإنه لمشرق وضاح؛ بل هاجر كما هاجر الرسول الأمين، ولتكن الليلة موعداً لهجرتك
هل جاءك حديث الإمام الغزالي وهو (حجة الإسلام وزين الدين)؟ لقد قرأ إبان نشأته ما قاله الحكماء والفلاسفة، فارتجت له نفسه وأخذه الشك من كل جانب. اقرأ له (المنقذ من الضلال) لتستمع إلى قصته عن نفسه يروي لك ما قاساه في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مبتدئاً بعلم الكلام، ومنتقلاً بعد ذلك إلى دراسة الفلسفة، ومنهياً بطريق
الصوفية، خائضاً في كل ذلك بحر الخلاف، متوغلاً في كل مظلمة، متهجماً على كل مشكلة، فاحصاً عن عقيدة كل فرقة ومذهب؛ وهو يقول إن التعطش إلى درك حقائق الأمور كان دأبه وديدنه من أول عمره، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلته من غير اختيار منه؛ فلما أدت به دراسته الطويلة العميقة إلى حيرة الشك، (حزن قلبه، وانحطت صحته، ثم التجأ إلى الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فأجابه. . .) وعاد إلى الإمام المؤمن يقينه (ولم يكن ذلك بنظم دليل، وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة)
ثم هل جاءك نبأ (تولستوي) ذلك الأديب الفحل، والفيلسوف العظيم؟ إنه غاص في أغوار الفكر وغاص، ثم انتهى به الأمر أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه باطل وهراء، ولم يبق على رفوفها سوى الكتاب المقدس وبعض الكتب الدينية! لقد جثمت على صدره أزمة نفسية، كالتي ألمت بإمامنا الغزالي، فأحس كأن شبحاً مخيفاً يطارده، واسودت الدنيا في عينيه، وبلغ به اليأس والقلق حداً بعيداً، فأخفى عن نفسه (بندقية) الصيد خشية أن يصوبها إلى صدره في ساعة من ساعات القنوط؛ وقال عن نفسه على لسان شخص من أشخاص قصصه:(لم يعد لدي شك في أني - ككل كائن حي - لن أصيب في هذه الدنيا غير الألم يعقبه الموت والفناء)، وشرع (تولستوي) يقلب صفحات الكتب الفلسفية ذات المذاهب المختلفة، فيستطلع آراء أفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال لعله واجد فيها ما يرد له الطمأنينة بعد حيرة وقلق، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء - كما يقول - (واضحة جلية دقيقة حينما تبتعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها لا تهدي الحائر سواء السبيل، ولا تبعث الطمأنينة إلى القلوب الضالة القلقة) ولم يلبث (تولستوي) أن هجر الأدب ثم الفلسفة، واتجه إلى الدين لعله يجد في نوره الهداية واليقين؛ فلئن عجز العقل عن هداه فليلجأ إلى القلب، ودعا ربه قائلاً:
(اللهم هبني إيماناً قوياً أملأ به قلبي، وأهد إليه غيري)
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول الأمين. لقد هاجر النبي الكريم بمعنى السفر من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف. لقد أوذي النبي الكريم في مكة
فهاجر إلى المدينة، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل فهاجر إلى القلب وانعم بإيمانه تنعم بالسكينه والقرار. لقد كانت هجرة النبي لرسالته مولداً جديداً، فلتكن هجرتك في مطالعاتك بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول، ولئن هاجر النبي في عالم المادة فهاجر أنت في عالم الروح.
زكي نجيب محمود
خيبة سراقة
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(وقف (سراقة) مبهوتاً في طريقه إلى غار ثور متقفياً أثر
المصطفى وصفيه الصديق. . . ساخت قوائم فرسه في
الرمال، وردته معجزة العنكبوت حيران الضلال. . .)
سراقة يحدث نفسه:
وَيلاهُ مما سَطَّرْتهُ الرمالْ
…
آثارُ وَهمْ في مَغاني خَيالْ. . .
أرَكْبُ جِنٍّ حين مَلَّ السُّري
…
في عالم الناس، تَوارَى ومال!
أَمْ موْكبٌ للنور أَقْدامُهُ
…
خَلّفْنَ فوق الأرض رؤيا زوال!
أّمْ قافلاتُ الريح كانت هُنا
…
تمشى، وألقت رَحلها في الجبال!
أَمْ حُلُمٌ مَّر، وَهذا الثرى
…
وَادِي كَرىً نامت عليه الليال!
أَمْ نغم سارَ وَأَشْبَاحُهً
…
مَسَسْنَ صَدْرَ البِيِد مَسَّ الظلال!
أَمْ فارس للغيب عاتي الخُطْا
…
جَواده المسحور تلك التلال!
جرى عليها وَهْيَ تجري به
…
كما جرى بالروح عصف الملال
سُبحان من علم أَرْساَنُه
…
تخَطُّفَ الوحيِ، وَبُعْدَ المحال
هذِى هواديه، وَذا خَطْوُهُ
…
زَفْزافُ ريح طاردته النمال
عدا جوادي خلفه، فانظري
…
يا خَيْبتي: كيف حططنا الرحال!
قوائم ينهش منها الثرى
…
ما دسه لله غدر الرجال
مغروزة في الرمل تلهو بها
…
طرائد الوحش، وريح الشمال
ناحت عليها صهوة طهِّمَتْ
…
وَطُعِّمَتْ باليأس قبل النضال
تذِيبُ سَاقَيَّ بأَفْوافِها
…
كأنها مَحْشوَّةٌ بالنِّضال
أحَرَّ تحتي من جحيم اللظى
…
وَوَخزةِ الذُّلِ، وَفَحِّ الصِّلال
كأنما قمنا بِعُرْض الْفَلَا
…
تمثالَ خزي عبقريَّ المثال
رباه ما هذا؟ جواد سرى
…
أم لعنة، أم خيبة، أم ضلال!
(سمفونية) الغار
يسمع الغار حديث سراقة لنفسه فيتلاقى هتاف العنكبوت والحمامتين والثعبان في هذا النشيد:
سَماء الْبِيدِ بُشْرانا
…
(سُراقَةُ) عادَ حَيْرانا
أَتى وَالكفر يرعاه
…
ونور الله يرعانا
أتى ليصد أنوارا
…
فَجَرْنَ الْبِيدَ أَنهارا
فصد الله مسعاه
…
وَذَاقَ الذُّل والعارا
بِسَيْفٍ كافر ظَلاَّمْ
…
جَرَى ليطَارِدَ الإسلام
هَتَفْنَا إذ رَأَيْناهُ
…
رَماك اللهِ بالإْظْلَامْ
فَعادَ يُقَلِّبُ الْكَفّينْ
…
كفيفَ القلب والعينين
تَرى الأشباحَ عيناه
…
وَيَسْأَل أَيْنَ نفْسي أَيْنَ؟
وَلاذَ نَبِيُّنا بالغارْ
…
فَحامَتْ حَوْلَه الأقْدار
وَصَانَ ضِياَءهُ اللهُ
…
ليَسْطَعَ مَشْرِقُ الأدْهار
الإسلام بين العقل والروح
للدكتور زكي مبارك
قلت مرة: إن النضال بين الإسلام والنصرانية أتاح فرصاً كثيرة لمباحث نفيسة تغذي القلوب والعقول، وتكشف عن آفاق ما كان ينتظر أن تكشف لو أراد الله أن لا يقع ذلك النضال والمجادلة لا تذم إلا إن صدرت عن سوء نية، لأنها عندئذ تكون عملاً من أسوأ الأعمال، أما إن صدرت عن رغبة في الفهم والتحقيق، فهي عمل مقبول دعا إليه جميع الحكماء في جميع البلاد
وأنا ماضٍ في تبديد شبهة وجهت إلى الإسلام ألوف المرات، وسأقضي على تلك الشبهة قضاء مبرماً. سأقتلع جذورها فلا تنبت بعد اليوم، وسأقوض جدرانها فلا يقوم لها بناء إلى آخر الزمان
فما هي تلك الشبهة، ولا أقول التهمة، ترفعاً بالمجادلين؟
هي قولهم إن الإسلام شريعة مدنية، وليس عقيدة دينية، فهو في نظرهم مجموعة قوانين، وليس ديناً يهتم بتأصيل المعاني الروحية في صدور المؤمنين
وزادوا فقالوا: إن الإسلام لم تشع فيه الروح إلا حين عرف التصوف، والتصوف في رأيهم نزعة مسيحية العرق، وليس لها في الإسلام أصول
وأسارع فأقرر أنه لا يضير الإسلام أن يكون مجموعة قوانين، فسترى بعد لحظات معنى هذا من الوجهة الروحية، وهي مثار الاعتراض
وأقرر أيضاً أن المعاني الإسلامية المقبوسة من المسيحية ليست سرقات، حتى يعيرنا بها فريق من الناس، وإنما هي ميراث أخذناه باستحقاق، لأن الإسلام بنص القرآن هو الوارث لجميع الشرائع السماوية، والمؤلفون المسلمون ينقلون أقوال سيدنا موسى وسيدنا عيسى باحترام، تقرباً إلى الله، لأن الله أوصى سيدنا محمداً بإعزاز جميع الأنبياء والمرسلين
وإذا كان التصوف الإسلامي منقولاً عن أصول مسيحية - ولنسلم جدلاً بهذا - فما كان التصوف مما اتفق عليه جميع أئمة المسلمين، فقد ثار عليه رجال من أقطاب الباحثين، وعدوه خروجاً بالإسلام عن صبغته الأساسية، وهي الصبغة التشريعية
ومعنى هذا أن الهدية مردودة إلى مهديها الأول، على فرض أن التصوف هدية، وعلى
فرض أنه بعيد من الروح الإسلامي
أسمعوا يا أيها المجادلون بلا بصيرة وبلا يقين
أنتم اعترفتم بأن الإسلام يعرف العقل ولا يعرف الروح، بدليل أنه في نظركم ليس إلا مجموعة قوانين
وهنا الخطر كل الخطر، الخطر عليكم لا عليه، فالخطأ في الحكم المدني أو الجنائي لا يحتمل الجدال، لأن نقضه أسهل من السهل، بسبب ارتكازه على العقل، فلو كانت القوانين التي أذاعها الإسلام واهية الأساس، لثار عليه المشرعون في جميع بقاع الأرض، وعدوه أسطورة بدوية منقولة عن سراب الصحراء
ولا كذلك الخطأ في الحكم الروحي لأن الحكم الروحي غير محدود بحدود، فمن حق كل روحاني أن يسفه من يخرجون عليه، بحجة أنهم محجوبون عن الروح، وذلك باب يدخل منه الدخلاء والأصلاء على السواء
وإذن يكون الإسلام تحدي جميع الديانات، تحداها بالعقل قبل الروح، تحداها بما لا يجوز فيه الخطأ، وهو التشريع، تحداها بالنبي الأمي، ليعرف من لا يعرف أن وحي السماء فوق إيحاء الكتاب
ماذا أقول؟ هل بددت الشبهة؟ وكيف والكلام إلى هنا يؤيد القول بأن الإسلام دين العقل، وليس دين الوجدان؟ أقترع الحديث فأقول:
إن التهمة صحيحة، تهمة الإسلام بأنه لا يقصر اهتمامه على الشؤون الروحية، وإنما يوزع اهتمامه على كثير من الشؤون العلمية والاجتماعية والمعاشية، وهنا المطعن الذي لا ينفع فيه علاج (؟!)
إسمعوا، ثم اسمعوا، يا أيها المجادلون
كل ما يعرف المسلمون من العلوم والفنون والآداب والقوانين ليس إلا وسائل لغاية صريحة هي خدمة القرآن، والقرآن وحي من الله، وبخدمة القرآن نتقرب إلى الله
علوم النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع علوم تساعد على فهم القرآن، فهي وسائل أدبية لغاية دينية، فنحن نتقرب بها إلى الله
وعلم الفقه ينظم المعاملات بين الناس، ليعرفوا سبيل النجاة من غضب الله، فنحن بعلم
الفقه نتقرب إلى الله
وعلم الحساب يساعد على تحديد الأغراض الاقتصادية بين الناس، فنحن بعلم الحساب نتقرب إلى الله
وعلم الفلك يساعد على تحديد المواقيت، فنحن بإدراك دقائقه نتقرب إلى الله
وعلم التاريخ يخلق العظة بالحوادث، وقد رآه القرآن من وسائل الترغيب والترهيب، فنحن بعلم التاريخ نتقرب إلى الله
لا موجب للإطناب، ففي أول كل كتاب نجد الراجز يقول:
إن مبادئ كل فن عَشرَهْ
…
الحد والموضوع ثم الثمرهْ
إلى آخر ما قال، ولا موجب للنص على أن علماء المسلمين لم يدركوا للعلم غاية غير خدمة الشريعة الإسلامية، فذلك واضح في جميع مؤلفاتهم، حتى علم الحساب. وقد راعى هذا المعنى أستاذنا محمد بك إدريس فنص عليه في مقدمة كتاب الحساب لطلبة الأزهر الشريف
جميع العلوم والفنون وسائل لخدمة الدين الإسلامي، والتكسب أو التسبب له في الإسلام آداب، مع أن الظاهر يوهم أنه بعيد من الروح
كل خطوة تخطوها في صباحك أو مسائك، لها في حياتك المعاشية صلات بحياتك الدينية. . . بهذا يوصيك الإسلام، لأنه دين العقل والروح
إن الحج وهو فريضة دينية، أبيحت فيه المنافع المعاشية، لأن الله يرى أن جميع الفضائل وسائل إلى رفاهية المعاش
وهل ننسى أننا نطيع الله لننعم بالفردوس؟
المزية الصحيحة للإسلام هي دعوته إلى أن نسيطر على جميع بقاع الأرض، لنحقق الصلة بيننا وبين الله بإقامة دعائم العدل فوق جميع البقاع، ولنحقق إرادته السامية في أن تكون الكلمة العليا لله وللمؤمنين
مزية المسلمين أنهم لا يقابلون الله وجهاً لوجه، كما يتوهم المسيحيون، وإنما يقابلونه في مخلوقاته من الأنهار والبحار، والجنة والناس، والحقائق والأباطيل
وأين الله؟ هل رآه من يدعون أنهم أبناؤه، صادقين أو كاذبين؟
المسلم هو الصورة الحقيقة للمؤمن
المسلم هو خليفة آدم، وقد جعل الله آدم خليفة على الأرض، وللأرض آداب لا تعرفها السماء، لأن فيها تكاليف لم يسمع بها سكان السماء
المسيحي يخاطب الله في ذاته فيستريح، والمسلم يخاطب الله في مخلوقاته فيتعب، والتعب شارة الرجال
وأنا مسلم، لأن الإسلام يوجب على أبنائه أن يذكروا الله في جميع الشؤون
أنا مسلم بالرغم مني، لأني لا أرى ديناً يفوق ما في الإسلام من تكاليف، والتكاليف هي الأساس لتجربة أخلاق الرجال
أنا مسلم بالعقل وبالروح، والدين عند الله هو الإسلام، لأنه الصورة النهائية للحسن والصدق في التشريع
حاولت أن أرتاب في الإسلام فلم أستطع، حاولت بالعقل وبالروح في حدود ما أطيق، وأين أنا مما أطيق؟ الآن آمنت بأن الإسلام دين العقل والوجدان.
زكي مبارك
من مذكرات ابن أبي ربيعة
جريرة ميعاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر ابن أبي ربيعة. . .):
ركتني الحمى ثلاثاً حتى ظننت أن الله قد كتب على أن أذوق حظي من نار الدنيا قبل أن أرد على نار الآخرة. وكنت أجد مسها كلذع الجمرات على الجلد الحي، وأجدني كالذي وضع بين فكيه ضرساً من جبل فهو يجرشه جرش الرحى، وظللت أهذي وابن أبي عتيق يتلقف عني ما كنت أسر دونه، حتى إذا فصرت عني وثاب إلى عقلي قال ابن أبي عتيق: ويلك يا عمر! والله لقد فضحتها وهتكت عنها سترها؛ أما والله لو قد كنت أخبرتني قبل الساعة لاحتلت لها ولوقيتها مما عرضتها له. قلت: ويبك يا ابن أبي عتيق! من تعني؟ قال: من أعني؟ وأنت مازلت منذ الساعة تهذي باسمها غير معجم! إنها الثريا واليوم ميعادها، ولقد مضى من الليل أكثره وما بقى منه إلا حشاشة هالك!
ووجم الرجل واعتراني من الهم ما حبب إلى الحمى أن تكون خامرتني وساورتني قضت علي، وطفقت أنظر بعيني في بقايا الليل نظرة الثكلى ترى في حواشي الدجى طيف ولدها وواحدها. وتمضي الساعات علي كأنما تطأني بأقدم غلاظ شداد لم تدع لي عضواً إلا رضته. وابن أبي عتيق يذهب ويجئ كأنما أصابه مس فهو يرميني بعينه صامتاً يتحزن لما يرهب من فجاءات القدر بي وبها. ثم أقبل على يقول: خبرني يا عمر أين واعدتها من دارك هذه؟ فوالله لكأنما ألقى في سمعي لهباً يتضرم، فلم أسمع ولم أبصر ودارت بي الأرض، فما أدري بم أجيب، فلقد واعدتها منزلاً كنت أحتفي به لميعادها، قد استودعته سري وسرها، فما أدري ما فعل به أهل الدار، وقد ربضت بي الحمى بمنأى عنه. ولا والله ما شعرت أن الفجر قد صدع حتى سمعت الأذان كأنه ينعى إلي بعض نفسي فما تماسكت أن أنتحب، وابتدر إلى صاحبي يكفكف غرب أحزاني. وقال: خفض عليك يا عمر، فإن هذا يهيضك إلى ما بك. وما تدري لعل الله يحدث بعد عسر يسرا. قم إلى وضوئك أيها الرجل، واستقبل بوجهك هذه البنية، وادع الله جاهداً أن يستر ما هتكت، فإنهن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه
فما كدت أفرغ من صلاتي حتى جاءت جارية صغيرة تعدو قد أنزفها الجري، ورمت إلي كتاباً في سدقة من حرير يفوح منها العطر، وقالت: سيدتي تقول لك: في هذه شفاء من داء. واستدارت وانطلقت تسعى. فنظرت وشممت ونشرت الحريرة المطوية عن كتاب المطوي طي العجلة، وإذا فيه:(جئنا لميعادك، فإذا شبح نائم في بردك فرميت نفسي عليه أقبله فانتبه وجعل يقول: اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله. ودفعني فعدوت أقر بنفسي من فضيحة تنالني فيك. وما شعرت أنك محموم حتى أنبأتني بذلك أختي، فويلي عليك وويلي منك يا عمر!). فألقيت الكتاب إلى ابن أبي عتيق واستعفى به أن يدبر منذ اليوم ما أتقي به خبء الليالي، فنظر إلي بعينين زائغتين من سهر وسهاد وقال: والله يا عمر لكأني بك قد ركبت إلى بلائك وبلاء الثريا حين قلت:
تشكَّي الكميت الجَرْيَ لمّا جهدته
…
وبّين لو يستطيع أن يتكلما
وما أدري كيف أحتال لك في أمر قد انفلتت من يديك أعنته، فدع الأمر لله يدبره، ووطن نفسك على الثقة، ولا تجزع لبنية إن جاءتك، والق من يلقاك بالفضيحة كأتم ما كنت بشاشة ورضى وسكينة؛ فأنت خليق أن تنقذها مما ورطتها فيه. وإياك والتردد، فإنه مدرجة النكبات. ولقد عهدتك صنع اللسان فإن لم ينفعك اليوم لسانك فلا والله لا نفعك. قلت: جزاك الله عني خيراً يا ابن أبي عتيق، ما ضرني كتماني دونك ما أكتم إلا اليوم، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. ويلي من نفسي ثم ويلي منها! واعلم أنه ما يكربني أن يلقاني من أحتال له وأصرفه، وإنما يكربني أمر الثريا وهي تقضي الساعات قد ألقى الهم في دمها ناره وفي فكرها ظلمته، ولا والله ما أستطيع أن أحتال لرسول يلم بها فيقول لها بعض ما تسكن إليه
قال ابن أبي عتيق: فهلا حدثتني عنها يا عمر؟ فلقد صحبتك ما صحبتك وما أدري من خبر الثريا وأمرها إلا ما أتسقطه من حديث الناس. قلت: وما تبغي إلى ذلك؟ أما كفاك ما تعرف من أمر سائرهن. وإني لأراك كالمهوم الذي لا يشبع؛ فلو كنت مثلي لقلت عسى أن تكون لك في نفسك حاجة، ولكن الله عافاك مما ابتلاني به، فدع عنك الثريا وأخبارها. فورب السموات والأرض وما فيهن ما أمنت على سرها نفسي، فكيف بي إذا بحت لك؟ قال: إذن فصفها لي كيف تراها؟ قلت: أما إنك على ذلك، لشديد الحرص شديد الطمع. وما تبغي إلى
امرأة من النساء تسمع من نعتها وحليتها وصفاتها؟ لولا أن كنت اليوم شاهدي لما حدثتك بحرف. يقول الناس: ما فعل الله بابن أبي ربيعه؟ ما زال يمد عينيه إلى كل غادية ورائحة حتى أفضى إلى الثريا، فتعلق منها بنجم لا يناله وإن جهد. وإنها لعرضة ذلك جمالاً وتماماً، وإني لخليق أن أفنى فيها نور عيني وقلبي. ويقول الناس: ما الثريا؟ إن هي إلا امرأة دون من نعرف من النساء حسناً وبهاء. وقد والله كذبتهم أعينهم، وإني لبصير بالنساء خبير بما فيهن، ولئن كنت قد عشت تبيعاً للنساء أنقدهن نقد الصيرفي للدينار والدرهم فأنا أهل المعرفة أحقق جيادها وزيوفها بأنامل كالميزان لا يكذب عليها ناقص ولا وافٍ
ما يضيرك يا ابن أبي عتيق أن ترى الثريا أو ولا تراها، فإنك لا تراها بعيني، وإنما أنت من الناس تضل عن جمالها حيث أهتدي إليه، وتسألني كيف أراها؟ فوالله إن رأيتها إلا ظنت أني لم أرها من قبل، فهي تتجدد في عيني وفي قلبي مع كل طرفة عين، ولئن نعتها لك فما أنعت منها إلا الذي أنت واجده حيث سرت عن النساء: غادة كالفنن الغض يميد بها الصبا وسكر الشباب، لم ترب ربوة الفارعات، ولم تدف جفوة البدينات، ولم تضمر ضمور الهزولات، ولم تمسح مسحة الضئيلات، ولم تقبض قبضة القصار القميئات، فتم تمامها بضة هيفاء أملوداً خفاقة الحشا هضيمة الكشحين مهفمفة الخصر، تتثنى من اللين كأنها سكرى تترنح. فلو ذهبت تمسها لمست منها نعمة ولياناً وامتلاء قد جدلت كلها جدل العصب، فهي على بنانك لدنة ترعد من لطفها واعتدالها. وانظر بعيني يا ابن أبي عتيق، تبصر لها نحراً كذوب الفضة البيضاء قد مسها الذهب؛ فلا والله ما ملكت نفسي أن أعب من هذا الينبوع المتفجر. إلا تقي لله أن أدنسه بشفتين ظامئتين قد طالما جرى عليهما الكذب والشعر. أما وجهها فكالدرة المصقولة لا يترقرق فيه ماء الشباب إلا حائراً لا يدري أين ينسكب إلا على نحرها الوضاء، يزينه أنف أشم دقيق العرنين لطيف المارن؛ فإذا دنوت إليها فإنما تتنفس عليك من روضة معطار أو خمر معتقة، فاذهب بنفسك أيها الرجل أن تزول عن مكانك كما يقول صاحبنا جميل:
فقام يجرُّ عطفيه خُماراً
…
وكان قريب عهد بالممات
ودع عنك عينيها يا رجل، فلو نظرت إليك نظرة لوجدتها تنفذ في عينيك تضئ لقلبك في أكنته مسارب الدم في أغوار جوفك، ولتركتك كما تركتني أسير بعينين مغمضتين ذاهلتين
إلا عما أضاءت لك في الحياة عيناها. فإذا دنت إليك فكن ما شئت إلا أن تكون حيا ذا إرادة تطيق أن تتصرف، وذر كل شيء إلا عطر أنفاسها وضياء وجهها، وغمامة تظلل روحك النشوى طائفة عليك بأطراف شعرها المتهدل كحواشي الليل على جبين الفجر، وخذ بناناً رخصاً مطرفاً كثمار العناب تغذوها يد بضة بيضاء يحار فيها مثل ماء الصفا، فلقد قبلتها يوماً ظننت أن قد أطفأت بها غليلي فزادتني غلة وصدى، فما نفعني في نار هذه الحمى إلا ما لم أزل أجد من بردها وطيبها وعذوبتها على شفتي حتى اليوم. ولا والله إن رأيت كمثلها امرأة إذا حدثت، فكأنما تسكب في روحي سر الحياة يهمس عن شفتين رقيقتين ضامرتين كأن الدم فيها مكفوف وراء غلالة من النعمة والشباب. فآه من الثريا! لقد حجبت عني كل نجم كان يلوح لي في الدياجي يلهمني أو يغويني. . . وي، ما دهاك أيها الرجل؟
ورأيت ابن أبي عتيق يتخطاني بعينيه ينظر إلى الباب من ورائي، قد انتسف وجهه وغاض من الدم كأنما يرى هؤلاًء هائلاً قد أوشك أن ينقض عليه، وما كدت أرد الطرف حتى سمعت من يقول: السلام عليكما يا عمر! وأنت يا ابن أبي عتيق مالك تنظر إلي كالمغشي عليه لا ترف منك عاملة ولا ساكنة؟ وما بك يا أبا الخطاب! أترى الحمى كانت منك على ميعاد؟ لقد أقبلت أمس من سفري، وكان الليل قد أوغل فتلقاني ولدك جوان فأنباني أن الحمى قد وردتك فأردعت عليك أياماً فنهكتك حتى خيفت عليك برحاؤها. وأن ابن أبي عتيق جزاه الله عنا وعنك خيراً أبي إلا أن يتعهدك بمرضك حتى تبرأ وتستفيق، وإني لأراك بارئاً يا أبا الخطاب.
فوالله لقد سكنت نفسي لما أتم كلامه وسكت، وأدنى يده يجسني جس المشفق. ورأيت ابن أبي عتيق يثوب كأنما كان في كرب يغته ويعصره ثم أرسله فعاد إليه الدم. فهذا أخي الحارث (هو الحارث بن أبي ربيعة أخو عمر) سيد من سادات قريش شريف كريم عفيف دين، ما رآه امرؤ إلا دخلته الرهبة له حتى تتعاظمه. فما زاده أن كانت أمه سوداء من حبش إلا رفعة ومكاناً. ولقد كان عبد الملك بن مروان ينازع عبد الله ابن الزبير أمر الخلافة، وكان ابن الزبير قد ولى الحارث بعض الولايات، فلما جاءه النبأ بولاية الحارث قال: أرسل عوفاً وقعد! ولا حر بوادي عوف. فابتدر من المجلس يحيى بن الحكم وقال: ومن الحارث يا أمير المؤمنين؟ ابن السوداء! فقال له عبد الملك: خسأت، فوالله ما ولدت
أمة خيراً مما ولدت أمه!
ثم صرف الحارث وجهه إلى ابن أبي عتيق وهو يبتسم له وقال: أما زلت يا ابن أبي عتيق بحيث قال صاحبك فيما بلغني من شعره إذ يقول لك؟
لا تلمني عتيقُ حسبي الذي بي
…
إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
إنَّ بي داخلاً من الحب قد أب
…
لى عظامي مكنونُه وبراني
لا تلمني وأنت زيَّنتها لي
…
أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال ابن أبي عتيق: هديت الخير، فوالله إن أخاك لشاعر يقذف بباطله، ولقد وقعت في لسانه ولقيت من دواهيه. ثم نظر إلي الحارث وقال: أما وقد لقيتك بخير يا عمر، فإني منصرف إلى وجهي، وبالله إلا ما تقدمت إلى أهل بيتك أن يعدوا لي المنزل الذي نزلته بالأمس حتى أعود، وإني أرى الريحان قد ذبل فمرهم أن يستبدلوا به، وأن يطيبوا الفراش ويجمروه. وقل لطائف الليل أن لا يلم بنا؛ فلسنا من حاجته ولا هو من حاجتنا. فما تمالكت أن قلت له: ويحك! أفهو أنت؟ قال: أجل هو أنا أيها الفاسق! قلت: إذن فوالله لا تمسك النار أبداً وقد ألقت نفسها عليك وقبلتك. فقام مغضباً يفور وقال: أعزب، عليك وعليها لعنة الله!
وانطلق الحارث واستفقت من غشية الحب وما نزل بي من الغم لما فاتني من الثريا وقال ابن أبي عتيق: قد والله أسأت فما تراني كنت أحدثك من جوف الليل أنهاك أن تجزع لبغتة إن جاءتك، فوالله لشد ما جزعت وخانتك نفسك وأرداك لسانك! ولبئسما استقبلت به أخاك! ولقد كنت أقول لك إن التردد مدرجة النكبات فإذا جرأة لسانك مدرجة إلى كل بلاء، وإلا والله لا تفلح أبداً أيها الرجل
فلقد اضطرب علي أمري حتى ما أدري ما أقول، ثم سكنت نفسي وقلت له: أفرخ روعك يا ابن أبي عتيق، ولتعلمن اليوم دهاء عمر، فأرسل في طلب ابنتي (أمة الوهاب) والحق أنت الحارث فرده علي. وانطلق ابن أبي عتيق، ولم ألبث حتى جاءتني أمة الوهاب فقلت لها: يا بنية! أشعرت أن عمك الحارث قد نزل بنا الليلة؟ قالت: كلا يا أبه! قلت إذن فانطلقي إلى هذه الغرفة التي إلى جواري وتباكي وانتحبي ما استطعت حتى أنهاك. ففعلت، وجاء الحارث وابن أبي عتيق فقلت له: جعلت فداءك! مالك ولأمة الوهاب ابنتك؟ أتتك مسلمة عليك فلعنتها وزجرتها وتهددتها، وها هي تيك باكية فقال: وإنها لهي! قال: ومن
تراها تكون؟
فأنكر الحارث كأنما اقترف ذنباً لا يعفو الله عنه إلا رحمة من عنده، وقال: فما بالك وما كنت تقول؟ فقال ابن أبي عتيق: ذاك هذيان المحموم يا ابن أخي، ولو أنت كنت الليلة إلى جانبه لسمعت من بوائق لسانه ما تصطك منه المسامع. وإني لأظن الحمى هي التي خيلت له حتى أنطقته ببعض تكاذيبه. قال الحارث: والله لشد ما يغمني أن يدع عمر كل خير في الدنيا، وكل ثواب في الآخرة، وأن يحبط أعماله بما يسول له شيطان نفسه وشيطان شعره، فيهتك عن الحرائر ما ستر الله. ولقد طالما نهيتك يا عمر عن قول الشعر فما زلت تأبى أن تقبل مني، أتراك فاعلاً لو أعطيتك الساعة ألف دينار ذهباً على ألا تقول شعراً أبداً. قلت: قد رضيت! قال: فهي منذ الساعة في ملكك
قال عمر بن أبي ربيعه: فما أخذتها منه إلا لأهديها إلى الثريا عطراً ولؤلؤاً وثياباً من تحف اليمن. أما الشعر فوالله لا أتركه لأحد، رضى الحارث عني أو غضب.
محمود محمد شاكر
القضايا الكبرى في الإسلام
قتل الهرمزان
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
روع المسلمون بقتل عمر رضي الله عنه بيد فارسي أثيم يسمى فيروز، ويكنى أبا لؤلؤة، ووقف العالم ينتظر أثر هذا الحادث في نفوس المسلمين من جهة الفرس الداخلين في حكمهم. أيجعلونها قضية شخصية كسائر القضايا، أم يتناولون بها غير القاتل من قومه، فيقضون فيها بحكم القوة الذي كان يقضي به في الجاهلية، وتقوم به الحروب بين القبائل والشعوب، ويخرجهم السلطان عن حكم القرآن في قوله تعالى:(يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فلا فرق بين أمير وحقير، ولا بين عربي وغيره من سائر الشعوب
وقد تفرعت عن هذه القضية قضية أشد منها امتحاناً للمسلمين في الحكم الذي يأخذون به فيها، فوقف العالم مرة ثانية ينتظر فيها حكمهم، فهل يقضون بالعصبية التي كانوا يقضون بها في الجاهلية، أو يقضون بالعدل الذي لا يفرق بين القبائل والشعوب، وتلك قضية قتل الهزمزان الذي روع المسلمين كما روعهم قتل عمر، وأظلمت به المدينة على أهلها ثلاثا
خرج عمر بن الخطاب يوماً يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة - وكان نصرانياً - فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجاً كثيرا. فقال له عمر: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم. فقال عمر: وإيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. فقال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنك تقول لو أردت أن أعمل رحاً تطحن بالريح فعلت. فقال: نعم. فقال عمر: فاعمل لي رحاً. فقال: لئن سلمت لأعملن لك رحاً يتحدث بها من بالمشرق والمغرب. ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد توعدني العبد آنفاً. فلما كان بعد ثلاثة أيام خرج إلى صلاة الصبح، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت جاء هو فكبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وفي يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته، ثم خرج يريد الفرار فتبعه رجل من تيم فقتله وأخذ منه الخنجر، ومضى ذلك المجرم الأثيم بسر فعلته، ولو أنه بقى لأمكن أن يؤخذ منه اعتراف عن السبب الذي
دفعه إليها، وأن يسأل هل الذي حمله عليها أن عمر لم يعده على المغيرة بن شعبة، أو أنه أراد الانتقام لدولة الفرس التي أسقطها عمر؟ وهل كان له في ذلك شركاء، أو لم يكن له شركاء فيه؟
وقد شاع عقب ضرب عمر أن قتله لم يكن عمل أبي لؤلؤة وحده، وأنه كان هناك أشخاص شركوا في دم عمر، ففتح باب التحقيق في هذه القضية الغامضة، وجاء عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق غداة طعن عمر: فقال: مررت على أبي لؤلؤة أمس ومعه جفينة والهرمزان وهم نجى؛ فلما رهقتهم ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فانظروا بأي شيء قتل؟ فجاءوا وبالخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة فإذا هو على الصفة التي وصفها عبد الرحمن بن أبي بكر
ولم يتقدم أحد بعد عبد الرحمن بشهادة تلقى ضوءاً على هذه القضية الغامضة. ولا شك أن شهادة عبد الرحمن إنما تثير شبها فقط في جفينة والهرمزان، والشبهة لا تكفي في إثبات جناية من الجنايات، لأن أمور الدماء أجل من أن تهدر بشبهة من الشبه، بل إن الشبهة لا تكفي في إثبات حق في الدماء وغيرها، ولابد من دليل واضح تثبت به الحقوق، وتبنى عليه الأحكام.
وقد سئل القماذبان بن الهرمزان عن أمر ذلك الخنجر فقال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز (أبو لؤلؤة) بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: أبس به فرآه عبد الرحمن بن أبي بكر، فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز
فلما لم يجدوا في هذه القضية الغامضة غير تلك الشهادة طووا التحقيق فيها، ولم يروا في هذه الشهادة ما يدين جفينة والهرمزان، وكان في طي التحقيق بهذا الشكل أكبر دلالة على سمو الإسلام، لأنه أبى مع تلك الشهادة التي تثير شبهة قوية في أن قتل عمر كان بمؤامرة فارسية أن يجعل لشهوة الانتقام أثراً في حكمه، وأن تأخذه عزة السلطان فيستهين بدم شعب خضع له، ويجعلها مذبحة تشقي النفوس الثائرة لمقتل ذلك الخليفة الذي نشر لواءه في الخافقين
ولكن طي التحقيق بهذا الشكل لم يرض بعض آل عمر، وكان ابنه عبيد الله لا يزال فتى
يجري فيه دم الشباب، ويعد من شجعان قريش وفرسانهم، فخرج مشتملاً على السيف حتى أتى الهرمزان فقال: اصحبني ننظر إلى فرس لي. وكان الهرمزان بصيراً بالخيل، فخرج بين يديه فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حر السيف قال: لا إله إلا الله، ثم فقتله. ثم أتى جفينة وكان نصرانياً من أهل الحيرة، أقدمه سعد بن أبي وقاص إلى المدينة ليعلم بها الكتابة، فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه، ثم أتى ابنه أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعى الإسلام فقتلها، ثم أقبل بالسيف صلتاً في يده وهو يقول: والله لا أترك في المدينة سبباً إلا قتلته وغيرهم، وكأنه يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون: ألق السيف، فيأبى ويهابونه إلى أن أتى عمرو بن العاص فقال له: يا ابن أخي أعطني السيف. فأعطاه إياه، ثم ثأر إليه عثمان بن عفان فأخذ بناصيته حتى حجز الناس بينهما، وأرسل صهيب الرومي القائم مقام الخليفة من أتى به إليه، فسجنه حتى يتم الاستخلاف وينظر في أمره
فلما تولى عثمان الخلافة جلس في المسجد لينظر في هذه القضية التي وقف العالم ينظر ما يفعله الإسلام فيها، فدعا بعبيد الله من سجنه، ثم قال لجماعة المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فنصب علي ابن أبي طالب نفسه محامياً عن الهرمزان ومن قتل معه، وقال لعثمان: أرى أن تقتل عبيد الله. وهو في هذا يرى أن النص صريح في القصاص من القاتل، ومتى كان هذا أمر النص وجب الحكم به، ولا يصح أن يراعي معه شيء آخر، ولا أن يغلب على حكمه ما يقترن بحادث القتل من مثل ما أقترن به في هذا الحادث، لأن أمر النص فوق كل شخص، وحكمه يعلو على كل اعتبار، وهو في هذا يتمسك في عصرنا بألفاظ القوانين، ولا يبيح العدول عنها في حال من الأحوال. وقد وضع علي بهذا أول حجر في أساس تشيع الفرس له
ونصب جماعة من المهاجرين أنفسهم للدفاع عن عبيد الله، فقالوا في الدفاع عنه: قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم! أبعد الله الهرمزان وجفينة! وكأني بهم يخالفون علياً في ذلك النظر إلى النص، ويرون أنه قد يطرأ من الأحوال ما يجب معه التساهل في أمر النصوص، وتغليب الاعتبارات التي تمنع من الأخذ بها، فلا يجب أن يتقيد القاضي بها دائماً، بل يجب أن يترك الأخذ بها وعدمه لتقديره واجتهاده، ولحكم الأحوال التي تقترن
بالحادث الذي يريد الحكم فيه
وكان عمر بن العاص ممن نصب نفسه للدفاع عن عبيد الله، وقد ذهب فيه مذهباً غريباً يخلصه من القصاص، ولا يكون فيه عنده خروج على نص الشرع في قتل العمد، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان، وإنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين. وعمرو يذهب في هذا كما ذكر ابن حزم إلى إهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر، وهو مذهب غريب لا يصح الأخذ به، وإلا انتظر الناس ذلك الظرف فاستباحوا فيه الدماء، لأنهم يرون أنه لا ينالهم فيه قصاص. وانتهت بدفاع عمرو مرحلة الدفاع في القضية، وهو دفاع يدل على أن الصحابة كانوا يتمتعون بقسط وافر من حرية الاجتهاد، وأنهم كانوا لا يقفون جامدين أمام دلالة النص إذا حزب الأمر، اقتضى مرونة تحل ما يوقعهم فيه من إشكال. وقد تشعب الخلاف بينهم في دفاعهم حتى بلغ أقصى ما يبلغه خلاف، فلم يحمل أحداً منهم على الطعن في دين الآخر، ولم يرمه بالإلحاد الذي نترامى به في عصرنا في كل خلاف يحصل بيننا
ثم جاءت مرحلة الحكم فقال عثمان: أنا ولي الهرمزان وجفينة والجارية، وقد جعلتها دية. وفي رواية إنه قال لعلي حينما قال له اقتل عبيد الله: كيف أقتل رجلاً قتل أبوه أمس، لا افعل. ولكن هذا رجل من أهل الأرض، وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي ديته. وقد اختلف العلماء في توجيه هذا الحكم الذي جاء مخالفاً لنص القصاص، فقال صاحب البدائع: أراد بقوله: أعفو عنه وأؤدي ديته، الصلح على الدية. وللحاكم أن يصالح على الدية إلا أنه لا يملك العفو، لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم وأن الحاكم نائب عنهم في الإقامة. وفي العفو إسقاط حقهم أصلاً، وهذا لا يجوز. وله أن يصالح على الدية كما فعل عثمان رضي الله عنه. وذكر ابن حزم أن عثمان أخذ في ذلك بما ذهب إليه عمرو في دفاعه من إهدار القوَد عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر. وقيل إن عثمان لم يحكم بذلك إلا بعد أن دعي القماذبان بن الهرمزان فأمكنه من عبيد الله ثم قال له: يا بني! هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله. فخرج به وما في الأرض أحد إلا معه؛ إلا أنهم يطلبون إليه فيه، فقال لهم: إلى قتله؟ قالوا نعم، وسبوا عبيد الله. فقال: أفلكم أن
تمنعوه؟ قالوا: لا؛ وسبوه. فتركه لله ولهم؛ فاحتملوه حتى بلغوا به المنزل على رؤوسهم وأكفهم. وقد حكم ابن حجر بضعف هذا الخبر، لأن علياً استمر حريصاً على أن يقتله بالهرمزان. وقد قالوا إنه هرب لما ولي الخلافة إلى الشام فكان مع معاوية إلى أن قتل معه بصفين. وإني أرى أن هذا لا يقطع بضعف هذا الخبر، لأنه يجوز أن علياً رأى أن القماذبان قد حمل من الناس على هذا العفو، على أني أستبعد أن يستمر علي حريصاً على قتل عبيد الله بعد حكم عثمان بذلك؛ فلكل حكم قداسته، وعلى أكبر من أن يستهين بالأحكام إلى هذا الحد. ولا أنكر مع هذا أنه لم يكن راضياً عنه، وأنه كان هناك فريق من الصحابة يشاركه في عدم الرضا به، ومن ذلك الفريق زياد ابن لبيد البياضي، وكان إذا رأى عبيد الله ينشده:
إلا يا عبيد الله مالك مهربٌ
…
ولا ملجأ من ابن أرْوى ولا خَفَرْ
أصبت دماً والله في غير حِلَّه
…
حراماً وقتل الهرمزانِ له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل
…
أتتهمون الهرمزان على عُمر
فقال سفيهُ والحوادث جمةٌ
…
نعم أَتهمْهُ قد أشار وقد أمَر
وكان سلاح العبد في جوف بيته
…
يقلَّبها والأمر بالأمر يعتبرْ
فشكاه عبيد الله إلى عثمان فدعا به فنهاه، فقال في عثمان:
أبا عمرِو عبيد الله رهنٌ
…
فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرْت الجُرْم عنه
…
وأسباب الخطأ فرسار هان
أتعفو إذ عفوت بغير حقٍ
…
فما لك بالذي تحكي يَدان
فدعا به عثمان ثانياً فنهاه وشذبه، وكان حقيقاً بما فعل عثمان به لأن الطعن في الأحكام بهذا الشكل يدعو إلى الفوضى، والقاضي إذا حكم باجتهاده كان لحكمه قداسته كائناً ما كان حكمه
عبد المتعال الصعيدي
من روائع الرسول
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يمر الزمن وتزداد عظمة الرسول وضوحاً وجلاء، وكلما تعمقنا في دراسة روائعه وجوامع كلمة تجلى صفاء المعنى وسمو المرمى والحكمة الزاخرة والحق المبين
وحين نستعرض بعض روائعه نجتلي محاسن أغراسها، ونمتع النفس بنفائس أزهارها، ونغذي الروح بما فيها من حكمة وخير وجمال - أقول حين نستعرض هذه نجد أن من الأحاديث ما يعبر أروع تعبير عن حقيقة الظواهر الكونية وعن القوانين الطبيعية التي تسيطر على هذا العالم، فهي وإن قلت عدد كلمات، فقد حوت من الحكم والمعاني ما يبهر العقل والقلب والعاطفة؛ يهتدي بها الضال في الفلوات، ويرنو إليها الخابط في الظلمات، تنير الفكر وتهدي إلى الغاية، كما ترشد إلى الحقيقة الخالدة. فيها الهدى، وفيها الموعظة، وفيها العبرة.
كان إبراهيم قرة عين الرسول يسر بمداعبته ويطمئن إلى رؤيته، يرمقه بعطف ليس بعده عطف، ويخلع عليه ألواناً من الحب والحنان تتمثل فيها الرحمة الأبوية في أقوى صورها، والعاطفة الإنسانية في أسمى معانيها.
لقد فقد محمد أبناؤه وبناته ولم يبق له غير فاطمة وإبراهيم. لهذا لا عجب إذا طفح بشراً عند مشاهدتهما، وامتلأ غبطة وسروراً في لقياهما، ولكن شاءت الحكمة الإلهية أن لا تطول تلك الغبطة وذلك السرور، أن يفجع النبي في ولده إبراهيم، وهنا (انطفأ بموته ذلك الذي تفتحت له نفس زمنا وزادت عينا محمد تهتانا وهو يقول: يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك بأشد من هذا. . .)
كسفت الشمس في يوم الوفاة، ورأى المسلمون في ذلك كرامة. فقال بعضهم: لقد انكسفت الشمس لموته. وهم على ما يظهر على حق فيما يقولون؛ فلقد وافق موت إبراهيم كسوف الشمس؛ فلماذا لا يرى بعضهم في هذا معجزة؟
أليس الله بقادر على كل شيء؟
أليس الرسول كريماً عند مولاه؟
لقد حسبوا أن الله أراد أن يكون في هذه الظاهرة العزاء والسلوى لنبيه الكريم. . .
وهنا. . . يتجلى في محمد - على فرط حبه لإبراهيم وشدة حزنه عليه وجزعه لموته - إخلاصه للرسالة، ويرى في القول خروجاً على الدعوة التي بعث من أجلها، ولا يرضى أن يرى الناس في هذا معجزة فينسى أن إبراهيم، ولده وينسى أن إبراهيم كان رجاءه وأمله، وينسى أن إبراهيم مات ولما تتفتح نفسه له. . . وينسى فجيعته وهذا الهول الذي نزل به، ويقف خطيباً ويقول:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)
صلى الله عليك. . . وهل بعد هذا من عظمة؟ ففي أحرج المواقف، في أدقها، لم تنس رسالتك، ولم تغفل عن الحق الذي أتيت به، وأبيت إلا أن تكون مخلصاً لدعوتك ولحقائق الوجود، وجئت بدستور كوني وضع حداً لسخافات المنجمين وأقوالهم، ولاعتقادات الناس في الظواهر الطبيعية والكونية، وبأن ما يجري في الكون لا يتقيد بأحد، ولا يسير إرضاء لبشر، بل إن هناك قوانين تسيرها، وأنظمة تسيطر على حركاتها، أوجدها الخالق منذ الأزل لا تحيد عن الطريق الذي رسمها، وقد تزهها عن الشذوذ والتناقض
ومن يبحث في هذا الكون ويسع في الوقوف على أنظمته والقوانين التي تسيطر عليه يجد أن لا شيء فيه إلا يسير ضمن دائرة من القوانين لا يتعداها، وأن ما يسيطر على أصغر وأجزاء المادة يسيطر على أكبرها، وأن الكون متسق في نظامه، متناسق في أجزائه، متشابه في تركيبه، وأن النظام الموجود في السيارات والشموس هو بعينه في الجوهر الفرد، في الكهارب وفي النوايا. ومن الغريب أن الإنسان كلما تقدم في الكشف عن القوانين الطبيعية وكلما حاول تفهم أسرارها، رأى نفسه أمام أسئلة عديدة لا يستطيع الإجابة عنها، وقد زاد اعتقاداً بضآلته وجهله، وبأنه لم يكشف شيئاً، وأنه لا يزال في فجر يقظته العقلية وفي مراحل التفكير الأولى في الوقوف على أسرار الوجود. وكلما قلب بصره في هذا الفضاء وزاد معرفة به شعر بأن الوداعة تقترب منه، وأن من الواجب عليه أن يكون في الذروة من التواضع وسمو الخلق. ولا عجب، فحسبه أن يعرف أن الأرض إزاء الأجرام السماوية التي لا عد لها أشكالاً وأنواعاً كذروة من الغبار سائرة إلى الفناء لا تأبه للحياة. . . ولقد ربط مبدع هذا الكون أجزاءه بعضها ببعض ربطاً وثيقاً لا يستغني أحدها عن الآخر ولا يستطيع أي جزء أن يسير دون غيره، فالإنسان مرتبط بالإنسان، وهذه كرته التي
يعيش عليها وما فيها من حيوان ونبات وجماد لها علاقة مباشرة وغير مباشرة مع غيرها من الكواكب والنجوم، فلولا الشمس لما عاش النبات والحيوان والإنسان، ولولا القمر لا ختل نظام التجارة، ولولا الكواكب والنجوم وجذب بعضها لبعض لما استطاع أن يحفظ كل نجم أو كوكب مركزه في هذا الوجود ولسادت الفوضى وعم البلاء
وعلى هذا فالعالم مترابطة أجزاؤه تسيطر عليها أنظمة وتتولاها قوانين لا تتعداها ولا تشذ عنها: والذي لا ريب فيه أن هذا الكون لم يوجد من تلقاء نفسه إذ لو كان كذلك لما رأينا فيه هذا النظام وهذا التنسيق. بل إن هناك قوة (خارقة) منسقة منظمة لا يحيط بها عقلنا، بل هي تحيط بنا وبهذا الوجود من جميع نواحيه فلا تتحرك هباوة في الأرض والسماء من جماد أو نبات أو حيوان، ولا فلك ولا نجم ولا كوكب إلا والله هو محركها والمسير لها في دائرة من النواميس تشهد على عظمته وحكمته وبديع أمره في خلقه، وتنطق بكمال علمه ونفاذ مشيئته، وتدل على قدرته وجلاله وكبريائه. ومهمتنا نحن البشر أن نزيد معارفنا عن هذه النواميس ونبحث في أصولها. وكلما زدنا معرفة بها زدنا اعتقاداً بقدرة الله الخارقة المنظمة وإيماناً بقوة إبداعه، وظهر لنا بجلاء أن هذا الكون لم يخلق باطلاً
هذا الاعتقاد وهذا الإيمان، إذا رسخا عن طريق الدرس والبحث والتفكير في آيات الله فإنهما يسموان بالإنسان إلى عالم أسمى من عالمنا، وفي هذا لذة روحية ومتاع فكري ليس بعدهما لذة أو متاع. وهذا ما جعل الرسول المفكر يقول عند حدوث الظواهر الكونية: اذكروا الله وتفكروا في آلائه وعجائب صنعته، ففي هذا آيات لأولي الألباب، وفي هذا عبادة هي أسمى العبادات وأفضلها
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
تحية الهجرة
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يا دياراً طيب الله ثراهَا
…
طلع الحق عليها فهداها
إنه النور الذي أخرجها
…
من عَشَي الظُّلْمِة واجتاح دُجاها
لم يُرِدْ مجداً ولم يسع إلى
…
زُخُرفِ الدنيا ولم يبتغ جاها
لم يرد في الحق إلا غايةً
…
لا ولم يدع مع الله إلاها
السفاهات عليه اجتمعت
…
فمضى لم يخش في الحق سفاها
والضلالات عليه ائْتَمَرتْ
…
إِنها لم تثنه. . . لكن ثناها
غُلبَ الشِّرك على دولته
…
والهوى قُوِّضَ والباطل شاها
أيها الداعي إلى السِّلم أعِنْ
…
أمماً قد ضاع في السلم رجاها
نزغ الشيطان فيهم فمشى
…
كل شيطان بأرض يتباهى
مَلئَوا أشداقهم سلماً كما
…
تملأ الضفدع بالأصوات فاها
مُلْتَوي الغابات. . . لم نعرف لهم
…
وِجْهةٍ تُبْغَي ولم ندر اتجاها
كل يوم جشع لا ينتهي
…
كل حين طمع لا يتناهى. . .
أيها الهادم أصنامَ مِنَي
…
عادت اليومَ كما نحن نراها
أين منها (اللاَّتُ) في طاغوتها
…
والقرابينُ تُضَحَّي لثراها؟
كل أرض بدلت من ربها
…
صنماً يمتص بالبَغْي دماها
ساقها للحرب شعواء وقد
…
دارت الحرب على قطب رحاها
دولة الأصنام قد ولت فمن
…
عاد بالدنيا قروناً فدعاها؟؟
نزهَ الله عن الشرك. . . لقد
…
تِخَذَ من الناس إلاها
أيها الخارج من مكة لم
…
يلق منها العطف أو يأمن أذاها
أَهْلُكَ الأدنون عَادَوْكَ وقد
…
تجد النفس من القربى عِداها
هذه أرضك فَأَرَقْتَ لكي
…
تنشد الأمن عَلَى أرض سواها
هكذا الأحرار لا تقعدهم
…
جذوة الظلم ولا لفح لظاها
لا تضيق الأرض في أعينهم
…
عن أماني النفس أودرك مداها
كل أرض ظللتهم وطن
…
ما هي الأوطان إن ضاع حماها؟
هِجْرَةٌ لله لم تبغ بها
…
كلا رطباً وأرضاً ومياها
هذه مكة قد غَضَّتْ بها
…
أعُينُ القربى وآذتك يداها
أجمعوا - والله أقواهم يداً -
…
وعلَوْا - والحق أعلاهم جباها
فإذا الباطل أعيا أمره
…
وإذا الأصنام قد خارت قواها
لم تكن إلا رُؤًى خادعةً
…
طلع الصبح عليها فمحاها
أسالوا الإسلام عن دولته
…
من أشاع السلم فيها من بناها؟
من عَلَى القوة أرسى أرضها
…
وعلى العزة قد أعلى سماها؟
قرشي من بني هاشم ما
…
دل بالسلطان أو بالحكم تاها
مهد الأمر لدنيا أقبلت
…
وزمان ببني قحطان باهَى. . .
فتحوا الأرض فما غلوا يداً
…
سَفَهاً منهم ولا كمُّوا شِفاها
ضمنوا حرية الفكر وما
…
ضيقوا يوماً على الناس مداها
كان للرأي لديهم ساحة
…
كالميادين وأرجاء وَغَاها
اسألوا بغداد عما شهدت
…
من جدال سطرته صفحتاها
الثقافات لديهم مثلت
…
بعدما ألقت من السير عصاها. . .
يا دياراً ألَّفَتها وَحْدَةٌ
…
تسع الدنيا جميعاً في جماها
بين وادي النيل في رقته
…
وَرُبَى لُبنانَ في شُمِّ ذُرَاها
والهضابِ الخضر من أندلُس
…
والعراقين وأعلام قراها
هذه الأوطان من فرقها
…
وبأَحداث الليالي من رماها
لم يعد فيها سوى مئذنة
…
ضاع في الغارات مرجوع صداها. .
فمتى يرجع يوماً مجدها
…
وَمَتَى يُشرق بالشمس ضحاها!
وَمَتَى يهتف فيها هاتف
…
بالمودات وأنغام لُغاها؟؟؟
محمد عبد الغني حسن
على عتبة رسول الله
للشاعر التركي إبراهيم صبري
للأستاذ عثمان علي عسل
هذا مقام أحمد محمود المجتبئ، هذا هو حب الله قد تجسد تراباً وإنه لكحل للعيون. ألا فلتحمل أيها القلم قلبي إليه وقطعه إرباً إربا وعلق به فلدة منه لتكون بلسماً لجراحه
قبل ثراه ساجداً وابسط تضرعي وابتهالي فههنا حرم سيد المرسلين باب المصطفى
بشر الأنبياء بالحباة في الآخرة غير أنك يا رسول الله أسبغت على الدنيا حباة أيضاً
هدمت عصور الجهل وحكمت على الظلم بالهلاك
فأنت عطية من الله للأحرار يا رسول الله. فتاريخ البشر لم يسجل حدثاً أكبر شأناً من رسالتك، فمن ذلك اليوم كان التوحيد لله وحده
حين أستمع إلى دعوات التكبير التي تنبعث من أغوار العصور الغابرة يستولي على جناني الدوار ويخر مع سجودي على الأرض في استغراق من الحيرة
وحينما أعود بأفكاري القهقرى إلى أسلافي وأرسل خيالي إلى هؤلاء الصحابة والأشراف الذين دانت لهم أمصار الأرض أتمثل (يا محمد) هذا النداء الذي يتردد في صلوات أرواح لا تحصى
وحينئذ يذكرني الذل الذي ترسف فيه شعوب الإسلام بذلك الماضي المجيد الذي أصبح تاريخاً؛ فتنزف روحي دماً ويستحيل إحساسي وأفكاري ألماً. لم يبق للإسلام من ذلك المهد الجليل سوى هذه القفار الجرداء
وإني لأبحث عن حقوق الإنسان التي أشرقت في المغرب ثم أشعلت النار في المشرق ثم غابت؛ فلا أجد لبزوغها أثراً في هذه الفيافي التي لا يسمع للصوت فيها صدى. لا رجاء في هذه النظم التي سنتها البشرية. . . وليس من نفاق أصدق من الحقوق المزعومة والحقائق الباطلة
أما أنا فقد فتنت بحق من فيض هداك، ومن احتراقي لليلاه أمزق ثيابي كالمجنون
ليلاي ليس من شيمة حبها ظلم فمحبتها للجميع سواء
والذين وقعوا في شراك غرامها لا يشعرون بالندامة، لأن هناك أمامهم يوم القيامة
وكأنما القرآن رسالة غرام تنثر السلوى للعشاق المعاميد
ألا كيف يشرب ذو الحجى خمرة الذهول من يد الساقي ما دام الصحو من سكر الدنيا هو النوم
سكبت من مآقي جرعات وانصرفت من مجلس لهوي على حداد. وبودي أن أتناول كأس الوصال من يد ليلاي لأنقع به صداي. . .
أنت لحب ليلى رسول تكرمت فبعثتك في تواضع ليس من طبيعة المعشوق، ومن أنا يا رسول الله حتى تحمل إلي الرسالة؟ لهذا جئت إليك متضرعاً في خشوع وخضوع
أنا شاعر صغير من شعراء الروم هاجرت من دياري وقد تحجر يراعي فضممته إلى أحشائي، كما يشد الساغب الحجر على بطنه ليمسك رمقه
ولقد تحطم خيالي من فيض الإلهام الذي انهال عليه من مقام المصطفى ولا يدركه عقل. . . ومن ذكريات حبيب الله التي لا أدري كيف استوعبها الثرى
وقفت مطرق الجبين حاسر الصدر باسطاً يدي أسأل الرحمة ومنتظراً منك المعونة على باب سخائك
وسأستمد الجرأة من شأنك الذي رفعه الله بقسمه (لعمرك) كما ألتمس من شفاعتك الرحمة والهداية لأمتك العاصية ما دامت قصيدتي ستمضي إلى الأبد في تقبيل تراب روضتك الطاهر.
عربها
عثمان علي عسل