الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 551
- بتاريخ: 24 - 01 - 1944
في التأني السلامة
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلنا في كتاب (الصديقة بنت الصديق) أن السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تروي كثيراً من الشعر. . . (وكانت تحفظ من شعر عروة بن الزبير نفسه وتسوق الشاهد منه في موقعه، كما قالت وهي ترى النبي عليه السلام يتندى عرقاً في يوم قائظ وقد جلس يصلح نعله: لو رآك عروة لكنت المعنى بقوله:
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده
…
لما بذلوا في سوْم يوسف من نقد
لواحى زليخا لو رأين جبينه
…
لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
إلى آخر ما جاء في ذلك الكتاب
وقد رأينا في العدد الأخير من مجلة الثقافة كلاماً بتوقيع (أحمد محمد شاكر) يقول فيه:
(أما هذه القصة فقد أطلت البحث عنها في المصادر المحترمة من كتب الحديث والسير والتاريخ حتى أتعبني البحث، ثم لم أجدها. وهذا النوع من الكاتبين لا يتورعون عن تكذيب الأحاديث الصحيحة المروية في كتب السنة الصحاح والتي رضيها أهل العلم بالحديث: يكذبونها إذا لم توافق أراءهم وما يدعون إليه من نظريات يتناولون فيها قواعد الإسلام، ويزعمون أنهم يتبعون بذلك ما يسمعونه طرق النقد الحديث، ثم يحكون عن رسول الله وعن أصحابه الأكاذيب لا يرون بحكايتها بأساً وينسبونها إليهم نسبة جازمة، كأنها من الحديث الصحيح لا يتحرون ولا يبحثون، إنما هو سواد في بياض، يضل به الناس وهم يشعرون أو لا يشعرون. . . أنا لا أجيز لنفسي أن أتهم الكاتب الجريء بأنه اخترع هذه القصة من عند نفسه، ولكني أظن أنه رآها في كتاب من كتب السمر. . .)
إلى أن يقول:
(الذي نعرفه من التاريخ الصحيح في أمر عروة بن الزبير أنه ولد في آخر خلافة عمر سنة 23 وقيل بعد ذلك. . .) إلى غير ذلك من أشباه هذا الكلام الذي يتم قليله على كثيره
وكان بودنا أن ننقل هنا كلمة الكاتب بحذافيرها لتشهد عليه وعلى طويته وبواعث نقده، لولا أننا نطيل في غير طائل. وإن الاجتزاء بما نقلناه كاف للدلالة على دخائل الصدور وكوامن النيات.
فأوجز ما نقول وأصدقه أن الجرأة كل الجرأة هي في إقدام الكاتب على مثل هذا الكلام وهو يضع نفسه موضع الحكم الفصل في أخبار السيرة ومراجع الأحاديث والمحدثين مع قصور المراجع التي عنده وقصوره في البحث عنها، واستيفاء مواضع الاستقصاء منها، في مسألة بعينها هي معروضة له ومبسوطة بين يديه
ولا معابة على أحد أن يفوته بعض المراجع التي لا تفوت غيره، ولكن المعابة أن يبحث عنها عامداً فلا يهتدي إلى طريقها، وهو يتحدى ويناجز ويتهم ويعاجز، وبه ما به من هذه اللهفة على إظهار العلم الغزير وإغلاق موارد البحث دون الباحثين
تلك معابة معابة على من يحسب أنه يتحرى وحده ويبحث وحده مكتفياً بما في يديه غير مستزيد مما عنده. ثم هو يبسط يديه معاً إلى أقصى مداهما فلا تبلغان ميسور ما في الأيدي من المراجع في باب السير وكتب المحدثين
فليعلم هذا الكاتب - الجريء - إذن أننا لم نخترع هذه القصة من عندنا، وأننا لم نرها في كتاب من كتب السمر ولا في كتاب من الكتب التي يعوزها الاحترام؛ لأن شرح شمائل الترمذي ليس اختراعا لمؤلف (الصديقة بنت الصديق) ولا حكاية من حكايات الأسمار، ولا هو مهزلة يعوزها احترام مثله، وهو لا يرتقي إلى منزلة التلميذ المستفيد بين أصغر شراح الترمذي في أخبار السيرة وعلم الحديث
فشمائل الترمذي وشروحه من أشهر كتب السيرة التي يتسامع بها العلماء الواصلون والشداة المبتدئون، وهذه القصة مذكورة في شرح الشمائل للعلامة محمد بن قاسم جسوس يراجعها في الجزء الأول صفحة 29 من الطبعة المصرية وفي صفحة 40 من الطبعة الخارجية، ليعلم أننا لا نخترع ولا نعتمد على كتب الأسمار، وأنه لا يزال يتهجى في مراجعة فهارس المكتبات ليعلم أين يكون البحث وكيف يكون الاستقصاء، ودع عنك المطولات والمبسوطات، ودع عنك الشروح والأصول
وظاهر من كلام هذا الكاتب الجريء الذي نقلناه والذي لم ننقله أنه يتتبع ما ألفناه من كتب (العبقريات) واحداً بعد واحد، وأنه على اللهفة التي ما بعدها لهفة للعثور على هفوة هنا أو نقيصة هناك، ثم يطلق عقال الحفيظة ليثور ويفور، ويبلغ قصاراه من الثوران والفوران
فإذا كان قد أضنى نفسه بحثاً في خمسة كتب أصدرناها من سلسلة العبقريات وما إليها فلم
يخرج منها - مع تلك اللهفة وذلك التجني - بغير تلك القصة، فهل في وسعه أن يشهد لباحث في المشرق أو في المغرب بتحقيق أوفى من هذا التحقيق، وفضل أشرف من هذا الفضل، وعناية أكبر من هذه العناية؟
أين هو الباحث الذي كتب في السيرة أو غير السيرة، وبين المتقدمين أو غير المتقدمين، ثم تعقبه المغيظون المتلهفون على الأخطاء فعصموه عن حكايات فضلاً عن حكاية، وعن مخالفات لآرائهم فضلاً عن مخالفة واحدة؟
صفحات تتجاوز المئات إلى الألوف كلها تنزيه للنبي وتعظيم لأصحابه وأنت في لهفتك على المعابة تجحظ عيناك في كل سطر منها فلا تقع على غير تلك القصة التي لا تضير ولو كذب رواتها جميعاً ثم تخرج بها إلى الناس نافخاً في الصور، متشدقاً بعظائم الأمور، ناسياً لصاحب تلك الصفحات كل ما أصاب فيه، ولو كنت على يقين وأنت كما رأيت لست على أقل يقين!
هب العلامة ابن قاسم الذي شرح شمائل الترمذي قد روى ما رواه خطأ من شعر عروة بن الزبير، وهب عروة لم يقل هذا الشعر ولم تنشده السيدة عائشة، فماذا في الرواية مما لا ينبغي للسيدة عائشة أو مما لا ينبغي للنبي عليه السلام؟
هل فيها إلا أن السيدة عائشة كانت تثني على جمال النبي وأن النبي كان يسره هذا الثناء؟
أهذا الذي لا ينبغي لعائشة رضى الله عنها ولمحمد صلوات الله عليه؟ كلا بل هذا الذي ينبغي لهما دون غيره، ومن أنكره فهو الكاذب الذي لا يفقه ما يقول
وهأنذا أعيدها جهرة بغير سند ولا رواية من شاعر أو فقيه: لقد كانت عائشة تثني على جمال محمد وكان محمد يرضى عن هذا الثناء
أسمعت يا هذا؟
مرة أخرى أعيدها لك ولغيرك ممن يشاء أن ينكرها، فأقول ثم أعيد أن عائشة أثنت على جمال محمد غير مرة وأن محمداً رضى عن هذا الثناء في كل مرة، فإن كانت قد بلغت أذنيك فاذهب إلى صورك فانفخ فيه ما بدا لك، وادع من يستمع لك أو يستجيب
فليس في القصة ما يدعو إلى الاستنكار والتردد من وجهة الأدب في حق النبي عليه السلام، ويجوز من الوجهة التاريخية أن يكون عروة قد ولد بعد العهد الذي ذكره الرواة
ولكن يستبعد جداً أنه ولد في سنة 23 التي اعتمدها خضرة البحاثة المتحري البارع في تحري الأعمار والأوقات، لأن أم عروة أسماء بنت الصديق ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة وليس هو بآخر أولادها، ويندر جداً أن تلد المرأة بعد الخمسين
ومع كل هذا لا نرى نحن أن نجعل رواية من روايات السنوات والأعمار مبطلة لمقال أو قصيد على سبيل الجزم الذي لا مراجعة فيه؛ فعمر بن الخطاب نفسه مختلف في عمره بين خمس وخمسين سنة كما يقول ابن قتيبة، وثلاث وستين كما يقول الواقدي ومن جاراه وحديث الإفك نفسه مختلف في سنته مع اتصاله بتنزيل آيات من القرآن في موضوع البراءة وموضوع الحجاب، وتواريخ الآيات أولى بالتمحيص من تواريخ الأحاديث أو تواريخ الأشعار
وقد طبعت لجنة التأليف والترجمة التي تصدر (الثقافة كتاباً اسمه إمتاع الأسماع جاء فيه صفحة 215 (أن غزو بني المصطلق التي قال أهل الإفك فيها ما كانت في شعبا من السنة السادسة) ثم جاء فيه بالصفحة التالية: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة سنة خمس، وقيل كانت في شوال منها، وقال موسى ابن عقبة: كانت في سنة أربع، وصححه ابن حزم، وقال ابن إسحاق في شوال سنة خمس، وذكرها البخاري قبل غزو ذات الرقاع واستعمل على المدينة ابن أم كلثوم)
أفبعد هذا الاختلاف في تواريخ القوم للمناسبات التي هي أجل من شعر عروة بن الزبير وأولى بالإثبات يريد صاحب أن نطيل الوقوف على عمر عروة لأنه قال كلاماً يجوز أن يقول كل إنسان، بل هو معنى كل ما قيل في عرضه وفحواه على ألسنة جميع المسلمين
إننا أطلنا الوقوف حيث ينبغي أن يطول وقوف الباحث الحريص على كرامة محمد وذويه
أطلنا الوقوف حيث كان أمثال هذا الناقد الحاقد يتقبلون الروايات وهي أغرب ما يروي وأيآه عن المعقول وأولاه بإنعام النظر ودفع الشبهات
كانت روايات من أقوال الأقدمين تذكر أن النبي عليه السلام خطب السيدة عائشة وهي في السادسة وبني بها وهي في التاسعة. وكان هذا مجالا لأعداء الإسلام وأعداء نبي الإسلام يبدؤون فيه ويعيدون، ويجدون المستمعين والمتشككين حتى بين المسلمين. فهنا مجال لإطالة الوقوف يعبره أمثال هذا الناقد الحاقد مهرولين ويجهلون ما وراء من الزور الأثيم
والبهتان المبين. وهنا وقفنا لنثبت بالعقل والنقل أن محمداً عليه السلام لم يبن بالسيدة عائشة إلا وهي في السن الصالحة للزواج بين بنات الجزيرة العربية؛ فأثبتناه على رغم الأقاويل والسنين
أما عمر بن الزبير فهو (الفارغة) التي يتصدر فيها أمثال ذلك الحاقد الناقد حديثاً قصاراه أن عائشة كانت تثني على النبي وأن النبي كان يتقبل منها الثناء، ولا ممسك في ذلك لأصدقاء ولا لأعداء
فإن طاب الموقف هنا فليقف فيه من يشاء كما يشاء
وتتمة الجواب بصدد ما تقدم أن نعرج على تعقيب للأديب الذي يكتب في الثقافة بتوقيع (قاف) يقول فيه عن الشعر (إنه نسج ضعيف لا يقع في نفس أحد أنه من لغة العصر الأول، أو ما يجري به لسان شاعر من شعرائه، وأحسب هذين البيتين - إن صح حدسي - لو أحد من شعراء الخلاعة بعد القرن السابع، قالهما في أوصاف خد غلام رقيق من غلمان الترك أو الروم يلتمس قربه أو يطلب وده)
فنقول: إن الضعيف حقاً هو هذا النقد الذي ينزه العصر الأول كله عن مواضع النقد وفيه عشرات من قالة الشعر الذين لا يبلغون هذا المبلغ من التجويد والتشبيه، وفيه من قالة النثر من وهموا أنهم يناظرون القرآن بكلام يزري به هذيان الأطفال
وقد ينسب ذلك الشعر إلى ناظم فقيه فنصدق النسبة إليه ونصدق أنه يذكر قصص القرآن في أبياته ليفضل جمال محمد علي جمال يوسف. ولأبعد من ذلك جداً عن التصديق أن ينظمه فقيه أو غير فقيه ليذكر بآيات القرآن التي يشير إليها أن غلامه أجمل من الأنبياء!
فإن كان فرض هذه الخلاعة كلها أسهل وأدنى إلى التقدير عند (قاف) الثقافة فله دينه، وللأبجدية جمعاء دين.
عباس محمود العقاد
القصيد المرسل
لأستاذ جليل
أبو علي أحمد شوقي لما (أصم به الناعي وإن كان أسمعا) أملي الشعور على اليراعة هذا الرثاء. وما كنت أنوي واليراعة تكتب أن أبني شعراً مطلقاً أو مقيداً أو نثراً مسجوعاً أو مرسلاً. وما كنت وقتئذ في حال تفكر أو تقصد. كتبت ما أوحى إلي، وحين تم الكلام لم أنكره. وما كنت علمت أو قرأت شيئاً مما ذكره العلامة الأستاذ العقاد والكاتب البارع المتفنن الأستاذ دريني. وما فكرت في هذا الشأن أدنى تفكير. والقريض تركته أو تركني منذ أكثر من ثلاثين سنة
قال قائلون: هذا شعر لم يقيد بالقوافي، ووجدت بحثاً في الشعر المرسل في (الرسالة) الغراء فرأيت إملاء قطع من رثائي شاعر العرب العظيم. والعربية لا تنكر تفننا في المقال، ولا تصد عن التنويع؛ فقصيد مقيد، وقصيد مرسل، وموشح وغير ذلك. ولكل مقام يقتضيه، وزيادة الخير في الفنون خير، والعالم في تبدل، والدنيا تطير. وإذا تفنن قائل أو أبدع وأجاد فلا تقل له (يا هذا) ضللت أو أخطأت
(شاعر العرب قضي، يا فتاة العرب، فالبسي ثوب الحداد!
وابرزي بين الملا حاسرة واندبيه.
زحزحي هذا النقاب لنرى وجه الحزين
أعرضي عن خَفَرٍ عُوِّدْتِه، فعيون القوم غرقى في الدموع
شيعي دمعك هذا قانئاً بنحيب ونشيج وعويل
وابذلي الدمع رخيصاً؛ إن من تبكين غالِ
بلبل (الكرمة) ولَّي، أين غاب البلبلُ، أين غاب البلبل؟!
غادر الطير ثكالى في حنين وأنين وشجن
زهَر (الكرمة) يبكي بدموع ظاهرات في الصباح
فنن (الكرمة) آس، لا اهتزاز، لا ارتياح، لا طرب!
بهجة زالت وجاءت وحشة، وعرا (الكرمة) حزن لا يريم!
مِدْره العُرب قضى يا فتاة العَرب، فالبسي ثوب الحداد!
مَن لشغب قد بدا من مِشغب يرتجي شراً لإحياء العرب.
من يبيد البُطْل في الناس مشى، ويبين الحق يهدي الحائرين؟
أين شهباً حجج قد درأت لدد الخصم عنيفاً فخنع؟
أين صوْال على الظلم ضحى، قدع الظلم شباه فانقدع
من لغرب عاسف مغتصت لَصَّ حق العُرب في الصبح المبين
يا حليفا والعاً ما إن له، أبد الآباد عهد أو يمين
جيت كذاباً وجينا عرباً، ومشى اللؤم مع الخِيم الكريم
خاس هذا الغرب بالعهد، ولم يئتب من دنس الغدر الذميم
أيها الظالم، أرهق سادراً؛ سيرى الظالم عقبى الظالمين
قد هدانا (أحمد) منهاجها، سنلبي (أحمد) في كل حين
علم الأقوام قول بّين، خطة الأعتاق من رق مهين
عبقري الشعر ولى يا فتاة العرب، فالبسي ثوب الحداد
طرفة الدهر التي ضن بها ألف حول ثم جاد
(أحمد) عاد وعاد (البحتري) ورأى القوم (حبيباً) يبدع
مبدع في كل قول قاله، في قصيد ونشيد ورواية
نوَّر القرآن قولاً فعلَا، وسما صاحبه في القائلين
إنما القرآن هدْى الناطقين، إنما القرآن نور العالمين
غثَّ قول لم يهذبه (الكتاب)
عبقريات بجلت للورى، يالها من فاتنات ساحرات!
فاتت الحسن، ولاحت عجباً، هل رأيت الحور في دار النعيم؟
هل رأيت الحور في جنة عدن؟
ابنة الدهر ثباتاً وخلوداً، ونشيد الدهر حزناً وحبوراً
رقية، سحر، نعيم، ولظى؛ جنة العرب، جحيم الغاصبين!
إنه الإعجاز قسم الأحدين، إنه الإبداع حظ المبدعين!
رب أحقاب تقضت ما رأت عبقرياً في شؤون أو فنون
آه من دهر خبيث ناقد، باخل بالعبقريين ضنين
ويكأن الدهر يخشى النابغين، فقليلاً في الدجى ما يسفرون
ويكأن الدهر يخشى الخالدين، فهو لا يبدئهم في كل حين
إنما الدهر خصيم العبقري
غادة (الضاد) رزاها رازيْ وهي في سلطانها
بزها أوحى بنيها نجدة، وفتى فتيانها
ما رأى الرائي كشوقي فارساً قد جال في ميدانها)
إن فقدنا في مصر (أبا عليّ) فالعزاء في (عليّ) - علي محمود طه - والرجاء أن يسير في الطريقين: طريقه وطريق (أحمد)؛ و (أبو محمود) هو الأديب المقتدر بما أعطاه الله لم تزل مصر كعبة الشعر في الشرق (م) وفي كفها لواء الزعامه
(ن)
علي محمود طه
شاعر الفن والجمال
للأستاذ دريني خشبة
1 -
عبقريته في إكمال أغنية الرياح الأربع
2 -
مشخصات أسلوبه
3 -
بعض صور كتبه
4 -
لقب شاعر اللذة
ليس فرحنا بأغنية الرياح الأربع أنها لشاعر مصري قديم يرجع زمنه إلى أربعة آلاف من السنين، بل لأنها نظمت بالعربية بعد زمان هذا الشاعر المصري القديم بأربعة آلاف من السنين؛ وقد نظمها شاعر مصري تسلمها منقوصة فسواها كاملة، وجعل منها آية فنية مشرقة البيان، حسنة السبك، فياضة بالحياة التي تملأ جميع جوانبها
فمن المقدمة القصيرة التي وضعها الأستاذ دريتون للأغنية والتي يقول فيها: (تقوم هذه الأغنية على الحوار فبعد أربع مقطوعات تغنى كلا منها فتاة يدخل رجل فيحييهن ويشرع في خطفهن ليستولي على الرياح الممثلة فيهن، فيغريهن بإثارة الفضول في نفوسهن، وذلك بأن يعرض عليهن زيارة سفينته. . . ولما قوبل طلبه بالرفض، لم يستسلم للهزيمة كما هو واضح من المقطوعة الأخيرة في الأغنية (إن وسائلي لا تنفد). ولكن لسوء الحظ لم نعثر على تكملة الأغنية والوسائل التي لجأ إليها الرجل. وأكبر الظن أنها مما يثير الشراهة التي تكشف مواطن الضعف في النساء). نستنتج أن الفصل الأول والفصل الأخير من تمثيلية الأستاذ علي محمود طه هما من ابتكاره. وأن الفن الرائع الذي لون به الفصل الثاني - وهو الفصل الذي تضمن الأغنية المصرية القديمة كلها تقريباً - هو من إنتاج قريحته الخصبة المبدعة. . . أثمره خياله المتجدد، وسرت فيه بالحياة شاعريته النابضة، ودوت فيه موسيقاه بألحان الجمال.
وقد يسأل بعض القراء: وما قيمة هذه الأغنية وماذا تتناوله من مشكلات الحياة؟ وليس أيسر من الرد على هذا بما ختمنا به مقالنا الأول عنها من أنها سحر وشعر وفن وجمال. . . إنها من قبيل هذه الدرامات الرائعة التي نظمها شيكسبير في صدر حياته. و (العاصفة)
هي أقرب أمثلة ذلك؛ إذ ترتكز على السحر الذي كان يجيده بروسبيرو، والذي سخر به الريح فأغرقت سفينة ملك نابلي وسلط عليه وعلى أخيه الخائن الروح آريل يسيمها من العذاب ألواناً، حتى تنتهي الرواية بصلح عام تكون ثمرته زواج ابن ملك نابلي من ابنة بروسبيرو وعودة بروسبيرو إلى ملكه في ميلان. فالموضوع في (العاصفة) موضوع شعري ساحر تجلت فيه عبقرية شيكسبير، وظهرت في عرضه وتناوله مواهبه التصويرية العالية. وكذلك موضوع أغنية الرياح الأربع. والعجيب أن تكون هذه أولى روايات علي محمود طه المسرحية ويتمها مع ذلك على هذه الصورة الرائعة من الحبكة والحركة والتسلسل والإبداع المتناهي في التصوير واختيار المناظر الخيالية الراقصة. . . هذا فضلاً عن بيانه المشرق وديباجته العالية وقوافيه المنتقاة وقوة تدفقه في الحوار وحرصه على موسيقية الأوزان، بل موسيقية الألفاظ. . . فقلما تعثر على لفظة نابية، أو كلمة قلقة، أو جملة لم يحسن الشاعر اختيارها وصقلها وتجويدها. . . وأنا متعمد أن أسوق كل هذا الكلام الذي يشبه الإطراء، بل هو الإطراء نفسه، لأذكر سببه. . . حقاً إن لهذا الإطراء سبباً طريقاً أرى أن أسوقه هنا، لأن هنا موضعه. . . ذلك أنني تعودت كلما فكرت في الكتابة عن شيء أن أسأل هذا النفر من إخواني الأدباء الذين أتوسم فيهم إلماماً بالموضوع رأيهم فيما أنا بسبيله منه. وقد سألت هذه المرة كثيرين من إخواني الشعراء رأيهم في علي محمود طه أولاً، وفي تمثيليته أغنية الرياح الأربع ثانياً؛ فعجب إذ وجدت الغالبية منهم تجمع على مآخذ يأخذونها على هذا الشاعر، منها أنه مولع بألفاظ وعبارات بعينها يرددها في الجزء الأكبر من شعره. فمن هذه الألفاظ (شعشع) وما يتفرع منها، و (عبقري) وما تصفه من خيال وخمر وموسيقا وجمال، و (لؤلؤ) وما إليه من لألأ ولآلاء ولؤلؤى، و (تذويب القلب) في الدموع وفي القبلة وفي النظرة وفي الابتسامة، و (مرح)، فالمجداف مرح، والحبيب مرح الأعطاف، والجيد مرح، والقلب مرح، والشباب مرح؛ و (مجنح) فالخيال مجنح والطيف مجنح والسفين المجنحات، وللريح أجنحة
أي روح خفية أي ريح
…
حملتنا بأجْنُحٍ في الخفاء؟
و (سلسل) وما يصرف منها، ومثلها، (ضوأ) و (ناسم ويناسم) و (الأصائل العسجدية) و (الخلجان المسحورة) و (حدائق النسيان) و (الكنوز المرصودة) إلى آخر هذا الثبت الطويل
من الألفاظ والعبارات التي تركتهم يحصونها ولا يكادون يفرغون منها لكثرتها. وقد كنت أكتب ما يذكرون منها في ورقة بسرعة فائقة؛ فلما سكتوا سألتهم رأيهم في هذه الكلمات، أشر هي؟ وهل فيها كلمة لم يعمل الدوق السليم فيها عمله؟ وعلام تدل هذه الكثرة العجيبة من تلك الألفاظ والعبارات المنتقاة؟ أهي دليل فقر في محصول الشاعر الأدبي واللغوي، أم هي دليل شئ آخر غير الفقر؟ والمعاني التي تساعد هذه الألفاظ في أدائها؟ ألغو هي؟ أم هي من أدق المعاني وأحلاها وأكثرها طلاوة؟ وهل نسينا أن لكل كاتب ولكل شاعر أسلوبه الخاص، وأن لهذا الأسلوب الخاص مشخصات تشبه علائم الطريق؛ فهي تميزه وتعرف به. . . فالدكتور طه حسين مثلاً يلتزم عبارات تعينها يرددها في كل كتبه أو في معظم كتبه؛ وهو يرددها أكثر مما يرددها أي كاتب آخر، بل لعل معظم الكتاب في مصر وفي العالم العربي لا يرددون من عبارات الدكتور طه حسين شيئاً، تلك العبارات التي يعرف بها أسلوبه بين مائة أسلوب أو أكثر من ذلك لو أنه وضع بينها. وكذلك أسلوب الأستاذ العقاد، ذلك الأسلوب القوي الذي يفيض بفحولة تتعب إفهام القراء أحياناً، وهو تعب تنتج عنه لذة ذهنية عجيبة إذا استطاع القارئ أن يدرك المعنى الحقيقي الذي يرمي إليه الكاتب الكبير، فإذا لم يستطيع القارئ إدراك هذا المعنى أحس عند تلك الفقرة أو ذلك السطر من كتابة الأستاذ العقاد بمرارة، لكنه مع ذلك يمضي في القراءة مأخوذاً بالجمال الكلي عن هذه الجزيئات الهينة. وللأستاذ المازني مشخصات عجيبة في أسلوبه، تميزه من جميع أساليب الكتاب المصريين والكتاب العرب على حد سواء، فهو دائماً (يمط بوز) أبطال مقالاته و (يمط شفاههم!)، وهو مولع بترديد (حملاق العين) في جميع كتاباته أو في أكثرها، وفي قصته الجميلة (إبراهيم الثاني) تردد هذا (الحملاق) أكثر من أربعين أو خمسين مرة كما ترددت هذه العبارات مراراً:
(أي نعم، ليس إلا، لا تجعل بالك إلى كذا، من الحزامة أن تصنع كذا، التبات والنبات، باسها، الحب الآخذ بالكليتين؟)
ولست أدري كيف يأخذ الحب بالكليتين، والذي أعرفه هو الحب الذي يأخذ بمجامع القلوب مثلاً. ولأسلوب الأستاذ (المازني) مشخصات أخرى عجيبة سنعود إليها في موضع آخر إن شاء الله
وللدكتور زكي مبارك مشخصات أسلوبية معروفة لقراء هذه المجلة. وقد ظلمه الأستاذ العقاد حين جرد أسلوبه من (مقومات الشخصية)، ومشخصات أسلوبه أكثرها (أنماط) جامعية.
فهو يكثر من (على التحقيق) و (النص على كذا)، و (هذا معناه) و (هل يمتري منصف في كذا) و (الحقائق الأدبية) و (في الأثر) و (الوارد هو كيت). . . هذا إلى ما تفيض به مؤلفاته من روح الاعتداد بالنفس والزهو الذي أعجب به من زكي مبارك ولا أعيبه عليه. . . ولله ما أطرف ما يجيب به حين يسأل عن هذا فيقول: زمان لا يريد أن ينصفني فلماذا لا أنتصف منه لنفسي!
ولكل من شعرائنا أسلوبه الخاص كذلك، ولولا خشية الإطالة لضربنا الأمثال الكثيرة لذلك، وحسبنا أن نشير إلى اشتراك رجلين من أقطاب شعرائنا الشيوخ في فخامة العبارة وقوة النسج وتخير الألفاظ التي تأتي في قصائدهما كأنها خارجة من كفى لأل؛ أما هذان فهما الجارم ومحرم، وإن لم يصعب على الناقد البصير أن يميز كلا منهما عن الآخر مع اشتراكهما في هذا السبيل.
ومن شعرائنا الشباب عدد كبير يستطيع الناقد كما يستطيع القارئ العادي أن يدل عليهم من أشعارهم وإن لم تحمل أسماءهم، ومن هؤلاء الشعراء الشباب من أغرم بألفاظ خاصة وعبارات بعينها تشيع في معظم منظوماته، وهي مع هذا لا تنقص من قيمة شعره شيئاً، إن لم تكسبه ميزة جديدة فوق ميزاته الكثيرة الرائعة.
(للكلام صلة)
دريني خشبة
أعوذ برب الفلق
من شر ما خلق
للكاتب المجهول
صحوت مع الفجر بعد ليلة حمراء، وهي الليلة التي ولد فيها هذا العام الجديد، صحوت ظمآن، ولكني لم أستسغ الماء، فقد شعرت أنه ذوب من ثلوج الشمال، وعند ذلك هتفت:
(أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق)!
ولكن ما هو الفلق؟
أهو الصبح؟
وكيف وما كان ليلي إلا صبحاً في صبح؟
هو إذن (واد في جهنم)، كما قال بعض المفسرين، وبالله أعوذ، فما يدافع شر غير من خلق جهنم
وجهنم التي أخاف هي الجنية التي أرادت أن تأسرني إلى آخر الزمان، بالعقد الذي لا ينقضه الأحرار وهو عقد الزواج
في عصرية الأمس قال خالها الفرنسي وهو يراني أضحك معها وألعب:
? ' 42
وقد اعتصر الحزن قلبي في تلك اللحظة، لأني كنت اعتزمت فسخ الخطبة، بعد أن رأيت خطيبتي تنقلني إلى وطن غير وطني، وبعد أن رأيت أهلها صاروا أعز علي من أهلي
ومن حالي معها أدركت السر في أن تحرم الدولة المصرية علي سفرائها أن يتزوجوا من أجنبيات
وهل أنسى أني رفضت المشاركة في الاحتجاج على ما صنع الفرنسيون في لبنان؟
من أجل حبها أبيت أن أكتب حرفاً واحداً في تقبيح ذلك الصنيع، فقد بدا لي غير قبيح، لأنه صدر عن أهل سوزان، وصدق شاعرنا العربي حين قال:
ومن بينات الحب أنْ كان أهلها
…
أحبَّ إلى قلبي وعينيَّ من أهلي
إن الدرس الذي تلقيته عنها يفوق جميع الدروس، فقد بدأت أومن بتعلم لغة أجنبية يهاجر عن وطنه بطريقة خفية، وبدأت أفهم كيف صارت الوطنية شريعة عند الفرنسيس
والإنجليز والألمان واليابان
أولئك أقوام لا يعرفون غير لغاتهم، فهم في أمان من احتلال الأفكار والآراء
وهل كان من العبث أن يقول جماهير المشرعين من المسلمين بعدم جواز الصلاة بغير اللغة العربية؟
من المؤكد أنهم كانوا يعرفون أن الله يقبل الصلاة بأية لغة وبأي صوت، ومن المؤكد أنهم كانوا يعرفون أن الله يسمع دبيب النمال كما يسمع قعقعة الرعود
فكيف أوجبوا أن بكون الصلاة باللغة العربية؟
إنهم أرادوا إنشاء قومية لها لغة واحدة، ودين واحد، لتأمن احتلال الأفكار والآراء
ذلك درس تلقيته عن خطيبتي، الخطيبة التي ودعتها عند انتصاف هذا الليل، وإن لم تتلق مني أي جزاء
قالت ونحن نفترق: لن تراني بعد هذا الليل!
فقلت: سنلتقي بأقرب مما تظنين، فلابد للجمر من وقود، وأنت الوقود
وماذا تريد أن تأخذ مني؟
ألا يكفي أنها صيرتني أشهر الدعاة لوطنها الغالي. الغالي على وحدي من أجل حبها. فما تألم روحها يوم سقوط باريس كما تألم روحي. ولا هفا قلبها على فرنسا الجريحة كما هفا قلبي
وأنا برغم بخلها مثن على روحها اللطيف؛ فقد علمتني كيف أدرك قيمة الصورة التي ساقها شاعرنا العربي حين قال:
تعطيك شيئاً قليلاً وهي خائفة
…
كما يمس بظهر الحية الفَرِقُ
لن ينقضي عجبي من الفروق بين الأرض والناس
أرض فرنسا هادئة من قديم الزمان، وهي قليلة التعرض للزلازل والبراكين، وقد رأيت بعيني كيف جلدوا عِرقاً نبض من نهر السين وهم يمرون من تحته قطار المتروبوليتان، فكيف يكون أبناء تلك الأرض الهادئة الثابتة ثواراً ومتقلبين في أكثر الأزمان؟
وأرض اليابان معرضة في كل وقت للزلازل والبراكين، ومع هذا عرف اليابانيون بالقرار والاطمئنان، على اختلاف الأحداث والأزمان فما هذا الذي نرى من الفروق بين الأرض
والناس؟
ولكن كيف عرفت أن اليابانيين أهل قرار واطمئنان؟
كيف فرفت ذلك ولم أزر اليابان، لم أعرف من أوصاف أهلها غير أشياء لا تتصل بأعماق النفوس؟
لو كان لي حظ التعرف بصديقة يابانية لأدركت شيئاً من السريرة اليابانية، على شرط أن أتكلم لغتها الأصلية
اللغات أنفاس، فلا تصدقوا من يزعم أنه صافح روح شاعر وهو يقرأ شعره مترجماً إلى إحدى اللغات، ولا تصدقوا من يتحدث عن بلاد زارها وهو يجهل لغتها كل الجهل أو بعض الجهل، وإنما نصصت على (بعض الجهل) ليفهم ناس من خلق الله أن الذي لا يتعمق في لغة من اللغات لا يجوز له أن يقول إنه يعرف تلك اللغة، فالمعرفة الناقصة أخطر من الجهل لأن الجاهل يقف عند حده فلا يتزيد ولا يستطيل، أما ناقص المعرفة فقد يوهمه الغرور أنه أعلم العلماء، فيؤذي نفسه قبل أن يؤذي الناس
وخطيبتي التي فارقتها بالأمس هي إحدى بنيات لطيفات من اللواتي عرفت في القاهرة أو في باريس، وحالي معها كان عجباً من العجب، فقد رضيت عنها ورضيت عني، مع أن حياتنا سلمت من جميع الأسواء الروحية والوجدانية، في زمان لا تأنس فيه روح إلى روح بمعاقرة الأهواء
كان الزواج هو الغاية التي نريد، وقد كان يجب أن نسارع قبل أن تفضحنا الأقاويل، فما الذي وقع في تلك الليلة الحمراء، وقد سبقته تماهيد؟
بدا لي أن لجاجة العاطفة وصلت إلى أبعد حدود العنف، فرأيت أن أستعير خيالاً من العقل الذي عشت به سنين. وهل بقى لي من العقل إلا طيف من خيال؟
فكرت فيما تمناه لنا خالها العزيز، وقد عاش اثنين وأربعين عاماً وهو سعيد بالزواج. ثم افترضت أن سعادته الزوجية دامت لأنها بنيت على الهدوء، والعاطفة الهادئة تبنى برفق؛ فمالي أتعرض لعاطفة مجنونة الجموح؟ وكيف أسمح لهذه الجنية بأن تزلزل الخيال الباقي من عقلي!
لقد راعني بكاؤها فبكيت
قالت بصيغة الاستفهام لا التقرير:
?
فأجبت بالصمت
ومن قال إني سأرجع؟ ومن قال إني سأراجع؟
ذلك فراق، ليس بعده تلاق
لن يؤذيني أن تخرجي من سمائي، فإني واثق بأني سأجد هواي حين أشاء، وإنما يؤذيني أن أتصور أنك يئست من وفائي، وأنك صرت يتيمة بعد أن خمدت نيران أشواقي، ولن تخمد نيران أشواقي
لن يصلح ما بيننا إلا إن سمعت شكواي: هذا الصدر يسير عارياً في كل يوم، كسائر صدور النساء في هذا الجيل، فكيف يهادن جميع الرجال، ويحاربني وحدي؟ وهذه العيون توجه نظرات وغمزات، ولا تأسر أحداً، مع أنها تخاطب جميع الخلائق، فكيف تأسرني وحدي؟
قلبي هو القلب، وجمالك هو الجمال، والناس ما عدانا خيال في خيال
لا تسأليني عن حالي، فأنت حالي وأحوالي، وأنت ماضي وحاضري ومستقبلي، وأنت ضميري المركوز في ضمير الوجود
لن أيأس منك، ولن تيأسي مني، ولن يقول قائل إني فارقت هواي في لحظة من لحظات الغضب أو العناد أو العتاب
أنا حاربت فرنسا وهي صحيحة، وسالمتها وهي جريحة، وأنت الخيال الزائر من ذلك البلد المحبوب
لن أشمت بفرنسا مع الشامتين، ولن أذكرها بغير الجميل، وإن جانبت الجميل
قال الجنرال دي جول: لبنان وديعة في يدي وسأسلمه لفرنسا
يقول هذا القول وهو مغلوب، وتلك غاية الغايات في صدق الوطنية، وأنا أمجد هذه الوطنية، وأتمنى مثلها لنفسي
إن الاستعمار من أنصبة الأمم القوية، فمتى نكون من المستعمرين، كما كان الآباء والأجداد؟
آفة الاستعمار هي التسلط الغاشم، تسلط الحاكم الجاهل الذي يقول كما قال بعض حكام فرنسا في الهند الصينية:
ولا بد لنا من استعمار نجرب فيه أخلاقنا السياسية، وفي السياسة أخلاق، إذا تولاها عظماء الرجال
والاستعمار لم يعد صعباً كما كان قبل أعوام قصار لا طوال، كان الاستعمار يحتاج إلى جيوش برية وبحرية، وهو بعد اليوم سيكون في ميدانين اثنين: ميدان الأدب وميدان الاقتصاد، وسلاح الأدب هو الصدق، وسلاح الاقتصاد هو الأمانة، فلنحرص على أن نكون الصادقين الأمناء
أما بعد، فأنا لا أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، وإنما أعوذ برب الفلق من خير ما خلق، وهو الجمال
ومعنى هذا أني سأراجع خطيبتي الغالية، وهي الفتاة الملثوغة الراء
إنها تحاول أن تنقلني إلى وطنها، وأنا أحاول أن أنقلها إلى وطني، وسنرى بعد قليل من الغالب ومن المغلوب
للشعر في وأسها بريق سرقت شعاعه من نيران قلبي والتموج في خدودها مسروق من نموج أشعاري
وسحر عينيها الزرقاوين منهوب من سحر عيني الخضراوين وتبارك الذي تفضل فجعل لون عيوني مما يهيج الحيات السود سنفترق؟ سنفترق؟
هو ذلك إن جاز أن تزهد العيون في الضياء
يا بنت فرنسا الغالية، تذكري ليالي وأيامي، وارحمي من يصعب عليه أن تجرحيه، وهو الصديق الأوحد لوطنك الجريح
لن نفترق، لن نفترق، وهل نستطيع أن نفترق؟
وإذا أرادت الطبيعة أن نكون خائنين، فلنكن خائنين، لتتحرر من مواثيق الجهلاء، وما هي الطبيعة التي يتحدثون عنها جاهلين؟
الطبيعة هي الصدق في تلوين ما خلق الله من حقائق الوجود وسيكون هوانا تعبيراً أبديا
عن ضمير الوجود. . . ومقالتي هذه تصوير لمحنة روحية لن تخمد قبل أن تخمد النيران الصواريخ في ضمائر الجبال.
(الكاتب المجهول)
كتب وشخصيات
4 -
الصديقة بنت الصديق. . . للعقاد
للأستاذ سيد قطب
مدرسه العقاد
في الأدب والحياة
كل ما قلته عن (حدود المدرسة الأدبية) في كلمة سابقة من هذه الكلمات، يمكن تطبيقه بلا تحفظ على (مدرسة العقاد)؛ فهي مدرسة في الأدب كما أنها مدرسة في الحياة، يلتقي منها تلاميذها على سنن واضح ونهج صريح، ويجدون فيها تفسيراً معيناً للحياة والفنون، يشتمل نوع الإحساس ولون التفكير، وطريقة التعبير، بل يشتمل فوق ذلك قواعد المنطق والسلوك، وتقوم الأشياء والأشخاص، وتقدير الحوادث والأعمال!
وهي مدرسة متبلورة، واضحة السمات، لا يجد الناقد مشقة ولا عسراً في اختيار عنوان لها، يمثل ويلخص أكبر ما تستطيع العنوانات تمثيله وتلخيصه
هي مدرسة (المنطق الحيوي)
والنسبة هنا إلى (الحياة) وإلى (الحيوية) جميعاً. . . إلى (الحياة) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو ما تقوله الحياة وما تصنعه، ومنطقها هو المنطق المطاع في جميع الأحوال.
كل ما تصنع الحياة يُرجَّى
…
من بنيها قبوله واغتفاره
فإذا أنكروا قبيحاً، ففي القبـ
…
ح من الموت لونه أو شعاره
وإلى (الحيوية) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو باعثه، ومدى الحيوية في هذا الباعث. وقد تتشابه مظاهر الأقوال والأعمال ولكنها تتفق في (الرصيد) المكنون لها من الباعث الحيوي ليتوحد الحكم عليها، وقد تتفق مظاهرها ولكنها تختلف في الرصيد فيكون ذلك مناط الاختلاف
أستاذ هذه المدرسة الأعظم هو الحياة ذاتها، لا الفكر المجرد، ولا المنطق الذهني، ولا مواضعات المجتمع الاصطلاحية، ولا قواعد الخلق المتعارفة، ولا المذاهب الفنية المعنونة.
إنها ترجع إلى النبع الأول تستقى منه، وإلى الناموس الخالد تتوخاه، ترجع إلى الحياة الطبيعية فتتلقى عنها مؤثرات الإحساس، وقواعد المنطق، وطرائق التعبير، كما تتلقى أصول السلوك ونواميس الآداب وقوانين الأخلاق سواء بسواء
ولكن عدداً من المدارس يمكن أن يتتلمذ على الحياة ثم يختلف في مناهج الدراسة. وهنا تسعفنا نسبة المدرسة العقادية إلى (الحيوية) في تحديد المنهاج. فالحيوية الفائضة المتدفقة، الحيوية الظاهرة والباطنة، حيوية الحس والوجدان، حيوية الطبع التي تفيض على الحواس والذهن والضمير في آن. . . هي السمة التي تعجب بها مدرسة العقاد، والتي تصدر عنها في السلوك والاعتقاد، وفي الفنون والآداب
ولما كانت الحياة هي الأستاذ الأعظم للمدرسة، فلا عجب أن يكون طابعها هو الاستقلال في التلقي عن هذا الأستاذ - في حدود السمات العامة لها - وأن يكون عمل العقاد فيها هو عمل الرائد الذي يكشف النبع، ويمهد إليه الطريق. وهناك يلتقي تلاميذه ومريدوه - وهو معهم - بين يدي الأستاذ الأعظم. وفضله عليهم هو فضل السبق والإجادة، وعملهم معه هو عمل المتذوق الفاهم المريد، لا عمل المقلد الناقل المقود. فليس بتلميذ أصيل في مدرسة العقاد من يغفل عن نفسه ليقلده، ومن يسلك طريقه ولا يستمد من النبع الخالد معه، لأنه إنما يضيع في هذا السلوك سمة المدرسة الأصلية، وهي سمة الاستقلال في الأخذ المباشر عن الحياة.
والعقاد - رائد هذه المدرسة - هو ابن الحياة البار. ابن هذه الحياة القائمة على هذا الكوكب، لا أية حياة أخرى في أي كوكب آخر، هذه الحياة بقيودها وضروراتها، وبآمالها وأشواقها. الحياة الظاهرة للحس واللمس، والمكنونة في القلب والضمير. وهو - قبل كل شئ - إنسان حي، ملء إهابه حياة، بل هو رسول من رسل الحياة المفوضين، وداعية من دعاتها المخلصين
وما عن ضيق في آفاق النفس والحس تستغرق الحياة حس العقاد ونفسه، ولكن عن سعة وضخامة في هذه الحياة تستغرق الحس والشعور
يا طالباً فوق الحياة مدًى له
…
يسمو عليها، هل بلغت مداها
ما في خيالك صورة تشتاقها
…
إلا وحولك لو نظرت تراها
على أننا لا نعتمد في تقرير هذه الحقيقة على ما يقول، فقد يستوحي الأديب قراءاته أو أفكاره ثم يقول! ولكننا نعتمد على الإنسان الحي في العقاد، وعلى سلوكه في حياته الشخصية والسياسية والفنية، وعلى انتباهه الحاد لكل نيضة حية في نفوس الآخرين وسلوكهم، ولكل التفاتة منهم إلى الحيوية النابضة في الكون والحياة. وذلك هو البرهان الحي الصحيح في فهم الطبائع والخصائص والاتجاهات.
وأدوات الاتصال بالحياة عند العقاد هي حواس يقظة متفتحة، تؤدي إلى حس متوفر مكتمل، يفضي إلى وجدان زاخر عميق، ولهذه الأدوات كلها مدد من بداهة الطبع وومضات الفكر، وسبحات الروح، في توازن وانسجام وإن الاتصال بينه وبين الحياة ليتم تارة من الخارج إلى الداخل، وتارة من الداخل إلى الخارج (إذا لم يكن بد من هذا التجسيم). . . حاسة توقظ حساً فيذكو ويتوهج، وحس يثير وجداناً فيشع ويفيض. أو وجدان ينفعل ليوقظ الحس فيفتح الحواس. وهذا وذلك على حسب الحالات النفسية وعلى حسب المؤثرات المختلفة. وإن المنافذ لمفتوحة علواً وسفلا، بل لا علو ولا سفل، إنما هي قوة واحدة متعددة المنافذ مشتبكة المسالك، متصلة بالحياة، تلتقي فيها الأرض بالسماء، بل لا أرض هناك ولا سماء، إنما هو عالم واحد والروح والمادة مظهران لحياة واحدة و (الدنيا جمال نصل إليه من طريق الضرورة، وروح نلمسها بيد من المادة)
وهذا العالم الواحد هو الذي ندرك الظاهر منه بالحس والحواس، وندرك المكنون منه بالبداهة والوجدان، أو ندركه ظاهراً وباطناً في لمحة واحدة بجميع هذه الأدوات؛ فما ظاهره إلا رمز لمكنونه. وقيمة هذا الظاهر مستمدة مما يرمز إليه من مكنون وكلاهما حق وصدق لأنهما شيء واحد في النهاية!
قالوا الحياة قشور
…
قلنا فأين الصميم
إن الحياة حياة
…
ففارقوا أو أقيموا
ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان
بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة وتسيطر على أقدار الفرد والنوع، لمصلحة هذه الحياة نفسها وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة!
هذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد فيه من هذه وفيه من تلك على غير بينهما ولا انفصال
ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن، ويقظة الوعي وشيكا أن يبذل قواه كلها للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع يجرف قوى الذهن والوعي لتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد منه القوة وله عليها السيطرة في النهاية!
وكثير من الفنانين يقوم في نفوسهم صراع بين مثلهم العليا وبين سلوكهم في الحياة. بين ما يصطرع في كيانهم من غرائز يستقذرونها وما يحلق في أرواحهم من أشواق يهفون إليها؛ فأما العقاد فقد عقد صلحاً مبكراً بين غرائزه ووجداناته فهو لا يفعل ما يستقذره ولا يستقذر ما يفعله، وبين ذلك قوام! وللحيوية عند العقاد شفاعتها الحاضرة فيما تأخذ وما تدع من الأمور. . . أأقول شفاعتها؟ ألا إنها ليست في حاجة إلى الشفاعة؛ فهي نفسها الشفيع الذي لا يرد له كلام، والمقوض الذي لا يسأل حتى عن أوراق الاعتماد! وليست هي إذن في حاجة إلى الشفاعة والاعتذار بقدر حاجتها إلى الثناء والإطراء. هكذا يعجب بمحمد في الأنبياء، وعمر وأبي بكر والإمام في الخلفاء، وبالصديقة بنت الصديق في النساء، كما يعجب بالمتنبي وابن الرومي في الشعراء، وبنيتشه وجيته في الأدباء، وبسعد ومصطفى كمال في الزعماء. . . وهؤلاء وأولئك وسواهم ممن نالوا إعجابه، إنما يلتقون أولاً في صفة الحيوية، ثم يختلفون في مدى هذه الحيوية ونوعها، وفي اتجاهها ومظاهرها كل حسب وظيفته في الحياة
وإن إعجاب العقاد بالحيوية ليطرد فتنشأ عنه آراؤه في الحياة والأخلاق، وفي الانفعال والسلوك، وفي الأحداث والأشخاص، وفي الفن والنقد. وما من رأى له في المدارس الأدبية وفي طرائق الأدباء، وفي الفن والسياسة وفي الارتياء والاعتقاد، يبهم أو يستغلق إذا عالجه الناقد بهذا المفتاح!
أعمال العقاد الفنية لتؤلف جميعها نشيداً واحداً مطرداً في تمجيد الحيوية بكل معانيها
وأشكالها، منذ الجزء الأول من ديوانه إلى الجزء الأخير، ومنذ (خلاصته اليومية والفصول) حوالي سنة 1914 إلى مؤلفاته الأخيرة سنة 1944. وتلك علامة الصدق بلا جدال
وإنه ليسير في فلسفته الموحدة، في طريقه المستقلة، فيلتقي بالكثير من الأدباء والفلاسفة والمفكرين في الشرق والغرب، ولكنه لا يساير أحداً منهم إلا إلى المدى الذي يتفق مع فلسفته الخاصة، ثم يفترقان فيمضي هو على نهجه بطريقته، ويدع صاحبه يمضي لطيته، في سلام أو في خصام! وهنا يقول من لا يلتفتون لغير الظواهر: إنه يأخذ من هذا أو من ذاك على معنى غير معنى الدراسة والالتقاء
ولابد قبل أن تختم هذه الكلمة أن نلاحظ بحق سعة في النفس والفكر تجعل هذا الرجل ذا الشخصية الواضحة والفلسفة الخاصة يستمع ويهش ويتجاوب مع جمع حاشد من أنماط الشخصيات والفلسفات
من المعري الذي يقول:
تسريح كفك برغوثاً ظفرت به
…
أبر من درهم تعطيه محتاجاً
إلى المتنبي الذي يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
…
وبالناس روَى رمحه غير راحم
ومن ماكس نوردو إلى شوبنهور، ومن تاجور إلى نيتشه، ومن جيتي إلى توماس هاردي، ومن خالد بن الوليد إلى عمرو ابن العاص، ومن مصطفى كمال إلى غاندي، ومن عمر بن أبي ربيعة إلى جميل بثينه. . . إلى آخر هذه الشخصيات التي لا تقل الفوارق بين كل اثنتين منها وبين كل واحدة منها والأخرى عن الفوارق بين المعري والمتنبي في شتى الاتجاهات
ولا بد أن نلاحظ بحق كذلك تلك المقدرة التي تقيم عظمة أبي بكر أمام عظمة عمر الندين المتقابلين في نوع العظمة، والتي تفسر تصرف عمر مع خالد، وتصرف عائشة مع علي، والتي تنصف الإمام من الصديقة، وتنصف الصديقة من الإمام
وليس هذا عن منطق لبق، ولا عن مهارة ذهنية، إنما هي سعة في النفس، ورحابة في الفكر، وانفساح في الإحساس، لرؤية جميع الجوانب، وتحليل وجهات النظر، وتفسير جميع
النزعات
هذا ولم يتسع المجال لأن نذكر شيئاً عن خصائص العقاد الفكرية، خصائص التحليل والتعليل، تلك التي تطرد في كل ما يكتب، وإن كان اعتماده الأكبر في التعليل والتحليل على المنطق الحيوي لا المنطق الذهني. وخلاصة ما يقال في دراساته التحليلية أن (برهانه المفصل تابع لاعتقاده المجمل، وليس اعتقاده تابعاً لبرهانه في كل حين، كما يقول هو في إحدى مقالاته عن نموذج من الناس يستحسنه ويؤمن على طريقته في الاستدلال
ولم نجل كذلك طريقته في العرض، وأسلوبه في التعبير، ولعل القارئ يجد شيئاً من هذا فيما كتبناه عند الموازنة بينه وبين المازني، وفيما كتبناه في العام الماضي عن (عبقرية محمد) وهي نموذج كامل لدراسة الشخصيات.
وبعد! ألا كلمة عن (الصديقة بنت الصديق) صاحبة المقال؟! إن قلة السطور الباقية لتعجلني عن كثير، ولكنني أملك أن أقول: إن عائشة المرأة، وعائشة الأنثى، وعائشة المسلمة، وعائشة زوج النبي، وعائشة الإنسانة تبدو على أوضح ما تكون في هذا الكتاب الأخير
ولقد وقع اتفاق عجيب في موعد هذه الدراسة. ذلك هو التوافق بين السن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يهش فيها لعائشة ويستروح ويتقبل بسرور ونشاط مقتضيات سنها وصباها وبين السن التي بدرس فيها العقاد شخصية عائشة (رضى الله عنها)،
وإنه ليخيل إلي أن هذا التوافق كان واضح الأثر في انفعال العقاد لهذه الشخصية الحلوة الكريمة وصحة فهمه لحوالجها وتصرفاتها
وهذا الكتاب الجديد امتداد وتكملة لعبقرية محمد، كما كانت عائشة امتداداً وتكملة لحياة محمد، وقد جمعهما أسلوب العقاد الفنان على نسق اجتماعهما في الحياة قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان.
سيد قطب
إلى الأديب (محمد العلائي)
للدكتور عزيز فهمي
(ذكرى أول لقاء على صفحات الرسالة، وقد نشرت له (على ضفاف الجحيم) في العدد 549 صفحة 36 قصيدته)
أنَرْتَ كامنَ أشجاني وآلامي
…
وَضَجّ جنبي على (خَفّاقِه) الدامي
يا أيها الشاعرُ المحزومُ لا سَعَبا
…
- كما تقول - ولكن روحُك الظّامي
إن (عربد الشكُ) - والتعبير مُبْتكرُ -
…
في ساعِة اليأسِ عَرْبدْ بعض أنغام
في نور قلبكَ من شمس الضحى عِوَض
…
فاقْبِسْ من النور أو أشرق بإلهام
إن (الحقيقة) ظظِلٌّ حائل أبدا
…
يحومُ والناسُ في ماخور آثام
دون (الحقيقة) سدُّ هائل عَرِم
…
من التقاليد محفوفُ بأوهام
وما الحقيقةُ إلا ما يزُوِّرُهُ
…
خيالُ مُتَّجِرٍ أو عْجُز أقزام
غرائز الناس تأْباها مجردة
…
وَيُدْعِمُ الزورَ منهم كُلُّ هدام!
(خلا المُصلَى) ولا محراب تنظره
…
وعسعس الليل في بيداء أحلام
وَطُفْتَ بالمعبد المجزون تسأَله
…
أين المسيح وأين المبدأ السامي؟
وتمتم الكاهن الدجال أُغنيةً
…
وأطفأَ الشمع إلا حول أصنام
كَفَرْتَ بالإثم واجتاحتك عاصفةٌ
…
في لجة الشك حول الساحل الطامي
وَهْمتَ في الأرض (مخدورَ المُنى شَرِقا)
…
تقول (يا وحدتي) في ليل إحرامي!
أخي! وإن لم تصلنا بعدُ رابطةٌ
…
من الوداد ولم نوصل بأَرحام
عَظَّمْتُ شعرك عذباُ في فحولته
…
قبل الأوان فلم يُخْطِئْكَ إعظامي
ورق قلبي وراق اللحن في أذني
…
- أنا العنيد - كما يحتج لَوَّامي
يصيب سمعيَ وقْرٌ من مباذِلهم
…
إذ يُقحمون ركيكا شر إقحام
كذلك الشعر فاصدح في خميلته
…
أعوذ بالشعر من أنغام نظَّام!
عَصَرْتَ من كَرْمَهْ الحرمان خَمْرته
…
ففاحت الكأس في (جَوِّى وأنسامي)
وفي البواكير طعم لا يَلَذُّ به=إلا عليم بطعم الخمر والجام
نزحتَ دمعي فليت الدمع يشفع لي
…
وليت نفسك ترضى بعد إحجام
عزيز فهمي
البريد الأدبي
حول خلود الروح
عقيدة خلود الروح من العقائد الغامضة المغلفة بالأسرار، ولذلك فقد لقيت على مر العصور نقداً عنيفاً، وطعناً جارحاً. ولعل أقسى ما وجه إلى هذه العقيدة من حملات، تلك الحملة الشديدة التي شنها عليها الفيلسوف الألماني أرنست هيكل في الفصل الحادي عشر من كتابة (لغز الكون) وقد انتهى هذا الفيلسوف من نقده إلى القول بأن (الإيمان بخلود النفس الإنسانية إنما هو عقيدة تتناقض تناقضا صارخاً مع الحقائق التجريبية الثابتة للعلم الحديث). ولكن خلود الروح - على الرغم مما أدلى به هيكل وغيره من الفلاسفة - لا يزال حقيقة عزيزة على الإنسان. وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الأستاذ زكي نجيب محمود بعدد الرسالة الممتاز تحت عنوان (هجرة الروح) لنتحقق من أن الإنسان لا يسعه أن يطلق هذه العقيدة، ولو قام على بطلانها ألف دليل! وإذا كان فولتير يقول لنا (إننا إذا فكرنا في البرغوث لم يخطر ببالنا أن له نفساً خالدة؛ فلماذا إذن أعتقد أن لي نفساً خالدة؟ لماذا يتملق الناس أنفسهم ويغترون بأنهم هم وحدهم الموهوبون بعنصر الخلود والروحانية؟ لعل السبب في ذلك زهوهم المفرط. وإني أشعر أنه لو كان الطاووس يتكلم لأعرب عن إعجابه بنفسه، وادعى أن مكان النفس من جسمه هو ذنبه الجميل!) إذا كان فولتير يقول هذا؛ فإن في استطاعتنا أن نرد عليه فنقول: (أليس أمل الإنسان في خلوده بعد الموت دليلاً على خلوده؟ إن رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً. فالزهرة والنملة فانيتان وهما لا تنشدان خلوداً، أما الإنسان فراغب فيه ساع إليه، ويستحيل أن يكون له ذلك ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد)
أجل، إن العقائد لا تبنى فقط على العقل، ولكنها تبنى أيضاً على الشعور، وقد فطن إلى هذا أحد الباحثين - وهو سترلانج - فقال: (إنني أعلم علم اليقين أنه ليس يكفي أن أرغب في امتلاك القمر، لكي ينعطف إلى هذا القمر، كما أنه ليس يكفي أن أصبو إلى مجد نابوليون لكي يسعى إلى هذا المجد، ومع ذلك فإني أقول إنه يكفي أن أرغب في خلود النفس لكي يكون هذا الخلود حقيقة ثابتة لها وجود. فما هو الفارق إذن؟ إنه لفارق كبير، وبيان ذلك أن الرغبة في نيل القمر، والطموح إلى مجد نابليون، لا يعدو كل منهما مجرد
تهاويل شخصية ليست نتيجة لطبيعتي إن في كثير أو قليل. أما رغبتي في الخلود فهي ظاهرة أولية عامة لها أساس في الطبيعة الإنسانية كلها)
أما الاعتراضات التي تثار ضد عقيدة خلود النفس فقد تكفل بالرد عليها الكاتب الفرنسي شاتوبريان في كتابه: (عبقرية المسيحية)(القسم الأول، الكتاب السادس، الفصل الرابع). وهذه الاعتراضات كلها يمكن أن تنحل بسهولة، إذا عرفنا أنه لا يجب علينا أن نتخذ من جهلنا لبعض التفاصيل والجزئيات ذريعة للقول بفساد العقيدة كلها. ويعجبني في هذا الصدد قول ترتليانوس (أبن لي الحالة التي أنت عليها، أقل لك الحالة التي ستصير إليها)
زكريا إبراهيم
حول ختان البنات في مصر
كتب الدكتور الفاضل (ع. أسامة) في هذا الموضوع الهام مقالاً ممتعاً في رقم544 من مجلة (الرسالة) الغراء، وقد ورد فيه بعض نقط دفعتني إلى ما يأتي:
يقول الدكتور الفاضل: (تختص مصر بهذه العادة دون سائر بلاد العالم المتمدن، إذ لا يشاركها فيها سوى قبائل السودان وأواسط أفريقيا). والواقع أن الشعب السوداني كله مختص بهذه العادة، ولم يستطيع الخلاص منها رغم الجهود العظيمة التي يبذلها شبابه وشيوخه بين حين وآخر أملاً في أن يقلع هذا الشعب المسلم عن هذه العادة الضارة
وقد كتب الدكتور السوداني سيد أحمد عبد الهادي مقالا عام 1939 في جريدة النيل السودانية مشابهاً لما كتب الدكتور أسامة عن هذه العادة، وبناء على ما جاء في مقال الدكتور سيد أحمد أفتى فضيلة مفتي السودان بما يحرم ختان البنات بهذه الطريقة التي كتب عنها الدكتوران. وتسمى عندنا (الفرعونية). والمعروف أنها انتقلت إلى السودان من مصر. وقد كان لإثارة هذا الموضوع آنذاك آثار حسنة ظاهرة، ولكنها ما لبثت أن اختفت مع مرور الأيام. وأكبر الظن أن الدافع إلى الدكتور السوداني إلى الكتابة في هذا الموضوع كان ما تتكبده المرأة السودانية من ألم وصعوبات عند الوضع. الأمر الذي يترتب عليه كثير من حوادث الوفيات بين النساء
أما سكان أواسط أفريقيا الوطنيون فهم قوم ما زالوا على الفطرة، ولم ينتشر بينهم ختان
البنات والأولاد على أية طريقة ما إلا في اندر الحالات التي لا تبرر ذكرهم في كلام الدكتور أسامة. ومع ذلك فقد لا ينعدم بينهم (الخرافات المتعلقة بالاعتقاد في إصابة بعض النساء بالجن والمشايخ والأسياد، وما يجده الدجالون من سوق رائجة بينهن باستغلال هذه المعتقدات)، ولهذه المعتقدات في أواسط السودان وشماليه أثر ظاهر يماثل أثرها في مصر، ولكنها في جنوبيه لا يوجد لها أثر مرتبط بهذه الناحية
هذا ما عن لي أن أذكره شاكراً للدكتور أسامة جهوده وغيرته، وأرجو أن يوفق فيما دعا إليه. خصوصاً في هذا الظرف الذي يحتم على أبناء الشرق أن يصلحوا من حالتهم الاجتماعية التي هي أساس كل تقدم يرمون إليه
(وادي حلفا)
سليمان نجيت
في الصديقة بنت الصديق أيضا
كان الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد منصفاً كل الإنصاف في اختيار العنوان لرده على المآخذ التي وجدتها أنا وبعض الفضلاء في كتابيه: (الصديقة بنت الصديق) و (عبقرية الإمام)، ولكن ما أجاب به عن الأمرين اللذين أخذته بهما لم يصب عين ما أردت منهما، لأنه جرى فيما أجاب به عن الأمر الأول على مذهب ضعيف للنظام في الصدق والكذب، وهو أن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد، والكذب عدم مطابقته له. والصحيح مذهب الجمهور في الصدق والكذب، وهو أن الصدق مطابقة الخبر للواقع والكذب عدم مطابقته له. فالنبي صلى الله عليه وسلم حين رأى شبهاً بينه وبين ابنه إبراهيم يرى أنه يشبهه في الواقع، وعائشة حين قالت له إنها لا ترى شبها بينهما، ترى أنه لا شبه بينهما في الواقع، وفي هذا تكذيب له غير لائق، ولا سيما أن ألسنة المنافقين كانت تلوك في أمر مارية حين سأهم ولادة إبراهيم ما لاكوه في عائشة، وهي أكبر من أن تقابل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول الذي يرتاح له أعداؤه من المنافقين. وقد قال الأستاذ العقاد:(فالتكذيب هنا إنما يكون إذا قالت إنك يا رسول الله لا ترى شبهاً بينك وبين إبراهيم. أما أن تقول عن نفسها إنها ترى الشبه وهي لا تراه، فذلك هو الكذب الذي ينبو عنه مقامها). وإني أقول إن هذا
هو مذهب النظام في الصدق والكذب بعينه، ومؤاخذتي للأستاذ العقاد في ذلك الأمر لا تقوم على أسامة
وأما جوابه عن الأمر الثاني فقد خرج فيه عن الذنب الذي قذفت به عائشة، وطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الخبر أن تعترف به وتستغفر منه إن كانت ألمت به، فالذنب الذي قذفت به هو الزنا، وهو يخالف سائر الذنوب في انه يندب للحاكم إذا أقر به شخص عنده أن يعرض له بالرجوع عن إقراره، فكيف بطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن تعترف به إن كانت ألمت به. على أن الاعتراف بالذنب ليس من أصول الإسلام في شيء، وإنما هو أصل من أصول المسيحية. وقد جاء في بعض الأحاديث أن الله يحب من العبد إذا ارتكب ذنباً فلم يفضحه أن يستره عن الناس. فالذي أنكره من ذلك الخبر هو ما فيه من طلب اعتراف عائشة بذنب لا أساس له، وما فيه من إفادة شك النبي في براءتها مما قذفت به، وفي جواب عائشة عن ذلك أكبر دليل على ضعف ذلك الخبر.
عبد المتعال الصعيدي
لبشار أم لكثير عزة؟
في الرسالة (543 - 959) كتب الأديب عبد الحميد عثمان عبد المجيد كلمته تساءل فيها: كيف أورد مؤلفاً قصة الأدب في العالم الأبيات البائية المشهورة التي نسبها صاحب الأغاني إلى بشار - تساءل كيف نسبا هذه الأبيات إلى كثير عزة؟. . .
ويظهر أن الخلاف في قائل هذه الأبيات قديم جداً، وأن الخلاف في القائل واسع لا يقف عند بشار وكثير عزة. والظاهر أن بعض الكتاب القدماء نسب هذه الأبيات إلى ذي الرمة أيضاً؛ فقد ذكر صاحب مصارع العشاق أن كثير عزة خرج مرة للقاء عزة واشتدت به الحال فأنشد:
يزهدني في حب (مية) معشر
…
قلوبهم فيها مخالفة قلبي الخ
ثم قال: (هكذا رواه ابن اسحق، وقال الشهاب محمود بذلك ونقل في الطبقات الأبيات إلا أنه قال:
يزهدني في حب (عزة) معشر. ثم قال هذه الأبيات لكثير عزة، وقد توهم قوم أنها لذي
الرمة بدليل قوله:
يزهدني في حب (مية) معشر، وليس كذلك. وإنما كان سهواً
هذا كلامه بالنص ومنه يعلم أن هناك من نسبها إلى ذي الرمة، ولكنه رحمه الله يجزم - كما ترى - أنها لكثير عزة، وهذا الجدل والدفع والجذب يقوم، مع أن الأصفهاني ذكر الأبيات في شعر بشار بغير خلاف!
وليس هذا بأول خلاف ولا بآخر جدل يقوم على بيت من الشعر وتعيين صاحبه. والقطع برأي في مثل هذه المسائل يحتاج إلى شيء من الدقة وشيء من التريث. ولا بد من الرجوع إلى كل ما يكن الرجوع إليه من المراجع والموسوعات
برهان الدين الداغستاني
القصص
الاعتراف. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
بقلم الآنسة درية رستم
كانت مرجريت دي تيرول تعاني سكرة الموت وهي بعد في الواحدة والخمسين من سني حياتها؛ إلا أنها كانت تبدو لرائها على الأقل في الخامسة والستين. . . وراحت تتنفس وهي أشد أصفراراً من أدثرتها. . . تخالج جسدها رعشات هائلة. . . شاحبة الوجه. . . زائغة البصر، كما لو كان شيئاً هائلاً يلوح لها. وراحت شقيقتها الكبرى (سوزان) تنتحب، وهي تكبرها بعشر سنوات، وكانت جالسة بالقرب من السرير، وكان بالقرب من فراش المحتضرة منضدة عليها مفرش من فوقه شمعتان مشتعلتان. . .
كانتا في انتظار القس الذي كان من واجبه أن يقوم بمباركتها البركة الأخيرة ويقدم القربان المقدس. وكان للمسكن ذلك المنظر المشؤوم لحجرات الموتى، منظر الوداع الذي لا لقاء بعده. . . زجاجات الدواء على كل قطعة من الأثاث. . . والملابس ملقاة في كل ناحية من نواحي الغرفة. . . مدفوعة بركلة قدم أو بضربة مكنسة. . . حتى الأرائك كانت في غير أماكنها المعدة لها. نعم فقد كان الموت المروع ثم مختبئاً منتظراً. . .
كانت قصة الشقيقتين تستدعي رحمة القلوب وإشفاقها. . . وراح القوم يروونها من زمان بعيد وهي بعد تستدر عبراتهم
كانت سوزان في ميعة صباها يحبها فتى إلى حد الجنون. . . وكانت تبادله الحب. . . وإذ لم يعد على زواجهما غير أيام معدودات مات (هنري دي سابير) فجأة. . .
ولقد كان يأس الفتاة قاتلاً حتى لقد أقسمت ألا تتزوج أبداً. . . والحق أنها برت بقسمها وعاشت عيشة العوانس، ولم تشذ عن عادتها مطلقاً
. . . وذات صباح جاءتها شقيقتها. . . شقيقتها الصغرى (مرجريت)، ولم تكن بعد قد تعدت الثانية عشرة وألقت بنفسها بين ذراعي شقيقتها الكبرى وقالت لها:
يا شقيقتي الكبرى. . . إنني لا أريد أن تكوني تعسة. . . لا أريد أن تبكي طول حياتك. .
أبداً لن أغادرك أبداً. . . وأما عن نفسي فلن أتزوج، وسأظل دائماً إلى جوارك دائماً. . . دائماً. . . واحتضنتها سوزان متأثرة بهذا الإخلاص من طفلة. ولكن الطفلة عملت بقولتها، وعلى الرغم من توسلات أبويها وتضرعات شقيقتها لم تشأ أن تتزوج. . . ولقد كانت جميلة بارعة الجمال، وردت كثيراً من الشبان الذين كانوا يلوحون أنهم يحبونها. . . لم تغادر أختها مطلقاً!
وعاشتا معاً طيلة إقامتهما دون أن تفترقا مرة واحدة. وظلتا متعاشرتين تربطهما عروة وثقى. . . إلا أن (مرجريت) كانت تبدو دائما حزينة مهمومة. . . أكبر حزنا من أختها، كما لو كان من المحتمل أن تكون تضحيتها الغالية قد قوضت حياتها، وراحت تدلف في طريق الشيخوخة بخطوات حثيثة، ووخط الشيب شعرها وهي لا تزال في الحلقة الثالثة من عمرها. . . دائماً تعاني، كما لو كان خطراً هائلاً يهددها.
وهاهي ذي الآن تموت قبل أختها! ولم تنفرج شفتاها عن كلمة منذ أربع وعشرين ساعة. . . فقط قالت عند الومضات الأولى للفجر: هيا ابحثي يا أختاه عن القس؛ فإنني مشرفة على الهلاك. . .
وبقيت بعد ذلك مستلقية على ظهرها. . . تنتفض انتفاضاً مرتجفة الشفتين، كما لو كانت كلمات هائلة تصعد من أعماق قلبها، ثم تقف حائرة على شفتيها!
وراحت أختها، وقد أرمضها الألم، تبكي بحرقة من خلف السرير، وهي تردد:
يا مرجو. . يا مرجو التعسة. . . يا صغيرتي، وكانت دائماً تناديها بيا (صغيرتي)، كما كانت مرجريت تناديها دائماً بيا (أختي الكبرى). . .
وسمعنا وقع أقدام على الدرج. . . وفتح الباب ولاح طفل من الكنيسة، ومن خلفه قس كهل في لباسه الكهنوتي. وما إن وقع بصر المحتضرة عليه حتى انتفضت وفغرت فاها، وتمتمت بكلمات غير مفهومة. . . وتقدم منها الأب (سيمون) وتناول يدها وقبلها في وجنتها، وقال لها في صوت حلو النبرات:
- إن الله ليعفو عنك يا طفلتي. . . تشجعي. . . هاهي ذي اللحظة قد دنت. . . تكلمي
. . . وتمتمت مرجريت التي راحت تنتفض من فرعها إلى قدمها. . . وراح مهادها يهتز بتأثير حركاتها العصبية
لتجلسي يا شقيقتي الكبرى. . . ولتسمعي. . . وانحنى القس يأخذ بيد (سوزان) وهي قابعة كعادتها عند قدم السرير وأجلسها على الفوتيل وأخذ بكل يد من يديه يد كل من الشقيقتين، وقال:
رباه. . . لتبعث فيها القوة. . . ولتنزح عليها رحمتك. . .
وشاءت مرجريت أن تتكلم، فخرجت الكلمات من حلقها الواحد بعد الأخرى جزئية متقطعة
عفوك. . . عفوك يا أختاه. . . لتصفحي عني. . . آه لو أنك تعلمين كم كنت أشفق على نفسي من هذه اللحظة. . . طول حياتي. . . وتمتمت سوزان من بين عبراتها. . .
عم أصفح عنك يا صغيرتي. . . وقد منحتني كل شيء. . . وضحيت بكل ما تملكين. . . إنك ملاك
ولكن مرجريت قاطعتها قائلة:
خلي عنك
دعيني أتكلم ولا تقاطعيني. . . هذا مريع. . . دعيني أقل كل شيء حتى النهاية. . . دون تتحركي. . . أصغي. . . إنك تذكرين. . . تذكرين هذي. . .
وانتفضت سوزان ونظرت إلى شقيقتها التي استطردت قائلة: يجب أن تنصتي لتفهمي. . . كنت في الثانية عشرة من عمري حياتي. . . في الثانية عشرة فقط وإنك لتذكرين ذلك جيداً أليس كذلك؟ ولقد كنت مدللة؛ كنت أعمل كل ما أريد عمله. . . أتذكرين جيداً كيف كانوا يدللونني؟ أصغي. . حينما جاء لأول مرة كان يحمل باقات نضيرة ونزل من فوق جواده أمام الدرج
ولكنه كان يحمل نبأ إلى والدي. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟ لا تقولي شيئاً، أصغي. . . حينما رأيته. . . شعرت كأنني أسرت، فقد كان جميلاً، فاتن الجمال. . . وظللت واقفة في ناحية من الصالون طوال الوقت الذي كان يتكلم فيه
وزارنا مرات عدة، فكنت أحدق فيه، بكل عيني. . . من كل قلبي. . . فلقد كنت أكبر من سني!
وعاد بعد ذلك كثيراً. . . ولم أكن أفكر إلا فيه. . . وكنت أقول في صوت خافت:
هذي. . . هذي دي سامبير. . . وبعد فقد قيل إنه سيتزوج منك. . . فأصابني ألم. . .
أواه!
لشد ما تألمت. . . لشد ما تألمت!
وظللت ثلاث ليال متتاليات دون أن يزورني الكرى، وشرع يزورنا كل يوم، وبعد الظهر. . . بعد أن يتناول طبعاً الغداء. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟ لا تقولي شيئاً. . . أصغي. . . كنت تعدين له (الفطير) الذي كان يحبه كثيراً من الدقيق. . . أواه. . . إنني لأعرف تماماً، كيف كنت تقومين بذلك!
وبعد أن كان يرشف قدحاً من الخمر. . . يقول: كم هو شهي! وإنك لتذكرين كيف كان يقول ذلك. . . لقد غدوت حقودة. . . حقودة. . . وكان يوم زواجكما. . . يقترب حتى لم يبق عليه إلا خمسة عشر يوماً. . . غدوت مجنونة. . . فكنت أقول فيما بيني وبين نفسي
سوف لا يتزوج من سوزان. . . كلا، لا أريد ذلك. . . إنه سيتزوج مني حينما أكبر. إنني لم أجد أبداً من أحبه هذا الحب. . . ولكن. . . ذات مساء قبل عقد زواجكما بعشر أيام كنت تسيرين معه. . . في ضوء القمر. . . هناك تحت شجرة السرو. . . شجرة السرو السامقة. . . ضمك. . . ضمك. . . بين ذراعيه طويلاً. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟. . . وكان ذلك محتملاً أول مرة. . .
لأنني رأيتك شاحبة الوجه حينما عدت إلى الصالون. . . ولقد استطعت أن أرى كل شيء، ذلك لأنني كنت واقفة هناك على الرصيف، فتملكني الغضب. . . حتى لو كان في استطاعتي آنئذ أن أقتلكما. . . لما ترددت في ذلك. قلت فيما بيني وبين نفسي: سوف لا يتزوج من سوزان أبداً، ولا من أية فتاة أخرى. . . غدوت تعسة. . . وفجأة وجدتني أندفع في طريق الحقد. . . الحقد المروع!
أتعلمين ما الذي فعلته إذن؟. . . أصغي. كنت رأيت البستاني يعد كرات صغيرة ليقتل بها الكلاب الضالة. . . فكان يسحق الزجاج بحجر. . . ثم يضع الزجاج المسحوق في كرة صغيرة من اللحم. . . أخذت من غرفة والدتي زجاجة صغيرة من زجاجات الدواء وجعلت أحطمها
وأخفيت الزجاج في جيبي وهو لا يعدو أن يكون مسحوقاً لامعاً. . . وفي اليوم التالي. . . عند ما قمت كعادتك بعمل (الكعك)، شققتها بسكين ودسست الزجاج فيها. . . وأكل هنري
منها ثلاثاً. . . وأكلت أنا واحدة. . . وألقيت بالست الباقية في الغدير. . . ولقد ماتت الأوزتان بعد ذلك بثلاثة أيام. . . إنك لتذكرين ذلك. . . أواه لا تقولي شيئاً. . . أصغي. . . أصغي. . . أنا وحدي التي لم تمت. . . ولكنني كنت دائماً مريضة مدنفة. . . أصغي، لقد مات. . . إنك لتذكرين جيداً. . . إنه ليس في ذلك شيء حتى الآن. . . بل إنه بعد ذلك. . . بعد ذلك بكثير غدت حياتي كلها مفعمة بالشقاء، كفنت أقول فيما بيني وبين نفسي: سوف لا أغادر شقيقتي، سوف أقول لها كل شئ. . . عندما يدهم أحدنا الموت
ولقد كنت أفكر دائماً في تلك اللحظة المرتقبة. تلك اللحظة التي أعترف لك فيها بكل شيء. . .
وهاهي ذي قد حانت! هذا مريع. . . أواه. . . يا شقيقتي الكبرى. . . كنت دائماً أفكر. . . في الصباح وفي المساء، في النهار وفي الليل. . . أنه يجب علي أن أكاشفك بكل شيء. . .
لشد ما تألمت! أنصتي. . الآن يتملكني الخوف. . . خوف مروع، أواه. أخشى أن أراه برهة. . . حينما أموت. . . أتدركين ما أعني؟ أتدركين. . . هاأنذا وقد أشرفت قبلك على الهلاك، أتضرع إليك أن تصفحي عني، لأنني لا أستطيع أن أموت دون أن أتقدم بعفوك إليه. . .
اسأله أيها الأب أن يعفو عني. . أتضرع إليك. . . لا أريد أن أموت قبل ذلك
أخفت سوزان وجهها بين يديها، ولم تأت بحركة، وراحت تفكر في فتاها، وكيف كان من الممكن أن تتعهده بحبها طويلاً، وأية حياة جميلة تلك التي كانت لهما، وومض خياله لحظة في ذهنها ثم لم يلبث أن اختفى في الماضي البعيد. . . مات فتاها وشقيقتها العزيزان. . كم يمزق موتهما قلبها. . . أواه. . . صورته. . . صورته الحبيبة. . . إنها لتحتفظ بها في أعمق نفسها. . . ثم لم يبق شيء من حياتها كلها. . .
وفجأة قام القس، وصاح في صوت جهوري واضح:
يا آنسة سوزان، إن شقيقتك تحتضر
وفتحت سوزان ذراعيها، ووضح وجهها المخضل بالدموع واندفعت إلى شقيقتها وراحت تقبلها بكل قوتها وهي تتمتم. . . إنني أعفو عنك، أعفو عنك يا صغيرتي!
درية رستم
معهد التربية بالزمالك