المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 552 - بتاريخ: 31 - 01 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٥٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 552

- بتاريخ: 31 - 01 - 1944

ص: -1

‌فجيعة مصر في أميرها

نعم، فجعت مصر في أميرها، وقلما تفجع مصر في أمير! وعمر باشا طوسون أحق أنداده - إن كان له أنداد - بأن نقول مصر فيه: اليوم فقدت أبني البار وأميري الحق! ذلك لأنه أعزها وأجلها، وعاش فيها وبها ولها، ووقف على خدمتها حياته كلها؛ فلغتها لغته، ودينها دينه، وقومها قومه، وتقاليدها تقاليده، وأمجادها أمجاده. وما يمتري اثنان في أن حفيد محمد علي وصهر إسماعيل كان على جلالة منبته وضخامة ثروته فلاحاً متواضع النفس لين الجانب، يهبط مختاراَ إلى مستوى الحياة العاملة فيلابس سواد الجمهور، ويتمرس بمختلف الأمور، ويأخذ بالنصيب الأوفر من الرأي الموجه والعمل المثمر. ولم تسول له نفسه مرة أن يقف على قمة الشرف الموروث ثم ينظر من علياء إلى رزق الله وخلق الله بشطر عينه ويقول بلهجة المتغطرس المزهو:

أولئك ضياعي، وهؤلاء عبيدي!

رحم الله الأمير عمر! لقد كان في حياته ومماته مثال الأمير الديمقراطي الصالح. وأريد بالصالح معناه المدني الرفيع من صلاح للدنيا وللدين. ولعله بهذا المعنى يوشك أن يكون رجل وحده في الأمراء والأغنياء كافة!

كان أشبه بالعصاميين في تدبير ملكه وتنمية ثرائه. ورث اكثر ضياعه من غامر الأرض فلا زرع ولا مرعى. فلو كان من أولى الجسد البض والعظم الخرع والطبع المدلل لأجاب الخبير الذي قال له: (إن إصلاح أرضيك يحتاج إلى مال قارون وصبر أيوب): دعني لخيول سباقي وكلاب صيدي وخلاك ذم! ولكن الأمير الشاب شمر للأمر تشمير الرجل، واستعد للعمل استعداد المضطر، وأقبل على سبخات الأرض ومناقع الماء يقذف فيها الخصب، ويسبغ عليها النماء، ويغري بها الربيع زهاء نصف قرن، حتى أصبحت الأجادب منازه نعيم، وصار (الخزان) خزائن نعمة!

من ذلك اشتد حبه لأراضيه لأنها ثمار جهده، وقوى عطفه على فلاحيه لأنهم رفاق جهاده. ثم اتسع حبه لضياعه حتى وسع وطنه، وانتشر عطفه على أتباعه حتى شمل أمته. حينئذ أخذ يوزع نشاطه على حركات الإصلاح في الأرض وفي الناس، فنهض بالإنتاج الزراعي نهضة موفقة بما أمد به الجمعية الزراعية من علمه وعمله وماله وجاهه. ثم كان له في كل وجه من وجوه الخير نفحات ظاهرة وباطنة. وامتد أفقه إلى الأمور السياسية والقومية

ص: 1

فشارك فيها مشاركة المؤمن بحقوق الشعب، المذعن لسلطانه، فأيد دعاة الدستور، وعضد قادة الأمة، وبسط من لسان مصطفى كامل، ومد في يد سعد زغلول. ولو ذهبت تستقصي دوافع العمل ودواعي الخير في حياة الأمير ثم رددتها إلى مصدر واحد، لكان ذلك المصدر حبه العارم لمصر والسودان وما يمت إليهما بسبب، من جوار أو نسب. فمن أجلهما عطف على طرابلس وفلسطين والحبشة، وفي سبيلهما عقد الأواصر ومتن الأسباب بين الأهل والجيرة

ثم اتجه نشاطه إلى العلم والتأليف فلم يجد أعلق بخاطره ولا ألصق بهواه من البحث في تاريخ مصر والسودان، وتقويم بلداتهما، ومناقب سكانهما، فكتب في هذه الموضوعات واحداً وعشرين كتاباً أكثرها بالعربية وبعضها بالفرنسية، أشهرها:

الجيش المصري البري والبحري في عهد محمد علي، مصر والسودان، كلمات في سبيل مصر، مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن، رسالة المصانع والمدارس الحربية في عهد محمد علي، الأطلس التاريخي الجغرافي لمصر السفلى منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية، يوم 11 يوليو سنة 1882، وادي النطرون ورهبانه وأديرته، المسألة السودانية، فتح دارفور سنة 1916 تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية من فتحها إلى ضياعها، تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية، الجيش المصري في حرب القرم. وهذا الثبت المختصر كاف وحده للدلالة على مهوى فؤاد الأمير ومتجه مساعيه.

كان الأمير عمر، جاد الله بالرحمة تراه، نازه النفس لم تحم حول مروءته ولا سمعته ريب الحسب الموروث ولا دنايا الغنى الطافح. وكان صاحب وقار وجد، فلم يشغل ذرعه بسفساف الأمور ولا حقير الملاهي. وكان في دقته كدورة الشمس تضبط على حركاته ساعتك؛ فهو ينام ويستيقظ ويأكل ويعمل ويقيل ويقرأ ويستريح ويستريض في مواعيد لا تتقدم لحظة ولا تتأخر. وتلك خصيصة العزم الثابت، والنفس المطمئنة، والطبع المستقيم. ولقد كان وهو في هذه السن العالية يدبر أعماله الزراعية والمالية بنفسه، فيفض البريد، ويعلق على كل رسالة، ويطلع على كل أمر، ويقضي في كل مسألة. وكان الظن بمثل هذه الحياة العاملة الحافلة الموزونة أن تنبو على أعراض الترف وأمراض البطالة؛ ولكن أجل

ص: 2

الله إذا جاء لا يؤخر

هذه خطوط وظلال لصورة الأمير الراحل رسمناها على التقريب ليكون فيها للشباب قدرة وللشيب عبرة. وإنا لنرسمها ولذعات الحسرة ترمض الفؤاد على حال الوادعين في ظلال أمنه يوم يفتقدونه فلا يجدونه. على أن الناس في شبليه صاحبي المجد النبيلين الجليلين (سعيد) و (حسن) خير العزاء عن فقده، فإن حياتهما امتداد لحياته، وعملهما استمرار لعمله.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌مدينة الخيرات

للدكتور زكي مبارك

بالأمس حضرت مع الأخ الزيات حفلة وزير الأوقاف لشرح تخطيط (مدينة الخيرات) بدعوة كريمة من معاليه، واليوم قرأت جميع الجرائد الصباحية والمسائية من عربية وفرنسية لأستروح بعبير الحديث عن المدينة الجديدة، ثم تأملت الخريطة المنشورة في جريدة المصري وجريدة الأهرام، ودرستها مع أحد أبنائي، ليتخير مكانا نبني فيه بيتاً هناك، بإذن الله، وبعون الله، فما نقدر على شئ، إلا إن أعانتنا رعايته السامية، وأظلنا ظله الظليل.

مدينة الخيرات

الوزير سماها في حديثه معنا (مدينة الزهور)، ثم قرأت في جريدة الأهرام أنه قال إن اسمها محل بحث في الوقت الحاضر، وأنا أقترح أن نسميها (مدينة الخيرات) للمعنى الذي أشار إليه الوزير في خطبته، فقد قال إن الذي يبني قصراً في هذه المدينة يضمن قصراً في الجنة، لأن الأموال التي ستحصل من إنشائها ستكون أزواداً باقية للفقراء والمساكين

والخيرات كلمة قوية في اللغة العربية، فهي جمع خَيْرة مؤنث خَيْر، والخير في لغة العرب يتضمن وصفين: الوصف بالخُلُق والوصف بالجمال والرسول عليه السلام سمي (المختار) لهدا المعنى، وقد وردت (الخيرات) في الشعر القديم بمعنى الخصال الشريفة، قال النمر بن تولب:

أعامرُ مهلاً لا تلمني ولا تكن

خفياً إذا الخيراتُ عُدَّت رجّالها

فمدينة الخيرات هي مدينة الأخلاق الفاضلة، والشمائل الكريمة، والجمال الرائع، وإذن يكون اسمها في معناه من أشرف الأسماء

أرجو معالي الوزير أن يتفضل بإقرار هذا الاسم الجميل، وأرجو حضرات الكتاب والشعراء أن يذكروه فيما يكتبون وما ينظمون، ليسير على الألسنة في أقرب وقت، ولهم مني أطيب الثناء

عبد الحميد عبد الحق

ص: 4

هذا فتى من اماجد الفتيان، فتى طيب القلب، صافي الروح، واشتراكه في الوزارة الحاضرة دليل جديد على براعة النحاس باشا في اختيار الرجال

تولى عبد الحميد وزارة الشؤون الاجتماعية وهي وهم من الأوهام، فصيرها وزارة رئيسية، صيرها وزارة يرضي بها وزير مثل فؤاد باشا سراج الدين

وحين نقل هذا الوزير المبتكر إلى وزارة الأوقاف كان مفهوماً للجمهور أنه نُقل إلى ميدان لا يصلح للجهاد، ثم كانت النتيجة أن يبتكر أشياء لم تخطر لمن سبقوه في بال

الأوقاف الخيرية

حدثنا الوزير في خطبته أن الوقف الخيري كاد ينقرض، فلم نعد نسمع شيئاً من أخبار المحسنين الذين يحبسون الأطيان والعقارات على الفقراء والمساكين، وذلك باب من (التأمين الاجتماعي)

وإذن يكون من الواجب أن ننمي الأوقاف الموجودة، وهي لا تزيد عن خمسة وأربعين ألفاً من الفدادين. . . وقد تعجبت حين سمعت هذا الرقم الهزيل، وجال في الخاطر أن الأراضي الموقوفة تعرضت للسرقات، والأرض تُسرق كما تُسرق النقود، وإذا كانت الأراضي التي يسهر عليها أصحابها تُسرَق منها مساحات فليس من المستغرب أن تسرق أراضي الأوقاف، ولم يكن لها حراس فيما سلف من السنين

وقد وجد الوزير أبواباً لتنمية الأوقاف الخيرية، منها بيع الأراضي القريبة من المدن لينتفع بأثمانها العالية، وأهم هذه الأبواب هو إنشاء (مدينة الخيرات) في الأراضي الواقعة على الضفة الغربية للنيل

ارتفع السعر من اللحظة الأولى، فاشترى حلمي باشا عيسى فداناُ وصل ثمنه إلى نحو تسعة آلاف من الجنيهات، وكان الفدان هنالك لا يجد من يشتريه بأبخس الأثمان

أنا متفائل بما صنع حلمي باشا، فهو من جيراني في المنوفية، وسأصنع كالذي صنع فأشتري بضعة قراريط بجوار ذلك الفدان، لنظل جيراناً هنا وهناك!

اللهم آمين!

سيعد وسنان

ص: 5

الأراضي التي ستقام عليها مباني المدينة الجديدة هي من أوقاف سعيد باشا وسنان باشا، فمن هذان الرجلان؟

أرجو أن يتفضل أحد أصدقاء الرسالة فيكتب كلمة في هذين المحسنين العظيمين، جعلهما الله من سكان الفردوس

شارع الأهرام

الشارع الأعظم في المدينة الجديدة عرضه ثمانون متراً، ومزيته أنه يواجه الأهرام من بدايته إلى نهايته، ومعنى هذا أن السائر فيه يرى الأهرام كلما مدْ بصره إلى الأمام

أتاح هذا الشارع فرصة لخطبة وجيزة عقبت بها على خطبة الوزير، فقد تحدثت عن حرمان القاهرة من مثل هذا الجمال، تحدثت عن شارع الأزهر وهو بدعة البدع في الاعوجاج، وكان يجب أن يسمح لمن يقف بميدان الملكة فريدة أن يرى منارات الأزهر الشريف

وقلت أيضاً إنه كان يجب أن يتمتع من يقف في ميدان الإسماعيلية أو باب الحديد برؤية الواجهة الجملية لقصر عابدين

ارحموا القاهرة

ثم اندفعت فتحدثت عما أخشاه من إهمال القاهرة، وهي عروس الشرق، فالعمران الجديد يتجه إلى الضفة الغربية ويترك الضفة الشرقية، يتركها لأن تنظيمها صعب، أو لأنها من ميراث الأجداد، وهذا هو العذر الذي وصف بأنه أقبح من الذنب؟

أين كان مهندسونا يوم أقيمت إدارة الأزهر بوضعها الجديد؟ وكيف جاز أن تشوّه الجمال المنشود بوصل ميدان الأزهر بميدان الحسين؟ وأين كان مهندسونا يوم أقيمت معسكرات الحرس الملكي كان يجب أن يتصل الميدان بالساحة التي تقع في شمالي تلك المعسكرات، ليزيد في الرونق والبهاء

وكيف جاز السكوت عن تنظيم شارع الخليج حتى يصل إلى مداه من الشمال؟

وإلى متى نسكت عن التلال التي تحيط بالقاهرة من الشرق فتملؤها بالغبار والأقذاء؟

وزير الأوقاف يَعِدنا بغابة تحمي المدينة الجديدة من الرطوبة والغبار، فمتى نسمع أن

ص: 6

وزارة الأشغال أقامت غابة تحمي القاهرة من الأتربة والرمال التي تثور من الشرق؟

وعند هذه الكلمة قام الوزير ليقول: إن لوزارة الأوقاف أملاكا في (تل زينهم)، وإنه سيحاول تحويل تلك التلال إلى رياض

ولم يسمح المقام بمعارضة الوزير، فأنا أريد تلال الدرَّاسة لا تلال زين العابدين؟

عثمان محرم باشا

وقف الأستاذ محمد الصباحي ليرد على خطبتي فقال: إن صاحب المعالي عثمان محرم باشا معنيٌّ برفع التلال التي تؤذي القاهرة من الشرق، ومضى فقال كلاماً جميلاً في الدفاع عن وزير الأشغال

وأقول إني معتزمٌ رفع قضية على عثمان باشا، قضية طريفة يعرف بها أن الأديب مهندس يفوق المهندسين، وسأترفق به، فلا أُطالبه بغير عشرين ألفاً من الدنانير الصِّحاح

كتبت في (الرسالة) مقالات كثيرة عن تخطيط القاهرة ولم يستمع وزير الأشغال، بدليل أنه لم يَدْعُني ليسمع أقوالي

وسأقدم للمحكمة وثيقة عجيبة، هي مقالة قدمتها لجريدة المصري في العام الماضي، ثم ردّتها إلىَّ برفق، لأني اقترحت أن يسير وزير الأشغال على قدميه أو يركب الترام عند خروج الموظفين من الدواوين، فإني أعتقد أن راكب السيارة الخصوصية أو الحكومية لا يشعر بما يعاني القاهريون من صعوبة المواصلات

وقد تعب السكرتير العام لوزارة الأشغال، وهو الأستاذ حامد القصبي، في ترضيتي، ليضمن سكوتي عن رفع القضية، ولكنه لن يصل إلي ما يريد، وإن كان أعز صديق

سأقاضي وزير الأشغال بعد أيام أو أسابيع، وهل يكون أعز على من القاهرة وهي الغرة اللائحة في جبين الشرق؟

اعتذرَ عنه أحد أصدقائه بأنه لم يقرأ مقالاتي في تخطيط القاهرة، وأنا لا أقبل هذا الاعتذار بأي حال، فقد كان يجب أن يقرأ الضمائر قبل قراءة المجلات

غرِّبوا كيف شئتم، وابنوا ألوف القصور في الضفة الغربية فستحتاجون إلى ألف سنة ليكون لكم بعض ما للقاهرة من تواريخ

أنت يا قاهرة قاهرة، فلا تحزني ولا تخافي، وأنا الكفيل بأن برجع إليك وديعتك الغالية

ص: 7

وهي الجامعة المصرية في دار جميلة هي دار وزارة الأوقاف، يوم تنتقل هذه الوزارة إلى مدينة الخيرات، والله هو الكفيل بالتوفيق.

زكي مبارك

ص: 8

‌لامية شعية بن غريض أخي السموءل

لأستاذ جليل

أطالع كتاب (النظم الإسلامية) تأليف العالمين الفاضلين الدكتور حسن إبراهيم حسن والأستاذ علي إبراهيم حسن فأجد في الصفحة (156) هذه الأبيات:

أنا إذا قلت دواعي الهوى

وأنصت السامع للقائل

واصطرع القوم بألبابهم

نقضي بحكمِ عادل فاضل

لا نجعل الباطل حقاً ولا

نلفظ دون الحق بالباطل

نخاف أن نُسفَّه أحلامنا

فيحمل الدهرُ مع الحامل

وقد نقلها المؤلفان من كتاب (الأحكام السلطانية) للإمام الماوردي، وهي فيه في الصفحة (22) وإن احتفال الأستاذين بمباحث كتابهما المهمة، واطمئنانهما إلى تدقيق العالم الفاضل الأستاذ محمد بدر الدين النعساني رحمه الله صرفاهما عن الاهتمام بهذا الشعر

لم تُعَز الأبيات في (النظم والأحكام) إلى قائلها، وهو (شعية بن غريض) أخو السموءل لا (سعيد بن عريض) كما ورد في طبعة الخزانة للعلامة البغدادي، ولا سعية كما جاء في (الأغاني). وقد نُسب الإمام الزمخشري في (الأساس) بيتاً واحداً منها إلى الربيع بن الخُفيق، وهو من شيعة شعية، وليس البيت يتيماً، وصاحبه قارضة أولى به. ومن روايات هذه الأبيات:

إنَّا إذا جارت دواعي الهوى

وأنصت السامع للقائل

واعتلج القوم بألبابهم

في المنطق الفائل والفاصل

لا نجعل الباطل حقاً ولا

نلطُّ دون الحق بالباطل

نخاف أن تسفُه أحلاُمنا

فنخمل الدهرَ مع الخامل

وهي من شعر التمثيل والمحاضرة. روى في (الأغاني والخزانة) أن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان كان يتمثل كثيراً إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر (الأبيات الأربعة)، وكان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، إذا جلس للقضاء بين الناس أقام وصيفاً على رأسه ينشده (هذه الأبيات)، ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين

والشعر من قصيدة أولها:

ص: 9

لباب، يا أخت بني مالك

لا تشتري العاجل بالآجل

لباب، هل عندك من نائل

لعاشق ذي حاجة سائل

عللِته منك بما لم ينل

يا ربما عُللّتُ بالباطل

لباب، داويني ولا تقتلي

قد فضل الشافي على القاتل

وإذا سلب متقدمون أخاه السموءل المسكين (لامينه):

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

كلها أو جلها أو بعضها على اشتهار نسبتها إليه، وأعطوها دُكينا الراجز، وعبد الملك بن الرحيم الحارثي، وعبد الله ابن الرحمن أو الرحيم الأزدي، ولحلاحا الحارثي وشريحا بن السموءل، وقالوا ما قالوه، فمن النصفة - إن كان في الدنيا إنصاف - ألا يحرم شعية (لاميته) هذه، حسبه رزء أخيه

وروى الإمام المرزباني في (معجم الشعراء) لشعية مقطوعة ختامها هذا البيت:

واجتنب المقاذع حيث كانت

واترك ما هويتُ لما خشيتُ

(ناقد)

ص: 10

‌4 - علي محمود طه شاعر الفن والجمال

للأستاذ دريني خشبة

مما يأخذه بعض أصدقائنا الشعراء على زميلهم علي محمود طه الذي يُكبرهم ويعزهم ويعرف لكل منهم قدره حرصه على (تزويق!) دواوينه بهذه الصور الملونة وغير الملونة، وتلك الرسوم التي يوحيها إلى الفنان بيت أو أبيات من شعره فيمثل فيها فكرة أو خيالاً من أخيلة الشاعر المتمردة أو. . . المتجردة!

فأما ما يسمونه (تزويقاً) فأنا أعده تجنياً منهم على زميلهم، لأن إبراز مؤلفاتنا على هذا النسق الذي يربي أذواق القراء بما يمتزج فيه من خيال الشاعر ودقة الفنان، وما يتساند فيه من البيان الناصع وتأثير الألوان. . . هو عمل يسد فراغاً موحشاً في طباعتنا العربية، وكان الأولى أن نستزيد منه لا أن نصرف المؤلفين والفنانين عنه. إلا أن المغالاة في إبراز المعاني التي تجول في روع الشاعر والمبالغة في تصويرها على هذا النحو الذي صورت به في (أشباح وأرواح) مثلاً، هو الجدير بالملاحظة، وهو ما يجب التنبيه إلى خطره على نفوس الشباب الغصة، وقلوبهم الرطبة؛ فلقد كان الفن اليوناني فناً وثنياً، وكان الفنانون اليونانيون مع ذلك يحرصون على إبراز دقائق الجمال الجسماني من جميع نواحيه التي تتصل بفضائلهم المثالية متجنبين النواحي التي تغازل غرائز الإنسان الدنيا، والأوضاع التي تُلمع إلى مغازلة هذه الغرائز، وهاهي تماثيلهم وتصاويرهم على (الأمفورات) الشائقة والجرار الجميلة وأفاريز المعابد والدور العامة لا ترى بينها شيئاً يدني إلى مغازلة الغرائز الدنيا مطلقاً. . . بل هذا تمثال أفروديت ميلوس الذي ينبض كل عضو من أعضائه وكل عضلة من عضلاته بأسمى ألوان الجمال الحي، لا يملأ عين رائيه إلا بروعة الفضائل العليا للجمال الخالص، مع أن أفروديت في الميثولوجيا اليونانية - فينوس - هي ميدان العواطف الملتهبة والغرائز الجياشة، ومعظم الأساطير التي رويت عنها تمثل (العاصفة) في الحب الآثم؛ ومع ذلك لم يفكر فنان يوناني في نحت تمثال لربة الجمال والحب يودع فيه أسرار فينوس إلا رَمْزاً، ولم يحاول أحدهم كشف هذا الأسرار قط. جميل جداً أن يستعين الأدب بالفن وأن يستعين الفن بالأدب في أن يجلو أحدهما الآخر، وأن يُبرز أحدهما للآخر تلك الدقائق التي لا يغني في إبرازها التمثال أو الصورة إذا كان لا غناء عن القلم،

ص: 11

أو القلم إذا كان لا غناء عن التمثال أو الصورة. . . والأجمل من ذاك أن يكون هذا التعاون في ناحية الخير الذي يرتقى بالغرائز، لا في ناحية الشر الذي يسفل بها. وإذا كان فنانو اليونان الوثنيون قد أخذوا أنفسهم بتلك التقاليد الصارمة في فنهم عندما كان يتصل بأخلاق القوة، فأحرى بفنانينا أن يلقوا بالهم إلى ذلك في كل ما يغدون به نهضتنا الفنية التي لن تستطيع أن تتجاهل أنها تنمو في كنف أعظم ديانتين على وجه الأرض، لا في كنف الوثنية اليونانية مثلاً!. . .

فلا بد إذن من (مؤاخذة) شاعرنا الفنان الموهوب على هذا، لأن شعره العالي الجميل المصقول لم يكن بحاجة إلى هذا اللون من الفن (المكشوف) ليجلو منه شيئاً، وإن كان لابد من تعاون بين شعره هذا العالي الجميل المصقول وبين الفن، فقد كان أحجى أن يتم هذا التعاون على منوال آخر يعرفه شاعرنا الرقيق النابه ولا بجهله، كما يعرفه الفنان الذي كان سبب لومنا هذا ولا يجهله أيضاً. وأخشى أن تكون ثمة علامة بين الفن المصور والفن المكتوب (في أشباح وأرواح) التي لم يكتب هذا المقال في نقدها، وأخشى أن يكون لقب (شاعر اللذة والجمال) الذي يضفيه أُستاذنا الزيات على شاعرنا الرقيق النابه، والذي وضعه بيده في رأس مقالنا السابق، يعني من اللذة والجمال شيئاً غير الذي نعرفه ويعرفه أستاذنا الزيات وشاعرنا علي محمود طه من اللذة البريئة. . . لذة الطهر. . . اللذة التي لا تثور بعرف ولا تعصف بخلق. . . ويحلو لي جداً بهذه المناسبة، أن أدافع عن الشاعر الكبير بكلامه هو، لا بكلامي أَنا، وما يعرفه هو، لاما أعرفه أنا، عن اللذة الآثمة، (التي دفعت إليها تاييس شاعر (أرواح وأشباح) فلم يلبث أن أفاق منها، وقد رأى مدى انهيار روحه وفنه)

فهذه كلمات قدم بها الشاعر لمقطوعة جيدة يقول في أولها

ولفّتْ ذراعين كالحيتين

علىّ وبي نشوة لم تطرْ

وقد قربت فمها من فميِ

كشقين من قبس مستعرْ

أَشم بأنفاسها رغبةً

ويهتف بي جفنها المستعرْ

تَبَيَّنتُ في صدرها مصرعي

وآخرة العاشق المنتحرْ

ويختمها بقوله:

ص: 12

دعيْنيَ حواء، أو فابعدي

دعيني إلى غايتي أنطلقْ

أخمر ونار؟ لقد ضاق بي

كياني وأوشك أن أختنقْ

أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم

رائحة الجسد المحترق

فيالك أفعى تشهيتها

ويالي من أفعوان نزقْ!!!

فاعتراف الشاعر الناظم في المقدمة المنثورة بانهيار روح شاعر الملحمة وانهيار فنه، لأن تابيس قد دفعته إلى اللذة الآثمة ثم اعترافه في المنظومة بأنه تبين في صدرها مصرعه - وآخرة العاشق المنتحر؛ وأن حواء أفعى تشهاها أفعوان نزق. . . كل هذا ينفي عن علي محمود طه، الشاعر الرقيق النابه، ذهابه مذهب اللذة، وأعني اللذة الآثمة. . . ولله شاعرنا حيث يقول في الكرمة الأولى: صهباء ما كانت=من غرس إبليس

بل كرمة زانت

خلق الفراديس

تسمو بها الأرواحْ

عن عالم الإثم

شفافة الأقداحْ

في رقة الحُلم

فهل رأيت الخمر التي تسمو بها الأرواح عن عالم الإثم؟

رحم الله ابن الفارض الذي يقول:

وقالوا شربت الإثم قلت لهم بلى

شربت التي في تركها عنديّ الإثم

فتلك لذة علي محمود طه التي تعرف الإثم والتي لا تعرف إلا الطهر. . . الخمر التي يقول فيها:

خمرة ما قَبْلتْ غير شفاه الأنبياء

خمرة في الغيب كانت قطرت من ضياء

خُتمت بالشفق الوردي في أصفى إناء

جُبلت فخّارتاه من صفاء ونقاء

لشد ما أكره أن يلقب شاعرنا الرقيق النابه بشاعر اللذة! وما أحب أن ندعوه جميعاً إلا: بشاعر الفن والجمال!

لست أدري لماذا لا أنتهي من هذا الثناء الطويل على الشاعر علي محمود طه لأفرغ إلى جانبه الآخر. . الجانب الجدير بالنقد. . أو الجانب المظلم الذي لا يتراءى في جانب غيره

ص: 13

للكثيرين ممن حاوروني فيه. . . أولئك الذين يظنون أن علي محمود طه لا يملك كتفين عريضتين قويتين تحتملان النقد، ما خف منه وما ثقل، وما جاء منه ممن يفهمون وممن لا يفهمون، وما صدر منه عن إعجاب بالشاعر ومحبة له، وما صدر منه عن موجدة عليه وضيق به

ولست أدري لماذا لا أصارح أصدقائي الشعراء خاصة، وأصدقائي القراء عامة، بأن (الهدم المطلق) ليس من مذهبي، بل ليس من النقد في شئ أن نظلم الأديب من الأدباء، أو الشاعر من الشعراء، في تسعة أعشار إنتاجه، لأن العشر الباقي لا يرضيك، أو لأنك لا (تستظرفْ!) هذا الأديب من الأدباء، أو ذلك الشاعر من الشعراء؛ فهذا اللون من النقد هو الذي يصدر عن هوى لا يعرف العدالة ولا يعرف الاتئاد ولا يعرف الفطنة. والمؤلم في هذا كله أنه يصدر عن قراءة سطحية للأديب أو الشاعر. . . قراءة خاطفة. . . لا تعدو مقالة أو قصيدة في مقهى أو في ترام

وللحديث في هذا الموضوع ظرفه الخاص. . إنما هي إشارة (خاطفة) تشغلني عنها هذه المفاتن التي عرفتها في شعر علي محمود طه منذ أخذت أقرأ شعره

ومفاتن شعره تأتي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، فمن ناحية الشكل، تروقني منه تلك القوافي المتخيرة الشائقة التي تدل على ذوق مُروِّئِ فنان، ومزاج موسيقي مفتتن بالغناء مولع بالألوان. فهو إذا اختار أن يقول من قافية واحدة اختار القوافي الراقصة التي تميس فيها الكلمات وتتلألأ. . . وتكاد تغني. . . وتستطيع أن تتناول دواوينه كلها وتقرأ منها ما شئت، فلن تجد قافية عليلة أو قافية ثقيلة، أو قافية تنبو في سمعك أو تستأذن على هذا السمع. وعلي محمود طه نفحة في هذه الناحية من شاعرنا الخالد شوقي أمير الشعراء عليه رحمة الله. . فإذا اختار أن يقول في المنظومة الواحدة من قواف عدة، وجدت موهبته في ذلك تتدفق. . كدت أقول تتبرَّج. . فهو يتنقل بك، كما يتنقل بك الموسيقي العبقري من لحن إلى لحن، ومن نغمة إلى أخرى، من غير أن يصدم سمعك، أو ينبو على ذوقك. والعجيب أنه يجيد هذا التنقل في منظوماته القصيرة وفي منظوماته الطويلة على السواء. وقد أجاد بوجه خاص في درامته الرائعة (أغنية الرياح الأربع) وكأنما كان يعنيني من دون الناس جميعاً بتجويده قوافيّه حينما كنت أقف وحدي في الشاطئ الآخر، داعياً جهدي إلى

ص: 14

استعمال الشعر المرسل في الدرامة المنظومة، تلك الدعوة التي أستمسك بها وأُصر عليها، بالرغم من هذي القوافي المذهبة التي بهر بها علي محمود طه ألباب قرائه، ولبى الفقير في مقدمة هذه الألباب!

(للحديث بقية)

دريني خشبة

ص: 15

‌المجمع اللغوي والوحدة العربية

للأستاذ عبد القادر المغربي

لم يكن يدور في الخَلَد، وقد فارقنا هذا البلد، أن الزمان سيُقصينا عنه أربع سنوات فاتت بين هم لا يُنسى، وحذر لا يُحصى، وإشفاق، من مفاجأة إرهاق، بعد ست سنوات قضينا دوراتها في مجمع مصر بين إخوان لا يُنسى أنسهم، ولا يُحصى فضلهم، ولا يُفْرَىَ فَرِيهم

نعم لم ننس ذلك كله، لكنا نسينا قرارات وضعها المجمع، شهدنا مصادرها، ثم غابت عنا مصايرها، وأعمالاً شاركنا الزملاء في غراسها، ثم لم ندر ماذا كان نتاجها، عدا شؤوناً أخرى قام بها المجمع خلال غيابنا كنا بها أجهل، وعن معرفتها أبعد

أقول هذا أيها السادة اعتذراً عن كلمتي التي أنا في صدد إلقائها بين أيديكم؛ فقد جاءت كما يُريد جهلي بما ذكرت، لا كما يريد الواجب، ويقتضيه المقام

لكني مع هذا إذا عجزت عن استخراج موضوع كلمتي من القرارات والمناقشات، فلن أعجز عن استخراجه من موضوع المجمع وأغراضه التي أنشئ من أجلها

يكاد لا يفهم الجمهور من وظائف المجمع إلا أن عليه أن يتتبع الكلمات الدخيلة والأعجمية المتفشية في لغته اليومية، وأن يستبدل ألفاظاً عربية بها، حتى كأن هذا العمل أو هذا الغرض هو كل ما يُرتجى من المجمع. وقد نسوا ما للمجمع من فضل في توفية الأغراض حقها، ولا سيما وضع ألوف الكلمات لِلُغة الدراسة أي لغة العلوم والفنون

لما عاد رئيس وزارتنا السورية دولة سعد الله بك الجابري من مصر زرناه مسلَّمين فكان مما أطرفنا به من أخبار رحلته أنه سأل أحد وزراء مصر عن مجمعهم اللغوي، فأجابه معاليه: يكفي من حسنات مجمعنا أنه زوَّد وزارتي وحدها بنحو ألفي كلمة جديدة يتداول استعمالها الموظفون فيها وفي سائر المصالح التابعة لها

ينسى الجمهور هذا ويتساءلون: ماذا صنعت مجامعنا اللغوية بما تجدد وفشا من الألفاظ الأعجمية خلال هذه الحرب الماضية في سبيلها، والتي ما زلنا نقاسي من عقابيلها؟

ماذا صنع حُماة اللغة، الغُير على سلامتها بكلمات: براشوت، شتوكا، جستابو، كوماندوس، ستراتيجية، ستوديو، برازيت، كورس، وكلها أعجميات؟ وهل أقر المجمع كلمات عربية حديثة الوضع يكثر استعمالها في لغة الراديو والصحافة، ولم تعرفها معاجمنا بمعناها

ص: 16

الاصطلاحي الجديد مثل: ذبذبة، وقطاع، وسجّل إصابتين، وقدم عروضاً. وكانت المبادهة في الحرب هذه المرة للروس، وحملة أميركية برمائية

وهل يقر المجمع أبناء الضاد إذا قالوا: كان الفتيان في تلك الحفلة مسرولين بالشورت، والفتيات ملثمات بالأيشارب؟ وبالجملة أين تقع تلك الألفاظ والتراكيب من معاجمنا العتيدة؟ هل يفسح لها فيها مكان يا ترى أولا؟

وعهدي ببعض الزملاء أنهم يرون قبول ما يطرأ على اللغة من أمثال تلك الكلمات الأعجمية، وبعضهم يمنع ذلك ويعدّه مفسداً للغة، منافياً لسلامتها

وهما رأيان بدءَا يتصاولان منذ الشيخ رفاعة الطهطاوي، أو نقول منذ عهد الترجمة الأول. وما زالا في الصيال حتى أسلما أمرهما أخيراً إلى مجمع فؤاد ونزولا على حكمه

حقاً إن مسألة التعريب أو نقول: إن التردد في قبول الكلمات الأعجمية وعدم قبولها أخل بنهضتنا اللغوية وأخرها إلى الوراء أكثر من نصف قرن. ولذا كان التعريب من أعظم الأغراض التي ينبغي أن تُعنى بها المجامع اللغوية. وهو فوق ذلك موضوع معقد خطير. ولم ننس بعد ما كان من اختلاف الرأي حول وضع اصطلاحات عربية للجيش المصري مكان اصطلاحاته القديمة، وكم عالم غيور من رجال نهضتنا الحديثة قضى نحبه وبقلبه شئ أو حسرة من التعريب

ومن أكبر الأدلة على خطورة أمره وتعقد مشكلته أن زميلنا وفقيد مجمعنا الشيخ حسين والى كان قدم إلى المجمع تقريراً مسهباً بعنوان (المعرَّب) أودعه كل ما قاله علماء العربية بشأنه. افتتحه بقوله: (قال الجوهري: إن تعريب الاسم هو كذا وكذا) إلى أن اختتمه بقوله: (وفي القاموس. النرد معرب وهو فارسي) هكذا ابتدأ وهكذا انتهى. ولم يجرُؤ رحمه الله وهو بطل العلم الجريء - على إبداء رأي من عند نفسه في مشكلة هوابن بجدتها، وقد اصطنع تقريره من أجل حلها

بَلَى جرأ المجمع نفسه فأجاز التعريب، وقال في جملة قراراته التي أصدرها في سنته الأولى ما نصه:(يُجيز المجمع أن تُستعملَ بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم) 1هـ. لكن عاد الخلاف فاحتدام حول كلمة (الضرورة) وتحديد معناها والقدر المراد منها، حتى أصبحت الحيرة فيها أشد من الحيرة في التعريب نفسه،

ص: 17

وظلت الكلمات الأعجمية سادرة في غُلَوائها، مُرخية من عنائها، تسرح وتمرح في جنبات امتنا، وأجواء صحافتنا، وفي أحاديث الراديو التي يُذيعها بصوته الجهوري وسحره العبقري.

ما لنا ولهذه الكلمات وفي موقف مجمعنا منها، ولنُقبل بشراشر قلبنا على موقف جديد للمجمع يرفع شأنه، ويضاعف عمله، ويوسع نطاق رسالته

ذلك ما يكون حينما يتحقق المشروع الأعظم أعني مشروع اتحاد الممالك العربية الذي يعمل له، ويتقرب إلى الله به جلالة الملك الصالح فاروق الأول، وينفَّذُ إرادته فيه عضد دولته رفعة النحاس باشا

تعلمون أيها السادة أن وحدة أمة من الأمم لا تتحقق ما لم يتحقق استقلال لغتها. قال بعض فضلاء الكتاب المصريين: (يجب أن نفكر في توحيد اللغة قبل أن نفكر في توحيد الأقاليم، ونجتهد في أن يكون للعرب كافة لغة واحدة يتلاقون عندها، كما يتلاقون في جبل عرفات)

ولا يخفى أن الغرض الأول من مجمع فؤاد الأول إنما هو وحدة اللغة العربية وسلامتها. فمن وظائف المجمع إذن مشاركة العاملين من طريق غير مباشر في تحقيق أمر الوحدة العربية الشاملة التي يضطلع بأعبائها جلالة المليك المحبوب

إذا تحقق اتحاد الأقاليم العربية كان المجمع لهذه الأقاليم كلها لا لمصر وحدها، وكان عليه أن يتصل بها اتصالاً يشمل اللغة من جميع نواحيها: فيدرس لغاتها، ويعمل المقارنة بين لهجاتها، ويستفيد من مزاياها وخصائصها، ويرسل إليها من مطبوعاته ما يساعد على توحيد تلك اللغات واللهجات أو التقريب بينها على الأقل

لا جرم أن المشروع الفاروقي، سيخلق للمجمع الفؤادي وظيفة جديدة وعملاً مستأنفاً

وفي جزيرة العرب مجال واسع للعمل: من ذلك مثلاً بعثة إلى نجد، وأخرى إلى الحجاز، وثالثة إلى اليمن، وهلم جرا.

نحن في ذلك اليوم السعيد، وإذا رئيس مجمعنا المصري يعلن أنه تلقى من رئيس بعثة اليمن تقريراً قال فيه: إن البعثة زارت جبل (عكاد) فرأت أهله كما وصفهم به ياقوت والفيروز ابادي والزبيدي:

قال القاموس وشارحه الزبيدي: (عكاد كسحاب جبل باليمن قرب زبيد أهله باقون على

ص: 18

اللغة الفصيحة إلى الآن ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفا على لسانهم. اهـ)

والزبيدي يمني نشأ في اليمن قريباً من جبل عكاد وتوفي بمصر منذ مئة وخمسين سنة. وقال ياقوت في معجم البلدان: (جبلا عكاد فوق مدينة الزرائب وأهلهما باقون على اللغة العربية من زمن الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من أهل الحضر في مصاهرة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه. اهـ)

وحدثني العلامة المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري في إحدى جلسات مجمعنا هذا قال: إن السيد عبد الرحمن الكواكبي المعروف في القاهرة أخبره أنه في أثناء سياحته في جزيرة العرب مرَّ بجبل عكاد المذكور فوجد أهله كما وصفهم ياقوت والفيروز ابادي والزبيدي. قال الكواكبي: ولكن العكاديين يسكّنون أواخر الألفاظ ولا يُلحقون بها حركات الإعراب. وعقب الإسكندري على هذا بقوله: يظهر من قرائن الأحوال ومن طروء الشذوذ على الأفكار أن اللغة العربية ستفقد في المستقبل مزيتها هذه. فقلت للشيخ الإسكندري، وقد بدأنا العمل بتلك الرخصة حينما نقرأ (الأنساب) و (أرقام الحساب) فنقول في الأنساب مثلاً: جاء الشيخ محمدْ بنْ يوسفْ بنْ خالدْ بنْ عبد الله، هكذا من دون إعراب. ونقرأ أرقام الحساب، فنقول غيرَ ملومين: سافر فلان إلى أوربا سنةَ ألفْ وثلاثمائةْ وثلاثْ عشرةْ مثلاً. على أن بعض علماء العربية رخّص في تسكين الأعداد وحدها.

ثم إن الشيخ الإسكندري رحمه الله حوقل وتعوذ إلى الله من هذا المصير، وتمنى ألا يعيش إلى ذلك الزمن الذي تفقد فيه اللغة حِليتها. وتتعرَّى من أعلاق زينتها

حقاً إن تعوّذ المرحوم الإسكندري من هذا المصير للغة في محله، لأن التفريط بحركات الإعراب تفريط بها نفسها وإضاعة لمزية من أكبر مزاياها. وهو فوق ذلك يحدث بلبلةً في تفهم آيات القرآن ونشر تعاليمه بين الناطقين بالضاد إن بقيت الضاد ضاداً. ونحن نشاركه في الحوقلة والتعوّذ. ونسأل الله أن يصون لغتنا، وأن يُبقي مجمعنا (مجمع فؤاد الأول) حارساً لها، عاملاً على سلامتها، في كنف المليك المعظم فاروق الأول، كما نضرع إليه سبحانه أن يجعلَ القرآنْ تعويذة لجلالته من صروف الزمانْ، ويزيدَه توفيقاً في ما يروم من إسعاد العرب، وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم، إنه سميع مجيب.

ص: 19

عبد القادر المغربي

عضو مجمع فؤاد الأول

ص: 20

‌مرسلات مع الريح

أُسامة

للأستاذ إسماعيل مظهر

وأقبل الشيخ عُمران ذات صباح يجرْ رجليه جرَّا فيثير عجاجةَ من تراب الثرى، فبادرني بالتحية، ثم ارتمى على المصطبة كأنما ينفض عن كاهله حملاً ثقيلاً ينوء به. وكان في عينيه حزن عميق، رغم ابتسامة افترَّ عنها ثغره، ولكنها كانت تعبر عن حزن أعمق من ذلك الذي لاح في نظراته وشاع في تقاسيم وجهه. وكثيراً ما يكون الابتسام عن حزن دفين، تجمد معه العين ولكن القلب في بكاء. ثم أطرق ومضى يحرك أصابعه الهزيلة فوق حبات مسبحته الكبيرة، ويتمتم بكلمات غير بيِّنة كأنه يناجي نفسه بالمعاني التي كانت تجيش في صدره

- كيف بي لا أرى الدنيا كما كنت أراها منذ أيام؟ لقد تَغَّيرت فيها كل شئ وانقلب فيها كل مَعَنى! فالوجوه التي أراها ليست هي الوجوه التي كنت أعرفها؛ والكلمات التي تطرق سمعي لا تؤدي في نفسي ذات المعاني التي كانت تؤديها من قبل؛ والزمان والعمر والحياة! تلك التي مضت تغمرني بالأمل وتشيع في نفسي معاني الحسن وأفانين الجمال، كيف حالت تلك الألوان الزاهية الغَضَّة؟ وكيف انتهى الأمل ومات الحُسن وذهب الجمال؟ في لحظة واحدة ماتت الدنيا في نفسي بكل ما غرست فيَّ من المعاني الأولى! والناس والمجتمع ونظام العيش! كيف أصبح الناس في عيني كأنهم القُرود الزُّعر يهيمون في أودية الأحلام! وكيف بالمجتمع وقد انقلبت نظرتي فيه، فإذا به موكب من الناس ليس فيه إلا التزوير على الطبيعة، والتدليس على الفضائلَ. وكيف بنظام المعايشة وقد بانت لي في لحظة واحدة خفاياه، فإذا به الكفران بكل ما كنت أتخيل من المعاني التي لا تزدهر الحياة إلا بها

وكان يتكلم وناظراه إلى السماء، كأنه يأنف أن يخاطب أهل الأرض. كنت تظن أنه يناجي أشباحاً وخيالات تراءت له في الأفق البعيد، أو أنه يقرأ هذه المعاني من كتاب صفحاته السماء

كان قد مضى بضعة أسابيع والشيخ عمران بعيد عن ندوتنا الريفية، فلم نسأل عنه ولم نبحث وراءه. لأن هذا الشيخ المحنك له وقفات عن الاتصال بالناس، وغيبات قد تطول

ص: 21

وقد تقصر، يخلو فيها بنفسه، بعيداً عن جلبة القرية، فيظل أياماً أو أسابيع يخرج من بيته مع الغراب، ويأوي إليه بعد أن يموت أهل القرية تلك الميتة الصغرى. وكنا نحترم في هذا الشيخ الوقور نزعته تلك، فلا نحاول أن نقطع عليه خيط أحلامه. رأيته مقبلاً، فتوقَّعْت أن أرى تلك الابتسامة الفلسفية التي عوِّدت أن أراها مرتسمة على شفتيه، وذلك البريق الواضح الذي ينبعث من عينيه. ولكن الابتسامة كانت عن حزن، وذلك البريق عن ريبة من أمر الدنيا. ولكن ما وراء ذلك؟

هذا شيخ قد رمته الدنيا بأرزائها، فسلبت منه الثراء وسلبت مع الثراء هدوء النفس، فثار على الدنيا وعلى أهل الدنيا، وعلى أهل اليسار منهم خاصة. فإذا كلمك فيهم، فإنما أنت تسمع لزعيم من زعماء الاشتراكية، أو لصعلوك متطرف من صعاليك الدولية الثالثة

ورابني منه أن يبادرنا بتلك الكلمات بعد تحية قصيرة من يديه المُرْعَشتين، فتوقعت أن داهية أُخرى حلت بذلك الشيخ لعله فقد البقية من ماله، أو اعتدى عليه أحد المفاليك، أو أغتصبه سرى من السّراة شيئاً من طينه القليل. غير أن ذلك كله لم يكن شيئاً جديداً عليه، وتعابير الحزن الشائعة في ملامحه كانت ولا شك تنم عن سبب أعمق من جميع هذه الأسباب، وأمعن في الإيلام، وأعمل في تحريك هواجس النفس

- ما وراءك يا شيخ؟ لقد طالت غيبتك، ولم نشأ أن نعكر عليك صفو تأملاتك التي تسعد بها في حقلك إلى جانب ساقيتك وأشجارك؛ فكيف أنت وكيف أولادك؟

وكأن السؤال عن أولاده قد حرك جميع أوتار نفسه، فتطلع نحو السماء وقال:(حمداً لك يا رب!)، ولكن دمعتان أطلنا من حدقتيه، فدل بريقهما على كارثة لم يألفها عمران وقد حطمته السنون

- أولادي كما تعهدهم، لم يحدث بهم حدث غير مألوف في هذا الحياة. شاءت الطبيعة أن تستأثر بواحد منهم، فانتزعت من قلبي في يوم وليلة أسامة الصغير، فقمت نحوه بالواجب الذي يقوم به الأحياء للموتى في العادة، وأسلمته للتراب، إلى سفر اللانهاية، إلى القرون ثم القرون تتوالى عليه في حفرته تلك، في ظلام الأرض، وراء تلك الحجارة الباردة المرطوبة؛ بل وراء الأبد والأزل، وراء السعادات والشقاوات، وراء الأحقاد والضغائن، وراء الآلام والأحزان، وراء الجهالات والحفائظ، بل وراء كل شئ، حتى وراء الأقدار. ثم

ص: 22

ودعته بقلبي لا بشفتيَّ، وعدت أدراجي مشتت النفس خائر القوى مضطرب الوجدان، أضرب في فلوات الوهم: أسائل نفسي ما الموت وما الحياة؟ ولكن. نعم ولكن. . .

ثم أمسك عن الكلام، ودموعه تنهمر قطرات من الحزن والأسى البالغ العنيف

- ولكن ماذا؟ لقد أثرت شجوني أيها الشيخ، وحركت كوامن نفسي، وأثَرْتَ في صدري ذكريات كانت نائمة

- ولكن. نعم، ولكن ليست البلوى في الموت، ولا المصيبة في ترك الدنيا. الداهية كل الداهية في الحياة

ومضى ينكث في الأرض بمخصرة كانت في يده، ويرسم فوق الثرى رسوماً، أشبه بتلك التي يرسمها الأطفال على رمال الشاطئ، لا تلبث أن تمحوها الأمواج. ثم قال:

- ولأي شئ تثور شجونك وتتحرك لواعج نفسك؟ إنما الشجن شجني، والحزن حزني، والبلوى بلواي؛ والعزاء بالزمن، والسلوى بالاستسلام للقضاء. فلست في حاجة لأن أسمع تلك الكلمات الجوف التي اعتاد الناس أن يُعَزُّوا بها عن المصيبة، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتزويرها واضح لا يحتاج إلى دليل، والتدليس فيها بيِّن لا يعوزه البرهان. والناس هم الناس، والدنيا هي الدنيا، والأقدار تسِّيرنا في ليل معتم من الحوادث، لا نستطيع أن نرجع إلى ما فات منه، ولا أن نَرسو فيه بأرض. لجٌ مائج، والسفينة تحملنا كرهاً، فتسير رخاء حيناً، وحيناً تلاطمها الأمواج

- إن هذه لفلسفة جديدة، بعث الحزن معانيها في نفسك، وأثار الشجن تفاصيلها في وعيك. فإني عهدتك على غير ما أنت، صباراً غير بئوس، جلداً غير متخاذل، مرحاً عند الخطب قلَّ أو جلَّ

وكانت مخصرته ما تزال في حركتها ترسم في الثرى دوائر ومربعاتَ، وزوايا ومنحنيات، ولوالب وإهلجات، فكانت تلك الرقعة المتخاذلة المعاني، المتداخلة الصور، صفحة كاملة تقرأ فيها دخيلة نفسه، وحركات وجدانه، ولواعج قلبه. ومضت المخصرة ترسم ثم ترسم، ومن ورائها لسانه يتحرك:

- كلا يا بني هذه الفلسفة قديمة، ولكن معرفتنا بها جديدة. تعلمنا إياها المصيبة إذا جلت، والقارعة إذا نزلت. فمن فطن لها فطن للحياة، ومن ضل عنها عاش العمر معتم البصيرة

ص: 23

أعمى القلب. هذه الفلسفة يا بني قطعة من الحياة ذاتها، فكيف تكون جديدة علينا؟ وإنما تكون معرفتنا بها أدق، ووقوفنا عليها أتم، كلما كانت فوادحنا أعظم، وكوارثنا ألأم وأشأم. إن كل مرائي الحياة ومجاليها ومناظرها، أشياء إذا مضى عليها قليل من الزمن مرت على خواطرنا كالأحلام، لا يبقى منها إلا الحقائق المريرة؛ وكل الحقائق مرة أليمة، والآلام أشد حقائق الحياة مراراة؛ تبقى في النفس آثارها، فإذا غيَّب الزمن بعضها وعملت فيها دورة الليل والنهار حتى كادت تنضاف إلى وادي الأحلام، فإنها بطبعها تكون أوضح أحلام الحياة، وأشدَّها بياناً وأعمقها أثراً، وأبقاها مع التذكر أطول الزمن. والحقيقة كالجبل السامق تتسلقه على درج من الألم والحزن والنصب، وكلما صعَّدت فيه زادت آلامك، وتضاعفت أحزانك، حتى إذا بلغت القمة أشرفت منها على محيط الدنيا، فالسماء من فوقك تجوبها ذكاء بكل عظمتها، والأرض بوديانها وشعابها وغاباتها منبسطة تحت قدميك، ولكن الأسف كل الأسف أن الحقيقة طريقها الألم، طريقها الحرمان، طريقها الأحزان تمزق نياط القلب، وتبدد قوى النفس وتهد من بناء العمر. . . ما أجلها وما أقساها

- أما الزمان، فذلك المجهول الذي نعامله، كما يقول فيلسوفنا المعاصر. هو ذلك التيار الهادئ المنحدر إلى لا نهاية. هو ذلك العقد النظيم من الحركة الدائمة. هو ذلك الكائن الموهوم الذي لا يشعر بوجودنا ولا يأبه بآلامنا. ونحن لجهلنا نعامل هذا الزمان، نعتب على الزمان، ونغضب من الزمان، ونتبرم بالزمان. وما الزمان في مفهومنا العادي سوى الظرف الذي نعيش فيه. وما الظرف الذي نعيش فيه إلا تصرف القدر وتصرف ذلك الناس الذين نعايشهم. أما القدر فذلك الذي لا نعرف، هو ذلك العالم المغيب. أما الناس فهم الناس، أولئك الذين يعيش سوادهم دسيسة عليك في الحياة، والدسيسة كما يقول شكسبير تجد حماها ومستقرها في شيئين: بشاشة الوجه، ومعسول اللفظ فقال:

فأمَّا إن أردت حًمِى أميناً

فخلف بشاشة المُتَبَسِّمينا

وتحت اللفْظ يقطر منك وُداً

هنالك تكمنين فتختفينا

- تنزل بك الكارثة، وتحل بك القارعة، فيواجهك الناس وعلى ألسنتهم تلك الألفاظ المحفوظة عن ظهر قلب، تتحرك بها شفاههم، ولا تعيها قلوبهم وقد تفجع في مالك أو عرضك، فتسمع منهم جملاً وقفت على ذلك الظرف. وقد يموت لك ولد كما مات ولدي،

ص: 24

فيعزونك بجمل أخرى نقشت على قلوب من حجارة وهي جميعاً صلوات ودعوات بالرحمة وطلب الصبر. وإنما هي من الألسنة لا من القلوب والصلاة التي لا تصدر من القلب لن تجد إلى الله طريقاً. وإذا ضلت الصلاة طريقها إلى الله فما جدواها؟

- لقد مات ذلك الصغير، ففي ذمة الأزل، وفي ذمة اللانهاية، وفي الزمان ينساب عليه انسياب الماء اللين الهادئ إلى لا غاية. وما موته إلا ظروف الزمان. وما أظلمنا إذ نعتب على الزمان وعلى ظروف الزمان. وإنما أعبر بالزمان عن أولئك الذين كنت أتوقع أن أرى في أعينهم دمعة واحدة تترقرق على فراقه؛ فإذا بهم ينظرون في وجهي بعيون جامدة النظرات، وقد عقدت ألسنتهم حتى عن لوك تلك الجمل المحفوظة. وما آسف على شئ، إلا أن ذلك الظرف قد حرك في في نفسي تلك الأفعى الجبارة، وكانت ما تزال لحسن حظي وسنانه نائمة: حرك الحقد والضغينة والقطيعة. كانت نفسي كالبركة الهادئة النائمة في أحضان طبيعة وادعة، إذا مسها النسيم تحركت أمواجها حركة لطيفة تمر بخاطري كحلم لذيذ؛ فلما هبت عليها هذه العاصفة تعالت أمواجها وتلاطمت حتى كدر ماؤها، واحتمل زبداً رابياً تهدر من تحته براكين الألم فتزيد ثورتها عنفاً وشدة، وذلك هو الأجر الذي ربحت بموت قطعة من نفسي: ألم القلب، وقطيعة الناس، وفراق الأبد!

أمنتك يا فراق وربَّ يوم

حذرت لو أنه نفع الحذار

أخذت فلم تدع شيئاً عليه

يخاف أسى ولا يرجى اصطبار

حبيب خنتني فيه ودار

وللناس الأحبة والدِّيار

- والعمر ما هو؟ هو على التحقيق مقياس الزمن بين ساعة مولدك وساعة مصرعك، ولكن الواقع الصحيح أن عمرك قد يطول وإن قصر مقياسه الزماني، وقد يقصر وإن طال مقياسه ذاك. فليس العمر هو الأيام والسنون، بل هو اللحظات والساعات، تقيس عليها آلامك ومسراتك.

فإن طال ألمك فأنت قصير العمر وإن امتد زمنك، وإن اتصلت مسراتك فأنت طويل العمر وإن قصرت أيامك. ولكن ماذا جنبنا من اللحظات والساعات

وكم ساعة آلمني مسها

وأزعجتني يدها القاسيه

فتشت فيها جاهداً لم أجد

هنيهة واحدة صافيه

ص: 25

وكم سقتني المر أخت لها

فرحت أشكوها إلى التاليه

فأسلمتني هذه عنوة

لساعة أخرى وبي ما بيه

ويحك يا مسكين هل تشتكي

جارحة الظفر إلى ضاريه

- والحياة ما هي؟ لجهلنا في الظاهر، ولغرورنا في الحقيقة، نزعم أنها ذلك القبس الذي هبط من نور السموات إلى سواد هذه الأرض. ولو أنها كانت من السماء لما دنست ذلك الدنس، ولا كدرت تلك الكدوة. بل لكانت نوراً صرفاً وحباً محضاً، ولرجعت دوماً إلى أصولها السماوية، فكانت صفواً زلالاً، وسحراً حلالاً

- الحياة. هي تلك المأساة العظمى التي يمثلها القدر على مسرح سعته الأرض. نأتيها كرهاً، ونزاولها كرهاً. نشعر بأن لنا اختياراً هو إلى الجبر. ونعلم بأن فينا جبراً هو إلى الاختيار. ونأبى إلا أن تكون مختارين إذا لذ لنا أن نختار، ونأبى إلا أن نكون مجبرين إذا طاب لنا الجبر. وهذه الفلاة، فلاة الجبر والاختيار، هي إحدى مصائب الحياة العظمى، فإذا أضفتها إلى كارثة الوجود ذاته، رأيت طرفاً من نقائض هذه الحياة التي تدعى أنها من أقباس السماء وما أبعدنا عن السماء أصولاً

- نولد رغم أنوفنا ونموت رغم أنوفنا. وبين المولد والممات. تتوالى الصور وتتالى الأحداث؛ فنمضي ناظرين إلى المسرح، وأفواهنا مفغورة مشدوهين عجباً. وكأننا نسأل لم المولد ولم الممات ولم ما بينهما؟ ونشعر بالعجز عن الجواب فنمضي مع الماضين نغذ السير ساعة وندلف أخرى. ولكن إلى الهاوية. . . إلى اللانهاية. . . إلى سفر الأبد الطويل. . . إلى الفوهة التي تبتلع ثم تبتلع، نهمة غرثانة جائعة

ولمَّ الشيخ عمران فضل ردائه والتف بعباءته وحيانا بيده. ثم شرع يمشي بقامته المديدة وخطواته الوئيدة المتزنة، ووجهه في هذه المرة نحو الأرض، كأنما مل مخاطبة السماء. فخيل إلى أنه يبحث في منكب من مناكبها عن تلك الفوهة الغرثانة الجائعة، يمضي نحوها ثابت القدم. . . مطمئن القلب. . . راضي النفس. . . فيلقي بها عبء شجونه، ويودعها قلبه بأسراره وآلامه وأحزانه، ولسان حاله يقول: يا ابن الأرض: إنما إلى الأرض تعود. هذا أول السفر وآخر المعاد.

إسماعيل مظهر

ص: 26

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

509 -

أما هذه فنعم

في (معجم البلدان) لياقوت

قال حفص ين عمر الأردبيلي: جلس سعيد بن عمر البرذعي في منزله، وأغلق بابه، وقال: ما أحدّث الناس؛ فإن الناس قد تغيروا. فاستعان عليه أصحاب الحديث بمحمد بن مسلم بن واره الرازي، فدخل عليه، وسأله أن يحدثهم، فقال: ما أفعل

فقال: بحقي عليك إلا حدثتهم

فقال: وأي حق لك علي؟

فقال: أخذت يوماً بركابك

فقال: فضيت حقاً لله عليك، وليس لك علي حق

فقال: إن قوماً اغتابوك فرددت عنك

فقال: هذا أيضاً يلزمك لجماعة المسلمين

قال: فإني عبرت بك يوماً في ضيعتك، فتعلقت بي إلى طعامك، فأدخلت على قلبك سروراً

فقال: أما هذه فنعم. فأجابه إلى ما أراد

510 -

وأين ذاك الواحد

في (شرح المقامات) للشريشي:

كتب بعض وزراء ابن عباد يتسخط الإخوان هذا البيت:

وإذا صفا لك من زمانك واحد

فهو المراد، وأين ذاك الواحد؟

فوقع في الكتاب: (وأين ذاك الواحد. صحف تعرف) فلما قرأه طار شروراُ. ومثل بالبساط، فلثمه بين يديه. وإنما صحف (وأين) فجاء منه (وأنت) فرد عليه من كلامه أبلغ جواب

511 -

خذ معها. . .

في (تاريخ بغداد) للخطيب:

أبو بكر الصولي: قال محمد بن زكريا: حضرت مجلساً فيه عبيد الله بن محمد بن عائشة

ص: 28

التيمي، وفيه جعفر بن القاسم الهاشمي. فقال جعفر لابن عائشة: ههنا آية نزلت في بني هاشم خصوصاً وهي: (وإنه لَذِكْرُ لك ولقومك) فقال له ابن عائشة: قومه قريش، وهي لنا معكم، قال جعفر: بل هي لنا خصوصاً

قال: فخذ معها (وكذِّب به قومك، وهو الحق) فشكت جعفر فلم يحر جواباً

512 -

الفاكهة واللحم

في (مفاتيح الغيب) تفسير الرازي:

(وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون) هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة؟ قلت: وكيف لا، وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل، ولا يصل إليها علمي القليل. والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة، والجائع مشته، والشبعان غير مشته؛ وإنما هو مختار، إن أراد أكل، وإن لم يرد لم يأكل. فخص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار

513 -

ألم تعلموا؟

شاعر في بعض الولاة:

إذا ما قضيتم ليلكم بمنامكم

وأفنيتم أيامكم بمدام

فمن ذا الذي يغشاكم في ملمة

ومن ذا الذي يلقاكم بسلام؟

رضيتم من الدنيا بأيسر بلغة

بشرب مدام أو بلثم غلام

ألم تعلموا أن اللسان موكل

بمدح كرام أو بذم لئام؟!

514 -

التوارد في السرقة

في (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة) لجلال الدين السيوطي: من أعجب ما وقع لأبي العباس أحمد بن علي الكناني الإشبيلي - الملقب باللص لكثرة سرقته أشعار الناس - في السرقة أن والياً قدم أشبيلية فانتدب أدباؤها لمدحه. قال: فطمعت تلك الليلة أن يسمح خاطري بشيء فلم يسمح، فنظرت في معلقاتي فإذا قصيد لأبي العباس الأعمى مكتوب عليه:(لم ينشد) فأدغمت فيه اسم الوالي. فلما أصبحنا وأنشد الناس أنشدت تلك القصيدة؛

ص: 29

فقام شخص وأخرج القصيدة من كمه وقد صنع فيها ما صنعت، ووقع له ما وقع لي، فضحك الوالي من ذلك وكثر العجب من التوارد على السرقة

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 30

‌النشيد

للأستاذ عمر أبو ريشة

يا قلب حزنك ما أشدِّهْ

خفر الحبيب اليوم ودَّه

ماذا عليك إذا تنا

سيت الهوى وطويت عهده

أمن المودة أن تع

يث بأضلعي؟ أمن المودة؟

جاوزت حد الحزن يا

واهي القوى! جاوزت حده

لو كان حزنك يستردُّ

وفاءه لك لاسترده

قد طاب بعدك عيشه

فعلام عيشك ساء بعده

كم مرتع بتنا به

ولليل حاك عليه بُرْده

ولكم أذعت إليه وج

دي في الهوى وأذاع وجده

وكم اتَّكا فوق الزهو

ر ومد لي باللطف زنده

حتى إذا طوقته

أدميت بالقبلات خده

عمر أبو ريشة

ص: 31

‌الفجر الغارب

(إلى ذكرى الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير (في مسابحه الأبدية)

للأديب محي الدين صابر

مرَّ في موكب الحياة غريباً

ومشى كالظِّلالِ فيه مُريباً!

وسرى كالخيال جَنَّحه الوحيُ

فعيناه تقرآن الغيوبا

يحمل الناي في يٍدٍ، منه طُهْرٍ

وبأُخرى، تراه يحمل كوبا

ِومشى في الحياة، نشوانَ، كالرحم_ة، دنيا ترِفُّ عطراً وطيبا!

وسقى الناس خَمَره، وهو يَصْدَى

فَحسَا الناس روحه مسكوبا

وشدا نايه فكان لحوناً

لو تجسَّمْنَ، خِلتَهُنَّ قلوبا

مشرفاً فوق ربوة الخلد كالرا

عي، عَلَى مولد الحياة رقيبا!

عصفت تحته الحياة، فلا الج

نُّ عزيفاً، ولا السوافي هُبُوبا!

ضَجَّةٌ تملأُ الوجود سكوناً

ساخراً رجعُهُ ومعنًى رتيبا!

فانبرى الشاعر المجنح في المو

كب، يُلقى إنجيله الموهوبا

ومضى يزحم الحياةًَ مِثالَّي

ة فِكر فكان فناً عجيبا

رقصت حوله أمانيُّ قلب

كاد بالخلق رحمة أن يذوبا

وسِعَ الكون كله وحواه

خفقة في ضلوعه أو وجيبا!

عاش في عالم من الروح صوف

يٍ، فجلاَّهُ عاَلماً مشبوبا

فيلسوف، دنياه حق وعدل

وانطلاق كالوحي فكراُ خصيباً

ورسالاتُ شاعر عُلوىٍّ

عاش كالطير في الروابي طروبا

أيها الشاعر الموشح بالخل

د سلاماً كالفجر غضاً رطيبا!

لم تزل تسبق الزمان وتعلو

قمم الفكر والخيال وثوبا!

ثائراً تُنكر القيود فأدرك

ت على صحوةِ الصباح الغروبا

كنت لحناً على الحياة غريباً

فتولى، فعاد رجعاً غريبا!

ما تلاقت فوق التراب حياتا

نا، وإن كنت لي أخاً ونسيبا

جمع الفكر في السموات دنيا

نا، كما يجمع المطاف الدُّروبا!

ص: 32

ولقد طوَّفَتْ حياتك في الأر

ض جراحاً بخاطري وندوبا!

يا أخى مَزِّق النقاب عن الغي

ب، وبين لنا الغد المحجوبا

وانسخ الشك باليقين فقد تَه

دى نفوساً، وقد تنير قلوبا!

ولقد تُنقذ الضحايا وما زا

لوا وَقُوداً يُؤَرِّثون الحروبا

لا تزال الحياةُ مجلى صراع

لا ترى غالباً ولا مغلوبا!

نحن في حيرةِ كما كنت فيها

وسُؤال، فهل لقيت مجيبا؟

وبنو الفكر في الحياة أُناس

يتحدًوْنَ كيف شاءُوا الخطوبا

إِنهم عنصر الخلود ولفتا

ت من الروح بُرِّئت أن تغيبا

إِيه يا شاعر السماء وَدَاعاً

ربما نلتقي هناك قريبا

لست أرثيك يا رفيقي ولكن

أنا حَيَّيْتُ فنك الموهوبا

محي الدين صابر

ص: 33

‌من الأدب البولندي

ستانسلوس أوجا خوفسكي

أحد الأحرار

للأستاذ حسين غنام

كانت دعوة مارتن لوثر المشهورة لا زالت طفلة غضة تحبو على يديها ورجليها، ولكنها كانت تتعثر كثيراً وتصطدم بعقبات قاسية، فحاربها البطاركة والرهبان في مختلف الأديرة والكنائس، وحاربها الملوك والأمراء والأعيان، بل حاربتها الشعوب أنفسها

وكان طبيعياً أن تتسرب تلك الدعوة الجريئة، في أوائل القرن السادس عشر، من بروسيا مهدها ومنشأها إلى جاراتها القريبة، وخاصة بولندا، وتلاقي صدى عند المفكرين الأحرار وأنصار التجديد الأجرياء

ولكن بولندا في تلك العصور كانت خاضعة خضوعاً عجيباً للبابا في روما. وكان البابا الكاثوليكي الروماني أشد خصوم دعوة لوثر التي ترمي إلى تجديد الدين وإصلاحه، دأب رجال الدين جميعاً في محاربة كل تجديد، أو ما يسمونه بدعة أو فتنة! فما بلك بخليفة الله في الأرض، وما يحيط به من آيات الجلال والتقديس، وهو يخشى أن تزعزع تلك الدعوة كيان روحانيته على الشعوب التي تقدسه؟

فكانت كل دعوة إلى الأخذ بآراء مارتن لوثر، أو ميل إلى تجديد الكنيسة يقابل بحرب عنيفة ولا شك مبعثها البابا، والمحرض الأكبر عليها هو وأعوانه الكثيرون

ولكن على الرغم من ذلك وجد بعض الأجرياء في بولندا في ذلك الحين، ولعل أول هؤلاء المصلحين الذين أثروا تأثيراً كبيراً في الكنيسة البولندية والحياة البولندية جميعاً هما أندرومودجافسكي وستانسلوس أوجاخوفسكي. ولكن ثانيهما كان أبعد أثراً وأجرأ قلباً وأعنف قلما وبيانا، وأشد إقداماً وأرسخ قدما من زميله

تلقى هذا الرجل علومه في وتنبرج، فاعتنق مذاهب المجددين وتشرب نظرياتهم وآراءهم، ثم صار تلميذاً للمجددين الدينيين العظيمين (مارتن لوثر) و (بلانجتن)

ص: 34

ثم نزح إلى إيطاليا وقضى فيها مدة قصيرة عاد بعدها إلى بلده. وكان ذلك سنة 1543، والتحق بالسلك الديني مبتدئاً برتبة صغيرة ما زال يتدرج منها حتى رقى في زمن وجيز إلى وظيفة القسيس الأول في

وكان وقتئذ عضواً في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولكنه لم يستطيع أن يخفي شعوره ضدها، وعملت فيه آراء أستاذيه المصلحين الكبيرة، كما استفزه قريبه الشاعر (ري) فكان لا يفتأ يعلن آراءه ويرددها غير خائف ولا وجل

وكان المذهب الديني الغالب آنئذ في مقاطعة (جاليسيا) - إحدى مقاطعات بولندة في ذلك الحين - هو المذهب الأرثوذكسي. كان هذا الرجل يقيم في تلك المقاطعة، وفيها إبرشيته التي يعمل فيها؛ فأخذ يكتب ويكتب في تمجيد العقيدة اليونانية، والدفاع عنها، وكان هذا ضد وظيفته، ولكنه لم يأبه لذلك، فقد كان غرضه مهاجمة البابا الكاثوليكي، والتعرض له فطلبته السلطات الدينية العليا للمحاكمة. واستطاع بعضهم أن يؤثر عليه تأثيراً مؤقتاً، وطلب إليه الرجوع عن تعاليمه ونبذها، ثم احرقوا كتابه الذي أعلن فيه هذه الآراء

ولم يكن عن ضعف رجوع الرجل عن آرائه؛ فدأب المصلح أن يمهد الطريق، ويحبس النبض، ولا يتردد في إحناء هامته للعاصفة القوية حتى تمر سراعاً، ثم ينتصب من جديد قوياً

فإن إذعان ستانسلوس لتلك السلطات الدينية كان إذعاناً وقتياً؛ فقد تزوج بعد ذلك بأمد وجيز من ماجدالين خَلمتسكي ضارباً بهذا الزواج تقاليد الكنيسة التي يمثلها، فدعاه مطران بشيمزل ليحاكمه على ما أتى، أمام محكمته، فذهب ستانسلوس برفقة صحبة قوية من أصدقائه؛ فخشي المطران أن تحدث فتنة، فلم يستطيع أن يفتتح الجلسة، وآثر أن يحكم على القسيس النافر غيابياً، ففعل، ثم وقع مرسوماً بفصله عن الكنيسة وتجريده من جميع رتبه الكنسية

وأعلنت فضيحته، وقيل إنه خارج على الدين الرسمي للدولة، وصودرت أملاكه. ولكنه لم يفزع لشيء من ذلك. ومر ذات يوم بكنيسة أثناء تأدية الخدمة الدينية فيها، فدخلها وتكلم في الجمع الحاشد بها، محتكما إلى المصلين، ومعلناً براءته مما نسب إليه

ولم تطل مدة الحكم عليه، فأصبح في نظر الكثيرين بريئاً منه، وانقلب التيار الآن وسار

ص: 35

جارفاً قوياً ضد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وتطاول التيار ضدها، حتى وصل مجلس الآراء، ووجد كثير من الرجال الذين أخذوا بناصر أوجاخوفسكي وآزروه

قال المستر جيروم هورسي السفير البريطاني لدى بلاط الروسيا في ذلك الحين، في بعض مذكراته (عندما جئت فلنا، أكبر مدينة في لتوانيا، قدمت نفسي وأوراقي كمندوب من الملكة، فقابلني الأمير (راجفل)، وهو أمير عظيم ذو حول وطول، ويعتنق المذهب البروتستانتي!)

فمن هذا يبدو لنا كيف بجح أوجافسكي في تحويل التيار، حتى بين الأمراء، ضد الكنيسة البولندية التي حاربته

وفي مجلس الأمراء ظهر أوجاخوفسكي ظهوراً عظيما، فقرأ على الأعضاء نصوص الحكم عليه بقطعه من الكنيسة، وتساءل عما إذا كان في استطاعة الأكليروس أن ينصرفوا في حياة إنسان مثل هذا التصرف

وكان قرار المجلس حينئذ أنه في مثل هذه الأشياء التي تتعلق بمواطن بولندي يجب أن تعرض على مليكه ليتصرف فيها

ولكن أوجاخوفسكي وجه خطاباً جريئاً إلى الملك وإلى مجلس الأعيان، ونجح في إرجاء هذا العرض، وقرر المجلس أن يستشيروا البابا فيما إذا كان يبقي أوجاخوفسكي زوجته أم يطلقها

ورأى أوجاخوفسكي أن العاصفة هذه المرة قوية ضده أيضاً. فآثر أن يحني لها هامته للمرة الثانية، ريثما تمر كما مرت سابقتها، فهادن الكاثوليك الرومانيين بعد ذلك. وفي السابع عشر من فبراير عالم 1552 برئ من قطعه عن الكنيسة وأعلن خضوعه للمجلس الديني فيما يتعلق بالعقائد، ولكنه تخلى عن قدره ورتبه الكنسية، آملاً أن تعترف السلطات الرومانية الدينية بزواجه.

كان هذا النبيل رجلاً قوياً جديراً أن يعمل الكثيرون على استمالته، وكان همهم الأكبر أن يفصلوه عن البروتستانت، ولكنه لم يكن ممن يحترمون البابوات (الأحبار الرومانيين)، فخاطب يوليوس الثالث بهذا الأسلوب: (تأمل، يا يوليوس، وتبصر جيداً؛ مَن من الرجال ستفعل فعلتك معه. إن هذا الرجل ليس إيطالياً تفرض عليه سلطانك وجبروتك، والواقع

ص: 36

أنني رجل روسي وهو ليس تحت رعويتك الباباوية الخسيسة، ولكني مدني من مملكة يجب حتى على ملكها أن يحترم قانونها ويطيعه إن في استطاعتك أن تحكم علي حتى بالموت، إذا أحببت، ولكنك لن تستطيع أن تنفذه فيَّ ولن ينفذ الملك، حكمك، لأن الأمر يجب أن يعرض على مجلس الأعيان. إن الرومانيين يحنون قامتهم ويركعون أمام جموع خدامك وأجرائك، ويحملون على أعناقهم نير الذل والعبودية عن كتاب الرومان الجبناء. . . ولكن هذه الحال لن تكون معنا. فحيثما يحكم القانون؛ فلا العرش، ولا الملك، ولا الحاكم، بمستطيعين أن يفعلوا ما يريدون، فالحكم لا يكون إلا للقانون وما يشرّع. إنه لن يقول، حالما تشير إليه بأصبعك، أو تبهر عينيه بخاتم الصياد السحري الذي في يدك، يا ستانسلوس أوجاخوفسكي! إن البابا يوليوس يريدك أن تذهب إلى المنفى، فيجب عليك أن تذهب، ولكني أُؤكد لك أن الملك لا يمكن أن يريد ما تريد أنت؛ فإن قوانيننا لا تسمح له أن يسجن أو ينفي أي شخص لم تحكم عليه محكمة خليقة بالحكم)

وأدرجت أعمال أجاخوفسكي ضمن القائمة السوداء في الفهرس البابوي، وأعلن الكتاب الكنسيون أنه خادم من خدم الشيطان

ولكنه بدل أن يرتدع بمثل هذه التصرفات، فقد انفجر ثائراً بتجريحات أقوى، وكتابات أعنف، وإليك مثالاً من مخاطبته للبابا بول الرابع:(بما أن هذا المكروه العربيد المعتوه الأخرق، الذي يسمى نفسه بول الرابع، قد أخرج موسى والمسيح من الكنيسة، فإني سأتبعهما بملء حريتي ورغبتي؛ فهل أستطيع اعتباره شيئاً حاطاً بكرامتي أن أكون زميلاً لهذين اللذين يسميهما الأخرق البغيض هرطيقين؟ هذا سيكون شرفاً لي وتاجاً يتوج رأسي. إن إهمال التعاليم القديمة أفسدنا وأذلنا وجردنا من شرفنا. يا بول! حذار أن تجر على إبرشيتك الخراب الأخير. نظف المدينة من جرائمها، واستأصل بذور الخسة والدناءة فيها، ولا تجر وراء الأرباح التي تجنيها لمصلحتك إني سأشرح لمواطني، بكل صراحة ووضوح، أن الفساد الروماني يضر الكنيسة ويؤذيها أكثرمما التواء اللوثرية)

بهذا وبمثله كان يخاطب أوحاخوفسكي الباباوات الرومانيين. وهو لم يكتف بذلك. فقد تناول هذا البابا في رسائل أخرى بالتجريح العنيف، وحمله من المذمات والقدح والشتم حملاً هائلاً، ثم بدأ مؤلفاً جديداً - لم يطبعه - ولكن بعض أصدقائه حدث أنه رآه مخطوطاً

ص: 37

وقرأه، وهو في هذا الكتاب وعنوانه - خلع روما - أو شئ شبيه بذلك يفضح جرائم وأغلاط الباباوات، ثم أعلن أنه سينضم إلى الكنيسة اليوبانية التي كانت وقتئذ المذهب الشائع للجزء الأعظم من سكان مقاطعة جاليسيا

وفي بعض ثورات أُوجاخوفسكي الهجومية، غير المتصلة ذكر بعض الحقائق اللاذعة المؤلمة

فقد بين أن الأقسام التي يقسمها المطارنة للأبريشية البابوية تمنعهم أن يكونوا رعايا أُمناء للملك

وقال - إنه تقلد مطران كاثوليكي روماني منصب عضو في الأعيان، فمن الضروري أن يكون خائناً لبلده، لأنه سيفضل منفعة روما على مصالح مليكه؛ فهو سيقسم يمين الطاعة للبابا، ثم يقسم بعد ذلك للملك

ووجه أوجاخوفسكي الخطاب إلى الملك، قال - وإن هذا القسم لينسخ حرية المطارنة، ويجعلهم جواسيس على الشعب وعلى الملك، إن هيئة الأكليروس العليا بتطوعها لقبول هذه العبودية قد دخلت في مؤامرات خسيسة ضد بلادهم نفسها، وعلى الرغم من تآمرهم ضدك وضد عرشك، فهم لا يزالون يحتلون مقاعدهم في مجلس الشورى. لقد فحصوا خططك واستقصوها، ثم بلغوها إلى رئيسهم الأجنبي)

وقال أوجاخوفسكي في موضع آخر عن هؤلاء الأكليروس (دعهم يعمدون ويبشرون، ولكن لا تدعهم يوجهون أعمال الدولة وشئونها. وإذا كانوا يريدون - على الأقل - أن يحتفظوا بمناصبهم في مجلس الأعيان، فدعهم يبرأون من طاعتهم لروما)

هذه الآراء الجريئة ذكرها أوجاخوفسكي في كتابه البابا الأكبر، الذي نشره بلا توقيع في سنة 1558، ولكن المعروف المشهور إن هذا الأثر كتب بقلم أوجاخوفسكي

وقد أثمرت هذه الآراء، وهذه الثورة التي ثارها ذلك الرجل الفاضل الجريء، في القرن السادس عشر، ثمراً طيباً حتى في عصره، فقد اشتد النضال بين أنصار الباباوات وبين أنصار المجددين، واستعرت نار الشحناء بينهم واتسعت رقعتها، وعمت أرفع الطبقات، ومنها طبقات الأمراء والأشراف ورجال الأكليروس وخدمة الدين عامة، حتى أن قسيساً حكم عليه بالموت حرقاً لأنه كان يدعو للمذهبين جميعاً ولقيت إحدى السيدات نفس الجزاء

ص: 38

لأنها أنكرت الواقع

وسارت عدوى التشكك إلى عديد من النبلاء، وتزوج الكثيرون من رجال الأكليروس

ويقال أن الملك سيحسموند، كان ميالاً إلى مذهب المجددين الدينيين، وسمح للمجدد الكبير كالفن أن يهدي إليه أحده مؤلفاته، وأن يقدم له لوثر طبعة من إنجيله الألماني، وهذا كله بتأثير دعوة ستانسلوس أوجاخوفسكي. . .

(الإسماعيلية)

حسين غنام

ص: 39

‌البريد الأدبي

الأستاذ ساطع الحصري

من أنباء دمشق أن الحكومة السورية اغتنمت فرصة العطلة الموقوتة التي اضطر إليها أستاذ التربية في الشرق العلامة (أبو خلدون ساطع الحصري)، فعرضت عليه منصب المستشار العني لوزارة المعارف فيها، فقبله الأستاذ لأجل مسمى بعد تمنُّع شديد، ليتسنى له الرجوع متى شاء إلى العراق وطنه المختار، فيتبوأ فيه مكانه المرموق من قيادة النهضة الحديثة. وهذا التعيين ولاشك توفيق من الله يُناط به الأمل في بناء التعليم في الجمهورية السورية على أساس متين من العلم الصحيح والخبرة الحكيمة

ختان الأنثى بين الدين والرأي

أخشى أن يكون الأستاذ عبد المتعال الصعيدي قد شغله تطبيق قواعد فن الجدل عن أساسيات الموضوع فقد أوحت إليه طريقته في الدفاع عن الدين أن بعد إذ أجمع الأطباء على رأي الدكتور أسامة، بأن يوفق بين الطب والدين عن طريق تأويل حكم الدين، وهذا في نظره سهل في هذه المسألة، لأن الأحاديث التي وردت فيها أحاديث آحاد

فلنفرض أنه لم ينعقد إجماع، ولكن انعقدت أغلبية على رأى الدكتور أسامة؛ أفكان هذا مغيراً شيئاً من الناحية العملية للموضوع؟ إن الأستاذ عندئذ لا يكون عند نفسه مضطراً إلى التأويل، ولكن الشبهة تبقى حيث كانت من نفس الدكتور ومن لف لفه. وسيقال إن الدين يخالف أغلبية العلماء أو أغلبية الأطباء، ويكون الأستاذ لم يصنع شيئاً لخدمة الدين أو لإزالة الشبهة بتعليقه تأويل حكم الدين على انعقاد الإجماع

ثم لنفرض أن الإجماع انعقد على رأي الدكتور أسامة. أفكان يحل للأستاذ عندئذ التنازل عن حكم الدين بتأويله وإهمال أحاديث الآحاد الواردة فيه؟ كلا! لأن قاعدة التأويل التي يستند إليها مشروطة بالاضطرار لا يحل تطبيقها إلا عند تناقض النقل والعقل، بحيث لا يكون هناك سبيل إلى التوفيق إلا بالتأويل، وهذا الشرط مفقود في هذه المسألة لثبوت حكمة أخلاقية لختان الأنثى، وثبوت مراعاة الدين لوظيفة الزائدة المختونة بنهيه عن الإنهاك عند الختان. من أجل هذا قلت لو انعقد الإجماع ما تغير الحكم، لأن الخلاف هنا خلاف رأي لا خلاف واقع، ولم يقل أحد بتأويل النص من أجل الرأي كائناً ما يكون، وقد أشرت إلى هذا

ص: 40

في عنوان كلمتي، ولكنها إشارة لم يقطن لها لأستاذ

ومن العجيب أن الأستاذ يعقل - كما يقول في كلمته - أن يتمسك متمسك بالطب رغم الدين، أو بالدين رغم الطب، ولا يعقل أن يتمسك متمسك بالدين والطب كليهما، لأنه لا خلاف في الواقع بينهما. أفليس هناك طريقة للتوفيق عند الأستاذ إلا طريق التأويل حتى يعجب من سالك سلك غير هذا الطريق؟ أم هل الطب عند الأستاذ هو رأي الأطباء لا حقائق العلم حتى يعجب ممن لم يبال بإجماع الأطباء لو أجمعوا على رأي يخالف حكم الدين في مسألة اتفقت حقائق الطب فيها مع حكم الدين؟

ويقول الأستاذ أني أجرى على طريقته في التوفيق بين العلم والدين، وددت لو جرى وجريت في هذا على طريقة واحدة، ولو نسيت بعد ذلك إليه لا إلى من سبقني وسبقه. إني مخبره بطريقتي والأمر إليه في أن يقول إنها أيضاً طريقته. إني أرى مستحيلا أن يتناقض العلم والدين بحيث يضطر للتوفيق بينهما إلى قاعدة التأويل، وهذه الاستحالة ناتجة عندي من أن حقائق العلم وأحكام الدين القصية مصدرها واحد، هو الحق سبحانه فاطر الفطرة ومنزل الدين. أما الرأي - رأي المجتهدين في الدين وأصحاب النظريات في العلم - فقد يختلف مع حقائق العلم أو نصوص الدين، وعندئذ يكون هذا الرأي خطأ قطعاً كرأي الدكتور أسامة في موضوع الختان

محمد أحمد الغمراوي

الأستاذ إسعاف النشاشيبي

ورد القاهرة علامة فلسطين وأديب العربية الأستاذ (إسعاف النشاشيبي)، فوردها العلم الحم والفضل العظيم. و (الأستاذ الجليل) في صف القيادة من نهضة العرب، وفي صدر الأبوة من أسرة الرسالة، فلا يحتاج فضله إلى تعريف، ولا دكره إلى تشريف. فنرجو للأستاذ الصديق طيب الإقامة ودوام السلامة

إلى طلبة السنة التوجيهية

في الأسبوع المقبل - إن شاء الله - ستقرئون مقالي عن كتاب (أخبار أبي تمام)، وهو مقرر للامتحان التحريري في مسابقة الأدب العربي

ص: 41

وأسارع فأدعوكم إلى النظر في (علم البديع) نظر الفهم والاستقصاء، لتقفوا على أظهر جانب من جوانب التحديد في شعر أبي تمام، فمن المؤكد أنكم ستسألون عن هذه الناحية لأهميتها في تحديد اتجاه الصياغة الفنية عند هذا الشاعر المجيد

وأدعوكم أيضاً إلى النظر في كتاب (الموازنة بين الطائيين) للاّمدي، ففيه معارف كثيرة تزيد شخصية أبي تمام وضوحاً إلى وضوح

ويجب حتما أن تنظروا في ديوان أبي تمام؛ فإن لم تستطيعوا الوصول إليه بسبب نفاذ طبعته، فلا يفتكن أن تطيلوا التأمل في النماذج التي اختارها الصولي، وإن خفي عليكم شئ من دقائق تلك النماذج فاسألوا أساتذتكم بدون تسويف

ولا تنسوا ما أوصيتكم به من قبل، وهو الحرص على الظفر بجوائز وزارة المعارف، فذلك يقوى ثقتكم بأنفسكم، ويزيدكم حباً في التفوق

زكي مبارك

ص: 42