الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 553
- بتاريخ: 07 - 02 - 1944
علامات الزمن
للأستاذ عباس محمود العقاد
للزمن علامات في أقوال الشعراء والأدباء
ولأقوال الشعراء والأدباء علامات في الزمن
ولكن العلامات التي تصدق في دلالتها، ويقل خطأها في إشاراتها هي على الأعم الأرجح علامات الصناعة دون علامات الطبيعة
لأن الطبيعة الإنسانية تتشابه في جميع الأزمان وتتماثل فيها الخصائص والعيوب بين جميع الأجيال، فلا يقال إن السخف وقف على عصر دون عصر، ولا إن الركاكة مقصورة على جيل دون جيل، وإن هذا البيت لا يمكن أن يصدر عن شاعر في الجاهلية لأنه سخيف، أو لا يمكن أن يصدر عن شاعر متأخر في القرن التاسع عشر لأنه متين ظاهر الفحولة، فهذه علامات لا تقطع بالقول الفصل على وجه اليقين، ولكنها تذكر للاستئناس كما يقال في لغة الفقهاء والمحامين، إذ يوجد السخف لا مراء في كلام الجاهلية كما توجد القوة والجزالة في كلام المتأخرين
إنما العلامات القاطعة في دلالتها التاريخية هي علامات الصناعة اللفظية والمعنوية على اختلافها في جميع اللغات؛ لأن المحسنات والموشحات وضروب التطريز والتشطير والتوشيع قد ظهرت عندنا في اللغة العربية على عهود معلومة تنحصر بالسنوات فضلاً عن الحقب والفترات. فلا يعقل أن يتكرر الجناس الكامل في الشعر الجاهلي ولا أن تصدر أفانين التوشيح عن مخضرم أو متقدم بين الأمويين. وقل مثل ذلك في كل علامة صناعية مرجعها إلى زمن معلوم
أما الركاكة أو السخف أو الإعياء أو اختلال الوزن فكل أولئك قد يوجد في الجاهلية كما يوجد في عصور المماليك. ورب بيت لشاعر من شعراء العصر الأول تسلكه بين أبيات النظامين من مداح الريف فلا تشعر بغرابته بينها. كقول حسان مثلاً:
وبحسبنا فخراً على من غيرنا
…
حب النبي محمد إيانا
أو بيت عريق في القدم لو ألقيته على لسان خليع من خلعاء الأزبكية لجاز أن يكون من كلامه إذا نظرنا إلى الخلاعة والمجون، كقول الأعشى:
قالت أميمة لما جئت زائرها
…
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
فهذا البيت هو بعينه ترجمة (يا دهوتي عليك ويا دهوتي منك يا راجل أنت) التي تقطر بخلاعة المحدثين، إذا كانت المسألة مسألة عيب من عيوب النفس والمزاج
ولن يؤخذ بعلامة المتانة والجزالة مأخذ اليقين كما ليس يؤخذ بها هذا المأخذ في باب الركاكة والإسفاف
فالبارودي مثلاً يقول في إحدى معارضاته:
ألا حي من أسماء رسم المنازل
…
وإن هي لم ترجع بياناً لسائل
خلاء تعفتها الروامس والتقت
…
عليها أهاضيب الغيوم الحوافل
فلأياً عرفت الدار بعد ترسم
…
أرامي بها ما كان بالأمس شاغلي
فللعين منها بعد تزيال أهلها
…
معارف أطلال كوحي الرسائل
فأسبلت العينان منها بواكف
…
من الدمع يجري بعد سح بوابل
والشيخ محمد عبد المطلب يقول:
لنا باللوى مغنى عهدناه آهلاً
…
سقى الله روضات به وخمائلا
كساه السحاب الجون من نسج نبته
…
عقود جمان نظمت وغلائلا
أو يقول:
دعته العلا أن الثواء من الوهن
…
فأسلم أرسان الركاب إلى الظعن
وأرسلها في ذمة الشوق فانبرت
…
صوادي تنسيها المنى حلب المزن
والسيد البكري يقول:
سقى دور مية بالأجرع
…
مسفٌ من الدجن لم يقلع
ولو ترك الشوق دمعاً بجفني
…
سقيت المنازل من أدمعي
ويروى مثل هذه الشعر لفئة من المحدثين لا يعدون الفترة العارضة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فماذا لو أن ناقداً من المتحذلقين الذين يختطفون القول في علامات الزمن خطف الببغاوات رجع إلى مقاييسه الخاطفة فأنكر نسبة هذا الكلام إلى عصره وزعم أنه أشبه بعصور البداوة وأقرب إلى فحولة الجاهليين أو المخضرمين؟! بل ماذا لو أضاف إلى ذلك أمثلة من الشعر والنثر الشائعين في هذه الفترة، فقال جازماً إن
الأسلوبين لا يصدران عن عصر واحد؟
إنه لو قال ذلك لكانت حجته أقوى وأسلم من حجة القائل أن شاعراً في العصر الإسلامي الأول لا يتأتى أن ينظم هذا البيت!
لواحي زليخا لو رأين جبينه
…
لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
لأنه في زعمه بيت تعوزه متانة الشعر في ذلك العصر. ولو صح أن المتانة تعوزه لما كان ذلك جازماً باستحالة نظمه في عصر من العصور، لأن عصراً من العصور الأولى أو الأخيرة لن يخلو من بيت ركيك أو سخيف
ومن المصادفات الحسنة أن كلامنا في الخلاف على صاحب هذا البيت يظهر في الرسالة وفيها كلمة للأديب الداغستاني يذكر فيها أن مؤلفي (قصة الأدب) نسبا أبياتاً إلى كثير عزة وهي منسوبة في كتاب الأغاني إلى بشار. ومنها هذا البيت:
يزهدني في حب عزة معشر
…
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
وهناك قوم ينسبون الأبيات إلى ذي الرمة ويضعون (مية) في موضع عزة من البيت المتقدم، وبين العصرين دولة مضت بصدر الإسلام وأعقاب الأمويين. ومن الأبيات الثلاثة بيت يشير إلى النظر هو أليق ببشار الضرير حيث يقول:
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
…
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وهناك أبيات ومقطوعات وموشحات ينسبها أناس إلى شعراء من الأندلس وينسبها آخرون إلى شعراء من بغداد ولا سبيل إلى القطع بصواب النسبة إلا الرجوع إلى علامات الصناعة وعوارض البلدان، أو الرجوع إلى دليل قاطع من العقل يبطل به النقل كل بطلان
وصفوة القول أن علامات الزمن في الشعر إنما تؤخذ مأخذ اليقين إذا اتصلت بحدود الصناعة وأوقاتها، ولكنها فيما عدا ذلك لا تبلغ مبلغ اليقين إلا بدليل قاطع من العقل أو دليل قاطع من النقل، أو بالدليلين معاً مجتمعين. وليس من ذلك هذا الزعم الذي أتى به المعترضون على رواية البيت المنسوب إلى عروة ابن الزبير في كتابنا (الصديقة بنت الصديق)
وهؤلاء المعترضون يزعمون أنهم قد أتعبوا أنفسهم تقصياً للكتب المحترمة في السير والأدب والتاريخ فلم يعثروا على إشارة إلى القصة التي أنكروها جملة وتفصيلاً وحسبوها
من تلفيق كتب الأسمار التي لا يطلعون عليها
ومع هذا لم تقتصر الإشارة إلى تلك القصة على رواية واحدة ولا على كتاب واحد من كتب السير والأدب والتاريخ (المحترمة)
فأخرج أبو نعيم في الدلائل والخطيب وابن عساكر فيما روى السيوطي في شرح شواهد مغنى اللبيب، قال رواية عن السيدة عائشة:
(. . . كنت قاعدة أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت، فقال ما لك بهت؟ قلت جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نوراً؛ ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، حيث يقول:
ومبرّأ من كل غبّر حيضة
…
وفساد مرضعة وداءِ مُغْيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
…
برقت بروق العارض المتهلل
فهذه رواية في كتب محترمة تذكر التمثيل بالشعر في وصف شمائل النبي، وتذكر مناسبة التمثيل ويختلف فيها ناظم البيتين، ولم يقل أحد أن أبا نعيم والخطيب وابن عساكر ومحمد بن قاسم حبوس من أصحاب السمر الذين لا يذكرون مع كتاب التاريخ والسير، ويضاف إليهم السيوطي صاحب التفسيرات والأمالي في النحو والعربية؛ فأين جماعتنا إذن من الكتب المحترمة والاحترام؟
ويذهب بنا القول في أدلة العقل والنقل حول كتابنا (الصديقة بنت الصديق) إلى مناقشة الأستاذ الصعيدي مرة أخرى فيما اعتمدناه من النقل المتواتر الذي لا يناقض العقل على ما تراه
فالعقل لا يمنع أن تراجع السيدة عائشة محمداً صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، ولا يمنع أن تخالفه في ضرب من الشعور، ولا سيما شعور الغيرة التي بلغت أشدها بعد مولد إبراهيم من مارية القبطية
ومن المحقق بالمناسبات القرآنية أن النبي عليه السلام هجر نساءه شهراً لأنهن راجعنه وألححن في مراجعته في شؤون النفقة، وفيما بينهن من التغاير والتناظر الذي تعددت أسبابه ومناسباته
ومن المتواتر في الروايات الموثوق بها أن عائشة كانت تراجع النبي لأنه كان يكرم ذكرى
خديجة وهي تقول عنها أنها عجوز حمراء الشدقين، وكان يميل إلى صفية وعائشة تقول عنها أنها قصيرة، وكانت تزعم للنبي أنه أكل مغافير وهو لم يأكل المغافير
فهذه المراجعات والمناقشات لا ينفيها العقل ولا يستغربها، بل نقيضها هو الأحق بالنفي والاستغراب، لأنه مناقض لطبيعة الإنسان
ومهما يكن من قول النظام في معنى الواقع ومعنى التصديق فالواقع أن عائشة رضى الله عنها كانت تكذب لو أنها قالت إنها ترى شبهاً في إبراهيم وهي لا تراه. والواقع أن الغيرة تحجب النظر عن الشبه الذي يمتنع فيه الخلاف؛ فكيف بالشبه الذي يجوز فيه الخلاف؟ وأي شبه في طفل مولود لا يختلف فيه نظران؟
كذلك لا غرابة في أن يدعو النبي عائشة أو غيرها إلى الاستغفار إن كانت ألمت ببعض الذنب؛ فإن الاستغفار مطلوب بنصوص القرآن، ومطلوب بالعقل والبداهة، ولا مناقضة فيه لأدب النبوة ولا لأدب الحاكمين
ولست أرى من واجب المؤرخ أن يبطل الروايات المنقولة لأنه يظن ظناً ضعيفاُ لا سند له أن عائشة لن تقول هذا القول ولن ينطلق به لسانها مع فلتات الغيرة وجمحات المغاضبة، وإلا انتقلنا من البحث في عصمة الأنبياء إلى البحث في عصمة أزواجهم وأقربائهم حتى من فلتات اللسان، حيث تبدر الفلتات من كل إنسان، وإننا لننزه العقل الآدمي أن نغله بأمثال هذه القيود
عباس محمود العقاد
2 - بركة خان
أول مسلم من ملوك التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
واستمرت المكاتبة والمهاداة بين الملوك من بني جوجر وبين سلاطين مصر زمناً طويلاً، وقد فصلت كتب التاريخ بعض المراسلات بين الدولتين ولا سيما بين بركة والملك الظاهر بيبرس حين كان المسلمون في فزع من التتار وبخاصة هلاكو وأشياعه من الذين غزوا ديار المسلمين حتى استولوا على بغداد ثم تجاوزوا إلى الشام حتى وقف سيلهم بعد موقعة عين جالوت سنة 658هـ
لما بلغت مصر أفواج التتار من أصحاب بركة الذين قدمنا الكلام عنهم، وعلم الملك الظاهر بيبرس بإسلام الملك بركة وعرف أحوال مملكته ومقر ملكه؛ أرسل إليه رسلاً معهم اثنان من التتار الذين قدموا إلى مصر
وحمل الرسل كتاباً إلى الملك بركة يرغبه في الجهاد ويحثه عليه، ويصف له جند المسلمين وكثرتهم وأجناسهم ويذكر من في طاعة الملك الظاهر من ملوك الأقطار، ومن هادنه وصالحه من ملوك الفرنجة وغيرهم، ويخبره بقدوم التتار من أنصاره إلى الديار المصرية، وأنه لم يأل في إكرامهم والحفاوة بهم، وإنزالهم المنازل الرفيعة
جمع السلطان الأمراء والأعيان وأمر أن يقرأ عليهم الكتاب، واستشارهم فيه، فاستحسنوه
يقول القاضي ابن عبد الظاهر كاتب السلطان بيبرس: (ولما كان يوم الخميس ثاني المحرم سنة 661 جلس السلطان مجلساً عاماً فيه جميع الناس، وجماعة التتار الواصلين، ورسل السلطان المتوجهون إلى الملك بركة، وحضر الإمام أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد. . . أمين الخليفة المسترشد بالله. وبايعه السلطان بعد ثبوت نسبه عند قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. وبايعه الأمراء والعامة والتتار الواصلون، والرسل إلى الملك بركة، ولما تمت هذه البيعة المباركة حصل الحديث معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة فوافق على ذلك ثم قرء الكتاب ثانياً بحضوره وانفصل المجلس)
(ثم أمر السلطان بعمل نسبته الطاهرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكتبت وأذهبت وسيرها إلى الملك بركة)
(فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم يعني يوم البيعة، اجتمع الناس وحضر الرسل المتوجهون إلى الملك بركة. فبرز الخليفة وعليه سواده، وصعد المنبر وخطب وصلى الجمعة بالناس ودعا للملك الظاهر وللمسلمين)
(ثم اجتمع الرسل بالخليفة والسلطان وحملهم السلطان من المشافهة ما فيه صلاح الإسلام؛ وعرف أصحابه التتار أحوال عساكره وكثرتها وما هو بصدده من جهاد وما يبذله من الأموال في نصرة الدين، وقتال الأعداء المشركين، وأنه محب للملك بركة وداع له بالنصر على الأعداء، فوافق له على ما فيه صلاح العالم)
هذه صفحة من التاريخ الإسلامي لم تعط كفاءها من القراءة والتأمل، وفصل من سياسة مصر في جهاد أعداء الإسلام لم ينل نصيبه من الإيضاح والشرح. هاهو ذا الملك الظاهر بيبرس وأمراؤه وعلماء مصر وكبراؤها يحيون الخلافة العباسية ليجمعوا عليها قلوب المسلمين، ويثبتوهم في تلك الفتن المحيرة، والكوارث المروعة. وهاهم أولاء يرسلون الكتب والهدايا والرسل إلى بركة خان ابن عم هولاكو، لينحاز إليهم ويحارب بني عمومته ويفل حدهم، ويكف بأسهم عن البلاد الإسلامية. وليس اختفاء السلطان بمبايعة الخليفة العباسي وإثبات نسبته إلى الرسول وإرسالها إلى الملك بركة، وصلاة الخليفة بالناس، وحضوره مفاوضة السلطان والرسل - ليس هذا كله إلا إعلاء لشأن الخلافة وإيذاناً لبركة بأن الخلافة التي أزالها ابن عمه وخصمه وعدو المسلمين هولاكو، قد حيت في مصر وكتبت إليه تستنجده وتستنصره بالإسلام دينه الذي ارتضاه وأنعم الله به عليه
وهذه مأثرة لسلاطين مصر في القرن السابع بعد بلائهم المشكور في دفع الصليبيين مائتي عام، وقبل جهادهم لرد تيمور عن الشام ومصر في مفتتح القرن التاسع. وإنها لمفاخر خالدة ومساع محمودة جديرة بعناية مؤرخي الإسلام
سار رسل الملك الظاهر حتى بلغوا القسطنطينية فلقوا بها رسل الملك بركة المتوجهين إلى مصر؛ فرجع معهم أحد الرسل المصريين، وهو الفقيه مجد الدين ألجأه المرض إلى العودة. وكتب ملك الروم إلى الظاهر أن رسله قدموا سالمين وتوجهوا إلى الملك بركة في صحبة رسل من عنده. ومؤرخو المسلمين يسمون ملك القسطنطينية في ذلك العصر الأشكري وهو تعريب اسم الأسرة التي سيطرت على مملكة الروم الشرقية في تلك العصور
ثم يصف القاضي ابن عبد الظاهر مسير الرسل المصريين إلى القرم. ثم رحيلهم عنها إلى أن بلغوا شواطئ نهر إيل (الفلجا) في واحد وعشرين يوما. يقول:
وهو نهر حلو سعته سعة نيل مصر، وفيه مراكب الروسن وهو منزلة الملك بركة. وحملت إليهم (إلى الرسل) الإقامات والأغنام طول هذه الطرقات)
ولما اقتربوا من المخيم (الأردو) قابلهم الوزير شرف الدين القزويني، وهو يحدث بالعربية والتركية وأنزلهم في ضيافة الملك
ودعاهم الملك بركة من الغد فساروا إلى مضربه في صحبة الوزير شرف الدين. وعرفوا آداب الدخول على الملك
يدخلون إلى الجهة اليسرى؛ فإذا أخذت منهم الرسائل ينتقلون إلى اليمن، ويقعدون على الركبتين. ولا يدخل أحد بسيف أو سكين، ولا يطأ عتبة الخيمة. . . الخ.
كان الملك في خيمة عظيمة تسع خمسمائة فارس مكسوة باللباد الأبيض ومبطنة بثياب نفيسة ومزينة بالجواهر، وهو جالس على سرير، واضع رجليه على كرسي فوقه وسادة، لأنه كان مصاباً بالنقرس، وإلى جانبه الخاتون الكبرى، أي كبرى زوجاته (طقطفاي خاتون) - وكان له امرأتان أخريان ججك (زهرة) خاتون دكد (جوهرة) خاتون، وعنده زهاء خمسين أميراً على كراسي. وكان بركة كما روى ابن عبد الظاهر:(كبير الوجه خفيف اللحية في لونه صفرة، يلف شعره عند أذنيه، في أذنه حلقة ذهب فيها جوهر مثمنة. وعليه قباء خطائي وعلى رأسه سراغوج وفي وسطه حياصة ذهب مجوهرة معلق بها صولق بلفاري أخضر، وفي رجليه خف كيمنخت أحمر وليس في وسطه سيف، وفي حياصته قرون سود مقمعة بذهب)
دخل الرسل وأدوا رسالة الملك الظاهر فسر بها بركة سروراً عظيما، وأمر الوزير فقرأ الكتاب، وأمر بأن يجلس الرسل من يمينه خلف الأمراء الذين بين يديه، وقدم لهم القمز ثم العسل المطبوخ، ثم اللحم والسمك، ثم أمر بإنزالهم عند زوجه ججك خاتون وانصرفوا آخر النهار من الغد إلى منازلهم
وكان الملك بركة يدعو الرسل كل يوم يحدثهم ويسألهم عن أخبار مصر وعجائبها: سأل عن النيل والمطر وعن الفيل والزرافة، وقال سمعت أن عظماً لابن آدم ممتد على النيل
يعبر عليه الناس فقالوا هذا ما رأيناه ولا هو عندنا. ويقول ابن عبد الظاهر:
(وكان عند الملك بركة رجل فقير من أهل الفيوم اسمه الشيخ أحمد المصري له عنده خدمة كبيرة. ولكل أمير من أمرائه مؤذن وإمام، ولكل خاتون أيضاً مؤذن وإمام. والصغار الذين عندهم لهم مكاتب يتلقنون فيها القرآن العزيز)
ما أعجب الأخوة الإسلامية التي وصلت بين بركة وقومه ووصلته بالمسلمين في بقاع الأرض كلها، وصيرته حليفاً للمصريين على ابن عمه هولاكو، ثم أحاطته بعلماء المسلمين وكبرائهم من غير قومه. فهذا وزيره شرف الدين قزويني يعرف العربية، وهؤلاء علماء من أقطار شتى ينحازون إليه، وهذا رجل مصري من الفيوم يعيش في كنفه ويحظى لديه.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
طاقات ريحان
هدية إلى شعراء في هذا الزمان
لأستاذ جليل
يقرض قارضون في مصر والشام والعراق وبلاد المغرب - هذا الذي يطلع في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية والدواوين العامة؛ فإذا تعقب قارضي ذاك القريض متعقبون، وسوَّءوا عليهم ما يُهرئون، وأرذلوا تلك المخزيات المهلهلات - حِرد أولئك المقضِّدون والقوالون والفصالون ونزقوا، ولبثوا ليالي ونهرا متأوهين متأففين يلعنون النقد والناقدين. والناس في كل زمان لا يحبون إلا المدح والتمجيد، وبخ بخ، وزه، ومرحى. . .
يهوى الثناء مقصر ومبرز
…
حب الثناء طبيعة الإنسان
وقد أردت أن أتقرب إلى أصحاب الشعر البهرج الهزروفي برواية أحاديث وأقوال في شعراء من قبلهم قالوا الشعر واللغة العربية عربية والناس ناس (والأدب غض والزمان زمان) ليتعزى الأصحاب بما يقرءون ويسمعون، وليتأسوا بإخوان لهم سابقين (إن الأسى تدفع الأسى)
ولولا الأُسى ما عشت في الناس ساعة
…
ولكن إذا ما شئت جاوبني مثلي
عمرت للشرور دهراً فصارت
…
للتعزّي رباعهم والتأسي
وبآبائك الكرام التأسي
…
والتسلي عمن مضى والتعازي
وليستيقن القوم أن الله لم يدخر السخف لهذا الزمان، ولم ينج عصراً من العصور من خلط وهذيان. والدواهي أقاسيم، جزأها وقسمها بين الناس صانع حكيم
* (قال عبد الرحمن بن حمزة المكي: كان أبو العتاهية إذا حج يجلس عندي بمكة، فجاءه شاعر كان عندنا، فجعل ينشده وأبو العتاهية لا يصغي إليه لأنه لم يستجد شعره، فقال له الشاعر: مالك لا تصبر حتى تسمع؟ فقال:
سأصبر جهَدي لما أسمع
…
فإن عيل صبري فما أصنع؟
* سمع عروة بن الزبير من ابن له شعراً، وكان ابنه هذا يقول الشعر، فقال له: يا بني، أنشدني، فأنشده حتى بلغ ما يريد من ذلك، فقال له: يا بني، إنه كان شئ في الجاهلية يقال له: الهزروف بين الشعر والكلام، وهو شعرك
* قال أبو العيناء: دخلنا على العتبي نعوده وقد مرض، فقال: ما أجزع من الموت كجزعي من (أبي مسلم الخلق) لأني أخاف أن يرثيني كما رثى الأصمعي
* قال الهيثم السمري: حدثني شاعر من موالي بني تميم كان يألف أبا نؤاس، وكان أديباً طريفا قال: دخلت على أبي نؤاس في علته التي مات فيها، فسر بدخولي عليه، ونشط؛ فقلت له أعرض عليك شعراً لي؛ فقال: أعلى هذه الحال؟ فقلت له: أنت بخير حال. وأنشدته إياه فجعل يبكي، فقلت له: لم تبكي؟ لك بسائر اليهود والنصارى والملوك أسوة. . . فقال لي: كم تظن من شاعر قد مدح بأحسن من شعرك هذا فكان ثوابه أن صفع حتى عمى، وأنا أسأل الله أن يرزقك ما رزقهم فقال له مالك لا شفاك الله!
* أنشد رجل الفرزدق شعراً له وقال له كيف تراه
فقال: لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك
* قال السجستاني: أنشد رجل ابن مناذر قصيدة، فجعل يقول: غفر الله لك، غفر الله لك! فلما فرغ قال: ردها على شيطانك لا يمتن بها عليك
* قال الطبري في تاريخه: قال محمد بن سلام كان المهدي يقعد للشعراء فدخل عليه شاعر طويل اللحية، فأنشده مديحاً له فقال فيه:(وجوارٍ زفرات) فقال المهدي: أي شئ زفرات؟ فقال له: ولا تعلمه أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين لا تعرفه، أعرفه أنا؟ كلا والله. فقال المهدي: ينبغي أن تكون هذه الكلمة من لغة لحيتك.
* أنشد رجل أعرابياً شعراً وقال له: هل تراني مطبوعاً؟
قال: معم على قلبك
* قال الصولي في كتاب الأوراق والمرزباني في الموشح: سمع أحمد بن يوسف الكاتب لأخيه شعراً قد كتب به إلى هوى له فكتب إليه أحمد: وفقك الله (يا أخي) للسداد، وهداك للرشاد، قرأت لك شعراً أنفذته إلى من تخطب مودته، وتستدعي عشرته، فسرني شغفك بالأدب، وساءني اضطرابك في الشعر، وليس مثلك من أخرج من يده شيئاً يعود بعيب عليه، وأعيذك بالله أن تلج لجة الشعر بلا عوم ينجيك منها، وسباحة تصدرك عنها، فتنسب إلى قبيح أمر هويت النسبة إلى حسنه، فاعرف الشعر قبل قوله، واستعن على عمله بأهله،
ثم قل منه ما أحببت، إذا عرفت ما أوردت وأصدرت
* قال ابن الجوزي: أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً له فقال: كيف تراه؟
قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من جوفك لأنك لو تركته لأورثك السل
* قال إسحق الموصلي: أنشدت أبا عبيدة أبياتاً لبعض القدماء فقال: أترى فيها مثلاً أو معنى حسناً؟ فقلت: لا
فقال: من جعلك حامل أسفار؟
* قال إسحق: قال لي الفضل بن الربيع: يا أبا محمد، إن من الشعر لأبياتاً ملس المتون قليلة العيون، إن سمعتها لا تفكه لها، وإن فقدتها لم تبالها
* قال ابن الجوزي: جاء شاعر إلى بعض النحاة فقالا: اسمع شعرنا واخبرنا بأجودنا، فسمع شعر أحدهما، وقال ذاك أجود. قال له فما سمعت شعره
قال: ما يكون أنحس من هذا قط
* قال الجاحظ: أنشد عبد الرحمن بن عبد الأعلى أبا زيد الأنصاري شعراً له فقال أبو زيد: يا أخي، هذا شعر لا عليك ألا تستكثر منه
* قال أبو العيناء: عرض رجل على الأصمعي شعراً رديئاً فبكى الأصمعي، فقيل له: ما يبكيك؟ أن ليس لغريب قدر، لو كنت ببلدي بالبصرة ما جسر هذا أن يعرض علي هذا الشعر وأسكت عنه
* قال على المنجم: أكثر هذه الأشعار الساذجة البارد تسقط وتبطل إلى أن ترزق حمقى فيحملون ثقلها، فتكون أعمارها عدة أعمارهم، ثم ينتهي بها الأمر إلى الذهاب؛ وذلك أن الرواة ينبذونها وينفونها فتبطل
* قال الصفدي: قال الرضى الحلاوة يوماً لضياء الدين موسى الكاتب: أنا أشعر شعراً حسناً وما يعوزني إلا حلق
فقال له موسى: لحية. . .
* قال ابن رشيق صاحب العمدة:
الشعر مزلة العقول؛ وذلك أن أحداً ما صنعه قط فكتم ولو كان رديئاً
* أبو إسحق الصابي:
لقد شان هذا الشعر قوم، كلامهم
…
إذا نظموا شعراً من الثلج أبر
فيا رب، إن لم تهدهم لصوابه
…
فأضللهم عن وزن ما لم يجودِّو
دعبل:
سأقضي ببيت يجمد الناس أمره
…
ويكثر من أهل الرواية حامد
يموت رديء الشعر من قبل أهله
…
وجيده يبقى وإن مات قائلة
(* * *)
مسابقة الأدب العربي
أخبار أبي تمام
للدكتور زكي مبارك
فرحة الأديب بالأديب
أتممت قراءة (أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي) وأثنيت من جديد على اللجنة المؤلفة من رجال الجامعة ورجال المعارف لتنظيم هذه المسابقات بمثل هذا النظر الدقيق
قضيت في قراءة هذا الكتاب سبع سهرات هي بداية كريمة لسهرات العام الجديد، ومن هذا الكتاب عرفت أن الأستاذين العظيمين خليل محمود عساكر ومحمد عبده عزام قد استطاعا تكوين قسم خاص بمكتبة الجامعة المصرية يشتمل على جميع ما أمكن الوصول إلية من المؤلفات التي عنى مؤلفوها بأبي تمام العظيم
وليس من الجديد أن أعرف الأستاذ محمد عبده عزام، فقد عرفته قبل سنين طوال، وأنا أستكثر عليه أي فضل، فهو أهل لكل فضل، وإنما الجديد هو التفاتي إلى الأستاذ خليل محمود عساكر، وأنا أذكر أني التفت إليه قبل قراءة هذا الكتاب، فليتقبل مني أصدق الثناء
وعلى غلاف الكتاب اسم الأستاذ (نظير الإسلام الهندي) بدون أي مجهود ظاهر يستحق وضع اسمه على الكتاب، ولكني بعد التأمل رأيته صحح لفظة كانت تحتاج إلى مهارة في التصحيح، وأنا أرى أن تصحيح لفظة واحدة عمل من أجل الأعمال؛ فقد انقضى زمن الأحجام والأوزان والمكاييل!
من هذا الصولي
معرفتي بأبي بكر الصولي قديمة العهد، فقد كان صاحب الفضل في أن أعرف مؤلف (الرسالة العذراء) يوم ثار الخلاف بيني وبين أستاذي مرسيه تحت أروقة الكولليج دي فرانس
وكان مثار الخلاف أن نسبة الرسالة العذراء إلى ابن المدبر ليست موضع يقين
إشارة واحدة في كتاب (أدب الكتاب للصولي) دلتني على أن لبن المدبر هو مؤلف الرسالة العذراء
ولكني لم أعرف الصولي معرفة حب وإعجاب إلا قراءة كتاب (أخبار أبي تمام) فقد وجدته يؤمن بالأدب إيماناً هو الغاية في العمق، والذي يقرأ دفاعه عن أبي تمام يكاد يتوهم أنه يتحدث عن نبي من الأنبياء، لا شاعر من الشعراء، ويزيد في قيمته أنه يرد معاني أبي تمام إلى مصادرها القديمة حين يجد ما يوجب ذلك، وهذا الصنيع يشهد بحب هذا الرجل للصدق، ورغبته في أن تسلم أقواله من الأهواء
وقد تألمت حين تذكرت أن من الصعب أن نصل إلى بقية مؤلفات الصولي، ولا سيما المؤلفات الخاصة بتحقيق طائفة من دواوين الشعراء، كالذي صنع في تحقيق ديوان أبي نواس، بحيث صارت نسخته هي النسخة المعتمدة، وبحيث صارت النسخ القديمة تباع بدراهم بعد أن كانت تباع بعدد أوراقها دنانير فأين تلك النسخة الفريدة؟
هل يسمح الزمان بأن نجدها في أي مكان؟
إن ديوان أبي نواس أهمل، ولا أذكر أن في علماء هذا العصر من اهتم بشرحه، مع استثناء جهد أستاذنا الشيخ سيد المرصفي في شرح الرائية التي منها هذا البيت:
لا أذود الطير عن شجر
…
قد بلوت المرَّ من ثمرهْ
وأهمية نسخة الصولي أنها من تصنيف رجل قريب من زمن أبي نواس، ومن حديث الصولي نعرف أن المفاضلات بين بشاد وأبي نواس كانت تشغل الأندية في تلك الأيام، ومعنى هذا أن أشعار أبي نواس كانت لا تزال بمنجاة من التزبد والافتراء يرحم الله الصولس!
تراجم مفقودة
قال الناشران الفاضلان إنهما لم يعثرا على ترجمة مزاحم بن فاتك الذي ألف له الصولي كتاب (أخبار أبي تمام)، وأقول إن ترجمته موجودة بشهادة هذا الكتاب، أعني أنه كان شخصية كبيرة عاشت في صدر القرن الرابع واستحقت التفات الصولي الذي كانت له منزلة تسمح بمنادمة الخلفاء
ولكن هنالك تراجم مفقودة أحب أن يبحث عنها هذان الناشران الفاضلان، وهي تراجم الرجال الذين عادوا الصولي عداء ذهب برشده كل مذهب وأجرى قلمه بما لا يصدر إلا عن رجل مغتاظ مهتاج
ومن المؤكد أن أولئك الرجال لم يكونوا نكرات، فكلامه صريح في أنهم كانوا يبارونه في التأليف، ويحاولون أن يخرجوه من الميدان
لقد حدثنا أنه انتصر عليهم، ولكن من هؤلاء الذين غاظوه وحاربوه؟
إنه كتب كثيراً من الصفحات في ذمهم وثلبهم ليبرد ما يتأجج في صدره من نيران الحقد
فمن هؤلاء؟
لابد من النظر مرة ثانية في التاريخ الأدبي لذلك العهد، فمن المحتمل أن نعرف فريقاً من هؤلاء، ومن المحتمل إن عرفناهم أن يزيد فهمنا للمشكلات الأدبية عند ذلك الجيل، وهو من أهم الأجيال
مقدمات وشروح
نجد مع هذا الكتاب مقدمتين: الأولى بقلم الأستاذ أحمد بك أمين، والثانية من صنع الأستاذ خليل محمود عساكر والأستاذ محمد عبده عزام
والمقدمة الأولى جيدة، وإن كنت أنكر أن يقول فيها الأستاذ أحمد أمين إن أبا تمام أخرج الشعر من رأسه لا من قلمه، فهذا القول غير صحيح، لأن أبا تمام رجل قوي القلب إلى أبعد الحدود، وشعوره بالحياة يدل على أنه كان غاية في قوة الوجدان وسنفصل هذا المعنى في المقال المقبل
أما المقدمة الثانية فهي صورة من البحث الهادئ الرزين والشروح سخية جدا، ففيها معارف أدبية ولغوية وتاريخية تنفع القارئ أجزل النفع، وتشهد لمؤلفيها بالصبر على عناء الاستقصاء
وفي ذيل الكتاب فهارس وافية، وقد روعيت فيها الأصول الصحيحة، على خير ما ترجو لإحياء مؤلفات القدماء
هبة الأيام
وأنتهز هذه الفرصة فأدعو المتسابقين إلى النظر في كتاب (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) للبديعي، ففي هذا الكتاب أشياء تكمل كتاب الصولي، وقد نشره الأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية، وقد فقدته لغة العرب منذ سنة أو سنتين، فما
أذكر متى مات، إن كنت أذكر أنه اختضر ليفارق على غير ميعاد
لو كان الأستاذ محمود مصطفى نشأ في عهد مثل عهد الصولي لوجد من يترجم عليه ويحيي ما ترك من غرر المخطوطات، ولكنه نشأ في عهد محوط بتقلبات لا تطاق، فلم يبكه غير كفنه ومضى وحيداً إلى دار البقاء
لم يرث الأستاذ محمود مصطفى إلا بكلمة أو كلمتين في مجلة (الرسالة)، وهذا فضل عظيم، فقد سكت عن نعيه جميع من انتفعوا بأدبه من أصحاب الجرائد والمجلات
أسئلة الاضحاق
وأرجع إلى الموضوع الأصيل فأقول: إني كنت أضمن في كل مرة قدرة الظفر بالخزانة التي تودع فيها أسئلة الامتحان فليعرفوا أن هذا المقال محاولة لكسر أقفال تلك الخزانة، وليثقوا بأني سأنقل إليهم أسرارها في المقال المقبل
ما هو الشمع الأحمر الذي تختم به وزارة المعارف صناديق أسئلة الامتحان؟
نحن نوجه تلاميذنا توجيهاً يضمن لهم معرفة تلك الأسئلة بأيسر عناء، إن كان من العسير عليهم أن يصلوا إلى خزانة محروسة بجنود صناديد
في مقدور كل تلميذ أن ينهب وزارة المعارف وأن يظفر بألقابها حين يشاء، على شرط أن (يعرف) كيف ينهب وزارة المعارف، وهي وزارة تشتهى أن ينبهها أبناؤها الأوفياء
فإلى المقال المقبل، يا عشاق المجد من قرائي.
زكي مبارك
علي محمود طه
شاعر الفن والجمال
للأستاذ دريني خشبة
لقد افتتحت فصولي هذه عن علي محمود طه بأنه أصبح أغنية في فم الجيل الجديد، وأن شعره أصبح أنشودة من أناشيد مصر الحديثة. ولقد كنت أعنى ما أقول حينما افتتحت فصولي هذه بهذا الكلام. كنت أعني أن أقول إن الشاعر علي محمود طه هو شاعر بحتري يقول شعراً فيقع في فؤاد مصر الحديثة شدواً ويقع فيه غناء. . . إن الديباجة البحترية في الشعر العربي هي أصلح الديباجات للغناء. إن كل كلمة من كلماتها موزونة ومقدورة ومجودة. . ألم يقولوا إن البحتري أراد أن يشعر فغنى؟ لماذا قالوا هذا الذي قالوه؟ إنهم قالوه لما نقوله اليوم في شاعرنا المصري الرقيق. لقد زعم بروكلمان الألماني في كتابه (تاريخ التأليف العربي) أن علي محمود طه يدين للرومانتيك الفرنسي في القرن التاسع عشر - وهو الاتجاه الخيالي الفني والقمي والعقلي - وأنه انتفع في اطراد بما تأثر به في خلق فن قوي في ديوانه. ونحن لا يعز علينا أن يتأثر شعراؤنا بالمذاخب الأدبية التي تغمر الشرق أو الغرب، ففي هذا التأثر دليل من الحيوية والاتصال بركب الحياة والاستجابة للعالم الخارجي، ولكن الذي يعز علينا هو هذا التجريد من الأصالة الذي يرمينا به مؤرخو الآداب الأجانب مهما مدحونا بعد ذلك وأثنوا على شاعرية شعرائنا وأدب أدبائنا. إن علي محمود طه وغير علي محمود طه من الشعراء المصريين إن كانوا قد تأثروا بالمذاهب الأدبية الخارجية إلا أنهم لا يدينون لهذه المذاهب بتلك الأصالة التي هي جزء من الطبع المصري الشاعر، والتي تجري بكل مقوماتها في الجبلة المصرية مذ عرفت مصر الفنون والعلوم والآداب، وقد عرفتها قبل غيرها من الأمم. . . إن النزعة الرومانتيكية التي ينزع إليها أكثر شعرائنا، بل شعراء العالم العربي الأماثل ليست بضاعة واردة، بل هي طبيعة هؤلاء الشعراء التي طبعهم الله عليها، كما طبع عليها شعوب البحر المتوسط في الشرق والغرب والشمال والجنوب، هذه الشعوب التي رزقها الله تلك الأمزجة الرومانتيكية المرهفة المولعة بالغناء والموسيقى والشعر والنحت والتصوير والبلاغة البيانية وسائر الفنون التي تفتقر إلى هذا المزاج الرومانتيكي. ولقد حولت بعض الأسباب الدينية شعوب
العالم العربي، ومعظمها من شعوب البحر المتوسط، عن النحت والتصوير قروناً طوالاً؛ فانصرفت طاقة هذه الشعوب الوجدانية كلها إلى الفنون الأخرى وفي مقدمتها الشعر فأنت فيه بالمعجز والمطرب كما يقولون، وخرجت القصائد من قرائح الشعراء المصريين والشاميين والعراقيين راقصة معجبة في العصر الحديث، كما كانت تخرج من قبل في الشرق العربي وفي المغرب الأندلسي والمغرب الأقصى راقصة معجبة، والمزاج الرومانتيكي بجميع مقوماته مزاج أصيل في جبلة شعوب البحر المتوسط، تلك الشعوب التي اخترعت أديانها قديماً من الخيال الخالص، والتي وضعت أصول فنونها على أسس وجدانية تشبه الشعر إن لم تكن الشعر المجسم نفسه. ومن الناحية القومية، فالوطنيات التي نشأت على شواطئ هذا البحر هي من أقدم الوطنيات في التاريخ أن لم تكن أقدمها جميعاً. ولقد كانت الوطنية تمتزج بالدين في مصر القديمة وعند اليونان والرومان، وأسطورة البقرة هاتور والإله حابي إله النيل هي أسطورة مشهورة. وإذا كان لعلي محمود طه شعر قومي فلجميع الشعراء المصريين أشعار قومية، بل نستطيع أن نقرر أن أكثر من نصف الشعر العربي الحديث قد قيل في مناسبات قومية. وواجبنا عند ما نقرر هذا ذكر شاعر قوميتنا الأول المغفور له حافظ إبراهيم الذي كان ولا يزال له قرناء في الوطنية في جميع الأقطار العربية
وعندي أن الغناء هو الظاهرة العامة في شعر علي محمود طه، الغناء الجميل الذي توزن له الألفاظ وتستجاد البحور وتسترق القوافي. ولو لم يعن الأستاذ عبد الوهاب أغنية الجندول لغناها غيره من مطربي العصر الحاضر أو من مطربي العصور المقبلة، وليست الجندول وحدها هي الجديرة بغناء عبد الوهاب، بل إن من نظمه ما يوشك أن يغنى نفسه. فما بال مطربينا نائمين عن هذا الكنز الثمين؟ إن من الأمية أن يهمل مطربونا غناء قطع علي محمود طه الخالدة: بحيرة كومو؛ خمرة الرين، أغنية ليالي النيل، كأس الخيام، وكلها في ليالي الملاح التائه؛ وقبلة، والنشيد، وميلاد شاعر وهي في الملاح التائه؛ وليالي كليوبطرة، وسارية الفجر، وأغنية الحب، وخمرة الشاعر، وزهراتي، وراقصة الحانة، والشاعر، وعاشقة، والكرمة الأولى، وحلم ليلة الهجرة، ليلة عيد الميلاد، وعام جديد، وكلها في مجموعته (خمر وزهر)
فأي شاعر يملك هذه الثروة من المنظومات الغنائية الساحرة يجهله المغنون في وطنه كما يجهل المغنون في مصر علي محمود طه برغم ما لفتهم إليه المطرب الفنان محمد عبد الوهاب؟
ومع هذه المنظومات الكثيرة التي اخترناها هنا من مختلف دواوينه، فإن قصائده الباقية تكاد تغنى نفسها كما قدمنا. إنها قصائد غر نسمع لشجوها جرساً يخرج من صميم أبياتها فيترقرق في سمعك كرنين الذهب. ولعل الذي يكسبها هذه الميزة هي تلك الشاعرية الصادقة التي تتجلى فيها جميعاً، والتي يظنها القارئ تناقضاً في شخصية علي محمود طه، أو تناقضاً في آرائه ومعتقداته، إذ كيف تعلل ما جاء في قصيدته (الله والشاعر) مثلا، أو في ثنايا (أشباح وأرواح) من تمرد على الله وعلى البصيرة، وضرب في صحراء العقل الشاك، وهذا الإيمان العجيب الذي يبهرك نوره في قصائد (حلم ليلة الهجرة، وليلة عيد الميلاد، وعلام جديد)
إنك تقرأ من منظومته الرائعة (الله والشاعر) هذه الأبيات يخاطب بها الله:
أمنذري أنت بيوم الحسابْ؟
…
ولأيمي أنت على ما جرى؟
رحماك ما يرضيك هذا العذابْ
…
لطَيع لم يعص ما قُدِّرا!
ما كنت إلا مقلما رُكِّبتْ
…
غرائزي، ما شئت لا ما أشاءْ
فلتجزها اليوم بما قدَّمتْ
…
وإن تكن مما جنته براءْ
تشككت نفسي بما تنتهي
…
إليه دنياها وماذا تكون
مضت فما آبت بما تشتهي
…
من حيرة الفكر وهجس الظنون
فتشعر أن أبا العلاء والخيام يختبئان في هذه النفس الحائرة لكنه سرعان ما يرد إليك الطمأنينة إذ يخبرك أنه شاعر، وأن صناعة هي رد الطمأنينة إلى القلوب الشاكية، ومسح الدموع عن العيون الباكية!
ها أنذا أرفع آلامه
…
إلى سماء المنقذ الأعظم
أنا الذي ترسل أنغامه
…
قيثارة القلب وناي الفم!
من عبراتي صغت هذا المقالْ
…
ومن لهيب الروح هذه القلم
ملأت منه صفحات الليالْ
…
فضُمّنت كل معاني الألم
أنا الذي قدَّسْت أحزانه
…
الشاعر الباكي شقاء البشر
فجرَّت بالرحمة ألحانه
…
فاملأ بها يا رب قلب القدر
ولو تفضل القارئ فرجع إلى بقية المنظومة في (الملاح التائه) لاطمأن على هذا الفؤاد الحيران، ولعرف أن حبة قبس من الإيمان، فإن لم يجد مصداق ذلك فليقرأ حلم ليلة الهجرة، وعام جديد، وعيد ميلاد، ليشهد كيف تصدق شاعرية علي محمود طه في كل ما تتغنى به من فصول تلك الحياة. إن ميزة شاعريته الصدق في كل ما تقول، فهي كالروح الذي يتدفق في الجسم الحي، وهي لا تتدفق حكمة كما كانت تتدفق شاعرية المتنبي، ولا فلسفة وتشاؤماً كشاعرية أبي العلاء والخيام ولا وصفاً للطبيعة واندماجاً فيها كشاعرية ذي الرمة مثلاً لكنها تتدفق غناء كشاعرية البحتري. ولقد عددنا بعض منظومات علي محمود طه الغنائية الرائعة، ونرجو ألا يحكم أحد علينا بالمغالاة قبل أن يرجع إلى دواوين الشاعر ليراجع هذا المنظومات البديعة، وليجيل فكره في هذا الذي نقوله، ليره بعد ذلك أننا غير غالين ولا مبالغين في شاعرية علي محمود طه التي تترقرق سحراً كما غناء. . . حتى في منظومات الألم والأسى. . . أجل. . . إنها تترقرق سحراً وغناء حتى منظومات الألم والأسى. . ومن ذا الذي يقرأ منظومته (الموسيقية العمياء في ليالي الملاح التائة، ولا يسمع إلى ألحان الأنين المكبو يخفق بها قلبه كما تضج بها روحه؟ اسمع أيها القارئ:
إذا ما طاف بالأرض
…
شعاع الكوكب الفضي
إذا ما أنّت الريحُ
…
وجاش البرق بالومض
إذا ما فتح الفجر
…
عيون النرجس الغضّ
بكيت لزهرة تبكي
…
بدمع غير مرقض
أقرأها يا صديقي القارئ الشاعر في ليالي الملاح التائه، واقرأ الأغنيات التي أومأت إليها لتصدق أن الغناء هو الظاهرة العامة في شعر علي محمود طه، ولتصدق أن علي محمود طه أصبح أغنية في فم الجيل الجديد، وأن شعره أصبح أنشودة من أناشيد مصر الحديثة. . .
(يتبع)
دريني خشبة
ستاندال والحب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ليس كموروا من يتحدث عن الكتاب والشعراء. وليس كمثله في سلاسة أسلوبه وتدفق ألفاظه وحلاوة معانيه. إنه كالساقية اللاهية تسقى وتروى ثم تمضي، وقد خلفت وراءها الخصب والحياة. أو كالزهر الفواح يروقك مرآه، ويسكرك شذاه، سذاجة وصفاء، ولكنها سذاجة ملؤها المتوع والجمال
لقد تحدث عن (شلي) أبرع الحديث، وقص مغامرات (بيرون) أحسن القصص، وعرض حياة (دزرائيلي) أجمل معرض، وسرد أعمال (ليوتي) كأعظم ما كتب كاتب، وصور (شاتبريان) بما لم يصوره قبله إنسان. وهاهو ذا الآن يتحدث عن (حمس صور من الحب) ويتكلم على ستاندال.
وستاندال إذا تحدث عن الحب فأعجب به من متحدث، وأكرم به من خبير! لقد بلا الحب وطعم ذواقه، ثم وصفه وعرفه وتساءل كيف ينبغي أن يكون الرجل مع النساء؟ أيكون معهن كما كان (دون جوان). أم مثل (فرتر) الهيمان؟ أيكون صياداً محارباً أم عاشقاً مدنفاً؟ لقد كان ستاندال يعجب بدون جوان، لأنه رمز الشجاعة والإقدام؛ وفي الوقت نفسه رمز الهدوء والهزؤ بالناس
والحق أن الناس جميعاً، كما يقول موروا، يعجبون بمن كان كدون جوان؛ ولكنهم يعرضون به ويثلبونه، في حين أن العشاق المتيمين أشباه فرتر المسكين، يشفهم السقم ويضنيهم العذاب، ويشعرون أنهم سعداء. سعادتهم في الخيال، يبنون القصور الشامخات ويزر كشونها بأحلى التهاويل. فهي أبداً رفافة بالنعيم، يعيشون ويحلمون، لأن الحب على نهج فرتر يعد لقبول كل فن رفيع وإحساس كل شعور لطيف
أن دون جوان يرى النساء عدوات لدوات. والحب في عينيه حرب ونضال. هو لا يتحدث عن شئ سوى المغامرات والانتصارات؛ أما أتباع فرتر فأولئك هم الهانئون وبأحلامهم قانعون وبحسراتهم وزفراتهم راضون
ودون جوان إلى ذلك يختصر الحب. إنه أمر هين ينتهي دائماً بالفوز. ولذلك يفكر كالقائد العظيم في الحيل التي يبلغ بها مشتهاه. يعمل دائماً على نجاح أعماله ونفاذ حيله
الحب أمر هين، وكله ينطوي في (التبلور) صاحب نظرية (التبلور) هو ستاندال الذي وقف حياته على الحب. وكان الحب، كما قال، أعظم الأعمال طراً لديه، بل كان شغله الشاغل الوحيد
لقد خص به كتاباً من الكتب العظام. . . وروايات من الروايات العجاب. ولئن بحثت عن فلن تجد فيها غير الحب
ترى كيف يولد الحب، وكيف ينمو!
أجاب ستاندال، في الباب الذي عقده عن في كتابه: هذا السؤال وهاك ما يحدث في النفس
1 -
الإعجاب، يلمح المرء الفتاة فيعجب بها
2 -
ثم يحدث نفسه، ما أحلاها لذة أن يقبلني أو أقبلها إنها لطيفة، جميلة
3 -
ثم يأمل أن نراها وأن تراه. ويرقب ذلك. . .
4 -
وعندئذ يولد الحب
5 -
ويبدأ (التبلور) الأول، فيشعر المحب بلذة ما بعدها لذة، وهو يخلع على فتاته الجمال والكمال، طوال يومه، في الطريق، وفي الكتب وفي السرير، وعند الطعام. . . وما يزال يزينها ويزوقها حتى تغدو آية الجمال في الأرض، ويحدث بها كما يحدث بغصن شجرة أجرد، إذا رموه في أحد مناجم الملح في (سالزبورغ). إنه يبقى شهرين أو ثلاثة شهور فإذا أخرجوه ألفوه غصناً من بلور، يتلألأ ويرف، وقد رصع ببلورات لماعة من الملح كأنها الدر تخطف الأبصار وتفتن القلوب. فإذا رآها إنسان غير من ألقاها، لم يدر قط أن هذه الدرر كانت ذات يوم غصناً كالحاً أجرد. . .
وما يسميه ستاندال (التبلور) هو تزيين الحبيب حبيبته وخلع المحاسن عليها ليل نهار. فإذا تم هذا التبلور كانت المحبوبة في عيني من يحبها أجمل مخلوقة في الدنيا. إنها الجمال نفسه، ليست من البشر، ولا كواحدة من النساء، إنها ملك كريم
ثم لا يسمع بشيء لذ إلا تمنى أن يلذه معها، ولا يخطر بباله سعادة إلا هفا قلبه، من أجلها إليها
ومن الملاحظة أن هذا التبلور ضرورة لابد منها. فالمحب إذا لم تتجدد محاسن محبوبته في
نفسه، وإذا لم يتخيلها كل يوم ذات حسن لم تكن بلغته أمس، فإنه لا شك يمل، لأنه في الحال النفسية تلك يعزف عن كل رتيب ثابت، ويريد كل طريف جديد. وفي أعمال (التبلور) صور فيها كل الطرافة، وكل الجدة
على أن هذا المحب ما يلبث أن يقلق ويضطرب فلم يضطرب؟
6 -
إنه يشك في حبه، وبلوغ أمله فبعد أن تضحك له المنى، يحس القلق يرتع في نفسه. يود أن تكون لذائذ الدنيا كلها طوع يديه، لينعم بها، هو وفتاته. ولكن اللذائذ لا توانيه، والعادة لا تأتيه
7 -
وعندئذ يبدأ التبلور الثاني إن فكرة حرمانه الحبيبة تدفعه إلى تمجيدها وتزيينها. ويقول لنفسه (إنها جميلة كل الجمال. ليس في الدنيا أجمل منها. إنها لتنظر إلى نظرات باسمات. فهي إذن تحبني) ولكنه يتساءل: هل من سبيل كي أنال آية حبها؟ أتحبني أم تخدعني؟
فإذا كان الوصل بعد ذلك، فالتبلور يقف، وربما ذاب. وإذا كان الهجر، فهو يعود ويزداد
ويذهب ستاندال إلى أن التبلور يحدث سريعاً عند المرأة. لأنها على زعمه، أرهف حساً، وأرق قلباً ، ثم إن لديها الوقت الوسيع لذلك. فهي تطرز وتفكر فيمن تحب. وهي تخيط وتتمثل من تهوى. عمل يدوي دائم، يرافقه حلم جميل باسم. وبهذا الحلم وذاك العمل تخلع الفتاة على من تحب أروع الصفات التي تود أن تكون في الرجل
ويعتقد ستاندال، خلافاً لبرناردشو أن الرجل في الحب يهاجم، وأن المرأة تدافع. وأنه يطلب، في حين أنها ترفض. وأنه يكون نشيطاً متوقداً، وتكون هي مذعورة مرعوبة. . .
والمرأة تتساءل عند برناردشو، كيف أغرى محبي. والرجل يقول، كيف أنجو من أسرها، وكيف أصبح طليقاً. أما ستاندال فيعتقد أن الرجل يتساءل:(هل من سبيل كي أنال رضاها) وأن المرأة تفكر في حبه وتقول: ألا يلهو بعد بحبه؟ أثابت حبه أم متقلب؟ لأن النساء يخفن ولذلك لا يظهرن حبهن بسرعة. بل ينتظرن أن يبلون محبهن ويثقن من حبه. . .
تلك نظرية التبلور عند ستاندال الفرنسي، وبعض آرائه في الحب. وكتابه في هذا طريف لطيف ظريف. وفي أدبنا العربي نظرات كثيرة تشبه نظرات ستاندال وشو، نجدها في
كتاب الزهرة، (للأصبهاني) و (طوق الحمامة) لابن حزم، لعلنا أن نعود إليها، ونقايس بينها بعد حين
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
منصب الوزير في مصر الفرعونية
للدكتور باهور لبيب
المدرس بجامعة فؤاد الأول سابقا
جرت عادة ملوك مصر الأقدمين أن يلقوا عبء الإجراءات الحكومية من إدارية وقضائية ومالية وحربية على عاتق أكبر موظف في الدولة وهو الوزير، وكان يسمى باللغة المصرية القديمة (ثات)
وكان من يشغل منصب الوزير له من الأهمية والسلطان قدر كبير، وذلك لأن الوزير كان هو رجل الدولة الأول الذي يلي الملك مباشرة في الأهمية والنفوذ والسلطان. ولأن الوزير كان بمثابة حلقة الاتصال بين الملك وبين الإدارات المختلفة، سواء في العاصمة أو في الأقاليم
وبسب هذه الأهمية التي كانت للوزير كان ينتخب من أعرق العائلات المخلصة للعرش المتفانية في ولائها وخدمتها له، بل كان يعين أحياناً من أولياء العهد أو أبناء الملك أو أقارب الملك في بعض العصور، وفي عصور أخرى كانت وظيفة الوزير وراثية. وفي ظروف خاصة جمع بعض الوزراء بين منصب الوزير ومنصب رئاسة كهنة إله الدولة الرسمي
وأقدم من ذكر من الوزراء وزير الملك مينا (تعومر): الموحد الأول لمصر القديمة ومؤسس الدولة القديمة (عصر التوحيد الأول)، وقد جرت العادة في العصور الأولى من تاريخ الحضارة المصرية القديمة أن يكون وزير واحد للملك والدولة
وبابتداء عصر التوحيد الثاني (الدولة الوسطى) نجد على الأرجح ظاهرة جديدة في تاريخ ملوك مصر الأقدمين، وهو أن اثنين من الوزراء يعاونان الملك في وقت واحد. ولكن نصوص هذا العصر لا ترينا تحديداً للاختصاص، ولكن من الثابت أن الشئون المصرية القديمة للمملكة الفرعونية قد زادت في هذا العصر نتيجة لازدياد الفتوح الأجنبية، مما يدل على أن الحاجة كانت ماسة لأكثر من وزير
أما في عصر التوحيد الثالث (الدولة الحديثة)، فقد وصلتنا نقوش ونصوص كثيرة تعطينا فكرة عن مهام الوزير، فقد كان لمصر وزيران أحدهما للشمال، واختصاصه المنطقة التي
تمتد من شمال أسيوط حتى البحر المتوسط؛ والآخر للجنوب، ومنطقته تمتد من جنوب أسيوط حتى حدود مصر الجنوبية. وكان مركز الأول عين شمس أو منف أو تانس (بر رمسيس)، والثاني كان مركزه طيبة
وأهم المعلومات عن منصب الوزير يمكن استقاؤها من النقوش والنصوص المدونة على جدران مقبرة رحمي رع الذي كان وزيراً للملك تحتمس الثالث، وأوائل عصر الملك امنحتب الثاني، فتستنتج منها أن الملك هو الذي له حق تعيين الوزير. وكما أن الملك له حق تعيين الوزير فله الحق أيضاً في عزله كما دلت نصوص أخرى على ذلك
ومن الطريف أن الملك تحتمس الثالث عند تعيينه رحمي رع في منصب الوزارة للجنوب أسدى إليه الإرشاد ونصحه نصائح جليلة. وقد دلتنا النصوص على أن هذه التعليمات التي كان يقولها الملك لوزرائه كانت تقليدية، إذ وجدناها تقال عند تعيين كل وزير. فقد عثرنا في مقبرة الوزير أوسر، خال، الوزير رخمي رع، على نصوص تؤيد ذلك، كما وجدناها قد وجهت إلى الوزير حابو وزير الملك تحتمس الرابع. من ذلك على سبيل المثال قولهم:(كن يقظاً لكل ما يجري في الوزارة. وإذا أتاك مشتك فيجب عليك أن تبحث بنفسك في شكايته، عاملاً حسب القانون ولتتبع الحق ولتعلم أن غضب الإله يحل على من يؤثر المحاباة. . . لتكن معاملتك لمن لا تعرفه مثل معاملتك من تعرفه، ولمن هو قريب منك مثل من هو بعيد عنك). وزيادة على تعليمات الملك لوزيره بأن يحكم بالعدل، وبالا يحابي أحداً كان يرشده إلى ما يجب اتخاذه يومياً. فيبدأ الوزير عمله في كل صباح بأن يقابل الملك ويعرض عليه المسائل الحكومية لكي يبدي فيها رأيه. ومن هذا نرى أن الملك كان هو الرأس المفكرة العليا التي تدير سياسة البلاد
وفي أثناء مقابلة الوزير للملك يكون رئيس المالية منتظراً عند إحدى ساريات القصر. فإذا خرج الوزير تداول معه في أمور الدولة. ثم بعد ذلك يدخل رئيس المالية على الملك ويعرض عليه الشئون المالية وما اعترى خزينة الدولة من نقص أو زيادة (وطبيعي كانت في شكل مواد أولية كالأخشاب والخضر والجلود والأقمشة وما أشبه). وبعد ذلك يأمر الملك بفتح دواوين المصالح الحكومية. مما يدل على أن الملك كان يرشد كل وزير على ما يجب أن يبت فيه من أمور تهمه وتهم الدولة المصرية القديمة
وفضلاً عن إشراف الملك علي وزير المالية، كان أيضاً تحت رقابة ورئاسة الوزير الأول للدولة الذي كان يعتبر عندئذ كرئيس الوزراء الآن. إذ دلتنا النصوص على أنه كان يكتب التقارير للوزير الأول باستمرار ليطلعه على الحالة المالية العامة للدولة
وقد كان منصب للوزير الأول للدولة في هذه العصور القديمة من الأهمية الكبرى والمكانة العظمى ما لمنصب رئيس الوزارة في العصور الحالية. فقد كان الرئيس الأعلى للقضاء. ففي مقبرة رحمي رع تجد رسماً لمجموعة قوانين مطوية في أربعين ملفاً بردياً محفوظة داخل أغلفة من الجلد وموضوعة أمام الوزير بصفته القاضي الأعظم (ساب سبختي) وهو جالس في دار المحكمة في إحدى الجلسات العلنية. (مع ملاحظة أن المرجع الأخير للمسائل الجنائية كان الملك، والمرجع الأخير في المسائل المدنية كان الوزير)
كما كان وزير الحربية؛ وبصفته هذه كان يشرف على الجيش والأسطول، وبمعنى آخر كان الرئيس الأعلى للجيوش البرية والبحرية. وكان لمصر أسطول عظيم سطر في سجل التاريخ انتصارات كبيرة. وكان الوزير أيضاً المشرف على الشئون الداخلية، وبصفته هذه كان رئيساً للبوليس في منطقة اختصاصه ومحافظاً للعاصمة
ثم كان أخيراً المشرف على الشئون الزراعية.
نرى من كل ما سبق مبلغ ما كانت عليه مصر القديمة من رقي ومدنية في الحضارة، وترتيب وتنظيم في الشئون الإدارية، ودقة ومهارة في تكييف الأمور والتصرف فيها
(عين شمس)
دكتور
باهور لبيب
من أحلام الصحراء
للأديب محمد العلائي
إلى الدكتور (عزيز فهمي): هل تأذن لي يا أخي أن أهدي إليك هذه الصورة الوجدانية المحمومة، وفاء لما أشعرتني به قصيدتك من رقة الشاعر، وحنان الأخ، وكرم الصديق
موحشٌ ذلك الظلام، فيالي
…
من تهاويل وحدتي وخيالي!
قذف الليل رعبه في ضميري
…
عن يميني مخاوفٌ وشمالي
مزق الوهم خاطري. كل شئ
…
في طريقي يَضجُّ بالأهوال
مِلءُ نفسي كآبة؛ وبسمعي
…
صرخات الذئاب والأغوال
وعويل الرياح شرقاً وغرباً
…
وهزيم الرعود فوق الجبال
والأفاعي لها هناك فحيح
…
ينفث السم في الحصى والرمال
ووراء الكثيب جنٌّ تَغنَّى
…
بنشيد الردى ولحن الزوال
وكهوف بها جماجم موتى
…
نبشتها الوحوش منذ ليال
وعلى الجانبين صيحات شؤم
…
بعثرتها الرياح في الأدغال
حوَّم الموت واقشعرَّ ضميري
…
ها هنا مصرعي، وذاك مآلي
أنا يا ليل خائف قد تمشَّتْ
…
رعدة الموت في دمي وعظامي
هاما لا أطيق رجع ظنوني
…
والردى جاثم على أوهامي
ذاهل أنطوى على صرخاتٍ
…
مزَّقتْنِي وفزَّعت أحلامي
لست أقوى على المسير، فرأسي
…
مائل شَلَّهُ دوار الظلام
وذراعي بجانبي ليس فيها
…
من حراك والشوك في أقدامي
جسدي مُوجع وخلف لساني
…
حشرجات ترد فيَّ كلامي
وبحلقي شجىَ يقطِّع أنفا
…
سي وفي مقلتي بريق الحِمام
وبصدري مواجعٌ ألهبتها
…
وخزات المُدى ونزع السهام
آه! خلف الضلوع جرح سأقضي
…
وهو خلف الضلوع دون التئام
لم يعد غير خفقة ثم أمضى
…
ليس خلُّ هنا يواري حطامي
محمد العلائي
كلية الآداب
في التصوير الإسلامي
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 4 -
جعل الملوح بن مزاحم يبحث طويلاً بين الحجاج عن ابنه (قيس)، إلى أن ساق القدر إليه حادياً قادماً من ناحية نجد مع قافلة من الحجاج، فأخبره الحادي أنه رأى في طريقه شاباً ناحلاً أشعث الشعر ممزق الملابس يضرب في البادية على غير هدى، ولما اقترب منه وناداه فر هارباً واختفى في دغل قريب راح يراقب من خلال أشواكه الحادي وما عسى أن يصنع وعرف الحادي المجنون وأراد أن يجتذبه إليه كي يستنشده بعض أشعاره فرفع صوته يغني أنشودة للمجنون يقول فيها:
منى النفسِ ليلى قرّبي فاك من فمي
…
كما لفَّ منقاْريهما غَرِدان
نَذُق قُبلةً لا يعرف البؤس بعدها
…
ولا السُّقْمَ رٌوحانا ولا الجسدان
فكل نعيم في الحياة وغبطة
…
على شفتينا حين تلتقيان
ويخفُقُ صدرانا خفوقاً كأنما
…
مع القلب قلب في الجوانح ثان
واطمأن المجنون إلى الحادي حين سمعه يتغنى بذكر ليلى، فثاب إليه رشده، وأقبل من خلف الدغل نحو القافلة يسأل الحجاج:
أحجاج بيت الله في أي هودج
…
وفي أي خدر من خدوركم قلبي
أأبقى أسير الحب في أرض غربة
…
وحاديكم يحد وبقلبي في الركب
ولما رآه الحادي مال إليه فجلس إلى جانبه يحدثه في ليلى ويقص عليه ما سمعه من أخبارها، والمجنون ينصت في شغف وشوق، وقد هاج هذا الحديث في نفسه ذكريات الصبا، فصار يقاطعه بين حين وآخر لينشد ما يخطر له من أناشيد حب قالها في حبيبته ليلى. إلى أن أقسم عليه الحادي أن ينشده أحسن ما قاله في وصف المحاجر والأطراف والبشرة والجلد. فقال:
ليالي أصبو بالعشي وبالضحى
…
إلى خُرَّد ليست بسودولاً عصل
منعمة الأطراف هيفٌ بطونُها
…
كواعب تمشي مشية الخيل في الوحل
وأعناقها أعناق غزلان رملة
…
وأعينها من أعين البقر النجل
وأثلاثها السفلى بَرادِيَّ ساحل
…
وأثلاثها الوسطى كثيب من الرمل
وأثلاثها العليا كأن فروعها
…
عنا قيد تُغذَّى بالدهان وبالغَسل
وتَرمي فتصطاد القلوب عيونها
…
وأطرافها ما تحسن الرمي بالنبل
زرعن الهوى في القلب ثم سقينه
…
صبابات ماء الشوق بالأعين النجل
رعابيبُ أَقصدن القلوب وإنما
…
هي النبل ريشت بالفتور وبالكحل
ففيم دماء العاشقين مُطَلَّةٌ
…
بلا قوَد عند الحسان ولا عقل
ويقتلن أبناء الصبابة عنوة
…
أما في الهوى يا رب من حَكم عدل
وما انتهى المجنون من أنشودته هذه حتى لمح غزالاً يقفز متحيراً في الأفق البعيد فهب واقفاً وهو يقول:
ألا يا شبه ليلى لا تراعي
…
ولا تنسل عن وِرْدَ التلاع
لقد أشتهتها إلا خلالا
…
نشوز القرن أو خمش الكراع
ثم جعل يعدو خلف الغزال حتى كاد يلحق به واختفى معه عن أعين الحادي وقافلة الحجاج
خرج زياد بن مزاحم يبحث عن ابن عمه (قيس)، فوجده جالساً على ربوة قريبة، يخطط بإصبعه في التراب، ويحدق أمامه نحو مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ولما عرفه المجنون ناداه فجلس إلى جانبه يحدثه عن أهل الحي وأخبارهم، وعن رجوع والده من مكة - بعد سماع قصة الحادي - حزيناً مكتئباً، وبقى زياد عنده يستنشده الشعر ويدون ما يسمعه منه. ودلسا ذات صباح يتحدثان فظهر، لهما شبح امرأة قادمة نحوهما، ثم أخذت تقترب منهما شيئاً فشيئاً حتى تبيناها، فإذا بها (بلهاء) جارية المجنون وكانت تحمل بين يديها قصعة بها طعام، وقام إليها المجنون يعانقها ويقبل بيديها، وتناول منها القصعة وهو يقول:
أرى صنع أمي يا زياد، فديتها
…
بروحي وإن حَّملتها الهم والَبْرحا
ثم نزع عن القصعة غطاءها فوجد بها ذبيحة مشوية، فعجب لذلك والتفت إلى زياد مستفهماً، إذ لم يكن في الوقت ما يدعو إلى ذلك. وسئل زياد البلهاء أن تحدثهما بخبر هذه
الذبيحة ولا تكتم عنهما شيئاً من حقيقة أمرها فقالت:
لقد مرّ عرَّاف اليمامةِ باِلَحِمى
…
فما راعنا إلا زيارته صبحا
طوى الحي حتى جاء عن قيس سائلاً
…
وأظهر ما شاء المودَّةَ والنصحا
ولاحت له شاةٌ جثوم بموضع
…
تخيلها ظلاً من الليل أو جنحا
فقال اذبحوا هاتيك فالخير عندها
…
فقام إليها يافع يحسن الذبحا
فقال انزعوا من جثة الشاة قلبها
…
فلم نألُ قلب الشاة نزعاً ولا طرحا
فلما شويناها رَقَى بعزائم
…
عليها وألقى في جوانبها الملحا
وقال اطلبوا قيساً فهذا دواؤه
…
كأني به لما تناوله صَحَّا
وحث زياد قيساً على أن يأكل من الشاة متوسلاً إليه بقوله:
تعلل قيس بالشاة
…
عساها تذهب الحبا
فما العراف بالمجهو
…
ل لا علماً ولا طبَّا
طبيب جرَّب اليابس
…
في الصحراء والرَّطبا
وتلك الأمُّ يا قيس
…
أطعْها تطع الربَا
وأراد قيس أن يجامل زياداُ ويتذوق شيئاً من الشاة فقال:
زياد اسمع وكن عوني
…
وخل اللوم والعتبا
إذا ما لم يكن بُد
…
فإني آكل القلبا
ومرت بلهاء بذلك ومدت يدها إلى صدر الشاة تبحث فيه عن القلب. . . ولكنها تفقدته فلم تجده، فاضطربت وجعلت تخاطب نفسها:
القلب! أين القلب؟ أين يا ترى وضعته؟
يا ويح لي! نسيتُ أني
…
بيدي نزعته!
وكان في ذلك فصل الخطاب، فرفض قيس الطعام والدواء وهو يبكي أحر البكاء ويقول:
وشاة بلا قلب يداوونني بها
…
وكيف يداوي القلب من لا له قلب
ورجعت بلهاء إلى الحي تجر أذيال خيبتها، وروت لقومها ما حدث؛ فاجتمعوا في بيت الملوح يتشاورون في أمر المجنون. ومر بهم بعض الأطباء فسأله الملوح عما يعالج؛ فقال أعالج كل مسحور مجنون، قال: مكانك آتيك بابن لي يهيم في الصحراء؛ فخرجوا في
طلبه. فما زالوا يطلبونه حتى أحضروه وأدخلوه إلى المعالج، وأقبل بسقيه؛ فلما أكثر عليه المعالجة أنشأ يقول:
ألا يا طبيب الجن ويحك داوني
…
فإن طبيب الأنس أعياه دائيا
أتيت طبيب الأنس شيخاً مدويا
…
بمكة يعطي في الدواء الأمانيا
فقلت له يا عم حكمك فاحتكم
…
إذا ما كشفت اليوم يا عم ما بيا
فخاض شراباُ بارداً في زجاجة
…
وطرَّح فيه سلوة وسقانيا
فقلت ومرضى الناس يسعون حوله
…
أعوذ برب الناس منك مداويا
فقال شفاء الحب أن تلصق الحشا
…
بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا
ثم جعل بعض شفتيه ولسانه حتى خلاه أهله. فنهض المجنون ومضى إلى ربوات جبل التوباد يسعى وراء الذكريات والسلوة
وفي (شكل 1) ترى المجنون وقد ارتمى على الأرض يقبل قدمي البلهاء التي تحاول أن تمنعه من ذلك. وهذه الصورة من مخطوط كتب في مدينة هرات حوالي سنة 1450م.
(يتبع)
محمد مصطفى
البريد الأدبي
حول لفظ الفشل
أجمع اللغويون على تفسير (الفشل) بالجبن والفرع والضعف، أو هو ضعف مع جبن، كما قال بعضهم. ولم يخرج مفسرو القرآن الكريم عن ذلك في الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ: كقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا)(إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا)(حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر)
ولكن الكتاب لهذا العهد درجوا على استعمال (الفشل) بمعنى الإخفاق والخيبة، وأهملوا الوضع الأصلي للكلمة.
ولقد كنت نهت على هذا الخطأ منذ بعيد في إحدى المجلات. وما كنت لأعود إليه، لولا أن رأيت في الرسالة عدد 545 كلاماً في هذا الموضوع للأستاذ الجليل عباس محمود العقاد يرد به على الشيخ الفاضل محمود أبي رية
فقد عثر الشيخ في كتاب (عبقرية الإمام)(ببعض ألفاظ كان يقف عندها، مثل:. . . وفشل ص 81 و 96 و110 و 126) قال: (هل يجوز استعمال كلمة (فشل) في معنى أخفق وخاب؟)
فقال الأستاذ العقاد في رده: أما (فشل) بمعنى أخفق فلها حكم آخر. فهذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين، حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر، لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق)
وأنا أقول إن الإخفاق لا يلازم الضعف والتراخي حتما؛ فقد يكون الإخفاق نتيجة للضعف، أو ما يدور حول الضعف من المعاني. وقد يكون نتيجة لعوامل أخرى لا تمت للضعف بصلة؛ فقد يخفق الشجاع، وينجح الجبان الضعيف في أمر واحد يحاولانه معاً؛ فالضعف شئ، والإخفاق شئ آخر
ولو صح هذا التقارب بين المعنيين (حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر)، لجاز أن يطلق الإخفاق ويراد به الضعف أو ما يلابسه من المعاني، فيقال مثلاً: أخفق فلان في كذا، أي ضعف وجبن، وهو ما لا يمكن في اللغة
وقال الأستاذ العقاد في دفاعه أيضاً: (وتجدد المعاني على حسب العصور سنة لا تحيد عنها لغة من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية، فلو أننا أخذنا ألف كلمة من المعجم، وتعقبنا معانيها في العصور المختلفة، لما وجدا خمسين أو ستين فيها ثابتة على معنى واحد في جميع العصور. وربما غب المعنى الجديد، وبطل المعنى القديم وهو أصيل في عدة كلمات)
(خذ مثلاً كلمتي الجديد والقديم، وكيف ظهرا، ثم كيف تحولا إلى الغرض الذي نعنيه الآن. فالثوب الجديد هو الثوب الذي قطع حديثاً من (جده) فهو جديد أو بحدود. وكانوا يقطعون المنسوجات عند شرائها كما نقطعها اليوم؛ فيسمونها جديدة من أجل ذلك)
(ثم نسيت كلمة (الحديد) بمعنى المقطوع؛ فلا يتصرف إليها الذهن الآن إلا بتفسير أو تعيين. وأصبحنا نعبر بالجدة عن أمور لا تقطع ولا هي من المحسوسات. فنقول (المعنى الجديد) و (الفكر الجديد)، وما شابه هذه الأوصاف
ثم ساق الأستاذ أمثلة أخرى لهذا من اللغة المأثورة، وشرح تطور المعنى فيها وتحوله
وأنا أقول إن هذا قياس مع الفارق. فإن العرب هم الذين استعملوا (الجديد) - مثلاً - في المعنى الأصلي وما تفرع عليه بعد ذلك من المعاني، للعلاقة التي شرحها الأستاذ، تجوزاً سائغاً.
وهذا ديدنهم في المجاز والاستعارة يلمحون العلاقة والمناسبة بين المعنيين، فيستعيرون لفظ المعنى القديم للمعنى الجديد؛ فتفرعت اللغة بهذا واتسعت، وتحولت المعاني، وتولد بعضها من بعض، حتى عادت المعاني المجازية أضعاف الحقيقة الأصلية
فالأستاذ العقاد جاء بأمثلة من المعجمات ليشرح بها هذا التحول المجازي، المنبعث من مقتضيات التطور الطبيعي في الأمة على ممر العصور
ولا كذلك نرى الحال في لفظ (الفشل): فهذا لفظ سلم لنا بمعناه كاملاً، لم يتحول ولم يتطور. وصان هذا المعنى القرآن الكريم. ثم تنقل في العصور هكذا، عصراً بعد عصر، حتى إذا كان عصرنا هذا أخطأ في فهمه الناس، وتناقلوا هذا الخطأ، وثبتوا عليه، ثم تلمسوا له المعاذير
فليس تحوله من معناه الوضعي إلى المعنى الفاشي الآن خاضعاً لسنة التطور الطبيعي التي تخضع لها اللغات جميعاً وإنما هو وليد الخطأ في الفهم
وليس معنى هذا أنه يمتنع التجوز في هذا اللفظ على الإطلاق وإنما ندعى هنا - كما أسلفنا - انعدام التقارب بين الإخفاق والضعف - على الوجه الذي قرره الأستاذ - ومن ثم ننكر (أن يحمل أحدهما قصد الآخر)
ثم نحا الأستاذ في جفاعه منحى آخر فقال:
على أنني حين استعملت كلمة (الفشل) لم أكد أخرج بها عما اصطلح عليه الأولون؛ فقلت: (يحاول الغلبة من حيث فشل) ولو جعلت (الفشل) هنا بمعنى ضعف، لكانت مقابلة للغلبة أحسن مقابلة)
ثم ساق عباراته الثلاث الباقية التي استعمل فيها كلمة (الفشل) وأولها على هذا النحو
ولكنا إن أسغنا فهم (الفشل) في هذه العبارة بمعنى الضعف، فكيف يمكن أن نسيغه في قوله:(ولا طائل في البحث عن علة هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل على، أم النقمة على الأشتر)
أو في قوله:
(منى بالفشل، لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة)
أو في قوله:
(ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل)
أترك هذا لحكم القراء ولذوقهم
هذا ما عناني من مقال الأستاذ الجليل، علقت عليه بما عن لذهني الكيل
وبعد فليس من التزمت في شئ أن نحارب أوضاعاً واستعمالات ليست من صميم اللغة الصحيحة، ولا هي مما يخرج تخريجاً مجازياً مقبولاً
وليس من التزمت في شئ أن نعمل على أن نفهم لغة الفصحاء وكلام الله تعالى على الوجه الصحيح.
(ا. ع)
1 -
هل عرفنا المؤلف
كان العلامة الأمير شكيب أرسلان نشر كتاب (محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي
عمرو الأوزاعي) غفلاً من اسم مؤلفه وقد رأيت في الجزء الثاني من (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي) في ترجمة احمد بن محمد المعروف بابن زيد أن له تأليفاً بهذا الاسم عينه، ثم رأيت في فهرس دار الكتب المصرية مخطوطة بهذا الاسم نفسه منسوبة إلى الحافظ احمد بن علي بن حجر العسقلاني
وابن زيد المذكور معاصر لابن حجر وممن سمع عليه بدمشق كما يقول السخاوي. فلو كان له تأليف بهذا الاسم لعرف ذلك أبن زيد فسمى كتابه باسم آخر، ولما خفي ذلك على السخاوي - وهو التلميذ الملازم لابن حجر وأعرف الناس بمؤلفاته - فيشير إليه في ترجمة ابن زيد على احتمال اتفاقهما في الاسم ولعل الاطلاع على مخطوطة الدار تؤيد ما أذهب إليه.
2 -
أول غلط
قال (الأستاذ الجليل) الناقد المحقق في كلمته الماتعة عن (لامية شعية بن غريض) - في العدد 552 من الرسالة - وروى الإمام المرزباني في (معجم الشعراء) لشعية مقطوعة ختامها هذا البيت:
وأجتنب المقاذع حيث كانت
…
وأترك ما هويت لما خشيت
والصواب أن راوي المقطوعة هو الإمام الآمدي في كتابه (المؤتلف والمختلف) وسبب غلط الأستاذ هو أن الكتابين (المعجم والمؤتلف) مطبوعان معاً في مجلد واحد.
عدنان. . .
أدبي أدب حق
وصل خطاب من السودان يدعوني فيه كاتبه إلى أن أصحح ما ينسب إلى في بعض الجرائد والمجلات من الخروج في كتاباني عما ألف الناس في دنيوات التقاليد، لئلا يؤذيني ذلك التجريح
وأقول إني لا ألتفت إلى ما يكتب عني؛ ولا أدير بالي إلى خصومي، لأنهم لا يصلحون للحكم في قضية الأدب الرفيع
الأدب ليس مناحة تقام في أحد الميادين على موت الأخلاق، كما يفعل المرتزقون باسم الأخلاق، وإنما الأدب هو الفهم لأسرار الوجود والتعبير عن أسرار الوجود، بأصرح عبارة وأصدق بيان
إن كان في الدنيا من يبكي على الأخلاق فسأكون أول الباكين على الأخلاق
كان قلمي الرائد لحرية الفكر والرأي، وما رأيت إنساناً ينتاشنى بقلمه إلا تذكرت أن لي في عنقه ألف جميل وجميل، وإن كان الحزن يعصر قلبي حين أتذكر أن المنتفعين بأدبي لم يتخلقوا بأخلاقي، فقد كنت أحب أن يصيروا إلى ما صرت إليه من الاستغناء بالله عن الناس
لأكثر الخلائق في هذا العصر سناد، وأنا وحدي بلا سناد، لأني أعتمد على صاحب العزة والجبروت، أعتمد عليه أدباً لا خوفاً، لأني آمن غضبه على أرباب القلوب
أدبي هو الأدب الحق، فليبك ناس على أنفمهم لأنهم زوروا عواطفهم وسخروها لخدمة الفانين بصورة ملفوفة لا تزيد في قوتها عن ثوب الرياء.
زكي مبارك
إصلاح تطبيع
في المقالة (لامية شعية بن غريض): الربيع بن الخفيق وهو الربيع بن الخفيق.