المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 554 - بتاريخ: 14 - 02 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 554

- بتاريخ: 14 - 02 - 1944

ص: -1

‌من مآسي هذه الحرب

أجل، هي مأساة من مآسي هذه الحرب وإن وقعت في قرية صغيرة لأسرة فقيرة. فلا تقل أين (منصور جراد) من (استالين جراد)، ولا أين خمسة نفر أهلكهم الجوع من ملايين طحنتهم رحاً عرض شقيها كعرض السماء والأرض؛ فإن الموت في معركة الدبابات، كالموت في معركة الزهور. والشقاء الذي يكرب أنفاس أسرة، هو بعينه الشقاء الذي يفدح كواهل أمة. والموت لا يقاس أثره باتساع ميدانه وانتشار مداه ما دامت الجماعة لا تحسه إلا إحساساً جزئياً في كل فرد منها. والفرد مهما قوى شعوره لا يدرك من بحيرة السم غير القطرة التي تسرى فيه، ولا من أطنان القنابل غير الشظية التي تفتك به

ما أظنك نسيت صديقنا الشيخ منصورا ومواقفه الجريئة من أصحاب الضياع والألقاب، أيام الانتخاب لمجلس النواب فقد كان في جرأة قلبه وعزة نفسه مثل الفلاح المؤمن بعظمة الله وكرامة الإنسان وحقارة الدنيا؛ وكان كما علمت من وصفي إياه قد تعاظمت في نفسه الحرية حتى احتقر المالك، وألحت علي جسمه السلامة حتى سئم العافية، ونفرت عن قلبه الهموم حتى ألف السعادة

هذا الرجل الذي كان شخصه يتميز في الزحام من أبعد، قد استسرت على معرفته وهو أمامي! لقد ذوي ذلك المحيا النضر، وتهدم ذلك الجسد الوثيق، وتخدد ذلك العضل المكتنز، وتجرد ذلك الهيكل الريان، حتى ليخفق جلبابه على ألواح!

لقد انقطع علم ما بيني وبينه منذ دهر طويل، وكان آخر العهد به لقاء ضاحك في بعض قرى الريف وهو على حاله تلك من الوثاقة والطلاقة والصحة؛ فلما علم أني قدمت المصورة في هذا الأسبوع جاء يزورني متحاملاً على نفسه. فلما أقبل علىّ أنكرته أول ما رأيته، ثم لم ألبث أن عرفته بما بقى من سيماه على وجهه. فصافحته وأحسنت لقاءه؛ ثم دعوته إلى الجلوس فسقط بجانبي على الكرسي كما يسقط كيس من العظام على الأرض. وعقل الدهش لساني فلم أسأله عن أمره. وحدس هو ما يعتلج في نفسي من الخواطر فقال بصوت غير صوته، ولهجة غير لهجته:

- لعلك ظننتني خارجاً من المستشفى، أو بالحرى مبعوثاً من القبر! ليت ما بي كان المرض، فقد يكون للمرض دواء! وليت ما بي كان الموت، فقد ينحسم بالموت الداء! إنما هو جسم يذوب في نار من الهم لا تخبو، وروح تزهق في حشرجة من الكرب لا تنقطع!

ص: 1

- إذن أنت يا صديقي حزين؟

- إذا كان لفظ الحزن يعبر عن هذا الذوبان الدائم وذلك الاحتضار المتصل فأنا حزين

- هل فقدت عزيزاً عليك؟

- لقد فقدت كل عزيز علي!

وهنا خانه الجلد فلم يستطع المسكين أن يملك دمعه. فلما هدأت نفسه وراجعه صبره قال:

- أنا في حياتي ما شكوت ولا رجوت، ولكن الخطوب التي قوضت ركني وسودت حياتي هي التي أكرهتني على أن أشكو وأرجو؛ وذلك وحده خطب الخطوب

كان ذلك في شتاء سنة 1941، وكان لي عامئذ زوجة مخلصة وابنة عزيزة وثلاثة شباب بررة. وكنا نحن الستة، ومعنا بقرتنا العاملة الحلوب، وحمارنا الفاره الدءوب، وكلبنا الحارس الأمين، لا نفترق ولا نختلف، ولا نرى الدنيا إلا في بيتنا وحقلنا، ولا نجد اللذة إلا في لباسنا وأكلنا. فإذا جار المالك علينا في القسمة، عدل الله فينا بالعوض.

وإن جرى القضاء علينا بما نكره، انتهى الصبر بنا إلى ما نحب. حتى أزمت هذه الحرب الناس، فضاق الرزق، وامتنع الوارد، وارتفعت البركة، وفشا المرض، وأعوز الداء، واختزن الملاك ما تنبت الأرض، واحتكر التجار ما تجلب السوق، ففحش الغلاء، وطفف الكيل، حتى أصبح الأجير يعمل الأسبوع كله ليشتري كيلة من الذرة إذا وجدها. ثم قضت سياسة التموين أن تشتري الحكومة مقداراً من القمح مفروضاً على كل زارع. وقضى الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إلا تزيد غلة أرضي على حصة الحكومة عندي، فنقلت على حماري ما في الجرن إلى بنك التسليف؛ وحجز المالك ثمن القمح استيفاء لبعض إيجاره، فخرجت صفر اليدين من النقد والحب، فلا في الجيب ولا في المخزن. ولكننا يا سيدي أحياء؛ والحي لا مناص له أن يأكل. فقمت أنا وزوجتي وابنتي على زراعة الأرض ورعي البقرة، واشتغل بني الثلاثة أجراء عند الناس، فكنا نجع أجرتهم في كل ثلاثة أيام لنشتري بها كيلة واحدة. وماذا تصنع الكيلة من غير إدام في ثلاثة أيام لستة أفواه؟

على أن هذه الحال لم تدم، وليتها دامت! فقد نفدت الحبوب من القرية، وحرم على الناس نقلها من بلد إلى بلد، فكنت أقبض أجرة أولادي في المساء، ثم أذهب إلى المنصورة في الصباح، فأشتري بها الخبز المخلوط ما لا يسمن ولا يشبع. وعلى هذا النمط النابي من

ص: 2

سوء العيش قل الغذاء، وكثر العمل، وبلى الثوب، واتسخ الجسد، واعتلت الصحة. ووفدت على القرية حمى التيفوس فلم تجد مناعة في جسم، ولا وقاية من نظافة، فأودت ببني الأربعة واحداً بعد واحد. ونجت منها زوجتي لتندبهم في الثواكل حتى لا يترك أولادي الحياة من غير عرس ولا مأتم. ثم أمعن القدر في ابتلائه: فانتشر في الماشية وباء التسمم الدموي، فنفقت البقرة، وهلك الحمار، وأصبحت الدار والحمد لله خلاء مما صأى وصمت! أما بقية القصة فإنك تقرأها الآن في وجهي. وإذا جاز أن يكون لمثلي بعد ذلك رجاء، فإني أرجو من الله الموت ومنك الكفن!. . .

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الرغيف

للأستاذ جليل

الرغيف فرزدقاً كان، أو كان من السميذ الحواري هو معضلة العالمين كلهم أجمعين منذ أن تجم الكائنان الأولان اللذان سماهما الأستاذ الأكبر (إرنست هيكل):

،

ومنذ أن ظهر آدم ونوح إلى أن يرث الأرض ومن عليها

فلهذا الرغيف يعمل العاملون، ولهذا الرغيف يخاطر المخاطرون، ولهذا الرغيف يتقاتل هؤلاء المتقاتلون، ولهذا الرغيف يصنف العلماء ويخطب الخطباء ويكتب الكاتبون

(ما صنف الناس العلوم بأسرها

إلا لحيلتهم على تحصيله)

ومن كان لا يقبل (المقالة) إلا ومعها الشاهد والمثل وبيت الشعر فليستمع إلى هذه الأحاديث (الأماليح الأفاكيه) وليكن لها من الواعين، فإنها من عيون الأحاديث أو أعيانها كما يريد موهوب الجواليقي

* في مجمع الأمثال للميداني:

لولا الخيز لما عُبد الله

* في (برد الأكباد في الأعداد) للثعالبي:

أبو الدرداء الكلوذاني: الدنيا تدور على ثلاث مدورات: الدينار، والدرهم، والرغيف

* في (فتوح البلدان) للبلاذري:

قال كثير بن شهاب يوما: يا غلام، أطعمنا، فقال: ما عندي إلا خبز وبقل.

فقال: ويحك! وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟

* في (الفتوحات المكية) لابن عربي:

إذا عاينت ذا سير حثيث

فذاك السير في طلب الرغيف

له صلوا وصاموا واستباحوا

دم الكفار والبَرِّ العفيف

له تسعى الطيور مع المواشي

له يسعى القوي مع الضعيف

* في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي:

قال خلف الأحمر: كنت أرى أنه ليس في الدنيا رقية أطول من رقية الحية، فإذا رقية

ص: 4

الخبز أطول منها. يعني ما يتكلفه الإنسان من النظم والنثر والتآليف والخطب لطلب المال

* قال الشافعي:

لا تشتشيروا أحداً لا يكون في بيته دقيق؛ فإن عقله زائل

* حكي عن محمد صاحب أبي حنيفة قال: كنت ذات يوم جالساً وكتب الفقه مطروحة أؤلفها؛ فجاءت خادم إليَّ وقالت قد فني الدقيق، فذهب عن خاطري خمس مئة مسألة مما كان نصب عيني وأردت إيداعها الأصول، فما ذكرت منها شيئاً بعد ذلك

* في (نهاية الأرب) للنويري:

قال جعفر الكاتب: قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة؛ فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولي بالمأتم من بيتهم

* في ديوان (ابن هانئ الأندلسي):

ولذا صار كل ليث هِزَبر

قانعاً من زمانه بالرغيف

* في شرح النهج لابن أبي الحديد:

لولا ثلاث لم يسلل سيف: سلك أدق من سلك، ووجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة

* في كامل المبرد:

كان مالك بن أنس يذكر (قلت: أربعة من عظماء هذه الأمة) فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر

* سمع جحظة قول الشاعر:

وإذا غلا شئ عليّ تركته

فيكونُ أرخص ما يكون إذا غلا

فقال:

إلا الدقيق فإنه قوت لنا

فإذا غلا يوماً فقد تزل البلا

* في شرح النهج لابن أبي الحديد:

توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر في أن تكلم بعلها عبد الله في أن يبايعه، فكلمته في ذلك، وذكرت صلاته وقيامه وصيامه فقال لها: أما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة؟

ص: 5

قالت بلى

قال: فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته

* في مقامات الهمذاني:

ساخف زمانك جداً

إن الزمان سخيفْ

وقل لعبدك هذا

يجيئنا برغيف

لما فتحت العرب بلاد فارس، ورأت ما لم تكن عين عربي قد رأت، وذاقت الطعام اللذ الشهي (الدجاج المسمن بكسكر والرجراج بالسمن والسكر) (الشواء الرشراش والفالوذ الرجراج) قال عربي وقد طعم الفالوذ: والله لو لم نقاتلهم إلا على هذا لقاتلناهم عليه. وقد أمسى القوم بعد ذلك شولقيين

ومن العجيب - بل ليس من العجيب - أن هذا (الرغيف) قلما يقتنصه المرء حلالاً. ولذلك قال الحسن البصري: لو وجدت رغيفاً من حلال أحرقته ثم سحقته، ثم جعلته ذروراً لأداوي به المرضى

(* * *)

ص: 6

‌مسابقة الأدب العربي

2 -

أخبار أبي تمام

للدكتور زكي مبارك

أقول مرة ثانية، وسأقول ألف مرة، إن هذا الكتاب شغلني وألهاني عن المهم من شؤوني، ولو كان الورق موجوداً على نحو ما كان قبل الحرب لرجوت وزير المعارف أن يشير بتوزيعه على جميع التلاميذ، ليخلق فيهم الإيمان بالأدب، وليشعرهم بقوة الروح عند أسلافنا الأمجاد

وقد كتب الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي مقالا عن هذا الكتاب في مجلة الرسالة في أعقاب ظهوره، فليراجع الطلبة مجموعات الرسالة بمكتبات المدارس الأميرية لينتفعوا بمحصول ذلك المقال

مدرسة أبي تمام

نواجه الموضوع بعد تردد وتهيب، لأنه أخطر من أن يدرس بمثل هذه السرعة في الدرس، ولأن أبا تمام أعز من أن نطوف بأشعاره متعجلين

كانت النية أن أؤلف كتابا عن عبقرية أبي تمام بعد كتاب عبقرية الشريف الرضي، ولهذا حججت إلى مقبرة بالموصل لأسلم عليه، فعليه وعلى روحه الفنان ألف تحية وألف سلام!

وهل أنسى ما صنعت مع هذا الشاعر قبل سنين تزيد على العشرين؟

أنا أذكر أن في كتاب البدائع حديثاً هو عتاب على الحكومة العراقية في اهتمامها بقبر أبي تمام، وإغفالها نشر ديوان أبي تمام بصورة تليق بمكانته في التاريخ الأدبي

ويظهر أني أقول أكثر مما أفعل، فقد مضت أعوام ولم أؤد الواجب نحو هذا الشاعر العظيم، فلم يبق إلا أن أوجو مدير جامعة فاروق الأول أن يعفي الأستاذ محمد عبده عزام من التدريس سنة أو سنتين ليصحح ديوان أبي تمام تصحيحاً يرفع عنه آصار اللبس والتحريف

ولأبي تمام علينا حقوق، فقد نشأ بمصر بجامع عمرو ما سمع، فنبغ روحه نبوغا سيبقى على الزمان إلى أبعد الآماد

ص: 7

وأين الموضوع الأصيل؟

أراني أهرب من مواجهته، كأنه فوق ما أطيق!

أنا أريد أن أقول إن لأبي تمام مدرسة شعرية، وهي المدرسة الثانية في الأدب العربي، وهي أوضح من المدرسة الأولي، والكلام هنا مقصور على العهد الإسلامي، أما العهد الجاهلي فله مدرسة يختصم في رياستها شاعران عظيمان، هما زهير ولبيد، ومع احترامي لزهير صاحب الحوليات فأنا أعتقد أن معلقة لبيد هي أعظم قصيدة جاد بها الروح العربي، وأنا أتعجب من أن يتناسى مؤرخو الأدب منزلة لبيد مع أنه أهظم من امرئ القيس بمراحل طوال

أترك هذا الاستطراد وأذكر أن المدرسة الأولى في العصر الإسلامي كان فيها فصلان أساسيان: أحدهما خاص بالثورة على الأخيلة البدوية بإشراف أبي نواس، وثانيهما خاص بالفن الشعري بإشراف بشار، وهو أعظم الفنانين بين القدماء

ولا موجب للنص على منزلة مسلم بن الوليد، فهي أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح، فقصيدته الدالية هي أشرف ما جاد به عصر بشار وأبي نواس

ومسلم بن الوليد هو الصورة التي تأثر بها أبو تمام؛ فقد حدثنا الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية أن أبا تمام وضع المصحف بين يديه وأقسم أن لا ينال طعاماً ولا شراباً إلا بعد أن يحفظ ديوان مسلم بن الوليد

ومن مجد مصر أن ديوان هذا الشاعر نشر أول مرة في مدينة دمياط

أبو تمام العربي

أراد ناس أن يشككوا في عروبة أبي تمام، ومنهم الدكتور طه حسين، والدكتور طه رجل منصف، ولهذا أرجوه أن يسمع حديثي

التشكيك في نسب أبي تمام بدعة قال بها المتأخرون من المستشرقين، وهي بدعة لا تستند إلى أي برهان، فقد أجمع القدماء على أن أبا تمام هو الطائي الأول وأن البحتري هو الطائي الثاني

أبو تمام العربي هو رئيس تلك المدرسة الشعرية، وهو الرئيس الذي عجز عن مجاراته ابن الرومي

ص: 8

شعر العرب للعرب، فما ابن الرومي وما شعره وقد عجز عن الظفر بالموسيقا الشعرية؟

أبو تمام العربي هو رئيس المدرسة الثانية في العصر الإسلامي، وقد جلجل شعره وصلصل، وامتد صوته إلى آفاق يعجز عن اجتيازها الخيال

وأبو تمام مظلوم أقبح الظلم في هذا الزمن الظلوم، فقد قال أحد الناس إن شعره من رأسه لا من قلبه، وقال آخرون إن شعره خال من تعدد الألوان

والحق كل الحق أن فن أبي تمام جني عليه، فقد تصوره بعض بني آدم رجلاً لا يحسن غير التنميق، مع أن صياغته الروحية تفوق صياغته الفنية، ومع أن معانيه فوق ألفاظه بمراحل بعيدة، وإن اشتهر بزخرفة الألفاظ

هذا الرجل زلزل معاصريه وأوقعهم في فتن دامية، ولم يمت إلا بعد أن صرع خصومه وأرداهم أعنف إرداء

حدثنا الأستاذ محمد المهدي في محاضراته بالجامعة المصرية أن أبا تمام أخمل ثلثمائة شاعر في زمانه بلا قصد وبلا نية، لأنه كان نصيراً لجميع الشعراء، فما قال قائل إن هذا الشاعر العظيم وجه إلى أحد معاصريه أي إيذاء، لأنه كان غنياً بفضله كما قال أستاذنا محمد المهدي

وروح أبي تمام خلق جولة من الأدب، ولعله السبب في قتل الشريف الرضي وأبي الطيب المتنبي، فقد أراد هذان الشاعران أن يخملا اسمه بجهود عنيفة لا يستطيعها إلا من يكون في مثل قوة الرضي والمتنبي

وأنا متردد في الفصل بين هؤلاء الشعراء، فالشريف الرضي كانت له غاية واضحة هي السيطرة على الخلفاء في بغداد، والمتنبي كان يريد أن يظفر بمكانة في الديار المصرية، كأن يكون خليفة دعبل في مدينة أسوان

لم يلتفت أبو تمام إلى شيء من أعراض الدنيا الفانية أو الباقية، وإنما التفت إلى الفن الشعري ليرقم اسمه فوق جبين الخلود

أبو تمام مظلوم، فما التفت أحد إلى شعوره بالحياة، ولا عرف أجد أن اهتمامه بالألفاظ لا يقاس إلى اهتمامه بالمعاني

والجاهلون من مؤرخي الأدب العربي لا يعرفون إلا سمة واحدة من سمات أبي تمام، وهي

ص: 9

غرامه بالزخرف اللفظي، مع أنهم سمعوا أنه كان من رجال المعاني، بدليل أنه صنف (ديوان الحماسة) تصنيفاً يشهد بأنه من أصحاب الأذواق.

إلى طلبة السنة التوجيهية

أنا تعبت في توجيهكم يا أبنائي، ولا يعزيني إلا الشعور بأنكم ستنهبون جوائز وزارة المعارف

هذه المقالات هي المفتاح للخزانة التي يحرسها جنود صناديد، وقد كسرت تلك الخزانة بيدي لأقدم إليكم أسئلة الامتحان، ولوزير المعارف أن يعاتبني على إذاعة أسئلة الامتحان

تذكروا ثم تذكروا أنكم ستسألون عن مدرسة أبي تمام الشعرية، وأنكم ستسألون عن العصر الذي عاش فيه أبو تمام، وأنكم ستسألون عن شعور أبي تمام بروح الوجود

لا تخافوا من الأسئلة ولا من الأجوبة، فالمصححون آباؤكم الروحيون، وهم سيفرحون بالقليل من الصواب، ولو جاء في سطرين اثنين

وزارة المعارف تنتظر من ينهب جوائزها الغالية، فانهبوها، لتفرح بكم، كما فرح الطائر الذي تحدث عنه ميسيه في إحدى قصائده الخوالد. انهبوا وزارة المعارف، انهبوها، فهي تشتهي أن تنهبوها. وما تحب وزارة المعارف إلا أن يكثر الطامعون في جوائزها الغالية.

زكي مبارك

ص: 10

‌كتاب الذخيرة

للدكتور عبد الوهاب عزام

أخي الأستاذ محمد عبد الغني حسن

اطلعت في مجلة الرسالة على مقال للأستاذ عن كتاب الذخيرة الذي تخرجه كلية الآداب

وإني أبدأ بالاعتذار عن بأخير جواب الأستاذ حتى اليوم. وعذري أني اطلعت على مقاله وأنا على أهبة السفر إلى فلسطين. فاضطررت إلى إرجاء الإجابة حتى أعود إلى مصر. وعدت مستقبلاً أشغالا متتابعة هونت على نفسي هذا التقصير وليس بهين.

وأثني بشكر الأستاذ شكراً مضاعفاً على كلمته في المقتطف وكلمته في الرسالة، إذ أثني على ناشري الكتاب وحمد لهم عملهم وأحسن الظن بهم

وأثلث بأني عند ظن الأخ سعة صدر للنقد، وارتياحا للحق. وأن للناقد الفاضل عندي جزاءه من الثناء والشكر بما اهتم بالكتاب، وقرأه قراءة مدقق، ثم أهدي إلينا ثناءه وعرفنا مآخذه. ونخن ما عشنا طلاب علم و (إنما العلم عند الله).

وقد لقينا نصباً في قراءة الخطوط المغربية المختلفة، ومقابلة النصوص المحرفة؛ وكنا تدرك بعض خفاياها أحيانا بضرب من الإلهام.

وبعد فأكثر هذه المآخذ كما يعلم الأستاذ زلات طبع. والأخ من أخبر الناس بها. ولي حديث عنها سيقرؤه إن شاء الله في مقدمتي لديوان أبي الطيب المتنبي الذي سيخرج للقراء عما قليل. وأحسب الأستاذ قد تنبه إلى أن كلمته في الرسالة في لم تخل من هذا التحريف المطبعي. فقد وقع فيها دوين، والصواب فتح النون. ووقع فيها ص 236، والصواب 236

وقد أكثر الغلط المطبعي فضول في الشكل، وذلك أن الأستاذ المستشرق الذي شاركنا في فاتحة العمل قال: إن المستشرقين يصعب عليهم أن يقرأوا الكلام غير المشكول فلا بد أن يشكل الكتاب شكلاً كاملاً، ورأيت أنا من بعد ألا يشكل إلا مواضع اللبس؛ ولكن زملاءنا الذين يشرفون على الطبع لا يزالون في إيثار الطريقة الأولى؛ فأسرفوا في الشكل وأدى الإسراف إلى شيء من الفضول، وأوقعهم الفضول في مثل: ومن أجلى قتلوه، والصواب فتح النون كما رأيتم. إنما ينبغي أن تشكل النون في هذا الوضع إذا عدل بها إلى الفتح فإن كانت ساكنة فليست حاجة إلى وضع السكون على النون ولو كان صوابا

ص: 11

وكذلك النون في قول الشاعر: وخذ على الريق من أسبابه والصواب الفتح. وأما البيت:

لما رمته العيون ظالة

وأثَّرَتْ في جماله الحدق

والبيت:

فكم صافحتني في مناها يد المنى

وكم هبَّ عرف اللهو في عرفانهم

فقد صححا في الجدول آخر الكتاب

وأما ابن فتوح فقد شدد مرة ثم رجحنا التخفيف فجرينا عليه وكان ينبغي أن ينبه على هذا في جدول الغلط. وأما العبارة:. . . . . . . . فقلت لها يا قلبها أحديد أنت أم حجر فهي شطر بيت فزيد عليه الجملة (فقلت لها). وأظن الكاتب لم يرد غير هذا. وهذا الشطر عثرنا عليه في الموشى (ج1 ص 78)

شكوت ما بي إلى هند فما اكترئت

يا قلبها أحديد أنت أم حجر

وأما قول الأستاذ ضبطنا الفعل (مُتَ) بضم الميم والأعلى كسرها، كما في قراءة حفص، فجوابه أن قراءة حفص فيهم الضم أيضاً في الآية (ولئن مُتًم أو قُتلتم لألي الله تحشرون)

وقد أخذتم مأخذين في (أن) إذ وجدتم الهمزة فوق الألف فقرأتموها مفتوحة وصوبتم الكسر، والحق أن مصححي الكتاب يرسمون الهمزة المكسورة فوق الألف أحياناً ويتركون الفتح والكسر للشكل. ولست أماري في أن التفريق بين الكسر والفتح بموضع الهمزة من الألف فوقها أو تحتها أحسن إذا جرى الاصطلاح عليه

والبيت:

لم أر أن أكون من رواته

إذ هو معدود في هناته

غير متزن كما قلتم؛ وأحسب صوابه: إذ هو مما عد في هناته

وأما قول القائل: (إن لم أجد التأبين، فأجد البكاء والحنين) فنحن نوافقك على أنه ليس من مواضع فاء الجزاء، ولكن لم نستبح تغيير الكلام وكان ينبغي التنبيه عليه كما قلتم

وبقية الأغلاط الواضحة مثل الكسرتين تحت لام الجهل مع ألف التعريف، ومثل الرخصاء مكان الرحضاء في بيت المتنبي، وابن حَجر مكان ابن حُجر، فهي من الهفوات التي لا ندري كيف وقعت، ولكنا ندري أنها لم تقع إلا سهواً من الطابع أو المشرف عليه الخ

وأكرر للأستاذ اعتذاري وثنائي وشكري.

ص: 12

عبد الوهاب عزام

ص: 13

‌نقد علي محمود طه

للأستاذ دريني خشبة

وأخيراً نصل معاً، أو أصل وحدي، إلى الناحية المظلمة من علي محمود طه، شاعرنا الرقيق النابه، بعد أن جد بنا المسير

تلك الناحية المظلمة التي لا يجيد كثير من القراء الظالمين أن يبصروا إلا فيها. . . وهي ناحية تسهل الكتابة فيها أكثر مما تسهل الكتابة وتسلسل في الناحية المقابلة. . . الناحية المشرقة الزاهية. . . التي تعنى بالحسنات، أضعاف ما تعنى بالسيئات. . .

من السهل جداً يا صديقي القارئ، سواء أكنت ناقماً أم راضياً، أن يتناول الإنسان أحسن الأعمال الأدبية فيردها سوءاتٍ كلها. . . ومن السهل جداً أن يغمض الإنسان عينيه عن أمجاد الكاتب أو الشاعر، فلا يرى إلا ظلمات يتدجى بعضها فوق بعض. . . وقد عاهدت نفسي ألا أقع في هذا الظلم الأدبي الصارخ وأنا أنقد أحداً من أعز الناس على أدبائنا المصريين. . . بل أدبائنا العرب أجمعين، فرب ثناء يصادف محله، فكون تزكية للعبقرية الكامنة التي تستحق الثناء وتستأهله. . . ويكون سبباً في أن تفعل هذه العبقرية الأفاعيل. . . ورب قدح ظالم لا خير فيه، يسميه صاحبه نقداً وما هو بنقد، لكنه سم يسري في بنيان نهضتنا فيثبط الهمم، ويفت في العزائم، ويحطم الآمال. . . وكم كنت أتمنى ألا أكتب هذا المقال في نقد علي محمود طه. . . لأني مهما اجتهدت في تلقف ما أنقده به، وآخذه عليه، فلن أفوز إلا بهنات هينات لا يمكن أن تنال مطلقاً من شاعريته التي نضجت، أو من فنه الذي اكتمل

وربما تركت أكثر دواوينه، فلا أعرض لها إلا من بعد، وفي مناسبات قليلة، حينما أضطر إلى ضرب الأمثال للملاحظات التي أسوقها فيما يلي. . . ربما تركت أكثر دواوينه إذن. . . لأفرغ لمنظومته (أشباح وأرواح). . . تلك المنظومة التي كان من العسير على فهمي الضيق أن يلم بها، بالرغم مما كنت أقيم به من قراءة الأساطير، ومصاحبة هوميروس وأبولونيوس وفرجيل وأبي العلاء وابن شهيد ودانتي وملتون، وطول مداعبة خيالي لأخيل وبتروكلوس وأوديسيوس وأجاكس وهكتور وباريس، وإينياس وابن القارح، وزهير بن نمير، وبياتريس، وعيسى بن مريم، وهذه النخبة الساحرة من أبطال الإلياذة والأوديسة

ص: 14

والإلياذة، ورسالة الغفران، والزوابع والتوابع، والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .

فمالي قرأت هذه الروائع كلها وفهمتها على وجهها ثم أجدني غبياً أشد الغباء حين أتناول هذه الأرواح والأشباح فلا أستطيع أن أبلعها. . . نله أن أهضمها، ولا أستطيع أن أطير مع الشاعر البق المحبوب في تلك الجواء التي لم أتبين ألا زوردية هي، أم هي ظلمات في ظلمات في ظلمات!

يخبرنا الشاعر في المقدمة أنه تجرد من طيفه، (أو أن روحه انسدقت من طيفها فيما يشبه أحلام اليقظة. . . وكأنه بها وراء سحابة في عالمها الذي سبق أن عاشت فيه عند بعثها الأول، وأنه وجد نفسه في طريق أفلاطون ومثله العليا، فتنفس في هذا الجو طليقاً حراً لا تقيده بيئة ولا عقيدة، ولا يحد من حريته حذر أو اتهام، وأنه أرسل بصره في هذا الطريق الصاعد البعيد فلم يصل إلى مداه، وبدأت البصيرة عملها من حيث انتهى البصر، فإذا أبواب سحرية موصدة، وراءها خفايا وأسرار، وقضايا وأقدار، وإذا به في ختام قصيدته لا نزال في ذات الطريق لم يصل إلى غاية، ولم نوف على نهاية. . .) ويخبرنا أنه سمع حواراً في عالم الأسرار والأقدار يجري بين حوريات من صواحب الفن ورباته، هن: سافو وبليتيس وتابيس. . . ثم هرمز. . . أو هرميس كما سماه الشاعر. . . يحكم بينهن. . .

فلو أن هذا هو الذي يقرأه الإنسان في تلك المنظومة الغريبة لهان الأمر ولما اتهمت نفسي بالبلادة وفهمي بالغباء. . . لكنني أقرأ من هذه المنظومة هذه المقطوعة العجيبة الشائقة (حواء) فأجد قلباً يجيد وصف المرأة. هذه الجنة التي زان بها الله وجه الحياة. . . وأجد هذا القلب يعترف بالله وبالأقدار، وذلك حيث يقول:

قضى الله أن تُغوىَ الخالدين

وتُغرىَ بالمجد عشاقها

وحيث يقول في ختام المنظومة:

من الخير والشر إلهامها

وما هو إلا القديم السماعْ

فدع للسماء تصاريفها

فقد أذن البعث بعد انقطاعْ

وهي أبيات يرددها صوت من السماء. . . فأين هو هذا الانطلاق من البيئة والعقيدة؟ وأين هو طريق أفلاطون ومثله العليا؟! أقول لك الحق يا صديقي على! إني أعرفك أكثر مما تعرف نفسك. . . ورأيي فيك هو الذي أعلنته في كلماتي السابقة حينما دافعت عنك.

ص: 15

ودفعت عنك ما يظنه الناس فيك، وما تظنه أنت بنفسك من البعثرة بين الزهر والخمر، وبين أطياف سافو وأفروديت وتاييس وبليتيس. . .

على أنني لست أدري لماذا تستأثر بخيالك أشباح اليونان الغابرة، ولماذا نسيت في هذه الأشباح والأرواح مصر الخالدة الحاضرة؟ فهل رأيت كيف لم تستطع الانسلاخ من الشرق العزيز الحبيب حين هتف بك هذا الصوت من السماء في آخر المنظومة، فردك إلى وادي الوحدانية المؤمنة، وأقصاك عن الأولمب الوثني ذي الآلهة المتعددة، وذلك حينما قلت:

أم الشك آذنني بالصرا

ع أم حل بي غضب المنتقمْ

فجلجل في أذنيك - أو أوحى إليك. . . بأن تدع للسماء تصاريفها. . .

ولكن. . . لا غبار عليك، فلست أول مفتون بجمال الميثولوجيا اليونانية التي ظلت أحقاباً وأحقاباً مصدراً لإلهام الشعراء. . . ولعلك جاعل لمصر نصيباً في غير هذه المنظومة إن شاء الله.

هذا من حيث الموضوع. . . أما من حيث الشكل فالنقد أيسر ما يجري به قلم الناقد. . . ولعل أول ما يلفت النظر في سياق أشباح وأرواح هو طريقة الانتقال هذه من مقطوعة إلى مقطوعة، ومن حوار إلى حوار. . . ولو كانت المنظومة تمثيلية لما كان ثمة موضع لمؤاخذة. ولكن المنظومة قصة خيالية، فلماذا لم تنظم هذه الكلمات الانتقالية التي كتبت بالمداد الأحمر، مع أنها تصور مناظر خلابة كهذه الكلمات التي مهج بها لمقطوعة (الحية الخالدة)، والكلمات الواردة في صفحة 64 التي يقول فيها:(هرمز ينظر إلى غمائم بيض) قريبة وكأنه يترقب شيئاً والتي في صفحة 65 والتي في صفحة 78 التي تصور انشقاق الغمامة عن الشاعر في موقف اضطراب. . . . . .

لقد كان هوميروس بارعاً جداً في مثل هذه الانتقالات. . . لقد كان ينطق أخيل مثلاً بكلام، فإذا انتهى أخيل وأراد خصمه هكتور أن يتكلم، تجلت عبقرية هوميروس في وصف أثر كلمات أخيل في نفس خصمه، وفي نفوس الطرواديين. . . فإذا تكلم هكتور وفرغ من كلامه، مهد هوميروس للمنظر الذي يلي بشعر يعتبر من غرر الإلياذة الخالدة. وكذلك كان يصنع في الأوديسة. ومنظر انشقاق الغمامة عن الشاعر هو منظر تصويري مبتكر، فكيف يكون خيال شاعرنا الرقيق الموهوب أكثر عبقرية من تعبيره الكلامي؟ ولماذا لم يلبس هذا

ص: 16

المنظر حلته البهية السنية من شعر علي محمود طه البهي السني؟ لماذا؟. . . لماذا هذه السرعة في الإخراج؟

ولقد تغنيت طويلاً بحسن اختيار الشاعر لبحوره وقوافيه ولكني لاحظت مع ذلك أنه كان ينام أحياناً عن اختيار هذه البحور، وينام عنها ملء أجفانه. وكان حين يصنع ذلك يرسل كلاماً لا هو بالشعر فتحمد موسيقاه، ولا هو بالنثر فتحمل هجيراه: ومن ذلك هذا الكلام الذي تقوله حوريتنا ربة الريح الغربية في أغنية الرياح الأربع ص 73:

أنا ريح الغرب

بنت الآباد

أنا همس القلب

أنا رجع الشادي

أنا رمز الحب

في هذا الوادي

ثم هذا الكلام الذي يقوله ماتوكا العبد الأسود ص 95:

مائدة حافلة

كثيرة الأغراء

جاءت بها قافلة

تدلف من سيناء

فأين موسيقا علي محمود طه وأين غناؤه وألوانه في هذا الكلام؟ وقل مثل هذا في ذلك النشيد الذي يهرف به باتوزيس ص 33

واحسبني قد انزلقت برغمي إلى أعمق أعماق الناحية المظلمة من علي محمود طه، وعلى الرغم مني. . . ولذلك فأنا أوثر أن أعبر هذه الظلمات القليلة في سرعة خاطفة، لأن أنوار الشاطئ الآخر المتلألئة تجذبني في قوة وعنف. . .

فمما اصطدمت به في تلك الظلمات انتقال الشاعر في كلام المتحدث الواحد من بحر إلى بحر، كما يقول ماتوكا (ص96):

هو عند الشاطئ يستقصي

نبأ ويسائل ركبانا

إن شاء سيدي أمر

أرفع هاتيك الستر

ولست أجري لماذا لم ينظم البيت الثاني من المتدارك كالذي قبله؟ فإن اعتذر بأن البيت القاني كان فاتحة كلام جديد، فما أظنه حرياً بباتوزيس الشاعر أن يجري وراء ماتوكا الخادم في بحر يستفتحه له!

ومن ذلك قول أزمردا ص 40

ص: 17

أقيم في قصر؟ وقيم القصور؟

وطوع سلطاني هذي البحور؟

ويمضي في النظم على هذا الميزان، ومن تلك القافية، ثم تراه يغير الميزان ويبقى على القافية فيقول:

يثير أهواء الحسان الحورْ

حتى تُرى في ظله المنشورْ

يحملها إلى الغد المقدورْ؟

ولست أدري ما ذنب هذه المصاريع الثلاثة الأخيرة لتشذ عن موسيقا المصاريع العشرة التي سبقتها؟

ومما صدمني في هذه الظلمات القليلة بعض الانحرافات (النحوية) التي لا أسيغها، ولا أحسب أن لغتنا العربية تسيغها. . .

فمن ذلك إفراد فعلاء التي تصف جمعاً إذا كانت فعلاء هذه صفة لونية. . . فالغرف الحمراء ص 36 خطأ في رأيي، والصحيح أن يقال (الغرف الحمر) ولا داعي مطلقاً إلى تحدي الناس جميعاً بأن يوردوا مثالاً واحداً أفردت فيه فعلاء اللونية إذا وصفت جمعاً من قرآن أو كلام جاهلي أو إسلامي. . . ولن يقبل عذر معتذر بأن أعلام كتابنا يستعملون ذلك اليوم

ومن الانحراف النحوي أيضاً قول الشاعر (لا زال) ص 48 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة

ويقع أدري معنى (إضطرح) ص 49 وهو يريد اطرح بالطاء المشددة

ويقع الشاعر في هذه الغلطة الذائعة فيقول: الأسى الداوي مكان المدوي (الملاح التائه ص 80)

على أن هذا كله ليس شيئا في مفاتن شاعرنا الرقيق العبقري الموهوب، الذي أصبح لسانا من ألسنة مصر الحديثة تدخره لمجدها وتنطوي عليه حناياها.

دريني خشبة

ص: 18

‌الطبيعة توحي والشاعر ينطق

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

- 2 -

لم أذكر في مقالي الأول شعراء الطبيعة في الشرق والمغرب على سبيل الحصر، بل ذكرتهم على سبيل المثال. وما كنت في معرض بأذن لي بأن أتتبع شعراء الطبيعة واحداً واحداً في العالم كله، وأحصرهم جميعاً في مقال واحد في مجلة أسبوعية تضيق صفحاتها عن الحصر في موضوع يعجز الكاتب أن يستوفي جميع أطرافه. فذلك عمل أولى أن يكون موضوعاً لكتاب يكتب ويحفظ على سبيل الرجوع إليه، لا مقالاُ في مجلة نختلف أفانين الكلام فيها باختلاف الكتاب ونوع اختيارهم لما يكتبون

ولم أشأ أن أجعل لمقالي الأول لحقاً يلحق به، أو حلقة ثانية، ولكن الأديب الفاضل الأستاذ حسين الغنام استدرك على مقالي بعض أشياء رأى أن يذكرها لي في كتاب خاص. فرأيت ألا أحرم قراء الرسالة الاشتراك في موضوع لم يعد لي وحدي؛ ولكنه أصبح موضوع كل قارئ. ومن حق القارئ على الكاتب ألا يغفل رأيه أو يهمل استدراكه. وخاصة إذا كان المستدرك أديباً في نفسه وأديباً في درسه. فاستدراك أديبنا اليوم فيه كثير من الاطلاع على الأدب الغربي، وفيه كثير من الأدب في الاستدراك؛ وذلك شيء يشجع الكاتب على المضي في عمله، ويغريه بالاستمرار في البحث

يأخذ على المستدرك الفاضل أنني ذكرت ناساً وتركت ناساً أشهر منهم من شعراء الطبيعة جميعهم لا استثني منهم أحداً؛ ولكني قصدت المشهورين ممن أكثروا في وصف الطبيعة وكانت إلهاماً لهم ووحياً لشعرهم. ولو كنت في مقام يقتضي العد والحصر لذكرت مثلاً توماس ناش 1567 - 1601م الذي عاش قرابة ثلث قرن وعاصر جرين ومارلو، ومات بعد حياة كانت أملأ بالكفاح والنضال منها بالدعة والمرح. ولهذا الشاعر غرام عجيب بالطبيعة. وكان من حقه أن أنظمه في سلك شعراء مقالي الأول؛ إلا أن شهرته الأدبية لا تعدل شهرة من ذكرت وله أبيات في البيع عنوانها يقول منها:

المروج معطرة الأنفاس

والأقاحي تقبل أقدامنا

ص: 19

وأحداث العشاق يلتقون

والزوجات العُجز يضْحين في الشمس

وفي كل ثنية تحيى آذاننا زقزقة الطيور

ولو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت مثلاً بن جونسون 1573 - 1637؛ وذكرت معه أبياته الرائعة بعنوان الطبيعة النبيلة

ولذكرت روبرت هربك 1591 - 1674؛ وذكرت زيادة على أبياته في زهرة الدافوديلس قصائده في البنفسجة، والبريمروز، وبراعم الكرز، والعشب. فهو في هذا الموضوعات مغن للطبيعة. ولقد يكون في أفكاره شيء من التفاهة؛ ولكنه يخلع على تلك الأفكار ثياباً من تعبير يكسيها نضارة قطرات الندى في تباشير الصباح

ولذكرت الشاعر ويليم كولينيس 1721 - 1759، وذكرت قصيدته غير المقفاة التي عنوانها (إلى مساء)

ولو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت والتر لاندور 1775 - 1864؛ وهو الذي يقول في إحدى مقطوعاته:

(إنني أحببت الطبيعة، وأحببت الفن بعدها)

ولذكرت لورد تنيسون 1809 - 1892؛ وذكرت قصيدته التي يخاطب بها البحر قائلاً:

تكسر! تكسر! تكسر أيها البحر!

على صخورك الباردة الدواكن

وذكرت قصيدته (الجدول) التي أنطق فيها الجدول المترقرق من حين ينبجس إلى حين يتصل بالنهر، ماراً بالهضاب، مترتراً مع الأحجار، مخترقاً الحقول، محتملاً فوق مائه برعمة طافية أو عشبة يابسة، ملقياً بهما في أحضان تياره المندفع فوق صغار الحصي

ولذكرت بروننج 1812 - 1889؛ وذكرت قصيدته (أفكار نحو الوطن - من البحر)

ولو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت شارلس كنجسلي 1819 - 1875، وذكرت قصيدته (أغنية إلى ريح الشمال الشرقي)، ولذكرت وليام موريس 1834 - 1896 وذكرت قصيدته (فجر الصيف) وهي لوحة على إيجازها مملوءة بالخصيب من الألوان ولذكرت سوينبرون 1837، 1909، وذكرت قصيدته (حديقة مهجورة) ولو أنها

ص: 20

أميل إلى شعر التأمل والتفكير الفلسفي منها إلى شعر التصوير والطبيعة

لو كنت في مقام يقتضي الحصر والعد لذكرت هؤلاء وكثيراً غيرهم ممن يصادفهم قارئ الأدب الإنجليزي؛ ولذكرت غيرهم من شعراء الطبيعة الفرنسيين؛ ولذكرت غيرهم من شعراء العربية ممن لم أذكرهم في مقالي الأول اكتفاء بمن ذكرت؛ ولأضفت إلى هؤلاء بضعة من الشعراء اقترحهم على الأديب حسين الغنام في رسالته الخاصة، أمثال إمرسن ويوسف كيزار وكبلنج ولو نغفلو في أدب اللغة الإنجليزية. وبوشكين في الأدب الروسي؛ ولأضفت إليهم - من عندي - بريدجز، وهو سمان، وتوماس هاري، وشارلس سورلي، ولأمير من شعراء القرن العشرين، وأضفت إليهم كذلك روزنيرج؛ وداي لويس، وبيتس، وليون، وغيرهم من المغمورين

نعم، لو كان المقام يقتضي الدراسة الواسعة والبحث المحيط لخصصت كل واحد من هؤلاء بمقال، وأضفت إليهم غيرهم ممن لم أذكرهم ولم يذكرهم المستدرك الفاضل، ولكن دواوينهم مطبوعة يرجع إليهم من شاء من طلاب التوسع والمزيد

وهناك اعتراض آخر، وهو أني لم أسلك عبد الرحمن شكري والعقاد والمازني مع من سلكت من الشعراء المصريين

والمعترض يقول (لكل واحد من هؤلاء غير قصيدة واحدة في الطبيعة)

وهذا كلام فيه بعض الحق. فلعبد الرحمن شكري في ديوانه الأول قصائد خطرات في المساء ص 4، أو حنين الغروب عند الشمس ص 8، وتحية للشمس عند شروقها ص 16، والحب والليل ص 18، والروض بالليل ص 55، والبرق ص55، وغيرها. وله في ديوانه الثاني رثاء عصفور ص 63. وله في ديوانه الثالث سحر الربيع ص 7، والشعر والطبيعة ص 16، وله في ديوانه (زهر الربيع) قصيدة نرجس ص 48، وقصيدة حديقة الصيف ص 1، والطائر الحبيس ص 6

وللعقاد كذلك قصائد ومقطوعات في الطبيعة. وأطولها قصيدة في (الكروان) التي ضاعت منها الوحدة الموضوعية التي نبحث عنها في الشعر العربي الحديث

وللمازني كذلك مقطوعات في الطبيعة، ولكن الحق كل الحق أن شاعراً مصرياً لم يتفرد بوصف الطبيعة والجلوس إليها والانغمار فيها كما فعل الشاعران اللذان ذكرتهما في مقالي

ص: 21

الأول وهما المرحوم الهمشري وشاعر البراري

ولو كانت قصيدة واحدة أو بضع قصائد تكفى لأن نسلك صاحبها في عداد شعراء الطبيعة، لسلكنا فيمن سلكنا حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وخليل مطران وعلي محمود طه والدكتور ناجي وعبد العزيز عتيق، وكثيراً غيرهم ممن يضطرنا ضيق المقام إلى عدم ذكر أسمائهم.

وعلى المستدرك التحية والسلام

محمد عبد الغني حسن

ص: 22

‌من إعجاز القرآن

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

كتب الكاتبون قديماً وحديثاً في إعجاز القرآن، ولكن ليس كمثل الأمثلة العملية الواقعية بيان لذلك الإعجاز. ومن أحدث هذه الأمثلة وأغربها ما وقع من الدكتور زكي مبارك أو (الكاتب المجهول كما يسمي نفسه في العدد 351 من الرسالة

والدكتور زكي مبارك كبير الإعجاب بنفسه يظن أنه أحاط بالأدب العربي من أطرافه: أطراف النثر وأطراف الشعر، فلم يدع لكاتب ولا لشاعر شأواً معه. تعرف ذلك في دعاواه الطويلة العريضة التي ينثرها يميناً وشمالاً بغير حساب فيما يكتب من مقال، وما يؤلف من كتاب، كأنما أراد أن يكون المقل المنجسم لقانون التعويض النفسي في الأدب، فهو يعوض نفسه عما فاته من ثناء الناس بالمبالغة في الثناء على نفسه، وهذا شيء لم يكن يفهم لولا أن إعجاب الدكتور بنفسه انقلب فيه غروراً، وأن الغرور بلغ منه حداً جعله يتطاول إلى مقام القرآن الكريم، يشكك في إعجازه تارة، ويكاد يصرح أنه من كلام البشر تارة أخرى، ويدعو إن بتلميح وإن بتصريح إلى تناول القرآن بالنقد، كأنما يظن أن ذلك في مقدوره لولا أن المسلمين لم يستعدوا بعد لتلقي كل ما عند الدكتور

وسولت له نفسه أن يكتب مقاله (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق)، ولأمر ما رأى أن يوقعه بغير اسمه

ولكنه نسى نفسه حين أمن أن يعرف قومي بها عوراء مخزية حين كتب: (أما بعد، فأنا لا أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، وإنما أعوذ برب الفلق من خير ما خلق، وهو الجمال). لعلك لو فتشت عن قلبه حين كتب هذا لوجدته مسروراً به، يرى أنه جاء بطريف وهذا خذلان الله لكل من يلحد في آياته: يخفى عنه الغلطة المنكرة لا تخفى على العامة من الناس.

والغلطة المنكرة هي جهله أن كلمة (شر) في الآية الكريمة اسم لا أفعل تفضيل، وأن الفرق بين معنى الآية كما فهمها وبين معناها كما أنزلت كالفرق بين الجماد والحي، والإعجاز وغير الإعجاز

وإذا أدرك زكي مبارك غلطته فحاول أن ينكر أن (شر) في جملته أفعل تفضيل كذبته كلمة

ص: 23

(خير) في نفس الجملة، إذ لا شك مطلقاً في إن (خير) في جملته تلك أفعل تفضيل جاء في مقابلة (شر) أفعل التفضيل الآخر في أول الجملة

إن كلمة شر إذا كانت اسماً مضافاً إلى ما الموصولة، كما هي في الواقع في قوله تعالى (من شر ما خلق) في السورة الكريمة المعروفة، شملت كل شر لكل مخلوق، فلاستعاذة بالله من شر ما خلق على هذا الوجه هي استعاذة تامة كاملة لم تدع موضعاً لاستدراك مستدرك ولا للعب لاعب. فإذا أراد مغرور أن يلعب باللفظ تظرفاً واستطرافاً سقط سقطة الدكتور زكي مبارك. قد يكون الجمال خير ما خلق الله وقد لا يكون، لكن إذا كان للجمال شر يخشى ويستعاذ بالله منه فقد دخل في الشر المطلق شر كل مخلوق خلقة الله، وهو ما أمر الله الإنسان بالاستعاذة منه برب الفلق، فلا داعي هناك قط إلى تعوذ جديد من الجمال أو من غير الجمال

فانظر الآن إلى ما يطرأ على المعنى من التغيير والتضييق والنقض بجعل (شر) أفعل تفضيل كما فهم صاحب النثر الفني. لقد انفتح له بذلك من ناحية باب الاستدراك فقال إنه لا يتعود من شر ما خلق الله ولكن من خير ما خلق وهو الجمال. ومن ناحية أخرى صارت الاستعاذة على هذا الوجه مقصورة على شر أكثر خلق الله شراً، وتركت ما عدا ذلك من شر كثير حراً طليقاً يصيب من الإنسان ما شاء. فِأي استعاذة هذه التي تترك المتعوذ عرضة لأكثر الشر في جملته، أو لشر كثير على أقل تقدير؟ فلو كان هذا المعنى مقصوداً في كلام أديب لكان معيباً عند أهل البلاغة، ومع ذلك فهذا هو ما فهمه من كلام الله الدكتور زكي مبارك المستأثر ببلاغة النثر والشعر الحائز لدكتوراه الأدب العربي من باريس بكتابه النثر الفني الذي زعم فيه أن القرآن من كلام البشر ودعا فيه إلى نقد القرآن

فكان الله سبحانه أراد أن يضرب مثلاً لخلقه من إعجاز كلامه على يد شاك يظن أنه ملك ناصية الكلام، فقيض الدكتور زكي مبارك، لا ليبدل لفظاً من لفظ ليكون لفظ القرآن هو الأفصح والأبلغ، ولكن لينقل لفظاً تعينه من وجه إلى وجه، من الاسمية إلى الوصفية، ولا يكون هذا اللفظ إلا أبسط كلمة في أبسط آية يفهمها حتى عوام المسلمين في أنحاء الأرض، ليجئ المعنى تافهاً بعد مروره في ذهن الدكتور؛ وليتبين للناس مقل من هزة القرآن وإعجازه؛ وأن صاحب النثر الفني لا يفقه فرق ما بين الإعجاز وعير الإعجاز، وأنه ليس

ص: 24

من القرآن الكريم في حقيقة ولا مجاز.

محمد أحمد الغمراوي

ص: 25

‌أحزان الوحدة!

للأديب عبد الرحمن الخميسي

دَمِّريَ ياَ وَحْشَتيِ كُلَّ هَناَءْ

وَعِلَى أَنْقاَضِهِ سِرْ يَا عَنَاءْ

وَاعْصِفي بيِ ياَ شُجُوني عَصْفَة

تَحَمِلُ النَّفْسَ إلى وَادي الفَنَاءْ

أناَ أُفْرِدْتُ وَلَا مِنْ مُؤْنِسٍ

يُبْعْدُ الْوَحْدَةَ عَنَي وَالشَّقاَءْ

أَناَ أُفْرِدْتُ فَياَ مَنْ عَزّ أَنْ

يَتَلقّاهاَ خَياَلُ الشُّعَرَاءْ

أَيْنَ أَلْقَاَكِ؟ ابْزُغِي في عَالَمِي

تَتَفتَّحْ لِيَ آفاٌقُ الرَّجَاءْ!

هذِه الْوَحْدَةُ ماَذَا بَعْدَهاَ

يا زَماَنيِ يَنطَوى لي في الْخفاَءْ؟

أَخرِقي بالدَّمْعِ أَجْفاَني ياَ

أَعْيُني وَاسْتَعْذِبي مُرَّ البُكاء

أَناَ أُفْرِدْتُ فَيَا غُرْبَةُ ماَ

كُنْتِ لي غَيْرَ مَعين الْبُرَحَاء

فاَنْزِفي يا أَضْلُعي في وَحْدَتي

حَرَّ ماَ يُتْرعُ قَلْبِي مِنْ دِماَء

هاَتِهِ الأنجُمً مَنْ يُغْرِقٌهاَ

في أَوَاذِّيكَ يا بَحْرَ السماء؟!

ثُمَّ مَنْ يُطْلِقُ رِيحاً صَرْصَراً

تُطْفيُّ الْمِصْباَحَ فاَلدَّارَ خلَاء!

غُرْفتي لَا تعْرِفُ الأصوات ياَ

شِقْوَةَ الْهاَتِفِ إِبٌانَ النَّدَاء

انطقي أيتها الجدران، أو

فاَصْعِقيني وَاهْدِمي فوق الْبِناَء

وَقفي أيتها الأرض! وَلَا

تقطعي الدورة في هذا الفضاء

عبد الرحمن الخميسي

ص: 26

‌البريد الأدبي

جميل بثينة

جميل جداً أن يتجه الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد إلى كنوز الأدب العربي يجلو صفحاتها ببيانه المطرب المعجب العميق. وقد كان من أواخر ما جلته لنا يراعته الفياضة من هذا القبيل (جميل بثينة) في شعره وفي سيرته، فملأ بذلك فراغا كان يشعر به رواد الأدب الحديث. وكان بغنائه هذا اللحن الجديد في هذا الموضوع القديم يمثل بحق دور (الكاتب البارع) الذي تحدث عنه (سنوحي) في قصته عن لسان أحد أبطالها المبدعين.

وقد استوعبت رسالة الأستاذ عن (جميل) مطالعة وإمعاناً ملتذاً بما تحويه من أفانين النظريات النفسية الحديثة في عرض كله إمتاع. وفي أثناء مطالعتي لفصولها تبدت لي بعض ملاحظات لا تؤثر على جوهرها ولا فضلها، وهذه هي:

أولا: يصف الأستاذ بثينة (بالحمق) مستدلا على ذلك بحديثها مع عبد الملك بن مروان حين قال لها ما الذي رأى فيك جميل؟ فقالت: الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك. ويعقب الأستاذ على هذا بقوله: (مثل هذه الحماقة لا تظهر في الكهولة إلا إذا كان لها أساس أصيل من بداية العمر). والذي يلوح لي أن إجابة بثينة لا تنبئ عن حمق، بل هي تشف عن حصافة رأى ورجاحة عقل وسرعة بديهة وجرأة قلب، شأن الكيسات الفصيحات من نساء عرب البادية. فعبد الملك إنما سألها بما سأل مبكتاً غاضا من جمالها وقادحا في جميل الذي فتن بهذا الجمال الموهوم. وسرعان ما أدركت غرضه فردت له الكيل بكيل مثله

ثانيا: في الصفحتين 86 و 87 من فصل (مكانة جميل الشعرية) مال الأستاذ إلى نظرية القائلين بتقديم جميل الشعرية في النسيب خاصة على شعراء الجاهلية والإسلام. وفي الصفحة 98 نقض هذه النظرية. فأيهما أجدر بالاعتبار والتقرير؟

ثالثاً: يقرر الأستاذ خطأ مدرسة (الاستحسان) التي تقرر بأن من وصف محبوبه بأنه كالشمس أغزل ممن شبهه بالبدر أو كوكب من الكواكب. وقد ساق ما لا مريد عليه من الأدلة لتوطيد هذه النظرية الطريفة، بيد أنه خرج من ذلك في الصفحة 78 إلى أن قول جميل:

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغر من أنيابها بالقوادح

ص: 27

ينأى به عن اتباع المذهب الاستحساني في تغزله. والذي يبدو لي في هذا القول أنه ليس فيه ما يجافي جميلا عن المذهب المذكور، فهو لم يقدح في جمال عيني بثينة ولا ثغرها؛ بل ما زال مستحسنا لهما كل الاستحسان، وناهيك بوصفه الأنياب بالغر. وغاية ما بجميل أنه كانت تستبد به أحياناً عوامل الغرام فيصاب بما يصاب به الوالهون في مثل هذه الساعات من ذهول واضطراب يجعلانه يتبرم بكل شيء في الحياة، حتى أن حبيبته التي هي أعز ما في الحياة لديه يتمنى أن تذوق شيئاً من الشقاء، حتى ترغم على العطف عليه فينعم بهذا العطف وحسبه ذاك. على أن جميلا نفسه فيما رواه الأستاذ في (مختارات شعره) ص 141 قد وصف محبوبته بأنها كالبدر، ووصف غيرها من النساء بأنهن كالكواكب فهن دونها جمالا، وبهذا اتبع مذهب (الاستحسان)، وذلك حين يقول:

هي البدر حسناً والنساء كواكب

وشتان ما بين الكواكب والبدر

(مكة المكرمة)

عبد القدوس الأنصاري

بين حمدة والمنازي

دهشت لما قرأت حكم الأديب عبد الحميد عبد المجيد بأن نسبة الأبيات التي أولها:

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الغيث العميم الخ إلى أبي نصر أحمد بن يوسف

المنازي خطأ وإنها لحمد الأندلسية. دهشت لأني أعلم أن هذه الأبيات مما تنازعها المشرقيون والأندلسيون قديماً، بل لقد أجمع أدباء المشرق - كما يقول ياقوت في معجم الأباء - على نسبة هذه الأبيات للمنازي المتوفى سنة 437 ونسبها أدباء الأندلس ومؤرخوه إلى حمدة بيت زياد

وفي وفيات الأعيان لابن خلكان أن المنازي اجتاز في بعض أسفاره بوادي (بزاعا) - قرية بين منبج وحلب - فأعجبه حسن هذا الوادي وقال هذه الأبيات في وصغه.

2 -

قيس لبنى وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

ذكر صاحب الأغاني (ج 8 ص 94) أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال في زوجته عشمة هذه الأبيات:

ص: 28

تغلغل حب عشمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

صدعت القلب ثم ذررت فيه

هواك فليم فالتأم الفطور

إلى آخرها وهي ستة أبيات رقيقة باكية. وذكرها أبو علي القالي في ذيل الأمالي (217) ونسبها إلى عبيد الله أيضاً إلا أن صاحب الأغاني ذكر في صفحة 113 ج 8 البيت الثاني والثالث ونسبهما إلى قيس بن ذريح صاحب لبنى في قصة طريفة ذكر أنهما من شعر قيس. فأي قولي الأصفهاني نصدق؟

برهان الدين الداغستاني

الشيخ محمد عياد الطنطاوي

رجا فاضل في هذه المجلة (في العدد 549) ممن يعثر على تاريخ هذا الرائد المجهول أن يدلي على صفحات الرسالة بالمصادر التي يمكن الرجوع إليها عنه

وتلبية له أشير إلى أن المرحوم العلامة أحمد تيمور باشا قد عنى بجميع أخباره وتسقطها زمناً، وبذل في ذلك جهداً مشكوراً، ثم نشر ما وصل إليه في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1924م (المجلد الرابع ص 388 - 391)

ثم جاء المستشرق الروسي المعروف: (أغناطيوس كراتشكوفسكي) من أكاديمية العلوم الروسية، فاستدرك على تيمور باشا بعض استدراكات مفيدة جداً نشرها في المجلة المذكورة (ص562 - 564) من المجلد الرابع، ذاكراً أن للفقيد ترجمة بقلمه، وآثاراً علمية من تآليفه، تحتفظ بها مكتبة الكلية في بترغراد وكلها تخط مؤلفها، وأشار إلى مصادر عن حياته لا تخلو من فائدة، كما صحح خطأ المستشرق في تأريخ وفاة الشيخ محمد عياد الطنطاوي رحمه الله

(دمشق)

سعيد الأفغاني

إلى الأستاذ قدوري طوقان

ص: 29

قرأنا لكم كتابكم العظيم (الكون العجيب) فحمدنا لكم هذا الصنيع إذ تنفذون إلى أعماق الكون وسرائر الوجود بفكر ثاقب وقلب مؤمن، وإذا أنا أطالع في مقدمة (ابن خلدون) عثرت على اصطلاحات فلكية لا أكون مجانباً الصواب قلت إن أكثرها يحتاج إلى دراسة عميقة حتى يتبين منها ما أظهر العلم الحديث صحته أو بطلانه. وكان ما استوقفني من هذه الاصطلاحات قوله: ص 49 طبع مصطفى محمد (وقد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك في جوفه قهراً، وهذه الحركة محسوسة)؛ فما هو الفلك الأعلى وما عوامل قسره سائر الأفلاك على الحركة، ثم ماذا يعني العلامة ابن خلدون بقوله وهذه الحركة محسوسة؟ وبد هي أننا حين قرأنا قول الشاعر:

تقفون والفلك المحرك دائر

وتقدرون فتضحك الأقدار

لم نتعمق الفكر ولم تدفق الحساب مع الشاعر؛ إذ قصارى المعنى الشعري أن الحياة سائرة والمخاطبين جامدون: أما ابن خلدون الباحث الاجتماعي الذي شرقت آراؤه وغربت؛ فلا بد من مناقشته وعرض آرائه على بساط البحث

فإلي الأستاذ الكبير قدري طوقان أسوق الحديث.

إبراهيم السعيد عجلان

استدراك

جاء في مقالي عن الشاعر الإنجليزي (شلي) في العدد 549من الرسالة: (أنه سافر حدثاً ليلتحق بكلية إتون بأكسفورد)، وصوابه: ثم بأكسفورد، أي الجامعة الشهيرة وهي التي طرد منها الشاعر أخيراً. إذ كما يعلم القارئ اللبيب أن لا علاقة بين المؤسستين على الإطلاق

(بغداد)

محي الدين السامرائي

ص: 30

‌القصص

جميلة تحت ظلال الأرز

ملخصة عن قصة طويت لهزي بوردو

بقلم الأستاذ حلمي مراد

لم يكن يدور بخلدي، يوم أن رست بي الباخرة (لوتس) في ميناء بيروت، أن الأقدار قد هيأت لي أن أعود من زيارتي للبنان بوقائع هذه الفاجعة: فاجعة قلبين فرقت بينهما شريعة الدين، فجمعت بينهما شريعة الحب. وما كنت لأقص خبرها لو لم أسمعها بأذني من فم الرجل الذي كان شاهدها، بل كان واحداً من أبطالها، قبل أن يكون راويها

كنت قد عرفت (خليل خوري) في إحدى قرى لبنان؛ كان شيخاً مارونياً في نحو السبعين من عمره، طويل القامة، وسيم القسمات، مهيباً في عباءته الحمراء وعقاله الأسود العريض. وكنت قد قضيت اليوم معه في التجوال فوق قمم الجبال التي تكسوها الثلوج، حتى أن لنا أن نستريح، فجلسنا عند حافة غابة الأرز العتيق، نشرف من عل على الوادي السحيق، حيث ينبثق نهر (قاديشا) من بين الصخور التي اصطبغت بلون الأرجوان، وينساب بين المراعي والقرى وغابات البرتقال

وهناك تحت ظل أرزة ساحقة، باح لي الشيخ الحزين بسره الذي أقفل عليه قلبه طوال خمسين عاماً كاملة. باح لي به تحت تأثير إلحاحي الشديد، وتحت وقر الكتمان الطويل الذي كثيراً ما يرهق العاشق كما يرهق المجرم الأثيم

قد يبدو غريباً أن ترد قصة غرام جارف على لسان عجوز في السبعين، ولكن عزاءه كان أن الاستغراق في الذكرى قد أعاد له - ولو إلى حين - انفعالات الشباب، فوجد في قلبه، مرة أخرى، عاطفة الأيام الخوالي. العاطفة التي أحالت واحة حياته إلى صحراء مقفرة، لا بهجة فيها ولا رواء

ومن يدري؟ ربما كان الشيخ قد رأى في تغلبه على عوائق السن ودواعي الوقار، أطيب تحية يزجيها للعاطفة الأثيمة التي فاضت من قلب (جميلة) قبل نصف قرن من الزمان

ص: 31

كان ذلك حوالي عام 1870، في قرية (بشرى) الهاجعة في أحضان الجبل على عتبة غابة الأرز، ولم يكن مضى غير أعوام منذ فقد خليل خوري أباه في مذبحة (دير القمر) وهي إحدى المذابح البشعة العديدة التي خضبت في القرن الماضي جبال لبنان بدماء بنيه من المسلمين والمارونيين. فلما دهم اليتم الغلام، وهو ما يزال في الثامنة، تلقفه بالعطف والحدب أكثر من قلب، وخاصة من أفراد أسرة الشيخ راشد والد جيرانه الأطفال: بطرس وجميلة ومنتهى، ومن ثم وجد الغلام في ثلائتهم اخوة يبادلونه ألعابهم ويصطحبونه معهم كلما خرجوا على ظهور الخيل للصيد بين الجبال

مرت أعوام، وبلغ الفتى علمه الخامس عشر، فإذا ببطرس يفاجئه يوماً بالقول في لهجته القوية الآمرة:(إن جميلة سوف تغدو زوجتك يا خليل). . . وكأن هذه الكلمات قد أثارت في الفتى فتوته فسبقت مشاعره سنه، وإذا به يحس مزيجاً مسكراً من الأحاسيس والأخيلة، ثم إذا بالخيال يوشك أن يصبح حقيقة، حين يدرك خليل من حركات وهمسات أفراد الأسرتين أن زواجه من جميلة أضحى أمراً مفروغاً منه. . . ولم لا؟ أليست جميلة كأخته؟ إذن فالتطور لن يصل إلى حد الطفرة، لن يعدو أن يكون خطوة قصيرة واستكمالاً طبيعياً لمودتهما العذبة، المودة التي وقفت صلتهما عندها طويلاً. . . إلى أن وقع حادث تافه بد لها في قلب خليل إلى حب جارف. . .

. . . وإنه ليذكر ذلك الحادث كأنه قد حدث بالأمس. . . كان خليل عائداً مع بطرس وجميلة - عصر أحد أيام الشتاء - من قرية (حصرون) القريبة، حيث كانوا يبتاعون بعض ثمار القراصيا والمشمش المجفف. وإنهم لفي الطريق الغائص تحت الثلوج، وإذا ببطرس قد أبعد في سيره طلباً للصيد في الغابة. وبقى خليل وجميلة ينتظران عودته، وبينما هما يسيران متجاورين، لمست يد الفتى - عفواً - يد رفيقته. . . كانت باردة كالثلج، فأخذها بين راحتيه يدفئها ويعيد إليها الحياة، برغم أن الدفء والدم قد سريا إليها بعد حين، فإنه قد استمرأ أن يبقيها برهة أطول، حتى قالت له الفتاة ضاحكة:(دعني) فلم يبال رجاءها بل ضغط يدها أكثر، ثم اندفع فجأة يقبل اليد الرخصة بلا وعي! ظلت الفتاة ساكنة، لم يرعبها هذا الانفعال غير المألوف، ولكنها عادت بعد برهة تقول به في صوت خفيض:(هيا بنا نعود). . . ووافقها هذه المرة

ص: 32

وحين أبلغها بيتها، وجدهم قد أعدوا لهما نبيذاً دافئاً، ولكنه كان ثملاً بغير خمر. وتغيرت نظرته إلى جميلة، رآها بعين العاشق الفاحصة في ثوبها الصوفي الأبيض، وراح تصره يتملى شعرها اللامع ورقبتها التي في لون العاج، وخدها الدافق بحيوية مشبوبة، وعينيها الزرقاوين كالبحر الهادئ حين يرى من هامة غابة الأرز في يوم صحو جميل. . . ثم صوتها بدا له كأنه لم يسمعه من قبل، حتى لقد ود لو يذوقه في منبعه: بين شفتيها الحمراوين كالقرمز، وأسنانها البيض كالثلج. وبالاختصار وثب إلى ذهنه إدراك مباغت: أن طفلته قد صارت امرأة

وعندما وصل إلى بيته، سأل أمه في اضطراب:(ألم تحن الساعة بعد يا أمي؟) ولم يزد. وفهمت هي مراده بغريزة الأمومة فضحكت وهي تقول: (كما تريد يا بني). . . وفي اليوم التالي سار ثملاً مع أمه إلى بيت الشيخ راشد لخطبة جميلة. وبأمر من بطرس، وعلى ملأ من الأسرتين، قطف خليل من خدها القبلة الأولى. ثم جاء الربيع، وأزهرت أشجار الفاكهة الفواحة الأريج، ولكن بقية من الثلوج البيض المتناثرة، كانت ما تزال ترى من شرفة بيت الشيخ راشد، فسأل الفتى واجفاً (متى الزواج؟) وأجاب الأب (حين تذوب الثلوج هناك) وكان معنى هذا القرار: الانتظار حتى أغسطس. وهكذا صار الموعد رهناً بحرارة الشمس لا بحرارة قلبي العاشقين. . . ومن ثم صار الفتى يسرع إلى الشرفة كل صباح كي يطمئن. . . لكن الشتاء كان قاسياً فطال بقاء الثلوج

وفي ذات صباح جميل، رؤى خليل بعدو كالطفل إلى بيت جميلة وهو يقول:(جميلة!. . . جميلة! لقد ذابت آخر قطعة من الثلج. . . لم يعد هناك ثلوج) وأسرعا معاً إلى الأب، فقال لهما بصوت أغاظتهما رزانته:(ستتزوجان. . . بعد أن ينفض عيد الأرز)

. . . وجاء يوم العيد. وأقبلت على غابة الأرز جموع المعيدين، من قرية بشرى وسائر القرى المتناثرة كالعنقود على جانبي النهر. . . ثلاثة آلاف نسمة أقبلوا لقضاء يومهم في الهواء الطلق تحت ظلال الأشجار العتيقة، يستمعون إلى الطقوس الدينية، ويتناولون طعامهم على العشب، ويرقصون (الدبكة)، رقصتهم الوطنية الجميلة. . . حتى يغيب النهار فيعودون إلى بيوتهم مع المساء

وجلس أفراد الأسرتين تحت أرزة وارفة الظل مدت غصونها فوق رؤوسهم كأنها تباركهم

ص: 33

وتحميهم. . . جلسوا جميعاً: خليل وبطرس ووالده الشيخ وجميلة وأختها الصغرى منتهى، ثم صديقاتهن: آبلة ونالة وراحيل، وقد خلعت كل واحدة نقابها الأبيض ونشرته على فرع من شجرة الأرز. . . وكانت جميلة تبدو بينهن - وهي متكئة على وسادتها - كالملكة في بلاطها، وأحس خليل بغبطة جارفة. إنها ستغدو له وحده بعد أيام. . . وبينما هو مستغرق في الحلم همس له بطرس بلهجة تنطق بالحقد، وهو يشير أمامه: (مسلمان!. . . ماذا أتى بهما؟. . . ماذا يريدان؟ وتلفت خليل إلى حيث أشار فرأى أعرابيين شابين يترجلان من فوق صهوة فرسيهما المطهمين، وقد بدت طلعتهما رائعة وقسماتهما وسيمة. . . بلحيتيهما السوداوين، وعيونهما السمراء التي ترسل نظرات من نار وتقدح بفتنة لا يمكن تجاهلها. . . ووراءهما تابعان يجران الفرسين، ولم يكن الضيفان سوى عمر بك الحسين، وعبد الرزاق بك عثمان، من أمراء عكار، جاءا ينشدان النزهة والترويح عن النفس

دأب الشابان على تقليب البصر في وجوه القوم، حتى استقرت نظرات عمر بك على جميلة، وثبتت عندها. لم يحس خليل بدبيب الغيرة في بادئ الأمر، ولكن النظرات طالت، فبدأ الدم يصعد إلى رأسه. إن الغريب قد اجترأ على فتاته. . . أليست هذه إهانة للمارونيين جميعاً؟ وأخذ الاهتياج يعذبه، ولكنه كتمه وعاد ينظر إلى جميلة. كانت قد اضطجعت على وسادة ناعمة، في وضع أظهر فتنتها صارخة، وكان شعرها يحتضن كتفيها، وشعاع من الشمس قد انساب من بين الغصون فوقع على خديها وطلاهما بلون الذهب أو الحنطة. ترى هل تم هيئتها عن احتقارها لجرأة الغريب؟ ولكنها تنظر إليه بدورها طائعة، وعيونهما تتقابل. وأحس خليل أن عاصفة تجتاح نفسها وتعكر البحر الصافي في عينيها، حتى لتبدو عليها سمة الفتاة حين تسلم كيانها لانفعال حاد، وخيل إليه أن عاطفتها الناعمة من نحوه قد تبددت، جرفتها العاصفة العاتية التي أثارتها في أعماقها نظرات عمر. ومن ثم أحس الفتى بحلمه يتبدد رويداً رويداً، وبحلقه يجف، فود لو يستغيث، لكنه لم يجد صوته. إن نظراتهما ما تزال متقابلة في غير مبالاة بالجموع الغفيرة التي شغلها الطعام أو شغلتها الغفلة والغباء عن التنبه لما يجري. وأخيراً أفاق العاشق المعذب من غمرة أفكاره على صوت بطرس يسأله وهو يهز كتفه مراراً:(ما بالك يا خليل؟) فأجابه دون وعي: (إنها تنظر إلى الغريب) وضحك بطرس في سخرية، واحمرت

ص: 34

وجنتا الفتاة، لأنها لا شك سمعته!

فرغ القوم من الطعام وبدأت رقصة (الدبكة) بعد حين، فرقص بطرس مع الجموع، ثم نهضت جميلة، فأخلى الكل الحلقة لها ووقفوا حولها يتفرجون في شغف، وراحت هي ترقص وحدها في خفة الطير، وكأنها من فرط رشاقتها لا تلمس الأرض. كان ذراعاها البضتان تدوران في الهواء، واتخذت بشرتها لون أحجار (بعلبك) حين يغرب عليها النهار. وفي كلمة، كانت كآلهة الشباب والجمال والحب، ثم فرغت من رقصتها بعد حين؛ وتقدم خليل ليهنئها؛ فإذا بها منشغلة عنه يتلقى نظرات الأعرابي الجميل. واقترب والدها يرحب بالضيف، وطال بينهما الحديث: امتدح الشيخ فرس عمر، فقال هذا:(عندي أختها وتدعي سلمي. سأحضرها لك إذا شئت) ورحل الفارسان، وعادت الأسرتان إلى القرية

وفي أثناء الطريق سار خليل وجميلة متجاورين، صامتين كأن عتاباً خفياً يلجم لسانيهما، وحين جلس خليل إلى مائدة العشاء - في بيتها - وجد على مقعده غلافا صغيراً فضه في غفلة العيون؛ فإذا فيه خاتم الخطبة وكل ما أهداه إليها من حلي!

تحطم قلبه بغتة، ولكن أحداً لم يلحظ شيئاً، فإن القلوب لا تحدث صوتاً وهي تتحطم. ووجد في نفسه القوة على الكتمان. وفي اليوم التالي لقيها في الحديقة، وجلسا معاً عند النافورة، فكانت جميلة ترمقه بنظرة مشفقة أليمة، ثم تخفض بصرها إلى ذرات الماء المتساقطة من النافورة في الحوض. . . وجرى بينهما عتاب رقيق حزين كنفسيهما. سألها خليل:(إنك لم تعودي تحبينني؟) وكان زائغ النظرات، فغضت من بصرها ثم أجابت بعد حين:(هو ذاك) وعبثاً حاول أن يطرد من قلبها شبح عمر، فإنه كان قد احتله وتحصن فيه. وافترقا على أمل يراود خليلاً، بأنها ستنسى الغريب مع الأيام.

لم يمض يومان حتى عاد عمر ومعه الفرس التي وعد بها أبا جميلة، وأعجب بها الشيخ راشد فسأل صاحبها عن الثمن، ولكن عمر أمهله قائلاً له في لهجة حازمة:(سأحدد لك الثمن. . . في الغد) وعبثاً ناقشه الشيخ فإنه أصر، وإزاء إصراره وتحت ضغط الحرج والشهامة والكرم، دعاه الشيخ إلى قبول ضيافته وقضاء الليلة تحت سقفه. . . فقبل عمر!

ماذا حدث بعد ذلك في ضمير الليل؟ لم يدر أحد. . . حتى أفاق خليل من نومه في الصباح مذعوراً، على صوت بطرس يبلغ إليه النبأ: إن الضيف قد فر، وجميلة قد اختفت. . . هل

ص: 35

فرت معه طائعة، أم خطفها؟ من يدري!

وبعد ساعات كان بطرس وخليل ممتطيين صهوة سلمي فرس عمر، في طريقهما إلى بلدته (عكار). . . وراح قلب العاشق المدنف يناجي طيف محبوبته (جميلة!. . . أين أنت الآن؟ ترى هل يقع بصري عليك بعد اليوم، فأرى عينيك في لون البحر الهادئ تحت أعتاب الجبل، وأرى خديك الناضرين ورقبتك التي في لون العاج، وذراعيك، وشعرك. . . شعرك الجميل. . . إن الطل لا بد قد بلله ليلة أمس، وأنت تحيطين بدن عمر بذراعيك فوق صهوة الفرس وهي تعدو بكما منسابة بين الجبال في الظلام. . . جميلة! جميلة! إنني آتٍ في ظل إثمك أتبعك. . . ألا تسمعيني يا جميلة؟) لكنها لم تسمع، فإن أسوار قصر عمر في (عكار) كانت غليظة وعالية!

وبعد أيام خرجت عكار عن بكرة أبيها إلى الطرقات، وازينت، كي تحتفل بزفاف المارونية التي أسلمت، وكي تراها وهي تعبر شوارع البلدة في هودجها الفاخر يتهادى بها. وبينما كان الركب يخترق أحد الشوارع كان خليل وبطرس واقفين يستعرضانه في صمت وغيظ. وحين مر بهما الهودج وجميلة في داخله تبتسم جذلة، امتدت يد بطرس إلى غدارته، وهم بإطلاقها، لولا أن أقنعه خليل - والدموع في عينيه - بأن يتريث فإنه يريدها حية؟ وارتدت يد الأخ الغاضب لشرفه. ومر الركب بسلام. ومضى التعسان مبتئسين، والحنق يجفف حلقيهما ويضن عليهما بالبكاء

وحين بلغ الموكب القصر، وضم عمر عروسه إلى صدره، كانت ظلال خليل وبطرس قد اختلطت بالظلام الذي يرين على الطريق، حتى إذا كان الغد، عادا أدراجهما إلى قريتهما

ومضت أيام وأسابيع وشهور، والغضب للشرف ما يزال يتأجج في صدريهما وفي صدر الأب الحزين (الشيخ راشد) فإنهم جميعاً لم يكونوا قد طلقوا عزمهم على استعادة جميلة بأي ثمن!

وبعد سبعة شهور من الزفاف، وفي أوائل الربيع، عاد خليل وبطرس ينحدران بين غابات الصنوبر والأرز، في طريقهما إلى (طرابلس)، فقد أتاهما النبأ أن جميلة وعمر قد انتقلا إلى قصر آخر له هناك

ولم يطل بحثهما عن ضالتيهما، فقد اهتديا سريعاً إلى القصر الباذخ، حيث تعيش العاصية،

ص: 36

كافرة بشريعة العشيرة، مؤمنة بشريعة الهوى

وبعد أيام - ومن نفس الطريق - عاد الشابان يصعدان الجبل إلى قريتهما ومعهما في هذه المرة. . . جميلة؛ فقد وفقا إلى اختطافها أخيراً

وفي (بشرى) انعقد مجلس الأسرة لمحاكمتها، واعترفت التعسة بكل شيء: اعترفت بأنها قد فرت من كنف أسرتها مختارة، وطلقت دينها مختارة، وتزوجت من عدو عشيرتها. . . مختارة أيضاً

وصدر حكم الأسرة عليها بالإعدام. ووكل أمر التنفيذ إلى أخيها بطرس.

كم بكى خليل، حين انفرد بالعاصية بعد صدور الحكم، وكم أجهد أعصابه وهو يفتنها عن حبها لعمر، محاولاً إقناعها بأن تشتري حياتها بالزواج منه هو. . . لكنها أبت في إصرار، وراحت تتطلع إلى بعيد وقد رفت نظراتها وبدت كالحالمة وهي تقول بصوت حنون:(إنني أوثر حبي، فأنت لا تعرف حبيبي) ودق الباب، ودخل بطرس - جلادها - فبكى خليل، وإذا بها ترمقه بنظرة أوهنها الإشفاق، ثم تقول وهي تضع يديها على كتفيه:(كن شجاعاً يا خليل. . . فلست بخائفة. . . وهل يعرف الخوف من يعرف الحب؟)

ثم ذهبوا بها وقد انتزعوها منه بعد أن أوصدوا عليه الباب وحين تمكن من اقتحامه، بعد لأي، مضى كالمجنون، يعدو باحثاً عنها. . . حتى وجدها تحت شجرة أرز. . . مذبوحة!

ولم تمض أيام حتى لحق بها زوجها عمر. قتل نفسه على قبرها، بعد أن أوصى بأن يدفن معها في نفس المقبرة. . . المقبرة التي ما تزال قائمة حتى اليوم خارج بلدة طرابلس، والتي ما تزال تظهر على أحجارها أحرف محفورة بخط عربي جميل. . . أحرف اسمي: عمر وجميلة.

حلمي مراد

المحامي

ص: 37