المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 556 - بتاريخ: 28 - 02 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٥٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 556

- بتاريخ: 28 - 02 - 1944

ص: -1

‌15 - دفاع عن البلاغة

7 -

الأسلوب

نعود إلى حديث البلاغة بعد أن صرفتنا عنه صوارف من توزع البال وفتور الطبع واعتلال الجسد. وكانت النية أن نترك بقية هذا الدفاع لينشر بجملته في كتاب؛ ولكن رغبة القراء ما زالت تلح على هذه النية حتى تناولت القلم وأخذت أكتب:

سبق القول في الصفة الأولى من صفات الأسلوب الجامعة الثلاث وهي (الأصالة) وما تضمنته من صفات الدقة والصحة والصدق والطبعية والوضوح. وكلامنا اليوم في الصفة الثانية منها وهي (الوجازة). وإذا كانت الأصالة هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق، فإن الوجازة بإجماع الرأي هي حد البلاغة. وإذا كانت الوجازة أصلاً في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصل وروح وطبع. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك:(قتل الإنسان!)، فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل، وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز، والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة؛ كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات، والاستطراد إلى المناسبات، والميل إلى الشرح ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس. ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب، فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغة كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال؛ وكلاهما حسن في موقعه بليغ في بابه وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه. فإن الإيجاز الذي نعنيه أن يدل اللفظ على المعنى ولا يزيد عليه؛ فإن كان ناقصاً عنه فهو إيجاز التقدير والمساواة. إنما أقصد بذكر الإجمال والتفصيل إلى أن الأسلوب العربي الأصيل موسوم بالوجازة من أصل النشأة؛ لأنه أسلوب أمة صافية الذهن دقيقة الحس سريعة الفهم، تشعر بقوة، وتعبر بقوة، وتفهم بقوة. وقوة الروح والقلب، وقوة

ص: 1

العقل والخلق، تلازمهما قوة اللسان والقلم، أي البلاغة. والبلاغة الإيجاز، والإيجاز امتلاء في اللفظ، وقوة في الحبك، وشدة في التماسك. ولا ترى التميع والتفكك والانتشار إلا حيث ترى الضعف في شيء من أولئك. وملاك الإيجاز غزارة المعاني ووضوحها في الذهن، وطواعية الألفاظ ومرونتها في اللسان. وإنما يكون الغي والثرثرة ومضغ الكلام من جدب القريحة أو قلة العلم أو سقم الذوق أو نبؤ اللغة أو مجافاة الغرض. ومن الكلام المأثور: من ضاق عقله اتسع لسانه. اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين وخطب الأمويين وكتب العباسيين، فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز. أقرأ قوله تعالى في آخرة الطوفان:(وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين)، وقول الرسول (ص) في تقييد الحرية، وهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام:(إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهكلوا)؛ ثم قول زهير في حروب عبس وذبيان:

رعوا ما رعوا منِ ظمئهم ثم أوردوا

غماراً تسيل بالرماح وبالدم

فقضِّوْا منايا بينهم ثم أصدروا

إلى كَلأ مستوبَل متوَخمّ

وقول معاوية لعائشة بنت عثمان وهي تثيره على قتلة أبيها:

(يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد. ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره. وإن نكثنا نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا يكون أم لنا. ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عراض المسلمين) فهل تجد آية البلاغة في هذا الذي قرأت غير الإيجاز وما يصحبه من الجزالة والجلالة والبروز والسبك؟ وهل تجد مصدراً لهذا الإيجاز المطبوع غير القوي المشبوبة في النفوس والعقول والطباع؟ انحدر بعد ذلك رويداً إلى عهود الوهن والانحلال نجد التطويل وتوابعه من اللغو والحشو والسقط يزيد بزيادة الضعف، ويتقدم بتقدم الجهالة، حتى تسقط به على كتب الدواوين وعهود السلاطين فتدهش أن يكون في خلق الله من يملأ مائة صفحة بالفقر والأسجاع ولا يعني بها شيئاً لذلك كان الإسهاب أول ما

ص: 2

يصاب به ناشئة الكتاب، لأن جهدهم القليل يضيق عن شرح الفكرة، فيدورون حولها مجمجمين بالكلم الفوارغ والجمل الجوف. ومن جناية الصحافة على الأسلوب أن أكثر كتابها يؤثرون الكم على الكيف، فيكبرون الصغير، ويطولون القصير، لأن الصحيفة تخرج كل يوم، ولا يجوز أن تخرج بيضاء! وقد كان أحد شيوخ الصحافة يدبج مقالاً في نهرين طويلين كل صباح؛ فإذا نظرت فيه على أن تقرأ سطرين وتترك أربعة بلغت آخره وقد حصلت من ثلثه على ما كان في ثلثيه وكأنك لم تحذف شيئاً! ولعل كثيراً من مزاولي القصص عندنا يفيدهم أن يقرءوا قول ابن الأثير:(جلس إليّ في بعض الأيام جماعة من الإخوان وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئاً. فقال شخص منهم: إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبني فلان، وأخذنا نلعب على السطح فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون، فوطئه بغل من بغال الطاحون، فخفنا أن يكون أذاه؛ فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطئه البغل، فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها. فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عيّ فاحش وتطويل كثير لا حاجة إليه، فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون؛ فوقع صبي منكم إلى أرضها، فوطئه بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه. ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه. ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها. وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان، فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه)

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌لقد هان هذا الخطب!

للكاتب المجهول

لقد هان هذا الخطب، وما كنت أنتظر أن يهون، ولكن الدنيا بصروفها الغرائب تهون الخطوب، وكان من شيمتها أن تجسم الخطوب!

هان خطب القطيعة، هان ثم هان، واستشعرت روح الخلاص، وكنت أبغض الخلاص، فيا عجباً لزمن يجعل بعدي عنكم شهوة يطمح إليها فؤادي!

ما بكيت على نفسي حين ودعتكم، وإنما بكيت عليكم، بكيت على دولة الحسن التي ذهبت إلى غير معاد، وبكيت على اللطف الذي حرمتموه كما تحرم الزهرة من العطر بعد الذبول

ما تمثلت أيامكم إلا تعجبت مما تصنع الدنيا بأهلها، فما كانت لكم نظائر في الحسن وللطف، ولا كانت لكم أشباه في سماحة النفس وصفاء الروح

وبكيت أيضاً على نفسي، فهذا ملك ضاع من يدي، ملك أضاعه الدهر الغادر الذي لا يبقى على شيء، والذي يستمد سطوته من قدرته على إدالة دولة اللطف والجمال

حرمت بقطيعتكم آخر أمل يرجوه من يقف على المقابر ليؤدي التحية إلى أموات يحسبهم أحياء يتلقون تسليمات الأحياء

المقابر تسمع ولا تجيب، وأنتم تجيبون ولا تسمعون بدليل أنكم تخطئون في الجواب

لو أنني كنت البادي بهذا الحب لرأيت لكم عذراً في الصدوف عني، فما يتصدق الأغنياء على الشعراء في كل وقت، وإنما كنتم البادئين وهذا فضل لن أنساه إلى آخر الزمان، فكيف تهدمون ما بنيتم، وكان غاية في متانة البناء؟

هل تعود ليالينا؟ تعود؟

لن تعود ليالي معكم يا غادرين، لأنكم لم تعودوا صالحين لإدراك ما يشتجر في قلبي، ولأن هواكم قد مات، وما كنت أحسب أنه مما يجوز عليه الموت، وقد كذبت على نفسي حين توهمت أن الهوى لا يموت

وأنا مع هذا فرح جذلان، لأني واثق بأنكم لا تعانون من آصار القطيعة بعض الذي أعاني، ومن هواي أن تكونوا في عافية من ثورة الوجدان، لتعيشوا في سلام

هل كان حبنا مزاحاً جد به الزمن فانهزم؟

ص: 4

أنا كنت أجد، وما خطر في بالي أنكم كنتم هازلين، وجد الهوى جد، وهزله جده لو كنتم تعقلون

هل كنت حين أناجيكم أناجي وثناً بلا روح؟

لو ناجيت الصخر لأنطقته بألطف المعاني، فكيف عجزت عن رياضتكم على الوفاء؟

ما أشد حزني على ما ضيعت من ليالي وأيامي!

لم نكن نعرف ما النهار وما الليل

أيام لا أدري وإن سألتِ

ما الفرقُ بين جُمعة وسبْت

ولم نكن نعرف أن للدنيا غدرات ينبو فيها جنب عن جنب وقلب عن قلب، فترحلون عن مصر الجديدة إلى حلوان، وهي بهجركم أبعد من أسوان

لو كنت أعرف أن فيكم خيراً لجعلت داركم داري ولو سكنتم في مقبرة تشرف على عالم الفناء، ولكن القدر أراد ما أراد فانتزع حبكم من فؤادي، فأنا اليوم بلا حب وبلا فؤاد

أن إقامة صرح فوق أثباج البحر أبقى وأثبت من الحب الذي أقمته فوق روحكم، والروح من الروح وهو النسيم وليس للنسيم ثبات

انقضى عهد الحب، انقضى بالرغم مني، فما فارقتكم إلا بعد أن صح عندي أن هواكم لم يكن إلا أسطورة لفقها الخيال

أينتهي غرامنا بمثل هذه النهاية فلا أسأل عنكم ولا تسألوا عني؟

وهل كان البهاء زهير ملهماً حين عبر عما أريد فقال:

ملكتموني رخيصاً

فانحطّ قدري لديكم

فأغلق الله باباً

دخلت منه إليكم

حتى ولا كيف أنتم

ولا السلام عليكم

لن نتصافح إذا التقينا مصادفة في شارع فؤاد، فالمصافحة من الصفح، ولن أصفح عنكم أبداً، ولو ضمنتم أن تعود معكم أيامي السوالف وليالي الخوالي

أنا فرح بما صرتم إليه، فقد أنجاكم الله مما ابتلاني

ولكني حزين مما صرتم إليه، فلن تعانوا اشتجار العواطف بعد فراقي، واشتجار العواطف هو أثمن ما تتغذى به القلوب

ص: 5

وإني لأشكر لكم صنيعكم، فقد رحمتموني من هاوية كنت سأتردى فيها إن طال حبي لكم، وكان ثورة وجدانية تزلزل أقطار السماء

انتهينا من العتاب، أليس الأمر كذلك؟

وانتهينا من ليالي مصر الجديدة وليالي حلوان، وانتهينا من الظهريات الجميلة بحديقة الشاي في حدائق الحيوان. . . هل تذكرون يا غادرين؟

وانتهينا من جمع كسارات الكأس المصدوع، في تلك الليلة، وهي ليلة لن تعود، ويا ليتها تعود، فلو صرتم رمة بالية لرجوت أن أستروح منكم روح العطر النفيس

لا تسألوا عني بعد اليوم، فقد تبت توبة نهائية عن الغرام بالتماثيل، وهي أبدان بلا أرواح

أنا أحسنت الظن بمن لم يكونوا لحسن الظن بأهل، فلتعاقبني المقادير بما تشاء، وعدل من الله كل ما صنع، كما قال أستاذنا العباس بن الأحنف، عليه رحمة الحب!

كانت غايتكم أن تستأثروا بقلبي، وقد حاولت النجاة بقلبي فلم أفلح، ثم كانت العاقبة أن نصير إلى ما صرنا إليه، وما أفظع ما صرنا إليه!

الغدر مسخكم فأحالكم صورة ميتة برقشتها ريشة رسام جهول

هل تذكرون تأريخ العيون الكحيلة، وكانت أجمل ما رأت العيون؟

استفتوا المرآة، ثم حاسبوا ضمائركم، إن كانت لكم ضمائر، لتعرفوا أن سواد عيونكم لم يكن إلا منحة خلعها عليكم سواد قلبي، وهو قلب يمنح الرهبة والسحر لسواد الليالي وسواد الخيلان.

وقد استرددت تلك المنحة بعد أن أيقنت أني خلعتها على من يكفر بالجميل، ولست أغنى من الله وهو مع غناه عن الثناء يؤدب من يتعم عليهم فيطالبهم بالثناء

تخطروا إن شئتم في شارع فؤاد، وانظروا هل تلتفت إليكم عين أو يخفق لكم قلب؟

أنا أبدعتكم إبداعاً لا نظير له ولا مثيل، وغاب عنكم جميلي فجحدتم جميلي، وغضبة الله والحب على من يجحد الجميل.

لن أبكي عليكم، ولكني سأبكي على أخلاقي، وهي جديرة بالبكاء.

كنت أعتقد أني من رجال الأخلاق، ثم ظهر أن في صدري غريزة وحشية تشتهي الاقتتال والافتراس، وإلا فما الذي يمنع من أن أنتصر على كبريائي فأسعى إلى داركم لأسأل عنكم

ص: 6

ولأخلع عليكم بياض الوجوه وسواد العيون؟

كنت أبدع البشاشة في أرواح الملاح ثم صرت المنتقم الفاتك بأرواح الملاح، فما أفظع جرمي، وما أسوأ صنيعي!

سأقتحم داركم بعد أيام أو أسابيع، فما أدري متى أنتصر على كبريائي

انتظروني، انتظروني، لتعرفوا أن خطب الفراق لم يهن ولن يهون

سأصافحكم بيدي، ألم أحدثكم أن المصافحة مشتقة من الصفح؟

غفرت ذنوبكم، غفرت، ثم غفرت، وأنا أول من يغفر ذنوب الجمال

عربد الحسن بكم فأسأتموني، والحسن عربيد، ومن واجبي أن أغفر ذنوب العرابيد

كان لي منكم تاريخ هو أجمل التواريخ، وكان رزقاً ساقه الله إلي، والله حين يتفضل يمنح بلا حساب

أنا لا أعرف متى نتصافح، لأن هذا لن يكون إلا بعد أن أتنازل عن كبريائي، وهذا أمل بعيد المنال

سلام عليكم يا أحباباً وفوا ثم خانوا

أنا أعبد الجمال، على شرط أن يعرف الجمال حقوق الوفاء

لن أزور داركم أبداً، ولن أراكم ولن تروني، فقد حل عليكم غضبي وغضب العاشق الصادق نقمة تنزل من السماء

شرقوا وغربوا في طلب المستحيل، فصفحي عنكم هو المستحيل

سأبدع بدائع جديدة، وسأخلق في دنيا الحب ما لا تعلمون، فتناسوا عهدي، لتعيشوا في أمان، من جزع الوجدان

لن تستطيعوا الفرار من انتقامي، ولن تتخطروا بعد اليوم في شارع فؤاد، ولن تكونوا نهبة لأعين الحاسدين، وألسن العاذلين، ومن حق من يخلق أن يميت

سلام على الهوى وسلام عليه، وألف سلام

أنتم تمردتم على سجن الحب، فتمتعوا بالحرية التي اشتهيتموها جاهلين بالعواقب، فما يتمرد على سجن الحب غير الصائرين إلى الفناء. . .

كانت كملتكم في ساعة التمرد:

ص: 7

وهذا صحيح، فقد كان من حق الهوى أن أتصرف تصرف المالك بالمملوك

لا تظنوا أنكم خرجتم من يدي، ولا يخطر لكم في بال أني سأترك واجبي في دفن حسنكم الذاهب إلى غيابات الفناء

هان خطبكم، ثم هان، وما كنت أحسب أنه سيهون، ألم أقل إن الدنيا تصنع الغرائب؟

أنا واثق بأنكم سترجعون إلى قبل أن أرجع إليكم الشعر عندي والجمال عندكم، والشعر أفتن من الجمال

أما بعد فمن أنتم؟

أنا أعرفكم بأكثر مما تعرفون أنفسكم، فقد كنتم الغاية لما تشتهي الأرواح والقلوب، وما اشتهت عيناي أفضل مما اشتهيت منكم، يا نهاية النهايات في سحر العيون

أنا بنيتكم بيدي، ولن أهدمكم بيدي، والباني لا يكون من الهدامين

سلام عليكم، فما ألقاكم إلا إن تنازلت عن كبريائي

احرسيني يا ليلى، احرسيني، قبل أن أقول:(عليك مني السلام)

(الكاتب المجهول)

ص: 8

‌التعارف بين الأدباء

للأستاذ دريني خشبة

منذ شهرين تقريباً نشرت الرسالة لصديقنا السوري الأديب الكريم الأستاذ صلاح الدين المنجد دعوة قصيرة ينادي فيها بوجوب تعارف الأدباء فيما بينهم وتكوين رابطة أدبية تنتظم صفوفهم. . . ورأى الأستاذ أن يعقد مؤتمر يدعى إليه أدباء الأقطار العربية كلها، في القاهرة أو دمشق أو بغداد، ليعرف الأدباء بعضهم بعضاً، ويتحادثوا فيما ينقصنا وما يشوه أدبنا وما نحن بحاجة إليه. ولما زار الأستاذ الصديق مصر في الشهر كان فرحنا به يعدل فرحنا بسوريا كلها، وقد تذاكرنا دعوته التي دعا إليها ووعدناه بالكتابة فيها، لأنها تؤيد دعوتنا إلى إصلاح الأدب العربي وتجديده

ومنذ شهر تقريباً دعانا صديقنا السوري الأديب الأستاذ حبيب زحلاوي للاحتفاء بالزوجين الكريمين السوريين الأستاذ زكي المحاسني والسيدة الأدبية وداد سكاكيني وذلك بالنادي الشرقي

ومنذ أيام قليلة قرأت دعوة يقوم بها أربعة من كرام الأدباء المصريين إلى إخوانهم الكتاب والأدباء والشعراء للاجتماع بمكان عينوه لدرس حالة الأدباء المصريين وتكوين هيئة تسهر على صوالحهم وتعمل على تقوية أواصر الصداقة بينهم

ومنذ أسابيع طويلة والأستاذ الصديق الدكتور زكي مبارك يناوش إخواننا الأعزاء المحبوبين أدباء لبنان لأنهم على ما يذكر الأستاذ يحاولون جادين نزع الزعامة الأدبية التي تدعيها مصر بين الأمم العربية من أيدي الأدباء المصريين. . . وقد كتب الدكتور زكي مبارك مقالات طويلة في هذا الموضوع في صحيفة المصري الغراء

ومنذ أسابيع قليلة حاضر الدكتور طه حسين في الروابط الثقافية بين الأمم العربية وكان صوته أول صوت ارتفع في العالم العربي بوجوب ربط أسباب المشرق العربي بالمغرب العربي، فهاج في القلوب العربية كلها أشجاناً وأحزاناً وذكريات عزيزة مؤلمة

ومنذ علم أو أكثر ونحن نردد فيما بيننا شكوى الأدباء جميعاً من تفكك العلاقات بينهم، بل انعدامها تقريباً مما يجعلهم متدابرين متنافرين، بل مما يجعل جهودهم وثمار قرائحهم نهباً لدور النشر ومستغلي ضعف الأدباء وعجزهم اللذين هما نتيجة هذا التفكك في علاقاتهم

ص: 9

وانعدامها

ولعل أعجب ما حدث في كل ما قدمنا هو ما حدث في دعوة صديقنا السوري المحبوب الأستاذ حبيب زحلاوي بالنادي الشرقي. . . فقد دعانا بالتلفون، ولم يكن أحدنا قد رأى صديقه الآخر قبل هذه الدعوة. فلما توجهنا إلى النادي، وشهدنا الحفل مجموع الشمل قصدنا إليه، وقد عرفناه لوجود ثلاثة أو نحوهم من إخواننا ممن حدسنا أنهم مدعوون مثلنا للتعرف إلى الضيفين الكريمين والاحتفاء بهما. . . وقد عجبت لأن الأديب صاحب الدعوة لم يلقني. . . وظننت أنه ربما كان متغيباً في تلك اللحظة لأمر ما. . . ثم دار الحديث عن الأدب، واستطاع الأستاذ الجليل توحيد السلحدار أن يستدرج الأستاذ نقولا حداد ليحدثنا عن النسبية. . . واستطعت أنا أن أدس أنفي في الحديث مما دعا أحد إخواني إلى النطق باسمي عالياً. فماذا حدث؟ وقف الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن ليصافحني باشا. . . وليته ما فعل! فقد كشف عن عيب من أشنع عيوب الأدباء المصريين، هو عدم معرفة بعضهم بعضاً، وعدم عنايتهم بمحاولة إيجاد هذه المعرفة وخلقها خلقاً. . . ثم ماذا؟ ثم نهض صديقي صاحب الدعوة الأستاذ حبيب ليضحك هو الآخر ويصافحني، ثم يقول إنه سأل عني الأستاذ محمود تيمور وكان جالساً إلى جانبه، فلم يعرفني، وقال له: ألم تدعه؟ فقال الأستاذ حبيب: كلا. . . وقد ذكرني كلامه هذا، ثم ضحكه بالمأسوف عليه خالد الذكر السيد أشعب؟ على أنني عجبت كيف يكون الضيف الكريم الأستاذ المحاسني أسرع منا جميعاً بادرة وأدق ملاحظة. . . فقد عرفت أنه هو لجلوسه إلى جانب السيدة وداد فصافحتهما مرحباً بهما، وذلك عند قدومي، فما راعني إلا أن أسمع الأستاذ يقول للسيدة الأديبة. . . هذا فلان. . . ويذكر اسمي كاملاً في صوت ربما لم يسمعه بعد السيدة أحد غيري، وقد استمطرت رحمة الله على المعيدي في تلك اللحظة الحرجة! ثم جعلت أتهم نفسي لانطوائها الذي بالغت فيه عن المحافل الأدبية وعدم محاولتي أن أعقد من الصداقات الأدبية ما لا غنى لمثلي - ولا مؤاخذة! - عن مثله! ويظهر أنني عنفت على نفسي في اللوم حتى أخذ العرق يتفصد من جميع جسمي بالرغم من برودة الليل. . . على أن الأمر لم يدم طويلا. . . إذ خفف عني ما اكتشفته بعد ذلك من أنني أكثر الحاضرين (معارف) بعد الأستاذ صاحب الدعوة. . . فلم يكن أحد منهم يعرف من الموجودين أكثر ممن كنت أعرف. . . وقد

ص: 10

ضحك الأستاذ المحاسني لذلك أشد الضحك وتعجب لحالنا وأنذر ليتحدثن به إلى أدباء الشام جميعاً. . . والحق أنه لشيء يتحدث به ويتندر، إذ كيف تجمع القاهرة ثمانية أعشار الأدباء المصريين ثم لا تجمعهم جامعة، ولا تربط بينهم رابطة، ولا يعرف الواحد منهم ثلاثة أو خمسة من عشرات بل من مئات ومئات؟!

ولقد أضحكتنا هذه الظاهرة، أو تلك البادرة، ضحكا طويلا. فهذا هو الأستاذ الزيات لا يعرف الأستاذ خليل ثابت إلا حين يلقاه فجأة في مناسبة من المناسبات. وهذا هو الأستاذ عبد الرحمن صدقي يكتب في مجلة الهلال ثلاث سنوات أو أربع سنوات ثم لا يعرفه الأستاذ إميل زيدان بعد هذه المدة الطويلة إلا حين يقدمه إليه أحد أصدقاء الطرفين في إحدى المناسبات أيضاً. . . وهكذا. . . وهكذا. . .

وأحسب القراء يذكرون ما حدثتهم به من التقائي فجأة بالأستاذ الحكيم في الرسالة، وما انتهى إليه هذا اللقاء من صداقة كريمة. وقد سألني الأستاذ الحكيم مداعباً بعد فراغي من الكتابة عن الشاعر الكريم علي محمود طه. . . فضحكت. . . ثم أخبرته في بساطة تامة أنني لم أره في حياتي مطلقاً؟! هذا مع العلم بأن بين مجلس النواب وبين وزارة المعارف دقيقة واحدة! ولا شك في أننا كلينا مقصران!

أما ما يناوش به الدكتور زكي مبارك إخواننا أدباء لبنان فهو موضع العجب. . . لحدوثه في الوقت الذي نبتهل إلى الله فيه أن ينجح الدعوة إلى الوحدة العربية، لأن في هذه الوحدة عزة الأدباء العرب أجمعين، ونحن إلى التعارف والتقارب أحوج منا إلى التنابذ والتباعد. أما الزعامة الأدبية فليس سبيلها أن يدعيها الأدباء اللبنانيون فتكون لهم أو أدباء اليمن فتكون ملك أيمانهم. . . بل سبيلها الإنتاج الأدبي وقيمة هذا الإنتاج وأثره في شعوب الوحدة العربية، ولهذا كان خليقاً بأدباء لبنان ألا يشاكسوا الدكتور زكي مبارك، كما كان خليقاً بالدكتور زكي مبارك ألا يناوش أدباء لبنان. . . لأننا نعز اللبنانيين جميعاً، لا أدباءهم فقط، كما نعز أنفسنا

وإذا كان التعارف بين الأدباء في داخل مصر واجباً، فهو أوجب بين الأدباء المصريين وأدباء الشرق العربي، ثم بيننا وبين أدباء أفريقيا الشمالية، ويجب أن يتحقق أمل الأستاذ الصديق صلاح الدين المنجد في عقد مؤتمر أدبي عربي في القريب العاجل إن شاء الله

ص: 11

أما دعوة هذا النفر من الأدباء المصريين للاجتماع بالمكان الذي عينوه، والزمان الذي حددوه، فهو ما ندعو له بالنجح والتوفيق. ونصيحتنا إلى المتشائمين أن يخففوا من تشاؤمهم، وأن يجعلوا الصفاء والأخوة الكريمة السمحة ديدنهم، وأن يطهروا قلوبهم من السخائم الأدبية الفارغة، فاعتصامهم بحبل الله وحبل المودة فيه حياتهم وبأسهم ومستقبلهم الذي ينبغي أن يفكروا فيه من الآن حتى تضع الحرب أوزارها. . . وقد آن أن يتحرك الأدباء فيلموا شملهم بعد أن ملأت القاهرة النقابات، من كل صنف ومن كل نوع، ولا ضير عليهم أن يكونوا آخر من يفكر في ذلك، حتى لو لم يربحوا إلا التعارف بينهم

ولعل أظرف ما نختم به تلك الكلمة هو ما يبديه بعض إخواننا الأدباء من التخوف من نجاح هذه الحركة. . . فهو يخشى إن يمت أن يكثر (معارفه) منهم كثرة كبيرة، ومنهم الأدباء المنتجون الذين يخرجون كل شهر أو شهرين كتاباً، فإذا تم التعارف صحبه الإهداء. . . ويكون مضطراً حينذاك إلى القراءة التي تفرض عليه بهذه الوسيلة فرضاً. . . حتى لا يغضب أحداً إذا سأله عن رأيه في كتابه الأخير مثلاً. . . وقد يكون هذا الأديب المتحرج مشغولاً بقراءة أخرى أهم مما تفرضه عليه الصداقات الجديدة قراءته. . . فماذا يصنع. . . وقد تكون الكتب المطلوب إليه قراءتها سخيفة. . . فما العمل؟! ولا أستطيع أن أقرر إلا أن هذه الملاحظة دعابة لطيفة، وأخشى أن تكون. . . تافهة. . . ولا يسخط هذا التعبير صديقي العزيز. . . الذي أهدى إلى كتابه الأخير، ولن أعفيه من الكتابة عنه.

دريني خشبة

ص: 12

‌إيوان كسرى بين شاعرين

للأستاذ حسن الأمين

- 1 -

وقف البحتري على إيوان كسرى وقفة طويلة جالت فيها عيناه في جوانب الإيوان وتطلعت إلى صوره ونقوشه، وترامت في جوانبه وأركانه، فأدهشته فخامة البنيان وروعة الفن وجلالة الصنعة فاستوحى خياله واستنطق شاعريته فجاءنا بقصيدته السنية الخالدة التي اشتهرت كل الاشتهار

وكما وقف البحتري على الإيوان وقف عليه بعد البحتري شاعر شهير، فأرسل بطرفه إلى سوامقه الشاهقة. وتلفت إلى بقاياه الهائلة، فهاجت شاعريته، وفاضت قريحته. فرفد الأدب العربي بقصيدة عضماء لم يكتب لها من الشهرة ما كتب لقصيدة البحتري؛ فظلت في ديوان الشاعر مغمورة بين قصائده الكثيرة قل أن يذكرها ذاكر أو يشير إليها مشير. وهكذا تواتي الحظوظ شعراً فيحلق في الأجواء، وينتشر في الآفاق، وتعاكس شعراً فينزوي بين طيات الأوراق، لا يرفع رأساً، ولا يسمع همساً فيضيع أي ضياع!

هذا الشاعر الذي عنيته هو الشريف الرضي، فقد تقاذفته النوى حتى حطت به على إيوان كسرى فنظم قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي، ولكنها ظلت مهملة، فلم نجد بين كتاب العربية ونقادها من أولاها عناية، أو أشار إليها إشارة، مع ما فيها من الإحساس العميق والشعور السامي الذي يرفع صاحبها إلى أسمى المراتب بين شعراء الأمجاد العربية.

وقف الشاعران على الإيوان وتطلع كل منهما إليه بعينين تختلفان عن عيني الآخر، وأثار الإيوان في نفس أحد الشاعرين غير ما أثار في نفس الشاعر الآخر؛ فجاءت قصيدتاهما متباينتي الروح والعاطفة والغاية

فالبحتري كان في وقوفه على الإيوان شاعراً فحسب، لم يهج فيه الإيوان إلا عاطفة الشعر. فوصف ما شاهد وصف الشاعر المجيد الفنان فأبدع في الوصف ما شاء الإبداع، وأوحى له خلو الإيوان من بناته، وانقراض حماته عاطفة الأسى العميق فقال:

أتسلي عن الحظوظ وآسي

لمحل من آل ساسان درْس

ذكرتنيهم الخطوب التوالي

ولقد تذكر الخطوب وتنسى

ص: 13

وهُم خافضون في ظل عال

مشرف يحسر العيون ويخسى

مغلق بابهَ على جبل القب - ق إلى دارتي خلاط ومكس

فهو في هذه الأبيات متدكر معبر يتأسى عن الجدود العاثرة بالطلول الداثرة، فيذكر آل ساسان وحياتهم الهنيئة في ظل الإيوان، وعيشتهم الرغيدة في أبهائه، وما كان لهم فيه من سلطان أي سلطان. ثم هو يقارن بين هذه الأطلال الساسانية الضخمة وبين الأطلال البدوية التي شغلت شعراء الجاهلية فوقفوا عليها وبكوها وفاض شعرهم بالتغني بها وترديد ذكرها، فكأنما يريد أن يقول إن مثل هذه الأطلال هي التي يجب أن تشغل الشاعر فيعوج عليها ويستنطقها أخبار الظاعنين لا أطلال القفار البسابس التي لم يكن لها أن تشغل الشعراء ذلك الإشعال:

حُلل لم تكن كأطلال سعدي

في قفار من البسابس ملس

ثم يندفع الشاعر بصف خلو الدار وإقفارها حتى كأنها أرماس أو مآتم بعد أعراس. ثم يشير إلى ما تدل عليه هذه الآثار من عجائب مشيديها وإبداع موجديها، ثم يسهب في وصف ما فيها من النقوش والصور الماثلة، مجيداً في كل ذلك كل الإجادة:

وهو ينبيك عن عجائب قوم

لا يشاب البيان منهم بلبس

فإذا ما رأيت صورة أنطا

كية ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنوشر

وان يزجي الصفوف تحت الدرفْس

في اخضرار من اللباس على أص

فر يختال في صبيغة ورس

وعراك الرجالِ بين يديه

في خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوى بعامل رمح

ومُليح من السنان بترس

وفي هذه الأبيات نستدل على ما كان عليه الإيوان من فن رائع تتحلى فيه صور المعارك الحربية بين الروم والفرس وصور ملوك بألبستهم الزاهية يقودون جيوشهم المنتصرة، وصور المتقاتلين هذا يهوى برمحه وذاك يتقى بترسه إلى غير ذلك من المشاهد المتنوعة

ويبلغ إعجاب البحتري بهذه الصور والنقوش أقصي حدوده حتى ليحسبها أشخاصاً حية، وحتى أنه ليمعن في هذا الحسبان فيغالط نفسه فيتقدم إليها ويلمسها ليتأكد من خمود الحياة فيها:

ص: 14

نصف العين أنهم جد أحيا

ء لهم بينهم إشارة خرس

يغتلى فيهم ارتيابي حتى

تنقراهم يداي بلمس

ثم يمضي البحتري على هذا النسق في الوصف والشعور والتوجع في تسعة أبيات ينتقل بعدها إلى ما أصاب الإيوان من كوارث وأرزاء ثم لا ينسى أن يعزيه عما نزل به مشيراً إلى أن ذلك لا يعيب عظمته الخالدة ما دام لا يزال مشمخراً عالي الشرفات:

عكست حظه الليالي وبا

ت المشتري فيه وهو كوكب نحس

فهو يبدي تجلداً وعليه

كلكل من كلا كل الدهر مرسى

لم يعبه أن يُزَّمن بسط الديبا

ج واستل من ستور الدمقس

مشمخر تعلو له شرفات

رفعت في رؤوس رضوى وقدس

لابسات من البياض فما تب

صر منها إلا غلائل برس

وبعد ذلك يظهر البحتري دهشته فيسائل نفسه أيستطيع الإنسان أن يبدع هذا الإبداع أم هي بدائع الجن للإنس:

ليس يدري أصنع إنس لجن

سكنوه أم صنع جن لإنس

ومهما يكن من أمر فهو يؤمن أن الباني لم يكن ملكاً خاملاً ولا إنساناً حقيراً بل هو بانِ كانت تغص نواديه بالوافدين، وتعج مقاصيره بالقيان والمغنين، وهو من هؤلاء الملوك الذين سادوا الزمن فعنا لهم وانقاد إليهم فعاشوا حياة كلها رغد وهناء

فكأني أرى المراتب والقو

م إذا ما بلغت آخر حسي

وكأن الوفود ضاحين حسرى

من وقوف خلف الرخام وجَلس

وكأن القيان وسط المقاص

ير يرجحن بين حُوّ ولعس

وكأن اللقاء أول من أم

س ووشك الفراق أول أمس

وبعد كل هذا يبرز البحتري شاعراً لا يهمه من كل ما رأى إلا أنه مظهر حي يهز النفوس الشاعرة الحساسة فتبكي العز الزائل والملك الهاوي وتشيد بذكر الأمجاد أيا كانوا:

عمرت للسرور دهراً فصارت

للتعزي رباعهم والتأسي

فلها أن أعنيها بدموع

موقفات على الصبابة حبس

ذاك عندي وليست الدار داري

باقتراب منها ولا الجنس جنسي

ص: 15

ثم يعقب على ذلك ببيته الختامي الذي يظهر فيه مذهبه الشعري الإنساني:

وأراني من بعد أكلف بالأش

راف طراً من كل سنخ وجنس

- 2 -

يستهل الشريف الرضي قصيدته استهلالاً فروسياً جميلاً تتجلى فيه روحه الوثابة وتبرز سجاياه الشماء، بل تبدو إحساساته المكبوتة وعواطفه المقهورة. فالرضى فتى ملء بروده الرجولة التواقة إلى العلياء، الطماحة إلى المجد، وقد اجتمع له من كريم نسبه ونبل خلاله وسمو مكانته ما جعله يأنف حياة الدعة والخمول وعيش الصغار والهوان. وتحكم في عصره بالناس من هم دونه كفاية وشهامة وحسباً ونسباً فحاول أن يشق طريقه فأقعده الزمن وردته ظروفه فظل مهضوماً مغبظاً يفرج كرباته بالشعر:

قربوهن ليبعدن الخِفارا

ويبدلْن بدار الهون دارا

واصطفوهن لينتجن العلى

بالعوالي لا لينتجن المهارا

إنه ليترنم بالخيل ويهتف بإسمها ويصيح برهطه ليقربوها إليه!. . . وماذا في الخيل؟. . . إن فيها مظاهر القوة والعظمة، مظاهر النضال والكفاح، مظاهر الفروسية الباسلة. والشريف يرى نفسه رجل الخيل المغيرات وقد حيل بينه وبين أعنتها فهو يزفر من أعماق صدره هذه الزفرة الحماسية جامعاً فيها ما يتأكل نفسه من الحرمان المرير، ومضمناً لها ما يجول في خاطره من التوثب إلى معالي الأمور، فهو وقد وقف على إيوان كسرى لا يتغزل بالحسان الساحرات، ولا يستبكي للأطلال الداثرات، بل يفتتح قصيدته بدعوة الخيل لا للتسلي بأعنتها، ولا للتلهي بصهواتها، بل للغارات البعيدة، ولتبدل له بدار الهوان التي تأويه دار العز التي يطمح لها. فهو يرى أنه إنما يحيا في دار الذل ومنزل الضيم بالرغم مما كان يحاط به من تكريم وإعظام.

وتراه في البيت الثاني يعلن زهده في المادة فهو لا يريد الخيل لتنتج له العلا

وبعد أن يمضي الرضي في واحد وعشرين بيتاً يضمنها نوازعه وخواطره يصل بنا إلى ذكر الإيوان فيخبرنا أنه نزل فيه داراً لم تكن دار ذل، وأن بناته كانوا ذوي مجد رفيع استقلوا فيه عن الناس وشغلوه عن أن نعار لغيرهم:

قدَ نزلنا دار كسرى بعده

أربُعاً ما كن للذل طوارا

ص: 16

أسفرت أعطانها عن معشر

شغلوا المجد بهم عن أن يعارا

تصف الدار لنا قطانها

المعالي والمساعي والنجارا

وهنا يتجلى إنصافه واعترافه بالحق؛ فهو بالرغم من مزعته القومية المتحمسة لا يبخس الناس أشيائهم ولا يغض من ذوي المواهب، بل يتكلم عن الناس بما كانوا عليه؛ فقد وصفت الدار له قطانها، فهي باذخة البناء رحيبة الفناء، وهي محكمة الصنعة متقنة العمل، وهي في كل ذلك ناطقة بفضل من أبدعوها وحلوها تخبر عنهم بلسان فصيح ولغة واضحة

ثم نراه يلم بما أصاب هؤلاء القطان من نزول عن مجدهم واضمحلال لأمرهم، فهو يرى أن الدهر استرد منهم ما أعارهم ليعيره إلى غيرهم فكأنما نعم الحياة عاريات يجود بهما الدهر على ناس، ثم يبدو له فيستردها ليجود بها على آخرين وهكذا تتداول الأمم المجد فيما بينها:

آل ساسان حدا الخطب بهم

واسترد الدهر منهم ما أعارا

بعد ما شادوا البُنى ترفعها

عَمَد المجد قباباً ومنارا

كل ملموم القرى صعب الذرى

يزلق العقبان عنه والنشارا

ثم ينتقل إلى وصف الإيوان كما رآه في عهده ولكنه لا يصف لنا صوره ونقوشه ولا يتحدث عن عجائب صنعه وبدائع فنه، بل إن ذلك لا يشعل ذهنه ولا يثير اهتمامه فلا يسترسل كالبحتري في وصف دقائقه، بل يعطينا صورة إجمالية عنه تملأ النفس رهبة ووحشة:

حمل الدهر إلى أن رده

ضاغط العبء ضلوعاً وفقارا

مطرقاً إطراق مأمون الشذا

غمر النادي حلماً ووقارا

أو مليك وقع الدهر به

فأماط الطوق عنه والسوارا

أوهنت منه الليالي فترة

لا يلاقى وهنها اليوم جبارا

إذ لم يكن يهم الرضي أن يستوفي وصف الإيوان، فنحن لا نستطيع أن نتعرف من قصيدته إلى حال الإيوان يوم ذاك ولا إلى ما كان لا يزال مائلاً من زخارفه؛ فكأنه لا يعنيه أن يسهب في ذلك، بل يريد أن يستخرج العبرة من موقفه هذا، فيتحدث عن حملة الدهر على الإيوان حتى تركه (ضاغط العبء ضلوعاً وفقاراً)

ص: 17

ثم يصوره تصويراً فنياً رائعاً فيتخيله مطرقاً إطراق من كانت له صولة فزالت، وأمن الناس نفعه وضره، فهو مطأطئ الهامة أسفاً على ماضيه وتفكراً بحاضره، ولكن هذا الإطراق المحزن لا يذهب بوقاره وحلمه فهو - على شجاه - يملأ النادي حلماً ووقاراً. وهو على ما نزل به لا يزال محتفظاً بجلاله وهيبته، ثم يشبهه بملك وقع الدهر به وحلت كوارثه في ساحته فسلبته ملكه وأماطت عنه تاجه وذهبت بطوقه وسواره؛ فهو لا يزال كما كان رجلاً كامل الهيبة، ولكنه عاطل من حلل الملك وحليه، وكذلك الإيوان، فهو لا يزال قصراً شامخاً، ولكنه خال من كل ما كان له من شأن

وهذه الأبيات هي كل ما يظفر به الإيوان من الشريف الرضي من الوصف، ثم ينتقل بعدها إلى ما يريده من أغراض قومية، فيسائل أين معالي الإيوان الجمة وأين حماه الأفيح وأين رجاله الذين غلبوا الناس:

أين لا أين المعالي جمة

والحمى أفيح والرأي مغارا

ورجال شدخت أوضاحهم

غلبوا الأعناق مَناً وإسارا

فيجيب عن ذلك بجواب تتجلى فيه نزعته القومية، وروحه الإسلامية واضحة جلية:

عمروا لم يعلموا أن لنا

جائز الأمر عليهم والإمارا

ثم هو يشير إلى ما كانت عليه الأمم المجاورة للعرب من النظر إليهم نظر الاستهانة وقلة الاكتراث غير عالمة بما وراء هذا الهمود من الاندفاع العجيب، ولا حاسبة بأن تلك الأمة الممزقة الرأي المقطعة الأوصال ستهب هبة تدهش الدنيا:

قدروا جَد تزار واقفاً

ومشى الجد فما عزوا نزارا

ثم يصف الوثبة العربية العظيمة وما رافقها من بطولات وتضحيات وكيف أذهلت الناس فعنوا لها مستسلمين

لاوَذوا لما رأوا من دونهم

وادياً يلقى به السيل غمارا

عينوا الضرب دِرَا كافي الطلى

يعجل الفارس والطعن بدارا

ثم يشبه العرب بالأسد يهب مصحراً بعد طول الخور:

أصحر الليث العفوني فانثنى

يطلب اليربوعُ في الأرض وجارا

وبعد هذا الاعتزاز بقومه والتفاخر بأمته يتحدث عما أفضت إليه نهضة العرب وعن

ص: 18

رسالتهم الإسلامية التي حملوها إلى الآفاق تجلو دياجير الشرك وتمحو معالم الوثنية وتنشر التوحيد حيث حلت:

قهروا الشرك على أعقابه

بعد ما استخدم غياً وضرارا

وأثاروا الدين من مربضه

وأطاروا عن مجاليه الخمارا

داينوا المجد بأطراف القنا

فغدا عينا وقد كان ضمارا

وهكذا ترى أن موقف الرضي على الإيوان غير موقف البحتري؛ فإن الإيوان أثار من البحتري شاعريته، ولكنه في الرضي أثار قوميته.

حسن الأمين

ص: 19

‌صلات علمية

بين مصر والشام

في النصف الأول من القرن الثامن الهجري

للأستاذ محمد عبد العني حسن

طلع هلال المحرم من القرن الثامن الهجري على العالم العربي بأحداث جسام؛ وسلطان المماليك في مصر هو الناصر ابن قلاوون، ونائب مصر الأمير سيف الدين سلار؛ ونائب الشام آقوش الأشرم؛ ونائب حماة قراسنقر المنصوري بعد موت الملك المظفر

وكان التتار في أواخر القرن السابع الهجري قد أغاروا على الشام مرتين فردهم بيبرس على أعقابهم. وفي سنة 700هـ أي في مستهل القرن الجديد أغاروا ثانية على الشام بقيادة قازان وأحلوا بها الحرمات وكثر عبثهم فيها وقتلوا وسبوا النساء واقتحموا على الناس المساجد، يحطمون أبوابها ويحاربون الله فيها. . .

وهنا يقف علماء الشام موقفاً رائعاً، فيحرضون الناس على الدفاع، وينظرون شزراً إلى ذهب التتار وفضتهم اللامعة؛ ويقف رجل منهم جليل هو ابن تيمية معلناً أن أهل الشام لا يسلمونها إلى عدو الله ما دامت فيهم عين تطرف؛ ويرسل إلى نائب قلعة دمشق يقول له: لا تسلمهم القلعة ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد. ويستجيب المسلمون إلى صوت شيخ العلماء فيقفون صفاً واحداً، حتى يكرهوا العدو على الرحيل ويطهروا البلاد من أرجاسه

وكان ابن تيمية هذا يقظاً متنبهاً لأحداث زمانه، وليست فيه غفلة بعض. الفقهاء، ولكنه رجل صاحي العين والفؤاد. وكيف ينام والعدو على أبواب دمشق؟ فهو يقضي الليل قائماً يحضض الناس على الصبر؛ ويدور كل ليلة على أسوار دمشق يحرض الناس على الثبات ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.

وليس يعنينا من القرن الثامن أحداثه السياسية، فذلك ليس موضوع البحث، ولكن يعنينا حالة العلماء والفقهاء فيه فقد ظهرت بين للقطرين الشقيقين في ذلك العهد مشاركة في مناصب العلم والوعظ والفضاء، وكان كثير من علماء مصر يعينون في الديار الشامية؛ كما أن كثيراً من علماء الشام يعينون في مصر. وكان أحرار العلماء - وأعني بهم غير

ص: 20

الموظفين - يجوبون بين البلاد العربية ويتنقلون بين القطرين فيفد الطلاب للقائهم والانتفاع بعلمهم والاغتراف من مناهلهم. والأمثلة على هذا كثيرة وقد تكفلت بسردها كتب التاريخ وخاصة كتب السلوك للمقريزي والبداية والنهاية لابن كثير والنجوم الزاهرة لابن تغري بردى

فنرى مثلاً أن أحمد بن سلامة الإسكندري المصري يعين قاضياً لدمشق، ونور الدين السخاري المصري يعين مدرساً بالجامع الأموي بدمشق، والشيخ ابن الوكيل يدرس بمصر في مشهد الحسين وبالشام في دار الحديث الأشرفية وغيرها

وكان تبادل العلماء بين مصر والشام أمراً مألوفاً في ذلك العصر، لما كان تعيين المدرسين من حق سلطان مصر. فإنه لما مات قاضي قضاة مصر ابن دقيق العيد سنة 722 هـ كتب السلطان الناصري المصري إلى ابن جماعة قاضي قضاة الشام يحييه ويعظمه ويحترمه ويدعوه إلى مباشرة وظيفة قاضي القضاة بمصر خلفاً لابن دقيق العيد. فيجيب الشيخ دعوة السلطان ويفد إلى مصر مكرماً فتخلع عليه الخلع ويجزل له العطاء

وكان السلطان يعين كبار العلماء في المناصب الكبرى كمشيخة الشيوخ والمفتي وقاضي القضاة وقاضي العسكر والمدرسين. وكانت وظيفة مدرس من أرقى المناصب العلمية في ذلك العهد. ويكفي للدلالة على سمو قدرها أن التعيين فيها كان من اختصاص السلطان مباشرة، كما يذكر المقريزي في كتابه السلوك. وكانت وظيفة المعيد تلي وظيفة المدرس في المنزلة، وعمل المعيد في القرون الوسطى هو بعينه عمل المعيد في الجامعات الحديثة. وقد عرفه القلقشندي صاحب صبح الأعشى تعريفا دقيقا فقال:(هو ثاني رتبة المدرس، وأصل موضوعه أنه إذا أتى المدرس الدرس وانصرف أعاد المعيد للطلبة ما ألقاه ليفهموه ويحسنوه)

ولم يكتف علماء القطرين في القرن الثامن بالجلوس للدرس في المساجد والمدارس، بل كان لهم نوع من النشاط العلمي الديني فرضته عليهم بعض الظروف في ذلك العصر. فقد ظهرت بعض المذاهب المبتدعة الحائدة عن سنن الرسول وهديه والمنحرفة عن إجماع المسلمين. وكان في خلال بعض هذه المذاهب وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام. . . فكثر الروافض بين التتار واشتد أمر الأحمدية وهي طائفة كان لها أحوال شيطانية - كما

ص: 21

يصفهم المؤرخ ابن كثير؛ ولهم كثير من الحيل والبهتان. وهم في نظر ابن تيمية من الدجاجلة المخالفين للشريعة؛ فنصب هذا الإمام السلفي لهم العداء، واخذ عليهم أقوالهم وأفعالهم، وعقدت له بالشام ثلاثة مجالس للرد عليهم وبيان ما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب والسنة.

ولم تكن تلك المجالس تعقد في المساجد الجامعة كما يتبادر إلى الذهن، ولا في سرادقات خاصة تضرب لها، ولكنها كانت تعقد في قصر نائب السلطان بدمشق. وهي تعيد إلى الذهن تلك المناظرات الدينية التي دارت بين علماء الكلام في العصر العباسي الأول.

وقد أثارت تلك المجالس الدينية خصومة شديدة بين العلماء، ولعبت فيها أحقاد القلوب دوراً عظيما، فخشى الشيخ الأكبر على نفسه في الشام، وقصد إلى مصر لعله يجد فيها متسعا لآرائه وجهاده، فخرج لوداعه من أهل الشام خلق كثير. وكان الخارجون - كما يروى لبن كثير - بين باك عليه أو حزين لفراقه أو شامت فيه أو منفرج محيد. وفي طريقه إلى مصر يعرج على غزة فيعقد له في جامعها مجلس ديني عظيم. وفي مصر يعقد له مجلس بالقلعة يحضره القضاة ورجال الدين وأكابر الدولة. فتلاحقه في مصر الأحقاد ويكثر الحاسدون فيه القول، ويفترون عليه الكذب. ويدعي عليه في هذا المجلس ابن مخلوف المالكي المصري أنه من المشبهة الذي يقولون بأن الله فوق العرش حقيقة وأنه يتكلم بحرف وصوت. ويقف الشيخ ليدافع فيقاطعه ابن مخلوف قائلاً: ما جئنا بك لتخطب. فيسأل ابن تيمية: ومن هو الحكم في؟ فيجاب بأنه ابن مخلوف نفسه. فيتجه ابن تيمية إلى ابن مخلوف قائلا: كيف تحكم فيّ وأنت خصمي؟ وينتهي المجلس بحبس الشيخ الأكبر في برج أولاً، ثم ينقل إلى محبس يعرف بالجب

(البقية في العدد القادم)

محمد عبد الغني حسن

ص: 22

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

518 -

ومشى إلى مكة راجلا حافيا

مروءة مصرية مدهشة

في (الغرر الواضحة):

لما ولي صالح بن علي مصر من قبل ابن أخيه أبي العباس السفاح خرج عليه رجاء بن روح بفلسطين مع عمه الحكم بن ضبعان وكان على شرطة مصر. فأرسل إليهم أبا عون ومحمد بن أشعث الخزاعي بعسكر، فهزما الحكم، وبلغ صالح بن علي أن رجاء ابن روح دخل مصر، واستجار بمحمد بن معاوية فأجاره، فأرسل إليه فحضر، فقال: ألم أكرمك؟ ألم أشرفك؟

قال: بلى

قال: فكان جزائي منك أن أجرت عدوي

قال: وما ذاك أيها الأمير؟

قال: رجاء بن روح وابنه

قال: أصلح الله الأمير! اختر واحدة من اثنين، لي فيهما براءة: إما أن أثلج صدرك بيمين، أو ترسل رجلاً من ثقاتك يفتش منازلي

قال: وتحلف؟

قال: نعم. فأحلفه بطلاق زوجته، وعتق عبيده، ومشيه إلى مكة راجلاً حافياً. فحلف له. ثم انصرف إلى منزله، وأعلم زوجته، فاعتزلت عنه، وقالت له لا تنقطع عني لئلا يشعر بك فلما عزل صالح عن مصر، ورجع إلى بغداد أظهر محمد بن معاوية طلاق زوجته، وأعتق رقيقه، ومشى إلى مكة كما شرط عليه:(راجلاً حافياً)

519 -

فتنت أهل العراق بقولك

لما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب سمع (ديك الجن) بوصوله فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره،

ص: 23

وهو بها، فطرق الباب وأستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو ههنا. فعرف مقصده، فقال لها: قولي له قد فتنت أهل العراق بقولك:

موردة من كف ظبي كأنما

تناولها من خده فأدارها

فلما سمع ديك الجن خرج إليه واجمع به، وأضافه

520 -

متى عصرت من الورد المدام

أبو الحسن الحصري القيرواني:

أقول له وقد حيّا بكأس

لها من مسك ريقته ختام:

أمن خديك تعصر؟ قال: كلا

متى عُصرت من الورد المدام؟

521 -

نظرت في ديوان أبي نؤاس. . .

في (كتاب الأذكياء لابن الجوزي: روى أبو الحسن ابن هلال بن المحسن الصابي قال: حكى السلامي الشاعر قال: دخلت على عضد الدولة فمدحته فأجزل عطيتي من الثياب والدنانير وبين يديه حسام خسرواني، فرآني ألحظه، فرمى به إليّ، وقال: خذه، فقلت:

وكل خير عندنا من عنده

فقال عضد الدولة: ذلك أبوك. . .

فبقيت متحيراً لا أدري ما أراد، فجئت أستاذي فشرحت له الحال، فقال: ويحك! أخطأت خطيئة عظيمة؛ لأن هذه الكلمة لأبي نؤاس يصف كلباً حيث يقول:

أنعتُ كلباً، أهُله في كدَّه

قد سعدت جدودهم بجِده

وكل خير عندهم من عنده

فعدت متوشحاً بكساء فوقفت بين يدي الملك، فقال: مالك؟ فقلت: حممت الساعة. فقال: هل تعرف سبب حماك؟ قلت: نظرت في ديوان أبي نؤاس

فقال: لا تخف. لا بأس عليك من هذه الحمى. . .

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 24

‌سجاد الأناضول

للدكتور محمد مصطفى

(بمناسبة معرض السجاد الذي يقام الآن في دار الآثار

العربية)

- 1 -

تقدمة:

للأناضول اتصال وثيق بتطور الحضارات القديمة. وقد كان ينقسم إلى عدة دويلات أهمها مملكة فريجيا التي سيطرت على الأناضول من سنة 2000 إلى سنة 800 قبل الميلاد، وتلاها مملكة ليديا، إلى أن فتحه الاسكندر الأكبر في سنة 350ق م فصار جزءاً من الدولة المقدونية. وبعد وفاة الاسكندر انقسم الأناضول ثانية إلى دويلات دامت حتى سنة 133 ق م لما استولى عليه الرومان وجعلوه مقاطعة تابعة لهم. وفي سنة 395 ميلادية عند تجزئة الدولة الرومانية الشرقية أو البيزنطية. وجاء السلاجقة من بلاد التركستان الصينية، وامتد ملكهم إلى إيران، ثم العراق، ثم الأناضول، وهنا مكثوا من سنة 1037 - 1300م. وكانت عاصمة دولتهم مدينة قونية. وخلف الأتراك العثمانيون السلاجقة في الأناضول، وكانت عاصمتهم في أول الأمر مدينة بورصا حيث بنى سلاطينهم قصراً عظيماً كان أحد أبوابه يسمى (الباب العالي) وانتقلوا من بورصا إلى أدرنة، فمكثوا بها إلى أن فتح السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية في سنة 1453م فصارت عاصمة الدولة العثمانية

وبعد تحطيم الدولة البيزنطية وفتح القسطنطينية صارت تركيا من أقوى الدول الشرقية، فاستطاع السلطان سليم الأول أن يفتح مصر سنة 1517م، وغزا ابنه السلطان سليمان القانوني بلاد إيران واستولى على تبريز وبغداد. وأخذ العثمانيون معهم من مصر وإيران الصناع والفنانين، فعاونوا على نهضة الفنون وازدهارها في تركيا

ولما أمن العثمانيون جانب البلاد الشرقية اتجهوا نحو أوربا وامتدت فتوحاتهم بها حتى وصلوا إلى فينا. وكانت تركيا أقرب دول الشرق إلى أوربا، فحملت إليها لواء الفن الإسلامي، وكان لها أثر كبير في عصر النهضة الفنية بإيطاليا، حتى إننا نجد أن قطع

ص: 25

نسيج القطيفة المصنوعة في إيطاليا في القرن السادس عشر شديدة الشبه من حيث الرسوم والصناعة بقطع القطيفة التركية، المصنوعة في مدينة أسكوتاري على ساحل الأناضول المواجه للقسطنطينية

وكما دالت دول كثيرة كانت في غابر الزمان قوية وعظيمة، نرى الانحلال وقد بدأ يدب في عروق الدولة العثمانية، فارتدت جيوشها عن (باب أوربا) بعد أن صمد لها الأوربيون في فينا. وجاء القرن التاسع عشر وكانت الكهولة قد بلغت حد الهزم، ففقد (الرجل الهرم) مكانته القديمة بين الدول لما عجز عن أن يجعل خصومه يشعرون بقوة حسامه، ويدينون بمبادئه وأفكاره، وطغى الرخيص من الفنون الأخرى على جمال الفن التركي فذهب به وأفقده زهوه وبهاءه.

العناصر الزخرفية في سجاد الأناضول

كانت العناصر الزخرفية من النوع الهندسي هي السائدة على فنون الأناضول حتى القرن الخامس عشر. ويتبين لنا ذلك بوضوح من زخارف التحف الفنية التي ترجع إلى هذا العصر، ومن صور سجاد الأناضول التي رسمها فنانو البندقية في لوحاتهم الزيتية خلال القرن الرابع عشر، ومن قطع السجاد القديمة المعروفة إلى الآن، ومن بينها ما عثر عليه في جامع علاء الدين بقونية، وهذه تؤرخ بسنة 1220م وهي محفوظة في متحف الأوقاف باستامبول

فالطريقة الجافة الجامدة في رسم الوحدات الزخرفية بخطوط مستقيمة تنكسر في زوايا محددة، والعناصر الزخرفية النباتية مثل الزهور والفروع والأوراق التي تهذب عادة بطريقة هندسية حتى تبلغ درجة يصعب معها تمييز هذه الزهور ومعرفة أصولها، وكذلك تلوين السجاد بألوان باهتة وممزوجة بأخرى، كل هذا من الميزات الهامة لسجاد الأناضول قبل أن يتأثر بالأسلوب الإيراني

وتختلف رسوم سجاد الأناضول المصنوع قبل سنة 1300م عن رسوم السجاد المصنوع بعد هذا التاريخ. فقد كانت ترسم على النوع الأول وحدات زخرفية مأخوذة من الفن الساساني البيزنطي. والمعروف أن العنصر الزخرفي الشائع في الفن الساساني البيزنطي في ذلك الوقت كان في شكل دوائر تضم كل منها طائراً أو اثنين بهيئة رمزية. وقد حور

ص: 26

فنانو الأناضول الشكل الدائري إلى شكل ذي ثمانية أضلاع، أي إلى خطوط مستقيمة تنكسر في زوايا لها مظهر فيه الكثير من الجمود وشدة الجفاف، لأن طبيعتهم تنفر من الأشكال الدائرة المرنة، وكان إطار السجاجيد في العصر السلجوقي يزين بشريط من شبه الكتابة الكوفية، تتفق في مظهرها مع باقي الوحدات الزخرفية ذات الشكل الهندسي. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن الرحالة الشهير (ماركو بولو)، كان قد ذهب إلى هذه البلاد في سنة 1283 وزار السلاجقة في عاصمتهم قونية وكتب عن ذلك يقول إن أحسن وأجود سجاد العالم يصنع في الأناضول

أما بعد سنة 1300م فقد قام آل عثمان على أنقاض الدولة السلجوقية في بلاد الأناضول وأسسوا الدولة العثمانية، وكانوا شديدي التمسك بتعاليم السنة وكره رسوم الكائنات الحية، فعملوا على اختفاء صور الحيوانات والطيور من التحف الفنية ومن السجاد. ومنذ بدء القرن السادس عشر أخذوا في تقليد رسوم قطع السجاد الممتازة الإيرانية، فأدخلوا بذلك عناصر جديدة على أنواع الزخارف في الأناضول، واستطاعوا في أواخر هذا القرن أن يكونوا لأنفسهم أسلوباً فنياً خاصاً بهم، عُني فيه أشد العناية بالزخارف النباتية في تطوراتها المختلفة حتى بلغت أقصى حدود الكمال، مثال ذلك المراوح النخيلية وأنواع الزهور المهذبة (الأرابسك) والأوراق المسننة التي تشبه سنان الحراب، وكذلك الزهور المحببة إلى سكان الأناضول كالقرنفل وزهور السوسن ذات السيقان الرفيعة

واقتبس فنانو الأناضول من بين العناصر الزخرفية المغولية ما يسمى (السحب الصينية)(تشي)، وإن كانوا قد تجنبوا تكرار استعمال غيرها من الزخارف المغولية كصور الحيوانات الخرافية التي تتنافر مع شدة تمسكهم بتعاليم السنة. وقد ظهر هذا التأثير المغولي في سجاد الأناضول في القرن الرابع عشر، ولم يكن ذلك نتيجة لفتوحات المغول وامتدادها إلى العراق وسوريا، بل نشأ عن التبادل التجاري الواسع المدى بين الصين وبلاد الشرق الأدنى، وما كان لأنواع الصناعات الصينية من أثر كبير في فنون هذه البلاد كما نرى ذلك بوضوح في زخارف وأنواع الأواني الخزفية والمنسوجات المصرية وسجاد الأناضول وغير ذلك من صناعات هذا العصر. وظهر هذا التأثير لأول مرة في شكل (مصارعة التنين للعنقاء) على سجادة رسمها المصور دومينيكو دي بارتولو في إحدى لوحاته حوالي

ص: 27

سنة 1440م

ويحتوي المتر المربع من سجاد الأناضول عادة على 152000 عقدة، ويصنع من صوف الأغنام الناعم، وهو أرق وألين من سجاد إيران. والألوان الشائعة فيه هي: الأحمر الباهت والأخضر النباتي الفاتح، والأزرق المائل للاخضرار، والأصفر الليموني، والأبيض الناصع، وقد تأخرت صناعة السجاد في الأناضول في النصف قرن الماضي واندمجت بها أشياء دخيلة على هذه البلاد، فتأثرت رسومها بالفنون الأوربية، واستبدلت الألوان الطبيعة بالألوان الصناعية (الانيلين) الذي أسئ استعماله، ومزج صوف أغنام الأناضول بالصوف المستورد من استراليا.

أنواع سجاد الأناضول

توجد أنواع كثيرة من سجاد الأناضول، ينسب بعضها إلى نوع عناصره الزخرفية، والبعض إلى مكان العثور عليه، أو إلى مراكز صناعته، أو إلى أماكن جمعه وإعداده للتصدير، والشهير منها أنواع: عشاق، تشنتماني، الأبسطة ذات الطيور، هولباين، سجاد ترانسلفانيا، ودمشق، وسجاجيد الصلاة المصنوعة في بلاد: جورديز، كولا، لاذق، كيرشهر، ميلاس، موجور. وسجاد البدر من برغمه وقونية، وغير ذلك من الأنواع. وسوف نتحدث فيما يلي عن كل من هذه الأنواع على حدة مع التوضيح بالصور.

وفي (شكل 1) سجادة صلاة من نوع (عشاق) الفاخر، من أوائل القرن السادس عشر، عليها محراب أرضيته باللون الأزرق القاتم، يحدها من أسفل بالأزرق الفاتح (سحابة صينية) كبيرة تحيط بباقة مرسومة بالألوان على أرضية حمراء. ويعلو السحابة الصينية الكبيرة أخرى صغيرة حمراء ويحيط بها زهور مهذبة. وأرضية خواصر العقد الأعلى بالأحمر وعليها في الأركان بالأصفر الذهبي فروع وأوراق مسننة ومهذبة (أرابسك). وهذه السجادة من مجموعة حضرة صاحب السعادة الدكتور علي إبراهيم باشا، وهي معروضة الآن في معرض سجاد تركيا بدار الآثار العربية. وليس لهذه السجادة نظير في العالم سوى واحدة مماثلة لها تماما في متحف الدولة ببرلين.

وسوف نتابع الحديث في العدد القادم من (الرسالة) عن سجاد (عشاق) الفاخر، ثم عن أنواع سجاد الأناضول الأخرى

ص: 28

(يتبع)

محمد مصطفى

ص: 29

‌النسر.

. .

للأستاذ عمر أبو ريشة

أصبح السفح ملعباً للنسور

فاغضبي يا ذُرَى الجبال وثوري

إن للجرح صيحة، فابعثيها

في سماع الدُّنَى فحيح سيعر

واطرحي الكبرياء شِلْوًا مُدمَّي

تحت أقدام دهرك السِّكِّير

لملمي يا ذُرَى الْجبال بقايا

النّسر وارمي بها صدور العصور

إنه لم يعد يكحِّل جَفْنَ الن

جم تيهاً بريشه المنثور!

هجر الوكرَ ذاهلاً وعلى عي

نيه شيء من الوَداع الأخير

تاركاً خلفه مواكب سُحْب

تتهادى من أُفْقها المسحور

كم أكبَّتْ عليه وهي تُندِّي

فوقه قُبلة الضحى المخمور!

هبط السفح طاوياً من جنا

حيه على كل مطمح مقبور

فتبارت عصائب الطير ما بي

ن شَرود من الأذى ونَفور

لا تطيري! جوابةَ السفح فالنس

ر إذا ما خَبَرْتِه لم تطيري

نسل الوهنُ مخلبيه وأدْمت

منكبيه عواصف المقدور

والوقار الذي يشيع عليه

فضْلة الإرث من سحيق الدهور

وقف النسر جائعا يتلوى

فوق شِلْوٍ على الرمال نثير

عِجافُ البُغاث تدفعه بالمخ

لب الغض والْجناح القصير

فسرَت فيه رِعشة من جنون ال

كبر واهتز هزة المقرور

ونزا ساحباً على الأفُق الأغْ

بَر أنقاض هيكل منخور

وإذا ما أتى الغياهبَ واجتا

زمدي الظن من ضمير الأثير

جلجلت منه زعقة نشَّت الآ

فاق حري من وهجها المستطير

وهوى جثة على الذَّروة الشما

ء في حِضن وكره المهجور!

أيها النسر هل أعود كما عد

ت، أم السفح قد أمات شعوري

عمر أبو ريشة

ص: 30

‌بين معبدين

في المعبد المسحور، سبَّحنا، وغنينا هوانا

ومثنى الهوى، نشوان، ننسج من مفاتنه مُنانا

وسعى به قلبان ينتفضان في الدنيا، حنانا

نسَخ الحياة خيالنا، حلماً، فكانت من رؤانا

في ظلها النعسان طافت سمحة الإشراق نفسي

ونهلت من ينبوعها، فملأت بالإلهام كأسى

ونسيت تحت سمائها، من سكرتي، يومي، وأمسى

فكأنني فوق الزمان، وفوق أعصابي وحسي

عمر كغفوة حالم، بين المنى، أو رجع لحن

أو نشوة علوية عبرت. . . ولم تخطر بدَنِّ

مرت صباباتي، كأوهام، ونام اليوم فني

يا موكب الأحلام، في كف الردى، إياك أعني

من خان لذاتي. . . وأطلق من يديْ لهوي، متاعي

ومن الذي جُنَّت ضلالته فمزق لي شراعي

وأذل أيامي، وأطفأ في متاهتها شعاعي

وأقامني حرماً، حزين الظل، فوق غد مُضاع

طوفت ثم رجعت. . . والذكرى تعربد في ضلوعي

والقلب مخدِور المشاعر غال صحوته خشوعي. . .

ولذائذي انحدرت، تولول، صارخات، في دموعي

لفم الخريف المر، ما حفلت به دنيا الربيع

اليوم أرجع للهوى، من بعد إيماني وشركي

وأعود أنثر فوقه مترحماً، زهري. . . وشوكي

وأظل فوق ضريحه. . . ما بين أوهامي وشكي

في المعبد المهجور - بعد إلهه - قد عدت أبكي

محي الدين صابر

ص: 31

‌خلود.

. .

من عّلم الحور أسمار الأناسيِّ

هذي غلالة إشراق سماوي

في عالم الفلك الأعلى مواطنه

يا طين كبر وهلل للإلهي

تسرب النور من أمواج مسبحه

نهراً تعالى على التصفيق والري

يا صائت الصمت والأنغام لاغطة

مَوْسقت همي بلحن منك علوي

قلبي يتيم هَوى ماتت بخفقته

ملذة السكر من خمر الأمانيِّ

كلمتني فبعثت الحس في بدني

قد كنت صورة إنسان خياليَّ

عصرت أزمنة الّسمار في قدحي

وجئت أسقيك أفراح النواسي

جبينك الفلق الوضاء كلله

نور التفرد بالطهر الضيائي

تبارك الشفق الوردي مجتمعا

في كأس ثغر نَدِيّ الراح مسكي

عيناك عّلمتاني - والهوى عبر

رعاية الوحش للظبي الكناسي

السحر فيك صبابات مطهرة

وخدعة السحر أن أحظى بلاشيّ

زكريا الحجاوي

ص: 33

‌البريد الأدبي

الشعر الجديد

اطلعت في الرسالة (عدد 553) على مقال للأستاذ المحقق الثبت (* * *)، وعنوانه (طاقات ريحان، هدية إلى شعراء في هذا الزمان)، أودعته طرائف مما قاله بعض بلغاء المتقدمين وشعرائهم في صفة الشعر البهرج، والنظم الغث والقريض المهلهل.

فهاج هذا المقال الممتع في نفسي ما كنت أضمره من رأي، وأحرص ألا أبوح به، ولو لخلصائي، والمطلعين على دخيلة آرائي؛ خشية أن أرمي (بالرجعية)، والتخلف عن القافلة الجادة المرقلة؛ وخشية أن أجاهر - فوق ذلك - بقصور الفهم، وكلالة الذهن؛ وبأنني أعيش في عصر غير عصري، وأتعلق بما لا يتأتى أن يتعلق به مثلي.

وطالما كتبت في هذا الموضوع ثم عدلت عما كتبت. وكنت منذ قريب صنعت فيه مقالة، ثم حملتها إلى (الرسالة). وإني لفي الطريق إذ تنازعتني عوامل متضاربة، وفكر متعاكسة، دفعتني آخر الأمر إلى النكوص.

هذا هو موقفي. وأعتقد أنه موقف كثير من حملة الأقلام. وإلا فأين النقاد؟ أين من يقول هذا حسن وهذا قبيح؟ وهذا جيد وهذا زائف؟

إنهم يتوقون هؤلاء القارضين الذين إذا صاح بهم صائح أو نهرهم ناهر، أو كشف عن مواطن جهلهم كاشف، عووا عواء الذئاب، وانتاشوه بألسنة حداد. ونزقوا ولبثوا ليالي ونهرا متأوهين متأففين، يلعنون النقد والناقدين)

وهكذا استشرى شر هؤلاء المتشاعرين، وقويت شوكتهم، وتسنى لهم في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية أن ينعتوا (بالمجددين)، وأن يلجوا أبواب الصحف المحترمة التي تحفل بالأدب، وأن يصلوا منها إلى موضع التشريف والتكريم

فكنت كلما وقعت على شيء من مقصداتهم اندفعت إليه مشوقا؛ لعلي أصيب منه طريفاً؛ أو أفيد منه معنى شريفاً، أو أظفر بما تهش به النفس وتقر العين

أو لعلي - بعد ذلك - ألمح فيه شيئاً من (التجديد) الذي به يتشدقون، وعليه في تدجيلهم يتوكئون - ذلك التجديد الذي لا أدري ما هو؟ ولا كيف هو؟ وإنما الذي أدريه أنه لفظ لاكته الألسن منذ نحو ثلث قرن. وأدري أيضاً أنه لفظ جنى على اللغة والأدب جناية أي

ص: 34

جناية.

علم الله لقد كنت جاداً فيما أحاول لا هازلاً، وكنت مستفيدا، وكنت أبحث عن الحق، وكنت متجرداً من الهوى، وكنت أرجو أن يكون لهؤلاء النظام ولو بعض ما يدعون، أو شيء مما به يتغنون.

ولكني - وا أسفاه! - كنت أرجع من ذلك كله فارغ اليد واجما، أندب من الوقت ما أنفقت، ومن الجهد ما بذلت

يا سبحان الله! كيف أتيح أن ينشر مثل هذا الهراء في تلك الصحف الكريمة، وأصحابها من نعلم ذكاء وأصالة رأي ونفاذ حكم؟

(ا. ع)

زكي مبارك وإعجاز القرآن

ينكر الدكتور زكي مبارك أنه (الكاتب المجهول) وليس في الناس من يصدقه في ذلك ولا زكي مبارك نفسه.

ويقول إني أحاوره بكلام حاورته به في بيت القاياتي منذ عشرين سنة، وليس يدري أنه بقوله هذا يعترف على نفسه بإنكاره إعجاز القرآن وأتهمه بالتشكيك فيه في كتابه النثر الفني، ونثره الفني لا يزيد عمره عن بضع سنين، فلا بد أن يكون غيره مما قال في ذلك العهد كان سبب مواجهتي إياه بتلك التهمة في ذلك الحين. وإذن فالشك في إعجاز القرآن باعتراف زكي مبارك مذهب يذهبه زكي مبارك من قديم

ثم هو لا يدري أنه بقوله ذلك أبطل أيضاً كل ما زعمه من صورية إسلامي لأني لم أستر أخطاءه إن كان من المخطئين! أليس يكفيه ستر تلك الأخطاء قرابة عشرين سنة حتى كان هو الذي فضح نفسه بما كتب في كتابه وفي مقالاته؟ فليعلم نفسه إذن وليفهمها إن كان لائماً أو متهماً أحداً من الناس.

ثم متى كان ستر الأخطاء من لوازم الإسلام بالحقيقة حتى يكون كاشفها مسلماً بالصورة، خصوصاً إذا كانت تلك الأخطاء من نوع التشكيك في إعجاز القرآن

لقد أسندت إلى زكي مبارك تهما معينة تحديته بها كما يقول لينكرها إن استطاع، فلم يفعل،

ص: 35

ولو استطاع لفعل. لكنه يعلم أن مجرد الإنكار لا يغني وكلامه شاهد عليه؛ ثم عز عليه أن يتبرأ من كلامه ذلك بعد أن طال افتخاره به، فجمجم يقول إني أتمسح بالدين لأنتصر عليه، ودمدم يظن أنه يستطيع أن يخدع الناس عن ضعفه بتظاهره بالقوة. ولست ابغي إلا أن يعرفه الناس فيحذروه. فإذا هو لم يخرج مما دخل فيه بالتبرؤ منه والرجوع عنه، فسنخرج نحن مما دخلنا فيه بإيراد الدليل عليه من كلام زكي مبارك نفسه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

محمد أحمد الغمراوي

إلى الدكتور زكي مبارك

كنت أيها الأستاذ الجليل أسبق الأدباء المصريين إلى رد الظلم والبهتان اللذين حاول كاتب لبناني أن يلصقهما بهم، وكنت أسرعهم إلى رفع الحيف الذي ما فتئ هذا الكاتب ينالهم به، بين حين وآخر، لغاية في نفسه

ولقد حمدنا لكان تتناول - في مقالات نشرت في (المصري) آراء ذلك الكاتب بالنقد والتجريح وأن تحللها مبيناً ضعف الحجة ووهن المنطق فيها

بيد أن الذي لم نحمده لك أن تخاطب في مقالاتك الأدباء اللبنانيين جميعهم، كأنك تعتقد أن التهمة التي ألصقتها بذلك الكاتب، جائزة عليهم كلهم، فكنت تعجب من (الكتاب اللبنانيين) ومن ظلمهم وتعسفهم وإنكارهم لقيمة الأدب المصري، وما كان يجوز لك أن تجري عليهم جميعاً حكمك على كاتب منهم معين، أو على مجلة معينة. فلا تحسبن أن الذي تنكره على ذلك الكاتب وعلى تلك المجلة، نستسيغه نحن، ونرضى به، ولئن كنا لم نسارع إلى دفع ذلك الكلام، ولم نبادر إلى نقده، فليس ذلك لأننا راضون عنه أو لأننا عاجزون عن رده، وإنما كان ذلك لأننا لمسنا أن وراء ذلك الكلام غاية معينة، وغرضاً خاصاً، تستهدف له كرامتنا الوطنية نفسها

ولما كنا نعتقد أن كرامتنا الوطنية بلغت من تقدير الناس وتقديرنا لها حداً لن يتأثر قط بأراجيف مصطنعة، وادعاءات مغرضة؛ فإننا طوينا كشحاً عن كلام ذلك الكاتب غير آبهين له خاصة وإننا كلنا أو جلنا على مثل اليقين بأن الكاتب المقصود لم يقم يوماً بدراسة أو محاضرة ولم يؤلف كتاباً أو مقالاً خالصاً لوجه الأدب!

ص: 36

ومع ذلك فقد شاء كاتب لبناني كبير أن يطلع الناس على تلك الحجج الواهنة، والبراهين الضعيفة التي استند إليها المحاضر فكتب مقالاً قيما في مجلة (الأديب) البيروتية جزء شباط سنة 1944

أقول إنه كان من الوجب أن تحترس في توجيه خطابك فتقتصر به على الكاتب المقصود، ثم إن مما أثار عجبنا أن تثير تلك الكلمات هذه الضجة في مصر خاصة بعد أن لمس المصريون أنفسهم عواطف الإخاء والود والعرفان بين مصر ولبنان في هذه الأيام الأخيرة، وقد كان من الواجب عليهم أن يفطنوا حين يستمعون إلى بعض أنغام جديدة، إلى أن هذه الأنغام شاذة وناشزة، فلا يتعبوا أنفسهم وعقولهم في محاولة إصلاحها ودرجها في الأنغام المنسجمة الرائعة، لأنها لا شك ستضمحل ذات يوم وتتلاشى وتجف حين لا تجد الأذن المصغية

وعلى هذا فنرجو أن يفسر إخواننا الأدباء المصريون سكوتنا بغير ما ينبغي أن يفسر، وألا يحملوه على غير محمله، لنعمل جميعاً على تحقيق ما نصبوا إليه من شئون التعاون بكل أطرافه السياسي والاجتماعي والثقافي وأن يحد الدكتور مبارك من غلوائه التي نستهدف لها جميعاً!

(بيروت)

سهيل إدريس

معرض سجاد تركيا بدار الآثار العربية

تقيم جمعية محبي الفنون الجميلة في يوم الاثنين 28 فبراير سنة 1944 معرض سجاد تركيا بدار الآثار العربية. ويضم هذا المعرض مجموعة قيمة تمثل أغلب أنواع السجاد القديم المصنوع في بلاد الأناضول يندر أن يجمع مثلها في مكان واحد. وقد ساهم كثيرون من كبار هواة السجاد في هذا المعرض بقطع فاخرة من مجموعاتهم الخاصة، كما زينت قاعات المعرض بقطع من قطيفة بروسة واسكوتاري ومن أنواع مختلفة من التطريز، وألواح القاشاني، وشمعدانات من النحاس وأدوات جميلة من الفضة، وأسلحة نقش عليها أسماء بعض سلاطين آل عثمان. وكان لمساهمة حضرتي صاحب السمو الأمير يوسف

ص: 37

كمال وصاحب المعالي الدكتور علي إبراهيم باشا أثر كبير في استكمال مظاهر الفن والجمال بهذا المعرض

ولم يفت القائمين على تنظيم هذا المعرض وترتيبه أن ينسقوه. على حسب أنواع السجاد وتطورها في العصور المختلفة حتى صار بمثابة دليل علمي يستطيع فيه الزائر أن يتتبع دراسة سجاد تركيا

وقد وضع الأستاذان حسين راشد وجاستون فييت بالفرنسية دليلاً لهذا الغرض فيه تفاصيل كثيرة عن أنواع السجاد. وترجم هذا الدليل إلى اللغة العربية الأستاذ محمد راتب والدكتور محمد مصطفى.

في (مجموع رسائل الجاحظ)

ومتى أجئه في الشدائد مرملا

ألق الذي في مزودي لوعائه

الحافظ أبن حجر

ص: 38