الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 557
- بتاريخ: 06 - 03 - 1944
العلم التبشيري
للأستاذ عباس محمود العقاد
الدرس العلمي يخدم الحقيقة ويبحث عنها ويرحب بها ولا يكره إظهارها حيث كانت في مذهبمن المذاهب أو إنسان من الناس
أما الدرس الذي يكره إظهار الحقيقة لأنها تخص مذهبا غير مذهبه، أو تشيد بفضل إنسان على غير اعتقاده، فليس ذلك بدرس علمي ولا بعلم، إنما هو تبشير أو دعاية أو هوى مدخول.
ومن هذا القبيل درس كاتب في مجلة (المقتطف) يستره بدعوى العلم الصرف وما هو بمستور، ويمزجه بنوازع التعصب الخفي عامداً أو غير عامد وما بها من خفاء
كتبنا عن عائشة كتابنا (الصديقة بنت الصديق) وعقدنا فيه الفصول لنقول إنها رضى الله عنها كانت امرأة تامة الأنوثة في طبيعتها وخلائقها. فأعجب كاتب المقتطف بهذه الطريقة وقال من عنده: (. . . ومن محاسن هذه الطريقة أن المترجم مهما يعظم ويخطر ينزل منزلة الإنسان. فالسيدة عائشة على فضلها أنثى تامة الأنوثة: تغار وتفرط في الغيرة حتى أنها لتدب بين إحدى ضرائرها والرسول ابتغاء الاستئثار به، وإنها ذات حدة طبعية، وإنها ظلت تحمل الحقد لمن نصح للرسول أن يطلقها، وإنها مالت إلى ذوي قرباها في أمر الخلافة)
انتهى كلام كاتب المقتطف الذي يصطنع الدراسة العلمية وما هو منها في غير باب الفهارس والعناوين
ونحن لم نقل إن السيدة عائشة حملت الحقد أو دبت بين الرسول وبين إحدى زوجاته، فهذه عبارات الكاتب راقه أن يعبر بها عما أراده، وبينها وبين ما ذكرناه فرق محسوس
إلى هنا نحن علماء، وطريقتنا في النقد لها محاسن؛ ولكننا على ما يظهر لا نكون علماء ولا تعرف لطريقتنا حسنة إلا إذا وقفنا عند هذا الحد في الكتاب كله من ألفه إلى يائه. فأما إذا أسفر النقد عن محمدة أو عن تبرئة من مذمة فقد كفرنا بالعلم وخرجنا من محاسن الطريقة إلى السيئات
ولهذا عاد كاتب الفهارس والعناوين يقول: (وتلك مزية في الإنشاء قد تحرف المنشئ إلى
التمجيد والتفخيم إطلاقاً، بدلاً من اختبار كنه النفس الفياضة بالإحساسات البشرية الصادقة الصافية. . .)
إلى أن يقول: (غير أن هذا الضرب من الإنشاء ربما كان مسافة إلى حديث يغلب عليه منطق الدفاع، وذلك ما انجذب إليه المؤلف لما عرض لقصة الإفك، فاجتهد في الجدل - وهو لصناعته حاذق - فأيد مذهبه بشواهد المعقول ونصوص المنقول، وربما لج في استخراج هذه، وأبعد في استنباط تلك، حتى أنه يمسي في مدارج المجاذبة والمدافعة مدرها لا باحثاً. . .)
ومعنى ذلك أننا أخطأنا لأننا نقضنا حديث الإفك وأسهبنا في نقضه، وإننا كنا نوافق العلم إذا رويناه ولم نعقب عليه، أو كان قصارانا في التعقيب عليه أن نقول:(إن قصة الإفك لا تحتاج إلى مثل ذلك الاجتهاد. . .)
إذن تكون علماء ولا نكون مدرهين مدافعين. . .!
وإذن يقر (العلم التبشيري) عيناً لأنه يستطيع أن يصيح يومئذ بين من يستمعون إليه: (أيها الناس! هذا قصارى ما يملكه الباحث في حياة السيدة عائشة من تفنيد لحديث الإفك وإبطال لدعوى المفترين عليها، ولو كان عندهم مزيد من التفنيد والتصحيح لجاءوا به ولم يسكتوا عنه)
وهذا هو العلم اللذيذ الشهي المعجب المطرب الذي يبرئنا من اللجاجة ولا يؤخذ علينا فيه عيب القدرة على الجدال
أما العلم الذي يسهب في تصحيح حديث الإفك دفاعاً عن سمعة السيدة عائشة فهو علم كريه بغيض عند المبشرين وأشباه المبشرين
هكذا يريدها كاتب (المقتطف) الذي يصطنع الدراسة العلمية لينفذ منها إلى هذه المآرب الخفية على ظنه، وما هي بخفية
إذ الواقع أن المسألة هنا أظهر من أن يسترها هذا البرقع الممزق المشنوء، وأن العلم الصحيح، والأدب الصحيح، براء من هذا العوج البين في التفكير والتقدير
والواقع أن الإسهاب في تصحيح حديث الإفك واجب علمي نلام على إهماله أو التقصير فيه، لأننا نكتب عن (شخصية) السيدة عائشة فلا نكون قد صنعنا شيئاً إذا نحن لم نمحص
خلائقها ولم تظهر مقدار الصدق أو البطلان فيما يقال عنها
وكل ما يجب علينا أن نثبت مقال الخصوم فلا نحذف منه شيئاً، وأن نعرضه على مقاطع الحجج أو مواضع الاحتمال والترجيح فلا نغفل منها شيئاً، ثم نقابل بين الكفتين لندل على الراجحة منهما والمرجوحة، دون أن نكره القارئ على التصديق بغير برهان. وهذا ما صنعناه
وهذا الذي يعده الكاتب الذي حرمه الله الذوق والفهم لجاجة وخروجاً من وظيفة البحث العلمي إلى وظيفة الدفاع
ومن الواضح أن الباحث العلمي مطالب بالالتفات إلى البراهين القاطعة والوقائع الحاسمة كما هو مطالب بالالتفات إلى القرائن المرجحة والأدلة المحتملة، فلا يلام على قرينة لأنها غير قاطعة، ولا على دليل لأنه غير حاسم، ولكنه يلام إذا أهمل شيئاً من ذلك أو أثبته ثم أعطاه حظاً من القوة غير حظه الذي يحتويه
ونحن قد أتينا بكل ما يخطر على البال من جانبي المقال، ولم نبالغ قط في قيمة ترجيح أو احتمال، فقيل إنه خروج من البحث إلى الجدال
ولكن ما هو البحث الخالص البريء الذي لا جدال فيه يا ترى؟
هو الإسهاب في متابعة كل حجة وكل قرينة للتشكيك والتوهين، إذ التشكيك والتوهين هما العلم الذي لا جدال فيه. . . أما التصحيح والتبرئة فهما الجدال الذي يعاب على الباحثين والعلماء. . .!
وهذه أمثلة من إسهاب كاتب (المقتطف) الذي برئ من الفهم والذوق وصراحة التفكير واستقامة القياس
قال يعنينا:
(من ذلك أنه أول شكوى امرأة صفوان بن المعطل - وهو بطل حديث الإفك عند المرجفين - تأويلاً متزيداً فيه، ثم استند لأجل دعمه إلى خبر لا ندري ما يكون. وتفصيل ذلك أن المؤلف نقل أن امرأة صفوان شكته إلى النبي لأنه ينام ولا يصلي الصبح قبل طلوع الشمس، ثم زاد: وقد يحسن هنا أن نوجه شكوى امرأة صفوان إلى بعض معانيها. كأنها أرادت بثقل النوم كناية عن أمر آخر لا تفصح عنه. إذ قيل عن صفوان هذا إنه كان
حصوراً لا يأتي النساء)
نقل كاتب المقتطف ما تقدم من كتابنا ثم قال: (والذي عندي أن ليس وراء شكوى امرأة صفوان تعريض، وليست حروف الشكوى بفارة نحو الكناية، ولو كانت فارة لكان النبي الزكن فطن للأمر، فما قال لصفوان على جهة التصريح: إذا استيقظت فصل. . .!)
فكل ما قلناه نحن أن الباحث يحسن به أن يوجه شكوى امرأة صفوان إلى بعض معانيها، وهو أنها تكنى بنومه إلى ما بعد طلوع الشمس إلى إهماله واجب الزوجية، ولا تحب أن تصرح بما أرادت، لأن التصريح قد يخجل المرأة في مجلس الرجال
لم نقل أن هذا القصد هو كل معاني الكلمة، بل قلنا إنه بعض معانيها، ولم نشأ أن نزيد على ذلك كثيراً ولا قليلاً، ولو شئنا لزدنا وقلنا إن المرأة لم ترد إلا ما أشرنا إليه، وإلا فما شأنها هي بصلاته بعد طلوع الشمس إذا كان ذلك جائزاً في الدين؟
لكننا مع هذا وقفنا عند حد الاحتمال الجائز ولم نزد عليه، فإذا بهذا المطموس ينكر الكناية هنا كل الإنكار بدليل لا يخطر إلا على خاطر كليل وذهن عليل، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لصفوان بعد أن سمع شكاية امرأته: إذا استيقظت فصل!
فياءيها المطموس مرة أخرى! بماذا تريد أن يجيبها النبي وهو يخاطب بذلك الكلام على سبيل الكناية؟
أتريد من النبي الزكن الفطن أن تخاطبه امرأة خجلى كناية وتعريضاً فيجيبها على الملأ بما هربت منه وأبت أن تذكره على سبيل التصريح؟
أهذا هو البحث الذي لا لجاجة فيه؟ وهذا هو التدليل الذي لا يحسب من الجدال؟
ثم أبى هذا الكاتب المطموس البصيرة أن يكون صفوان حصوراً بالمعنى الذي يبرئ السيدة عائشة فقال:
(وأما قصة الحصر فليست بالحجة القاطعة. فالذي في سير ابن هشام أن عائشة إنما كانت تقول: لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه رجلاً حصوراً ما يأتي النساء. . . ثم أضف إلى هذه الاستدلال الخبري واللغوي أن الذي ذكر عن صفوان لو كان أمراً مقطوعاً به مسلماً ما انبثّ حديث الإفك) إلى آخر ما قال
فلماذا يرد هذا على ذهن الكاتب المطموس ولا يرد على ذهنه أن ابن المعطل لو كان أمر
حصره باطلاً معروفاً لما شاع عنه أنه حصور؟ ترى هل كان يمكن أن يقال عنه إنه حصور وله ذرية غير متهمة؟ ترى هل كان يمكن أن يقال عنه إنه حصور وله امرأة تعلم هي على الأقل أن الاتهام باطل وأن هذا الاتهام الباطل دليل على شئ مخبوء؟
لماذا خطر له أن أصحاب حديث الإفك لن يشيعوا ما ينقض البرهان؟ ولم يخطر له أنهم قد يشيعون ذلك اعتماداً على التباس التهمة التي تحتمل كل التباس؟
لماذا؟. . . أللعلم الذي لا جدل فيه، أم لشهوة النفس التي لا علم فيها ولا أمانة للحق والتاريخ؟
وخلاصة هذه الأمثلة أن المسألة مكشوفة لا يجدي مداراتها اللغط بألفاظ البحث والعلم والاستقراء، فإنما يكون الاستقراء علمياً عند هذا الكاتب وأمثاله كلما أفضى إلى تشكيا واسترابة، ولا يكون الاستقراء علمياً ولا محموداً ولا واجباً على الباحث أن يلم به إلماماً في عرض الطريق كلما أفضى إلى تبر وتعظيم
وإذا قلنا إن السيدة عائشة مؤمنة بنبوة محمد عليه السلام ظهر في سيرتها جميعاً لم يفهم معنى هذه الدلالة وراح يقول: ألا يخطئ المؤمنون والمؤمنات؟ ويفوته أن المسألة هنا ليست مسألة الخطأ بل مسألة الشك في علم النبي بالخطأ من طريق الوحي والإلهام. ومن واجب الباحث أن يستبعد وقوع الخطأ من هذا القبيل، لأنه لم يحدث قط في حياة الأنبياء، ولأن الإغراء الذي يقاوم كل هذه الموانع غير موجود ولا مفروض في حديث الإفك السخيف الذي لا برهان عليه
وبعد، فإن كنا نأسف لشيء فإنما لمجلة (كالمقتطف) أن تتورط في مثل هذا الإسفاف وقد تنزهت عنه في أيدي كتابها الأفاضل حقبة من الزمان، وأن تسلم زمامها إلى هازلين يعبثون بكرامتها ويخرجون بها عن سوائها وهم ما هم من قلة الفهم وقلة الذوق وقلة الإنصاف، وحظهم من حب العلم والحقيقة ما رأيناه، وهو حظ يلحقهم بدعاة التبشير ويخرجهم من زمرة كتاب المقتطف المعهودين، وللقائمين على المقتطف أن يختاروا لمجلتهم ما يحلو لهم من مصير، ولكن القراء أيقاظ لا يغفلون.
عباس محمود العقاد
في الرملة البيضاء
للدكتور عبد الوهاب عزام
دعيت حينما حللت بيت المقدس إلى زيارة إخوان كرام في الرملة ويافا، وقد صادفت الدعوة شوقا في النفس وحنيناً، ولبثت أرتقب الفرصة حتى حسبتها قد أفلتت. وبينما أنا بالمسجد الأقصى يوم الجمعة الذي حدثت عنه في مقالي عن المسجد المبارك، شكوت إلى الصديق الكريم الذي ذكرته قبلا وقلت إن وجهه لا يعيب عن مشهد من مشاهد الخير، ما فاتني من السرور بما أملت من زيارة إخوان كرام في مواطن كريمة، وقالت ضاق الوقت فالرحيل بعد غد قال: وما عليك إذا زرت المدينتين غداً وركبت الطائرة بعد غد من اللد دون الرجوع إلى بيت المقدس. إن في الوقت سعة لإدراك بغيتك، وتأدية واجبك، ونذهب معاً إن شاء الله
فارقنا بيت المقدس ظهر السبت الخامس والعشرين من رمضان نؤم الرملة، وسارت السيارة في أودية فلسطين وشعابها، وأفضنا نحن في شعاب من الحديث وأودية نفصلها على ما نرى من مشاهد جميلة، وما نمر عليه من زروع وأشجار وجبال وقرى، وما يوحي به أولئك من ذكر وعبر بين الماضي والحاضر حتى أوفينا على المدينة الكريمة.
نزلنا في دار البنك، بنك الأمة العربية. ولهذا البنك دور في أمهات مدن فلسطين، فسرني ما رأيت من صور تاريخنا على الجدران، وما توسمت من صور جهادنا الحاضر في أعمال البنك وحسابه. وكم فرج هذا المصرف من كرب، وكم محا من يأس، وكم عصم من مال وأرض، وكم جمع الكلمات المتفرقة، وألف الأهواء الشتيتة. وإن رجاءنا في مستقبله أعظم من اغتباطنا بماضيه، وابتهاجنا بحاضره. وجزى الله خيراً كل من ساهم في الذود عن هذه الأمة بعقل مدبر، أو يد عاملة، أو لسان ناصح، أو مال نافع.
ثم سار بنا الشوق والسرور إلى دار الأخ الصديق المجاهد محمد يعقوب الغصين، فنعمنا حيناً بالجلوس مع الأخ الكريم، وجماعة من وجوه الرملة أتوا مسلمين. نضر الله هذه الوجوه ورعاها. وكانت مطامعنا قد اتسعت لأن نزور المدينتين، ونجيب الدعوتين، ونقضي الغرضين في يوم واحد. فلما لقينا الوجوه الكريمة، وأفضنا في أفانين الحديث، عرفنا أن ما بقى من إقامتنا في فلسطين لا يتسع لأداء فرض واحد من فروض كثيرة
تلزمنا بنزولنا الرملة، فأقصرنا عن زيارة يافا أسفين آملين أن تيسر لنا فرصة نزور فيها يافا والرملة أيضاً
خرجت في العشى في صحبة الصجيق الكريم أحمد حلمي باشا لنجول في الرملة وما حولها على قدر ما تأذن لنا بقية نهار من رمضان فذهبنا إلى أطلال مسجد كبير تدل رسومه وبقايا جدره وأسطواناته، ومكان المحراب من هذه البقايا، أنه كان من أعظم الجوامع الإسلامية وأفسحها كجامع بني أمية في دمشق، وجامع المعتصم في سامرا، وجامع ابن طولون في مصر أو أوسع. ولا يبنى مثل هذا الجامع إلا في مدينة كبيرة عامرة. وكذلك كانت الرملة البيضاء. فقد مصرها سليمان بن عبد الملك وهو وال على فلسطين من قبل أخيه الوليد، ثم عني بعمارتها بعد أن آلت إليه الخلافة، ودعا الناس إلى البناء فيها فاتسعت وعظمت. وقد روى ياقوت أن سليمان أراد أن يخلد ذكره بمدينة الرملة ومسجدها كما خلد ذكر أبيه عبد الملك بقبة الصخرة، وذكر أخيه الوليد بجامع دمشق. وحسب جامع الرملة أن يكون صنو جامع دمشق، وبيت المقدس. ما هذه الأساطين والجدر إلا بقبة العراك المديد بين الحادثات المدمرة وهذا المسجد العظيم، قامت كما يثبت المجاهدون الصابرون للخطوب الجسيمة، والأرزاء العظيمة
وقد تداولت الرملة أحداث الدهر أيام الحروب الصليبية حتى أنقذها من الفرنج السلطان صلاح الدين عام ثلاث وثمانين وخمسمائة؛ ثم اضطر إلى أن يخربها بعد أربع سنين حذرا أن يستولي عليه الفرنج مرة أخرى. وناهيك بالمحن التي تضطر صلاح الدين إلى إخراب مثل هذه المدينة!
وفي شمالي ساحة الجامع منارة عظيمة عالية مربعة مبنية بالحجارة الضخمة المهندسة بناها الملك الناصر محمد بن قلاون وكأنه أراد أن يجعلها مئذنة ومنارة أو مرقباً لمراقبة السفن القادمة إلى سواحل فلسطين. على المنارة كتابة واضحة فيها اسم الملك الناصر وألقابة، وتاريخ بنائها سنة ثماني عشرة وسبعمائة. والمنارة قائمة وحدها مفردة، كأنها رمز للتوحيد ثابت على مر الزمان، أو علم للأيمان القوي الذي لا يقهره تقلب الحدثان. كم شهدت هذه المنارة من الغير، ورأت من أحداث القدر، وتاريخ البشر! وليت شعري ماذا تروى من أخبار السلف، وماذا تنقم من أفعال الخلف؟
فاقت هذه الآثار قائلاً: رحم الله بني أمية، وهذا أيضاً من آثارهم، منشداً في هذه الآثار المخذولة، وذاك الحمي المستباح قول كثير:
حموا منزل الأملاك من مَرْج راهط
…
ورملة لُدَّ أَن تباح سهولها
ذاكرا الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي ما تزال آثاره في مصر والشام شاهدة بمآثره، ناطقة بمحامده
ثم جلنا ساعة في الأودية القريبة من المدينة والمزارع والمشاجر الناضرة الفيحاء، ومررنا بوادي حنين
قال الباشا: هنا بستان للأخ الكريم الأستاذ محمد علي الطاهر يقضى علينا الوفاء أن نراه لنعرف كيف تعهدّاه والعناية به. والبستان في ربوة يؤدي إليه طريق صاعد ضيق. قال الباشا: إن سائقنا يشفق من هذا الطريق، فكلما مررت على مقربة منه أسرع آملاً ألا أذكر البستان إلا بعد أن يبعد عنه فيستريح من مشقة الإصعاد إليه وتخلل المسلك الضيق بالسيارة. وقد أدركت حيلته فهددته أن أخبر الأستاذ الطاهر ليهجوه بمقال أو مقالين. سرنا بين بساتين يانعة كثيفة الشجر، كثيرة الثمر، حتى انتهينا إلى بستان أخينا فدخلناه وتخللناه، فوجدناه حديث عهد برى، وسرنا أن وجدناه مع ما أدركه من حرفة الأدب التي جعلته أقل نضارة من جاره، مخضرا تنوء أشجاره بما حملته أخذنا غصناً من البرتقال فيه تسع حبات متراكبة كعنقود العنب، وغصناً من الليمون الهندي الذي يسمى جريبفروت فيه خمس حبات كذلك، قلت أنعم بها من بشرى نحملها إلى الصديق في القاهرة، وهدية نطرفه بها من بساتينه الناضرة، وقد حرصت عليها وحملتها في الطائرة متيمناً بها، أراها أغصان نضارة وسلامة، ورمز عناية بالصديق وكرامة، وتنضيراً للصلة بين مصر وفلسطين، وما احسبني فرحت بهدية حملتها، ولا الأخ الطاهر سر بهدية حملت إليه، سرورنا بهذه الهدية الخضراء الجميلة التي حملتها الرياح من الرملة إلى القاهرة
وعدنا إلى دار ضيافتنا للإفطار وصلينا في مصلى في الدار به ضريح يقال إنه ضريح أبي يزيد البسطامي الصوفي المعروف وما عرفنا في تاريخ أبي يزيد أنه جاء إلى الرملة، بل قبره في بسطام بلده معروف يقصده الزوار من الأرجاء، ولا سيما الصوفية حتى اليوم؛ ولعله ضريح بنى على ذكر أبي يزيد، أو قبر صوفي آخر من البسطامية أتباعه غلبه على
قبره صيت شيخه وقد قرأنا في تاريخ الصوفية أن أول من عرف منهم بهذا الاسم صوفي اسمه أبو هاشم اتخذ صومعة في مدينة الرملة وتوفى سنة 150 فهل هذا قبره؟ لم يتسع مقالنا للبحث في هذا الشأن
وبعد العشاء ذهبنا إلى دار الشبان المسلمين فلقينا جمعاً من الشبان حاشداً وعلمنا أنهم لم يجتمعوا منذ سبع سنين؛ فرط عقدهم، وباعدت بينهم، ومنعتهم الإلتثام في مثل هذا الجمع، حوادث الحرب وما قبل الحرب من الثورة والجهاد، وممارسة الخطوب الشداد، فما كان أعظم غبطتي، وما كان أسعد جدي أن كانت زورتي المدينة الكريمة مقرونة باجتماع الشمل، وانتظام الجمع. تكلم صديقنا المجاهد محمد يعقوب الغصين وتكلم عدة من كرام الشبان فأفاضوا ما شاء أدبهم وكرمهم محيين المجاهد الكريم، والزعيم الاقتصادي أحمد حلمي باشا والضيف المصري الذي لا نرى نفسه في فلسطين ضيفاً، ولا يعد القاهرة أولى به من الرملة. وتكلمت على وجوه يعرفها قلبي وإن لم تشهدها عيني مستمداً من تاريخنا ومآثرنا وأخلاقنا وعزائمنا ما يثبتنا في هذه المحن، ويربط على قلوبنا في هذه الفتن، ويجمع الكلمة في هذه المصائب، ويؤلف العزائم لهذه النوائب، وألقيت إليهم من تاريخنا وأخلاقنا وأواصرنا مقاليد المستقبل الكريم، الوضاء الذي يبسم في أعقاب هذه الظلمات، ويتنفس من وراء تلك الكربات. ومن وراء كلامي ما يضيق عنه الكلام، وتتلقفه عن الوجدان الإفهام. لقد كانت ساعة جليلة لا تزال تضئ في جوانحي، وتشتعل في سرائري.
أصبحت إلى مطار اللد في صحبة إخواني الكرام أتمثل بقول القائل:
وْنكرم جارنا ما دام فينا
…
ونتبعه الكرامة حيث مالا
وأنشد قول أبي الطيب في طريقه إلى مصر:
إذا السحاب زفتْه الريح مرتفعاً
…
فلا عدَا الرملة البيضاء من بلد
عرجنا على بنك الأمة العربية في اللد فلبثنا حتى سرنا إلى المطار وقد قصصت قصته من قبل في حديث عن الطيران من اللد إلى القاهرة
عبد الوهاب عزام
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
للأستاذ ساطع الحصري
للأستاذ دريني خشبة
عندما فرغت في العام الماضي من قراءة الجزء الأول من كتاب الأستاذ الجليل ساطع الحصري (أبو خلدون) عن مقدمة (ابن خلدون) أيقنت أنني لم أضع وقتي سدى في قراءة هذا الكتاب الثمين، وأيقنت أن ابن خلدون جدير بأن يوليه مفكرونا وكتابنا عنايتهم، كما يوليه مفكر والغرب وكتابه عنايتهم على الأقل، وإن كان واجبنا يقتضينا أن نسبقهم إلى ذلك ونبزهم فيه. . . فليس كثيراً على ابن خلدون أن يكتب عنه الدكتور طه حسين رسالة يكسرها على فلسفته الاجتماعية، ثم يأتي الأستاذ عبد الله عنان فينقل إلى العربية تلك الرسالة، ويزيد فيضع كتاباً جديداً عن حياة ابن خلدون وتراثه الفكري، ثم يتفرغ الأستاذ أبو خلدون لوضع مؤلفه الشامل عن مقدمة ابن خلدون فيملأ أيدينا ووعينا ببحث عجيب مستفيض عن هذا الرجل العبقري الذي يعتبر بحق نابغة الأمة العربية في علم الاجتماع، وقد أصدر الأستاذ ساطع بك الجزء الثاني من بحثه القيم عن المقدمة هذا العام (1944)، وما كدنا نراه حتى أكببنا عليه نتلوه، بل ندرسه، في شغف وفي شوق وفي إعجاب
تناول المؤلف في الجزء الأول موقف ابن خلدون من الكهانة والنجامة والسحر ومشيئة الله، والأدوار التي لعبتها هذه الأشياء في التاريخ؛ ثم نبذة شاملة عن حياة ابن خلدون لم يقتصر فيها على ما كتبه المؤرخ عن نفسه في الرسالة المحفوظة بدار الكتب المصرية، والتي تنقص تأريخ فترة طويلة من حياته تبلغ إحدى عشرة سنة إلى وفاته؛ ثم تاريخ كتابة المقدمة وشعور ابن خلدون بأنه إنما استحدث في علم التاريخ حدثاً جديداً لم يسبقه إليه أحد، وانتقل إلى ما حدث من إهمال المؤرخين العرب للأسس التي وضعها ابن خلدون في مقدمته لعلمي التاريخ والاجتماع وما كان من تنبه المؤرخين العثمانيين إليها آخر الأمر، وانتفاعهم بها في وضع تواريخهم، وذلك من نعيما صاحب التاريخ المعروف إلى عبد الرحمن شرف المؤرخ الرسمي الأخير، مما أدى إلى ترجمة المقدمة إلى التركية قبل ترجمتها إلى أية لغة أوربية بنحو من قرن كامل، ثم تناول بعد ذلك لغة المقدمة فشرح نظرية النقد التفسيري شرحا لم يسبقه إليه أحد في العربية، وفسر لنا بعض العبارات التي
تعيننا على فهم أسلوب ابن خلدون ومقاصده من كثير من العبارات التي خرج بها على المعاني المألوفة لها مما يحدث التباساً في مسايرته إلى أغراضه إن لم نلم بها قبل قراءة المقدمة، وهذا فضل لم نر بداً من تسجيله للأستاذ ساطع في هذه الكلمة السرية الموجزة. ثم يستطرد بعد هذا فجأة إلى نسب ابن خلدون، ويناقش الدكتور طه حسين فيما ذهب إليه من شك ابن خلدون نفسه في نسبه، كما يناقش الأستاذ عنان أيضاً في هذه المسألة. ونرجو أن تكون لنا عودة بصدد هذه المناقشات
وفي القسم الثاني من الجزء الأول يتناول الأستاذ الجليل مكانة المقدمة في تاريخ (فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع) ويحدثنا عن فيكو وآرائه، كما يحدثنا عن مونتسكيو ونظرياته، مقارناً بينهما وبين ابن خلدون، ومكانة ابن خلدون من علم الاجتماع ونظرة علماء أوربا إلى نابغة العرب. والأستاذ ساطع يثير إعجاب القارئ إلى أقصى حد بسعة إطلاعه وجهوده العميقة الموفقة التي بذلها في هذا القسم من أقسام الكتاب، فهو يلفتك إلى عشرات وعشرات من المراجع الهامة التي يضع بين يديك خلاصتها، ويثير فيك فضول الاطلاع بالرجوع إليها، فمن أروع ما أثبته هنا خلاصة ما كتبه (روبرت فلنث) عن ابن خلدون وتفضيله على جميع أنداده ممن كتبوا في فلسفة التاريخ. ولا يفوتنا ونحن نكتب هذه اللمحة، أن نعارض بشدة ما أورده (فيكو) من أن العبرانيين، ثم الكلدان، ثم الأسكيت، ثم الفينيقيين أقدم جميعاً من المصريين. . . لقد بطلت هذه النظرية أتم البطلان، وأثبتت مجموعة البداري الأثرية التي يرجع عهدها إلى ما قبل خمسة عشر ألف سنة، كما أثبتت مئات الشواهد التاريخية الأخرى أن المصريين هم أقدم أمة على وجه الأرض
ويتناول القسم الثالث من الجزء الأول (آراء ابن خلدون ونظرياته) فيحدثنا عن موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ، وطبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم، والقسر الاجتماعي والتقليد وطبائع الأمم وسجاياها، ونظرية العصبية والخط والكتابة. وقد ذكرتنا معظم هذه الفصول برأي لنا قديم نشرناه عن تلمذة ابن خلدون لإخوان الصفا في رسائلهم المشهورة، وانتفاعه بما جاء في هذه الرسائل، ولا سيما عن تأثر طبائع الأمم وسجاياها ببيئة الإقليم ومناخه وهوائه ومحصولاته وأثر الجوع والخصب في أخلاق الشعوب ودياناتها، كما ألمعنا إلى أوجه الشبه بين ما قرره إخوان الصفاء في رسائلهم عن الزهد ودرجات الناس، وعلاقات أولياء
الله وكيف آتاهم الله القدرة على إدراك الغيب ومعرفة بواطن الأمور، وما ذهب إليه ابن خلدون في هذه الأمور جميعاً بما يشبه أن يكون نقلاً أو اقتباساً عن إخوان الصفاء. وكذلك ما كتبه ابن خلدون عن النجامة فهو يشبه، إن لم يكن هو، ما قرره إخوان الصفاء من قبل. . . وكم كان يسعدنا أن يتنبه إلى هذه الملاحظة الهامة كتابنا الإجلاء الذين ألفوا عن ابن خلدون. وقد تناول الأستاذ الحصري بالتفنيد ما يذهب إليه بعض العلماء من شعوبية ابن خلدون وحملته على العرب. ولسنا بمعرض مناقشة آرائه الآن، إلا أننا ننبه هنا إلى أن ابن خلدون كان متأثراً في هذه الحملة بما قرأ في رسائل إخوان الصفاء. . . وفي الرسالة الحيوانية مصداق لهذا كله
وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن الجزء الثاني لا نرى بد من التنويه بما أفاض فيه الأستاذ الحصري عن نظرية العصبية واتصالها بالاجتماع السياسي، ومناقشته لآراء المؤلفين الأجانب الذين عنوا بابن خلدون بصدد هذه النظرية. إنه فصل يستحق الأستاذ عليه ألف تهنئة
أما الجزء الثاني من هذه الدراسات العميقة القيمة عن ابن خلدون، فلسنا نعدو الحق إذا قررنا أنه خير ما قرأناه هذا العام (1944) في المكتبة العربية من نوعه، وإن كنا لا نطيق تأجيل عتبنا على الأستاذ للهجة التي ناقش بها آراء الدكتور طه حسين وخصوصاً تكراره ألفاظ:(ادعى فلان، وادعاء فلان، ويدعي فلان، وحظ أقوال فلان من الحق والصواب. . . ثم التعريض بمعلومات الدكتور العلمية حينما كان يكتب رسالته) إن هذا كله يثبت أن الأستاذ الجليل ساطع الحصري كان متحمساً وهو يكتب مؤلفه الخالد، فأوقعته حماسته فيما لا يناسب سجايا العلماء ولا سيما إن كانوا من طراز الأستاذ الحصري. . . ولندع ذلك الآن. . .
تناول الجزء الثاني الكلام عن التطور التدريجي في الطبيعة والمجتمعات وسبق ابن خلدون إلى إدراك مذهب النشوء والارتقاء قبل داروين بأحقاب طويلة، كما تناول الكلام عن المذاهب الأساسية في علم الاجتماع وما استحدث في هذا العلم من نظريات شتى، وما سبق إليه ابن خلدون من الإلماع إلى هذه النظريات، ثم ينتقل من هذا إلى الدولة وتطوراتها وعمرها واتساع نطاقها، ثم ما قرره ابن خلدون عن الحروب وأصلها والجيوش ومراتبها
ودواعي الانتصار أو الهزيمة وما يتصل بالدفاع عن الدولة. . . على أن أبدع فصول هذا الجزء - ولعل ذلك في رأيي - هي هذه التي تناول فيها الأستاذ المؤلف شرح آراء ابن خلدون وتحليله للنفس الإنسانية - وهو ما أؤكد للأستاذ أنه متأثر فيه أيضاً بآراء إخوان الصفاء - ثم هذه اللمحات الفريدة عن التربية والتعليم فيما يرى ابن خلدون وما جمعه الأستاذ المؤلف من المعلومات الطريقة عن أحوال التعليم في عصره، وما كان من حرية التعليم والتدريس وأنواع المساجد، وعدم إشراف الحكومة الرسمي على التعليم إلا في حدود (الحسبة) التي وصفها ابن خلدون بأنها (وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأن من اختصاص موظفي الحسبة (الضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها، في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين!). . . وأن مهنة التعليم في عهد ابن خلدون كانت من مهن المستضعفين؟! (ولا حول ولا قوة إلا بالله يا إخواني المدرسين!)، ومذاهب كل من الأقطار الإسلامية في تعليم الولدان. . . إلى آخر ما لا يتسع المجال لذكره هنا مع طرافته وإمتاعه. . .
وبعد. . . فلا بد من كلمة عن عدم العناية بمراجعة الكتاب أثناء الطبع. ذلك الأمر الذي أذاع في جوانبه الخطأ المطبعي، ولم يسلمه من وقوع بعض التعبيرات التي انزلقت إلى انحرافات نحوية كان من الممكن تجنبها لأنها تعد من الهنات، بل من الكبائر، التي لا يصح وقوعها من كبار مؤلفينا، وزعماء مفكرينا. . . ولسنا نرى داعياً إلى ذكر شئ من هذه الانحرافات، رجاء أن تنتهي الحرب قريباً فيطبع الكتاب طبعة أنيقة تليق بما يحمل من مادة خصبة وعلم غزير. . . هذا. . . وقد ابتدع الأستاذ المؤلف اشتقاقات، ونحت نِسَباً لا نرى ضيراً في إقرارها، وإن ثقلت في السمع أول الأمر، وذلك كعضواني ونفساني، والنظرة الحياتية - أي البيولوجية، والفلسجة الاجتماعية، ومرفجة العقلاني. . الخ. . . إن لم يضع مجمعنا اللغوي كلمات أجود منها لمرادفاتها الإفرنجية.
دريني خشبة
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
آمال يحققها الهلالي باشا
إن قراء الرسالة عرفوا ما انتهت إليه قضية المدرسين بالمدارس الحرة، فقد نشرت الجرائد اليومية خلاصة الخطب التي ألقاها رفعة النحاس باشا ومعالي الهلالي باشا وسعادة الدكتور طه بك حسين، ونقل المذياع تلك الخطب إلى جميع الأسماع
وأقول إن الذي يجب تسجيله هو تحقيق آمال المدرسين بالمدارس الحرة بعد أن كان تحقيقها من رابع المستحيلات، فهذا الوزير نفسه كان يستصعب حل هذه القضية، بدليل أنه لم يحلها في الوزارة الماضية، ولو لم يوفقه الله في هذه المرة لظلت تلك القضية عقدة العقد ومشكلة المشكلات إلى آخر الزمان
كان الأمل الذي أطمح إليه هو تعيين المدرسين بالمدارس الأجنبية على وظائف تذكارية، كالذي نصنع في معاملة المدرسين الذين نرسلهم إلى الأقطار العربية، وقد كتبت في تزكية هذا الاقتراح عدة تقارير، منها تقرير نشرته مجلة الرسالة منذ سنين بإمضاء مجهول
كان اقتراحي يبدو كأنه طيف الخيال، ولم أكن أصدق أنه سيتحقق، ثم كانت المعجزة الطريفة، وهي جعل المدرسين جميعاً في منزلة واحدة، بلا تفرقة بين المدارس الحرة والمدارس
وأعترف بأني أكاد أكذب ما قرأت وما سمعت، فهل من الحق أن وزارة المعارف رضيت وهي طائعة مختارة أن تجعل مدرسي المدارس الحرة في منزلة مدرسي المدارس الأميرية؟
أنا لا أصدق، فالمألوف أن تجود الحكومة بالخير بعد أن تدعى إليه ألوف المرات، ومدرسو المدارس الحرة لم الحرة لم يطلبوا يوماً مساواتهم بمدرسي المدارس الأميرية في جميع الحقوق، وإنما طلبوا حقوقاً سهلة هينة لا تزعج وزارة المعارف، هل طلبوا غير الترفق في تحديد المرتبات، وكانت من الضآلة بمكان؟
لأول مرة في تاريخ الحكومة المصرية يبذل الخير لمن لم يطلبوه، وهذه أريحية جديدة لم نعرف لها مثيلاً فيما سلف من العهود
الهلالي باشا يقول إن النحاس باشا هو صاحب الفكرة، والنحاس باشا يقول إن الهلالي هو
صاحب الفكرة، والنتيجة معروفة، وهي أن هذين الرجلين يتسابقان إلى الخير تسابق الجياد، أعزهما الله وكتب لهما دوام التوفيق
حكومة تثأر للأمة
قال الهلالي باشا في خطبته إن الأمة كانت أسبق من الحكومة إلى نشر التعليم، وتحدث عما صنع مصطفى كامل وسعد زغلول، ولم يفته النص على جهود الجمعيات الخيرية وجهود الأفراد، وهذه الالتفاتة هي أجمل ما ورد في خطبة الهلالي باشا، لأنها صورت هذه الوزارة بصورة الحكومة التي تثأر للأمة، وهذا معنى جديد، فقد كانت الحكومة تنظر إلى الأمة بمنظار يعف قلمي عن وصف مرآه الجميل!
تاريخ الجامعة المصرية
تحدث الهلالي باشا عن الجامعة المصرية الأولى، الجامعة التي أنشأتها الأمة، وقال إن حكومة ذلك العهد كانت تحارب الجامعة بحجة أن مصر لا تحتاج إلى جامعات وإنما تحتاج إلى كتاتيب!
فهل يذكر الهلالي باشا قيمة الإعانة التي كانت تقدمها وزارة المعارف إلى الجامعة المصرية بألفين اثنين من الجنيهات، ومع هذا كانت تماطل في الدفع، والشواهد تحت يدي، وسأقدمها إلى معالي الوزير إن أراد
لا موجب للتذكير بهذا التاريخ، فما تمثلته إلا توجعت مما كانت تصنع الحكومة في مغايظة الأمة. . . على تلك العهود ألف عفاء!
زكي مبارك وإعجاز القرآن
هذا عنوان الكلمة التي نشرها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي بمجلة الرسالة، وهي كلمة مؤذية سبقتها كلمات مؤذيات بقلم هذا الكاتب المفضال
هذا الكاتب يتحداني لأشرح ما غاب عليه من أسرار كتاب (النثر الفني)، وهو يرجو أن يجد فرصة جديدة تؤيد غرامه باتهامي في إسلامي
وأقول مرة ثانية إني لا أقيم لتحديه أي ميزان، ولن أعترف بأن من حقه أن يساجل صاحب النثر الفني، فقد ظهر أنه لم يفهم كتابي
قال هذا الكاتب إنه لا يبغي إلا أن يعرفني الناس فيحذروني؛ وهذا القول مسروق من كلامي، فقد نبهت الناس ألف مرة إلى أن يحذروني، لأني لا أبالي في الحق أي ملام، ولا ألتفت إلى أوهام المتزمتين
ثم دعاني هذا الكاتب إلى التبرؤ من كتال النثر الفني
لبيك، ثم لبيك، يا كاتباً يدعو إلى تبرؤ الآباء من نجباء الأبناء
كتاب النثر الفني كتابي، وقد استكثره ناسٌ علىَّ فزعموا أنه من وحي الجن، وليس بيني وبين الجنة نسب حتى أستوحي ما عندهم من آراء وأهواء، فهو كتابي، وقد سطرته بيميني في فورة شبابي، ولن أتبرأ منه ولو صرت معه إلى جهنم الحامية، فسأكون به أشرف مذنب يصطلي نار السعير، وفي جهنم مكان لأحرار الرجال
الجنة لا تستهويني، لأن الحياة فيها تخلو من المتاعب، وأنا أكره الحياة الخالية من المتاعب
مضيت مرة للبحث عن مكان هادئ في إحدى ضواحي باريس فوجدت بيتاً كتبت على بابه هاتان الكلمتان: فانزعجت، لأني أعرف أن الهدوء المطلق لا يكون إلا في مساكن الأموات
وفي بغداد اخترت داراً يجاورها مصنع حديد، لأفر من الهدوء المطلق
وبنيت داري بمصر الجديدة في مكان يجاور ضجيج الحياة، ولأسمع إشتجار المعاني في صدر الوجود
ماذا يقع إن كان مصيري إلى جهنم؟
تلك فرصة ثمينة أتذكر بها ذنوبي، وأعرف أن لي وزناً عند فاطر الأرض والسماء، وهل تكون جهنم نقمة وهي مكان التطهير من الذنوب؟
ليس الدين هو الباعث على محاربتك، إياي، فهنالك باعث آخر هو غرامك بأن يقرن اسمك باسم الدكتور زكي مبارك
أنا مفطور على التسامح، ولكني لن أسامحك، وسأدعو الله أن يغضب عليك، إلا أن تتوب، ولن تكون من التائبين
عند الله جزائي، فقد أكون أول مؤمن يعلن الكفر ليصحح عقيدة الإيمان. . . الله للمجاهدين، فلا تصدقوا من يزعمون أن الله للمنافقين
الفتنة نائمة
لقيني الأستاذ إميل بك زيدان في مكتبة المعارف فقال: (الفتنة نائمة) فابتسمت وقلت: (ولعن الله من أيقظها!). . . فهل فهم جوابي؟
إنه يشير إلى مقالاتي في مصاولة بعض أدباء لبنان، وأنا لم أكتب حرفاً واحداً في إيذاء الأدباء اللبنانيين، وإنما يتجنى فريق منهم علينا من يوم إلى يوم، ويقعون في أخطاء تنكرها الأذواق، فهل ثار الأستاذ أميل زيدان على تلك الأخطاء، وهو يعرف أن إخوانه هنالك هم الموقظون للفتنة والداعون إلى التفريق؟
لقد تعبت في معاتبة أولئك الرفاق، فما استمع مستمع ولا أجاب مجيب، فهل نلام على تذكيرهم بالواجب؟ وهل يكون من إيقاظ الفتنة أن نصحح تاريخ الأدب الحديث بعد أن طغى عليه التحريف؟
سأقول وأقول إن مصر هي باعثة الأدب العربي بعد أن طال عهده بالهجود، وسأذكر بالتفصيل ما أخذه الأدباء اللبنانيون عن الأدباء المصريين
نحن خلفاء العرب، والمصحف لا يطبع إلا في بلادنا، وسنرفع راية العروبة في جميع الميادين
من هؤلاء؟
جاءت مجلة الأديب البيروتية وفيها اتهام صريح بالدعوة إلى التفريق، اتهام موجه إلى (عصبة) تدعو إلى عزل لبنان عن الأمة العربية، وهي نفسها العصبة التي تتجنى على الأدباء المصريين من حين إلى حين
ولو كنت أعرف أن هذا هو رأى اللبنانيين في تلك العصبة لكففت قلمي عما جرى فوق صفحات جريدة المصري
ولهذا أعتذر لحضرة الأستاذ سهيل إدريس وأتلقى عتابه المنشور في مجلة الرسالة بأحسن القبول
الآن عرفت أن التجني على مصر لم يكن نزعة لبنانية، وإنما هو نزوة تطوف برءوس حرمها الله نعمة العقل، وكتب عليها الخذلان
محمد فهيم
اشتركت في الحفلة التي تقام لتكريم المربي الكبير الأستاذ محمد بك فهيم، ولكني لم أستطع الوصول إلى مكان الاحتفال بسبب الزحام، فلم يبق إلا أن أحييه بهذه الكلمات
إن لهذا الرجل تأثيراً في حياتي الأدبية، فهو الذي قهرني قهراً على السفر لخدمة العلم في العراق، وكانت حجته أن وزارة المعارف العراقية طلبتني باسمي، وأنه لا يجوز أن أرفض هذا التشريف، وبهذا قضيت في بغداد عاماً هو أجمل أعوام حياتي
وللأستاذ محمد بك فهيم خصائص يجهلها أكثر الناس، فهو على تحضره وغناه لا يزال يقيم في دار أبيه بجوار جامع شيخون، وهو يتصل بالريف كل أسبوع، بحيث يجوز أن أن نعده من أعيان الفلاحين
أما أدب النفس فخصيصة أساسية يمتاز بها هذا الرجل المهذب إلى أبعد حدود التهذيب
ولعل هذه الحلفة تردَّه بحرارتها إلى فورة العافية، فقد سمعت أنه كان مرض بضعة أسابيع
محمد فيهم أحد رجالنا الاماجد، وأنا أشترك في تكريمه بهذه السطور، وهي أقل ما يجب لمن يتحلى بمثل أدبه النفيس
زكي مبارك
صلات علمية
بين مصر والشام
في النصف الأول من القرن الثامن الهجري
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وما مناظرات ابن تيمية في مصر والشام إلا صورة مما كان يحدث في هذا العصر بين العلماء. وكانت الشغل الشاغل لهم، وكان أغلب القائمين بها من علماء السنة الذي وقفوا للمبتدعين بالمرصاد، كما كان بيت ابن تيمية هو البيت الديني الذي يحمل لواء أهل السنة ويتولى الرد على أهل البدعة. ويعاونه في ذلك أخواه شرف الدين وزين الدين. وقد كان لهما مناظرة في مجلس سلار نائب السلطان الناصر. فظهر شرف الدين بالحجة على مناظرهما ابن مخلوف المالكي. وكان الكلام هذه المرة في مسألة العرش وكلام الله وفي مسألة النزول.
ولقد حدثت بسبب هذه المناظرات فتن كثيرة في مصر والشام، واهتاجت لها الخواطر الساكنة. وانقسم الناس شيعاً كل واحدة تحارب غيرها، وسجن كثير من العلماء لمجرد التقول عليهم أو إطلاق الألسنة فيهم. وخاصة في دمشق التي وقع فيها خبط كثير وتشويش. فنادى نائب السلطنة المصرية في الشام ألا يتكلم أحد في العقائد. ومن عاد حل ماله ودمه وصودرت داره وحانوته؛ فهدأت الأحوال وسكنت الأمور
ولم يكن هذا الهدوء إلا لأجل قصير؛ فقد عادت خصومة العلماء في صورة اتهامات توجه إلى الأبرياء وغير الأبرياء. وهي اتهامات كان أقل ما عليها من المجازاة أن يعزر فيها المتهم تعزيراً عنيفاً، ويطاف به في البلدة على حال منكرة؛ كما حدث سنة 712 لابن زهرة المغربي الذي اتهمه بعض العلماء والصالحين باستهانته بالمصحف وخوضه في أهل العلم، فطيف به في دمشق وعذب وحبس
والحق أن (تنكز) نائب السلطنة المصرية في الشام كان دائم القلق مما يحدث بين العلماء وأهل المذاهب والعقائد، وكان لا ينظر بعين الرضى إلى أمثال هذه الحركات التي تجعل
بأس المسلمين واهيا. كان لا يريد إلا الإصلاح ما استطاع بين المختلفين فحينما حدثت الفتنة سنة 716 بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد أصلح بينهم في مجلس حافل بدار نيابة السلطنة وخرج المتنازعون على خير حال من التفاهم
وكانت تقوم إلى جانب العلماء والمدرسين وظيفة الخطيب وكانت الشهرة في المساجد الصغيرة كفيلة بإيصال الخطباء إلى المساجد الكبيرة، كالجامع الأموي والأزهر ومساجد المدن الكبرى في الشام ومصر. وكان لكل بلدة خطيب مشهور بجانب عدد آخر من الخطباء المغمورين. فاشتهر بالخطابة الجامع الأموي بدمشق الشيخ زين الدين الفارقي وتولاها بعد وفاته شرف الدين الفزاري. واشتهر بالخطابة في بعلبك ضياء الدين ابن عقيل وأبوه جمال الدين، وقد توليا الخطابة في هذه البلد ستين عاما واشتهر بالخطابة في مصر بهاء الدين السكر وشمس الدين الجزري خطيب جامع ابن طولون ونور الدين القسطلاني خطيب جامع عمرو بن العاص
ولم يكن للخطيب أن يقضي بين الناس أو يفصل الخصومات فذلك شأن القاضي الذي يعينه قاضي القضاة ولكن حدث أن خطباء انتدبوا لمهمة القضاء، كما حدث بعض القضاة انتدبوا للخطابة. فنرى في حوادث سنة 706 في تاريخ إبن كثير أن سليمان بن هلال بن شبل الخطيب انتدب للقضاء بدلاً من القاضي جلال الدين القزويني الذي كلف بالخطابة عوضاً من القضاء
وكان بعض الخطباء يتولون التدريس، كما أن بعد القضاة يجمعون بين الحكم والتدريس كالقاضي على بن صفي الدين الحنفي الذي تولى قضاء الحنفية في دمشق مع ما بيده من التدريس
كان منتصف القرن الثامن الهجري مملوءاً بالأحداث الجسام كما سلف القول؛ فالتتار على أسوار دمشق، وقبائل العرب في مصر العليا شقت عصا الطاعة على الملك الناصر في مدة سلطنتة الثانية، والصليبيون قدموا باتفاق أمير قبرص لغزة دمياط. وألمماليك منقسمون على أنفسهم؛ ففريق مع السلطان الناصر المتخلي عن عرشه، وفريق آخر مع الأمير بيبرس، وفي وسط هذه التيارات القوية نجد العلماء يحرضون على مقابلة التتار، ويدعون لمحاربة الصليبيين، ويقيمون المناظرات الدينية عوداً إلى عهود الجدل والكلام؛ ولكنهم مع
ذلك كله لا يخوضون في حديث السياسة الداخلية، ولا يتكلمون فيمن تولى وفيمن عزل؛ فذلك ليس من شأنهم، فإذا نزل أحدهم ميدان السياسة عرض نفسه للعزل كما حدث لسليمان بن حمزة قاضي الحنابلة بدمشق الذي عزل بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن عرشه مكرهاً لا مخيراً، وكما حدث للشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي شيخ الشيوخ بمصر الذي كان على صلة بأمراء المماليك، وكان له هوى سياسي معين، فعزل عن منصبه الرفيع وعين بدلاً منه ابن جماعة المشهور
ولم تكن المرأة المصرية أو الشامية جملة بمعزل عن مجالس العلماء في ذلك العصر؛ بل كان بعض النساء يترددن على هذه المجالس ويستمعن إلى الدروس ويناقشن في المسائل. فالسيدة فاطنة بنت عباس البغدادية كانت تحضر مجلس ابن تيمية، وكان هو يستعد لها بسبب كثرة مسائلها وحسن أسئلتها وسرعة فهمها. ويذكر ابن كثير المؤرخ أنه سمع ابن تيمية - وكان معاصراً له - يثنى عليها ويصفها بالفضيلة والعلم. والشيخة الصالحة ست الوزراء بنت عمر بن أسعد كانت تروى صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث. وكانت تحدث الرجال بحديث الرسول عليه السلام
ولا شك أن ابن تيمية كان أشهر العلماء بين مصر والشام في ذلك العصر، فقد شغل الدنيا كلها بمسائله ومناظراته ومجالسه وقد جمع إلى ذكاء العقل وسرعة الفهم والشجاعة في الحق وعدم الخشية في سبيل الله. وله مع قازان ملك التتار مواقف مشهورة ذكرها الشيخ محمد البالسي زميله في وفد العلماء إلى قازان. فقد قام ابن تيمية يهدر كالسيل لم يخش أحداً ولم يجامل سلطاناً ولم يتملق حاكماً. ولكن الله أجرى الصراحة على لسانه؛ وأودع الشجاعة في قلبه، فإذا به يخاطب ملك التتار قائلاً: أنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت
ولد هذا الإمام بحرَّان ونشأ وتعلم بدمشق، ودرس بغزة وأوذي أولاً واكرم أخيراً في مصر، وتوفى بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً فيها أيام محنته الأولى بعد أن أكد صلات العلم والدين بين القطرين الشقيقين في الربع الأول من القرن الثامن الهجري.
محمد عبد الغني حسن
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
كانت الخلافة من أهم الأمور التي فرقت صفوف العرب والمسلمين، ذلك لأن الخليفة هو الذي يتولى أمور المسلمين الدينية والدنيوية. وهذا مقام رفيع دونه كل مقام في الإسلام يطمع فيه القوي. وقد تطاحنت الأسر القرشية في سبيلها منذ صدر الإسلام. وحاول كل حزب أن يجعل له صبغة دينية يقوى مركزه بها بين الأحزاب المعارضة، فظهر في الإسلام فرق وطوائف عديدة كان الكثير منها دعوة دنيوية ولكنها تسير تحت ستار من الدين. وبعد القضاء على الحركة تبقى صبغتها الدينية بين أتباعها وتستحيل إلى مذهب ديني. وعلى مر الدهور يتطور هذا المذهب ويدخله الأساطير والتعاليم الشاذة. ولربما استحال إلى دعوة هدامة أو مذهب مغال أو فرقة باطنية منفصلة عن الإسلام. والتتبع لتاريخ الإسلام يرى الكثير من هذا. فحركات الخوارج، وحركة المختار الثقفي، والقرامطة، والفاطمية والدروز، والنصيرية، كلها نشأت وتطورت على هذا المنوال
وأصل اليزيدية فرقة إسلامية أموية سارت باسم الدين إلى مناصرة بني أمية في الخلافة والدفاع عنهم وناوأت (آل البيت) - أقوى حزب ناضل الأمويين - وعلى مر العصور تطورت إلى فرقة صوفية (عَدَوية) على يد رجل أموي، ففرقة مغالية في حب (يزيد بن معاوية)، ففرقة خارجة عن الإسلام. كل ذلك كان في سبيل الخلافة وإرجاعها إلى بني أمية بعد سقوط دولتهم في الشرق
إن أقوى نزاع شهده العالم الإسلامي على الخلافة هو النزاع بين العلويين والأمويين. ذلك لأن العداوة بين بني أمية وبني هاشم قديمة. ففي الجاهلية تنازعوا على زعامة مكة. وفي الإسلام تجدد النزاع على الخلافة بعد مقتل (عثمان) فشق على الحزب الأموي أن تخرج الخلافة منهم بعد أن نالوها. خاصة وأن (الإمام علياً) عزل ولاة (عثمان) فهل يرضى (معاوية) أن يترك (الشام) وما فيها من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم بعد أن حكمها عشرين عاماً؟ أنكر بيعة (علي) ودعا لنفسه واستعمل دهاءه وكرمه في جلب دهاة العرب إليه فقوى أمره، وبعد مقتل الإمام (علي) تنازل (الحسن) عن الخلافة وصار الحزب الأموي هو الحاكم المطلق في الدولة
ولم يكن (معاوية) بالخليفة المستضعف، بل ساس الناس بحلمه وجوده. فعفا عن المذنب وتجاوز عن المسيء وأغدق عطايا عل كل قاصد، كما سل سيفه على من لم تنفع معه هذه الطرق فانقاد له الناس راغبين أو راهبين
وبعد وفاة معاوية تولي ابنه (يزيد) على كره من أولاد الصحابة فثارت الأحزاب المعارضة، وأشدها الحزب العلوي فكانت فاجعة (كربلاء) التي أججت الأحقاد؛ واستمرت الثورات العلوية حتى انقراض الدولة الأموية وكانت هذه الثورات من أهم العوامل التي قوضت أركان الدولة
وبعد سقوط الدولة الأموية انعكست الآية فانتقم العباسيون من الأمويين شر انتقام، حتى الأموات فإنهم لم يخلصوا من التمثيل بهم. وصار الحزب الأموي هو المستضعف في البلاد وأخذ الأموين يلجأون إلأى الجبال والأماكن النائية عن النفوذ العباسي. ولكنهم لم يعدموا الأنصار، كما أنهم لم ييأسوا من الخلافة، بل أحيوا النعرة الدينية التي كانت لحزبهم وأخذوا يزيدون عليها. ونراهم قد قلدوا العلويين أو من قام باسمهم في ادعاءاتهم هذه. وهذه النعرة الدينية لحزبهم كانت منذ أول عهدهم بالخلافة تسير أثر الدعوة العلوية؛ ولكن الأمويين خلال حكمهم لم يهتموا بها لاعتمادهم على بطشهم ونفوذهم. وأما بعد سقوط دولتهم فإنهم صاروا مستضعفين في الأرض فتدرعو بالدين ليستروا تحته دعوتهم للدنيا. وهذا أول ظهور الطائفة اليزيدية.
ومن الأدلة التي تثبت أن أصل العقيدة اليزيدية هي حركة أموية مضادة لآل البيت:
1 -
يوم عاشوراء: في هذا اليوم قتل (الحسين) عليه السلام فهو يوم كرب وبلاء على العلويين يظهرون فيه من العزاء والنياحة والحزن على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لا نشاهد مثله في غيره من الأيام. ونجد الضد من هذا عند الأمويين، فإن الحجاج سن لأهل (الشام) أن يتخذوا هذا اليوم يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم وينبسطون في المطاعم ويصنعون الحلوى، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون ويدخلون الحمام ليرغموا بذلك شيعة (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه. واستمر الأمر على ذلك عند الحزب الأموي بعد سقوط دولتهم، وهذا ما نراه عند اليزيدية فإنهم يتخذون هذا اليوم يوم سرور يخرجون بزينتهم إلى ظاهر قراهم ويرقصون رقصاتهم الشعبية على ضرب الطبول ونقر
الدفوف، ويمرحون ويلعبون؛ ويصورون تماثيل من الطين لشهداء كربلاء يهجمون عليها برماحهم ويفتكون بها ويطؤونها بخيولهم. كل ذلك لأن إلههم (يزيد) ظفر بعدوه (الحسين) في هذا اليوم وقتله.
2 -
المهدي المنتظر والسفياني المنتظر: يعتقد الشيعة أن
المهدي المنتظر سيظهر في آخر الزمان وسيملأ الدنيا عدلاً
كما ملئت ظلماً وجوراً. وادعى الأمويون مقابل هذا: سيظهر
من أولاد أبي سفيان من يكون أمره كأمر (المهدي المنتظر)
وهو (السفياني المنتظر). وزاد بعلق الأمويين بهذا الادعاء
بعد سقوط دولتهم فصاروا يترقبون ظهوره. وقد ذكر
(المسعودي) أنه وجد ببلاد (طبرية) من بلاد الأردن في سنة
324هـ أحد علمائهم وقد ألف كتاباً بهذا وأنه ذكر فيه (من
ظهور أمرهم ورجوع دولتهم وظهور السفياني في الوادي
اليابس من أرض الشام، وإنهم أصحاب الحيل الشهب
والرايات الصفر وما يكون لهم من الوقائع والحروب
والغارات والزحوف الخ. . .) وهذا ما نجده عند اليزيدية،
فإنهم يعتقدون أن (عدياً) وهو رجل أموي سيظهر في آخر
الزمان وسيكون أمره كما تقدم، ويسميه بعضهم بالمهدي.
وعندهم طبقة دينية يسمون (خدام المهدي)
3 -
يذهب الحزب العلوي أن (علياً) وأولاده أحق بالخلافة وأن الحسين قتل مظلوماً.
وبالضد من هذا يدعي الأمويون أنهم أحق بالخلافة وأن الحسين قتل بسيف الحق لأنه خرج على الإمام المبايع. وأخذ كل فريق يعزز مدعاه ونغالي في تعظيم الذي يدعو إليه، ويحاول أن ينقص من قيمة الحزب المعارض. وما زال هذا الأمر والمغالاة تزداد عند الفريقين حتى أدى إلى أن تعتقد بعض الفروق المغالبة أن علياً أحق بالنبوة من محمد، وأن البعض الآخر ذهب إلى أعظم من هذا، فادعى ألوهيته. وكذا الأمر في (يزيد) فإن مناصريه ادعوا أنه كان إماماً عادلاً هادياً مهدياً، وأنه كان من الصحابة بل من أكابر الصحابة، وأنه كان من أولياء الله تعالى، ثم اعتقدوا أنه كان من الأنبياء وقالوا (من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم)، ثم ذهبوا إلى أعظم من هذا فقالوا بألوهيته. وهذا ما يعتقده اليزيدية أن (يزيد بن معاوية) هو ألههم. ونجد قرى (الشبك) والتركمان، والصارلية، والجيجية حول الموصل، والبابوات في قضاء سنجار، وهم الذين يغالون في (الإمام علي) على مقربة من مواطن اليزيدية الذين يؤلهون (يزيد بن معاوية)
4 -
اللعن: بعد أن خدع (عمرو بن العاص)(أبا موسى الأشعري) في مؤتمر (اذرح) صار (الإمام علي) يلعن معاوية وعمراً ومن والاهما بعد كل صلاة، وقابله معاوية بالمثل. وبعد مقتل (الإمام علي) استمر الأمويون يلعنون أبا تراب بعد خطبة صلاة الجمعة. ولما تولى (عمر بن عبد العزيز) الخلافة رفع هذه السنة السيئة ووضع مكانها (إن الله يأمر بالعدل والإحسان. . . الآية)، ولكن بعض أنصار الحزب الأموي المغالين لم ينتهوا عن هذا. فأهل (حرَّان) امتنعوا عن الصلاة وقالوا:(لا صلاة إلا بلعن أبي تراب) واستمروا على ذلك، حتى ظهور الدعوة العباسية. وكان العلويون يقابلون هذا اللعن بأكثر منه، وزادوا فيه بعد واقعة (كربلاء)، وصار اللعن يوجه بصورة خاصة إلى (يزيد). أما الشيخ (عدي) فإنه لما رأى تفاقم الأمر عند الفريقين، وأن هذا مناف للتعاليم الإسلامية، وأن من الصعب أن يكف أحد الحزبين عن لعن الآخر، حرم اللعن مطلقاً. ولكن الفكرة تطورت إلى أبعد من هذا عند اليزيدية، فإنهم حرموا اللعن حتى على الشيطان. ومع أن اللعن صار من المحرمات عندهم؛ فإن يزيدية (جبل مقلوب) استمروا على الطعن في علي وأولاده في أيام الجمعة والعيدين، كما كانت عليه العادة في الدولة الأموية. وكان فيهم فرقة مغالية جداً في اللعن تقف مصلتة السيوف وتلعن (علياً) وأولاده، ويقال لهم (السيافة) واستمر الأمر على ذلك
إلى القرن الحادي عشر الهجري
(للحديث صلة)
سعيد الديوه جي
بالموصل
سجاد الأناضول
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
عشاق
مدينة عُشَّاق في داخل بلاد الأناضول خلف ميناء أزمير، وهي - وما يحيط بها من البلاد والقرى - مشهورة بصناعة السجاد حتى وقتنا الحاضر، وإن كانت الصلة قد انقطعت بين السجاد القديم الذي كان ينسج بها منذ بداية القرن السادس عشر حتى سنة 1750، وبين السجاد المنسوج بعد هذا التاريخ، إذ أن الأخير تأثر كثيراً بالذوق الأوربي
ويشبه سجاد عشاق القديم من حيث زخارفه السجاد الإيراني المنسوج في أوائل العصر الصفوي. وتتألف زخرفته من أشكال نجمية كبيرة، أو من جامات بيضاوية مدببة الطرفين، تذكرنا بالوحدات الزخرفية المستعملة في تذهيب المصاحف، وتزين الأركان بأربعة أنصاف جامات، وتنتشر على الأرضية زخارف نباتية دقيقة وفروع مهذبة. وبزخرف إطار السجاد بفروع مزهرة أو بسحب صينية. أما ألوانه فهي أناضولية في جملتها، ويمتاز بالألوان الدافئة، فتلون الأرضية بالأزرق القائم، والإطار بالأحمر الباهت أو بالعكس، والزخارف بالأصفر والأخضر النباتي والأزرق الفاتح والأبيض الناصع
ويختلف سجاد عشاق في مساحاته فيبلغ أحياناً التسعة أمتار طولاً وما يناسب ذلك في العرض وفي المعرض المقام الآن في دار الآثار العربية عدة نماذج طيبة من سجاد عشاق
هولباين
هو اسم لعائلة من مدينة (بال) اشتهر بعض أبنائها فيما بين سنتي 1460 و1543 بالرسم والتصوير. ويسمى هذا النوع من السجاد المصنوع في الأناضول باسم (هولباين) لأننا نراه مرسوماً في الكثير من لوحات أبناء هذه العائلة، ولوحات المصورين الإيطاليين المعاصرين لهم. ويظهر أنه كان النوع المحبب لدى الأوربيين في ذلك الوقت، والغالب أنه كان النوع المحبب لدى الأوربيين في ذلك الوقت، والغالب أنه كان يصنع في بلاد الأناضول للتصدير إلى أوربا، لأن ما عثر عليه منا في بلاد الشرق قليل جداً
ويمتاز هذا السجاد بعنصر زخرفي خاص به، يمكن تمييزه بسهولة، ويتألف من رسوم نباتية ذات مظهر تنقصه المرونة مرسومة في خطوط مستقيمة وزوايا محددة، بطريقة مهذبة تميل في شكلها نحو الرسوم الهندسية، وفي وحدات زخرفية متماثلة يقرب بعضها من بعض. ويزين الإطار في القديم منه بما يشبه الكتابة الكوفية، وفي المتأخر - من أوائل القرن السابع عشر. بفروع نباتية أو بسحب صينية مهذبة على طريقة الأناضول وتلون الأرضية غالباً باللون الأحمر الباهت، والزخارف باللون الأصفر الذهبي، والإطار بالأزرق الفاتح
وفي (شكل 1) بساط من أوائل القرن السابع عشر، أرضيته بالأحمر الباهت عليها بالأصفر الذهبي وحدات زخرفية من نوع هولباين، والإطار باللون الأزرق الفاتح، تزينه فروع نباتية مهذبة. وهذا البساط في مجموعة المسيو كريستيان جراند.
الابسطة ذات الطيور
تعرف بهذا الاسم لأنها تزين بوحدة زخرفية تتألف من شكل هندسي بطرفين مدببين يشبه كل منها رأس طائر، وتتكرر هذه الوحدة الزخرفية - في الغالب - على أرضية بيضاء. ويشبه إطارها إطار الأنواع الأخرى القديمة. ويرجع تاريخ هذا النوع إلى ما بين أوائل القرن السادس ومنتصف السابع عشر. وفي مجموعة معالي الدكتور علي إبراهيم باشا بساط من هذا النوع معروض الآن في دار الآثار العربية
تشنتماني
لهذا النوع من السجاد صلة كبيرة بالنوع السابق ذي الطيور. فكل منهما يماثل الآخر في شكل زخرفة الإطار الذي يحيط غالباً بأرضية بيضاء عليها نوع من زخرفة رمزية، كما أن كل منهما يصنع في بلاد الأناضول ومعاصر للآخر
ويمتاز هذا النوع بتكرار الوحدة الزخرفية المعروفة باسم (تشنتماني) وتتألف من خطين متموجين أو متعرجين، ويعلوهما ثلاث كور في وضع مثلث الشكل. وهذه الكور الثلاث هي إحدى العلامات المقدسة في تعاليم ديانة البوذيين، وترى كثيراً على التحف الصينية، وقد كانت كذلك مرسومة على رنك القائد العظيم تيمورلنك عندما فتح الأناضول في سنة
1402م، وقد يفسر هذا ظهور وحدة (تشنتماني) الزخرفية في سجاد الأناضول
وفي (شكل 2) بساط من أواخر القرن السادس عشر، أرضينه بيضاء، تتكرر عليها وحدة (تشنتماني)، وإطاره مزين بشريط من شبه الكتابة الكوفية. وهو في مجموعة معالي الدكتور علي إبراهيم باشا.
(يتبع)
محمد مصطفى
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
522 -
ولا يوم الطين. . .
قال لسان الدين بن الخطيب: رأت زوجة المعتمد بن عباد الرميكية الملقبة ب (اعتماد) ذات يوم بأشبيلية، نساء البادية يبعن اللبن في القرب، وهن رافعات عن سوقهن في الطين. فقالت له: يا سيدي، أشتهي أن أفعل أنا وجواري مثل هؤلاء النساء
فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طيناً في القصر، وجعل لها قرباً وحبالاً من أبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين. ولما خلع، وكانت تتكلم معه مرة، جرى بينهما ما يجري بين الزوجين فقالت له: والله ما رأيت منك خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين. . .؟ تذكيراً لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال مالا يعلمه إلا الله، فاستحيت وسكتت
523 -
فهات شرابك العطر العجيبا
في (شرح الكبير للشريشي): كان أبو محمد البصري تاب وحج، فلما قفل راجعاً بدا له في شرب الخمر فقال:
ألا يا هندُ، قد قضَّيتُ حجَّي
…
فهاتِ شرابَكِ العَطِرَ العجيبا
فقد ذهبت ذنوبي بالليالي
…
فقومي الآن نقترف الذنوبا. . .
524 -
قإن الحد قد جاوز الحدا. . .
في (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي في سنة (667) أمر السلطان (الظاهر بيبرس) بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطئ بالديار المصرية، وكتب بذلك إلى جميع بلاده، وأمسك كاتباً يقال له: ابن الكازروني وهو سكران، فصلبه، وفي عنقه جرة الخمر! فقال الحكيم ابن دانيال:
وقد كان حدُّ السكر من قبل صلبه
…
خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جَلْدا
فلما بدا المصلوبً قلتُ لصاحبي:
…
ألاُ تبْ؛ فإن (الحدَّ) قد جاوز الحد!!
525 -
الصريح لا يعارص من بالمؤول
قال الصفدي في شرح لامية العجم: أنشدت بعض المولعين بالكيمياء قول القائل:
أعيا الفلاسفةَ الماضين في الحِقَبِ
…
أن يصنعوا ذهباً إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة
…
إلا من الفضة المعروفة النسب
فقل لطالبها من غير معدنها:
…
أضعت نفسك بالتنكيد والتعب
فقال لي: صدق. لو لم يكن الذي يدبره الصانع في أصله ذهباً بالقوة لما صار ذهباً بالفعل فقلت له: هذا من باب التأويل وإخراج اللفظ الظاهر عن الصريح إلى ما لا يفهم منه إلا بالاحتمال؛ والصريح لا يعارض بالمؤول، ولو أراد الإنسان أن يجعل معلقة امرئ القيس مرثية في قط، أو غزلاً في فيل، لما أعجزه ذلك. . .
526 -
حمى الروح
قال بعض الملوك لطبيب: جس نبضي، فجسه، فقال له: مزاجك معتدل، إلا أني أرى فيه تكديراً. فهل جالسك اليوم ثقيل؟ قال: نعم
قال له: لا تعد تجالس الثقلاء فإنهم حمى الروح
527 -
وذا يقول استرحنا
قال السبكي: أنشدني بعضهم في قاضيين غزل أحدهما وولى الآخر
عندي حديث ظريف
…
بمثله يُتّغنى
في قاضيين يُعزّى
…
هذا، وهذا يُهنّا
هذا يقول: جُبِرْنا
…
وذا يقول استرَحْنا
ويكذبان جميعاً
…
ومن يصدق منا؟
محمد إسعاف النشاشيبي
البريد الأدبي
قنا وأسوان
ما زال السيل الجارف من التبرعات الكريمة ينهال على منكوبي قنا وأسوان، كما تنهال صبابات الماء على اللاهث المحرور فتنعش من روحه ومن بدنه. وما برحت جهود الحكومة وعلى رأسها مليكنا المعظم تتوالى على القوم بما يكشف ضرهم ويخفف من بلواهم. وإن العوامل التي تحفزنا إلى معونة هؤلاء البائسين لمتعددة ومعروفة؛ ولكنا قد نضيف إليها عاملاً جديداً بما نحاوله هنا من الإشارة إلى حال هذا الإقليم من الرقي والرفاهة في سابق عهوده.
فقد غبرت قرون كثيرة وتلك المنطقة من صعيد مصر تكاد تبز سائر المناطق خصباً وحضارة وعلماً ورقياً وعمراناً. وكانت أسماء المرج وسمهود وبهجورة وفاو ودشنا وهو وفرجوط وقنا وقفط ونقادة وقوص وقمولا والأقصر وأرمنت وأسفون وإسنا وأدفو وأسوان - تحتل كلها رأس القائمة بين كبريات المدن التي يؤمها أهل الوطن أو النازحون إلية من سائر الأقاليم. فثمت كان العلم والمال والجاه جميعاً. وهنالك كان الهدى والغي لمن يلتمس أحدهما أو كليهما، على حد قول قائلهم - في أسوان:
أسوان في الأرض نصف دائرة
…
والخير فيها والشر قد جُمعا
تصلح للناسك التقى إذا
…
أقام، والفاتك الخليع معا!
وكانت خصوبة هذا الإقليم وعذوبة مائه مما يضرب بهما المثل، ولا تستنكر عند ذكرهما المبالغة. قال السديد الدمياطي: انتهيت في السفر في الوجه القبلي إلى هو، وبين مائها وماء مصر كماءٍ بسكر وماء صرف!
وقد ذكر كمال الدين الأدفوي صاحب كتاب (الطالع السعيد، الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد) أن الفدان في هذا الإقليم ينتج ثلاثين إردباً من البرسيم ومن الشعير أربعين، ومن الذرة أربعة وعشرين أو ما يقارب ذلك
وذكر أيضاً أن منطقة إسنا أنتجت في بعض السنين أربعين ألف إردب تمراً، واثني عشر ألف إردب من الزبيب. وأنه تحصل من مدينة أسوان سنة ست وثلاثين وسبعمائة ألف إردب من التمر. قال: (وأخبرت أن نخلة بالقوسة من عمل المرج، وأخرى بقمولا، حصل
من كل منهما اثنا عشر إردباً من التمر)
وكان عنب هذا الإقليم - كسائر فاكهته - من أعجب ما وقع عليه الناس. وزنوا حبة منه بمدينة أدفو فبلعت عشرة دراهم، كما روى الأدفوي في موضع من كتابه المذكور
وقال في موضع أخر إن بطيخ هذه البلاد وافر الحجم (بحيث ما يكاد يستقل بحمل الحبة الواحدة إلا الرجل الشديد القوة)
هذا وقد كان طريق الحج بين قنا وعيذاب. مما يزيد في تقدم هذا الإقليم وثراء أهله؛ ومنه اجتاز أكثر الرحالين المشهورين على فترات من التاريخ متباعدة
وإن الحديث ليطول على من يحاول التنويه ببعض من أنجبت هذه البلاد من العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين، وغير أولئك من ذوي الفضل والجاه. فلنكتف - الآن - بهذه الإثارة من تاريخ القوم وبلادهم؛ ولنعلم أنها بلاد كانت من العز والنعمة بمكان فشقيت وذلت؛ وأنه لم يكن عجيباً - في فترة ما - أن يهتف شاعر من أبنائها ضاقت نفسه بإقفار مدائن الشمال؛ فيقول صادقاً:
لهفيِ على قوصٍ ولو أنني
…
أكون من حُرَّاس أبنائها!
(جرجا)
محمود عزت عرفة
مجمع فؤاد الملكي للغة العربية
اجتمع مؤتمر المجمع ستة أسابيع متوالية من 15 يناير سنة 1944 عقد خلالها ثماني عشرة جلسة شهدها حضرات الأعضاء المقيمين بمصر والوافدين من الخارج
وقد عرضت خلال هذه الجلسات طائفة من المسائل، منها: ما يتعلق بالمصطلحات العلمية في علوم الجراثيم والأمراض والرمد وغير ذلك من فروع الطب، ثم في مصطلحات لمقدمة القانون والأموال والالتزامات وغيرها من فروع القانون فأبديت في بعضها ملاحظات، وقرر المؤتمر أن يتولى حضرات الأعضاء الممثلين للبلاد العربية عرض هذه المصطلحات على الهيئات العلمية المختصة في بلادهم لموافاة المجمع بالرأي فيها، كما قرر أن يتصل المجمع بالهيئات الرسمية في البلاد العربية لهذا العرض
وكذلك نظر المؤتمر في اقتراحات مختلفة منها ما يتعلق بوضع معجم لغوي لألفاظ القرآن الكريم على أسلوب ميسر يقتصر فيه على شرح المفردات اللغوية شرحاً دقيقاً وافياً. فوافق المؤتمر عليه وألف لجنة لذلك
ومنها ما يتعلق بقياسية بعض الصيغ الصوفية التي يحتاج إلى استعمالها بكثرة فأقرها المؤتمر معتمداً في ذلك على أقوال بعض علماء الصرف والاشتقاق
ومنها ما يتعلق بتيسير بعض قواعد اللغة ومثلها فقرر المؤتمر أن يحال هذا الاقتراح وما دار فيه من مناقشات إلى لجنة الأصول لدرسه مفصلاً وتقديم تقرير بما تراه إلى المؤتمر في اجتماعه المقبل
ومن الاقتراحات كذلك ما يتصل بتيسير الكتابة العربية إما بوصل علامات للحركة والسكون ببنية الحروف، وإما باتخاذ حروف لاتينية تضم إليها بعض الحروف العربية، وناقش المؤتمر هذين الموضوعين ورأى أن ينشر ما قيل فيهما من آراء وردود في مختلف الهيئات العلمية بمصر وغيرها لكي يتيسر للجنة المختصة جمع ما يمكن جمعه من الآراء المختلفة فيهما وما قد يرد إليها من مقترحات أخرى في هذا الموضوع وذلك تمهيداً لوضع تقرير يعرض على المؤتمر في اجتماعه المقبل
واقترح أن يطلب وضع جائزة مالية لمن يقترح من غير أعضاء المؤتمر مشروعاً في ذلك ينال القبول
1 -
الشعر الجديد وطاقات الريحان والورد والنقد
ما عرفت أستاذنا الكبير (ا. ع) ورعاً عند اللقاء هيوباً؛ ولا عرفته جبان القلب نكس اللسان. فهو يستطيع في عفة قول، وشرف كلام، وصواب منطق، وحسن نية أن يوجه المتخلفين من شعراء هذا الزمان إلى قصد الطريق
وليس بعذر من أستاذنا الكبير - ا. ع - أنه يتهيب ألسنة الشعراء المنقودين أو يخشى عواءهم. فمن كان مثل الأستاذ في المكانة والقصد لا يضيره عواء ولا هراء
ومتى كان المعلمون الأفاضل وشيوخ اللغة والأدب يتوقون ما يجره عليهم النقد من اجتراء السفهاء وسلاطة النوكي؟
الحق أن الأستاذ الفلسطيني الجليل، والأستاذ المصري الكبير، هما أجل قدراً من أن يتأثرا
بما يتعرضان له من خصومة المغرورين من شعراء زماننا؛ وهما - في الوقت نفسه - أكبر من أن يضنا على (الشعر الجديد) بتوجيه سديد ورأى مفيد
أما إرسال الكلام على وجه التعميم، من غير أن تبين مواضع النقد، فذلك ما لا يرجى معه للشعر صلاح
وإني لأعرف من صراحة الأستاذين: (الجليل) و (الكبير) ما يطمعني في الرجاء منهما أن يفصلا النقد، ويبينا القصد. وبذا تكون لهما على الشعر الحديث يدٌ أي يدٌ. والسلام عليهما ورحمة الله
2 -
أقوى من الموت
هذا الكتاب ألفه أيليا أهرنيورغ، وترجمه قدري قلعجي ونشرته مجلة الطريق ببيروت
والكتاب قوي العبارة، كأن كاتبه استمد من نيران الحرب، ولفح المعارك لفح عبارته. فقد كان في باريس يوم دخلها الألمان، وشهد بعض المواقع في روسيا، ورأى بعينيه روعة التضامن في معارك (رجيف)
وأسلوب الكاتب لاذع حاد. وكأن الأستاذ قدري قلعجي أمين في نقل تلك السلاطة والحدة إلى اللغة العربية. . .
وفي الكتاب تصوير لمواقف رائعة في سهول روسيا ووديانها. وجميل من المؤلف أن يكون وفياً لوطنه وهو على شفا حفرة من الموت. وجميل من المترجم الفاضل أن يترجم هذه المواقف الرائعة إلى اللسان العربي؛ ولكن أجمل من ذلك كله أن يتجه المترجم إلى مواقع اليرموك والقادسية وحض بابليون وذات الصواري فإنه واجد فيها أمثلة رائعة من البطولة العربية التي تبرز على حال من الروعة في مثل قلمه البليغ وأسلوبه الطريف
محمد عبد الغني
1 -
تلاقي الأكفاء
يمتاز الأستاذ الزميل على أدهم بتعمقه في جميع الدراسات التي يتناولها وحسن هضمه لهذه الدراسات، فهو من خيرة الكتاب ذوي الاطلاع الواسع في مصر وفي الشرق العربي. وكتابه الجديد (تلاقي الأكفاء) شاهد على ما نقول. وقد جمع فيه بحوثه القيمة التي نشرت
من قبل أو لم تنشر في الأدب والتاريخ فسد بها المكتبة العربية فراغاً ملحوظاً. . . ولست أدري إن كان يحق لي أن أقترح على زميلي العزيز أن يكرس جهوده كلها للتاريخ الإسلامي؟ وهل يتقبل مني هذا الاقتراح الذي لا ينتقص شيئاً من سعة اطلاعه على التاريخ العام؟ إن قلم الأستاذ أدهم في التاريخ الإسلامي هو قلم ممتاز واسع الإحاطة، جميل العرض وخليق بالقلم الذي أنشأ صقر قريش، والمنصور بن أبي عامر (إن صح أن أبشر بظهوره قبل أن يصدر قريباً إن شاء الله)، وهذه الفصول الضافية التي شملها (تلاقي الأكفاء) عن أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني والحكم أمير الأندلس وبطل وقعة الزاب عبد الله بن علي. . . خليق بهذا القلم أن يفرغ للتاريخ الإسلامي العتيد فيدبج من فصوله كثيراً من الروائع التي أوشكت اليوم أن تنسى. وكم كنا نتمنى لو تذكر الأستاذ المؤلف مصر والمصريين فيترجم في مجموعته البديعة لزوج أو زوجين من أكفائها الذين لا يقلون عبقرية عمن ترجم لهم وقابل بينهم. . . مثل: محمد علي والسيد عمر مكرم، أو محمد علي والبرديسي، أو إسماعيل العظيم وإسماعيل المفتش، أو مصطفى كامل وعلي يوسف، أو المتنبي وكافور. . . إلى آخر ما يزخر به التاريخ المصري من الأبطال الذين تلاقوا وجهاً لوجه، وعسى أن يستدرك هذا في أجزاء الكتاب التالية مع تهنئاتنا الخالصة وإعجابنا الشديد.
2 -
ألوان من الحب
هكذا سمى الأستاذ عبد الرحمن صدقي مجموعة قصصه المترجمة الجديدة. وقراء الرسالة والرواية يذكرون قلم الأستاذ صدقي بمزيد الإعجاب، ويذكرون أنه جيد الاختيار لقصصه إلى حد يثير الدهش، وغرامه الذي لا يحد بالقصاصين الروس والأسبان والفرنسيين معروف مشهور، وقد اختار لنا في هذه المجموعة طائفة لزعماء الأقصوصة وأبطالها وقصرها على موضوع واحد هو. . . الحب. . . ويدفعنا الفضول إلى سؤل الأستاذ عما أدى به إلى إغفال القصاصين الإيطاليين والإنجليز فلم يضمن مجموعته شيئاً من روائعهم. . . فهل هو فاعل في الأجزاء التالية إن شاء الله؟ أما أسلوب صدقي الفني وقدرته على الوصف فسنعرض لهما في غير هذا العدد. . . وكم كنا نؤثر لو أنه تناول بالشرح هذا الفيض الكثير من الكلمات المغربة في ذيل الصحيفة توخياً لمنفعة القراء دون استثناء
وتفادياً لانصرافهم عن البحث عن معانيها بالرغم من أنها ثروة لا تقدر بثمن عند من يعني بكلمات الأوصاف وعباراتها في اللغة العربية. . . ولا غرو أن كل من يقرأ ألواناً من الحب سوف ينتفع بها سواء أكان قارئاً عادياً أو شاباً أو أديباً، فتى أو فتاة. . . إنها دروس في تطهير القلب وإرهاف الحس وتقويم الخلق. . . فلا تبذل فيها ولا إسفاف.
دريني خشبة