الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 558
- بتاريخ: 13 - 03 - 1944
16 - دفاع عن البلاغة
8 -
الأسلوب
كان سيد البلغاء محمد بن عبد الله (ص) يكره أن يجاوز الكلام مقدار القصد به؛ فقد تكلم رجل عنده فأطال، فقال له:(كم دون لسانك من حجاب؟ قال: شفتاي وأسناني. فقال له الرسول: إن الله يكره الانبعاق في الكلام. فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته)
وقيل لإياس: (لا عيب فيك إلا أنك تطيل. قال: أخيراً تسمعون أم شراً؟ قالوا: خيراً. قال: فالزيادة في الخير خير. روى ذلك الجاحظ وعقب عليه بقوله: (وليس الأمر كما قال إياس؛ فإن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية. وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذاك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه)
وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى وسهل ابن هرون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز، حتى قال جعفر للكتاب:(إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة. مثل ذلك ما وقّع به المأمون إلى الرستمي في قضية من تظلم منه: (ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة وغريمك خاوٍ وجارك طاوٍ). وما وقع به جعفر في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: (قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت)
كذلك كان أقطاب النثر الفرنسي من أشباه (شاتبريان) و (فلوبير) يتشددون في الإيجاز، ولا يتسمحون في الإعادة، حتى حرموا على أنفسهم استعمال اللفظ مرتين في صفحة واحدة. وقد أخذ (فلوبير) في إحدى رسائله على (شاتبريان) أنه كرر لفظاً مرتين في وصفه قدوم (أودور) إلى روما في كتابه (الشهداء). ومن كلام (بوالو): يجب أن تعرف كيف توجز، لتعرف كيف تكتب. ونفور نوابغ الكتاب من الإسهاب منشؤه فيهم تلك القوة البلاغية الإلهية التي تحدد الغاية وتريد أن تبلغها من أخصر طريق. فهم لا يلغون لأنهم يعلمون المعنى
الذي يدل، ولا يخبطون لأنهم يبصرون الأمد الذي يرام. أما الذين لا يقدرون ما يقولون، أو لا يدرون أين يقصدون، فهم كالماء الهائم على وجه المنحدر قصاراه زبدٌ وجرجرة، أو كاللسان المخبول نطقه لغطٌ وثرثرة. وثرثرة اللسان كقرقرة البطن أصوات تذهب مع الريح!
والإيجاز في بلاغة العربية كما قلنا أصل وروح وطبع، ولكنه في البلغاء قوة وروية وعمل. ونريد بالعمل الجهد، لأن الإيجاز غربلة ونخل، وتنقية وتصفية، وتصعيد وتركيز، وذلك لا يتهيأ لك إلا بدوام النظر وطول التعهد. ومهما قلبت المجلة على وجوه البيان فإنك لا محالة واجد فيها عوجاً يعدل، أو نتوءا يسوى، أو فضولاً يشذب. والنثر في رأي فلوبير لم ينته، وهو في رأينا لا يمكن أن ينتهي، لأن صور الجمال لا تنفد، وغاية الكمال لا تدرك.
والمزية الظاهرة للإيجاز على الإطناب أنه يزيد في دلالة الكلام من طريق الإيحاء. ذلك لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال، حتى تبرز وتتلون وتتسع، ثم تتشعب إلى معان أخر يتحملها اللفظ بالتفسير أو بالتأويل، والقرآن الكريم معجزة الدهر في هذا الصدد
وليس بسبيل الإيجاز البلاغي من يقص أجنحة الخيال ويطفئ ألوان الحسن، ويترك أسلوبه كأسلوب التلغراف، شديد الاقتضاب والجفاف، على نحو ما يدعو إليه بعض أدبائنا المعاصرين؛ فإن الإيجاز، مهما قيل في جلالة خطره، صفةٌ من صفات البلاغة الثلاث لا يغني عنها ولا تغنى عنه
ولقد كان لإطناب الفرس مساغ في أذواق العرب أول ما قطرت به أقلام عبد الحميد وابن المقفع والحسن بن سهل ومن لف لفهم، لاقتصارهم منه على ما يصحح الازدواج ويقيم التوازن، كقول عبد الحميد:(واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويفترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانباً لها، وتوقها محترساً منها. . . الخ). فلما اشتد خلاط العرب للفرس تداخلت اللغتان، وتمازجت العقليتان، واصبح تعاقب الجمل على المعنى الواحد سمة الأسلوب في ذلك العصر، حتى قال ابن قتيبة في قول يزيد لمروان وقد تلكأ في بيعته: (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى
فاعتمد على أيهما شئت): (إن هذا لو قيل الآن لم يأت بالتأثير المطلوب. والصواب أن يطيل ويكرر، ويعيد ويبدئ، ويحذِّر وينذر)
وظل الفن الكتابي يتخبط في ذلك الفضول، ويتعثر في تلك الذيول، لا يسدده توجيه، ولا يهذبه نقد، حتى اتصل بالأدب الأوربي في هذا العصر، فتحدد لفظه، وتجدد أسلوبه، وانبعث شبابه الفتي الغض من القرائح الموهوبة، صافي الديباجة مشرق البيان، إلا عقابيل مما تركت عصور الضعف والجهالة بقيت على الأقلام المرضوضة تكريراً للفظ، وترديداً للمعنى، وتوليداً لنوع آخر من أنواع الاجترار الأدبي يعبر عنه الأديب زكريا إبراهيم فيما كتب إلى بقوله:
(شاع بين أدبائنا اليوم نوع جديد من الأدب، نستطيع أن نسميه بحق أدب (الدردشة). وهذا الأدب الجديد يصدر عن نزعات فنية حديثة، لأنه كلام يقال لمجرد الكلام،
أو الفن للفن كما يقولون! وعلى الرغم من أن عدوى هذا الأدب قد انتشرت بين كثير من الأدباء، فإنه لم يكتسب عندنا حق الوجود؛ لأن كل شئ لابد أن يقصد من ورائه إلى غاية، والكلام إذا لم يكن داع يدعو إليه كان لغواً وهذراً. أما أن يتخذ بعض الكتاب من عبارة (الحديث ذو شجون) ذريعة لأن يسامحوا أنفسهم في الكلام إذا عنّ، ولا يراعوا صحة دواعية، وإصابة معانيه، فهذا ما نأخذه عليهم، ولا نقبله منهم، مهما افتنوا في اختلاق المعاذير له. ونصيحتنا لهؤلاء هي قول الشاعر:
إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله
…
فصمتك عن غير السداد سداد)
ونظن الأديب الفاضل يعني فيمن يعني صاحب (النثر الفني)، ولولا أن صديقنا المبارك يحتكر زعامة الصناعتين، ويعتقد أن للسانه شعبتين ولقلمه سنين، لاستأنفنا له الحكم، وتولينا عنه الدفاع!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بين الإنسان القديم والإنسان الجديد
تكلمت بعض المجلات السورية واللبنانية عن قلة اهتمام الأدباء المصريين بما يسمونه (أدب الحرب) ورأت في ذلك تضييعاً لاحساسات تستحق التسجيل، ونصت بالذات على خلو أدبي من أحاديث الحرب، والتفاتي إلى شؤون لا تمس أهوال الحرب من قريب ولا من بعيد
وأقول إن موقفي وموقف سائر الأدباء المصريين من الحرب هو موقف الإنسان الجديد، وهو يختلف عن الإنسان القديم كل الاختلاف أو بعض الاختلاف
وتفصيل ذلك الإنسان اليوم يدرك أكثر مما يشعر، وكان الإنسان قديماً يشعر أكثر مما يدرك، والفرق بعيد بين الشعور والإدراك
إن حروب طروادة المشهورة في التاريخ القديم أنطقت اليونان بأعظم القصائد وأعمق الأقاصيص، وهي حروب تعتبر ألعاب أطفال بالنسبة إلى حروب هذه الأزمان، ومع ذلك لن يكون في شعراء هذا الجيل من يؤرخ الحروب الحاضرة، كما أرخ القدماء تلك الحروب
الإنسان القديم كان يحارب وهو مدفوع بعوامل الازدهاء والاختيال، أما الإنسان الجديد فيحارب وهو مدفوع بعمليات حسابية تراعي فيها الخسائر والأرباح، فالفرق بين هذين الإنسانين هو الفرق بين الشاعر والحاسب، وثروة الأول أحلام، وثروة الثاني أرقام
كانت أعظم موقعة في بداية هذه الحرب هي موقعة دنكرك وقد انسحب منها الإنجليز، فكيف كان شعورهم عند الانسحاب؟
أنا لا أظن أنهم حزنوا، وإنما أرجح أنهم فرحوا، لأن الغاية من الحرب هي الربح، والربح الذي يفهمه الإنسان الجديد، وهو ضمان السلامة في الأموال والأرواح.
شاهد طريف
إذا تصاول أسدان كان على الأسد المغلوب أن ينسحب إلى أن يتأهب لاستئناف الصيال، وإذا تقاتل ديكان كان على الديك المغلوب أن يثبت في الميدان إلى أن يموت
وكان ذلك لأن الأسد يدرك أكثر مما يشعر، وأن الديك يشعر أكثر مما يدرك، والشعور أحط مرتبة من الإدراك، فما في الوجود شعور أقوى من شعور الأطفال
وأبو تمام الذي بلغ الغاية في الرثاء بهذا البيت في وصف أحد المستشهدين
وقد كان فوت الموت سهلاً فردًه
…
إليه الحفاظ المرُّ والخُلق الوعر
هو نفسه أبو تمام الذي اختار في ديوان الحماسة أبياتاً في تبرير الهرب من ميدان القتال، وهي أبيات بعيدة من روح الحماسة، ولكنها من شواهد العقل، فقد علل الشاعر هربه من الميدان بأنه يفر من أعدائه (طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد)، ثم قال:
وعلمت أني إن أقاتل واحداً
…
أقتل ولا يضررْ عدوي مشهدي
وعلى هذا يكون إيثار العقل على الشعور في ميادين القتال مما آمن به العرب قبل مئات السنين، وبهذا كان هذا الشاعر من تباشير الإنسان الجديد
أدب وأدب
الأدب الأول سبق تسهيل المواصلات، فاختلفت الصور هنا وهناك
جان جاك روسو لن يخلق بعد اليوم، فما تسمح الدنيا في أيامنا هذه بأن يتشرد فتى مثل هذا الفتى، بحيث يقطع مئات الأميال على قدميه، وبحيث ينفعل بمناظر السهول والجبال، فيكتب الروائع في وصف ما رأت عيناه وهو ينتقل من مكان إلى مكان في الشهور الطوال
أدب الرحلات سينقرض، ولعله انقرض، بسبب ذيوع السفر بالطيارات، وهو سفر لا يتيح أية فرصة لدرس ما تمر عليه من مختلف البلاد
وأدب التشفي والانتقام لن يعود، وهو الروح الذي أملي على أبي تمام هذه الأبيات عندما أحرق المعتصم مدينة عمورية:
ما رَبعُ ميةَ معموراً يطيف به
…
غيلانُ أبهى ربىً من ربعها الخرِب
ولا الخدود ولو أدمين من خجل
…
أشهى إلى ناظر من خدها الترب
سماجة غنيت منها العيون بها
…
عن كل حسن بدا أو منظر عجب
وحُسنُ منقلب تبقى عواقبه
…
جاءت بشاشته من سوء منقلب
فما تقبل اليوم الشماتة بمدينة تحترق، ولو كان أهلها من أخطر الأعداء
ولأبي تمام عذر فيما صنع، فقد استطال إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ثم استطال،
وكانت نيته أن يزعزع هيبة الإسلام في الشرق، فلم يكن بد لأمير المؤمنين المعتصم بالله من تأديب تيوفيلس بإحراق مدينته التي أعجزت المحاربين من أكابر الملوك
والإنسان الجديد يتمثل في نابليون يوم دخل موسكو، فقد راعه أن يحرقها الروس بأعنف النيران، وكان يتمنى أن تعيش بعافية، ليبلغ من تحضيرها ما يريد، وإن كان فاته أن يفهم أن بداوة الاستقلال، أفضل من حضارة الاحتلال
والإنسان الجديد يتمثل في حكومة فرنسا يوم رأت أنها ستنهزم في هذه الحرب، فقد طلبت إعفاء باريس من القتال، لتسلم باريس وهي عصارة أجيال وأجيال
متاعبنا الجديدة
الحرب عندنا ليست بحرب، ألم أقل لكم إنها عملية حسابية في نظر الجيل الجديد؟
والتاريخ ليس عندنا بتاريخ، وما أضيع من يعيش في ضيافة التاريخ!
متاعبنا الجديدة هي أن نعرف سرائر نفوسنا معرفة لا يفسدها التزييف
يجب أن نفهم ماذا نريد من الحياة، وماذا تريد منا الحياة
فإن حددنا الجواب عن هذين السؤالين فسنمضي إلى الغاية المنشودة بلا إبطاء
ندخل حدائق الحيوان بالقاهرة أو بأي مدينة فنرى جميع أصناف الحيوان في أمان من الانحراف، لأنها بعيدة من جهالة الناس، ففي الناس أعور وأعمى وأكمه وأبرص، والحيوان لا يعاني هذه العاهات، لأن خلو حياته من التعقيد يضمن لها السلامة والبقاء.
تكريم الدكتور طه حسين
قلت مرة: إن الأدب الحديث يحتاج إلى مؤرخ مثل أبي الفرج الأصبهاني، ففي حيوات أدباء هذا العصر أشياء تستحق التسجيل، وإن بدت من توافه الأشياء
وأنا سأحاكي أبا الفرج في منهاجه الأدبي فأقص قصة يرتاح لها القراء، لأنهم سيقرأونها مبتسمين، والابتسام يفوق جميع الأثمان:
نشرت في جريدة المصري كلمة أدعو بها إلى تكريم الدكتور طه حسين، بمناسبة ظهور الجزء الثالث من كتابه (على هامش السيرة)، وأنا موقن بأن الناس سيقولون:(لأمرٍ ما دعا زكي مبارك إلى تكريم طه حسين)
ولم أتهيب هذا القيل، فقد علمت من أساتذتي في باريس أن أخطر مقتل في شمائل الفرنسيين هو تهيبهم من أن يقال، عند مواجهة الأعمال
' - ?
وقد وقع ما توقعت، فقد نشرت مجلة الاثنين كلمة (لطيفة) سجلت بها دعوتي إلى تكريم الدكتور طه بعد أن كنت من خصومه الألداء، وحدثني صديق أن ناساً من خلق الله زعموا أني أحاول استعطاف المستشار الفني لوزارة المعارف، لأظفر بدرجة ترفعني إلى الصف الذي ارتقى إليه بعض النجباء من تلاميذي
ولقد أحزنني ما قرأت وما سمعت، فما خطر في بالي أن لي مسألة عند الدكتور طه حسين، ولا أنا أستجيز استغلال النقد الأدبي لمنفعة شخصية، ولا أنا أقبل عطفاً من أي إنسان في أي حال. والدكتور طه نفسه يعرف هذا الجانب من أخلاقي، ويعرف أني لا أقبل منه ولا من غيره أية مساعدة، لأني أغنى منه ومن جميع الناس، بفضل النعم التي يسوقها الله إلى بغير حساب، وأنا أخشى أن تقتلني هذه النعم، كما تصنع الأزاهير والرياحين بمن يعانقها في ليلة صفاء
زكي مبارك
محاورات الموتى
المحاورة الأولى
للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
إسكندر وفرين
فرين: عاهرة مشهورة عاشت في أثينا حوالي سنة 323ق. م. وكانت حظية لبراكستلس الذي أخذ رسمها. ويقال إن أبلس رسم صورته (فينوص) بعد أن رأى فرين عند ساحل البحر عارية وقد أسدلت شعرها المغدودن. لقد غدت فرين، بفضل سخاء عشاقها الكثيرين، غنية إلى حد أنها رغبت في إعادة بناء طيبة التي دمرها إسكندر على نفقتها، ولكن رغبتها لم تجب
رودوب: حظية يونانية مشهورة جمعت ثروة طائلة؛ ورغبة منها في تخليد اسمها شيدت أحد أهرام مصر
اسكندر الثالث: الملقب بالكبير ولد سنة 355ق. م. كان تلميذاً لأرسطو لخمس سنوات، وهو الذي دمر طيبة وأعلن الحرب على الفرس وغزا آسيا الصغرى، وبسط سلطانه على مصر وسوريا وفارس، توفى في بابل سنة 323 بعد حكم دام اثنتي عشرة سنة أحرز في أثنائها انتصارات متوالية بارعة
ديموستين: خطيب أثيني شهير قال عنه شيشرون - وقد كان ندا له بين الرومانين - إنه شخصية فذة قلما يجود التاريخ بمثلها
المحاورة:
فرين: لو أنك سألت جميع سكان طيبة الذين عاشوا في زماني، لقالوا لك كيف عرضت عليهم إعادة بناء جدران طيبة التي دمرتها أنت على نفقتي، بشرط أن يقيموا لي نصباً يكتب عليه هذه العبارة:(لقد دمر اسكندر الكبير هذه الجدران، ولكن الزانية فرين أعادت بناءها)
اسكندر: إذن أنت خائفة من أن تجهل الأجيال القادمة الحرفة التي كنت تمارسينها؟
فرين: وماذا على من ذلك؟ لقد بلغت بها الذروة. وإن لكافة الممتازين من الناس، مهما تكن حرفتهم، لولعاً جنونياً بالأنصاب
اسكندر: صحيح أن لرودوب نصباً قبلك؛ فقد عرفت كيف تستغل جمالها لتبني أحد أهرام مصر الشهيرة، ولا يزال قائماً حتى الآن. وأذكر أنها كانت أمس تتحدث عنه إلى أطياف بعض الفرنسيات اللاتي كان لهن - على زعمهن - رقة وجمال، فأخذن ينتحبن قائلات: إن الجمال في بلدهن، وفي العصر الذي عشن فيه، لم يكن ليجلب ثروة كافية لبناء هرم
فرين: ولكني أمتاز عن رودوب بأني أعدت بناء جدران طيبة، وبذلك جعلت نفسي في صفك أنت الذي كنت أعظم فاتح في العالم. ألا ترى كيف استطاع جمالي أن يصلح ما أنزلته شجاعتك بالبلاد من تخريب وتدمير!
اسكندر: أنت تتطرقين إلى شيئين ليس إلى عقد المقارنة بينهما من سبيل. إذن أنت فخورة أن يذاع عنك بأنه كان لك عشاق كثيرون؟
فرين: وأنت، ألست فخوراً بتدميرك أكبر قسم من العالم؟ لو أن في كل مدينة خربتها (فرين) لما بقي أقل أثر لجنونك
اسكندر: لو قدر لي أن أعيش مرة أخرى لما تمنيت أن أكون إلا فاتحاً عظيما
فرين: وأنا لو رجعت إلى الحياة لما تمنيت إلا أن أكون غازية للقلوب. إن للجمال حقاً طبيعياً في السيطرة على الرجال على حين أن الشجاعة تفرض حقها على الناس بالقوة والبطش. للنساء الجميلات عرش في قلوب الناس قاطبة مهما تكن جنسياتهم؛ ولا كذلك الملوك والفاتحون. ولأقنعك أكثر من هذا أقول: إن أباك فيليب، الذي كان شجاعاً مقداماً كما كنت أنت، لم يستطع هو وأنت أن تدخلا الرعب في قلب الخطيب المصقع ديموستين الذي قضى حياته كلها يخطب ضدكما، على حين أن فرين أخرى كانت ذات مرة على وشك أن تخسر قضية هامة جداً، وإذا بمحاميها، وقد بذل لأجلها كل ما يملك من الفصاحة والبلاغة بلا جدوى، يرفع عن وجهها النقاب فيبهر جمالها الحكام فيحكمون لها أن أوشكوا أن يحكموا عليها. ألا ترى كيف أن صلصلة أسلحتك كل هذه السنين التي حكمتها لم تقو على كم فم خطيب واحد، على حين أن سحر فتاة جميلة أفسد في لحظة حكام أراكوس القساة
اسكندر: بالرغم من استنجادك بفرين أخرى فإني لا أعتقد أن جانب اسكندر قد ضعف
كثيراً. ومما يدعو إلى الأسف أنه لو. . .
فرين: أعرف ما تريد أن تقوله: اليونان، آسيا، فارس، الهند. . . كل ما من شأنه أن يبهر العالم بالطنين والرنين. ومع هذا إذا أنا أسقطت من مجدك كل ما ليس لك، فأعدت إلى جنودك وقوادك، وحتى إلى الحظ الذي ساعفك، نصيبهم من الظفر الذي هم له أهل، فهل تعتقد أنك لن تخسر بذلك كثيراً؟ ولكن المرأة الجميلة لا يشاركها أحد في غزواتها، فليس لأحد عليها فضل، بل الفضل كله لها. أقول لك الحق إنه لمركز جميل. . . مركز المرأة الحسناء
اسكندر: يظهر أنك حج مقتنعة بما ذهبت إليه من أمر هذه المرأة الحسناء. ولكن أتتصورين حقاً أنها تصل إلى هذا الحد الذي وصفت؟
فرين: كلا. . . كلا. . . فسأكون منصفة معك. أنا أعترف بأني قد أسأت وصف شخصية المرأة الحسناء كل الإساءة. أنا وأنت. . . لقد كانت لنا غزوات وغزوات. فلو كنت اكتفيت بعشيقين أو ثلاثة على الأكثر لكان ذلك من طبيعة الأشياء، وليس ثمة ما يدعو إلى الانتقاد. أما أن يكون لي من العشاق جيش أستطيع معه إعادة بناء طيبة فشطط ما تعده شطط. ولو أنك كذلك لم تغز سوى اليونان والجزر المجاورة وقسم من آسيا الصغرى، إذا لم يكن من ذلك بد، وأسست لك منها مملكة لكان ذلك مفهوماً معقولاً. أما أن تخبط خبط عشواء فتأخذ المدن دون أن تعلم لماذا تأخذها، وتفرغ من غزو إلى غزو من غير أن يكون لك خطة معينة أو هدف معقول؛ كل ذلك لا تستسيغه العقول النيرة
اسكندر: ليقل أصحاب العقول النيرة ما يشاءون. فلو أني استعملت شجاعتي وحظي بحكمة لما تحدث عني أحد
فرين: وأنا أيضاً لو كنت استعملت جمالي بفطنة لما ظفرت بهذه الشهرة الواسعة. على أنه كلما أريد إحداث ضجة في العالم، فليس أحصف الناس وأعقلهم هم الذين يصلحون لها.
(بغداد)
يوسف روشا
مراسلات مع الريح
يا عدوى
للأستاذ إسماعيل مظهر
منذ خمسين سنة ونيف كنّا نقطن حيا من الأحياء الوطنية القديمة لا يزال يسمى الدرب الأحمر. ولعله اكتسب هذه التسمية من دماء المماليك التي انحدرت في مسالكه من باب القلعة إلى باب الوزير، عند ما استأصلهم الكبير محمد علي واستأصل معهم شأفة الفساد والشر. وكان المنزل الذي نقطنه على رحابة أرجائه كأنه سجن له فناء، ولا يطل منه على العالم الخارجي إلا نافذة واحدة طولها أمتار وعرضها شبر واحد، كنا ننصت منها على جلبة الشارع، فكنا إذا سمعنا مصطفى الزرّاب يغني بصوته الرخيم أطلقنا لأرجلنا العنان، واستبق بعضنا البعض إلى السلم ومنه إلى الفناء، ثم من الفناء إلى الدهليز؛ ثم من الدهليز إلى الدِّركة، فنرى عم جوهر جاثماً فوق السدَّلة فنحييه، ثم نقفز إلى الشارع. وكان الزرَّاب منادياً يأجره البعض إذا فقدوا شيئاً، فينادي عليه في الأزقة والحواري والمسالك. وذات يوم شهدناه ينادي عن معزاة فقدها جلاّد (بائع جلود) بجوار منزلنا. وكان رخيم الصوت يفتن في النغم ويخلق من مناداته شهي اللحن، فرأيناه ينشد المعزاة بلغة عربية تشوبها العامية المقبولة، وأخذ يسير ونحن وراءه، حتى إذا أشرفنا على جامع المرداني وتجاوزنا باب قسم الدرب الأحمر، انفتل يميناً إلى حارة الروم بعد أن صاح (يا عدوى)، وكان يختم بها كل نداء. فترك عربته وأخذ يقول:(يا خدرات الأروام: يا خواجات الخته: فيه واخد ميزه: أنده اتنين بلخه هينا (ويشير إلى جوزته) الشر بتاعه أخمر. البوز بتاعه أبيد. تمسك فلوس كويس لوجبته. يا خريستو) (بدلاً من أن يقول يا عدوى)
تذكرت هذه الحادثة بعد هذه السنين الطوال، وتذكرت مصطفى الزراب عندما قرأت في مجلة المصور مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية الذي خرج علينا به سعادة عبد العزيز فهمي باشا عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية خروج الزراب من عرينه أمام جامع المرداني، ينشد معزاته الضائعة: متوسلاً بالعدوى، إلى لاتينية الأعاجم عند ما انفتل إلى حارة الروم مستنجداً بخريستو، مستمداً منه العون. ولله الأمر من قبل ومن بعد
كذلك اعتقد كثير من الخرافيين في العصور الوسطى أن الشيطان قد تدخل في تصوير كرة
الأرض. فقد رأوا أن لبلاد اسكنديناوه شكلاً خاصاً يغاير شكل بقية أجزاء الأرض؛ ذلك بأنها أشبه بذراع ممدودة أخذت من حواشيها المدى والسيوف فتركت به تلك الخلجان والقطوع المائية، التي صلحت في الأزمان الأولى أن تكون مقراً آمناً للقرصان الذين نشروا الرعب في شمال أوربا، وامتد إرهابهم إلى حوض البحر المتوسط، رأوا ذلك فتخيلوا حادثاً كونياً محصله أن الله القادر على كل شئ بعد أن انتهى من عمل الخليقة، تسلل الشيطان ليرى العمل الذي أتمه في تلك الأيام السبعة التي تخلف فيها عن الظهور منه فوق العرش. فطاف ثم طاف، حتى إذا وقع على سيارنا هذا ورأى ما فيه من جمال وحسن بالرغم من صغر حجمه ضاقت نفسه وساء سلوكه، فاقتلع حجراً عظيماً قذف به كرة الأرض، مقر الإنسان الجديد، فاستقر الحجر في بحر الجمد الشمالي حيث اسكانديناوه الآن
ومن هذه الخرافة نستمد العظة. فكل جميل كامل الجمال، وكل حسن كامل الحسن، يأبى صلف الإنسان إلا أن ينتقصه من أطرافه، لا بد من أن يرمي بحجر يقذفه شيطانه، كذاك الذي قذف كرة الأرض بحجره العظيم، فزاد من جمالها وضاعف من حسنها. أرأيت تمثال فينوس ميلون؟ أفإن انحدر إلينا كاملاً بذراعه الجميلة، أكنا نشهد فيه ذلك الجمال كله؟ كلا فإن جمال الجزء الناقص ندركه من الجمال الأجزاء الباقية. أضف إلى ذلك شعور العطف الذي نحسه إزاء ذلك الحجر المنحوت، وذهول الكارثة التي أطارت منه الذراع. إن الجمال فيه لم ينقصه، وإدراكنا لقيمة جماله وحسنه وروعته قد شابها العطف عليه بحنو يبعث من وجداننا ما كان ليفوز به لو أن القدر أبقى منه تلك الذراع المفقودة
وما أشبه لغتنا العربية المجيدة بكرة الأرض وحادثها مع الشيطان! فإن هذه اللغة ما فازت بالبقاء دون أخواتها الساميات إلا لأسرار فيها يعجز عن إدراكها الفكر ويضل في بحثها التاريخ. وكل تعليل لهذه الظاهرة إنما هو تعليل ناقص؛ فإن ذلك التيه الواسع الذي نسميه اللغة العربية إنما هو على اتساعه وحدة كاملة الأطراف متماسكة الجوانب، إذا زعزعت منه أساساً تداعت من حوله كثير من الأسس. فلقد تطورت هذه اللغة على مر السنين، وتكاملت على كر الأعوام، حتى أصبحت كالبناء المصبوب من الفولاذ، ناحية النقص الواحدة فيه؛ أنك لا تجد فيه منفذاً واحداً يمكنك من أن تضيف إليه جديداً منه؛ غير أنه
يظهر كالرقعة المهلهلة في الثوب الجديد الكامل النسق
وما الذي يحملنا على أن نفكر في الحروف اللاتينية لنكتب بها العربية؟ ما الذي يحملنا على أن نحمل ذلك الحجر الثقيل على أكتافنا من بلاد اللاتين إلى صميم بلاد العرب، لتقذف به لغة العرب، فيلوب في بحرها الخضم ثم يلوب، ومن بعد تبتلعه، ولا نكسب من ذلك إلا تعب الحمل، ووزر ذلك الشيطان الذي قذف كرة الأرض بحجره الثقيل، فلم ينتقصها وإنما ابتلعه جمالها فزادت به جمالاً، ولم يغير من طبيعتها وإنما زاد إلى تاريخها فصلاً محجوجاً مكروها. إنما يكون مثلنا في هذه الحال كالشمطاء التي أبت إلا أن تنتقص جمال حسناء، حقداً وكيداً، فاجتزت خصلة من لمتها، فبدت غرتها أجمل وأفتن
حاول الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا أن يصلح من اللغة العربية بمشروعه ذاك الذي نشره في المصور، بأن يجد طريقاً يسهل على الناس قراءة العربية صحيحة كما تلقيناها عن الفصحاء. وأشار من طرف خفي إلى حروف الحركة، كأن اللغة العربية ليس بها حروف حركة؛ ولكنه نسى أن العربية تمتاز على جميع لغات العالم من هذه الناحية. نسى أن بها حروف مد وحروف حركة، فإن حروف الألف والواو والياء ليست في الواقع حروف حركة في اللغة العربية وإنما هي حروف مد. فإذا قلنا مثلاً (كتاب) فالألف هنا ليست حرف حركة وإنما هي حرف مد تطول معه حركة التاء. أما حروف الحركة فهي في الواقع الحركات الفتح والضم والكسر والسكون، فصلت عن بقية الكلمة لتدل على حركة حروفها، وهو نوع من الاختصار لا تجد له مثيلاً في لغة من لغات الأرض، ولون من الجمال الواضح والوحدة السليمة تمتاز به هذه اللغة العجيبة دون غيرها من اللغات. وسبحان الله إذ يصبح الكمال في نظر بعض الناس نقصاً، والجمال قبحاً، كأنما نحن نمل أن نتعلم لغتنا على أساسها الصحيح، ومن طريقها الواضح الذي شرحه العلامة الأستاذ عرفة على صفحات الرسالة، إنما نحن نعبر بمثل هذه الآراء التي يعرضها الباشا الكبير عن ملل واضطراب
وما أريد أن أتكلم عن تراث العرب والعربية، وما أريد أن أتكلم في أن هذه اللغة لغة دين ولغة أدب وعلم وفن انحدرت إلينا من خمسة عشر قرناً إلا قليلاً تحمل إلينا في تضعيفها مشعل الماضي مضيئاً. لا أريد أن أتكلم في شئ من هذا فإنه بمثابة القول المعاد، وإنما
أريد أن أقول: إن هذه النزعات نزعات يبعثها ضعف في القومية واستهتار بتراث العرب الموروث ونبذ لكل تقليد قديم تلقيناه عن أصولنا
إننا لا نعلم اللغة العربية في مدارسنا وإنما نعلم بعض قواعد منها. ولا يسمع الطالب لغة فيها شئ من العربية الصحيحة إلا من معلم اللغة العربية، فإذا احتك بمعلم الحساب أو الهندسة أو الجبر أو التاريخ الطبيعي أو غير ذلك لم يسمع إلا العامية، لغة سقيمة مهلهلة. فأين نحن من تعلم اللغة العربية؟ بل إن بعض طلبتنا في بعض الكليات يتلقى دروسه من أستاذه باللغة العامية ثم يذاكر الموضوع بالإنجليزية. فهل سمعتم بمثل هذا في أنحاء كرة الأرض؟ هل سمعتم بأن مثل هؤلاء الطلبة يستطيعون أن يدركوا شيئاً من أسرار لغتهم وهم على مثل هذا الوضع؟
يا سعادة الباشا قل معنا يا عدوى؛ فإننا لن نقول معك يا خريستو أبد الدهر.
إسماعيل مظهر
الجمعية الملكية
للأستاذ خليل السالم
لم تمتع جمعية علمية بحياة طويلة ثابتة المبدأ متصلة الكفاح باهرة النجاح كما تمتعت الجمعية الملكية في لندن، مع أنها ليست أقدم الجمعيات العلمية في العالم؛ فهي تعود في تاريخ تأسيسها إلى الحرب الأهلية، إذا اجتمع سنة 1645 نفر من رجال العلم الذين يفيضون غيرة وحماسة، ويأنفون أن تتخبط البلاد في المنازعات السياسية والعصبيات الدينية، وأرادوا أن يتوجهوا بالفكر إلى ميادين أسمي وأكثر جدوى، وجعلوا غرضهم المباشر فهم قضايا الفلسفة التجريبية التي ظهرت على مسرح فكرهم حديثاً. وقد عقد الاجتماع الأول في كلية جريشام في مدينة لندن. ونقل مكان الاجتماع إلى كلية وادهام من جامعة أكسفورد عندما انتسب جون ولكنز مدير هذه الجامعة إلى المؤسسة الناشئة، وكان من أوائل منشطيها ومشجعيها
وفي سنة 1662 أصدر الملك شارل الثاني مرسوماً بتأسيس الجمعية، واعتبارها هيئة تعاونية رسمية. ويصلح هذا التاريخ أن يكون بحق فجراً جديداً في تاريخ العلم، ومبدأ نهضة وهاجة السنا باهرة الإشراق. وكيفما كانت الصورة الماجنة المستهترة التي تقدمها كتب التاريخ عن مؤسس الجمعية الأول شارل الثاني، فلا ريب أنه كان يقدر العلم والعلماء، ويرى ببعيد نظره يمكن أن يدر تشجيع العلم على ثروة البلاد من المغانم الكبرى والربح الوفير. وكان سياسياً حاذقاً ومثقفاً واعياً عندما اكتسب لنفسه لقب مؤسس الجمعية الأول. وكان مدركا لروح العصر الجديد الذي تميز بهدم تعاليم أرسطو على يد نبي العلم (بيكون)، وبنبذ الخرافات والشعوذات، وبالانصراف عن العلم المنقول إلى الطريقة التجريبية والتحقيق العلمي
وكان هدف الجمعية كما ورد في مرسوم تأسيسها (تحسين المعرفة الطبيعية). وناضلت الجمعية في سنيها الأولى نضالاً عنيفاً قاسياً، فلم يمدها مؤسسها الأول بالمال الذي رصده لها، كما لم يتمكن أعضاؤها من دفع رسم الاشتراك، أو لم يرد بعضهم ذلك. إلا أنه لما تبوأ نيوتن كرسي الرياسة (1703 - 1727) تحسن دخل الجمعية، لأن العلم المنظم وصل مستوى عالياً من النجاح والتطبيق على يد العالم العبقري الفذ نيوتن الذي فرض احترامه
واحترام نظرياته واكتشافاته على الوسط العلمي، واستفاد وشعروا بشرف الاشتراك معه في العمل والبحث. ولم تحظ الجمعية برئيس بعث الدم فيها وأحياء مواتها وجدد حياتها ورفع من قيمتها كنيوتن إلا في القرن الثامن عشر عندما تولى مقاليدها السر جوزيف بانكس ; فقد تحددت مرامي الجمعية في ذهنه واضحة صريحة، وانتهى إلى أن الفائدة المرجوة والثمرة المنشودة لن تدنو قطوفها إلا بحماية رسمية، فقبل في عضوية الجمعية أشخاصاً لم يكونوا علماء بكل ما في الكلمة من معنى. وبالرغم من اتهامه بالتفريط في حق العلم والعلماء والهجوم الشديد الذي وجهه إليه أعداؤه، فإنه استطاع أن يجعل من أولئك الأعضاء أصدقاء للعلم واستخدمهم لجمع المال الضروري للبحث العلمي. لم يتسن للحكومة أن تسيطر على الجمعية وتستغلها في مصالحها الخاصة، ولكن علاقات وثيقة ودية كانت تربط الجمعية بالسلطة. فاستعان بإرشاداتها ملوك وساسة ومديرو مصالح، وعرضت الجمعية خدمتها على الحكومة في كل مناسبة كانت مصلحة الوطن فيها تستدعي الجهد العلمي الرسمي. واعترافاً بمثل هذه الخدمات القيمة رصد البرلمان الإنجليزي سنة 1778 وما بعدها مخصصات باهظة لتضخيم ميزانية الجمعية.
ونتعب إن حاولنا تقصي المناسبات التي حلت فيها الجمعية مشاكل رسمية. ولكننا نرى اليوم عشرات القرناء منهمكين في الاختبارات العلمية التي تسرع بربح الحرب والتي تختلف بين تأمين الطعام لجميع أفراد الأمة وبين ابتكار أقوى الأسلحة الحربية فتكا وتدميراً.
يبلغ عدد أعضاء الجمعية 450 عضواً منهم 50 عضواً أجنبياً. وبينما كانت مقاعد الجمعية تضم في وقت ما كل علماء إنجلترا أصبحت اليوم ضيقة بهم؛ مما جعل الانتساب إلى الجمعية حلماً عبقرياً يتردد في ذهن كل عالم، وشرفاً كبيراً تتجه إليه الهمم. . . والواقع أن العضو في الجمعية يحرز فوائد مادية جمة فضلاً عن مظاهر التكريم والإجلال. سئل أحد القرناء الأطباء عن معنى الأحرف الثلاثة التي تلحق باسمه. فأجاب بأنها تعني:
أي أن أجوره ارتفعت بعد أن أضيفت هذه الأحرف إلى اسمه. ومن هنا كان الانتساب إلى الجمعية يقتضي كفاية نادرة وسبقاً علمياً معترفاً به في أحد ميادين المعرفة. ولا يرشح أحد العلماء للعضوية إلا بعد أن يزكيه ستة أعضاء على الأقل بشرط أن يكون بينهم ثلاثة
خبروا معلومات المرشح ومؤهلاته واكتشافاته واتصلوا به اتصالاً شخصياً. وبعد مشاورات طويلة يعرض مجلس الجمعية كشفاً بأسماء المرشحين ويجري الانتخاب في آذار من كل عام. وتوزع الجمعية يوم 30 نوفمبر دائماً عدداً من الأنواط على السابقين من أعضائها المشهود لهم بالفضل والنبوغ
ويدير شئون الجمعية مجلس يتألف من (21) عضواً يجدد انتخابهم كل سنة. أما رئيس الجمعية وسكرتيرها للمراسلات الخارجية فيبقيان في منصبيهما خمسة أعوام. ويحتفظ أمين الصندوق وسكرتير الجمعية للأبحاث البيلوجية وسكرتيرها للأبحاث الطبيعية بمناصبهم عشرة أعوام. ولا يحق لقرين غير هؤلاء أن يخدم في مجلس الجمعية أكثر من عامين متتالين
وتساعد لجان خاصة مجلس الجمعية على تنظيم الميزانية وتوجيه البحث العلمي وطبع الكتب. وترصد الجمعية مبالغ طائلة لتمويل الجهود العلمية. ولكن أهم وظائف الجمعية نشر البحوث التي يتمها القرناء وشرح كشوفهم، فهي تطبع سجلاً سنوياً يضم أحدث الأبحاث العلمية التي يحرص رجال العلم المنتشرون في كل بقاع الأرض على درسها وفهمها
ولا تتأثر الجمعية بنزعات الجنس والدين؛ ولها اليد الطولي في شيوع النظريات العلمية والدعوة إلى اتحاد علمي عالمي، والبلوغ (بدولية العلم) مستوى يكاد يقرب من الكمال
وتضم مكتبتها ما يزيد على (150) ألف مجلد، وتقتني أوفى مجموعة لمتشورات الأكاديميات العلمية في جميع أقطار المعمورة؛ وقيودها وسجلاتها مصدر تاريخي لا نظير له استفاد منه كثير من طلاب العلم
وكلمة أخيرة، عن كنوز الجمعية. ففي ردهاتها لوحات رسمها أمهر الفنانين البريطانيين لأشهر علمائهم منذ القرن السابع عشر حتى اليوم. وسجل الجمعية الذي وقع فيه جميع القرناء منذ تأسيس الجمعية كنز لا يثمن. وفيها صولجان أثرى يضعه الرئيس أمامه أثناء انعقاد الاجتماعات. وفيها المرقب العاكس الذي صنعه نيوتن. ومخطوطة كتاب (المبادئ) - ومنها نقلت الطبعة الأولى - وهناك فرجاران من مخلفات كرستوفر رن، ومفرغة هواء هوكسي، وساعتا وقف من عمل أرنولد استعملهما كوك في رحلتيه الثانية والثالثة حول
العالم؛ ومصباح الأمن الذي اخترعه ديفي، وغير هذا كثير من الأجهزة العلمية التي كانت ملكا للجمعية ومنحتها لمتاحف العلم.
(السلط - شرق الأردن)
خليل السالم
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 2 -
5 -
كرسي المختار وتخت يزيد: ثار (المختار الثقفي) على الدولة الأموية باسم محمد بن الحنفية ليجعل لدعوته صبغة دينية وهي الدعوة لآل البيت، وأنكر ابن الحنفية أمره، ولكن (المختار) من دهاة ثقيف، فإنه لما وجد تثاقلاً من جيشه لحرب عبيد الله بن زياد أتى بكرسي وادعى أنه من مخلفات الإمام علي، وأنه بمنزلة التابوت في بني إسرائيل لا يحمله جيش إلا كتب له به النصر. فكساه بالديباج وسلمه إلى إبراهيم بن الأشتر قائد جيشه وانتصر الجيش على (ابن زياد) وقتله ودخل ابن الأشتر الموصل. فحركة المختار ظاهرها لآل البيت وحقيقتها دعوة باطلة له. ووضع اليزيدية مقابل هذا الكرسي تخت يزيد وهو من المشاهد المقدسة عندهم يجلس عليه أميرهم، وأمر التخت عندهم كأمر الكرسي عند أتباع المختار
6 -
وجاء في كتابهم المقدس: (مصحف رش) قصة طريفة تؤيد ما ذهبنا إليه، وهو عداؤهم لآل البيت وتأييدهم للحزب الأموي وهي:(ولنعد الآن إلى محمد بن الإسماعيليين فكان عنده خادم اسمه معاوية؛ فنظر الله إلى محمد فرآه لا يسلك باستقامة فأوجع رأسه. فقال محمد لمعاوية: تعال احلق رأسي لتعاطي معاوية التزيين، فأتى معاوية وحلق رأس محمد بخفة فجرحه وجرى منه دم كثير. فلما رأى معاوية الدم لحسه بلسانه خوفاً لئلا يقع على الأرض، فقال له محمد: ماذا صنعت يا معاوية؟ أجاب: إني لحسته بلساني خوفاً لئلا يقع على الأرض. فقال محمد: لقد أخطأت بذلك فإنك تجذب وراءك أمة عظيمة وتتخاصم مع أمتي فقال معاوية: لا أتزوج ولا أقع في العالم قط. ثم بعد زمان سلط الله على معاوية عقارب فلدغته ورشت سمها عليه. فلما رآه الأطباء جزموا عليه بالزواج وأتوه بامرأة يربى عمرها على الثمانين كي لا تحبل. فلما عرفها معاوية أصبحت في الغد ابنة خمسة عشرة سنة وذلك بقدرة الإله. فحبلت وولدت إلهنا الذي يسمى (يزيداً) وهذا قول صريح من كتابهم المقدس أنهم أعداء لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نسب أمرائهم ينتهي إلى (يزيد بن معاوية) فلم يبق شك في أن أصل حركة اليزيدية كانت حركة لمناصرة
بني أمية والدفاع عن حقهم في الخلافة ومناوأة (آل البيت) الذين خاصمهم الأمويون على الخلافة منذ صدر الإسلام
والسبب الذي جعل الجبال القريبة من الموصل مركزاً لهذه الطائفة هو: أن الموصل كانت مدينة أموية منذ الحكم الأموي. واهتم بها الأمويون اهتماماً كبيراً، فوسعوها وسكنها جالية منهم وكانوا كثيراً ما يولون عليها أميراً من البيت الأموي. وممن تولاها:(سعيد بن عبد الملك، والحر بن يوسف، ومروان بن محمد) كما سكنها الخليفة (هشام) قبل أن يلي الخلافة وبنى له قصراً فخماً في ربضها الأسفل وغرس بها النخيل والبساتين. (والحر) صاحب (قصر المنقوشة) كان يملك القرى المجاورة لجبل (مقلوب) وهو أحد مراكز اليزيدية اليوم. وأن (إبراهيم الإمام) منظم الدعوة العباسية كان يعرف حب أهل الموصل للأمويين ولذلك أوصى (أبا مسلم الخراساني) ألا يعتمد عليهم. وذكر (أبو زكريا الأزدي) مؤرخ الموصل وقاضيها في القرن الرابع الهجري أن الموصل بقيت أموية في الحكم العباسي، ولهذا فتك بها العباسيون وقتلوا من أهلها ثلاثين ألف رجل سنة 133هـ. وبعد سقوط الدولة الأموية فر كثير من الأمويين ومواليهم إلى الجبال المجاورة للموصل، ومن هذه الجبال جبلاً (مقلوب، ولالش) أو (الهكارية) وأثروا على الأكراد الساكنين في هذه الأماكن وجعلوهم يميلون إلى بني أمية. ومما زاد في تأييد هذه الطائفة أن الموصل والجزيرة كانتا من مراكز الخوارج (الحرورية) وهم يحاربون كل حاكم، واستمرت حركتهم إلى القرن الثالث الهجري. وكانوا كلما ضاقت عليهم الأرض لجأوا إلى الجبال المجاورة. ولا شك أنهم كانوا يلاقون ارتياحاً من الحزب الأموي الساكن في هذه الجبال، ونشروا مذهب الخوارج بين الأكراد، كما أنه تأسست (الدولة الحمدانية) في القرن الثالث الهجري في الموصل. وكان أمراؤها يميلون إلى آل البيت وحاولوا نشر المذهب الشيعي في الموصل فلقي قبولاً عند بعض وإعراضاً من الآخرين. وحدثت ثورات في الموصل بسبب ذلك كانت بلا شك من تأثير الحزب الأموي. ثم جاءت بعدها الدولة العقيلية، وكان أمراؤها متعصبين للمذهب الشيعي، ولاقت مقاومة كذلك في الموصل. كل هذه الأمور كانت تجعل العداوة مستمرة بين الحزبين العلوي والأموي، واستمرت هذه العداوة في تزايد حتى القرن السادس الهجري ومجيء الشيخ عدي إليهم ، فتحولت دعوتهم إلى طريق صوفية عدوية
الدور الثاني
الشيخ عدي وتحول الحركة إلى طريقة (عدوية)
الشيخ عدي بن مسافر الأموي: يرجع نسبه إلى مروان ابن الحكم. ولد في بيت فار من أعمال بعلبك، وهاجر إلى الموصل وسكنها. ثم انتقل إلى جبال الهكارية ولزم طريق المجاهدة والخلوة والانقطاع عن الناس، وكان ينتقل في البراري والقفار ويقتات من النبات
ثم بنى زاويته المشهورة في جبل (لالش) وعكف عليه أهل تلك الديار لعلمه وصلاحه وانقطاعه إلى الله عز وجل ولا شك أن صلة النسب بينه وبينهم كانت من أقوى الأسباب التي جعلتهم يرتاحون له. ولكن هذا الشيخ لم يكن من الذين تغرهم الدنيا، بل تراه سلك بأتباعه طريق الرشد والصلاح وخفف من غلوائهم وعداوتهم لآل البيت. وأما زهده فقد قال عنه الشيخ عبد القادر الكيلاني:(لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي مسافر) ولعدي عدة رسائل في العقائد والتوحيد وهي مؤيدة بالكتاب والسنة، منها رسالة خطية في مكتبة (مدرسة الحجِّيات) في الموصل، وهي من خيرة الرسائل التي ألفت في هذا الباب، سلك بها سبيل السلف الصالح، ونراه يندد بالفرق الإسلامية المغالية كالقدرية والمجسمة ويرد عليهم فيقول فيها:(ونؤمن بما ورد في الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شئ منها، فإن كل ما تمثل في الوهم فهو مقدره قطعاً وخالقه. وهذا الذي اندرج عليه السلف قبل ظهور الأهواء وتشعب الآراء. فلما ظهرت البدع وانتشر في الناس التشبيه والتعطيل فزع أهل الحق إلى التأويل وتقرير مذهب السلف كما جاء من غير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا حمل على ظاهر الخ. ويقول في القدرية واعتقادهم أن الشيطان خالق الشر: (وخلق تعالى إبليس عليه اللعنة وليس إليه من الضلالة شئ قال تعالى: (واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. وقوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك منهم من الغاوين، وإن جهنم لموعدهم أجمعين)، لأنهم فتكوا في الكفر فجعلوا إرادة إبليس لعنه الله وأنفسهم أقوى من إرادة الله تعالى. أراد الملعون إبليس المعصية فوجدت، وأراد الله ألا تكون فكانت، فجعلوا إبليس الملعون وأنفسهم أقوى من
إرادة الله. والقائل بهذه المقالة تكذيبه بقوله تعالى: إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله. الخ. . .
أما اعتقاده بالصحابة الكرام فهو يرى أن الأفضل هم الخلفاء الراشدون حسب ترتيبهم في الخلافة، ويرد على من يقدم الإمام علياً على الثلاثة السابقين. ويقول عن معاوية:(إن معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه خال المؤمنين، رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحي الله تعالى، أمين الله على وحيه، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ومات وهو عنه راض)
(للكلام صلة)
سعيد الديوه جي
في (مجموع رسائل الجاحظ)
للأستاذ محمد طه الحاجري
تفضل الأستاذ الجليل (ناقد) فاستجاب للروح العلمية البريئة، ولما وجهناه إلى جمهرة الناقدين من دعوة خالصة، فكتب عن (مجموع رسائل الجاحظ) فصلاً من فصول الناقدة في الرسالة، عرض فيه لحروف تعرضت - فيما يرى - للتصحيف أو التطبيع أو خطأ الرسم، متهدياً في ذلك بذوقه الأدبي ومحصوله اللغوي، وما زلنا نرجو منذ ظهر هذا المجموع أن يتاح له حظ النقد البصير؛ فليس أحق من الجاحظ - كاتب العربية الأول - أن تتضافر القوى وتتعاون الجهود على جلاء آثاره وإبرازها في صورة أمينة دقيقة جديرة به، بعد أن تعرضت آثاره مدى الأجيال الطويلة للكثير الوافر من عوامل التحريف والتشويه والمسخ. ومن ذلك كان لعناية الأستاذ العلامة الناقد بالمشاركة في جلاء هذه الطائفة من آثاره أجمل الأثر في نفوسنا. وقد تجلت هذه العناية في هذا الفصل، وقد وفق خير التوفيق في بعض ما عرض له، وأما بعضه الآخر فإنا نرى فيه غير ما يرى
وإذا كنا نرى غير ما يرى في أكثر ما عرض له، فمرد كثير من ذلك - فيما يظهر - إلى الخلاف بيننا وبينه في الأصل الأول في النشر. فالأصل عندنا في نشر أثر من الآثار العقلية هو إبراز صورة أمينة من ذلك الأثر، بريئة مما تركته عليها الأجيال المختلفة، والأيدي الجانية، من تشويه أو تخريف أو تزوير. وسواء بعد هذا أن تجئ هذه الصورة كما نشتهي وكما ترجوها مثلنا، أو أن تكون منحرفة عن هذه المثل. ذلك هو الأصل في النشر، ومن هذا كان الناشر مقيداً في عمله بقيود مختلفة، ومحكوما باعتبارات كثيرة، تمسك يده أن تنطلق، وتكف نفسه أن تتدخل، ولا تدع لمزاجه الخاص أو محصوله العلمي سبيلاً إلى أن يفرض نفسه، أو يطبع كلام المؤلف بطابعه، أو يترك عليه أثراً منه. فأما الأستاذ العلامة (ناقد) فيظهر من اتجاهه فيما كتب عن المجموع أنه يميل قليلاً إلى تحكيم المثل في تحرير عبارة المؤلف
فمن ذلك تخطئته إيراد المثل: (كل مجر في الخلاء يسبق. (ص 102 س 19)، لأن المثل المشهور، أو الصورة المشهورة له (كل مجر في الخلاء يسر)، وهو نفسه يقرر أن للمثل صورتين أخريين: (كل مجر بخلاء يسبق، وكل مجر بخلاء مجيد، فكأنما عز عليه أن
يسوق الجاحظ المثل في غير صورته المشهورة وهذا ولا ريب نوع من تحكم المثل الذي ذكرنا. وقد كان من الممكن أن نعتبر هذه الصورة المشهورة للمثل، لا لأنها الصورة المشهورة، ولكن لأن الجاحظ قد آثرها في أكثر من موضع في كتبه، كما نرى مثلاً في الحيوان (1: 88، 4: 207 وفي البيان والتبيين (1: 49) الخ، وهذه إحدى الطرق المقبولة في تفضيل قراءة على أخرى، ومع هذا آثرنا ما تعرضه عليه مخطوطتنا الوحيدة في هذا الموضع، إذ ليس ما يدعو إلى فرض تحريفه، ولأن الجملة التي زاوج الجاحظ بها هذا المثل تضعف احتمال الصورة المشهورة له، فهو يقول:(كل مجر في الخلا يسبق، وكل مناظر متفرد بالنظر مسرور)
وكذلك أخذ الأستاذ الناقد علينا أننا ضبطنا هذا المثل (لن تعدم الحسناء ذامّا)(ص 104 س 8) بحيث تصبح كلمة إلذام اسم فاعل من الذم لا اسماً بمعنى العيب، إذ كان المثل (لا تعدم الحسناء ذاماً)، ثم ذهب الأستاذ يفسر كلمة الذام كأن المثل أغرب علينا، فقاربنا وتصرفنا على ما فهمنا والمثل بعد مشهور بتخفيف الميم؛ ولكنا رجحنا أن الجاحظ تصرف في إيراد المثل على الصورة التي أوردناها، ليستقيم سياق المعنى الذي يريد تقريره عن الحسد، ودل عليه بكثير من الآثار والأمثال التي لا يستقيم معها ذلك المثل في صورته المأثورة إلا أن يكون الجاحظ ممن يلقي الكلام على عواهنه، ولا يعد أن يستشهد بما لا موضع له، ولا يتساوق مع غرصه، ويخالف بين أطراف الكلام مثل هذه المخالفة! ولكن الأمر الذي لا يعبأ به الجاحظ حقيقة هو أن يتصرف في المثل حتى يطوع له، على ذلك النحو الذي لا بأس به
ومن هذا الباب أيضاً تخطئته لنا أن نثبت هذه العبارة: (واستذرأت في ظلك) مهموزة، لأنه يقال - كما يحكى الأستاذ الناقد - استذرى بفلان أي التجأ إليه، وفلان في ذرى فلان أي في ظله. وحسب الأستاذ هذا، لا لتكون الكلمة خطأ، بل ليكون إثباتها منسوبة إلى الجاحظ خطأ. وليست المسألة بهذا اليسر، فيما نرى؛ وإنما الوضع الحقيقي للمسألة هو: هل يمكن القطع بأن هذا الخطأ هو خطأ الناسخ لا خطأ الكاتب، وهل مثل هذا الخطأ مما لا سبيل له إلى قلم الجاحظ، إن كان لا بد من تسميته خطأ؟
أما إنه لو صح لنا هذا لما كان لنا أن نستبقيه، ولوجب علينا أن نستبدل به؛ ولكن الأمر
هنا ليس كذلك. وما أكثر ما تتعاقب الياء والهمزة في اللغة العربية، لا في باب الإبدال وحده، بل فيما وراء ذلك، فيما لا يندرج تحت تلك القواعد التي عني بتنسيقها وبسطها علماء التصريف. وقد عقد أبو علي القالي فصلاً في أماليه في (ما يقال بالياء والهمزة) إلى كثير غير ذلك من الكلمات التي لا تقع في باب الإبدال الرسمي
ولقد جاء في بعض الآثار الأدبية ما يدلنا على أن الفرق بين ما أصله الهمزة وما أصله الياء لم يكن من الفروق التي تحسها السليقة اللغوية إحساساً قوياً. من ذلك ما جاء في شعر الأعشى على رواية يعقوب بن السكيت:
إذا انبطحت جافي عن الأرض بطنها
…
وخوأها راب كهامة جنبل
ويعلق أبو عبيد البكري، في لآليه، على هذا البيت بقوله:(وخوّأها مما همز ولا أصل له في الهمز) ثم يذكر أن الرواية الأصح، لهذا السبب، هي رواية من قال:(وخوّى بها). وهذا، في أكبر الظن، نوع من تحكيم المثل في الرواية، كالذي ذكرناه من تحكيم المثل في النثر
ومثل هذا ما أخذوه على شاعر إسلامي، هو المسعودي، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، في قوله:
شققت القلب ثم ذرأت فيه
…
هواك فليم فالتام الفطور
فقد قالوا إنه أخطأ حين قال (ذرأت)، وكان القياس أن يقول (ذريت) بالياء
وهكذا نرى أن وضع الهمزة موضع الياء ليس من الأخطاء المغلظة التي يجل الجاحظ عنها، أو نأنف له أن يقع فيها، فنزعم ما وقع من ذلك خطأ ناسخ يجب استصلاحه. وما دمنا لا نملك الدليل على أن وضع الهمزة موضع الياء من صنع الناسخ؛ وما دمنا لا نبعد أن يكون هذا من عبارة الجاحظ، فإن ما يقترحه الأستاذ الناقد من وضع (استذريت) موضع (استذرأت) يعتبر نوعاً من تحكيم المثل في النشر
فهذا نوع من المآخذ التي أخذها علينا العلامة الناقد. وهناك نوع آخر يرجع إلى العجلة، أو إلى أخطاء الدقة له، كقوله فيما علق به على قول الجاحظ (ص 110 س 17):(لاسيما إن كان مع استبطان الحسد الخ) إذ يقول: (قلت جاءت ولاسيما في هذا الموضع، وفي غيره مجردة من ذينك الحرفين، وأستبعد كثيراً هذا التجريد في كلام المحدثين الأولين، وإن أجاز
ذلك نحاة من المولدين المتأخرين. وقد وردت اللفظة ومعها صاحباها في ص 24، 68) فلم تجئ (لا سيما) في عبارة الجاحظ مجردة عن لا والواو، بل عن الواو فقط، على الصورة التي أوردناها في هذه الفقرة
ومثل هذا ما جاء في التعليق على هذه العبارة (71: 16 - 17): (وسواء - جعلت فداك - ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدحس والدس) واقتراحنا وضع الدعس موضع الدس، إذ كان ذلك أشبه، فتوهم أننا إنما نضعها موضع الدحس، ثم اقتراح بدلاً من ذلك كلمة (الرس). وهذا نقد قائم على التوهم المحض. وما كان لنا أن نقترح كلمة موضع كلمة نظيرة لها في المعنى، وليس ما يمنع منها
وهناك نمط ثالث من المآخذ يرجع إلى الخلاف علىالرسم، وما نحب أن يطول الجدل حول هذا، إذ كانت قواعد الرسم لم تتقرر بعد على أصل ثابت. وقد أخذ علينا الأستاذ الناقد أننا رسمنا التواطؤ مرة بالواو وأخرى بالياء، ولعله حسب ذلك اضطراباً وتهافتاً، مع أن كلا منهما يخضع لقاعدة من قواعد الهمزة المتطرفة، على ما تنص عليه بعض المذاهب من أن الهمزة المتطرفة المكسورة ترسم ياء مطلقاً، والمضمومة ترسم واوا إذا كان ما قبلها مضموماً. وكذلك جاءت كلمة (التواطؤ) مرفوعة في (ص 24 س 16). (لا يمكن في مثله التواطؤ) ومجرورة في (ص 40 س 19):(وقام نجيء الأخبار من غير تواطؤ ولا تشاعر مقام العيان)، فالحالتان كما نرى مختلفتان
ومن هذا الباب أيضاً تخطئته رسم كلمة (غنا) بالألف فهي - فيما يقول - مقصورة ترسم بالياء، وممدودة ترسم بالألف والهمزة، وهي هنا مقصورة بدليل كسر أولها، فيجب أن ترسم بالياء، ولكن لهذه الكلمة في عبارة الجاحظ اعتباراً آخر، فهي ليست مقصورة فقط، ولكنهما مقصورة منونة، أثبت التنوين في آخرها كما أثبت الكسر في أولها، وهذا هو موضعها (ص 18 س 9):(والإفراط في جر المنفعة غِناً لمن أفرطت في نفعه عنك) وقياس أبي عثمان المازني أن مثل هذا يرسم بالألف. فإذا علمنا أن من علماء الرسم من يرى أن يكتب الباب كله بالألف على الأصل كان في هذا ما يعضد رأي المازني في المنون
وإذا كان الخلاف في مثل هذا يستحق التأمل والوقوف عنده، فالخلاف في كلمة (السوء) في
قوله الجاحظ (ص 30 س 4): (فتحرز من دخلاء السوء ومجالسة أهل الريب) أهي بالضم أم بالفتح خلاف لا جدي له، فرد الكلمتين في المعنى واللفظ واحد، وإحداهما اسم والأخرى مصدر، وما يذكر بينهما من فروق ليس هنالك. وقد قرء بهما في كثير من آيات القرآن الكريم، كآية التوبة:(عليهم دائرة السوء)، وآية الفتح:(الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء) إلى غير ذلك من الآيات
وبعد، فإن شكرنا للأستاذ الناقد لا ينقضي لهذا التوجه الكريم إلى (مجموع رسائل الجاحظ) ولما جاء في مقاله من نقد عبقري بصير، كما في كلمة (المذاييع البذر) (45: 1)، ولما نبه عليه من أخطاء مطبعية، كلمة (مصارع) (63: 7) وكلمة (السرف)(64: 1)، وكلمة (يذب) (103: 7) وإنا لنأسف أشد الأسف لوقوع مثل هذه الأخطاء على شد حرصنا أن يخلو هذا المجموع منها
ولكن أشد هذه الأخطاء التي نأسف لها أسفاً يعتلج في القلب ورود هذه الكلمة (نسيسنا)(117: 14) على هذه الصورة الممسوخة، في أبيات مشهورة. رويت في أمهات كتب الأدب العربي لحماسة أبي تمام وذيل الأمالي لأبي على والأغاني وقد ظن الأستاذ الناقد أنها مصحفة عن (نفيسا)، وهذا ولا ريب تصحيح طيب، ولكنه مرتجل. وصواب الكلمة عندنا (قشيبا)، كما جاءت في رواية أبي على القالي:
وإذا اكتسى ثوباً قشيباً لم أقل
…
يا ليت أن على فضل ردائي
وبعد، فهذه كلمات نرجو أن نكون قد أنصفنا بها أنفسنا وأنصفنا بها الحقيقة، وأنصفنا فيها أستاذنا الناقد الجليل والسلام عليه ورحمته وبركاته.
محمد طه الحاجري
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
528 -
فهذا تمام الكتخدانية
في (تاريخ الطبري): قام الدهقان (في المهرجان في بلخ سنة 120) خطيباً فقال: أصلح الله الأمير (يخاطب عامل خراسان أسد بن عبد الله القسري): إنا معشر العجم أكلنا الدنيا أربع مائة سنة، أكلناها بالحلم والعقل والوقار، ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل. وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يديه، والذي يليه رجل تمت مروءته في بيته، ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي. وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة فيك أيها الأمير، وما نعلم أحداً هو أتم كتخدانية منك. إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك. فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدى على صغير، ولا كبير، ولا غني ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية ثم بنيت الإيوانات في المفاوز فيجئ الجائي من المشرق والآخر من المغرب فلا يجدان عيباً إلا أن يقولا: سبحان الله! ما أحسن ما بنى! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف فهزمته وفللته. وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنا ما ندري أي المالين أقر لعينك: أمال قدم عليك، أم مال خرج من عندك؟ بل أنت بما خرج أقر عينا. فضحك أسد وقال: أنت خير دهاقين خراسان، وناوله تفاحة كانت في يده
529 -
سبب ذلك التباين تفاضل القرائح
في (الوساطة) للجرجاني: قدم مكة أيام مقامي بها شيخ بدوي من بني عامر بن ربيعه يدعى مُطرِّف بن سفيان فأنشدنا قصيدة مدح بها جعفر بن محمد الحسني، وجدتها متنافرة الأبيات بين عين نادر، ومتوسط متقارب، وضعيف ساقط، فكنت كالمتعجب لما أراه من اضطرابها وظهور تفاوتها. وامتحنت الشيخ فوجدت شعره إلى الضعف ما هو. فبينما نحن كذلك إذ أتانا بعض أصحابنا فسألناه عن العامري فأثبته معرفة، وذكر أنه حضر الحي وقت تأهبه للوفادة فرآه في نادي القوم وقد جمع فتيان الحلة فقال: إن شيخكم يريد امتداح هذا الشريف بمكة فزودوه، فزوده كل منهم البيتين والثلاثة، ثم نظمها قصيدة، وإذا سبب ذلك التباين تفاضل القرائح واختلاف الأفكار والهواجس
530 -
العامة
قال ابن الجوزي: مر بعضهم بقوم على رجل يضربونه، فقال لرجل يجيد ضربه: ما حال هذا؟
فقال: والله ما أدري ما حاله، ولكني رأيتهم يضربونه فضربته معهم لله وكلباً للثواب. . .
531 -
بيت بثلاث قصائد مختارة
قال عبد الله بن محمد بن جرير: أنشدت أبا تمام قصيدة على ابن جبلة البائية فلما بلغت إلى قوله:
وردَّ البيض والبيض
…
إلى الأغماد والحجب
اهتز أبو تمام من فرقه إلى قدمه ثم قال: أحسن والله! لوددت أن لي هذا البيت بثلاث قصائد من شعري يتخيرها وينتحلها مكانه
532 -
علم وألمعية
في (الأغاني): قال ابن المعتز: حدثني محمد بن موسى قال: اصطبح المأمون يوماً ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة المغنين وعريب معه على مصلاه. فأومأ إليها بقبلة، فاندفعت تغني ابتداء:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة
…
كحاشية البرد اليماني المسهم
تريد بغنائها جواب محمد بأن تقول له: (طعنة) فقال لها المأمون: أمسكي، ثم أقبل على الندماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه. فقام محمد فقال: (أنا يا أمير المؤمنين) أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت. فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك؟ قال: ابتدأت صوتاً وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة
الكتب
بعض رواد الأقصوصة المصرية
1 -
أقاصيص من القهوة
2 -
شعاب قلب
للأستاذ دريني خشبة
سعدت هذا الشهر بهديتين من أمتع الهدايا التي أوحت إلى موضوع هذا المقال، وهما مجموعتان من الأقاصيص، أولاها مصرية، والأخرى مصرية سورية، وصاحب المجموعة الأولى وأقاصيص من القهوة، هو شاب من خيرة شبابنا العصاميين، ليس أستاذاً في جامعة، ولا مدرساً في مدرسة، ولا محرراً في صحيفة. . . إنه شاب ممن آثروا الأعمال الحرة فنجحوا فيها لأنهم لم يستحيوا منها. . . إنه صاحب قهوة في مدينة دمنهور، إنه صديقي الأستاذ عبد المعطي المسيري الذي قدمه للقراء في الأمة العربية قاطبة الدكتور طه حسين، منذ عشر سنوات أو نحوها، بمناسبة كتيّبه القصصي الجميل (الظامئون)، الذي أهداه إلي في ذلك الحين، فكأن القطرة الأولى في كأس إخائنا المتين. والأستاذ المسيري قاص هادئ، يجري على فطرته، غير متأثر بأحد من كتاب القصة أو الأقصوصة في مصر أو في غيرها، وإن خيل إليه هو أنه صدى لهؤلاء القصاصين، وهذه إحدى النواحي الضعيفة فيه
كذلك من نواحي الضعف الشديد في الأستاذ المسيري أنه يبالغ في الاستخفاف بمنزلته في عالم القصص. فهو يتمنى أن تنشر له إحدى المجلات الممتازة شيئاً من هذه الأقاصيص التي ينشئها، ثم يطويها حتى يأذن الله فينشرها في إحدى مجموعاته. ولست أدري إن لم تنشر مجلاتنا هذا النوع الرفيع من القصص، فماذا عساها أن تنشر؟ أخشى أن يكون الأستاذ المسيري قد ترجم لنا عن مكنونات نفسه في تلك القصة الجميلة الثالثة التي أرسلها إلينا والتي طلبت فيها البطلة إلى البطل أن يكون أديباً ذائع الصيت ملحوظ المكانة في عالم الأدب، لأنها تمنى نفسها بأن تراه كذلك. وأخشى أن تكون القصة (عمتي) التي قلد فيها الأستاذ المازني هي تاريخ قصير لحياة المسيري نفسه. فالطفل الذي توفيت أمه ووكله أبوه
إلى عمه الطفل لتنشئه على هذا التخويف المستمر بالعفاريت و (البعابع) لا بد أن ينشأ على استعظام كل شئ واسترهابه، وإن خيل إلى الأستاذ المسيري أن الوالد اللبق استطاع أن ينقذ ولده من عقابيل ما صنعته العمة المحترمة. . .
إن هذه الأخطاء اللغوية التي يعترف الأستاذ بورودها في مجموعته وذلك في المقدمة لا تنقص من قيمة أدبه وفنه مطلقاً، وإن كنت أبغض أشد البغض أن يتهاون أحد من الكتاب أو أن يغض من أمر اللغة. وبالرغم من ذلك، فأقاصيص من القهوة، هي من أمتع ما قرأت من مجموعات القصص المصري الحديث، وهي شئ يبشر بمستقبل باهر ونضج قريب للأقصوصة المصرية التي هي ظاهرة من أقوى ظاهرات الأدب وأحبها إلى القلوب؛ فأقصوصة (حلة العيد) و (الحاج بكار) ثم قصة (الحياة في القهوة) لا تقل عن أبدع ما أنشأه تشيكوف وأندرييف وجوركي من القصص القصيرة. وليس هذا كلاماً نلقيه على عواهنه، فلمن شاء أن يقرأها وأن يرى بعد ذلك رأيه فيما نقول. . . وسأذكر دائماً أن ميزة الأستاذ المسيري هي قدرته على تحديد هدف القصة، وخلق موضوعها خلقاً كاملاً طريفاً
أما المجموعة الثانية (شعاب قلب) فهي للأستاذ الصديق حبيب زحلاوي المعروف بسعة اطلاعه على طرف الأدب الغربي وقدرته على تميز جيده من رديئه. والأستاذ زحلاوي من أدبائنا العصاميين أيضاً، فهو - كالأستاذ المسيري ليس أستاذاً في جامعة، ولا مدرساً، ولا محرراً صحفياً. . . لكنه من الشباب الذين آثروا الأعمال الحرة، وهم مع ذاك من رجال الأدب. فإلمامهم بالحياة - مصدر الأدب الأول، ومعين المعرفة الذي لا ينضب، ونبع التجارب الذي لا يغيض، هو إلمام الأديب الفيلسوف الناقد الذي يستطيع أن يرد كل شئ إلى أسبابه وأن ينفذ إلى علل الأشياء فيجلوها ويبسطها تبسيطاً عجيباً. . . وشعاب قلب كما قدمنا مجموعة من الأقاصيص التي تشبه المرآة السحرية، تنظر فيها الحسناء السورية، فترى في المرآة حسناء مصرية. . . وقد يحدث العكس. وإذا صح أن نشكر رذيلة من رذائل الماضي، فنحن نشكر للعسف العثماني في أسود عصوره الخالية مطاردته للأدباء اللبنانيين والسوريين لتنال مصر نصيبها الأوفى منهم، فقد ولى معظمهم وجوههم شطر مصر، فأووا منها إلى ركن أمين. . . ولله حبيب إذ يقول: (طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت في روحها، وألهمتني
وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها، أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حر. ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إلى. . . حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها جميلاً بجميل ووفاء بوفاء. لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيح بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين!. .) هذه آيات الوفاء ينبض بها قلب مخلص وفي. . . ونحن والله نرد التحية بأحسن منها، ونشكر المقادير التي وحدت آلامنا وأمانينا حتى أثمرت هذا الثمر الجني. . .
ثم ما أجمل بعد هذا شعاب قلب! إنها أرواح صداحة تملأ الكون شعراً وجمالاً وموسيقاً، وإن غسلته بالدموع أحياناً. . . إنها صور وافرة تزدحم بها السطور ازدحاماً عجيباً، فهذه الفكرة تدفع في ظهر تلك، وتلك تأخذ بتلابيب التي بعدها. . . فهلا انتظمت جميعاً في قصيدة رائعة واحدة؟! إنها شعاب قلب حقاً. . . بل هي قطع من قلب معذب، ونفس حائرة، تجيد العناء والبكاء والضحك، كما تجيد النفاذ إلى قلوب المحبين ونفوس الموجعين ومهج الحزانى. . .
ولكن. . . وآه من لكن الملعونة هذه!
ما هذا اللغو يا صديقي الذي لغا به صاحبك في أقصوصة الآباء البيض! ومن زعم له أن لا فائدة من علوم الكهنوت للذين يتهيأون لأن يطلوا على أرجاء الحياة السحيقة من كوّات الدين، وأن علوم الدين على وجاهتها وقداستها تغل العقول وتضيق الأذهان وتبلد الرجولة في الإنسان؟. . .
وما هذه الأحلام المزعجة عن خيانات الأزواج والزوجات؟ وفيم كل ذلك العنف وكل تلك الألوان الصارخة. . . حيث كانت الألوان الرمادية، والألوان الصافية - الألترامارين! - ألطف وأحرى وأنسب؟ أما النادي الشرقي، فقضيته في مجموعتك البديعة لا تقام إلا فيه، لأن فيه قضاتك. وأما اللغة وأغلاطها الكثيرة التي نبهك إليها الأستاذ العقاد في المقدمة فهي سوءة لا تغتفر لك
دريني خشبة
أبطال الإسلام: لمحمود نصير بك
في هذا الكتاب أربع وعشرون ترجمة لأربعة وعشرين بطلاً من أبطال الإسلام اختارهم المؤلف الفاضل ليعرضهم عرضاً تاريخياً؛ ليكون للأمة الإسلامية في كل بقعة من الأرض من سيرهم وروائع بطولتهم مثل تدفع الأبناء إلى التأسي بالآباء؛ وتحفزهم إلى العمل على استكمال عدتهم، لتتم لهم كرامة هذه الأمة العربية التي خرجت من ثنيات الوديان وكثبان الرمال ومضارب الصحراء، إلى الممالك العريقة ففتحتها ونشرت عليها راية الإسلام، وبثت فيها تعاليم القرآن.
وهذا المقصد الكريم هو الذي دعا محمود بك نصير في سنة 1924 إلى نشر تلك التراجم تباعاً في جريدة اللواء المصري؛ وهو الذي دعاه في سنة 1944 إلى جمع تلك التراجم في كتاب واحد، حتى يكون الرجوع إليها سهلاً؛ والاستئناس بها ميسوراً
لقد عبت في كلمة سابقة من (الرسالة) وفي هذا الموضع بعينه على من يجدون في رجال الغرب وفي معارك الغرب مجالاً لأقلامهم وميداناً لكتابتهم؛ فعندنا في تاريخ الإسلام والعرب من تفخر بهم البطولة، وتعتز بهم الرجولة، وتزهى بهم المواقف، وتتباهى بهم المعارك. وفي (القادسية)(واليرموك)(وذات الصواري) وفي (عمر)(وسعد بن أبي وقاص)(وخالد ين الوليد)(والنعمان بن مقرن) شواهد من الخبر
ولقد أنصف صديقنا محمود بك نصير حين أنصت لدواعي دينه، ودوافع إيمانه، فأرضى ربه وقومه وإسلامه بهذا الكتاب الكريم
محمد عبد العني حسن
البريد الأدبي
2 الشعر الجديد
لم يذهب عني، إذ كتبت مقالي السابق، أن التجدد من سنن الكون
النافذة، وأنه من طبائعه الدائبة، وأنه سار في كل شئ، حتى المعاني
التي في النفوس، والفكر التي في العقول، بل هو قوام الحياة وسر
البقاء
لقد رأينا الشعر العربي يتجدد منذ القدم ويتطور، ويتغير ويتحول، ويساير مختلف البيئات، ويتابع متعاقب العصور
فهل عبر الأعراب الأولون عن أغراضهم وميولهم كما كان يعبر سلائلهم من بعدهم؟ وهل تصرف شعراؤهم الأقدمون في فنون القول كما كان يتصرف محدثوهم؟
ألا ترى إلى الشعر قبيل الإسلام كيف صفت ديباجته، وندر فيه الحوشى من اللفظ، والمتعقد من التركيب، والنافر من المعنى؟
إن العرب إذ ذاك كانوا قد خالطوا من جاورهم من الأمم المتمدينة، بالتجارة والرحلة؛ فاستعاروا منهم كثيراً من الألفاظ والمعاني، فتطعم لسانهم شيئاً جديداً، وتذوق فنوناً طريفة، امتزجت كلها، فخرجت ألواناً عذبة، وطعوماً سائغة
ثم كان الإسلام، فقلب أوضاع الحياة العربية، وكانت متهيئة لهذا الانقلاب، كما هو شأن الحوادث الجسام في التاريخ لا تولد فجاءة؛ وإنما تعمل أسبابها في الخفاء، فتمهد للفورة.
وكان القرآن الكريم، فاجتمع هذان العاملان على أن يجددا تجديداً لم يعهد من قبل - في لغة الحديث وفي الخطابة وفي الشعر
وكلنا يعرف ماذا كانت أغراض الشعر الجاهلي؛ وكلنا يعرف أيضاً كيف عاد كثير منه في صدر الإسلام أسلحة سياسية ذات مضاء
وكذلك كانت حال الشعر - أو أبرز أحواله - في الدولة الأموية أو في معظمها
ثم تعاقبت العصور بعد ذلك وتتابعت الأحداث في البلاد الخاضعة للإسلام. وكان الشعر في خلال تلك الحقب يزدهر تارة ويذبل تارة. وربما أشرق في ناحية وخبا في أخرى في وقت
معاً، متأثراً في ذلك رقى البيئة أو انحطاطها، وقيام العدل أو فشو الظلم، واضمحلال الدولة أو عنفوانها
من هذه المثل الوجيزة - التي ما ادعينا أن ندلي فيها بعلم أو رأي جديد - نرى أن الشعر من حيث أنه كائن خاضع لمؤثرات شتى، في تجدد مستمر وتقلب وتحول. فلكل بيئة لونها ونتاجها لا شك في ذلك. والبيئة - كما يقول علماء التربية - تشمل كل مؤثر أيا كانت طبيعته
فهكذا يجب أن يفهم - في لغة الأدب - معنى التجدد، لا كما يوهمنا هؤلاء الأدعياء الذين أشرت إليهم في مقالتي السابقة، أولئك الذين سنحاول فيما يلي من حديثنا تصوير مذهبهم في القول، وإن كنا قد أخذنا على أنفسنا ألا يتخلل كلامنا ما يتم على أشخاصهم بلفظ أو إشارة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا
لقد تكون هذه المحاولة شاقة جداً، لالتواء طرقهم، واعتياص أساليبهم، وتستّرهم في تجديدهم وراء القعقعة والزخرف والترقيش
ولكنا سنحاول إن شاء الله.
(أ. ع)
من الفلك القديم
ساق إلىّ الأستاذ إبراهيم السعيد عجلان في الرسالة عدد 554 بعض أسئلة تتعلق باصطلاحات فلكية وردت في مقدمة ابن خلدون واستعملها العرب القدماء في مؤلفاتهم
وقبل الإجابة ألفت النظر إلى أن ابن خلدون لم يكن عالماً فلكياً ولا من الذين اشتغلوا بالرصد. وما جاء في مقدمته من معلومات وآراء في الفلك قد اقتبسه من فلكي زمانه أو من الذين سبقوه من عرب ويونان، ولم يكن من وضعه أو نتيجة لدرسه وبحثه.
وحين نعرض لآراء التي سأل عنها الأستاذ إبراهيم إنما نعرض للآراء التي كانت معروفة شائعة عند فلاسفة اليونان والعرب ومفكريهم في القرون المتوسطة وما قبلها
كان القدماء يعتقدون أن الأرض كرة قائمة في الفضاء على لا شئ، وإنها مركز الكون تحيط بها الشمس والقمر والكواكب والنجوم دائرة دورة كاملة كل يوم من الشرق إلى
الغرب جاثمة من فوقها نهاراً ومن تحتها ليلاً
ولكل من الشمس والقمر والكواكب والنجوم فلك حول الأرض أي طريق دائري يسير عليه. وهذه كلها تدور حول (الأرض) في أفلاك؛ فالقمر - وهو أقرب الأجرام إلى الأرض - يدور حول الأرض في فلك هو أقرب الأفلاك. وفوق فلك القمر فلك عطارد، ثم فلك الزهرة، ثم فلك الشمس، ثم فلك المريخ، ثم فلك المشتري، ثم فلك زحل، ثم فلك النجوم
هذا ما كان يقول به بطليموس وغيره من علماء اليونان. وقد أخذ كثيرون من علماء العرب ومن قبلهم الرومان بهذا الرأي واعتمدوا عليه. ومن هنا يتبين أن المقصود من الفلك الأعلى هو فلك النجوم الثوابت وهو يسير من الشرق إلى الغرب وتتبعه في ذلك سائر الأفلاك التي تحته أو التي في جوفه
ومع أن كلا من الكواكب السيارة وغير السيارة خاضع لسير آخر خاص به لا محل لتفصيله؛ فإنها على الرغم من ذلك تتحرك حول الأرض من الشرق إلى الغرب. وهنا يتجلى السبب في استعمال (قهراً) أو (قسراُ) كما وردت في بعض الكتب الفلكية القديمة
ولقد عانى العرب ومن قبلهم علماء اليونان كثيراً في تعليل بعض الحركات وفي تفسير بعض الظواهر الطبيعية على أساس ما أخذوا به واعتمدوا عليه في جعل الأرض مركز الكون. وعجبنا كما عجب غيرنا كيف أن بطليموس وأضرابه من حكماء اليونان والرومان وفلكي العرب والإسلام وفيهم البوزجاني والبتاني والبيروني والصوفي والطوسي وغيرهم - وهم من ذوي الأدمغة الكبيرة - نقول كيف أن هؤلاء تمسكوا بهذا الرأي وكيف أن أفق تفكيرهم لم يصل إلى استجلاء حقيقته وكشف الخطأ فيه، وأن عقولهم الجبارة لم تستطع أن تقودهم إلى معرفة حقيقة مكان الأرض من الكون
والواقع المقطوع به الآن أن الأرض جرم من الأجرام السماوية يدور حول الشمس ويخضع للنواميس والأنظمة التي تخضع لها موجودات هذا الكون، وأنها (أي الأرض) سيار كبقية السيارات لا أكثر!
(نابلس)
قدوري حافظ طوقان