الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 559
- بتاريخ: 20 - 03 - 1944
بين التخطئة والتصويب
للأستاذ عباس محمود العقاد
نبهني فاضل من علماء الأدب والتاريخ عندنا إلى كلمة (الأموية) نسبة إلى الأم في كتاب (الصديقة بنت الصديق) وقال لي إن النسبة إلى أم (أمي) على حسب القياس، فهل عدلت عنها لعلة؟
وكان تنبيهه هذا تنبيه العالم الذي لا يقطع بالقول قبل أن يسمع مختلف الأقوال، فكان منبهاً ومصححاً ومستفهماً في انتظار البيان والجواب في وقت واحد.
والواقع أن (الأمي) نسبة إلى (الأم) هي القياس الشائع الذي لا خلاف فيه، ولكن الأموي ليست بخطأ ولا هي بخلاف يأتي به مجرد الإغراب وفضول القول، لأن الحاجة ماسة إلى التفرقة بين معنى الأمي الذي شاع على الألسنة والأقلام للدلالة على الجاهل بالقراءة والكتابة، ومعنى الأمي الذي يدل على عواطف الأمومة والنسبة إلى أحد الأبوين
ولا خطأ في ذلك من جانب اللغة والقواعد النحوية، لأن (الأم) أصلها أمه وأمهة، وليس هذا الأصل مأخوذاً من تقديرات النحاة والصرفيين التي لا دليل عليها من المتواتر المنقول، ولكنه مأخوذ من اللغة المستعملة في الخطاب والشعر من كلام المذكورين قبيل الإسلام، ومن ذلك قول قصي ابن كلاب بن مرة جد النبي عليه السلام:
إني لدى الحرب رخي اللّبب
…
معتزم الصولة عالي النسب
أمّهتي خندف والياس أبي
فإذا قلبت الهاء واواً كما تقلب في سنه وسنوى وشفه وشفوى وعضه وعضوي، فليس في ذلك خلاف للمأثور ولا للمنصوص عليه، وفيه تيسير للتفرقة بين المعنى المقصود بالأمي والمعنى المقصود بالأموي على الاعتبار الذي قدمناه
يذكرني مجال التخطئة والتصويب في اللغة بقول بعض الحكماء: (إن قليلاً من البحث يؤدي إلى الإلحاد، ولكن الكثير من البحث يرد الملحد إلى الله)
فهذا الكلام بعينه يمكن أن يقال عن التخطئة في اللغة والأخلاق والتفكير وعن كل تخطئة تحتمل الوجوه المتعددة من الآراء، لأن التخطئة سهلة ولكن الدلالة على مراجع الصواب هي التي تشق على الأكثرين، وكذلك يسهل إيجاد الذنب على من شاء ولا يسهل إيجاد
العذر إلا على من خبر الدنيا وسبر الأخلاق وعرف طاقة النفوس وأغوار الطبائع والأخلاق
هذه حقيقة لا يحتاج العالم إلى التذكير بها لأنه يذكرها أبداً ولا يزال شعاره بين شبهات الخطأ والصواب: (وفوق كل ذي علم عليم)
ولكن الذين يحتاجون إلى التذكير بها هم أولئك الأدعياء الذين يقحمون أنفسهم فيما ليس لهم، ويخوضون عباب التخطئة والتصويب وليس عندهم من الزاد إلا محصول الفهارس والعناوين وجزازات اللمامين والجماعين
ومن هؤلاء دعي المقتطف الذي يجترئ على التخطئة في لغة العرب، وهو يقرأ ما أمامه بهذه اللغة فلا يفهمه ولا يخلص منه إلى ظاهر معناه، فضلاً عن باطنه الذي تتجه فيه الأذهان كل اتجاه
فهذا الدعي ينكر أن نقول: (آداب العرب النسائية) لأنه قرأ أن سيبويه نبه على أن النسبة إلى نساء نسوي. . . ويفوته أن سيبويه يتحدث بمذهب البصريين وحده، كما يفوته أن يرجع إلى بنية الفظ وإلى قواعد اللغة، فإن حكم نساء هو حكم نسوة ونسوان بغير اختلاف أياً كان القول في نساء سواء أصح أنها للكثرة أم صح أنها جمع نسوة إذا كثرن، وكلاهما لا يغير الحكم النحوي أقل تغيير
فمن الخطأ (أولاً) أن يقال أن نساء لا تستعمل إلا للكثرة لان القرآن الكريم يقول: (يا نساء النبي) وهن تسع ولا نزاع في أن القرآن مرجع لغوي يؤخذ به قبل كل كتاب وقد جاء في شعر الربيع بن زياد:
من كان مسروراً بمقتل مالك
…
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه
…
بالصبح قبل تبلج الأسحار
فالنساء بمعنى النسوة في الكثرة أو القلة، تحل إحدى الكلمتين محل الأخرى وتعطي حكمها بلا اختلاف
على إننا نفرض بعد هذا أن النساء لا تقال إلا للكثرة وهو فرض بعيد، فما دخل الكثرة في الحكم النحوي بالغاً ما بلغ الفرق بين عدد النساء القليلات أو النساء الكثيرات
بل نحن نذهب في الفرض وراء ذلك فنقول أن نسوة جمع امرأة من غير نوع الكلمة، وأن
نساء هي جمع نسوة، فلماذا تمتنع النسبة إلى الجمع وهي جائزة في مثل هذا المعنى
ألا يقال الأنصاري والأعرابي إذا أنزل الجمع منزلة القبيلة الواحدة؟ ألا يقال النسائي إذا أنزل الجمع هنا منزلة الجنس الواحد، ولم يكن المقصود به نسوة محدودات؟
إنما أتى صاحبنا هنا من علم الفهارس الذي يتخطف أوائل الكلام ولا يتعداه إلى مواضع التوسع والإفاضة
وإذا كان الفهرس قد دله على تنبيه سيبويه ولم يدله على شئ آخر فالذنب على الفهرس المسكين لا عليه
كذلك قلنا في كتاب (الصديقة بيت الصديق) أن الاختلاف يتراوح بين السنة الرابعة والسنة السادسة، فرجع صاحبنا إلى الجزازات فوجد أن (الإمام اليازجي) يقول إن التراوح غير هذا ويتابعه على قوله بعض الباحثين الفضلاء
لكن المراوحة بين العملين في جميع معجمات اللغة هي (أن يعمل الرجل هذا مرة وهذا مرة)، أو يقول هذا مرة وهذا مرة، والمراوحة بين الرجلين هي أن يقوم على كلٍ مرة، وبين الجنبين هي أن يتقلب من جنب إلى جنب
فإذا قلنا على هذا أن الاختلاف يتراوح بين السنة الرابعة وبين السنة السادسة فذلك صحيح ما دام الاختلاف هنا هو الفاعل الذي يقول مرة بسنة من السنين ومرة بسنة أخرى، فهو يتراوح بين القولين تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك
ويكون صاحبنا إذن قد عرف الجزازات والفهارس ولم يفهم معنى اليازجي ولا معاني المفرقين بين المراوحة والترجح، لأن الترجح انتقال دائم، أما المراوحة فهي ثبوت في حالة من الحالات ثم ثبوت في حالة أخرى، وهذا هو المقصود بما ذكرناه
ولكن هذا الكلام إنما يفهم بدماغ، ومن أين للفهارس والجزازات دماغ؟
وأعجب من هذه التخطئة وما شابهها في اللغة تخطئة في الجمع والطرح يحسبها ذلك الدعي من علم الجامعات، وهي لا تعدو علوم المدارس الإلزامية وكتاتيب القرى، إذا كان قصاراها أن (14 + 2=16) كما أراد أن يقول بعد مجهود في الإحصاء والتعديد
فنحن حين عرضنا لسن السيدة عائشة رضى الله عنها عند بناء النبي بها لم نقل إننا حصرنا سنها بشهادة الميلاد، ولا كان يعنينا أن نحصرها بتلك الشهادة أو بغيرها
وإنما عنانا أن نبطل قول القادحين في النبي أنه عليه السلام بنى ببنت صغيرة لا تصلح للزواج، وقد أبطلنا ذلك بالأدلة التي لا نكررها هنا لأننا في غنى عن هذا التكرير
فإذا جاز مثلاً أن تكون سنها ست عشرة سنة في أيام غزوة بني المصطلق ولم يكن ذلك قولاً قاطعاً لا تردد فيه فسبب ذلك أن عزوة بني المصطلق يتراوح القول فيها بين السنة الرابعة والسنة السادسة، ولا ضرورة لتكرير الشك في عدد السنين كلما عرضت لنا مناسبة لاختلاف التواريخ
إنما هذا هو علم الفهارس والجزازات الذي لا يعنينا ولا نلتفت إليه، ونحن لم يفتنا تحقيقه لأن جمع (2 + 14) عسير علينا أو على جامع أو طارح في أصغر المدارس الإلزامية، ولكننا تركناه للتقدير والترجيح إذ كان القطع فيه غير مستطاع، وإذ كان تكرير الاحتمالات كل مرة عبثاً لا يدعونا إليه داع
وبحسبنا أن نعلم أن عائشة خطبت قبل خطبتها للنبي، وأن الذي خطبت له كان المشركين - بحسبنا أن نعلم هذا لنعلم أنها خطبت قبل الدعوة الإسلامية وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينة، وهو البرهان الراجح على أنها حين خطبت لمحمد عليه السلام وبني بها بعد الخطبة بسنوات قد كانت في سن صالحة للزواج
تلك هي الحقيقة التاريخية التي تحتاج إلى بحث وتنقيب وموازنة للوقائع والتواريخ. أما (14 + 2=16) فهي كما أسلفنا من حقائق الكتاتيب الإلزامية لا من حقائق السوربون ولا من حقائق المدارس التي تجاوزت أوائل دروس الهجاء والحساب
على أن التخطئة في المنطق أصعب من التخطئة في اللغة والحساب، ولهذا كان فهم هذا الدعي وأمثاله لطريقتنا في الاستدلال فهماً يشوبه العي والغباء، كما يشوبه سوء الذوق وسوء التعبير
فنحن لم نقل إن الخطأ بعيد عن السيدة عائشة لأنها مؤمنة بالله ونبيه، فهذا دليل رخيص لا نتنزل إليه ولا ندين أحداً به ولو كان من المسلمين. وما قال أحد أن المؤمن معصوم من الخطأ وقد طال البحث بين أناس في عصمة الأنبياء
كلا. نحن لا نعتمد يوماً من الأيام على دليل يقبله المسلم ويرفضه غير المسلم، ولا على دليل يأخذه من يشاء ويرفضه من يشاء، ولو أجزنا ذلك لأنفسنا لأثبتنا آيات القرآن الكريم
في تبرئة السيدة عائشة ووقفنا عندها مكتفين بها أو متوسعين في شرحها، ولكننا كما يعلم قراء كتابنا قد أشرنا إلى تلك الآيات حين أشارت إليها السيدة عائشة ولم نزد على الإشارة بقليل ولا كثير
إنما دليلنا على براءة السيدة عائشة أنها إن كانت قد أخطأت - وبرأها القرآن - استحال عليها أن تؤمن بالكتاب وأن تصدق بأنه وحي من عند الله، وأيسر شئ عليها إذن أن تخترع الأحاديث على النبي عند مسيس الحاجة إلى الاختراع، وأي حاجة إلى الاختراع أمس من لجاج الخصومة بينها وبين على أو بينها وبين عثمان، بل أي حاجة إلى الاختراع أمس من تشيعها لطلحة أو الزبير ورغبتها في تقديم المسلمين إياهما وهي قادرة على تعزيز ذلك بكلام تعزوه إلى زوجها العظيم ويصدقه الأصدقاء والخصوم!
فإيمانها بالقرآن وبالأحاديث النبوية وتقديسها لحرمة تلك الأحاديث هو الدليل القاطع على براءتها من التهمة التي افتريت عليها. إذ هي لو كانت قد أخطأت وبرأها القرآن لكان إيمانها بالقرآن والأحاديث من المستحيلات، واستحالة الإيمان هنا حقيقة مقررة يقبلها عقل المسلم، ويقبلها عقل المسيحي، ويقبلها عقل الملحد الذي لا يدين بدين
ومن ثم يخطئ الأستاذ المسلم - الشيخ محمد يوسف موسى - إذ يقول: (إنه استدلال أن صدقه من يرى لأم المؤمنين النزاهة والجلالة من أجل دينه فحسب فقد لا يصدق به من لم يكن كذلك)
لأن التصديق هنا قضية عقلية لا فكاك منها. . . هل يقوم الدليل القاطع عند عائشة على أن القرآن برأها من ذنب جاءت به ثم تظل على إيمانها بالقرآن؟
الجواب هنا من المسلمين وغير المسلمين: كلا. بل هو مستحيل، وهذا هو الذي قصدنا إليه
وعلى ذكر الأستاذ المسلم - الشيخ محمد يوسف موسى - نرى من الواجب أن نعقب على كلامه ببعض التعليق المفيد
فهو يقول في كلمته (إني لم أتشرف بعد بصداقة الأستاذين، ولكني أعرف لكل منها حقه من التقدير)
فإن فهم أحد من هذه الكلمة أن الشيخ محمد يوسف لا يعرفنا ولا علاقة له بنا فذلك فهم يحتاج إلى تصحيح
وتصحيحه أن الشيخ قد عرفنا ولقينا وأهدى إلينا كتاباً في تاريخ الأخلاق وسألنا أن نكتب عنه وعاد إلى هذا الرجاء بوساطة من أصدقائنا، فاعتذرنا إليه آسفين لأن وقت القراءة عندنا محدود في هذه الأيام
ولا شك أن هذا التصحيح تعقيب مفيد على ما قال أو على ما يفهمه من كلامه بعض القارئين.
عباس محمود العقاد
فلسطين.
. .!
للأستاذ عمر الدسوقي
جهاد مجيد
لبيك يا فلسطين لبيك!
إن ما سطرته في سفر الجهاد والبطولة، وما ضربته من المثل الرائعة الجليلة، منذ حلت بك المحنة، ووفد عليك البلاء كان شآبيب الرحمة والغفران على أجداث آبائك الصيد الذين شادوا الدولة العربية قديماً؛ وسيظل رمزاً نبيلاً لأبناء العروبة يثير حميتهم إذا ونت، وبشحذ عزائمهم إذا فترت. فقد أبيت الضيم في شمم وكبرياء، ونهضت تذودين عن الحق المهضوم بقلب باسل ذمر يعاف الجنف والاستخذاء، وكلما ظن الدخيل أنها جذوة نار عما قريب تخمد زادتها حرارة إيمانك ضراماً فبذلت النفوس بذل السماح، فمن مات كان للوطن ضحية وقرباناً، ومن عاش كان للشرف نموذجاً وعنواناً. لقد هزم صبرك المال وسطوته، وقهر إيمانك الجيش وعدته. وقفت وحدك ردحاً من الزمن تذودين عن الحمى، وتصونين العربية، حتى عرف أبناء التاميز صدق جهادك وفقهوا كنه قضيتك، فأصدروا كتابهم الأبيض، وبه إقرار لبعض حقك على أن يكون لبنيك الغلبة في ديارهم، حكومة وعدداً، وأن تقف الهجرة الصهيونية في عامنا هذا
ثم انفجر مسعر الحرب ولف أوارها العالم في ريظته، وأبينا إلا أن نقف مع خصومنا بالأمس موقفاً يمثل نفسيتنا العربية الكريمة فبسطنا لهم أكف الصداقة في إخلاص لا تشوبه مداجاة أو رياء؛ لعلمنا أنهم يدافعون عن الحريات المسلوبة، ويقفون في وجه الجبروت والبغي، وعنجهية العنصر، والسيطرة الفردية؛ بل وبذلنا في سبيل نصرتهم كل ما قدرنا عليه، لم ندخر وسعاً، ونأل جهداً، ولم نكن يوماً على ذلك بآسفين.
دعوى اليهود
وإن تعجب فعجب لقوم يريدون أن يغتصبوا دياراً يعمرها أهلها منذ أربعة عشر قرناً بدعوى أنهم كانوا يقيمون بها قبل أن نضرب عليهم الذلة والمسكنة ويشردوا في الآفاق؛ مع أن دولتهم بها لم تزد عن قرنين!
وما ذنب العرب في أن اليهود لا يجدون لهم وطناً يأوون إليه؟ ولماذا تحل قضيتهم على حساب العرب وهم آمنون وادعون في ديارهم التي نزحوا إليها في الجاهلية، وفتحها أسلافهم بحد السيف وطردوا منها الرومان في الإسلام؟
إن الذنب في الواقع ذنب اليهود فهم لم يندمجوا يوماً ما في الشعوب التي نزحوا إلى ديارها، ولم يشاركوهم في السراء والضراء، بل ظلوا بمنأى عن ميادين الجهاد والتضحية، وجل همهم ادخار الثروات والنفوذ؛ وهذا ما بغضهم إلى كثير من الأمم فاضطهدوا في حقب التاريخ المتتابعة. ولو أخلصوا لأوطانهم التي أقاموا بها واتخذوا اليهودية شعاراً دينياً فحسب ما أساء إليهم أحد
سألت كثيراً من اليهود بإنجلترا: هل يفضلون الهجرة لفلسطين على أن يسلبوا الجنسية الإنجليزية أو يؤثرون حالتهم الراهنة؟ فكان جوابهم جميعاً: إنهم لا يرضون بغير إنجلترا بديلاً. فإذا سألتهم: لماذا إذا تعاضدون فكرة الوطن القومي؟ أجابوا: (حتى إذا أسئ لنا هنا وجدنا بلداً نأوي إليه)، فإذا جادلتهم: إما أن تكونوا إنجليز وإما أن تكونوا يهوداً؛ لأن الإنجليزي إذا أسئ إليه في بلده لا يتنصل من جنسيته ولا يرحل عنها، أرتج عليهم ولم يجدوا جواباً
إن دعوى اليهود في فلسطين لا يبررها التاريخ، ولا يؤيدها الواقع ولا يناصرها العدل؛ وأولى لهم - إذا كانوا حقاً ينفرون من الاضطهاد أن يكونوا مواطنين أوفياء للشعوب التي آثروا الإقامة بينها، يبذلون من أموالهم وأنفسهم وذكائهم وتجاربهم في سبيل رفاهيتها وسعادتها، ولا يبتغون من وراء ذلك مادة أو جاها شأن الوطنيين المضحين المخلصين، وحينذاك لا يجدون من يجرؤ على قذفهم بالخيانة والجشع، أو من يحاول التحريض عليهم وإرهابهم
وإن لم يكن في قدرتهم التغلب على طبيعتهم التي زادتها القرون تمكناً والضرب في الآفاق إرهافاً، فالأجدر بهم أن يبحثوا عن بقعة أخرى من الأرض تضم شتاتهم، وهم نيف وستة عشر مليوناً في أرجاء المعمورة المتباينة. ولعل هؤلاء الذين يعطفون عليهم ويؤيدون طلبتهم في إنشاء وطن قومي، وفي طليعتهم (المرشال سمطس)، وبعض شيوخ الولايات المتحدة يكونون صادقين في حدبهم عليهم ورفقهم بهم فيقطعونهم منفسحاً من الأرض في
الدنيا الجديدة أو جنوب أفريقيا، ويتركون فلسطين الصغيرة الوادعة الغاصة بأهلها الذين لا يريدون التخلي عنها أو يفنوا عن آخرهم
على أن فلسطين لن تحل المشكلة اليهودية فهي أضيق من أن تتسع لهم جميعاً مهما بالغوا في مقدرة المدن الصناعية على استيعاب السكان. وأين يذهب العرب؟ ولم يتركون أوطانهم وبيوتهم لغيرهم؟ ولم يصيرون أقلية مستضعفة في ظل دولة يهودية غريبة معتدية لها الأكثرية والحكم بعد أن كانوا هم أهل البلاد وأصحاب ثروتها منذ الفتح الإسلامي؟
ثم إن هذه الدولة الصناعية ليست خطراً على فلسطين فحسب ولكنها ستكون نكبة على الشرق العربي كله؛ لما لليهود في العالم من رءوس أموال ضخمة وخبرة فنية وصناعية واسعة ستجعل من الشرق العربي سوقاً لسلعهم، وتميت فيه الصناعات الناشئة، ولن يكون أهله إلا أجراء أو مستهلكين، والثمرة والمال لليهود المستغلين
ومن حجج اليهود الواهية المتداعية التي يخدعون بها بعض الساسة في أوربا ادعاؤهم إنعاش فلسطين اقتصادياً منذ ابتدءوا ينزحون إليها، وأن أجور العمال من العرب قد ارتفعت، ومستوى الحياة قد ارتقى، وكثيراً من الأرض اليباب القحلة قد أصلح، وكانت فلسطين قبلهم معدمة تغص بالمستنقعات ويعاني أهلها الجهل والفقر والغبن
على أن هذه الحجة غير صحيحة؛ فلم يفد العرب شيئاً من أموال اليهود ونشاطهم وهم دوماً يؤثرون العمال من بني جنسهم ويجعلون مدنهم ومستعمراتهم، ولا يتبادلون السلع مع العرب بل لا يشترون شيئاً منهم، واستولوا على كثير من الوديان الخصبة المزروعة، ولو كان ادعاؤهم هذا صحيحاً فالعرب يرفضون مدنيتهم ورفاهيتهم وأموالهم وصناعاتهم على أن تبقى لهم حريتهم الغالبة، ورحم الله عنترة حين قال:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
…
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
…
وجهنم بالعز أكرم منزل
إن صلة اليهود بفلسطين صلة دينية فقط، وأما طمعهم في جعلها وطناً قومياً يضم دولة يهودية فيجب ألا يفكروا فيها، لأن فلسطين جزء من الوطن العربي الكبير، ووجود دولة غربية بجنسها ودينها ومشخصات قوميتها وسط هذا الوطن خطر كبير عليه، ومدعاة للشغب والاضطراب والفتن الدائمة؛ ولن يرضى العرب بذلك أبداً.
ثم إن فلسطين عزيزة على العرب من مسلمين ومسيحيين، ولهم فيها ذكريات غاليات، وحرمات مقدسة، بل إن المسلمين جميعاً في كل صقع الأرض يقدسونها ويعظمونها، ولن تطيب لهم نفس أو يهدأ لهم بال إن غلب عليها اليهود
الوعي العربي
نحمدك اللهم على أن أفقنا أخيراً من سباتنا العميق، وأخذنا نتآلف ونتآزر، ونتشارك في السراء والضراء بعد أن فرقتنا أيدي المطامع بدداً، وبعد أن بحت أصوات المخلصين للوحدة العربية.
إننا نيف وخمسون مليوناً من الأنفس في بقاع متصلة من خير الأرض وأمرعها وأغناها وأحسنها موقعاً، تربطنا أواصر محكمة من اللغة والتاريخ والعادات والدم والدين والآمال والآلام؛ وإذا لم تكن هذه الأواصر كفيلة بتكوين أمة متحدة متماسكة اقتصادياً وعلمياً وحربياً وسياسياً، فلست أدري أي شئ يكوّن هذه الأمة!!
كانت قضية لبنان اختباراً لمبلغ الوعي القومي عند الشعوب العربية، والخروج من ميدان الكلام والإعداد إلى ميدان العمل والجهاد، بيد أن قضية لبنان لم تكن من التعقيد مثل قضية فلسطين. وهنا سيتجلى إخلاصنا للقضية العربية، ومبلغ صدقنا في الجهاد وثباتنا أمام الصعاب، وقدرتنا على تذليلها وتعبيدها. فإن وقفنا أمة واحدة تنطق بلسان واحد وكلمة واحدة لا تتغير، ولا تفتر لنا عزيمة، أو تلين لنا قناة فسننتصر ونخرج ظافرين من الاختبار بحول الله. وهي خطوة لها ما بعدها، إن نجحت كانت حجر الزاوية في بناء الصرح العربي المرموق
ولا يسعنا إلا أن يسجل بالحمد والشكر والفخر والتأييد موقف الحكومات العربية، وفي طليعتها الحكومة المصرية على احتجاجها الصارخ على معاضدة بعض الشيوخ الأمريكيين لقضية اليهود في فلسطين. ويقيننا أنهم أيقاظ للأحداث الدولية المنتظرة، وأنهم سيجعلون نصب أعينهم، وضمن برامجهم السياسية إنقاذ فلسطين من اليهود واستخلاصها للعرب، واستنجاز إنجلترا ما وعدت به في الكتاب الأبيض، وأنهم لن يلينوا أمان الضغط والدعاية اليهودية، وأنهم والحمد لله عامرة قلوبهم بالإيمان والإخلاص والوطنية
إن في هذه الحرب عظات ودروساً يجب أن نتلقفها ونفيد منها، فأقوى الأمم وأمنعها حوزة
وأغناها مالاً وأكثرها رجالاً، وأبرعها سياسة لم تخض غمار هذه الحرب بل اتخذت لها درءاً ونصيراً من الأمم التي تتفق معها في المشرب والمبدأ والأطماع وإن أمماً صغيرة كثيرة قد ابتلعت وتقوضت عروشها. وإن كل الأمم ينشد الحليف والمؤازر في هذه الحرب القاسية؛ ونحن كما ذكرنا أمة واحدة فرقتها سياسة العصور المظلمة، والأطماع الغاشمة؛ أفلا يجدر بنا أن نتعظ ونعتبر ونسير بخطى حثيثة نحو الوحدة أو الاتحاد رائدنا الإخلاص لأنفسنا ولأولادنا
هذا أمل نرجو ألا تعصف به زعازع السياسة، وأن يبقى عليه كبار الساسة، أو يتعهدوه بالري والنماء حتى يؤتى ثمرة حلواً جنياً. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وهو ولي التوفيق.
عمر الدسوقي
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
صاحبك من بختك
هذا مثل مصري، وهو يمثل متاعبنا في الحياة أصدق تمثيل، فما نشكو في حياتنا غير قلة الصاحب وانعدام الصديق
وأخطر ما يؤذيني في حياتي هو الشعور بأني لا أجد روحاً يجاوب روحي، وأنا لا أتهم أحداً بالغدر، فما خلق الله روحاً يقدر على مجاوبة روحي
أنا أعيش بلا صاحب وبلا صديق، لأني رجل ليس له بخت، ولأني رجل أغناه الله عن البخت، فليشبع أصدقائي بما عندهم من أطايب البخوت!
أنا أجود بالصداقة ولا أنتظر أي جزاء، لأن جودي فوق الجزاء.
وسيبكي ناس على أنفسهم إن فقدوني، ولن يفقدوني، فما تطيب نفسي بالصدوف عمن رضيت صحبتهم لحظةً من زمان
لن يقول أحدٌ إنه طوق عنق بجميل، فأنا دائماً صاحب الجميل.
تباركت وتعاليت، يا فاطر الأرض والسماء، فقد أغنيتني عن مجاملة الصاحب، وملاطفة الصديق
في لحظة من لحظات الضيق دعوتك فقلت: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك)
وقد استجبت لدعائي، فلم تحوجني إلى أحد من خلقك
وأنا بعد هذا أشكر لك نعمة لم تجد بها على أحد من خلقك، إلا أن يكون في مثل إيماني بك، وأدبي معك، وهي نعمة الصفح عن الصديق الكافر بالجميل
إن قدرتك على خلق البرية بما فيها من أنهار وبحار وجبال ونجوم وكواكب، إلى آخر ما تعلم وأجهل، لا تقاس إلى قدرتك على إغنائي عن خلقك
علِّمني كيف أثني عليك، فقد عجزت عن الثناء عليك ثلاثون سنة، ثلاثون، ثلاثون، وأنا أحارب الناس ولم يهزموني، لأنهم جهلوا سر قوتي، وأنا أعتز بك، وصاحبك من بختك، وأنت يا إلهي صاحبي وبختي، ولم يبق إلا أن أرجوك أن تعلمني كيف أثني عليك
محرجات النقد الأدبي
تمرّست بالصحافة السياسية والأدبية عدداً من السنين ولم أشعر بحرج يماثل الحرج الذي عانيته في الأسبوع الماضي ولكن كيف؟
كنت أعددت مقالاً لمجلة الرسالة أصاول به بعض المتجنين علينا من أدباء لبنان
ثم صلصل الهتَّاف بما معناه: (إن صاحب الدولة رياض بك الصلح أمر بأن لا يكتب حرف في صحيفة لبنان تجنياً على الأدباء المصريين)
وكان في مقدوري أن أتجاهل هذه الإشارة التليفونية وأن أقدم إلى مجلة (الرسالة) مقالي، وأستريح من تحبير مقال جديد
ولكن الرقيب الأعظم نهاني، وهو ضميري، فطويت مقالي، وكتبت لمجلة الرسالة حديثاً غير ذلك الحديث، في لحظة محرجة لم أكن أستطيع فيها كتابة أي حديث
وأنا أعتذر عما جرى به قلمي في مصاولة أدباء لبنان، وأتمنى لهم مثل الذي أتمنى لنفسي، وهو تصويب النظر إلى استكشاف محاسن الصديق
ثم أرجوهم أن يذكروا أننا نعاني محنة قاسية في حياتنا الأدبية، فالكاتب اللبناني يستطيع الظهور بمقالة أو مقالتين، والشاعر اللبناني يستطيع الظهور بقصيدة أو قصيدتين، ولا كذلك الكاتب المصري أو الشاعر المصري، فبلادنا لا تسمح بالظهور لكاتب أو شاعر إلا بعد أن يشقى بالنثر والنظم عشرين سنة أو تزيد
الفرق بين متاعبنا ومتاعبكم هو الفرق بين متاعب القاهرة ومتاعب بيروت
نحن في حياتها الأدبية نشقى شقاء لا يخطر لكم في بال، ولهذا ننتظر عطفكم علينا، ونرجو أن تترفقوا بنا ترفق الصديق بالصديق.
وزعامة مصر الأدبية عبءٌ ألقاه القدر علينا، ولولا الحياء لفررنا من حمل ذلك العبء الثقيل
أكرمونا بعطفكم، أكرمونا، لنصبر على حمل الراية في ذلك الميدان
إلى معالي الهلالي باشا
إنك تذكر أيها - الوزير الجليل - أني تجشمت السفر إلى الإسكندرية في الصيف الماضي وبيدي مذكرة أزكي بها إنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس ينتفع بها عشرون بلداً هناك،
وتذكر أني أخبرتك منذ أسبوع بما انتهت إليه تحريات مراقبة التعليم الابتدائي ففرحت وقلت: سأمضي لافتتاح هذه المدرسة بنفسي في مطلع العام الدراسي المقبل.
ومع أني واثق بأنك ستنجز وعدك، وبأني أستطيع أن أستهديك ما أريد لخير تلك البلاد العشرين، فقد جدت حالة توجب أن أسارع برفع ما يعترض هذا المشروع من العقبات. والله بالتوفيق كفيل
كانت ميزانية المعارف للعام المقبل تتضمن إنشاء خمس مدارس ابتدائية، وبهذا كان الأمل قوياً في إنشاء مدرسة سنتريس، ثم سمعت أن الوزارة عدلت الميزانية فاكتفت بإنشاء ثلاث مدارس، وخفت أن تؤجل مدرسة سنتريس، وإنما كان الخوف لأن الوزير نفسه حدثني أنه سينشئ مدرسة في الدرب الأحمر ومدرسة في بولاق، فهل تكون المدرسة الثالثة هي مدرسة سنتريس؟ ليت ثم ليت!
أنا أرجو معالي الوزير أن يتذكر أن القاهرة تنتهب حقوق الأقاليم، ثم أرجوه أن يضع حد لهذا الانتهاب، فما يجوز أن تأخذ القاهرة أكثر مما أخذت، ولا يجوز أن ننسى أن مواصلات القاهرة تعين القاهريين على الوصول إلى المدارس بأمان، ولو كانوا من أهل الدرب الأحمر أو بولاق، ولا كذلك الحال في الأقاليم، فالمواصلات هنالك في غاية من الصعوبة، ولا يتيسر الانتقال إلا مع التعب العنيف
قد يقال إن نائب بولاق يراعي أهل دائرته فيطلب إنشاء مدرسة، وإن نائب الدرب الأحمر يراعي أهل دائرته فيطلب إنشاء مدرسة، وأنا لا أعترض على مساعي هذين النائبين، فمن واجب كل نائب أن يقدم لأهل دائرته أقصى ما يستطيع من الخدمات
وهنا تظهر خطورة هذه القضية: فقد مضت عشرون سنة وسنتريس مسرح للحفلات الانتخابية، وكان كل مرشح يمنينا بأنه سينشئ في سنتريس مدرسة ابتدائية، ثم ينقضّ السامر وتذهب تلك الأماني!
لم يبق إلا أن استهدي عطف وزير المعارف على عشرين بلداً هي أخصب بلاد المنوفية، ففي سنتريس وحدها أكثر من ثلاثين شهادة عالية، وموقع سنتريس الجغرافي أجمل من موقع شبين وأظهر من موقع أشمون
أيكون من حق النواب أن يصل صوتهم إلى قلب وزير المعارف قبل صوتي؟
هذا مستحيل، فأنا من أمناء وزير المعارف، وأنا سفيره إلى جميع البلاد المصرية، فمن أوضح الواضحات أن أكون سفيره في البلاد تجاور بلدي، وأنا أعرفها كما أعرف نفسي
لوزير المعارف أن يتفضل فيطلب التقرير الذي قدمته لمراقبة التعليم الابتدائي ومعه تقرير الرقيب، وأي رقيب؟ هو رجل من أكابر المربين دعاه مراقب التعليم الابتدائي إلى مصاحبتي لمعاينة مدرسة سنتريس، لئلا يطغى علىّ حبي لبلدي فأقول إن اسمها سنتريس!
لمعالي وزير المعارف أن يقرأ هذين التقريرين ثم يفكر فيما يصنع، فأنا واثق بأنه سيكرم تلك البلاد العشرين، وندائي لمعاليه هو نداء تلك البلاد العشرين
زكي مبارك
عبقريات أزهرية مدفونة
للأستاذ دريني خشبة
مئات من الرسائل التي أنشأها النبغاء من أبناء الأزهر في كلياته الثلاث ليحصلوا بها على إجازاته النهائية - على طريقة الجامعات الحديثة - ملقاة في ركن سحيق من أركان الإهمال، وقلة العرفان في مكتبات الكليات، لا ينتفع بها أحد، ولا يلتفت إليها أحد، ولا يفكر أحد في أن ينفع بها الثقافة الإسلامية في الأمم العربية عامة، والنهضة الفكرية الحديثة في مصر الإسلامية بوجه خاص. والعجيب، بل أعجب العجب، ألا يلتفت ولاة الأمور في الأزهر إلى أهمية هذه الرسائل الثمينة في تدعيم شخصية جامعتهم الكبرى، وإثبات وجودها، والمساهمة بها في حياة المسلمين الفكرية، ومحاربة الأفكار الجاهلة التي أخذت تغزو إفهام الناس عن أقدم جامعات الشرق، بل أقدم جامعات العالم وأعظمها
مئات من هذه الرسائل التي أنشأها النبغاء من أبناء الأزهر بإرشاد أساتذته، وأساتذة الجامعة المصرية، وأساتذة النهضة الفكرية في مصر، مهملة مغفلة لا ينتفع بها أحد، لأن النظام الذي يرين على الأزهر الشريف يقضى على تلك الجهود الغالية بالدفن، كما يقضي على الآمال المنوطة بتلك الجهود بالضياع
لست أدري ما نصيب الأزهر في مئات الكتب التي غمرت السوق الفكرية في السنوات الخمس الأخيرة في مصر؟ لا شئ؟ فهل معنى هذا أن أبناء الأزهر أقل نشاطاً من سائر أبنائهم المتعلمين؟ كلا. . . فالحق الذي لا مرية فيه هو أنهم في المقدمة من حيث الإنتاج الذهني الرفيع كما وكيفا، لكنهم فقراء ومتوسط الحال منهم لا يستطيع أن يجازف بما يدخره من قروش في سبيل السناء العلمي ولآلاء الشهرة، بطبع بعض ما أنتجت قريحته من ثمار ما ألف وما يستطيع أن يؤلف. . . ولو أن هذه الميزانية الضخمة التي تربط للأزهر كل عام اتسعت قليلاً لطبع شئ من هذه الرسائل النادرة التي أودعها شباب الأزهر جهوده بل أرواحه وآماله لعاد هذا العمل على الأزهر نفسه بالسمعة الطيبة، وعلى الأمة بالنفع الجزيل، وعلى نهضتنا الثقافية بالخير العميم، ثم هو بعد ذلك كله عمل يلفت العالم الإسلامي إلى طابع الأزهر الجديد، وإلى الروح الذي يحدوه إلى السمى وإلى الكمال
وبعد، فما هذه الرسائل التي نشيد بها تلك الإشادة، والتي ندعو جميع الأدباء إلى التفضل
بالذهاب إلى الكليات الأزهر للاطلاع عليها حيث حبست عن الخير العام في أركان المكتبات تشبه المتاحف، أو أقبية المتاحف. . . حتى لتوشك أن تسمع من صفحاتها أنيناً وحسرات شاكية من إهمال أولى الأمر لهم على هذا الشكل المزري
كتب بعض هذه الرسائل خريجو قسم التخصيص على النظام القديم في الأزهر، ثم كتب معظمها خريجو هذا القسم على النظام الحديث، وقد بذل كل من أبناء النظامين جهوداً شريفة في الإحاطة بالموضوعات التي اختاروها. والذي يثير العجب في الخطة التي انتهجها كل من الفريقين في وضع رسائلهما هو تجافيهم عن روح الأزهر القديم، ومحاولتهم في إخلاص وصدق أن يطبعوا الرسائل بطابع البحث الجامعي العصري الطريف. ويحسن أن نقصر الكلام الآن على رسائل كلية اللغة العربية تلك الكلية التي تنافس في شرف وفي نبل معاهد المعلمين في مصر، كما تسير على هدى من كلية الآداب بالجامعة المصرية، وبتوجيه أساتذتها الأفاضل
لقد اهتم كبار كتابنا في العصر الأخير بالتاريخ الإسلامي فأخذوا يتبارون في كتابته في صور شتى، وأخذت كتبهم تصدر تباعاً، وتلقف الناس تلك الكتب فرحين مستبشرين لما تجلو لهم من صفحات المجد التي كانوا يسمعون بها ولا يعرفون منها شيئاً. . . ومن هذه الكتب ما طبع أكثر من مرة، ومنها ما لم يبق من طبعاته الأولى شئ. . . وقد تألفت أخيراً جماعة أخذت على عاتقها إصدار كتب شهرية عن أبطال المسلمين يتولى الكتابة عن كل منهم إما واحد من هذه الجماعة الفاضلة أو أحد الذين يقع عليهم اختيارها من أرباب الأقلام في مصر وفي شقيقاتها من الأمم العربية. . . ولقد شهدت في كتبة كلية اللغة العربية مجموعة كبيرة من الرسائل في التاريخ الإسلامي تناولت رجاله بالترجمة والنقد والتحليل والتحقيق (وتفلية) والموسوعات التاريخية والمقابلة بين رواياتها، ومعارضة تلك الروايات بما حققه المستشرقون، وما وقع هؤلاء من الحيف والتخبط أحياناً. . . مما لا يتوفر مثله من التمحيص إلا للدارس المنقطع الذي يرى بين كل سطر من سطوره وجه سائل أو يسمع اعتراض مناقش أو حجة ممتحن. فمما راقني من هذه البحوث المركزة، وما يحسن التمثيل به لما حوت تلك المكتبة من هذه الرسائل: بحث في نظام ولاية العهد في الإسلام، ورسالة في دخول الإسلام إلى الهند وانتشاره فيه، وأخرى عن تاريخ الإسلام في جزيرة
صقلية، ورابعة عن العلاقات السياسية بين الرومان والعرب، وخامسة عن العلاقة بين العلويين والعباسيين، ورسالة عن نشأة الدروز وعقائدهم، وبحث جميل مستفيض عن الأحزاب السياسية في عصر بني أمية، ورسالة عن دولة بني بويه. . . ومن البحوث غير الإسلامية رسالة أنشأها طالب هندي في تاريخ سوامي ديانند مؤسس الديانة الآرية في الهند، وهو أول كتاب من نوعه في اللغة العربية، أنفق فيه صاحبه جهوداً تثير الإعجاب. . . هذا، إلى مئات من الرسائل الأخرى التي تغطى التاريخ الإسلامي كله، وتتناول أبطاله المشهورين واحداً واحداً، في عرض جميل، وتبويب جيد، وتحقيق لم يدع مصدراً في دور الكتب المصرية، مخطوطاً أو مطبوعاً، إلا تناوله واستوعب ما فيه
أما الرسائل الأدبية فهي بلا شك مفخرة أبناء كلية اللغة العربية، سواء منهم من تخصص بعد الشهادة العالمية للمهنة - أي لمزاولة التدريس في المدارس وفي الأزهر، ومدة هذا التخصص ثلاث سنوات - أو من تخصص منهم للمادة - ويتولى خريجو هذا القسم التدريس في كلية اللغة العربية نفسها، ومدته سبع سنوات كاملة (!!). فمن أبدع ما يستلفت النظر من رسائل الأدب رسالة في تاريخ القصة في الأدب العربي، رأيت لزاماً أن أخص صاحبه في كلمتي هذه بالتهنئة لما استطاع أن يتناول به في بحثه القيم أطراف هذا الموضوع المتشعب من الاستقصاء والاستيعاب، ومنها رسالة في الكتابة في العصر العباسي شن فيها صاحبها حرباً شعواء على كثيرين من رجال الأدب في مصر، وكال فيها للدكتور زكي مبارك كيلاً شديداً، ثم رسالة طريفة عن الموشحات - نشأنها وصلتها بالشعر، وهي رسالة جيدة ما كان أحوج المكتبة العربية إليها. . . ثم عشرات من الرسائل عن البحتري والحطيئة والأخطل وابن زيدون والعرجي والأصمعي وغيرهم من ألمع الأسماء في الأدب العربي، وممن لم يتناولهم أحد في بحوث خاصة مستقلة إلا أبناء هذه الكلية الجنود المجهولون. . . ومن أطرف رسائل الأدب رسالة أنشأها صاحبها عن الأدب في عصر المماليك، وقد تناولت الرسالة هذه الناحية الغامضة من تاريخ الأدب المصري في عصر من أغمض عصوره. . . أما الرسائل التي وضعها متخصصو المادة فلا تزال قليلة العدد لقلة خريجي هذا القسم، وهي على قلتها رسائل جيدة عالية القدر شاملة الإحاطة، رأيت منها رسالتين في أدب الخوارج وفي أدب الشيعة، فلا أبالغ إذا سجلت هنا أنهما من
أثمن ما كتب في هذا الموضوع في العالم العربي.
ومن أكبر المآخذ على أزهرنا الشريف المبارك ذي الميزانية الضخمة والأحباس الخرافية أن يغير هاتين الرسالتين كما يصنع بأشباههما، فلا ينتفع بهما وبأمثالهما العالم الإسلامي والمشتغلون بالأدب. . . ومن رسائل التخصص في المادة بحوث قيمة في البلاغة وتاريخها. . .
ومن أروع ما يلفت النظر من رسائل اللغة رسالة في المبرد لا توجد إلا في مخطوط ضخم في دار الكتب العربية، وكان لابد أن يشهد أعضاء لجنة الامتحان هذا المصدر بأعينهم، فلما رفضت دار الكتب إعارة الطالب هذا المصدر، اضطر إلى نسخه كله. . . فكم من الجهد والعناء تجشم هذا الطالب المسكين في إنشاء رسالته الطريفة النادرة يا ترى؟!
ذاك ويطول الكلام إذا استعرضنا رسائل التربية وعلم النفس وما تناول به الخريجون تاريخ التعليم الإسلامي في مدارس بغداد والكوفة والبصرة ودمشق والقاهرة وقرطبة، وأصول التربية في القرآن والسنة. . . ثم مئات الرسائل في مختلف أبواب النحو والصرف والبلاغة والبيان والعروض
هذا قل من كثر. . . وهذا كله في كلية اللغة العربية فقط. . . وله أشباه ونظائر في الكليتين الأخريين. . . وهي عبقريات أزهرية مدفونة من التقصير المعيب أن تعمى عنها عيون القائمين بالأمر في الأزهر الشريف المبارك. . . وليذكر الذاكرون أن أعظم رجال النهضة في مصر الحديثة كانوا ناساً كهؤلاء الناس المغمورين، وأنهم جميعاً، أو أكثرهم، ممن للأزهر في ثقافتهم أوفر نصيب، عن قرب أو عن بعد. وأنه لو أتيح لكثير من هؤلاء النبغاء المغمورين سبيل الظهور والعمل لنفعوا عالم التأليف العربي بما لا يقدر عليه غيرهم، ولانتفعت بهم نهضتنا الثقافية بما لا تنتفع به إلا منهم، ولمهدنا لطائفة عظيمة منهم القيام بواجبهم الأدبي مكان زعماء تلك النهضة (بعد عمر طويل!
وبعد. . . فهذه ناحية من عبقرياتنا المدفونة توجد لها أشباه في الجامعة المصرية وفي دوائر ثقافية أخرى نرجو أن نتكلم عنها وننبه إليها قريباً.
دريني خشبة
الأنات الحائرة.
. .
للأستاذ راشد رستم
. . . وبعد فلست حائراً معك حيرتك مع الأنات أو حيرة الأنات معك، أو حيرة الناس من هذه الأنات، فلقد رأيتك بالأمس في الأمر باكياً، وسمعتك اليوم في هذا الأمر ناعياً، وأشهد أني أعهدك في كليهما شاعراً شادياً
إنك عاطفي رفيع، وإنك عاطفي عميق، ولا أقول قد تظهر منك العاطفة وتختفي، ولا أقول هي قد تثور أو قد ترعوى، فإن العاطفة عندك هي منك، وهي قائمة عند المحراب تصلي دائماً
ولقد حزنت عندما وصلتني أناتك، ثم (فرحت) بها لذاتها كما فرحت بها لأنها منك
أخذت أهمس لنفسي مترنما، وحيداً صامتاً، وأحيي بها الحزن صباحا ومغرباً، وستبقى معي آمنة في مكانها الحبيب كما سيبقى رنينها عالياً داوياً - وهكذا في الوقت الذي تبقى كامنة ساكنه هي في الحق ثائرة فائرة. . .
إن مستودعها عندي، رغم جرمه الصغير، واسع كبير يملأ الدنيا حباً، وتملؤه الدنيا تعباً. . .
ولما آنستني (الأنات الحائرة) غير حائرة، ونزلت عندي قادمة راغبة، أقبلت عليها راضياً شاكراً، ثم معها راشد شارداً. . .
وإذا أنا قد تأخرت في النداء فلست مقصراً ولا عامداً ولكنها موجة الأسى تملكت النفس بالهوى والقلب بالجوى فاستكانت الروح نائمة ثم استيقظت على الصوت الذي أبعث اليوم إليك مناجياً. . .
وإن لي من الأصدقاء من هم أهل العاطفة الباكية الشاكية وحملة القلوب الحائرة الثابتة، فذكرتني أناتك بهم كما ذكرتهم بها لأنها إبداع مثل إبداعهم وعواطف من طراز عواطفهم
ذهبت إلى (جوتيه) شاعر الألمان، فإذا به يعجب ويقول وحيد!! لا. لست أنا وحيداً. . . إنني أعيش مع الذكريات والصور العزيزة المحبوبة. . .
ثم التفت إلى كاتب الفرنسيس (أناتول فرانس)، فإذا به يقول وكأنه يرد على صاحبه - مهما حاول المرء فإنه دائماً وحيد في هذا العالم. . .
فرجعت إلى صاحب التفكير الواسع السيد جان جاك روسو فإذا هو يلقي القول الهادئ وقد لاقى من الزمان شدته فيقول - كلما كانت الوحدة التي أعيش فيها عميقة شاملة كانت الحاجة أدعى إلى بعض الذكريات لملء هذا الفراغ. . .
ثم اتجهت إلى البحر الزاخر والشاعر الحائر والروح الثائر السيد فيكتور هوجو فإذا به يصيغ القول على طريقته فيقول - إن المفكر المنبت كالصحراء، كئيب رغم الاتساع، مظلم رغم الضياء. . .
ثم رأيتني منذ عشرين عاما أستودع يومياتي الفرنسية في الغرب قولاً لم يتغير معي إلى اليوم، فكنت أقول - إن من لا حاضر له ينظر دائماً إلى ماضيه، ومن كان له حاضر فهو لا يرقب إلا مستقبلاً. ولكن أليست الحياة حاضراً قائما يتحول باستمرار إلى ماض يفوت ولا يموت. . .!
ثم لقيت في طريقي عجوزاً يناجي نفسه ويقول: الماضي! الماضي! هو القوى القدير. هو القوي القدير! الماضي! الماضي. . . فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله. . .
ثم ذكرت كلاماً كان عجيباً أن ينشر في (الحديقة والمنزل) وأن تنطوي صفحاتها على هذه العبرات جنب تلك الزهرات مما جعلني اليوم أسأل الأيام هل كان ذلك عن حاجة إلى الذوق، أم هي تنسيقات الحدائق والبيوت، أم هي صفحات الحياة. . .؟
وجدتني (أبكي لأني أرى ما يبكيني. وهذا المحزون اقرؤوه عني السلام. كل له حزن يعنيه، وما عرف الدنيا إلا حزين. .
اسمع التنهدات بعد الضحكات فاسمع ترجيع صدى لحزن مضى. . . ورنيناً لأنين سيأتي. . . وأشعر في ثنايا الضحكة نذير الدمعة. . . وأرى الابتسامة علامة الخوف من قرب الأسى. . .
إن دموع الأحزان هي أنقى دموع الإنسان. . .
والبكاء أول ميراث الأحياء الكرام من الأموات الكرام)
ووجدتني في نفس الحديقة أرى في الوقت ذاته الوجه الجميل في إطار من الزهر الجميل، وأسمع الشعراء يترنمون بأناشيد الربيع، وكان ربيعاً، وأرى الغانيات الحسان يمرن ويسرحن تحت الخمائل وبين الظلال. . .
فرجعت مسرعاً إلى شاعر الحب والحياة السيد الفريد دو موسيه، فإذا به هادئ مطمئن، يلقاني حزيناً باسماً ويقول في صوته الخافت ولغته السهلة النافذة: جميل أن تبكي وجميل أن تبتسم. . .
وأخيراً. . . ذكرت نغمات بكلمات سمعتها من سيدة باسمة الوجه، صبوح نصوح، تترنح وتقول: هل في العالم حزين؟ إنني في عجب! هل من يبكي وهذه الشمس تسطع في السماء، وهذه الأرض سندسة خضراء! لماذا البكاء وهذه الحياة حلم وهي هباء. . . ودمت لأخيك
(المعادي)
راشد رستم
محاورات الموتى
المحاورة الثانية
للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
أنكريون وأرسطو
أنكريون: شاعر غنائي إغريقي شهير من بلدة تيوس في بونيا ولد حوالي 560 قبل المسيح. كان دأبه التغني بالحب والخمر
أرسطو: من أعظم فلاسفة الإغريق ولد حوالي 384 قبل المسيح. فلما بلغ الثامنة عشرة من عمره ذهب إلى أثينا وتلمذ لأفلاطون عشرين عاما وتلقى بعد ذلك دعوة من بلاط مقدونيا ليعلم الاسكندر، وكان يومئذ في الثالثة عشرة من عمره. ولأرسطو الفضل الأكبر في نشوء الفلسفة والعلوم وازدهارها، وخاصة في العهود التي سبقت النهضة الفكرية والعلمية الحديثة.
ابتداء المحاورة
أرسطو: لم يخطر ببالي أن يجرؤ شاعر غنائي على أن يقارن نفسه بفيلسوف شهير مثلي
أنكريون: أنت رفعت اسم الفيلسوف، وأنا أيضاً أسكرت النفوس بأغاريدي، حتى أصبح الناس يلقبونني بأنكريون (الحكيم) وإنه ليلوح لي أن لقب (الحكيم) لا يقل منزلة عن لقب (الفيلسوف)
أرسطو: إن الذين منحوك هذا اللقب لم يتدبروا ولم يفكروا؛ وإلا فما الذي عملته حتى تستحق أن تلقب بالحكيم؟
أنكريون: أنا لم أعمل شيئاً سوى الشرب والغناء والغزل. وإن من أعجب العجب أن ألقب (بالحكيم) بهذا الثمن البخس، على حين أنك لم تحصل على لقب الفيلسوف إلا بشق النفس. فكم سهرت من ليال محاولاً نظم ما انتثر من علم المنطق الشائك! وكم ألفت من كتب ضخمة في موضوعات غامضة لعلك لم تفهمها أنت نفسك حق الفهم
أرسطو: أعترف بأنك قد توخيت أسهل الطرق إلى الحكمة. ولو لم تكن على جانب عظيم
من الذكاء لما استطعت أن تبلغ بقيثارك وكأسك من المجد ما لم يبلغه أعاظم الرجال بالدرس العميق والجهد المتصل
أنكريون: إني لأشم من كلامك رائحة التهكم؛ ولكني مازلت أعتقد أن من أصعب الأمور على المرء أن يشرب ويغنى كما كنت أشرب وأغنى، وإن من أسهلها عليه أن يفلسف كما تفلسف أنت. إنك لكي تشرب وتغنى كما كنت أفعل، يجب أن تتجرد من العواطف الجائشة، وألا تطمح إلى شئ ليس إلى حصوله من سبيل، وأن تكون مستعداً لأخذ الحياة على علاتها. وقصارى القول إن هناك عدداً من المسائل الصغيرة يجب على المرء قبل كل شئ أن يتدبرها مع نفسه؛ وأن هذه المسائل وإن كانت لا تحتاج إلى براعة فائقة، لا ينتهي منها المرء إلا بعد عناء طويل. أما أن يفلسف المرء، كما كنت تفعل، فلا يحتاج إلى كل هذا العناء، ذلك لأن الفيلسوف لا يضطر إلى معالجة نفسه من الطموح أو الطمع، وأن من الفلاسفة من تجمع لديه من المنح خمسمائة ألف ريال، ولكنه لم ينفقها كلها في سبيل العلم كما أراد مانحها. وجملة الكلام أن في هذا النوع من الفلسفة أشياء كثيرة تنافي الفلسفة
أرسطو: يظهر أنك سمعت عني وشايات كثيرة منذ هبطت إلينا. ومهما يكن من الأمر فإن مقياس الرجل عقله، وإن أسمي عمل في الوجود هو أن تعين الناس على فهم أسرار هذه الطبيعة واستجلاء غوامضها
أنكريون: إن هناك ما يبرهن على أن الرجال يسيئون استعمال كل شئ. فالفلسفة في ذاتها شئ جميل للغاية؛ ولو أحسن الناس استعمالها لأفادتهم فوائد جليلة جزيلة؛ ولكنهم أشفقو من أن تربكهم إذا هي تدخلت في أمورهم فقذفوا بها في الفضاء لتبحث عن الكواكب وقياس حركاتها، فإذا أعادوها إلى أرضهم استعانوا بها على بحث ما يظنونه هناك. وخلاصة القول أنهم حريصون ما استطاعوا على أن تكون الفلسفة مشغولة عنهم. ولما كانوا شديدي الرغبة في أن يكونوا فلاسفة بأيسر كلفة فقد وسعوا بفضل براعتهم، استعمال هذا اللقب حتى أخذوا يسبغونه في أكثر الأحيان، على الذين يبحثون في قوانين الطبيعة.
أرسطو: وهل ثمة لقب أصلح لهؤلاء من هذا اللقب؟
أنكريون: الفلسفة يجب أن تعنى بالناس فحسب، وألا تشغل نفسها بما عداهم؛ فالفلكي ينظر في النجوم، والطبيب يعنى بالأجسام، والفيلسوف يفكر في نفسه. ولكن من ذا الذي يرضى
أن يوضع في مثل هذا الموضع الشائك؟ لا أحد. واحسرتاه! ولذلك سمحوا للفلاسفة ألا يكونوا فلاسفة، واقتنع الجميع بأن يكونوا فلكيين أو أطباء. أما أنا فإني لم أكن بطبيعتي ميالاً إلى الإمعان في التفكير؛ ولكني واثق بأنه ليس في أكثر الكتب الفلسفية فلسفة بقدر ما في بعض قصائدي التي تزدريها هذا الازدراء. وإليك واحدة منها على سبيل المثال:
(لو أن في إمكان (الأصفر الرَّنان) أن يطيل أمد الحياة السريعة الأدبار لكلفت به أشد الكلف، ولملأت منه خزانتي، حتى إذا ما حانت الساعة، ولم يبق لي عند أحد شفاعة، رشوت به الموت ليؤجل حتفي. أما وإن ذهب الدنيا كلها لا يستطيع أن يمد في حياتنا ساعة واحدة، ولا أن ينير حلكة القبر، فلماذا إذن نعنى أنفسنا ونذرف الدمع السخين، بلا جدوى، على مصيرنا المحتوم؟ لا. . . أعط الثروة غيري، فليست لي بها حاجة، ودعني أرتع في ملذاتي، بين أصحابي ولداتي، وليكن نصيبي مما بقى من حياتي تلك الأفراح التي لا يقدر على منحها إلا الحب)
أرسطو: إذا شئت أن تقصر الفلسفة على علم الأخلاق فإنك واجد في كتبي عن الأخلاق أشياء لا تقل إبداعاً عن قصائدك. ومهما يكن من أمر هذا الغموض الذي قد تجده في بعض كتبي، والذي من أجله وبخت أعنف توبيخ، فإنك لن تجده في كل ما كتبت في ذاك الموضوع. لقد أقر العالم أجمع بأنه ليس ثمة أوضح ولا أروع مما قلت في العاطفة
أنكريون: ما أشد خطأك! ليست المسألة مسألة تحديد العواطف على طريقة من الطرق كالذي زعموا أنك فعلت، بل المهم التغلب عليها وقهرها. فالرجال يضعون بين أيدي الفلاسفة أخطاءهم عن طيبة خاطر، للنظر فيها لا لعلاجها. ولقد اكتشف الفلاسفة سر إيجاد قواعد أخلاقية لا تمسهم بقدر ما يمسهم علم الفلك. وكيف نملك ألا نضحك عندما نرى رجالاً يذمون المال وهم أشد الناس تكالباً على اقتنائه؟ ثم كيف نمسك نفوسنا عن الضحك عندما نشاهد أراذل الناس يتشاجرون فيما بينهم على تحديد معنى الشهامة.
(بغداد)
يوسف روشا
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 3 -
وأما رأي الشيخ عدي في النزاع بين (علي ومعاوية) فإنه يقول (كانا إمامين مجتهدين، ولكن المصيب منهما علي رضي الله عنه، وأصحابهما أصحاب إمامين مجتهدين، وقتالهم كان باجتهاد ولطلب الحق لا لحظوظ الدنيا، ولم يكن أحد منهم حريصاً على قتل أخيه، وقتلاهم جميعاً في الجنة. ونكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وننشر محاسنهم رضى الله عنهم، وإن الله قد غفر لهم)، فنرى أنه كان معتدلاً في رأيه يرى أحقية (الإمام علي)؛ ولكنه مع هذا لا يبخس (معاوية) حقه.
وامتاز عصره بظهور عدة مشايخ كمل (كالشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ قضيب البان الموصلي، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ وهب السنجاري) وغيرهم كثير. وكان (الشيخ عدي) أحد هؤلاء الكمل. وأسس طريقته (العدوية) فدخل فيها الأكرار والموالون للحزب الأموي ومن هذا الوقت صار يطلق على أنصار الحزب الأموي اسم (الأكراد العدوية) فظهرت حركتهم بمظهر صوفي، ولكن حبهم لبني أمية لم يطرأ عليه تغيير سوى أنهم خففوا من بغضهم لآل البيت، وكان ذلك بتأثير شيخهم (عدي). وعمر الشيخ عدي تسعين سنة. ونال من القبول عند أصحابه ما لم ينله سواه. وتوفى سنة 557هـ، ودفن في زاويته التي بناها (بلانش)، وقبره هناك معروف يزار.
وكان الشيخ قد استخلف ابن أخيه (صخر) قبل موته، وكان هذا عالماً عاقلاً على جانب كبير من الدين والتقوى، وصارت منزلته عند العدوية لا تقل عن منزلة عمه. سلك بأتباعه طريق الخير وأبعدهم عن المفاسد والشرور.
وخلفه بعد موته ابنه (أبو المفاخر عدي)؛ وكان لا يقل عن أبيه في العلم والورع وسلوك طريق الخير بأتباعه. وصار لهذه الأسرة منزلة عند العدوية دونها منزلة الملوك. ولكن الثلاثة الذين سلفوا لم يتدخلوا في أمور الدنيا. انقطعوا إلى الله عز وجل فكان الله معهم.
الدور الثالث
الشيخ حسن وابتداء الغلو في يزيد ومعاوية
وكثيرا ما تغر الدنيا بعض أصحاب المذاهب والطرق الدينية فينحرفون عن الجادة المستقيمة التي سار عليها آباؤهم وأجدادهم، وذلك استئثاراً بطاعة الأتباع واستغلالهم لمصالحهم الدنيوية. وإن (الشيخ حسن) هو أحد الذين غرتهم الدنيا لأنه وجد ما عليه أسرته من المنزلة الرفيعة وطاعة الأكراد العدوية لهم وشدة بأس هؤلاء الأكراد؛ وإن إشارة بسيطة منه تسوقهم إلى الموت وهم راغبون، فسولت له نفسه أن يبدل دينه وأن يظهر في الأرض الفساد. وهو بلا شك كان يريد أن يستغل الضعف السياسي الذي كان يشمل العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري ليعيد تشكيل الدولة الأموية. وربما كان يقدر له هذا لو سار على الطريق المستقيم الذي رسمه (الشيخ عدي الكبير)
انقطع (الشيخ حسن) عن أصحابه ست سنين ثم ظهر لهم وقد ألف (كتاب الجلوة لأرباب الخلوة) زاد أشياء باطلة في اعتقادهم نظماً ونثراً، وغالى في تعظيم (يزيد وعدي) ووجد كلامه قبولاً حسناً عندهم لأنه كان من رجال العالم رأياً ودهاء، وله فضل وأدب وشعر في التصوف يستهوي به أصحابه. وبذلك انقلبت الطريقة (العدوية) إلى فرقة مغالية في حب (يزيد وعدي)، فتطورت من طريقة دينية إلى حزب ثوري له صبغة دينية باطلة. فكم من دعوة صالحة انقلبت إلى غي وضلال! وكم من مبدأ سامٍ انعكس إلى جمعية هدامة! هذا إذا تولى الأمر أصحاب الأهواء والمطامع.
انتقل الشيخ حسن إلى الموصل وسكنها. ولعله كان يريد بهذا أن يكون على اتصال تام بأرباب الحكم (الاتابكي) لينفث سمومه الفتاكة فيهم ويتحين الفرص المناسبة. وصار له مريدون وأتباع في هذه المدينة، كما أنه نشر دعاته في (هيت) والكبيسات. وسنجار. وسامراء. وتكريت. وسورية) ولاقت قبولاً عند البعض لولا مناوأة الحزب العلوي لها. وصار الملوك يخشون أمر هذه الدعوة. وخاصة (بدر الدين لؤلؤ) صاحب الموصل فإنه كان من أكبر المناوئين لها لأنه يخشى على ملكه لقربه منهم. وفي سنة 644هـ قبض على الشيخ حسن وحبسه ثم خنقه بوتر وبدد شمل أصحابه من الموصل وفتك بهم فتكاً ذريعاً، ثم أخذ يختلق الحجج على أحفاد الشيخ عدي، ويكلفهم ما لا يطيقونه، ويرهقهم
بالضرائب الفادحة. وفي سنة 652هـ جهز جيشاً كبيراً عليهم وأعمل السيف فيهم ونبش قبر الشيخ (عدي الكبير) وأحرق عظامه. فأضعف أمر هذه الفرقة. ولا ننسى أن الملك (بدر الدين لؤلؤ) كان يميل إلى العلويين كثيراً، وأنه بنى الأضرحة والمراقد العديدة في الموصل لأبناء (الإمام علي) ولا تزال هذه الأماكن شاهدة على ما نقول
هذا هو تطور هذه الفئة من حزب سياسي معاد لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى طريقة صوفية عدوية خالصة لله، إلى فرقة مغالية في حب (يزيد وعدي)
الدور الرابع
خروجهم عن الإسلام
وفي القرن الثامن الهجري بدأ انحراف هذه الفرقة يزداد عن الإسلام، ودخل التجسم في اعتقادهم. ولا سيما أن رؤساءهم الدينيين حرموا القراءة والكتابة عليهم فأوقعوهم في ظلمات الجهل، وسخروهم لمصالحهم، وقادوهم حيث أرادوا. ودخل عقائدهم عقائد يهودية ومسيحية ووثنيه وصابئية وخارجية. وكانوا يسترون عقائدهم الزائغة عن الإسلام بكتمانها وعدم إباحتها. وصاروا بذلك فرقة باطنية خارجة عن الإسلام بكتمانها وعدم اباحتها. وصاروا بذلك فرقة باطنية خارجة عن الإسلام. ولا ندري متى تم هذا الانفصال؛ ولكن بعض النصوص تصرح بأن يزيدية (جبل مقلوب) بقوا محافظين على إسلامهم حتى القرن الحادي عشر الهجري، وهم على المذهب الشافعي كبقية الأكراد، ولا يشوب عقيدتهم إلا بغض (آل البيت) والتطاول عليهم. ولهذا فإننا نرجح أن انفصال اليزيدية عن الإسلام تم في العصور المتأخرة أي بعد القرن الحادي عشر الهجري
عقائدهم
تكفيرهم بقية الأديان
يعتقدون أن الأمم الباقية من مسيحيين ويهود ومسلمين على ضلال. ويجب على (اليزيدية) أن يجتنبوهم لأن إلههم (طاووس ملك) لا يحبهم كما يحب اليزيدية. وعليهم أن يكتموا أمر دينهم، وكتبهم المقدسة عنهم، كما يحذرهم من قراءة كتب هذه الملل لأنها مبدلة. جاء في كتابهم (الجلوة) (لا تقبلوا كتب الأجانب من اليهود والنصارى والإسلام لأنهم غيروها،
ولكن اقبلوا ما يوافق سنتي). وقال أيضاً: (جميع الكتب الموجودة بين الخارجين بدلوا فيها وزاغو عنها ولو كتبها الأنبياء والرسل المرسلون لأن كل واحد يبطل الآخر وينفى قوله ويضادده الحق والباطل معلوم عندي حتى وقوع البشر في التجربة) وهو يوصي أتباعه بالتعاضد والتكاتف ومقاومة من يريد أن يتطاول على تعاليم (طاووس ملك)، وعليهم أن يحتملوا المصائب والمحن بسبب هذا. وهو لا ينسى نصيبهم من المكافأة في أحد العوالم. قال في الجلوة:(الذين يحتملون المصائب والضيقات بسبي لا بد لي من مكافأتهم بأحد العوالم. جميع أتباعي أريد أن يتحدوا برباط واحد لئلا يضادوهم الأجانب. أيها الذين تبعتم وصاياي وتعاليمي أنكروا تعاليم الأجانب وأقولهم لأني لست أنا معلمها لهم وليست من عندي لا تذكروا اسمي ومكاني أمام الخوارج لئلا تندموا؛ لأنكم لا تعلمون ما يفعل الأجانب) ونرى كثيراً ما يوصيهم بالكتمان والمحافظة على أسرار كتبهم ودينهم لئلا يطلع الأجانب عليها، ولهذا فأن اليزيدية لا يبيحون بحقيقة اعتقاداتهم لأحد؛ وإن باحوا بشيء منها فلا شك أنهم يحرفونها امتثالاً لأمر (طاووس ملك) وقد جاء في مصحف رش بأن طاووس ملك خلق لهم عدة ملوك قبل الأمويين، وأن ديانتهم كانت قبل المسيح تسمى وثنية (وكل اليهود والنصارى والإسلام وغير ذلك من الطوائف حتى العجم أيضاً قاموا ضد ديانتنا، ولكن لن يقدروا عليها ولا علينا قط، لأن إلهنا يقوينا عليهم ويعلمنا العلم الأول والآخر)
(للكلام صلة)
سعيد الديوه جي
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
533 -
لولا الفول لطاروا
قال أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوى في كتابه (ألف با): كنت أقرأ على الحافظ بالإسكندرية رحمه الله وحرسها) جزءاً من تآليفه، فمررت فيه بحديث يرويه عن أشياخه عن الشافعي (رضى الله عنهم) قال: الفول يزيد في الدماغ، والدماغ يزيد في العقل. وأهل تلك البلاد ينقطون الفاء بواحدة من فوق، وينقطون القاف باثنتين من فوق أيضاً، فلم ألق بالي، وحسبت الفاء قافاً فقرأت (القول يزيد في الدماغ) فضحك - وكان حلواً ظريفاً، رحمه الله وقال لي: الفول يفرغ الدماغ أو نحو هذه الكلمة. فقلت له: القول عندي في الكتاب. فقال: إنما هو الفول، فأعلمني بمذهبهم في النقط، فقلت له كيف يزيد الفول في العقل، ونحن نقول في بلادنا بخلاف ذلك؟ فضحك وقال: سألت عن هذه المسألة شيخي فلانا فقلت له كيف هذا وطبرستان أكثر بلاد الله فولاً، وأهلها أخف الناس عقولاً؟ فقال لي: لولا الفول لطاروا. . .
(الرسالة): كان المرحوم الدكتور عباس حلمي طبيب الأزهر على عهدنا يرى هذا الرأي ويقول: (لولا الفول لجن الأزهريون من طول النظر في كتبهم المعقدة)
534 -
تمنيت وكيلا فسميته صديقا
قال أبو حيان علي بن محمد التوحيدي: قلت للهائم أبي علي: من تحب أن يكون صديقك؟
قال: من يطعمني إذا جعت، ويكسوني إذا عريت، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت
فقال له علي بن الحسين العلوي: أنت إنما تريد إنساناً يكفيك مؤونتك، ويكفلك في حالك، كأنك تمنيت وكيلاً فسميته صديقاً. . .
فما أحار الهائم جواباً
535 -
قد ضل عقلي في تراكيبه
أنشد للمأمون:
أما نرى ذا الفَلك الدائرا
…
أبيت من همٍّ به ساهرا
مفكراٌ فيه وفي أمره
…
فما أرى خلْقاً به خابرا
يخُبر عن لطف تدابيره
…
وكيف أضحى للورى حاصرا
قد ضلّ عقلي في تراكيبه
…
وصار قلبي والهاً حائرا
يا ليت شعري هل أُرى مرة
…
أكون في أبراجه سائرا
أكون معْ طالعها طالعا
…
وتارةً معْ غائرٍ غائرا
حتى أرى جملةَ تدبيره
…
وأعلم المستورَ والظاهرا
536 -
الغنى والفقر
سئل أبو محمد الجريري عن الفقر والغنى أيهما أفضل؟ فقال: لو لم يكن من فضل الفقر إلا ثلاث: إسقاط المطالبة، وقطع عن المعصية، وتقديم الدخول إلى لجنة، لكفى. فنقل هذا الكلام إلى أبي العباس بن عطاء (أحمد بن محمد) فقال: يا سبحان الله! وأي فضل يكون أفضل مما أضافه الله إلى نفسه؟ وأي شئ يكون أعجز من شئ تنافى الله عنه؟ لأن الله أضاف الغنى إلى نفسه، وتنافى عن الفقر، واعتد على نبيه فقال:(ووجدك عائلاً فأغنى) ولم يقل فأفقر، فكان اعتداد الله بالعطاء لا بالفقر ثم ذكر عند تشريف أسماء العطاء (إن ترك خيراً)، ولم يقل: إن ترك فقراً. فإن احتج محتج بأنه عرض عليه صلى الله عليه وسلم مفاتيح الدنيا فلم يقبلها وتركها اختياراً؛ فهذه صفة التاركين، والتارك لا يكون إلا غنما.
البريد الأدبي
3 -
الشعر الجديد
إني أعتبر الحقبة التي نبغ فيها البارودي وصبري وشوقي وحافظ، من أعظم حسنات الدهر على الشعر. فإن هؤلاء الأفذاذ قد أضاءوا لنا الظلمة الحالكة، بعد أن لبثنا فيها أحقاباً طوالا فالتفت إليهم العالم العربي - ومصر خاصة - التفات الساري إلى النجم المتألق، واستمع لهم وأنصت، وتحلى تغريدهم، وتدبر معانيهم، وفقه مراميهم، واستظهر قصائدهم. ثم لقد ذهبت فينا حكمهم مذهب الأمثال، نرددها في أنديتنا وسوامرنا، ونستعذبها لقربها من قلوبنا، وعلوقها بعواطفنا، وصلتها بأرواحنا
إنهم قد ترجموا لنا حياتنا، وعبروا عن آلامنا وأمانينا، وغنوا لنا في أفراحنا، ورفهوا عنا في أتراحنا، ووصفوا الوصف العجاب، وأبدعوا وجددوا ما شاء لهم التجديد والإبداع
لقد نفخوا في الشعر روحاً، ونفثوا في العربية حياة، وتركوا من ورائهم ثروة زخرت بالنفيس من القول، والفاتن من التصوير، والشريف من المعاني
إنهم لم يعنفوا حين عبروا، ولم يغربوا إذ فكروا، ولم يكن الزخرف من صناعتهم، ولا البديع من مقاصدهم. فجاءت لغتهم صفواً رائقة، وأساليبهم سائغة شائقة، وألفاظهم عذبة فائقة
لم تكن ثقافتهم من نوع واحد، ولا كانت من طبيعة واحدة. ثم لقد اختلفت في الحياة أعمالهم، وتشعبت مسالكهم، وتغايرت فيها مشاربهم. ولكنهم استقوا جميعاً من معين واحد، معين الأدب الصافي في أزهى عصوره، وأنضر أزمانه. فنهلوا منه وعلّوا، ثم نهلوا وعلوا، حتى استقام لهم القول، وسلس منه القياد، واستحكمت السليقة، وتمهدت الجادة.
هذا أحدهم حافظ إبراهيم؛ أخبرني مرة أنه يكاد يقرأ (كتاب الأغاني) من ظهر القلب، لطول ما عكف عليه ومارسه.
وكان رحمه الله شديد الحافظة، حاد الذكاء. وكنت أختلف إلى بعض مجالسه التي يذكرها من أصفيائه من لا يزالون بيننا في هذه الحياة
فكان يدهشنا حقا بواسع اطلاعه، وفيض محفوظه، وعجيب بديهته. وكان له في تلاوته وقفات خلوة للتعليق والشرح، والتعقيب والنقد. يتخلل أولئك نوادر من اللغة، وشوارد من
الأدب، وفكاهات ومقابسات، وموازنات ومناظرات.
سقى الله مجالسك الغر يا حافظ، فقد لا يجود بمثلها الزمان! فأين هذا - هو مثال وجيز من عبقرية شاعر - من متشاعري هذا الزمان الذي كل بضاعتهم قشور من هنا ومن هناك، وثقافة فجة، وجهل مطبق بالأدب العربي وتاريخه، وألفاظ ذات بريق يلوون بها ألسنتهم، لتحسبها من الشعر، وما هي منه - لعمرك - في شئ؟
أعود إلى تلك الحقبة التي أبرزت شعراءنا الأربعة، فأزعم أنها لا تعبر إلا عنهم وحدهم، وإن نجم بينهم فيها من يعترف لهم بالاقتدار وسمو الشاعرية.
وقد يكون هذا رأيا خاصاً بي، لا يشركني فيه غيري؛ ولكنه رأي هكذا كونته. وقد أعرض له بشيء من التفصيل، متى واتت الفرصة.
فلما خلا الميدان من هؤلاء الفرسان، ودالت أيامهم، سدلت على (المسرح) الستارة. ثم عادت فارتفعت، فإذا مشهد عجب، وإذا الحال غير الحال، وإذا نحن أمام فوضى النظم والنظام، تلك الفوضى التي يجب أن يتظاهر عليها فضلاء النقاد، وذوو الرأي من الأدباء، ليكبحوا من جماحها، ويفلَّوا من شرَّتها.
(للحديث بقية)
(ا. ع)
(النقد) بمعنى المال
تناول الشيخ أحمد محمد شاكر كتاب الأستاذ العقاد (الصديقة بنت الصديق) بالنقد في جريدة الوفد المصري فأنكر البيتين اللذين نسبهما العقاد إلى عروة بن الزبير وأجراهما على لسان عائشة
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده
…
لما بذلوا في سوم يوسف من نقد
ويقول الأستاذ شاكر: (ولكن العرب لا تعرف (النقد) بالمعنى المفهوم عند المتأخرين بمعنى المال كما يقول العامة (النقد)(النقود)، وإنما النقد عندهم تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. والنقد عندهم أيضاً خلاف النسيئة، وله معان أخر ليس منها المال نفسه، فإن شاء الكاتب الجريء - يريد العقاد - أن يكابر في هذا فليذكر لنا نصاً صريحاً ثابتاً من كلام
الفصحاء شعراً أو نثراً يذكر فيه (النقد) بمعنى المال نفسه)
فنحن ندلي بالنصوص التي حضرتنا مؤيدة لهذا المعنى
يقول الزمخشري: (نقد جيد ونقود جياد)، وابن قتيبة الدنيوري يحدثنا في أخباره العيون فيقول: قال إعرابي:
وفي السوق حاجات وفي النقد قلة
…
وليس يُقضى الحاج غير الدراهم
ويقول: قال دليم:
الله لَقَّي من عرابة بيعة
…
على حين كان النقد يعسر عاجله
ويقول الحريري في مقامته التاسعة والعشرين (الواسطية): (فقد وليت العقد، وأكفلت النقد). قال شارح المقامات أبو العباس أحمد القيسي الشريشي: (النقد هو المال الحاضر)
وقد أستعمل هذا المبنى لذلك المعنى المؤرخان الجليلان أبو الحسن المسعودي وابن خلدون.
هذا ما حضرني - والذهن كليل - من تراث العرب، وهو صريح في جواز استعمال كلمة (النقد) بمعنى المال كما هو معروف اليوم
سعد محمد حسن
إلى الأستاذ الكبير أحمد حافظ عوض بك
سيدي الأستاذ
سلام عليك في عزلتك بعدما ملأت الأسماع لطفاً وظرفاً؛ وبعد: فقد حدثني الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي عنك حديثاً يوزن وزناً. وقد جر إلى الحديث عنك رأيك الذي أبديته في الشعر الحديث، ونظمك لي مع أستاذنا الكبير خليل مطران في سلك واحد. ولقد شاء فضلك ومحلك في الأدب أن ترى في شعري رأياً أعده كثيراً على جهدي وإسرافاً في مثلي. ولكنك رضيت فارتأيت! ولولا أن أستاذنا الجليل النشاشيبي عاد إلى فلسطين بعد أن كان تسليمه علينا وداعاً، ومقامه بيننا غمضة عين، وخفقة قلب، وحسوة طير؛ لولا ذلك لزرتك في صحبته، وسعيت إليك في بطانته.
ولكنني ألقاك على صفحات (الرسالة) الغراء؛ فرأيك فيها وفي صاحبها مما يسر أن نذيع به. فأجعلها اليوم رسولي إليك، لشكرك والتسليم عليك. والسلام
محمد عبد الغني حسن
في ديوان (حافظ بك إبراهيم)
كتب الأديب رضوان العوادلي بالبريد الأدبي من مجلة الرسالة الغراء العدد (543) ما نصه:
(نسى الأستاذان أحمد أمين والزين أن يوردا هذه (القصيدة) في ديوان (حافظ إبراهيم)؛ فآثرنا نشرها في الرسالة الغراء)
أنا في يأس وهم وأسى
…
حاضر اللوعة موصول الأنين
ستهين بالذي (لاقيته)
…
وهو لا يدري بماذا يستهين
سور عندي له مكتوبة
…
ودَّ لو يسرى بها الروح الأمين
إنني لا آمن الرسل ولا
…
آمن الكتب على ما يحتوين
وكم أود أن أظفر بشعر لم يضم بعد إلى ديوان حضرة شاعرنا الكبير 0فأشعاره رحمه الله هي ذخر فني قيم - وثروة أدبية طائلة يعتز بها كل أبناء العربية - ولكن الأبيات هذه مثبتة بالديوان المذكور لم ينسها جامعوه، وهي بالصفحة (249) من الجزء الأول في باب الغزل تحت عنوان:(رسائل الشوق)
إلا أن ثم اختلافا في ترتيبها - فيه - والأحجى أن يكون الترتيب كما ذكره الأديب، وكما جاء أيضاً في مجموعة (مختارات الزهور) الصادرة لسنة 1916 بعنوان (لوعة وأنين)
وبعد، فلحضرة الباحث الكريم جزيل احترامي.
(مكة المكرمة)
حسن عبد الله القرشي
(أبو شوشة والمواكب) لمحمود تيمور بك
للأستاذ محمود تيمور بك اختيار لطيف لأبطال مسرحياته وقصصه، فهو يوائم بين الاسم وصاحبه حتى لتجد المطابقة بينهما تامة غير منقوصة. ففي مسرحيته الفاتنة (سهاد) ترى (أم سرعرع) علماً على العرافة؛ وترى (أقميش وقرطيش) علمين على القزمين اللذين
يثيران الضحك في كل حركة أو كلمة. وفي مسرحيته (المنقذة) ترى (شلبية) قارئة البخت. وفي مسرحيته (قنابل) ترى القزم (كتكوت) وناظر الزراعة (حواش أفندي). وفي مسرحية (أبو شوشة) ترى شخصية (الشيخ غندور) وهو شيخ أخفق في دراسته فاتخذ من (عطوة باشا) سبيلاً إلى التندر والمضاحكة في مجلسه
ومحمود تيمور يختار لمسرحياته الأزمان التي توافق فنه الرفيع: كما يختار لها الأمكنة الملائمة. فمسرحية (سهاد) مثلاً زمانها عصر الخلافة الإسلامية، ومكانها الصحراء العربية بوديانها وكثبانها ومضارب الخيام فيها. ومسرحية (المنقذة) مكانها مصر وزمانها عصر المماليك، ومسرحية أبو شوشة مكانها مصر وزمانها عصرنا هذا وأشخاصها مصريون أصلاً. وكذلك مسرحية (الموكب) التي طبعها محمود تيمور مع (أبو شوشة) في كتاب واحد
وفي أغلب مسرحيات تيمور طابع من (الفكاهة) المتمثلة في شخصيات مضحكة؛ وهذه الشخصيات يعرضها المؤلف دائماً في معرض التهريج والعبث. (فالشيخ كروان) مهرج من المرتزقة الطامعين من فتات موائد الأغنياء. وهو أضحوكة مسرحية (الموكب). والشيخ (غندور) مهرج آخر في مسرحية (أبو شوشة)؛ فهو أزهري متحذلق. وقد اتخذه عطوة باشا سميراً ونديماً. . . لا بل اتخذه مضحكاً ومهرجاً. . .! فهو حين يقدم إلى مؤنس بك ينحني ويقول فيضحك الجمع منه، والمؤلف هنا بارع، فهو لا ينطق الشيخ (غندوراً) إلا بهذه اللفظة الفرنسية، ويترك القارئ وحده يضحك لهذا الشيخ المتفرنس!
أما الشيخ (كروان) مهرج مسرحية (الموكب) فهو شيخ متحذلق أيضاً؛ إلا أنه يزيد على صاحبه (غندور) بالثرثرة والسجع المتكلف والتملق المرذول. اسمعه مثلاً وهو يخاطب (فضل الله باشا)(أقسم برب الكعبة المشرفة، غير حانث ولا كاذب، أنك رجل هذا العصر، ومنارة مصر، وأوحد الدهر - ص 83). ولا يكتفي الشيخ بهذا بل ينشد أبياتاً في مدح الباشا يصفق لها السامعون ويشتركون في الضجيج حتى المتوقرون منهم أمثال بديع بك وزهرية هانم
والمؤلف ليس عنيفاً في إدارة الحوار وتجلية الطبائع، لكنه يسوقها في هدوء بالغ، ولست تحس وأنت تقرأ (تيمور) عنفاً أو صخباً أو جلبة. ولكنك ترى الهدوء الذي ينطوي في الإلغاز والرمز. وهذا سر أن مسرحيات تيمور لا تختم بما تختم به مسرحيات غيره من
المؤلفين. ولعل هذا سبب في أن المسرح المصري لم يحط من مسرحيات تيمور بتمثيل العدد الكثير. فإن إخراج مثل النوازع النفسية الباطنة في مسرحياته يحتاج إلى مخرج بصير مدرك، وجمهور أعمق مرامي من جماهير المسرح اليوم
ألحق أن محمود تيمور فنان مخلص لفنه، فلا تنقطع بينهما صلة على الرغم من أثقال الزمان. وقد أخرج من عهد قريب مسرحيتي (المنقذة وحفلة شاي) ومسرحية (قنابل) وهاهو ذا اليوم يخرج (أبو شوشة والموكب) في اللغة الفصحى التي كان المغفور له والده علماً من أعلامها. ولا شك في أن نشر (مجلة الصباح الدمشقية) لهاتين المسرحيتين بعد مشاركة طيبة من سورية الناهضة في إعلاء شأن المسرح العربي الحديث. وهي مشاركة سبقها فيها (لبنان) الأشم بنشر (نداء المجهول) للمؤلف نفسه