المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 56 - بتاريخ: 30 - 07 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 56

- بتاريخ: 30 - 07 - 1934

ص: -1

‌بين السياسة والأدب أيضاً

أشارت (الرسالة) في عددها الماضي إلى كلمة أسف وعتاب مُر كتبتها إحدى الزميلات الدمشقيات لمناسبة وفاة شيخ العروبة المغفور له احمد زكي باشا، تشكو فيها من طغيان السياسة على الأدب في مصر، وتنعى علينا تقصيرنا في حق العظماء الراحلين من أدبائنا ومفكرينا، وتلاحظ أن العلامة الراحل لم يشيع إلى مقره الأخير بما يجب لعلمه وأدبه وخدماته للإسلام والعرب، من التجلة والاهتمام؛ هذا بينما تغمر ذكرى بعض الراحلين من رجال السياسة بمظاهر الإجلال الشامل، وتفرد لها في الصحف عشرات الفصول الرنانة، ويحتفى بها أيما احتفاء.

ونعود فنعقب على ما كتبته الرسالة بأن ملاحظة الزميلة الدمشقية جديرة بكثير من التأمل، وفيما تنعيه علينا كثير من الحق. فنحن نشعر منذ أعوام طويلة بطغيان الاعتبارات السياسية على كثير من مظاهر حياتنا العامة والخاصة، ونشعر بما تجنيه هذه الاعتبارات على كرامة التفكير والأدب. وقد ظهر هذا الأثر في مواطن ما زالت تثير في نفوسنا كثيراً من الأسى والألم. ففي مثل هذا الوقت منذ عامين، توفي شاعر مصر الكبير المغفور له حافظ إبراهيم، فكان حقاً لعظمته وعبقريته أن يكون جنازه حادثاً قومياً عظيماً تشترك فيه الأمة كلها شعباً وحكومة؛ ولكن حافظاً شيع إلى قبره في حشد متواضع من الأصدقاء والمعجبين، وحالت الاعتبارات السياسية دون أن يسبغ على جنازه أية صفة رسمية أو قومية، ولم يقم لذكراه أي حفل تأبين لائق. وكان لهذا الإغفال المؤلم صداه يومئذ، فألفت لجنة من بعض الكبراء والأدباء أصدقاء حافظ لتستدرك هذا التقصير المعيب في حقه، ولتقوم بما يجب لتخليد ذكراه؛ ولكن هذه اللجنة لم توفق للأسف إلى القيام في هذا السبيل بعمل يذكر؛ ولم تبد دوائر الأدب من جانبها أي اهتمام بحافظ وتراثه، ولا زالت ذكرى الشاعر العظيم نسياً منسياً.

وثمة حادث آخر ظهر فيه طغيان هذا التيار السيئ، هو أنه لما أرادت الحكومة أن تكرم ذكرى أمير الشعراء المغفور له احمد شوقي بك في حفل رسمي دعت إليه ممثلي الأقطار العربية الشقيقة، لم تفكر في زميله وقرينه حافظ؛ ولو أنها أرادت أن تكرم ذكرى الشعر للشعر والأدب للأدب ولم تبد مثل هذه التفرقة بين رجلين اشتركا في حمل زعامة الشعر العربي زهاء ربع قرن، وساهما في مجد مصر الأدبي بقسطين متعادلين لكان عملها جديراً

ص: 1

بكل تقدير. ولكن ظروف هذا الحفل كلها كانت تنم عن تغلب هذه الاعتبارات الخاصة في إقامته وفي تنظيمه؛ وهي ظروف واعتبارات شعر بها ولاحظها وأسف لها جميع إخواننا مندوبي الأقطار العربية الذين شهدوا هذا الاحتفال.

وبعد فهل نسي أحد قصة مثّال مصر العظيم مختار وما جنته الاعتبارات السياسية على شخصه وفنه أثناء حياته ثم بعد وفاته؟ لقد قضى مختار معذباً منسياً مهضوم الحقوق، لا تحفل الحكومة بأمره، ولا تذكر أن له فناً وآثاراً رفعت اسم مصر عالياً؛ وحذت الهيئات العلمية والأدبية حذو الحكومة في تناسي مختار وفنه وذكراه.

وهذا الروح المعيب يكاد يتغلغل في جميع الهيئات المصرية، رسمية، وغير رسمية. وفي كل يوم ترتكب في ظله وتحت تأثيره تصرفات يأباها العلم والأدب، وتأباها اللياقة والذوق السليم. وكثيراً ما تجني هذه التصرفات على العلم والأدب، وحقوق العلماء والأدباء. والأمثلة عديدة معروفة لا يتسع المقام لذكرها، والتبعة في ذلك لا تقع على الهيئات الرسمية أو الحزبية وحدها وإنما تقع أيضاً على الهيئات العلمية والأدبية نفسها، وعلى العلماء والأدباء أنفسهم. أما تبعة الهيئات، والهيئات الرسمية بنوع خاص، ففي إنها تمزج بين السياسة والأدب عن عمد وتدبير، وتخضع الأدب والعلم لمؤثرات السياسة وهواها؛ هذا مع إن التفكير والأدب تراث قومي عام، بل هما تراث إنساني يرتفع فوق جميع الاعتبارات والمؤثرات الحزبية والمذهبية. ومن واجب الحكومات والهيئات المستنيرة أن تقدر هذا المبدأ وأن تحترمه دائماً. وإنما تبعة الهيئات العلمية والأدبية والعلماء والأدباء، ففي أنهم بجمودهم وتقصيرهم يشجعون على تلك التصرفات المغرضة المعيبة، وأحياناً يساهمون في ارتكابها متأثرين بنفس تلك الاعتبارات التي يجب عليهم أن يحاربوها بكل قواهم.

لقد جنت هذه الاعتبارات والمؤثرات على تفكيرنا وأخلاقنا وأصابت حركتنا الأدبية بكثير من ضروب الفساد والشر، وكانت هيئاتنا الرسمية والعامة دائماً في ذلك قدوة لا تحمد. وما زلنا منذ أعوام نعاني هذا الإفساد ونستكين له. أفلم يحن الوقت إذاً لكي نحارب هذا التيار الخطر ونعمل على إقناع حكومتنا وهيئاتنا العامة بأن الحركة الأدبية يجب أن تحرر من تلك المؤثرات والاعتبارات الخاصة، وإن التراث الفكري والأدبي يجب أن ينظر إليه لذاته، وإن من حق المفكرين والأدباء أن ينالوا دائماً، أثناء حياتهم وبعد مماتهم، من رعاية

ص: 2

حكومتهم وأمتهم ما هو جدير بأقدارهم العلمية والأدبية قبل كل شئ؟

(ا. ع)

ص: 3

‌نجار ونجار

للأستاذ احمد أمين

استأجر دكاناً أمام منزلنا الأسطى حسن النجار.

وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره، مهزول الجسم، أصفر الوجه، ينتعل نعلاً بالية، ويلبس ثياباً رثة، وعلى رأسه طربوش أسفله أسود، وأعلاه أحمر، وقد دفعه إلى الوراء ليظهر (قصته) من شعره، فرّعها فروعاً ورفعها إلى السماء لتناطح السحاب.

ينظر إليك بعين منتفخة كأنه قريب العهد - دائماً - بنوم طويل ثقيل، ويمشي متطرحاً كأن في رأسه - دائماً - فضلة خُمار، وعلى وجهه غبرة كأن الماء لم يمسه أبداً، أقوى شئ فيه لسانه في السباب، وصوته في النزاع.

ليس لفتح دكانه أو إغلاقه موعد ولا لعمله وراحته وقت محدد، يحلو له أحياناً أن يغلقه في الصباح ويفتحه في الظهر إذا بدأ الناس يقيلون، وأحياناً يسره أن يتركه مغلقاً طوال النهار ويفتحه ليلاً حيث يبدأ الناس في النوم، فيضئ مصباحه ويخرج عدده وأدواته في الشارع، ويأخذ في نجارته ما حلا له ذلك، فحيناً إلى الفجر، وحيناً إلى الصباح، تحاول أن تصده عن ذلك وتنصحه فيظهر الطاعة ثم يستمر في خطته؛ وأحياناً تنقلب دكانه في الليل حلبة الكميت، يتنادمون ويتشاربون حتى إذا تمشت الخمر في مفاصلهم، ودبت في عظامهم، ذهبت بهم كل مذهب، وأخذت منهم كل مأخذ. فتغنوا أحياناً، فوقع الغناء في نفوسهم أحسن موقع، وصاحوا جميعاً بصوت واحد: آه! ممدودة ما طاوعتهم أنفاسهم - وأحياناً يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات، ويعقبون كل نكتة بضحكة عالية تسر نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم.

وإذا فتح الدكان نهاراً فمعرض غريب، لا لجودة المصنوعات ولا دقة المعروضات، ولكن لأصحاب الحاجات قد أتوا يطالبون بإنجاز أعمالهم، والشكوى من تأخير طلباتهم، ثم يصل الأمر في أغلب الأحيان إلى تدخل البوليس، وأحياناً يكون ما هو أدهى وأمر، إذ يكون قد سلم إليه صاحب حاجة دولابه أو كرسيه لإصلاحه فلم يجد دولابه ولا كرسيه، لأن الأسطى حسن اضطرته الحاجة الملحة فباعه وأضاع ثمنه.

وهكذا أصبح شارعنا بحمد الله معرضاً في النهار للسباب والمشاكل والخصومات

ص: 4

والبوليس، ومنتدى جميلاً ليلاً لأهل السماح الملاح، إلى الصباح.

وأخيراً عدت من عملي يوماً فرأيت الزحام شديداً على دكان الأسطى حسن، وإذا جلبة وضوضاء، وصياح يملأ الآذان؛ وإذا المنادي ينادي لبيع عدد النجارة وأدواتها:

منشار في حالة جيدة!

عشرة قروش - أحد عشر - إثنا عشر

ألاوونا - ألادو - ألاتريه

وهكذا حتى تم بيع كل ما في الدكان وفاءاً لكرائها خمسة شهور تأخرت على الأسطى حسن. وكان شعوري إذ ذاك مزيجاً من غبطة وألم، وحزن وفرح فقد آلمتني خاتمته، وأفرحني ما منيت به نفسي بعد ذلك من نوم هادئ سعيد.

ودعوت ربي جاهداً ألا يرغب في الدكان مستأجراً بعد، فإن كان ولابد فكواء أو عطار، لا نجار ولا بائع فراخ ولا مبيض نحاس، وقصرت شكواي على الله بعد أن جربت البوليس فوجدته لا يأبه لهذه السفاسف وليس له من الزمن، ما يلفته لهذه الصغائر.

ولكن أبى القدر أن يستجيب دعوتي - وكأن الدكان وقف على سكنى النجارين - فقد سكنها أيضاً هذه المرة نجار، ولكنه من صنف آخر - هو نجار رومي، لم أشعر بسكناه إلا بعد شهر، لأنه لم يكن في عمله شئ غير عادي، فهو يفتح دكانه وقت العمل ويغلقها عند الغروب، وينجر فتندمج أصوات دقاته ونجارته في أصوات البائعين وحركات المارين وأصوات السيارات.

دعوته يوماً لإصلاح دولاب، فإذا شاب يشترك مع الأسطى حسن في سنه، ويختلف عنه في كل شئ آخر، جميل الهندام وإن لم يكن ثمينه، صفف شعره في أناقة ولمعان بينما اعتنى الأسطى حسن (بقصته) فقط - عمل عمله في هدوء وإتقان، وكأنه يحترم نفسه ويحترم عمله، ويقدر نوع معيشته وما يلزم لها، فطلب ضعف ما كان يطلبه زميله فدفعته راضياً.

له في جوارنا ستة أشهر أو تزيد لم أسمع صوته، ولم أسمع شاكياً من تأخر موعد أو تصرف سيئ. ولم يقلق راحتي كما أقلقها من كان قبله، فهو وإن لم يكن كواء أو عطاراً كالذي رجوت فليس شراً منهما، وتبين بعد أن الأمر ليس نوع الصناعة، وإنما هو نوع

ص: 5

الصانع.

ونزلت بيتاً في ضاحية من ضواحي الإسكندرية، فرأيت (فيلا) جميلة على شاطئ البحر، لا يسكن مثلها - عادة - إلا من ورمت جيوبهم، وانتفخت محافظهم، راديو، وبيانو، وما شئت من أسباب النعيم ورفاهة العيش؛ ولكن لفت نظري رجل يلبس قباء، ويحزم وسطه بحزام، وعليه جاكتة بسيطة نظيفة، قد أرخى لحيته، ودفع طربوشه إلى الوراء، يحمل أقمشة على كتفه يكاد ينوء بحملها، وهو من الصنف اليهودي الذي نراه يجول في الشارع كل يوم يبيع (الدمور) و (الزفير) و (الباتستا). حيرني أمر هذه (الفيلا) بجمالها ونظافتها، وأمر هذا الرجل، يخرج صباحاً يحمل سلعته على كتفه وقد هزلت؛ أمستأجر هذا الرجل حجرة صغيرة في البيت، أم قريب فقير لأصحابه عطفوا عليه وآووه واحتملوا منه أن يعيش بينهم وينزل في مسكنهم؟ وفي الحق كان هذا لغزاً شغلني شرحه، وأعياني حله؛ ثم هدتني المصادفة البحتة إلى اكتشاف الأمر وافتضاح السر: هو رب البيت! وهو عميد الأسرة، وليس فيها إلا زوجه وأولاده، ولكن كلهم يعمل، وكلهم يكسب: هذه خياطة، وإحدى بناتها معلمة بيانو، وهذا ابنه كهربائي، وهذا الآخر يعمل في مصلحة التلغراف، وكل كاسب يعطي ما كسب لأبيه، ويجمعون من ذلك ما يجمعه موظف وسط أو فوق الوسط، ثم هم جميعاً يعلمون كيف يعيشون، وكيف ينعمون بالعيش بأقل مصرف، ويعلمون ما ينفقون وما يدخرون.

قارنت بين هذا الرجل ورجل مصري آخر كان يجول أمام بيتنا أيضاً، يحمل سلعة كسلعة اليهودي، وينادي على (حرير المحلة)، وتصورته وبؤسه، وتصورت أسرته وبؤسها، وكيف يتحد العملان، وتتباين المعيشتان.

ثم نسمع الشكوى الحارة من العمال العاطلين، والمتعلمين العاطلين، ونسمع من يرجع العلة إلى تفشي الأمية حيناً، وإلى نوع الدراسة حيناً، وإلى غير ذلك من أسباب، وليس في نظري سبب أهم من نقص الأخلاق؛ ولست أعني أخلاق العمل، من معرفة طرق الكسب، وإجادة العمل، وحسن العرض، وعدم الأنفة من مزاولة الحرفة مهما حقرت، وضبط الدخل والخرج، وفوق ذلك كله العلم بفن الحياة.

احمد أمين

ص: 6

‌القبلة الأولى.

.!

هي البريد الذي حمل عني رسالة حبك، والإخلاص لك، فأداها في أمانة وطهر. .

هي الوحي الذي هبط بالألفة، وارتفع بالكلفة. .

هي الرسول الذي بلّغك ذوب عاطفتي في صدق وفطانة. .

هي طابع الوفاء ختمتُ به على يغرك الزاهي الجميل. .

هي اعتراف بالمحبة أبرقتُ به إلى قلبك من أخصر طريق. .

هي تذكار الصفاء سجّلته على لطف شفتيك. .

هي برهان الولاء استخلصته من سحر عينيك. .

هي التصريح الصامت لما يكنه القلب من لوعة وهيام. .

هي الضغطة الرفيقة التي تذكي في النفس الحب والغرام. .

هي السلسبيل الصافي الذي يندّى لها المدنف الولهان. .

هي النسمة الوادعة اللينة التي تطيف بالنفوس فتنتعش. .

هي الأرج الذاكي الذي تمتلئ به الصدور فتنشرح. .

هي الرحيق المختوم، والوردة النضرة، والزهرة المتفتحة. .

هي الجمال كله. يعلن عن نفسه في خفوت وهمس يزيدانه روعة ورهبة. ويملآنه إجلالاً وهيبة. .

كمال الدين حسين

مدرس

ص: 8

‌أحلام في الشارع

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

على عتبة (البنك) نام الغلام وأخته يفترشان الرخام البارد، ويلتحفان جواً رخامياً في برده وصلابته على جسميهما.

الطفل متكبكب في ثوبه كأنه جسم قُطّع وركمت أعضاؤه بعضها على بعض، وسجّيت بثوب ورمي الرأس من فوقها فمال على خده.

والفتاة كأنها من الهزال رسم مخطط لامرأة، بدأها المصور ثم أغفلها إذ لم تعجبه. كتب الفقر عليها للأعين ما يكتب الذبول على الزهرة: أنها صارت قشاً. . .

نائمة في صورة ميتة، أو كميتة في صورة نائمة؛ وقد انسكب ضوء القمر على وجهها وبقي وجه أخيها في الظل؛ كأن في السماء ملكاً وجه إليها المصباح وحدها إذ عرف أن الطفل ليس في وجهه علامة همّ، وأن في وجهها هي كل همها وهم أخيها.

من أجل أنها أنثى قد خلقت لتلد، خلق لها قلب يحمل الهموم ويلدها ويربيها.

من أجل أنها أعدت للأمومة، تتألم دائماً في الحياة آلاماً فيها معنى انفجار الدم.

من أجل أنها هي التي تزيد الوجود، يزيد هذا الوجود دائماً في أحزانها.

وإذا كانت بطبيعتها تقاسي الألم لا يطاق حين تلد فرحها، فكيف بها في الحزن. . .!

وكان رأس الطفل إلى صدر أخته وقد نام مطمئناً إلى هذا الوجود النسويّ الذي لابد منه لكل طفل مثله مادام الطفل إذا خرج من بطن أمه خرج إلى الدنيا وإلى صدرها معاً.

ونامت هي ورأسها مرسلة على أخيها كيد الأم على طفلها. يا إلهي! نامت ويدها مستيقظة!

أهما طفلان؟ أم كلاهما تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء فعوّضها الله من رحمته ألا تجد شقياً مثلها إلا تضاعفت سعادتها به؟

تمثالان يصوران كيف يسري قلب أحد الحبيبين في الجسم الآخر فيجعل له وجوداً فوق الدنيا، لا تصل الدنيا إليه بفقرها وغناها، ولا سعادتها وشقائها، لأنه وجود الحب لا وجود العمر؛ وجود سحري ليس فيه معنى للكلمات فلا فرق بين المال والتراب، والأمير والصعلوك؛ إذ اللغة هناك إحساس الدم، وإذ المعنى ليس في أشياء المادة ولكن في أشياء الإرادة.

ص: 9

وهل تحيا الألفاظ مع الموت، فيكون بعده للمال معنى وللتراب معنى؟. . . هي كذلك في الحب الذي يفعل شبيهاً بما يفعله الموت في نقله الحياة إلى عالم آخر، بيد أن أحد العالَمين وراء الدنيا، والآخر وراء النفس.

تحت يد الأخت الممدودة ينام الطفل المسكين، ومن شعوره بهذه اليد خفّ ثقل الدنيا على قلبه.

لم يبال أن نبذه العالم كله، مادام يجد في أخته عالم قلبه الصغير. وكأنه فرخ من فراخ الطير في عشه المعلق، وقد جمع لحمه الغض الأحمر تحت جناح أمه، فأحس أهنأ السعادة حين ضيّق في نفسه الكون العظيم وجعله وجوداً من الريش.

وكذلك يسعد كل من يملك قوة تغيير الحقائق وتبديلها، وفي هذا تفعل الطفولة في نشأة عمرها ما لا تفعل بعضه معجزات الفلسفة العليا في جملة أعمار الفلاسفة.

وما صنع الذين جنّوا بالذهب، ولا الذين فتنوا بالسلطة، ولا الذين هلكوا بالحب، ولا الذين تحطموا بالشهوات - إلا أنهم حاولوا عبثاً أن يرْشوا رحمة الله لتعطيهم في الذهب والسلطة والحب والشهوات ما نوّلته هذا الطفل المسكين النائم في أشعة الكواكب تحت ذراع كوكب روحه الأرضي.

ألا إن أعظم الملوك لن يستطيع بكل ملكه أن يشتري الطريقة الهنيئة التي ينبض بها الساعة قلب هذا الطفل.

وقفت أشهد الطفلين وأنا مستيقن أن حولهما ملائكة تصعد وملائكة تنزل، وقلت هذا موضع من مواضع الرحمة، فإن الله مع المنكسرة قلوبهم، ولعلي أن أتعرض لنفحة من نفحاتها، ولعل ملكاً كريماً يقول: وهذا بائس آخر. فيرفّني بجناحه رفّة ما أحوج نفسي إليها، تجد بها في الأرض لمسة من ذلك النور المتلألئ فوق الشمس والقمر.

وظهر لي بناء (البنك) في ظلمة الليل من مرأى الغلامين - أسود كالحاً، كأنه سجن أقفل على شيطان يمسكه إلى الصبح، ثم يفتح له لينطلق معمّراً، أي مخرباً. . . أو هو جسم جبار كفر بالله وبالإنسانية ولم يؤمن إلا بنفسه وحظوظ نفسه فمسخه الله بناءً، وأحاطه من هذا الظلام الأسود بمعاني آثامه وكفره.

يا عجباً! بطنان جائعان في أطمار بالية يبيتان على الطّوى والهمّ، ثم لا يكون وسادهما إلا

ص: 10

عتبة البنك! ترى من الذي لعن (البنك) بهذه اللعنة الحية؟ ومن الذي وضع هذين القلبين الفارغين موضعهما ذلك ليثبت للناس أن ليس البنك خزائن حديدية يملؤها الذهب، ولكنه خزائن قلبية يملؤها الحب. .؟

وقفت أرى الطفلين رؤية فكر ورؤية شعر معاً، فإذا الفكر والشعر يمتدان بيني وبين أحلامهما، ودخلت في نفسين مضّهما الهم واشتد عليهما الفقر، وما من شئ في الحياة إلا كادّهما وعاسرهما؛ ونمت نومتي الشعرية. . .

قال الطفل لأخته: هلمي فلنذهب من هنا فنقف على باب (السيما) نتفرج مما بنا، فنرى أولاد الأغنياء الذين لهم أب وأم.

انظري هاهم أولاء يُرى عليهم أثر الغنى، وتعرف فيهم روح النعمة؛ وقد شبعوا. . . إنهم يلبسون لحماً على عظامهم، أما نحن فنلبس على عظامنا جلداً كجلد الحذاء؛ إنهم أولاد أهليهم، أما نحن فأولاد الأرض؛ هم أطفال، ونحن حطب إنساني يابس؛ يعيشون في الحياة ثم يموتون، أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت، إلى أن نموت؛ لهم عيش وموت، ولنا الموت مكرراً.

ويلي على ذلك الطفل الأبيض السمين، الحسن البزّة، الأنيق الشارة، ذاك الذي يأكل الحلوى أكل لص قد سرق طعاماً فأسرع يحدر في جوفه ما سرق؛ هو الغنى الذي جعله يبتلع بهذه الشراهة كأنما يشرب ما يأكل، أو له حلق غير الحلوق، ونحن - إذا أكلنا - نغصّ بالخبز لا أُدْمَ معه، وإذا ارتفعنا عن هذه الحالة لم نجد إلا البشيع من الطعام وأصبناه عِفناً أو فاسداً لا يسوغ في الحلق، فإذا انخفضنا فليس إلا ما نتقمم من قشور الأرض ومن حُتات الخبز كالدواب والكلاب؛ وإن لم نجد ومسّنا العُدم وقفنا نتحيّن طعام قوم في دار أو نُزُل فنراهم يأكلون فنأكل معهم بأعيننا، ولا نطمع أن نستطعمهم وإلا أطعمونا ضرباً فنكون قد جئناهم بألم واحد فردّونا بألمين، ونفقد بالضرب ما كان يمسك رمقنا من الاحتمال والصبر.

هؤلاء الأطفال يتضورون شهوة كلما أكلوا فيعودوا ليأكلوا، ونحن نتضور جوعاً ولا نأكل، لنعود فنجوع ولا نأكل، وهم بين سمع أهليهم وبصرهم؛ ما من أنّة إلا وقعت في قلب، وما من كلمة إلا وجدت إجابة؛ ونحن بين سمع الشوارع وبصرها، أنين ضائع، ودموع غير مرحومة!

ص: 11

آه لو كبرت فصرت رجلاً طويلاً عريضاً! أتدرين ماذا أصنع؟

- ماذا تصنع يا احمد؟

- إنني أخنق بيديّ كل هؤلاء الأطفال!

- سَوأة لك يا احمد، كل طفل من هؤلاء له أم مثل أمنا التي ماتت، وله أخت مثلي؛ فما عسى ينزل بي لو ثكلتك إذا خنقك رجل طويل عريض؟

- لا، لا أخنقهم؛ بل سأرضيهم من نفسي؛ أنا أريد أن أصير رجلاً مثل (المدير) الذي رأيناه في سيارته اليوم على حال من السطوة تعلن أنه مدير. . . أتدرين ماذا أصنع؟

- ماذا تصنع يا احمد؟

- أرأيت عربة الإسعاف التي جاءت عند الظهر فانقلبت نعشاً للرجل الهرم المحطم الذي أغمي عليه في الطريق.؟ سمعتهم يقولون: إن المدير هو الذي أمر باتخاذ هذه العربة، ولكنه رجل غُفل لم يتعلم من الحياة مثلنا، ولم تحكِمه تجارب الدنيا فالذي يموت بالفجاءة أو غيرها لا يحييه المدير ولا غير المدير، والذي يقع في الطريق يجد من الناس من يبتدرونه لنجدته وإسعافه بقلوب إنسانية رحيمة، لا بقلب سواق عربة ينتظر المصيبة على إنها رزق وعيش.

إن عربات الإسعاف هذه يجب أن يكون فيها أكل. . ويجب أن تحمل أمثالنا من الطرق والشوارع إلى البيوت والمدارس؛ وإن لم يكن للطفل أم تطعمه وتؤويه فلتصنع له أم.

كل شئ أراه لا أراه إلا على الغلط، كأن الدنيا منقلبة أو مدبرة أدبارها، وما قطّ رأيت الأمور في بلادنا جارية على مجاريها؛ فهؤلاء الحكام لا ينبغي أن يكونوا إلا من أولاد صالحي الفقراء، ليحكموا بقانون الفقر والرحمة، لا بقانون الغنى والقسوة، وليتقحموا الأمور العظيمة المشتبهة بنفوس عظيمة صريحة قد نبتت على صلابة وبأس، وخلق ودين ورحمة؛ فإنه لا ينهزم في معركة الحوادث إلا روح النعمة في أهل النعمة، وأخلاق اللين في أهل اللين؛ وبهؤلاء لم يبرح الشرق من هزيمة سياسية في كل حادثة سياسية.

إن للحكم لحماً ودماً هو لحم الحاكم ودمه؛ فإن كان صلباً خشناً فيه روح الأرض وروح السماء فذاك، وإلا قتل اللين والترف الحكم والحاكم جميعاً. وهؤلاء الحكام من أولاد الأغنياء لا يكون لهم هم إلا أن يرفعوا من شأن أنفسهم، إذ السلطة درجة فوق الغنى، ومن

ص: 12

نال هذه استشرف لتلك، فإذا جمعوهما كان منهما الخلق الظالم الذي يصور لهم الاعتداء قوة وسطوة وعلوّاً، من حيث عدموا الخلق الرحيم الذي يصور لهم هذه القوة ضعفاً وجبناً ونذالة. إن أحدهم إذا حكم وتسلط أراد أن يضرب، ثم لم تكن ضربته الأولى إلا في المبدأ الاجتماعي للأمة، أو في الأصل الأدبي للإنسانية. ويحرصون على ما به تمامهم، أي على السلطة، أي على الحكم؛ فيحملهم ذلك على أن يتكلفوا للحرص أخلاقه، وأن يجمعوا في أنفسهم أسبابه؛ من المداراة والمصانعة والمهاونة، نازلاً فنازلاً إلى درك بعيد، فينشرون أسوأ الأخلاق بقوة القانون ماداموا هم القوة.

- وماذا تريد أن يصنع أولاد الأغنياء يا احمد؟

- أما أولاد الأغنياء فيجب أن يباشروا الصناعة والتجارة ليجدوا عملاً شريفاً يصيبون منه رزقهم بأيديهم لا بأيدي آبائهم، فإنه والله لولا العمى الاجتماعي لما كان فرق بين ابن أمير متبطّل في أملاك أبيه من القصور والضياع وابن فقير متبطل في أملاك المجلس البلدي من الأزقة والشوارع. . .

وابن الأمير إذا كان نجاراً أو حداداً أصلح السوق والشارع بأخلاقه الطيبة اللينة، وتعففه وكرمه، فيتعلم سواد الناس منه الأمانة والصدق، إذ هو لا يكذب ولا يسرق مادام فوق الاضطرار، ولا كذلك ابن الفقير الذي يضطره العيش أن يكون تاجراً أو صانعاً فتكون حرفته التجارة، وهي السرقة، أو الصناعة وهي الغش، ويكون في الناس أكثر عمره مادة كذب وإثم ولصوصية.

آه لو صرت مديراً! أتدرين ماذا أصنع؟

- ماذا تصنع يا احمد؟

- أعمد إلى الأغنياء فأردهم بالقوة إلى الإنسانية، وأحملهم عليها حملاً، وأصلح فيهم صفاتها التي أفسدها الترف واللين والنعمة، ثم أصلح ما أخل به الفقر من صفات الإنسانية بالفقراء، وأحملهم على ذلك حملاً، فيستوي هؤلاء وهؤلاء، ويتقاربون على أصل في الدم إن لم يلده آباؤهم ولده القانون. ألا إن سقوط أمتنا هذه لم يأت إلا من تعادي الصفات الإنسانية في أفرادها، فتقطّع ما بينهم، فهم أعداء في وطنهم، وإن كان اسمهم أهل وطنهم.

ومتى أحكمت الصفات الإنسانية في الأمة كلها ودانى بعضها بعضاً - صار قانون كل فرد

ص: 13

كلمتين، لا كلمة واحدة كما هو الآن. القانون الآن (حقي) ونحن نريد أن يكون (حقي وواجبي) وما أهلك الفقراء بالأغنياء، ولا الأغنياء بالفقراء ولا المحكومين بالحكام إلا قانون الكلمة الواحدة.

أنا احمد المدير. . . لست المدير بما في نفس احمد، ولا بمعدته وبطنه، ولا بما يريد احمد لنفسه وأولاده. . . كلا، أنا عمل اجتماعي منظم يحكم أعمال الناس بالعدل، أنا خلق ثابت يوجه أخلاقهم بالقوة، أنا الحياة الأم مع الحياة الأطفال الأخوة في هذا البيت الذي يسمى الوطن، أنا الرحمة، عندي الجنة ولكن عندي جهنم أيضاً مادام في الناس من يعصي، أنا بكل ذلك لست احمد، لكني الإصلاح.

هأنذا قد صرت مديراً أعسّ في الطريق بالليل وأتفقد الناس ونوائبهم.

من أرى؟ هذا طفل وأخته نائمان على عتبة البنك في حياة كأهدامهما المرقعة، في دنيا تمزقت عليهما، قم يا بني، لا تُرَع إنما أنا كأبيك، تقول اسمك احمد، واسم أختك أمينة؟

تقول: إنك ما نمت من الجوع، ولكن مضمضت عينك بشعاع النوم؟

يا ولديّ المسكينين بأي ذنب من ذنوبكما دقتكما الأيام دقاً وطحنتكما طحناً، وبأي فضيلة من الفضائل يكون ابن فلان باشا وبنت فلان باشا في هذا العيش اللين يختاران منه ويتأنقان فيه، ما الذي ضر الوطن منكما فتموتا، وما الذي نفع الوطن منهما فيعيشا؟

إن كنت يا بني لا تملك لنفسك الانتصار من هذه الظليمة فأنا أملكها لك، وإنما أنا المظلوم إلى أن تنتصر، وإنما أنا الضعيف إلى أن آخذ لك الحق.

إليّ بابن فلان باشا وبنت فلان باشا.

يا هذا عليك أخاك احمد ولتكن به حفياً، ويا هذه عليك أختك الآنسة أمينة. . .

أتأبيان، أنفرةً من الإنسانية، وتمرداً على الفضيلة، أحقاً بلا واجب، دائماً قانون الكلمة الواحدة!؟ خلقتما أبيضين سخرية من القدر وأنتما في النفس أحبوشة الزنج ومناكيد العبيد.

ورفع احمد يده. . . .

وكان الشرطي الذي يقوم على هذا الشارع، وإليه حراسة البنك قد توسنهما ودخلته الريبة، فانتهى إليهما في تلك اللحظة وقبل أن تنزل يد سعادة المدير بالصفعة على وجه ابن الباشا وبنت الباشا كان هذا الشرطي قد ركله برجله فوثب قائماً واجتذب أخته وانطلقا عَدْو الخيل

ص: 14

منم ألهوب السوط.

وتمجدت الفضيلة كعادتها. .!. . أن مسكيناً حلم بها. .

مصطفى صادق الرافعي

ص: 15

‌أدب الرواة المسلمين

فن في الأدب العربي يحتفظ بقيمته وجدته

للأستاذ محمد عبد الله عنان

فن من فنون الأدب العربي لم تذهب الأيام بجدته؛ ولا يزال تراثه رغم كر الزمن يحتفظ بقيمته الفنية فضلاً عن قيمته التاريخية؛ ذلك هو فن السياحة والمشاهدة. ففي الأدب الغربي، القديم والحديث، تتبوأ كتب السياحة والمشاهدة مكانة رفيعة، سواء كانت لمكتشف يرود مجاهل القارات ثم يسجل اكتشافاته، أو لكاتب يجوب البلاد بقصد الدرس والمشاهدة ويدون ملاحظاته ومشاعره. وقد كانت كتب السياحة قبل قرنين أو ثلاثة تعتبر دائماً بالنسبة للمجتمعات التي كتبت لها كتب استكشاف تلقي أضواء جديدة على أحوال المجتمعات التي كتبت عنها؛ فلما تقدمت المواصلات وتقاربت الشعوب، وكثر تعارفها، وتوثقت بينها الصلات العلمية والأدبية، لم يبق للسائح المتجول ما يكتشفه من أحوال الشعوب المتمدنة أو التي تأخذ بقسط من الحضارة، إلا ما يمليه عليه الدرس الخاص لأحوال هذه الشعوب، وأصبحت كتب الاستكشاف وقفاً على رواد المجاهل والعلماء الذين يجوبون معهم مجاهل البحار أو اليابسة ليكشفوا جديداً من الآثار أو الأنواع. وكتب الفريق الأول يغلب عليها الطابع الأدبي، وأما كتب الرواد الفنيين فيغلب عليها الطابع العلمي.

وقد عرف الأدب العربي فن السياحة والمشاهدة في عصر مبكر جداً. فمنذ القرن الثالث نرى الجغرافيين العرب يطوفون أرجاء العالم المعروف يومئذ للوقوف على أحوال البلدان والأقاليم المختلفة وخواصها ويدونون مشاهداتهم في كتب لا زالت حجة عصرها. ومن أعظم هؤلاء الجغرافيين الرحل، اليعقوبي الذي طاف العالم الإسلامي من السند إلى الأندلس وتجول في جميع بلاد فارس والجزيرة ومصر والمغرب والأندلس في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري، ووضع كتابه الجامع (البلدان)، والمسعودي المؤرخ والجغرافي الذي طاف أنحاء العالم الإسلامي شرقاً حتى الهند والصين وجزائر الهند الشرقية، واخترق المحيط الهندي حتى شواطئ أفريقية الشرقية وجزيرة مدغشقر، وشهد عجائب هذه الآفاق، ودونها في كتبه ولاسيما مروج الذهب والتنبيه والإشراف، وذلك في أوائل القرن الرابع الهجري. بيد أننا لا نريد أن نتحدث هنا عن هؤلاء العلماء

ص: 16

والجغرافيين، وإنما نتحدث بالأخص عن طائفة من الرحل والمكتشفين المسلمين الذين تصور آثارهم أحوال البلاد والمجتمعات التي شهدوها، وتعتبر من الوجهة الفنية آثاراً وصفية اجتماعية قبل أن تعتبر آثاراً جغرافية. ولدينا في الواقع ثبت حافل من أولئك الرواد المشغوفين بالسياحة ودراسة أحوال الأمم، ولدينا كثير من آثارهم التي ما زالت تعتبر رغم قدمها نماذج حسنة لهذا النوع من الأدب المفيد الشائق معاً. وما نذكره منهم ومن آثارهم في هذا الفصل، نذكره على سبيل التمثيل، لا على سبيل الحصر؛ وإنما نلاحظ أن الذين عرفوا منهم وعرفت آثارهم هم أقلية صغيرة بالنسبة إلى أولئك الذين لم تصل إلينا آثارهم أو التي انتهت آثارهم إلينا، ولكنها ما زالت مخطوطات منسية في ظلمات المكاتب العامة والخاصة.

ومن أقدم أولئك الرواد الوصفيين الذين انتهت آثارهم إلينا أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الذي أنفق نحو ثلاثين عاماً في الطواف بالأمم الإسلامية من بغداد إلى الأندلس، يدرس أحوالها وخواصها وأحوال شعوبها ومجتمعاتها، وذلك في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي). وقد دون ابن حوقل رحلته ومشاهداته في كتاب أسماه (المسالك والممالك)، وهو أثر يجمع بين الناحية الجغرافية والناحية الوصفية. بيد أنه يعنى بالمشاهدات الوصفية عناية خاصة، وفيه يدون ابن حوقل خلال أخبار رحلته أحوال الأمم التي مر بها وما شاهده فيها من المناظر والمعاهد والآثار والخواص التي تستحق الذكر. وقد مرّ ابن حوقل خلال رحلته بمصر، في أواخر الدولة الأخشيدية، وخصص لمشاهداته فيها فصلاً طويلاً يصف فيه مصر الفسطاط ومعاهدها والنيل ومجراه، وكثيراً من أحوال المجتمع المصري يومئذ. وأسلوبه يجمع بين الطابعين العلمي والأدبي. ولدينا في القرن السادس رحالتان شهيران أحدهما يجوب العالم المعروف يومئذ من المشرق إلى المغرب، والآخر يجوبه من المغرب إلى المشرق، والأول هو أبو الحسن علي بن أبي بكر المعروف بالسائح الهروي، نسبة إلى هراة بلدة أسرته. وقد ولع أبو الحسن بالأسفار منذ حداثته، وخرج من الموصل مسقط رأسه يجوب أنحاء العالم لغير قصد سوى التفرج والاستكشاف، وذلك نحو سنة 568هـ (1173م)، وأنفق زهاء ربع قرن في رحلته، فطاف أرجاء الشام وفلسطين ومصر، وقبرص وغرب الأناضول وزار قسطنطينية

ص: 17

عاصمة الدولة البيزنطية، واخترق البحر الأبيض وتجول في جزائره حتى صقلية؛ ولم يترك، على قول ابن خلكان (براً ولا بحراً ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه). واشتهر ذلك في الآفاق كلها، وهو الوحيد الذي تلقبه الرواية الإسلامية (بالسائح) وأسره الفرنج والقرصان مراراً، وضاعت كتبه ومذكراته، كما يخبرنا بذلك كتابه الذي انتهى إلينا، وهو سفر صغير عنوانه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) وفيه يقص باختصار سير رحلته، وما شاهده من الأماكن والمعاهد، دون وصف ولا إسهاب. وفي أواخر القرن السادس استقر أبو الحسن في حلب بعد طول التجوال، ونال حظوة لدى أميرها وتوفي سنة 611هـ (1214م) ودفن بتربة أعدها لنفسه، وكتب عليها حسب وصيته ومن إنشائه تلك الكلمات المؤثرة:(هذه تربة العبد الغريب الوحيد علي بن أبي بكر الهروي، عاش غريباً، ومات وحيداً، لا صديقاً يرثيه، ولا خليلاً يبكيه، ولا أهطل يزورونه، ولا إخوان يقصدونه، ولا ولد يطلبه، ولا زوجة تندبه؛ آنس الله وحدته، ورحم غربته).

وأما الثاني فهو أبو الحسين محمد بن احمد بن جبير الأندلسي. رحل من الأندلس شرقاً إلى أفريقية ومصر والشام والحجاز. وكان رحالة بطبيعته قوي الملاحظة والوصف. رحل من غرناطة إلى المشرق ثلاث مرات، الأولى سنة 578هـ والثانية سنة 585هـ، والثالثة في أواخر القرن السادس، وقطع البحر الأبيض مراراً، وطاف بمعظم جزائره وثغوره الجنوبية والشرقية، وتجول في بلاد مصر والشام والحجاز، وقاسى في أثناء تجواله كثيراً من الشدائد، وأشرف مراراً على الهلاك في البحر، واستقر أخيراً بالإسكندرية وتوفي بها سنة 614هـ (1217م) ودون أخبار رحلاته في سفر كبير ممتع يسميه (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار). وفيه يدون مشاهداته في الأمم والبلاد التي زارها؛ ويقص حوادث أسفاره مفصلة بالتواريخ في نوع من (المذكرات)؛ وهو أثر شائق الأسلوب والوصف يعتبر نموذجاً بديعاً لأدب الرواد.

ونستطيع أن نذكر من الرواد المسلمين في هذا العصر أيضاً، عبد اللطيف البغدادي الطبيب العلامة الذي وفد على مصر في أواخر القرن السادس الهجري، وطاف بعد ذلك فلسطين والشام وبلاد الروم الأناضول يدرس أحوالها ومجتمعاتها. وقد دون عبد اللطيف مشاهداته

ص: 18

في مصر في كتاب كبير لم يصل إلينا، ولكن وصلت إلينا منه عدة فصول اختارها عبد اللطيف وسماها كتاب (الإفادة والاعتبار) وهي فصول قوية بديعة عن أحوال مصر وخواصها الطبيعية والاجتماعية، يغلب عليها الأسلوب العلمي الذي يمتاز به مؤلفها.

على أن أعظم الرواد المسلمين هو أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الطنجي الشهير بابن بطوطة. ولم يكن ابن بطوطة رحالة عظيماً فقط يجوب أنحاء العالم المعروف يومئذ، بل كان أيضاً مكتشفاً عظيماً يقصد إلى مجاهل البر والبحر. وكتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وهو المعروف برحلة ابن بطوطة أجمل وأنفس أثر عربي في هذا النوع من الأدب. وقد خرج ابن بطوطة من طنجة مسقط رأسه في سنة 725هـ (1325م) يجوب أقطار العالم، واخترق بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب وبلاد الروم وقسطنطينية، وفارس وخراسان وتركستان والهند وسيلان والصين وجزائر الهند الشرقية؛ واخترق في عوده قلب أفريقية من السودان إلى بلاد النيجر؛ ووقف على كثير من مجاهل بعض الأقطار والأمم التي لم تكن معروفة يومئذ تمام المعرفة؛ ووصل إلى أعالي نهر النيجر وإلى تمبكتو وسكوتو قبل أن يصل إليها الرواد الأوربيون ويكتشفها الرحالة الإنجليزي منجوبارك بعد ذلك بنحو ثلاثة قرون. وسلخ في رحلاته نحو ربع قرن؛ وترك لنا عن أسفاره واكتشافاته ومشاهداته ذلك الأثر الذي يعتبر بحق من أبدع آثار السياحة والاكتشاف.

وقد لبث أدب الرواد متصلاً في العربية حتى العصر الحديث؛ فنجد المقري مؤرخ الأندلس - مثلاً - يصف لنا فاتحة (نفح الطيب) رحلته البحرية من المغرب إلى المشرق في أسلوب رائع؛ ونجد العلامة الصوفي عبد الغني النابلسي يجوب بلاد الشام ومصر والحجاز، وذلك سنة 1105هـ (1694م)، ويترك لنا عن أسفاره ومشاهداته أثراً نفيساً هو كتاب (الحقيقة والمجاز) الذي تحتفظ دار الكتب بنسخة خطية منه.

ومما تقدم نرى أن أدب السياحة قد بدأ في العربية في عصر مبكر، واستمر على كر العصور. وكثيراً ما قيل إن تراث الأدب العربي أضحى قديماً لا يساير العصر، وأن فنونه قد عفت، وأنه ليس في تعداد فنونه ومناحيه كالأدب الغربي. ولكنا نستطيع أن نقول هنا على الأقل، إن الأدب العربي قد سبق الأدب الغربي في فن السياحة والمشاهدة بعصور

ص: 19

طويلة؛ وهذا مترتب بالطبع على إن الرواد المسلمين كانوا أسبق من الرواد الغربيين إلى التجوال في أنحاء العالم المعروف يومئذ، وإلى ارتياد الكثير من الأنحاء المجهولة. والواقع أن أول رحالة غربي كبير ارتاد أنحاء المشرق وآسيا هو الرحالة الإيطالي مركو بولو؛ وكانت رحلته إلى المشرق في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر؛ هذا بينما يرجع نشاط الرواد المسلمين إلى القرنين الثاني والثالث من الهجرة (القرنين الثامن والتاسع من الميلاد). وأقدم أثر غربي قيم في السياحة هو أثر مركو بولو الذي يصف فيه أحوال الأقطار الأسيوية ولاسيما الشرق الأقصى. وقد كان أول أثر استطاع الغرب أن يقف فيه على عظمة الشرق يومئذ وبذخه وبهائه وروعة حضارته. ولكن الأمم الإسلامية كانت تعرف أقصى الأمم الشرقية ومعظم الأمم الغربية على يد جغرافييها وروادها قبل ذلك بقرون.

على أنه مما يؤسف له أن أدب السياحة في العربية قد انحط في العصر الأخير، كما انحط كثير من فنونها، وأضحى نوعاً من المشاهدات الطائرة تكرر في كل فرصة وفي كل أثر جديد، وتكتب بالأسلوب الصحفي الركيك، وتقف عند الأخبار والمشاهدات السطحية، كوصف السفينة والبحر والشوارع والفنادق والملاهي، بأساليب وعبارات مملة؛ وقلما يعنى السائح المتفرج بالمشاهدات والدراسات العلمية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومن الأسف أننا لا نستطيع أن نجد بين كتب السياحة التي أخرجت في العصر الأخير كثيراً من الآثار التي تمتاز بقيمتها الأدبية والفنية.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 20

‌حول اقتراح

نقابة للأدباء للشبان

بقلم حنفي غالي

قرأت المقال الشيق الممتع الذي نشرته مجلة الرسالة الغراء لذلك الأديب الكبير مقترحاً فيه تأليف نقابة للأدباء الشبان، تجمع شملهم، وتوحد كلمتهم، ويكون لهم منها قوة ترد عنهم هجمات المعتدين، ودرع يقيهم طعنات الطاعنين؛ فراقني منه ميل خالص للعدل، ورغبة صادقة في الإنصاف، فأحببت أن أقول في هذا الموضوع كلمة صريحة لوجه الحق، غير متأثر من جانبي الشبان أو الشيوخ برغبة أو رهبة.

وكم كنت أود أن يتجه اقتراح الأديب اتجاهاً غير اتجاهه، ويرمي إلى غاية غير غايته، فيدعو إلى تكوين جماعات من الشباب تلتف كل منها حول شيخ أو أكثر من شيوخ الأدب، تفيده وتستفيد منه؛ تفيده بإعلاء ذكره وإظهار فضله وإعانته في عمله، ونستفيد منه بالاستماع لنصائحه والتشرب بروحه والتأدب بأدبه؛ ويكون هذا خيراً من تأليف نقابة تغري بالمصارعة وتغري بالمناجزة، وأليق برجال يجتمعون قاطبة حول عرش الفن، ويتعبدون له ويتقدمون بقرابينهم إليه، لا فارق فيهم بين شاب وشيخ، وخامل ونابه، ومغمور ومشهور. نعم كنت أصبو إلى تلك الأمنية وأتحرق شوقاً إليها؛ ولكنني الآن قد انصرفت عنها وزهدت فيها، فقد هممت بالعمل على تحقيقها وإنفاذها في العام الماضي إجابة لرغبة شيخ من شيوخ الأدب محبب إليّ، عزيز عليّ، فوجدت السبيل إلى ذلك شائكاً وعراً بسبب المعركة التي احتدمت حينئذ بين الأدباء الشبان والشيوخ والتي لا زال جرحها وقتالها يسقطون حتى اليوم، فرغبت في الوقف على أسبابها، وتعرف من أوقد شعلتها الأولى، أهم الشيخ أم الشباب! واستطعت باتصالي بهؤلاء وأولئك أن أستشف روح كل منهما، وأستكنه خبيئة نفسه؛ فعلمت علم اليقين أن التبعة في ذلك إنما يقع أكثرها على الشيوخ، لأنني وجدت في الأدباء الشباب كرماً وتضحية وإن كان فيهم غرور. أما الشيوخ فلست أغالي إذا وصفتهم بعنت الحزازة وصلف الأستاذية - كما يقول الأستاذ صاحب الرسالة - بل بالخروج عن طور الحكمة والرزانة المعروفة عنهم، أو المفروضة فيهم على الأقل؛ ولله ما أعجب تقلبات الأيام! فقد كان هؤلاء الشيوخ بعينهم ينعون على رجال

ص: 21

المدرسة القديمة واستبدادهم وتخطيهم الرقاب بشهرتهم، واستغنائهم عن الإخلاص والصدق ويفخرون بأن مذهبهم الجديد إنما يقوم على أساس من الحجج الناصعة، والبراهين الدامغة؛ ولا يبغي سوى الحرية والحق، وما زالوا يعملون المعاول في المذهب القديم حتى أحالوه صعيداً جرزاً، ولكن ما كادوا ينتصرون ويفرح الشباب بهذا الانتصار وتفيض نفوسهم غبطة وابتهاج له، حتى تبدلت نفوسهم، وتجهمت قلوبهم، وأصبحوا للشباب ألد الأعداء، بعد أن كانوا أخلص الأصدقاء، وأخذوا يضعون اللجم في الأفواه والأصفاد حول الأعضاد، والعقبات في سبيل النفوس الناشئة السائرة على الدرب، وبذلك مثل شيوخ الأدب في مصر وفي القرن العشرين المأساة المبكية المضحكة التي مثلها من قبلهم رجال الثورة الفرنسية حين ثاروا على استبداد البوربون، فقوضوا صرحه، ثم أقاموا مكانه استبداد نابليون، أليس كذلك؟!

رحم الله المدرسة القديمة وطيب ثرى رجالها الأبرار! لقد قال الأستاذ الدكتور طه حسين عن أحدهم وهو المغفور حفنى بك ناصف (كنا نستعينه على أن نكون خيراً منه، وكان يعيننا على ذلك راضياً به مبتسماً له راغباً فيه). فأين هذه العلاقة الأبوية العطوفة من علاقة الإذلال والاستعباد التي يريد شيوخ الأدب أن تكون بينهم وبين الشباب؟ هم يخيرون أدباء الشباب بين أمرين أحلاهما مر، أما أن يندمجوا في أشخاصهم ويفنوا فيهم ويسبحوا لهم بكرة وأصيلا وغدواً ورواحاً، وإلا فالويل والثبور لهم أن حدثتهم نفسهم بإبداء رأي حر في كتاب شيخ أو قصيدة، أو يتربصون بهم حتى إذا وقعوا في أيديهم فرائس أثخنوهم طعناً فما يبقون فيهم ذماء من حياة؛ فالموقف الأول مفسد للنفوس مميت للضمائر، والموقف الثاني مثبط للهمم مضعف للعزائم، وكلاهما لا يرضى الكرامة ولا العدل، وما كان للشباب وهم الذين طالما غسلوا بدمائهم الزكية طريق الحرية أن يقبلوا الابتعاد في الأدب بعد أن أبوه في السياسة.

ولست أرى مبرراً لهذا الموقف الشاذ الغريب من الشيوخ فالمألوف أن الأدباء يختلفون في الرأي ويختصمون في الفن فماذا يخيفهم من نقد الشباب لآثارهم؟ إلا أن الأمر لا يخلو من أحد اثنين: أما أن إنتاج الفني قوي لا مغمز فيه فلا يعقل أن النقد يغض من قدره وينقص من قيمته، أو أنه ضعيف فيكون من حق الفن ألا يدخل في حرمة المقدس. أما دعوى

ص: 22

الشيوخ بأنهم وحدهم حراس الفن وأمناء هيكله فهي دعوى مرفوضة شكلاً وموضوعاً، مرفوضة شكلاً لسخافتها الظاهرة وبعدها عن الجد بعد ما بين الأرض والسماء، وهي مرفوضة موضوعاً لأن وسائل النقد هي الذوق والإطلاع وهما متوفران لكثير من أدباء الشباب.

والحق أن من شيوخ الأدب من هو مقدور فوق قدره، ولعل هذا سر فزعه من النقد وجزعه من كل يد تمتد إلى آثاره ولو كانت عاجزة ضعيفة.

على أنني لست أخلي أدباء الشباب من كل تبعة، ففيهم غرور يحمل بعضهم على النزول إلى ميادين لم يعدوا لها العدة ولم يتخذوا الأهبة، ولكن أي ضير على الشيوخ لو قابلوا نزوات الشباب بابتسام الأب البار الحنون الذي يغفر ويتجاوز عن كثير؟

ولقد نشأ عن هذا الموقف الشاذ بين الشيوخ والشبان أن غشى الحياة الأدبية في مصر غشاء من الحقد والرياء في النقد فلا يكاد يظهر مؤلف أدبي حتى يرفعه الأنصار إلى السماء، ويهبط به الخصوم إلى الغبراء بغير حق، فانظر ماذا فعل شيوخ الأدب بديواني الشاعرين المهندس وناجي؛ أوليس فيهما ما يستحق الإعجاب والتقدير؟ بلى، وإني لأترك الكلام هنا للأستاذ المنصف صاحب الرسالة إذ قال: إن ما فيهما من مساوئ هو من ضئال العيوب التي تختفي في بهر الجمال وروعة الصنعة، فالحكم في حياتنا الأدبية الآن للهوى والغرض لا للعقل والعدل، فما علاج هذه الحالة. إنني وإن كنت أرى في تأليف نقابة لأدباء الشباب ما يغري بالصراع والنضال، ولكنني أؤيد الاقتراح كل تأييد على أن يكون الشباب على حسن الظن بهم تسامحاً ونبلاً، فلا يكونوا البادئين بصبغ العيون بلون الدماء - كما يقول الأديب الكبير - فإذا بغى من الشيوخ باغٍ أو عدا عادٍ فليقف منه الشباب موقف المدافع في سبيل إعلاء كلمة الحق، وإقرار العدل في نصابه، ورد الأمور إلى مجراها الطبيعي.

فالنقابة بما تبثه من روح التعاون بين الشباب، وبما تخلقه من قوة الاتحاد في الغاية والغرض، ستزيل كل العقبات المصطنعة من طريقهم، وتبدد هذه السحب التي تراكمت في سماء حياتنا الأدبية، وحبذا لو امتد نشاطها فشمل جميع الأقطار العربية، وضمت بين أعضاءها أدبائها الشبان، فيكونون رسل محبة وسفراء خير.

ص: 23

ولكن النقابة لن تكون جديرة بالتقدير والاحترام، إلا إذا كان وجه الفن قبلتها وغايتها، والإخلاص له قائدها ورائدها، فلا يتقارض أعضاؤها المديح والثناء الزائف، بل يتبادلون النصح والإرشاد الصادق، فإذا مارست سفينة الشباب في هذا السبيل القويم والصراط المستقيم، فلاشك أنها بالغة غايتها منتهية إلى بر السلامة محوطة برعاية الله ملكوءة بعنايته.

قد أمن الله مجراها وأبدلها

بحسن عاقبة من سوء منقلب

حنفي غالي

ص: 24

‌حقائق

1 -

الأثينيون القدامى والفرنسيون الحديثون يبذون غيرهم من الأمم في شغفهم بجمال الحياة ومباهجها. كما يبذونهم كذلك في رقة الأخلاق وظرف الشمائل.

2 -

يقول المثل (لا ألفة بين اللصوص) ومعنى ذلك أن الشر يهدم الصداقة.

3 -

إن دراسة الشعر والفصاحة الموسيقى والتصوير وغير ذلك من الفنون الجميلة تبث في الناس روح الدماثة والرقة والإيناس.

4 -

إن لتداعي الأفكار تأثيراً عظيماً جداً على العقل والأخلاق، فنرى إن اشغال الذوق توجه العقل إلى مواطن الجمال والسمو. وترد عنه أسباب الضعة والفساد، ذلك إنها تبحث على حب الأولى. والنفور من الثانية بقوة التداعي والترابط.

5 -

كما إن الموسيقى تطرب السمع. والألوان البهيجة تفتن العين. كذلك بدائع الذوق تهذب العقل لذلك نرى أن الموسيقي يؤلمه اختلال الألحان. والفنان يزعجه اضطراب الألوان، والذوق الرقيق تؤذيه شراسة الأخلاق وغلظة الطباع.

ترجمة عامر عبد الوهاب عامر

ص: 25

‌الموت والخلود

للأستاذ زكي نجيب محمود

أما أحدهما فكان يحب الحياة ويخشى الموت، وأما الآخر ففيلسوف يستصغر شأنها وينفذ ببصره وراء ظواهرها الزائلة إلى حيث الحقيقة الخالدة. جمعت بينهما الأيام على مائدة واحدة فدار بينهما الحديث وتشعبت أطرافه، وما لبث الحوار بينهما طويلاً حتى مس موضع التناقض بينهما. . .

تراسيماكوس - لله ما أعجب الموت! لا يكاد يمس الحي بأطرافه الباردة، حتى تنقلب تلك القوة المفكرة المدبرة الفعالة إلى جمود الصخر، يلقى بها في جوف القبر الصامت، وكأنها بعض تربته، أفتستطيع يا صديقي أن تحدثني حديثاً جلياً واضحاً لا يغمض ولا يلتوي عن قصة هذا الموت العجيب؟ ماذا عساي أن أكون بعد هذا القضاء المحتوم؟

فيلاليش - ستكون كل شئ ولن تكون شيئاً

تراسيماكوس - لم أكن والله أتوقع منك حين طرحت السؤال، إلا عبارة كهذه مبهمة مرنة، أسرفت في المرونة والإبهام حتى وسعت كل معنى، فلم أظفر مما أريد بشىء، وماذا عسى أن أفيد من جواب يتنافر الصدر فيه مع العجز، ويتناقض شطره الأول مع شطره الثاني، فيزيد المشكلة تعقيداً على تعقيد ولا يوضح منها شيئاً؟ ولكنها الفلسفة العقيمة تأبى إلا أن تعلو بنفسها فوق مستوى الإفهام فتربك العبارة إرباكاً وتغلقها إغلاقاً، كأنما أريد لها أن تقتصر على قائليها، وكان خليقاً بها إن أرادت أن تمكن لنفسها من العقول، أن تلتمس سبيلاً طيعاً ذلولاً، لا وعراً ولا شائكاً، فيروده الرائدون جميعاً.

فيلاليش - عفواً صديقي، فما قصدت إلى التناقض عمداً بل اضطررت إليه اضطراراً، فهذه اللغة التي تواضع الناس على اصطناعها في التفاهم، لم تنشأ أول أمرها إلا لكي تكون أداة للتعبير عما يقع تحت الحس من أشياء، فلما درج الإنسان صاعداً في سلم الرقي، وبدأت تدور في رأسه خلجات من الفكر المجرد ثم أراد أن يبرزها في ثوب من اللفظ، لم تسعفه إلا هذه اللغة، التي إنما خلقت للمحسوسات، والتزم أن يجرى في قوالبها المحدودة تلك الآراء المطلقة التي لا تعرف الحدود، فلم يكن بد من هذا التناقض والاضطراب، فأنا إن فكرت في مصيرك بعد الموت، فلست أعنى بجسدك وما يطرأ عليه، بل يسبح الفكر في

ص: 26

حقيقتك التي تكمن وراء هذا الستار من اللحم والعظم في جوهرك مجرداً عن قوالب المادة، وما أضيق اللغة عن هذا النطاق الفسيح!

تراسيماكوس - ويحك! أو تريد أن تجعل مني رجلين، فرجل من مادة في إهاب من الجلد، ورجل مجرد خبئ وراء الأستار تراه أنت من دون صاحبه؟

فيلاليش - وأي غرابة فيما أزعم يا صديقي؟ أفتظن أن هذه الأجسام والأجساد التي تنبث في أنحاء الكون، والتي تدركها بواسطة الحواس، هي كل شئ؟ اللهم إن صح هذا لكان الإنسان كتلة من اللحم والشحم والعظام، وقل على أفكاره ومشاعره وشتى مظاهره حيوية العفاء، لأنها لا تسلك إليك سبيلاً من عين أو أنف أو أذن!! لا، لكل شئ حقيقة كامنة وراء ظاهره، ما في ذلك شك ولا ريب، فإن أدركك الموت يا أخي أفنى منك هذا الفرد الذي يحاورني الآن، هذا الشخص المعين الذي أراه وأسمعه، ماذا أقول؟ هذا التراسيماكوس، فلن يكون بعد الموت شيئاً مذكوراً، ستنحل مادته وستسلك ذراتها سبلاً شتى، فطائفة إلى شجرة تدخل في تركيبها، وطائفة إلى حيوان، وثالثة إلى صخرة تلقى في طاق الكوخ لتصد عن ساكنيه الهواء كما يقول شاكسبير، ولكن ليست هذه الشخصية إلا ظاهرة فانية مع الموت، ولها بطانة باقية إلى الأبد، ليست إلا قالباً صيغت فيه حقيقتك الخالدة. فالفرد منك ظاهرة مادية عارضة محصورة في أطواق الزمان والمكان، فلها بدء وخاتمة، وهي تشغل حيزاً من الفراغ، فأما سرك وجوهرك، أما الحقيقة التي اندست في مادتك فلا تعرف زماناً ولا مكاناً، فهي في الكون منذ الأزل، أرادت أن تثبت وجود نفسها، فتجسدت في الكائنات التي ترى، فهي لا تختلف في شخصك عنها في شخصي، أو في شخص هذا الطائر الذي تراه يخفق بين أطباق الهواء. . . فإن أدركت المنية سيفنى منك الفرد، وستخلد الحقيقة ممثلة في سائر الأحياء، لعلك الآن قد آمنت بما زعمته لك من أنك لن تكون بعد الموت شيئاً، وستكون كل شئ؟

تراسيماكوس - ولكن خلودي في أشخاص آخرين لا يساوي عندي جناح بعوضة، مادمت لن أحيا بشخصي هذا، فإن كان تراسيماكوس الذي يطارحك الحديث الآن، سيفنيه الموت، فسحقاً للحقيقة، إذ ليس لي في خلودها غناء.

فيلاليش - مهلاً! هب أنك خيرت في أن تعيش بعد الموت بشخصيتك التي تتشبث بها

ص: 27

على شرط واحد، وهو أن تسلب منك تلك الشخصية شهوراً ثلاثة فحسب، ثم ترد إليك إلى الأبد، فماذا أنت قائل؟

تراسيماكوس - لا أتردد في القبول فرحاً راضياً.

فيلاليش - ولكنك تعلم أنا لو سلبناك الوعي والشعور حيناً من الدهر، ثم بعثنا فيك اليقظة والحياة، فلن تدرك كم لبثت في غيبتك إلا أن يقص عليك نبؤها بعد البعث. فهؤلاء أصحاب الكهف أووا إلى كهفهم فضرب الله على آذانهم عدة سنين، ثم بعثهم، فقال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم؛ مع أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. فإن كنت كهؤلاء ستفقد إدراك الزمن، فما ضرك لو أطلنا أمد الرقاد المفروض إلى آلاف ثلاثة من السنين؟

تراسيماكوس - لا شئ، أحسبك مصيباً فيما تقول!

فيلاليش - وإذا فرضنا أن تلك الآلاف الثلاثة قد تعاقبت عليك في رقدتك، وأن أحداً لن يوقظك بعدها، أفتظن أن في ذلك وبالاً عليك؟ اللهم لا! فإن كانت عشرات قليلة من السنين قد عودتك الحياة وربطتك بها ربطاً وثيقاً، يعز عليك كثيراً أن تنفصم عراه، أليس أجدر بذلك الأمد المديد أن يعودك الموت ويوثق بينك وبينه الصلات؟ وأحسب أنك لو ظفرت بمن يبعثك ويرد إليك وعيك المفقود، لن ترضى عندئذ أن تطرح حالاً لابستك طول ذلك العهد الطويل، وسيزيد في اطمئنانك حينذاك علمك أن هذه القوة السحرية العجيبة التي تحببك في الحياة الآن، ستظل تنشر من الأحياء ملايين وملايين لا تنفك متعاقبة إلى الأبد.

تراسيماكوس - ما أبرعك في الحوار، وما أروعك في سحر المنطق وطلاوة الحديث!! إني لأكاد أستخف بشخصي وأستصغر حياتي، التي طالما أحببتها وحرصت عليها أشد الحرص ولكن هيهات، فلن أنخدع بهذا الإغراء، وما زلت أريد بعد هذا كله أن أحيا بهذه الشخصية نفسها.

فيلاليش - يا رعاك الله! كأنما بلغت شخصيتك من الكمال شأواً بعيداً، بحيث يعز ضريبها على الدهر، وكأنك عاجز الخيال لا تستطيع أن تتصور حالاً خيراً وأسمى؟ عجباً! ألا تريد أن تستبدل بنفسك الناقصة المحدودة نفساً أسمى مرتبة وأبقى خلوداً؟

تراسيماكوس - ولكنني يا صديقي لست أملك في ذلك اختياراً، فشخصي بالغاً ما بلغ من

ص: 28

نقص وتحديد، هو نفسي، وهو عندي أعز ما في الوجود، لا أعدل به شيئاً، ولا أرجو إلا أن يمتد الأجل بهذه الذات التي ترى صورتها وتسمع صوتها، ولا يعنيني في كثير أو قليل تلك الحياة الخالدة التي تظل باقية في الكائنات الأخرى، والتي تحاول بكل ما وسعك من دليل أن تقيم الحجة على أنها حياتي أنا، فلست أرى خيراً في حياة لا أحس بنفسي أنها حياتي.

فيلاليش - لست وحدك يا صاح تريد أن تبقى، فكل كائن دبت فيه الحياة يريد البقاء، وحسبك هذا دليلاً قوياً على أن هذه الرغبة الشاملة التي تنطق فيك بهذا الرجاء، إنها ليست صيحة الفرد منك، ولكنها نزعة الوجود بأسره، إنها قوة عارمة تنشد البقاء ولا عبرة عندها بالأفراد مادامت تحقق بقاءها المنشود، فرغبة البقاء، أو إرادة الحياة، وقد التمست لنفسها الوجود والخلود، وجسدت نفسها في أفراد الكائنات، وألقت في أنفسهم وهماً بأنهم غايات مقصودة لذاتها، لكي يحرصوا على الحياة ويكونوا وسيلة صالحة لبقائها، والواقع أنهم ليسوا إلا أداة تستغلها تلك الإرادة، وسواء لديها أفنى هذا الفرد المعين أم امتد به الأجل، مادامت تجد من غيره ما يضمن بقاءها. . . حسبك يا أخي أن تعلم أنك أداة لتلك الإرادة الشاملة، وأنك صورة من صورها، وإنك لست غاية مستغلة قصدت لذاتها، وإن الحياة لن تخسر بفقدك شيئاً، بل لعلك تجني من ذلك خيراً كثيراً، لأنها كانت سجينة في قيود فرديتك، مثقلة بمادة جسدك، ثم انطلقت إلى حيث لا قيود ولا حدود! حسبك هذا لتعلم أن قصة الموت صبيانية تافهة، فليس جديراً بالخوف والإشفاق، وليست حياة الفرد خليقة بهذا التقدير العجيب، ولكم يبعثني على السخرية إنسان يتمسك بحياته ويتشبث بها، ويشفق من الموت ويخشاه، كأنه وحده الكائن الحي الذي نيط به بقاء الحياة.

تراسيماكوس - ليس لعمري أبعث على السخرية من هذا الهراء، ولولا رغبتي في السمر واللهو، لما استمعت إليك لحظة واحدة.

زكي نجيب محمود

ص: 29

‌خواطر المصيف

الماء والسماء

بقلم محمد قدوري لطفي ليسانسييه في الآداب

كلاهما أحب الزرقة فآثرها لنفسه لوناً، وكلاهما آثر الرهبة فاتخذها لنفسه وصفاً، وكلاهما يمتد فلا يبلغ البصر منتهاه، ويسرح فلا يعرف الطرف مداه، قد حجب كل منهما الذي وراءه، ولم يبد كل منهما غير صفحته، لا تمل السماء النظر إلى البحر، ولا يمل البحر التطلع إلى السماء، صفحتان متشابهتان، ووجهان متقابلان، قد يبسم كل منهما لصاحبه فيصفو أديم السماء وتنبسط أسارير البحر، ويكتنف ما بينهما هدوء يشرح الصدور وترتاح له النفوس، وقد يدل كل منهما على صاحبه، ويمكر كل منهما بمقابله، فيعلو وجه السماء سحاب خفيف، أو يسدل عليها نقاب منه شفاف، وترتسم على وجه البحر تقطيبة من الموج، لا يلبث معها أن يهدأ فتزول، وقد يتجهم كل منهما لصاحبه، ويتجنى كل منهما على الآخر، فتسدل السماء على وجهها حجاباً من السماء أدكن اللون، لا يشف عن شئ ولا ينم على شئ، ويثور البحر في عنف، ويحتد في غضب، فيرغى ماؤه ويزبد موجه، ويشتكي من لطماته شاطئه، وقد تستسلم السماء إلى البكاء، فترمي البحر برذاذ من الدمع أو بوابل من المطر، وقد يزأر البحر فترعد السماء، ويزهو بياض الموج فيشتد من البرق اللمعان.

سبحان الذي جعل بينهما هذا الفضاء مجالاً للطير ومسرحاً لكل ذات جناح، وتعالى الذي جعل بينهما هذا الهواء حياة للكون، ومطلباً لكل ذي روح، ثم شاء ألا تتقطع بينهما الأسباب وألا تبعد بينهما الوسائل، فتقاربا على بعد، وتدانيا على تناء، أضاءت السماء بنور الشمس، فأرسلت على الماء من شعاعها فضة لا تذوب، وتحلت السماء بضوء القمر، فأهدت إلى الماء صورته، ورسمت على سطح البحر ظله، وتجملت السماء بوشى النجوم، فبعثت إلى البحر منه ببريق، ويا عجباً لوفاء تلك السماء لهذا الماء، ما يكاد ينقضي النهار وتعتزم الشمس المغيب، حتى توصيها إلا ما قصدت الماء في طريقها إلى الغروب، وأبلغته سراً من الأسرار لا يلبث وجه الشمس أن يحمرّ له احمراراً ينبئ عن السر، ويفصح عن مدلول الكلام، ويا عجباً لهذه السماء تضحك من أهل الأرض، فتخيل إليهم أنها تلاقي الماء عند الأفق، وتحسب أهل الأرض لها عذّلاً، فتوهمهم أنها طوقت الماء بجناحها، وأرخت

ص: 30

على صفحته طرفاً من ذيلها، وتمكر بأهل الأرض، فكلما قربوا من الأفق ابتعد عنهم، وكلما علو عنه اتسع أمامهم مداه، ويا عجباً لهذه السماء حين تدل على الماء، وحين تتجنى على البحر، فتغري به الشمس أن ألفحيه بشواظ من نارك تنفذ منه إلى الصميم، وارميه بسهام من شعاعك تخترق منه الفؤاد، فما تكاد الشمس تأمر بأمر السماء، حتى يضيق البحر بوهج الأشعة وألم السهام، فتذوب حشاشته، وتتبخر عزيمته، وما تكاد السماء تحس حر أنفاسه، وتشعر بلافح زفراته، حتى تسيل من الأسى دموعها، وتتقرح من البكاء مقلتاها، لله شأنها!! تريد أن تلعب بالنار فلا يمسها سوء ولا يلحق بها أذى.

ويأبى البر أن يترك الأمر خالصاً بين السماء وبين الماء، فيود أن يكون له معهما شأن أي شأن، ويجب أن يكون له من كل نصيب وافر، فيلجأ البر إلى أهله يغريهم بالبحر، وويل للبحر يومئذ من الإنسان، ويسلطهم على السماء، ويا للسماء يومئذ من أهل الأرض، أما البحر فقد قدروا عليه، وهزئوا به، فركبوا متنه، ومخروا بالسفن عبابه، وجرءوا عليه فغاصوا بالعلم إلى قاعه، لم يخفهم منه موت، ولم يرهبهم فيه وحش، أقاموا فوقه الجسور، وشيدوا عليه السدود، فقطعوه ولم تبتل لهم قدم، وعبروه ولم يخلعوا لهم ثوباً. وهكذا قرب البحر من الإنسان فاستخف به، وتكشف البحر للإنسان فلم يخش ما فيه، ولو قد كان بعيداً لما استخف به أحد، ولو قد كان غامضاً لما اطمأن إليه إنسان، ففي الغموض سر رهيب، وفي عسر المنال رغبة في النوال.

ولم يكف هذا الإنسان أن يلزم الجد مع الماء، وأن يتخذ منه معيناً على الحياة، وطريقاً إلى الممالك والديار، وإنما أراد أن يمرح مع البحر، وأن يلهو بالشاطئ، فاتخذته الغيد مسرحاً يخطرن فيه، وميداناً يصلن في أرجائه، سلاحهن الجمال، وعدتهن الرشاقة، واتخذه الرجال معرضاً يرون في ما لم يكن من قبل إلى رؤيته سبيل، ويشاهدون فيه ما ليس يوجد عند غيره، واخذه هؤلاء وهؤلاء ملهى وملعباً ومصطافاً، فلم يبق للبحر من هيبته إلا اتساع مداه وتراكم لججه، ولم يعد للبحر من رهبته إلا خواطر المتأمل فيه، الناظر إليه حين يخيم عليه الظلام، وتضن عليه السماء بنورها.

أما السماء فلم يبلغ منها أهل الأرض ما بلغوا من الماء، وإنما تنافسوا في العلو إليها، وتسابقوا في الارتفاع إلى ذراها، فحالت الطبيعة بينهم وبينها، وأوقفتهم عند حد من الفضاء

ص: 31

محدود، لا يكاد المرء يعدوه حتى يضطر إلى الهبوط أو يورد نفسه موارد الهلاك، فتعلق الناس بالريح ولم يبلغوا عنان السماء، ووقفوا منها على الأبواب ولم يبلغوا منها الصميم، وقديماً تمنى فرعون لو أنه بلغ عنان السماء، وقال:(يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى) فهلك عنه سلطانه وصد عن السبيل. وهكذا بعدت السماء عن أهل الأرض فعزت عليهم وخارت دونها قواهم، وأسرفت في النأي عن الناس، فما زالت وراءها أسرار هيهات للمرء أن يكشف عنها، وما زال فيها من الأفلاك والأجرام ما ليس يعرفه الناس إلا أماني، وقد كان أهل الأرض يفرحون لرؤية السحاب، ويستبشرون بنزول المطر، ويضحكون لبكاء السماء، فما زالوا يرون فيها مصدر الخير وسر الطبيعة وينبوع الحياة، وما زال الناس يلتمسون ضوء النهار من السماء، ويفتقدون فيها ضياء البدر أو سناء النجوم حين يخيم الظلام، فحفظوا للسماء قدسيتها، وقدروا لها هيبتها، وعرفوا الجن في الأرض، وقالوا الملائكة في السماء.

والناس يوقنون أن الله معهم أينما حلوا، موجود أينما وجدوا، وقد كائن في كل زمان، وهو كائن في كل مكان، ولكن شاءت قدسية السماء ألا تلهج الألسن بالدعاء حتى ترفع إليها الأكف وتتطلع نحوها الأبصار.

الإسكندرية

محمد قدري لطفي

ص: 32

‌من الفصول التي يجب أن تقرأ مراراً

العاطفة في الأدب

لغوستاف لانسون الأستاذ بكلية الآداب في باريس

ترجمة الأستاذ محمد روحي فيصل

- 1 -

تعوق العقل عن التأمل والتفكير أمور شتى وعلل مختلفة، أهمها في نظرنا هذا الاعتقاد السائد أن نشاط الذهن يخمد العاطفة المشبوبة، ويقتل النزوة الحية، ويحبس القلب الخفاق، فلا أماني ترف، ولا أحلام تطيف، ولا ذكرى تلوح، ولا هوىً يبوح، وإنما العقل كله قد نأى عن ركدة الخمود، واستيقظ من نوم الجمود، رأى في أثر رأى، وخاطر يتلوه خاطر، ومقدمة تسوق إلى نتيجة، وتحليل يسلم إلى استنباط! إنه ليحسن بالأديب المبين أن يخنق صوت الفكر ويطمس معالمه، ثم لا ينطق سوى قلبه، ولا يترجم عن غير لبه. إذن لخلت لغته من ألوان الزينة المصطنعة، وصفا أسلوبه من أصباغ البهرجة الزائفة، ثم تراءت النفس على سجيتها الموهوبة من خلال السطور، وبرزت نقية رائعة من بين سواد المداد. .!!

هذه دعوى - على جمالها وروعتها - عاثرة خاسرة، ووجه الخطل فيها أن القلب لا يستغني عن العقل ولا يستطيع أن ينكره في حال من الأحوال. فإن قوى النفس متحدة مشتبكة، يتصل بعضها ببعض، وتتداخل إحداها في جارتها الأخرى، ويندس الضعيف منها في القوي، والكامن في البارز، والوديع في المتمرد. وإنما القلب الكبير تراه عند من له عقل كبير، والطلعة البصير يفطن إلى ألطف ما يضطرب في الفؤاد من الميول والنزعات، ويشعر بأدق العواطف وأهدأ الأحاسيس، وعلى قدر ما يكون العقل من الثراء والخصب، أو الفقر والجدب، يكون القلب عظيماً رفيعاً، أو وضيعاً خسيساً!! هؤلاء القديسون الصالحون ورجال البر والإحسان، هم أصحاب عقول نيرة تناهض عقول العباقرة والمفكرين، وقد يكون فيهم سذج غافلون فما يعني هذا أنهم حيوانات هائمة سائمة، وإن كانت محبة الله وبر عباده استجابة روحانية لنوازع القلب ومطالب الشعور، فإن تأسيس

ص: 33

المدارس والأندية وبناء المستشفيات والملاجئ صورة من صور النطق المنظم، ومظهر من مظاهر الرأي والتدبير.

- 2 -

يستبد الهوى المبرح، ويجور الألم البالغ، ويطغى الهيجان الثائر، فتختبط النفس وتهتاج الأعصاب ويغلي الدم، ثم تنطلق من شفاه العاني همسة محزونة، أو صرخة يائسة، أو قولة قوية جليلة، تجري خالدة على وجه الدهر، وتذهب في الناس مثلاً سائراً وحكمة مضروبة! أما النقد الحديث فما يحفل بهذا النوع من الكلام البليغ الجامع، ولا يمنحه التعظيم والإجلال مثلما تمنحه الأمم والأجيال، وإنما يراه من عمل الراوي المؤرخ الذي سرده لزملائه المعاصرين ولمن يليهم إلى يومنا هذا، ويستنكر نسبته إلى القائل الحساس، والمؤرخ - بخلاف الصحافي - يملي على الحادث رأيه ومذهبه، ويسرد الرواية على نحوه وأسلوبه، ويسكب الكلم في قالبه ومثاله.

ويغضب الرجل فيحول باطنه، ويختل ظاهره، ويضطرب إحساسه، ثم تستبين طبيعته الصامتة كما خلقها الله، وكونتها الوراثة، ووجهتها البيئة!! يقذف الكلمة من فيه فإذا هي كالسيف مضاءً ونقاوة، وإذا هي جماع فطرته النائمة، وعادته الراسخة، وغريزته الكامنة. .!!

لغة القلب آهة أو أنة، أو نداء أو عويل، ولكنه يكف عن التوجع والحنين حين تجتاحه موجة من الحب القوي أو الألم المميت، وقد قيل أن الهوى يعمي ويصم! فمن يفرق بين القلب والعقل ثم يروز الأول ويهمل الثاني، لزمه الإيجاز في البيان، والاقتضاب في الكلام، ذلك بأن المبين إذ يسمي شكواه ويدل على بلواه، إنما يعلن كل ما يكنه فؤاده من الخلجات، ويذكر كل ما يحز نفسه من اللواعج، ثم لا يرى شيئاً يتخذه مادة للكتابة ومفتاحاً للتحدث والإفاضة! تمثل محباً ملأ الحب جوانحه، وتغلغل في حناياه وأحشائه، واختلط بلحمه ودمه، شاء أن يصور هيامه المستفيض في إسهاب وتفصيل، فلتجدنه أحرص الناس على الإيجاز في التصوير، وأقلهم تبسطاً في الحديث، فما يكاد يسجل هذه الجملة المألوفة المبتذلة:(إني أحبك) حتى يعيد لفظها ويكرر معناها. سطران لا غير يخطهما المحب، ثم يرمي القلم في انكماش ووجوم!!

ص: 34

ونلاحظ أن النفس الراضية المطمئنة قد تلتوي على الكاتب، وتجهده عند الإعراب والتبيين، وتستهلك ملكاته النابهة، وأدواته القوية. أما الميول المصطدمة والأهواء المتعاكسة، فهي تظهر في يسر وسهولة، ولا تستلزم عبقرية عالية أو مبيناً كبيراً. ويرجع هذا إلى أن النفس الراضية المطمئنة، لا تتطلع لغير حاضرها ولا ترغب إلا في هدوئها وراحتها، وهي إنما تنطوي على مشاعر حلوة صافية لا سبيل إلى الخلوص إليها بلفظ أو كلام، وحسبها من ذاتها أن تستمتع بما تحس، وتتملى ما تشعر، وتذوق ما تحلم! ولكن الميول والأهواء إذ ترتطم وتتعاكس تثير ألف خاطرة ولاعجة، من ندامة على الماضي وأمل في المستقبل، وخوف من المصير، وكلها هواجس يفطن لها الكاتب الصغير، بله الألمعي القدير، ثم يبرزها مخطوطة واضحة على الطرس. . .

مظهر الألم صوت ملجلج، ووجه أغبر، ورعشة باليد، ودمعة في المحجر. فالإعراب عنه بلفظ قريب لا لبس فيه ولا غموض إنما يحتاج إلى عقل خصب يتأمل وجه الألم الذي يتحسسه ويدرك قيمته وأثره، ويعرف أين يتحد مع غيره من العواطف، ومتى يختلف ثم يعرضه تاماً صحيحاً غير منقوص ولا مشوه، وكلما كان التأمل العقلي كثيفاً نافذاً كان الألم أكثر وضوحاً وأبهر لوناً وأدق تعبيراً.

تلكم صفحات الألم الباكي فاقرأوها بإمعان، وفتشوا فيها عن القلب المنفطر، وتبينوا النفس المعذبة، ألستم توافقوننا على أن الأديب إنما اتخذ العقل مبضعاً يشق مطاوي القلب، ويسبر غور الضلوع، وينفذ إلى حقيقة البكاء ومصدر اللوعة؟!

ولقد حفظ التاريخ القديم فيما حفظ في ذاكرته الواعية رسائل طريفة انحدرت إلينا كاملة من شيشرون ومدام سيفينيه، وهي رسائل تفيض بالشكوى وتتنزى يأساً وألماً، كشف فيها الخطيب الروماني عن الحب الأبوي حين ماتت ابنته وذهبت إلى حيث لا رجعة لها، وأبانت المركيزة الفرنسية كيف تتوجع الأم الرؤوم حين تزوج ابنتها في الديار النائية والغربة الطويلة! وإن الآباء والأمهات ليبكون أبداً أولادهم وبناتهم عند الموت ووقت الفراق، ولكنهم لا يستطيعون وصف ما تكابد مهجهم من هموم وأشجان، وليس الذنب في ذلك ذنب قلوبهم المترعة المفعمة، وإنما هو ذنب عقولهم القاحلة، وألسنتهم البكيئة، وأقلامهم الجامدة.

ص: 35

والطريف في هذا الباب ما يزعمه هيجو من أن الشاعر مصلح عظيم ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى مواطن الحرية والجمال والحب؛ وقد دفع هيجو إلى هذا الرأي الأرستقراطي غروره المسلكي، وحماسه الوطني، وتطرفه المعهود، وخياله الواثب. والحق أن الشاعر رجل مثلي ومثلك، يرى ما نرى ويشعر بما نشعر، وإنما يمتاز بنوع من الامتياز لا ينهض به إلا صف المصلحين ولا يرفعه إلى مقام الأنبياء - يمتاز من غيره من الناس بهذا العقل الحاجي المسجل الذي يقدر على الإبانة عما يرى ويشعر، ويعرف كيف يصور ما يتجاذبه من المنازع والأهواء.

فالتأمل الذهني كما ترى ضرورة من ضرورات البيان، فلا تظهر الخلجة النفسية على النحو الذي قذفتها الفطرة ودفعها التطور واكتنفتها الحياة، إلا بالمراقبة الباطنية العميقة. والممعود إنما ينبغي أن يكون على شئ من العلم بمواقع الأعضاء حتى يصف للطبيب المرض الذي ينتابه والداء الذي ينهشه، ولكن الطفل إذ يتألم لا يفقه ألمه ولا يعلنه إلا في إبهام: يصرخ ويبكي، وهذا كل ما عنده من وسائل الإعلان وأدوات الإفصاح!!

إن الأدباء المحدثين ممن نقرأ لهم ونستمع لأحاديثهم في الصباح وفي المساء، يلتزمون البساطة في اللفظ وفي المعنى، ثم ينحدرون إلى النفس المتأخرة الابتدائية التي لم يصقلها العلم ولم تهذبها المدنية، فينتزعون منها الشعور الفطير والعاطفة الساذجة، وهم موقنون أن الإخلاص في الأدب أو الصدق في التعبير لا يكون إلا حيث يكون الطفل الصغير أو الجاهل الأمي موضوع الحديث ومدار البيان، ولست أعرف انحرافاً عن الحق وخللاً في المنطق يشبه ذاك الانحراف وهذا الخلل، فإن الثقافة العلمية لن تفسد النفس والشعور، ولن تمنعهما عن البوح والظهور.

وقد كان المؤلفون اليونان يستصرخون أبطال رواياتهم، ويستدرون عبرتهم، ويتعمدون إيلامهم، وكانوا يسهبون في وصف الألم، ويذكرون بواعثه ونتائجه، ويتغلغلون إلى كنهه وحقيقته. فهم فنانون حقاً يلتمسون مواطن الجمال المنسجم، وينشرون مواضع الحقيقة الفنية، أصحاء الذوق أقوياء الحواس، يجمعون إلى تبدل اللون وتقلص العضلات واختلال الحركات تدفق الألم الداخلي، وأفاعيله النفسية، وأثره في الرءوس والقلوب. وقد ترسم شكسبير خطاهم ونهج سبيلهم، فكان يصور أوضاع الجسد ثم ينفذ إلى الألم ذاته، ويربط

ص: 36

بين اضطراب الحواس اللدنة، وهيجان النفس الباطنة.

وتحسب الآن إننا كشفنا عن الصلة المتينة بين القلب والعقل، ونبهنا إلى خطر التفريق بينهما، وإلى قلة الإبداع والإنتاج عند إمحال التأمل والتفكير، فإن كثيراً من الناس ليحسون أقوى الإحساس، ويشعرون بأشد الشعور، ولكنهم لا يعبرون عن إحساسهم وشعورهم، لأنهم ضعاف العقول ضئال التفكير، وأغلب الظن أن المبين لو راض عقله وصقل ذهنه بالتأمل الدائب الملح لوفق في رسالته أحسن التوفيق، ومضى إلى غايته كما يرجو ويرجو له النقاد والباحثون.

- 3 -

مادام الأديب أداة تطوير واعية مرهفة تلتقط ما يتساقط عليها من أشعة الوجود وألوان الطبيعة، وصور الحياة، فلن يحس بالفراغ يملأ ذاته ولا بالوحشة تحف نفسه وكيانه، وهو أبداً يرقب جيشان عاطفته، ويرصد خفوق قلبه. ثم يستمتع بهواه وشعوره، والاستمتاع هنا معناه إيقاف الحياة قبل أن تطوى، والإحساس بها إحساساً (مضاعفاً) قوياً. وفي النفس نزوات مبهمة خافتة، يبصرها الأديب الصناع ثم ينشرها عارية واضحة تكاد من فرط ظهورها تطفر لعين الرائي المشاهد.

ويعتقد الأستاذ إميل فاجيه أن التكلف في البيان أشر ما يبلى به الأديب الفنان من العلل والأدواء، وهذا حق لا ريب فيه، وإنما الريب في قول من قال إن مراقبة النفس تقتضي التصنع، وتؤدي إلى التكلف، لأنها إنما تقتل الطبع الموهوب والهمة الفتية، والقوة الدافقة. والحق إن المراقبة إذا كانت منظمة متصلة توسع إطار الإحساس، وتوضح بداءة الشعور، وتنهض بالقريحة الخابية الهامدة. . . فلقد تستكين العاطفة ويخمد أوارها، وتهدأ حدتها ويبرد لهبها، وليس هذا ما نسميه النضوب والإمحال، وإنما هو أثر من آثار الإعياء والنصب الشديد، كأنما العاطفة المكدودة تنام في جو مظلم ساكن، وكأنما القريحة المتعبة تقف عن الشعور فترة غافلة من الزمان! وفي هذه الحال لقد يأخذ الأديب نفسه بوصف منظر أو تبيان خلجة فيقف مكتوف اليدين متلبد الحس، جامد القلم.

فالمراقبة إنما توقظ العاطفة النائمة أو هي تهيجها كلما غفت، ومن العجب أن تكون سبيلاً إلى التكلف المرذول والتصنع الممقوت، وعهدنا بكبار الشعراء أمثال لافونتين ولامارتين

ص: 37

أنهم على هيامهم بالتنقيح والمطالعة والتأمل، كانوا أطلق الشعراء لساناً، وأرقهم بياناً وأسلسهم لفظاً.

ومن الأدباء من لا يستوحي نفسه، ولا يترجم عن طبعه، وإنما يستقي من ذاكرته ومحفوظاته وقراءته، وهؤلاء يكتبون في غير جدوى ولا طائل، والمعروف المتداول أنهم يأتون غالباً بتشابيه مستعارة، وكنايات معادة، وصور مبتذلة لا تعبر عن (شخصية) ولا تنم عن جديد مبتدع. وإنما الرجوع إلى الطبع دون الذاكرة الحافظة هو مصدر الأدب الخالد والابتكار القويم، وليس من شك في أن التكلف يضمحل ويتزايل أثره، كلما رجع الفنان إلى نفسه وعول على طبعه واستقى من عبقريته. ولقد يجمل بالمبين أن يتناول ما تمده القريحة في الوهلة الأولى واللمحة الخفيفة، وألا يصطنع شعوراً لا يتردد في أطواء نفسه بل يأخذ ما جادت به العاطفة من غير جهد ولا عناء!!

وكلمة (أنا) ما يشتق منها قد تكون سبباً مباشراً من أسباب التكلف البياني، لأنها تتصف بالشمول وتجمع الشتات كأنما هي عنوان النفس ورمز العاطفة، والسبيل الذي ينبغي أن يسلكه الأدب الرفيع هو أن يحمل كل لفظ من ألفاظ اللغة جزءاً من النفس وقسماً من العاطفة، أما (أنا) فما ينبغي أن تكون إلا عيناً تتفجر منها الأفكار والمعاني، وتصدر عنها الأساليب واللغات، وتصب فيها فروع الكلام وأغراض البيان.

فإذا كان في هذا عسر ومشقة، فإن الرياضة والمران حقيقان بأن يذللا كل شئ، وكما يخلق اللاعب المرتاض لجسده الحواجز ليجتازها، والجبال ليتسلقها، والوديان ليهبط إليها، كذلك ليخلق المبين لنفسه طرائق ملتوية لممارسها، مهما تكن تلك الطرائق وهمية خيالية، مادامت الغاية محمودة تبرر الواسطة ثم تخضعها بالتجربة والعادة.

كانت العصور السالفة تقدم للمبين مواد التفكير الصحيح، وأسباب العاطفة الحية، وأدوات الكتابة الخالدة. وكانت الظروف والأحوال تنشئ المرء إنشاء جميلاً قوياً، وتعده لحياة شديدة فيها من الجد والنشاط، ومن الإبداع والإنتاج ما يزري بحياتنا الحاضرة الراكدة، ويستخف بعيشنا اللاهي الهازل. .!!

كان الطالب إذا نال الشهادة وخرج من المعهد لا يرى بضاعته من العلم إلا قليلة موجزة، ولا يعتقد في نفسه إلا القصور والجهل، فما يزال يقرأ في الكتب والأسفار، ويتلقى عمن

ص: 38

هو أكبر منه سناً وأوسع تجربة، حتى يريش ويهرم، فهو أبداً في دراسة دائبة، واختبار متصل. ولم يكن مقياس النبوغ سعة القراءة والرواية، وإنما هو الفهم السليم والنظرة الصائبة. وكانت الآداب على اختلافها دروباً متشعبة تنحدر كلها به إلى النفس الإنسانية يطالع منها ما يطالع ثم يجمع المتشابه ويفرز المتشابك، ويستعمل النابه ويعنى بالضعيف الخامل. أما القصة فما كانت تتلى للتسلي والمفاكهة أو لتزجية الوقت والفراغ، وهي التي قد تبلغ عشرات المجلدات مخطوطة ومطبوعة، وتلاقي من الرواج والذيوع ما يستدعي الدهشة والإكبار! هذا إلى تراجم المؤرخين، وتأملات الحكماء، ومواعظ الزهاد والخطباء، مما يوقظ العاطفة والشعور ويربي ملكة الانتباه والتفكير. وفي حضرة المرأة والطفل الناشئ كانت تثار في غير تحرج ولا تقية أعوص مسائل الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد. وكان العرف الديني والاعتراف الكهنوتي، وحب الفضيلة يقلق المؤمن، ويقض مضجعه، ويضطره إلى مراقبة نفسه وإلى التعبير الدقيق عن خطراته ونياته.

ومن ثم كانت النساء اللواتي لم يتعلمن سوى الأدعية والصلوات، وكان الشبان الذين لم يفقهوا غير المبارزة والرقص - كان هؤلاء جميعاً يعبرون عن مرادهم تعبيراً حسناً، ويفكرون تفكيراً صحيحاً، فكانت الكتابة عندهم كالمحادثة والحوار، يمنحونهما الجهد والأناة، ويقصدونهما بقلوبهم وعقولهم مجتمعة متساندة.

أما اليوم فالذاكرة الحافظة هي غاية الغايات، يكدسون فيها ضروب العلوم والفنون على مدى ضيق من الزمن كما يكدسون في المركب أصناف البضائع على غير نظام ولا تؤدة لتقلها إلى المرفأ سالمة لا أكثر ولا أقل. والمرفأ هنا هو الفحص الذي ينتهي عنده الدرس، وينسى الطالب بعده ما اكتسب من العلوم. ذلك بأنه تعلم منفعلاً لا فاعلاً، تعلم كما تدور الآلة من غير وعي ولا تفهم، فالبرامج واسعة، والوقت قصير، والتمثيل منعدم، والهضم سيئ.

وجملة القول أن التربية الحديثة، لا تتلاءم مع شرائط الصحة العقلية، ولا تهيئ العاطفة للفن والكتابة. ومادام الخروج على البيئة مستحيلاً، فإن تهذيب الشعور وتنمية التفكير مطلبان جليلان ينبغي العناية بأمرهما والنهوض بهما.

حمص (سوريا)

ص: 39

محمد روحي فيصل

ص: 40

‌10 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

الشيخ حسن الطويل المالكي

الأمام العلامة، شيخ الشيوخ، وأستاذ الأستاذين، وأحد من تفرد في مصر بالبراعة في المعقول والمنقول، وأتقن العلوم العديدة مع الزهد الصحيح والورع وعلو النفس، والتأدب بآداب الشرع والتمسك بالكمالات.

وهو حسن الطويل بن احمد الطويل بن علي، ولد بمنية شهالة إحدى قرى المنوفية، حوالي سنة 1250 كما سمعته من تلميذه الخاص العلامة الشيخ احمد أبي خطوة. وذكر الشيخ بشير الظافر في كتابه اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة، أنه ولد سنة 1256، وتربى بهذه القرية فقرأ القرآن الكريم وحفظه بها، ثم انتقل إلى طندتا وهو صغير، فاشتغل بتجويد القرآن وحفظ المتون بالمسجد الأحمدي نحو سنتين أو ثلاث، ثم حضر للقاهرة واشتغل بطلب العلم بالجامع الأزهر، فقرأ على شيوخ العصر، مثل الشيخ محمد عليش المالكي في الفقه والحساب وغيرهما، وعلى الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ محمد الأشموني، والشيخ محمد الأنبابي، والشيخ احمد شرف الدين المرصفي، فظهرت عليه النجابة، وابتدأ في حضور السعد، وكان من دأبه في أول أمره معاكسة المشايخ في الدروس بكثرة الأسئلة والمناقشات، حتى حدث ما اضطره إلى الانقطاع عن الأزهر، وسبب ذلك أن أبناء العمد وأقاربهم طلبوا للدخول في الجندية بقانون وضع لذلك أمر به سعيد باشا والي مصر، ولما كان المترجم من أقارب بعض مشايخ قريته طلب معهم.

تجنيده بأمر سعيد باشا

وجند مع جند فصار واحداً منهم، إلا إنه لم يسلك مسلك أكثرهم في التفريط في الفروض، فكان يواظب على الصلوات والأوراد، وكان الوالي يكره من الجند من يصلي، وحدث أن المترجم جاءه من شيخه الشيخ احمد شرف الدين المرصفي كتاب فيه استغاثة يأمره بتلاوتها عقب كل صلاة، رجاء أن تفرج كربه وتخلصه من الجندية، فوقع الكتاب في

ص: 41

أيديهم، وعدوه لذلك مذنباً، وكان عقاب المذنبين عندهم إهمال تعليمهم الفنون العسكرية وتشغيلهم في السكك الحديدية وما أشبهها من الأعمال الشاقة، فكان المترجم يشتغل بهذه الأعمال بهمة زائدة تأديباً لنفسه، لأنه ظن ما وقع له عقاباً على جراءته على مشايخه، وكان سعيد باشا يلقب المطيعين من الجند بالفراعنة، والعاصين المذنبين بالنماردة، فغضب مرة على النماردة وأمر بطردهم من الجيش، فخرجوا منه إلا أنهم بقوا تابعين له، وهم ما كانوا يسمونهم بالعساكر الأمدادية، وخرج المترجم معهم، فأقام بقريته مدة، وكان قبل ذلك يجتمع على الشيخ خالد أحد مشايخ الطريق فرأى أن يسافر إليه فسافر إلى بلدته المسماة بالسريرية من أعمال المنية أي منية ابن الخصيب ولزمه بعض أشهر عكف فيها على الاشتغال بالعلم والطريق.

فراره

ثم طلب إلى الجندية مرة ثانية فذهب إليه أبوه ليحضره وأراد الشيخ خالد منعه فلم يرض هو بل عاد مع أبيه إلى قريته فوجدهم أهملوا طلبه، فحمد الله وأراد والده إبقاءه معه في القرية خوفاً من أن يعود إلى الصعيد، فضاق المترجم بهذا الأمر وخرج من غير علم أبيه من القرية وهو لا يملك شيئاً، فمشى على قدميه يبيت في كل بلدة تصادفه حتى وصل إلى القاهرة، ودخلها من جهة باب الحديد فاشترى بما معه شيئاً أكله، وذهب إلى الأزهر فصادف الشيخ محمد السقاري في طريقه، فلما رأى المترجم أسرع إليه وهش له، وأخبره أنه يطلبه من مدة. ثم أنزله بداره وحلف أن يبقى بها شهراً لا يتكلف شيئاً من عنده، وكان مراد السقاري نظم قصيدة يمدح بها أحد الأمراء، فنظمها له وأخذ عليها أربعين ديناراً جائزة. ولما انقضى الشهر حفّ الله المترجم بعنايته، فطلبه الشيخ حسن العدوي لتصحيح البخاري، وكان شرع في طبعه فانتفع بأجر التصحيح. ثم طلب إلى ديوان الجهادية لتصحيح ما يطبع به، فقابل هناك احمد عبيد بك رئيس الترجمة، وامتحنه فأعجب به، وكاد يطير فرحاً وقال هذا جوهرة خفيت عنا، واستخدمه في الحال للتصحيح بهذا الديوان، وسعى له حتى محوا اسمه من الجيش حتى لا يعاد طلبه.

ثقافة شاملة

ص: 42

وكان المترجم في هذه المدة عاد لطلب العلم والاشتغال به، مع القيام بالتصحيح بالديوان، حتى شهد له شيوخه بالتأهل للتدريس فدرّس بالأزهر، وكان أول درس قرأه في شوال سنة 1283. وابتدأ فيه بالقراءة في الأزهرية. ولم يقتصر رحمه الله على العلوم المتداولة بالأزهر، بل بحث ونقب، واجتمع بالشيخ محمد أكرم الأفغاني فتلقى عنه العلوم الحكمية، وبرع فيها، وتلقى عن تلميذه خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي، ونظر في الهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية، وقرأ التاريخ قراءة إمعان وتدبر، وطالع كتب اللغة والأدب، ونظم الشعر السهل، وكتب الترسل البديع، وكان لا يسمع عن أحد يعرف علماً إلا ويسعى إليه، ويتلقاه عنه كائناً من كان، حتى صار نسيج وحده، وقريع دهره، في سائر العلوم مع بعد النظر في السياسة، وسعة العقل، وسلامة العقيدة، وشدة الإنكار على البدع والمستحدثات في الدين.

مشاهير تلاميذه

وقد قرأ عليه في الأزهر كثيرون من علمائه المشهورين، فكان الشيخ الأجل احمد أبو خطوة، والشيخ محمد عبده، والسيد احمد الشريف، وإبراهيم بك اللقاني، والشيخ محمد راضي البوليني، ممن قرأ عليه في الطبقة الأولى من تلاميذه. ثم قرأت عليه طبقة ثانية منها الشيخ عبد الرحمن فوده، والشيخ محمد الغريني، والشيخ عبد الرحمن قرّاعه، وقرأ عليه أيضاً الشيخ محمد بخيت، والشيخ داغر، والشيخ محمد المغربي، والشيخ احمد الزرقاني، وغيرهم ممن لا يحصون، واختص به الشيخ احمد أبو خطوة، والشيخ راضي البوليني، والشيخ عبد الرحمن فوده، والشيخ عبد الرحمن قراعه، فكانوا يقرأون عليه في داره دروساً غير الدروس الأزهرية، وصحبوه ولازموه فانتفعوا به في دينهم وأخلاقهم فوق انتفاعهم بعلمه.

ثم نقل إلى نظارة المعارف وعيّن للتفتيش فيها، ولما مات الشيخ زين المرصفي مفتشها الأول سنة 1300، وأقيم بدله الشيخ حمزة فتح الله المفتش الثاني جعل المترجم مفتشاً ثانياً. ثم نقل مدرساً بمدرسة دار العلوم، فعم الانتفاع به، وتخرج عليه أحسن من نراهم الآن من الأساتذة المتخرجين في هذه المدرسة كالشيخ الفاضل حسن منصور، والشيخ محمد المهدي،

ص: 43

والشيخ محمد الخضري، والشيخ عبد الوهاب النجار وغيرهم من أفاضل الوقت.

وفاته

وبقي في هذه المدرسة إلى سنة 1317، وكانوا شرعوا في الامتحان قبل الإجازة المدرسية كالعادة، فلما كانت ليلة السبت 17 صفر سهر كعادته. ثم ذهب لداره معافى ليس به شئ، واستيقظ فتوضأ وصلى الصبح. ثم طلب الإفطار والقهوة، وأخذته غفوة كان فيها القضاء المحتوم، فلم تشرق شمس ذلك اليوم إلا والنعاة ينعونه والمؤذنون يؤذنون على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وأمّ داره شيخ الأزهر الشريف الشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد عبده المفتي، وجميع العلماء والفضلاء، وكبار نظارة المعارف، وتلاميذه من الأزهر ودار العلوم، وشيعت جنازته تشييعاً سنياً، فصلوا عليه في الأزهر ودفنوه بمقابر المجاورين رحمه الله وغفر له عدد حسناته. ومن غريب المصادفات أنه زارني قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعاً به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب نحن الآن في الامتحان، وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكاناً أقضي فيه بعض أيام بعيداً عنهم؟ فقلت يا سيدي إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معاً إلى ضيعتنا التي بقويسنا فنخلوا فيها بكتاب نقرؤه، فقال نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسناً ليشترك معنا في القراءة. ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره ويسّر له العزلة، ولكن في دار قراره، فأصبت فيه مصيبة لم أصبها في بعيد ولا قريب، لما كان له عليّ من الفضل ولو لم يكن له عليّ سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفية السمحاء لكفى.

الأستاذ يرشد

أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه، فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يتلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شئ من آثار التربية بهذه المدارس إلا إني كنت مولعاً من الصغر بالإسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء، وينقبض من أشياء

ص: 44

تعرض لي فيها شبهات. ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها، وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم، فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم، لعلي أجد عندهم مفرجاً فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين، فأما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وأما أن يكون ما نراه حقاً، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس. حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه حتى بالغ بعضهم عامله الله بما يستحق ورماه بالزندقة، فقلت إذا كنت لم أجد طلِبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع، فلعلي أصيبها عند الزنادقة. ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه، والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف بتوسع وعلوم البلاغة. ثم قرأت طرفاً من الحكمة في شرح الدواني على هياكل النور للسهروردي، وشرح رسالة الزوراء وغير ذلك. ولما رآني مجدّاً في التحصيل، قرر لي درساً ثانياً بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها، وأنا في كل هذه المدة استوضح منه ما أشكل عليّ فيحله لي، فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله عليّ في ديني، وكثيراً ما كان يغضب مني ويؤنبني إذا رأى مني تهاوناً في الصلاة.

وكان من عاداته الخروج إلى الريف كل خميس ترويحاً للنفس فكان يذهب إلى الأميرية من ضواحي القاهرة عند تلميذه الشيخعبد الرحمن فودة فيقضي عنده الخميس والجمعة ويعود يوم السبت فلما عرفته صار يذهب للأميرية بعض الأخمسة ويسافر في بعضها إلى ضيعتنا التي بقويسنا أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه فيقرر لي المسائل ونحن سائران.

كان متصوفاً

وكان رحمه سنيّ العقيدة، صوفيّ المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد إصبع، آخذاً بمذهب الإمام ابن تيمية في مسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، منكراً على المبتدعة أشد

ص: 45

إنكار، آية من آيات الله في معرفة التفسير وحل مشكلات الكتاب المبين، متضلعاً من الحديث، متحصناً بالشريعة في كل علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوف أو رياضيات أو طبيعيات، وخص باستحضار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستشهاد بها على حل المشكلات الدينية، فكان أمره في ذلك عجباً وشأنه فيه مستغرباً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ومع انحراف علماء الأزهر عنه لإنكاره عليهم بدعهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرين بفضله، وكثيراً ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحل مشكلاتها والرد على الطاعنين عليها من أرباب النحل الأخرى أو المرتدين.

أخلاقه ومساعيه

أما أخلاقه فزهد غريب، وعلو نفس عن الدنايا، وبعد عن الرياء، وتواضع مع كل إنسان، وسذاجة في المطعم والملبس والمسكن، لا ينفق على نفسه من مرتبه إلا القليل ويتصدق بالباقي في الخفاء؛ فلما مات قام الصراخ في دور كثيرة يسكنها فقراء وأرامل، كان يعولهم في كل شهر بما فضل من نفقته، وما علم بهم أحد حتى من أقرب الناس إليه وأخصهم به إلا بعد موته.

وكان كثير الاشتغال بأمور المسلمين، دائم الهموم لما أصابهم من التأخر في مشارق الأرض ومغاربها، منتظراً فرجاً يأتيهم، ولطفاً من الله يحفهم، فتقوم فيهم دولة شعارها الدين، تقوى على جمع شملهم؛ ولذلك لما قام المهدي بالسودان وانتصر انتصاراته المشهورة واستولى على البلاد السودانية، أحسن المترجم فيه الظن وقام بنصرته بقلبه ولسانه، حتى اضطر الإنكليز أن يسيروا وراءه عيناً يخبرهم بحركاته وسكناته، وكاد يقع فيما لا تحمد عقباه لولا أن سلمه الله.

ولمداومة اشتغاله بالإقراء وتربية النفوس لم يؤلف تأليفاً، غير أن نظارة المعارف لما كلفت كل مدرس بجمع ما يلقيه من الدروس، وكان يدرس التفسير بمدرسة دار العلوم، شرع بجمع ذلك في كتاب سماه (عنوان البيان) لم يطبع منه غير المقدمة سنة 1316، أي قبل وفاته بسنة.

احمد تيمور

ص: 46

‌المعلقات

رأي جديد فيها

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

اختلف علماؤنا قديماً وحديثاً في سبب تسمية تلك القصائد التي جمعها حماد الراوية باسم المعلقات، وكان حماد أول من جمعها في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس، وذلك أنه رأى زهد الناس في الشعر فجمع لهم هذه القصائد السبع وقال هذه هي المشهورات، فسميت القصائد المشهورة، ويراد بالشعر الذي زهد الناس على عهد حماد فيه الشعر الجاهلي القديم، وإلا فإن سوق الشعر كانت رائجة في عهد حماد، وكان الشعراء المحدثون في ذلك العهد لا يحصون من كثرة، وقد ابتدأوا يخرجون على الشعر القديم ويزهدون فيه ويخرجون مذاهبه وأساليبه، وكان أول من فعل ذلك بشار بن برد الذي يعد في رأس الشعراء المحدثين، وكان من أصدقاء حماد المقربين، فدعا هذا حماداً إلى محاولة إحياء ذلك الشعر المهجور، وترغيب الناس في حفظه وروايته، فجمع هذه القصائد لهم، ولعلها كانت أول ما جمع من هذا الشعر.

ويؤخذ من نص الرواية السابقة في جمع حماد لها تعرف بهذا الاسم (المعلقات) وإنها كانت تسمى عقب جمعه لها بالقصائد المشهورة، أخذاً من قوله بعد انتهائه من جمعها (هذه هي المشهورات) ولو كانت تسمى قبل جمعه لها باسم المعلقات لقال بدل هذا بعد انتهائه من جمعها (هذه هي المعلقات) فسماها باسمها المعروف، ولم يعدل عنه إلى ما ذكره في تمييزها، فعدوله إلى ذلك دليل على إنها لم تكن تعرف باسم المعلقات، بل إن عنايته بجمعها وما عمله في ذلك من أقوى الأدلة على إنها لم تكن تعرف بهذا الاسم، لأنها لو كانت تعرف قبل حماد به لكان لها اسم يجمعها، وكانت مجموعة بالفعل فيه، ولم يكن هناك من حاجة إلى جمع حماد لها.

فإذا أردنا أن نعرف كيف حدث هذا الاسم (المعلقات) لها بعد جمعها، فلننظر ما جرى للناس معها بعد جمع حماد لها، فلقد أخذوا يعنون بحفظها وشرحها، ثم شغفوا بذلك الحفظ والشرح واتخذوها متناً شعرياً مثل المتون التي دونت في العلوم بعد جمعها، وشغف الناس بحفظها وتعليق الشروح عليها، ولكن هذه القصائد كانت أسبق جمعاً من هذه المتون، حتى

ص: 48

أتى عليها زمن وهي منفردة بعناية الناس بتعليقها حفظاً وشرحاً، فشاع لها بين الناس هذا الاسم الجديد (المعلقات) ونسوا به اسمها القديم (القصائد المشهورة) ثم مضوا على ذلك إلى أن جاء من العلماء من عني بفهم هذا الاسم الجديد لها، ومعرفة سر إطلاقه عليها، ففرض له تلك الفروض الخاطئة التي سنبين فيما بعد خطأها.

ولاشك أن اللغة تسوغ اشتقاق هذا الاسم (المعلقات) لتلك القصائد مما عني به الناس بعد جمعها من حفظها وشرحها، فإن الحفظ تعليق لما يحفظ بمحل حفظه، والشرح تعليق على ما يكون هو شرحاً له، ولا تزال الشروح التي توضع على المتون ونحوها تسمى شروحاً وتعليقات، وقد جاء في القاموس والأساس أنه يقال فلان علق علم أي يحبه ويتبعه، وعلق شر كذلك، فهذه المعلقات معلقات مما حدث للناس بعد جمعها من حبهم لها، وتتبعهم إياها بما كانوا يتتبعونها به من حفظها وشرحها، وهي معلقات بمعنى محفوظات أو مشروحات، وقد خصت بهذا الاسم لأنها كانت أول ما عني بجمعه وتدوينه وحفظه وشرحه من الشعر.

فهذا إن لم يكن هو الذي وقع في حدوث هذا الاسم (المعلقات) لتلك القصائد بعد جمعها، فهو فرض قريب يرتاح إليه العقل في بيان وجه تسميتها بذلك، وهذا شأن كل الفروض العلمية التي يراد منها تقريب فهم بعض المسائل العلمية من المعقول، إذ تستعصي عليها، ولا يمكنها بيقين معرفة سرها، وهو خير من تلك الأمور الخاطئة التي يذكرها من يذهب إلى أن تلك القصائد كانت تسمى قبل جمعها باسم المعلقات، ولا يذكرها على أنها فروض يهون الخاطئون فيها، بل على أنها أمور وقعت وكانت سبباً في تلك التسمية.

قالوا إن الشعراء في الجاهلية كانوا يقصدون أسواق العرب التي كانوا يقيمونها كل سنة بجوار مكة فيتناشدون الأشعار، وكان ينصب للشاعر فيها ربوة فيصعد إليها، وتحدق به العيون، وتشرئب إليه الأعناق، فينشد قريضه عليهم حتى يأتي على آخره، فلا يقاطعه أحد ولا يستوقفه، فإذا ما أحكم القول، وبلغ من الفصاحة ما وقع اتفاقهم على حسنه وإجادته كتبوه بحروف الذهب على نفيس الديباج وعلقوه على الكعبة المشرفة، تنويهاً بشأن صاحبه، وتخليداً لذكره.

وممن قال بهذا أو نحوه في سبب تسمية تلك القصائد بالمعلقات احمد بن عبد ربه القرطبي صاحب العقد الفريد، وابن خلدون، وابن رشيق. قال ابن عبد ربه: (وقد بلغ من كلف

ص: 49

العرب بالشعر وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بأستار الكعبة فمنه يقال مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع يقال لها المعلقات).

وقال ابن خلدون بعد كلام له في ذلك (حتى انتهوا إلى المباهاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع).

وقال ابن رشيق (وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر القديم، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء).

وكان أبو جعفر النحاس المتوفي سنة 338هـ يخالف صاحب العقد ومن تابعه على هذا المذهب في علة تلك التسمية، وكان أبو جعفر معاصراً لابن عبد ربه وهو من علماء المشرق، أما ابن عبد ربه فمن علماء الأندلس والمغرب، وقد ساح في بلاد الشرق وسمع من علمائه، ثم رجع إلى بلاده.

وقد قال أبو جعفر في هذا من شرحه على تلك المعلقات (واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال علقوا لنا هذه، وأثبتوها في خزانتي، وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة).

ولم يذكر أبو جعفر من هو هذا الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزانته، وقد رجح بعضهم أنه النعمان بن المنذر لأنه هو الذي كان يعنى من ملوك المناذرة بجمع أشعار العرب، وكان عنده ديوان مكتوب جمع فيه أشعار الفحول، وقد صار ذلك الديوان أو ما بقي منه إلى بني مروان على ما رواه أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء الجاهليين والإسلاميين.

ويستند أبو جعفر في رأيه هذا على ما قيل أن حماداً الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي المشهورات، ويؤخذ من ذلك كله أن تسميتها بالمعلقات عند أبي جعفر يرجع إلى قول الملك علقوا لنا هذه، لا إلى أنها علقت في الكعبة،

ص: 50

ولست أدري على أي شئ يستند أبو جعفر فيما ذكر عن حماد في جمع هذه القصائد، وهو كما قلنا ينقض تسميتها بالمعلقات قبل جمعه لها، سواء كان ذلك للوجه الذي ذكره أم كان للوجه الذي ذكره غيره.

ولاشك أن عصر النعمان بن المنذر أحدث من عصر كثير من أصحاب المعلقات، مثل امرئ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، فلا يصح أن يكون هو الذي كان يعلق قصائدهم بخزانته، بعد إنشادهم لها بسوق عكاظ، ويكادون يجمعون على إن تلك القصائد كان ينشدها أصحابها فيه، أحدث بكثير من عهد هؤلاء الذين ذكرناهم من أصحاب المعلقات، فقد أقيمت تلك السوق بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، وهو العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقيت إلى ما بعد الإسلام حتى سنة تسع وعشرين ومائة، وفي عهد إنشائها كان جيل امرئ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة قد انقرض، أو كاد ينقرض، وإنا نستطيع أن نجزم بأن هذه القصائد السبع لم تقل في سوق عكاظ، ولا في غيره من الأسواق العربية التي كانت معاصرة له، وقد ذكروا لها أسباباً معروفة قيلت من أجلها، وأمكنة غير سوق عكاظ أنشدت فيها، وذكروا لبعضها ملوكاً غير النعمان قيلت أمامه، ولسنا في حاجة لتفصيل هذا كله لشهرته.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 51

‌من شعر الشباب

السحاب

مُزْجِي الشتاءِ بخيله وبرجْلِهِ

والمنذرُ الدنيا بوشْك إيابِهِ

يَشْجُوك من ماشٍ على لَممِ الرُّبَى

طَرَّاقِ أَجْوازِ المدى جوَّابه

تسعى جنودُ البرد تحت جناحه

والريح والإعصار حول ركابه

حيث انتحى أَرخى مسائح دَجِنْه

وتجلَّلَ الآفاقَ جَوْن حجابه

ورمى على شمس الضحى بمسوحه

وطوى محياها دُجى جلبابه

ليس الربيع بمانعٍ رَجَعَاتِهِ

رغم الربيع ورغم وَفْرِ شبابه

فإذا دنا انقبض الفؤاد تطيُّرَا

بقدومه من بعد طول غيابه

وأثار في النفس القنوط وأشفقتْ

من ثِقْلِ خطوته ومن إِلبابه

فإذا سرى بردُ القِلال مخالطاً

أجزاَءه وانسلَّ في أعصابه

أوْهَى عُرَاهُ وفَتَّ في أوصاله

فانصبَّ ملَء السهل في تسكابه

فَجَرَتْ عيون الأرض بعد جفافها

وروى نبات الأرض من أكوابه

في كل غابٍ دَاغِنٍ أو غَيْضَةٍ

غَدِقَتْ غَوَاديهِ وأفرغ ما به

وبكل قاع مُمرعٍ ويفاعةٍ

توقيعُ وكَّافِ النَّدَى صبَّابه

وبكل منحدرٍ تدفُقَ مَشْرَعٍ

ينساب في إزباده وحبابه

لم يُلْفِ شيئاً ثم يشكو جَدْبَهُ

ظمآنَ إلاَّ لَجَّ في إخصابه

حتى إذا أفنى غزيرَ شؤونه

همْياً وأَنْفَدَ كلَّ ما بِوِطَابِه

وسخا على الوادي الينيعِ بروحه

وعلى ثناياه وبين شعابه

وَلَّى وغادر بعده أَسلابه

تزهو بقاع الأرض في أسلابه

تتمايد الأَعواد في أندائه

طرباً وتَغْدَقُ في نَقِيِّ رُضابه

فأعجبْ لأسودَ ذي يدٍ بيضاء لا

ينفكُّ يُسبغ من شهيِّ رغابه

جهم المحيا لا يُرام لقاؤه

والجودُ والبركاتُ ملءُ إهابه

عَبَسَتْ لغُدْوته الرياضُ فإن مضى

هشَّتْ لفيض يديه بَعد ذهابه

وترقرقت في كل روض قُضْبُهُ

مُخْضَلَّةً رَيَّاً بِبَرْدِ شرابه

ص: 52

وتألَّقت حُمْرُ الزُّهور وصفرها

حَلْياً ووَشْياً في اخضرار ثيابه

وسَرَى النسيم مُجَمِّعاً أين انتهى

من زهره الزاهي شَذِىً مَلابه

كمبردج

فخري أبو السعود

ص: 53

‌حيرة

إن روحي في الفضا حيرى تحوم

مثل طير ضل عن سرب الطيور

واشتهى الشمس فأخفتها الغيوم

واشتهى الريح فظنت بالمسير

فانثنى تهلو جناحيه الهموم

ودعا يشكو ويبكي في دعاه

إن روحي ترتقي هذا الفضاء

وهو ليل مظلم رطب فسيح

فيحيط القدس قلبي بالهناء

وأحس الشك في صدري يصيح

وظلام الجو للشك وعاء

وانفساح الأفْق للروح صلاه

هذه شتى انفعالات النفوس

كرياح البحر تأتي عاصفات

جافلات في عَرا قلبي تجوس

دون وعي منه بل دون التفات

أي وعي عند تهتان الكؤوس

للذي استعبدت الراح هواه؟

ما أرى جرماً ولا قبحاً بدا

لم يكن يغمر نفسي بعضه

أو جمالاً أو حناناً أو هدى

لم يكن يعمر نفسي فيضه

سكن العيش فؤادي والرّدى

وفؤادي بهما يقضي مناه!

عقد الكون بنفسي الاتصال

فكأن الكون مني قطعةٌ

وجرى الدهر عليه كخيال

هو مما في جفاني صورةٌ

ما احتياجي للمطايا والرحال!

إنني للدهر والكون نواه!

الظلام الوحش حولي لا يريد

عن محيا الحق إلقاء النقاب

فهو يغريني به كي أستزيد

ثم يمهيه أمامي كالسراب

ليتني ألقى غشاء من حديد

دامج الليل على عيني رماه!

لست أخشى الحق بل أخشى الوجود

وأخاف الزهر يبكي للنسيم

وأخاف البحر هدّار الوعيد

وأخاف الطير يشدو كاليتيم

وأخاف الغصن يذوي كالشهيد

وتلاشيه المنايا في صباه

إنني أخشى بنفسي الانفراد

ثم أخشى الناس أن تجمع بي

كم يصيح الدمع في ليل الفؤاد

كهزيم عاصف مضطرب!

إنما الحيرة في فهم المراد

مثل داء يجهل الطب دواه

أنا من شئ إلى شئ أفر

حول نفسي مثل مخمور أدور

ص: 54

عقرب وسط لهيب مستعر

لا يرى فيه سبيلاً للعبور!!

كُتب الهم على لوح القدر

يوم حار الفهم في الفهم في معنى الحياة

هتفت عيناي بي تشتكيان

قسوة الظلمة: خوفاً وعمى

وهما من كل نور تخشيان

ما يوارى: حَرَقاً أو عَدَما

الحياة النور والنور الأمان

والظلام الخوف والخوف الحياة!

انظرا هذا شعاع الحق لاح

كشهاب يرتقي عرش السماء

كلما جثناه عن قرب أشاح

فهو كالشمس التي تطوي الفضاء

يتبع الطفل خطاها في الصباح

علها تقرب. . . ما جدوى خطاه؟

يا شعاع الحق في ماذا الفرار

أترى لقياك تعمى بضرى؟

أنت للقلب ملاذ ومنار

فأَنِر قلبي وأطفئ نظري

إن يكن لابد من حمل الستار

لن تضئ العين للقلب عماه

باريس

حسن عارف

ص: 55

‌رسالة

رسالة كفتيت المسك عاطرةُ

بكل ما يشتهيه القلب من وطرِ

ما إن تناولتُها حتى أحاط بها

قلبي ولم يكُ يدري سرها نظري

ورفً في جنباتِ الصدر مبتهجاً

كالطير عادت إليه الأُمُ بالثمر

وبثَّها الدم في الأحشاء فانتعشت

كالزهرِ جاد رُباه هاطل المطر

مُنى الفؤاد الذي انضمت جوانحه

على لهيب من الآلام مستعر

أهفو إليك وما أندى على كبدي

من أن أناديك في الآصال والبُكَر

دعني أُذِعْ بعض ما تخفيه جانحتي

ففي الجوانح حب ثائر الشرر

وأصطفيك بشعر أنت مُلهِمهُ

عفّ عن اللغو والإسفاف والهذر

فمنك أنهل شعري ثم أبعثه

إليك عقداً بديع النظم والدُّرِر

أوْلا فإن حيائي منك يمنعني

من أن أبوح بحب عنك مستتر

فريد عين شوكه

ص: 56

‌زهرة

زهرة في الروض تزهو

في ثياب المترفين

جلست تستقبل الصب

ح على العرش المكين

أُهديت من كل زهر

عاطر أنفسُه

وحباها الله خدَّاً

ناعماً ملمسُه

فهي ريحان وور

د وهي ريا الياسمين

وهي من مسك وكل الزه

ر من ماء وطين

زينت زنداً جميلاً

بسوار الزَّرِد

تعسل الخدين منها

بمياه البَرَدِ

بَسَمت للشمس لما

سطعت فوق الخميله

وبدت في الروض تزهو

مثل حسناء جميله

فاسلمي يا زهرة الوا

دي من الأيدي العوادي

وانبذي الماء على الأرْ

ض إلى ماء الغوادي

محمد مصطفى حموده

ص: 57

‌بمناسبة ذكراه الثانية

حافظ بك إبراهيم الشاعر الوفي لمصر

بقلم السيد احمد العجان

حافظ شاعر النيل متعدد النواحي في الدراسات، متشعب المباحث في التناول، والتحليل الدقيق إنما يكشف كل ناحية ويبين كل مبحث، وليس الإلمام بعبقريته ونبوغه وشاعريته وخياله مما تأتي عليه هذه العجالة، ولكنا سنقتصر على ناحية واحدة هي وفاؤه للنيل وأهله، وكيف كان هذا الوفاء دفيناً في نفسه، مستقراً في جنانه العامر، يتحرك به لسانه في كل مناسبة، ويجري به قلمه كلما عنت فرصة.

والذي نلاحظه في شعر حافظ هو ما يحملنا على اليقين بصدق وفائه وإخلاصه، ومحبته لمصر وأهلها؛ فهو إذا انتقد كان لاذع النقد قويه، يظهر المثالب، ويعدد المساوئ، ويود لو نتخلص منها، ونحيد عنها. وقد يكون في النقد اللاذع المرّ شكاً في الوفاء والإخلاص لو أنه ضن بالنصيحة وبخل بالإرشاد. ولكن حافظاً حين يهزه الألم من حالة مصر حتى ليود الخلاص من الدنيا، والفرار من الحياة، وحين يسخط شديد السخط عليهم؛ لم يكن لكراهته لهم، وبغضه إياهم، وإنما لأنه يرجو لهم الخير الشامل الغامر، والرقي الدائم السديد، يحدثنا حافظ عن ذلك بأجلى عبارة وأوضح أسلوب.

أنا لولا أن لي من أمتي

خاذلاً؛ ما بت أشكو النوبا

أمة قد فتّ في ساعدها

بغضها الأهل، وحب الغربا

تعشق الألقاب في غير العلا

وتفدّي بالنفوس الرتبا

وهي والأحداث تستهدفها

تعشق اللهو وتهوى الطربا

لا تبالي لعب القوم بها

أم بها صرف الليالي لعبا

ومما يقوي لدينا الأدلة على وفاء حافظ للنيل، وحبه لهذا الشعب أنه لم يكن يقنع بالتحدث عن الغرض الواحد عدة مرات بهذا الأسلوب العالي الرصين، كالذي نراه في وصفه للحالة الداخلية وموقف بعضنا من بعض، وموقف الصحافة منا ومن الوزارة، ثم موقفنا من دار المندوب البريطاني، وبيانه أن طريق الرقي هي العلم، وأنه الوسيلة في النجاح والظفر، وهو من وراء ذلك يضع أمله قوياً في الشباب، ويكثر من ندائه لهم، ولا يزال يستنهض

ص: 58

الهمم ويضرب المثل باليابان كما سنوضح ذلك من شعره.

إن إخلاص المخلص لا يؤدي ثمرته إذا لم تتوفر فيه عناصر ثلاثة: نقد قوي اللهجة للمثالب حتى يحس المنتقد ضعفه، ويقف على عيوبه؛ فيجتنب الغرور ويقترب من الفضيلة، ونصح سديد الفكرة تظهر فيه سبل الخير ويبين منه طريق الهدى؛ كي يسلكه المنصوح له دون عثار أو ضلالة؛ وأمل في الله والشعب كبير رجاء التوفيق وابتغاء الإصلاح.

وهذه العناصر الثلاثة قد ظهرت بوضوح في شعر حافظ، وكان لكل منها مظاهره العدة، وأثوابه المتنوعة. وسنتناول كل منها على حدة:

1 -

نقده: في الشعر السابق وصف حافظ ما نحن عليه من

كراهة الأهل وحب الغرباء، وأننا كرماء لضيوفنا، نهوى

الألقاب في غير العلا، ونعشق الرتب. ويحدثنا عن حالتنا

النفسية بلغة سليمة مستقيمة فنحن:

ألفنا الخمول ويا ليتنا

ألفنا الخمول ولم نكذب

تضيع الحقيقة ما بيننا

ويَصْلى البريء مع المذنب

ويهضم فينا الإمام الحكيم

ويكرم فينا الجهول الغبي

ونراه يحدثنا عما هو واقع بيننا من الفخر بالمال الموروث أو بالرتب، ثم تأخذه حمية الغضب. فيقول إنما الفخر بالعلم والاختراع، وبالفضل والأدب:

وهل في مصر مفخرة

سوى الألقاب والرتب

وذي إرث يكاثرنا

بمال غير مكتسب

فقل للفاخرين أما

لهذا الفخر من سبب

أروني بينكم رجلاً

ركيناً واضع الحسب

أروني نصف مخترع

أروني ربع محتسب

أروني نادياً حفلاً

بأهل الفضل والأدب

وماذا في مدارسكم

من التعليم والكتب

ص: 59

وماذا في مساجدكم

من التبيان والخطب

وماذا في صحائفكم

سوى التمويه والكذب

ولقد عاب علينا اعتبارنا للمظاهر، وانخداعنا بالملابس:

إن قومي تروقهم جدة الثو

ب ولا يعشقون غير الرواء

قيمة المرء عندهم بين ثوب

باهر لونه وبين حذاء

وضعف الرجولة داء كمين في بعض المصريين كشف عنه حافظ، وأبان طوائف الناس بين مهلل من المهللين لا يعرف له غرضاً، وبين ساع إلى دار المندوب البريطاني، أو متردد على أبواب الحكام.

فهذا يلوذ بقصر الأمير

ويدعو إلى ظله الأرحب

وهذا يلوذ بقصر السفير

ويطنب في ورده الأعذب

وهذا يصيح مع الصائحين

على غير قصد ولا مأرب

وداء آخر أشد فتكاً، وأقوى بطشاً، وهو الصحف التي تطن طنين الذباب، وما هي إلا حصائد ألسن تجر إلى الويلات وأنها أيبست ما بيننا في الأخذ والرد، فصحف ترى رأي المندوب البريطاني، وأخرى تعد هذا جرماً وإثماً كبيراً، والوزارة من وراء ذلك في رغد ونعيم.

وصحف تطن طنين الذباب

وأخرى تشن على الأقرب

وماذا في صحائفكم

سوى التمويه والكذب

حصائد ألسن جرت

إلى الويلات والحرب

وأرى الصحائف أيبست

ما بيننا أخذاً وردَّا

هذا يرى رأي العميد=وذا يعد عليه عدَّا

وأرى الوزارة تجتني

من مر هذا العيش شهدا

ومصابنا الذي يفوق كل مصاب، وداؤنا الذي يعلو على كل داء، وهو تزلفنا لدار المندوب البريطاني وهو البعيد عنا لغة، وجنساً، وديناً، والأجنبي عنا مهبطاً وميلاداً، والذي لا نلتقي وإياه إلا في وادي بؤسنا ودار نعيمه، والذي لا تجمعنا وإياه آلام ولا آمال. وحافظ يبرئ المندوب من كل ذنب، ويخليه من الملام فسبيله أن يستبد، أما نحن فشأننا أن نستعد.

ص: 60

وقالوا دخيل عليه العفاء

ونعم الدخيل على مذهبي

رآنا نياماً ولما نفق

فشمر للسعي والمكسب

وماذا عليه إذا فاتنا

ونحن على العيش لم ندأب

أنا لا ألوم المستشار

إذا تعلل أو تصدى

فسبيله أن يستبد

وشأننا أن نستعدا

2 -

نصحه وإرشاده: ولكن حافظاً لم تفل من عزيمته هذه

العيوب، ولم تثن همته تلك المثالب، ولم تقعد به هذه المخازي

عن إسداء النصيحة وحث الهمم، وضرب اليابان مثلاً، وجعلها

قبلة.

فهبوا من مراقدكم

فإن الوقت من ذهب

فهذي أمة اليابان

جازت دارة الشهب

فهامت بالعلا شغفاً

وهمنا بابنة العنب

أيجمل من بعد هذا وذاك

بأن نستكين وأن نجمدا

وها أمة الصفر قد مهدت

لنا النهج فاستبقوا الموردا

ثم نراه لا يرسل النصيحة خلواً من كل سند، بل يشفعها بتلقين عظمة الآباء، والإيحاء بعزة الماضي، وجد التاريخ، ويرى أن الزمان قلب، والفلك دوار، وأنه لا علينا أن نهزم اليوم إذا كنا نتوثب للغد، وأن نبتلي في الحاضر كي نتأهب للمستقبل.

فدنياك يا نيل لا تجزعن

إذا اليوم ولى فراقب غدا

فلا ييؤسنك قول العداة

وإن كان قيلاً كحز المدى

أتودع فيك كنوز العلوم

ويمشي لك الغرب مسترفدا

ويقضي عليك قضاة الضلال

طوال الليالي بأن ترقدا

ونراه لا ينسى هذا التلقين والإيحاء والاعتداد بالماضي في كل مناسبة وفرصة كما في وداعه لصديقيه محمد بك بدر، واحمد بدر عند سفرهما إلى بلاد الإنجليز.

سيرا أيا بدري سماء العلا

واستقبلا التم ولا تأفلا

ص: 61

سيرا إلى مهد العلوم التي

كانت لنا ثم ازدهاها البلى

وخبرا الغرب وأبناءه

بأننا نحن الرجال الأولى

لئن غدا الدهر بنا مدبراً

لابد للمدبر أن يقبلا

ويختم حافظ نصيحته بالوسيلة الأولى للنجاح والظفر، والتغلب على الصعاب ألا وهي العلم، ويرى أن إنشاء الكتاتيب لا يغني عن العلم الصحيح، وأن ألف كتاب لا تعدل مدرسة عالية، أو جامعة منظمة تضم بين جنبيها رجالاً أكفاء يتعهدون الناس بالتعليم، والمداواة، والسهر على الأمن والأرواح، والقضاء فيهم، والإشراف على موارد المياه وتصريفها، ورصد الأفلاك والكواكب، والبحث عن بقايا القدماء، ومخلفات الآباء بالحفر والتنقيب.

ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد

ذر الرماد بعين الحاذق الأرب

فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا

أن المصابيح لا تغني عن الشهب

هبو الأجير أو الحراث قد بلغا

حد الكتابة في صحف وفي كتب

من المداوي إذا ما علة عرضت؟

من المدافع عن عرض وعن نشب؟

ومن يروض مياه النيل إن جمحت

وأنذرت مصر بالويلات والحرب؟

ومن يوكل بالقسطاس بينكم؟

حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب

ومن يميط ستار الجهل إن طمست

معالم القصد بين الشك والريب

فمالكم أيها الأقوام جامعة

ألا بجامعة موصولة الحسب

3 -

رجاؤه في تحقيق هذه الآمال: ثم إن حافظاً رحمه الله

- كان عامر الفؤاد بالرجاء في الإصلاح، قوي الإيمان

بالتوفيق، يود لو هيأ الله لمصر صلاحاً وللنيل سعادة. وقد

وضع أمله بين يدي الشباب ونابتة العصر، ولا غرو فالشباب

أقوى من يحمل الأمانة، ويؤدي الرسالة تحت إرشاد الشيوخ،

وموعظة الكهول.

يا مصر هل بعد هذا اليأس متسع

يجري الرجاء به في كل مضطرب

ص: 62

لا نحن موتى ولا الأحياء تشبهنا

كأننا فيك لم نشهد ولم نغب

نبكي على بلد سال النضار به

للوافدين وأهلوه على سغب

متى نراه وقد باتت خزائنه

كنزاً من العلم لا كنزاً من الذهب

ثم هو في ندائه للشباب يضع آلام الوطن بين يديه، يثير عواطفهم لحبه والإخلاص له، بأسلوب أخاذ بمجامع القلب والنفس جميعاً.

وهو رحمه الله حين يأمل الخير للنيل وواديه، ويرجو له أن تحقق آماله وأمانيه، وألا تحلو موارده إلا للمخلصين من بنيه؛ تهيج به الآلام، وتحرك كوامن غيظه ودفين حيرته.

متى أرى النيل لا تحلو موارده

لغير مرتهب لله مرتقب

فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت

جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب

كأنني عند ذكري ما ألم بها

قرم تردد بين الموت والهرب

هذا حافظ الشاعر الوفي لأهله ووطنه، والمخلص لشعبه وأمته، مر عامان على وفاته، دون أن يذكره شعبه أو يحيي ذكراه؛ لولا أدبه الخالد الذي يأبى الركود ويعشق الحياة.

قد أضاعوك غير أن الذي أظ

هرت من عبقرية لا يضيع

فرحمه الله وجزاه بإخلاصه، وعوضه عن نكران شعبه حياة أدبه.

السيد احمد العجان

ص: 63

‌من الأدب الهندي

محمد إقبال

للدكتور عبد الوهاب عزام

قدمت في الرسالة نبذاً من كتاب إقبال الذي سماه (أسرار خودى) فعرف القارئ رأي الشاعر فيما سماه (الذاتية) ورأى كيف ضرب مثلاً من الطائر الظمآن وقطعة الماس، ومن الفحم والماس.

وفي هذا المقال يرى القارئ كلمتين من الكتاب نفسه: الأولى قصة الشيخ والبرهمن، ونهر الكنج وجبل هماله، والثانية (الوقت سيف). وإذا رأى القارئ غموضاً في بعض الجمل فمرجع هذا أن كثيراً من المعاني والعبارات غير مألوف في العربية، وأن الشاعر الكبير يعرض آراء من فلسفته الخاصة، لم تذلل لها اللغة التي كتب بها. وهو يشكو في كلامه عن الوقت من أن الألفاظ تضيق بالمعاني التي يحسها.

وكان أهون عليّ أن أكتب في موضوعات أخرى هي أقرب إلى القراء، لولا أني أود أن أبين جهد الطاقة عن جوانب مجهولة من أدبنا الشرقي، ولاسيما فلسفة شاعر الإسلام الأكبر محمد إقبال.

ويرى القارئ أني أحاول بالسجع تدارك بعض ما فات من الوزن والقافية.

- 1 -

(قصة الشيخ، البرهمن، وحديث كنكا وهماله في بيان أن حياة الأمة تستمر بالمحافظة على سننها).

كان في بنارس برهمند من الكبراء، غواص في بحر الحياة والفناء. ملك زمام الحكمة، وشحذ في الطلب والهمة، متوقد الذهن، يتحرى الدقائق، ويحلق فوق الثريا في طلب الحقائق. أوغل في لوح الجو كالعنقاء، واضطربت الشمس والقمر في شعلة فكره الوضاء. مُني زماناً بالحرمان والحسرة، لم تصب كأسه قطرة من الحكمة، وألقى شبكته في رياض المعرفة، فلم تر طائر المعنى عين الشبكة، وأدمى مخالب الفكر المجهود، ولم يحل عقدة الوجود، نطقت بعجزه آهاته، وصورت حيرة قلبه قسماته.

ص: 64

ذهب يوماً إلى شيخ عظيم، ذي قلب سليم، فأصغى الشيخ لحديثه حتى عرف مكنون صدره، ثم قال: أيها الطائف في الأفلاك! اتخذ في الأرض مثواك. اغتربت عن المرج والصحراء فجاز فكرك آفاق السماء. يا طاوي السماء اسكن إلى الأرض قليلاً، ودع حقائق النجوم حيناً. لا أقول لك اهجر أصنامك، أنت كافر فكن جديراً بزنارك، يا أميناً على التهذيب القديم، لا تحقر دين آبائك الأولين. فإن في الألفة حياة الأمة، والكفر كذلك من أسباب الألفة. أنت ناقص حتى في الكفر، فلست أهلاً للطواف في حرم القلب. لقد بعدنا عن جادة التسليم، بعدت عن آذر وبعدت عن إبراهيم. قيسنا ليس هائماً بالمحمل، وهو في جنون العشق لم يكمل، ما جدوى الخيال الذي يطوي السماء، إن كان شمع الذاتية إلى انطفاء.

قال نهر الكنج يوماً لجبل همالة وهو يجري في سفحه: أيها المتوج بالبرد من فجر الخليقة، والمتخذ زناراً من الأنهار الجارية. جعلك الله نجيّ السماء، ولكن حرمك التبختر في العراء، ما غناء هذا الوقار والرسوخ والرفعة، وقد سلبت رجلك الحياة والحركة؟ الحياة سعي دائم كالموج، وجوده من الاضطراب المتصل.

فلما سمع الجبل تعيير النهر، أرسل أنفاسه بحراً من نار وقال: يا من اتخذت صفحته مرآتي، وأكننت مئات من مثله في صدري إن هذا التبختر زينة الفناء، من ذهب عن نفسه فقد حرم البقاء، قد غفلت عن مقامك، وفخرت بهلاكك، ياوليد الفلك الرفيع، خير منك الساحل الوضيع، جعلت نفسك قربان المحيط، ونثرت جوهر روحك لقاطع الطريق، كن ورداً في بستانك، خلت القرون وأنا في طينتي ثابت القدم، وتحسبني إلى الغاية لم أتقدم، كلا قد عظمت حتى بلغت السماء، واستراحت على سفحي الجوزاء، وقد ضل وجودك في البحر الخضم، وصارت ذروتي مسجد الأنجم، عيني بأسرار الفلك بصيرة، وأذني بطيرانه خبيرة، احترقت بنار السعي الدائم، فجمعت في صدري الجواهر (في صدري حجارة وفي الحجارة نار، ليس للماء سبيل إلى هذه النار) إن كنت قطرة فلا ترق نفسك بيدك، وجاهد اللجة وحارب اليم لحياتك، كن جوهراً لألاء، يزيد جيد الحسناء ضياء، أو اسمُ بنفسك وأسرع التسيار، وكن سحاباً يرمي البروق ومطر البحار، ليستجدي البحر إحسانك، ويشكو ضيقه بإنعامك، ويرى نفسه أقل من موجة لديك، ويطرح نفسه أمام قدميك.

ص: 65

- 2 -

أتبع الشاعر الفصل السابق بفصل عنوانه (نصيحة أمير نجاة النقشبندي المعروف ببابا الصحراوي، التي كتبها لمسلمي الهند).

وهو فصل ممتع بلغ فيه الكاتب من سمو الشعر، وعظمة النفس مبلغه. ثم أتبعه بكلمة عنوانها (الوقت سيف) وهذه ترجمتها: -

سقى الله ثرى الشافعي، كما استقى الناس من فيضه، لقد اقتطف فكره كوكباً من السماء، حين سما الوقت سيفاً ذا مضاء، ماذا أقول في سر هذا السيف الذي يفيض بالحياة ماؤه؟ إن صاحبه فوق الخوف والرجاء، ويده أنصع من يد الكليم البيضاء، يلين الحجر لضربته، وييبس البحر لهيبته، كان هذا السيف في يد موسى فعلا أمره على التدبير، شق صدر البحر القلزم، فانقلب براً ذلك العيلم، وكان في كف حيدر فاتح خيبر، ذلك السيف العظيم الأثر.

إن البصير يرى دوران السماء، ويدرك تقلب الليل والنهار في الفضاء، أنظر يا أسير الأمس والغد، تر في قلبك عالماً لا يحد، زرعت بذور الظلام في طينتك، وتوهمت الوقت خطاً بجهلك، ثم قست طول الزمان بمعيار الليل والنهار، واتخذت هذا الخيط زناراً، فملت إلى الأصنام واتخذت الباطل متجراً، كنت كيمياء فانقلبت قبضة طين، وولدت الحق ثم صرت الباطل المهين.

إن تكن مسلماً فتحرر من هذا الزنار، وكن شمعاً في محافل الأحرار. لقد جهلت أصل الزمان فجهلت الحياة الخالدة، يا أسيراً في الليل والنهار مثواه، تعرف رمز الوقت من (لي مع الله) كل شئ من سير الوقت ظاهر، والحياة سر من أسرار الوقت الباهر، ليس الوقت من دوران الشمس العلية، هو أبديّ وهي ليست أبدية، الوقت هو السرور والغم، والعيد والمأتم، وهو سر الضياء، في القمر وذُكاء، قد بسطت الوقت كالمكان، ثم فرقت بين الأمس والغد في الحسبان، يا من جفلت كالشذى من بستانك، وبنيت سجنك بيدك! إن وقتنا الذي لا أول له ولا آخر، ينبت من بستان الضمير الناضر، الحياة من الدهر والدهر من الحياة، وقد قال الرسول لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله.

استمع نكتة تضيء كالدر، لتعرف فرق ما بين العبد والحر: العبد ضال في الليل والنهار،

ص: 66

والزمان في قلب الحر ضال. العبد ينسج من الأيام كفنه، ويخيط الليل والنهار على نفسه، والحر يخلع نفسه من الطين، ثم ينسج على الزمان عزمه المتين. العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه لذة السبح في الهواء، وصدر الحر الهمام، قفس لطائر الأيام، فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل، مقامه من الخمود واحد، وصوته بالليل والنهار راكد. والحر كل حين خلاق، يسكب وتره نغمة مجددة في الآفاق، فطرته لا تحتمل التكرار، وليس طريقه حلقة البركار، العبد في سلاسل من أيامه، والقضاء والقدر وِرد لسانه. وهمة الحر مشيرة على القضاء، تصور يده الحادثات كما تشاء، الماضي والآتي ماثلان لديه، والآجل عاجل بين يديه.

هذا كلام برئ من الصوت والصدى، يأبى على الإدراك أبداً. أقول ولفظي من المعنى يخجل، ومعناي من ذلك اللفظ أجلّ، يموت المعنى الحي في هذه الحروف الجامدة، وتخمد ناره بأنفاسك الباردة. إن في القلب نكتة الغيبة والحضور، وإن في القلب رمز الأيام والمرور، مِزهر الوقت ذو نغمة صامتة، فغص في قلبك لتدرك أسراره الخافتة.

نضّر الله عهداً كان سيف الزمان، حليف أيدينا على الحدثان، فبذرنا الدين في أرض القلوب، ورفعنا الحجاب عن وجه الحق المحجوب، وحلت عقدة الدنيا أناملنا، ونضر وجه الأرض سجودنا، وشربنا الصهباء من دنّ الحق، ثم سرنا بنشوة الحق بين الخلق، يا من أترعت كأسه الخمر المعتقة، وأذابت كأسه الصهباء المحرقة، وملأه الكبر والغرور والأثرة، فعيّرنا بالفقر والمتربة. لقد كانت كأسنا كذلك، زينة المحافل، يوم كنا وصدرنا بالقلب آهل، وثار من غبار أقدامنا عصر جديد، ينجلي بكل أمل بعيد ورويت مزرعة الحق بدمائنا، وسعد عُبّاد الحق ببلائنا، ودوّي العالم بتكبيرنا، وعمرت كعباتٌ من ترابنا. وأنزل الحق كلمة (اقرأ) فينا، ثم قسم رزقه بأيدينا. فإن يكن ذهب منا الخاتم والتاج، فلا تحقر ذلك الفقير المحتاج. إن نكن بزعمك مفسدين، وبالأفكار العتيقة مغرمين. فنحن لا نزال الأحرار أنصار التوحيد، قوامين على العالمين والله شهيد.

فرغنا من غم اليوم والغد، وحالفنا الله الأحد، فنحن في قلب الحق سر مكنون، ونحن ورثة محمد وموسى وهارون، لا يزال نورنا في الشمس والقمر مصوناً، ولا يزال سحابنا بالبرق مشحوناً.

ص: 67

إن ذات المسلم مرآة الحق، وإن وجود المسلم من آيات الحق.

عبد الوهاب عزام

ص: 68

‌العلوم

أصل الأرض وماهية تكوينها

بقلم نعيم علي راغب

اختلفت الآراء وتضاربت، ثم كثر الحدس والتخمين في أصل الأرض من قديم الزمان، واستمر الحال كذلك إلى أن جاء القرن التاسع عشر يحمل معه مخترعات جليلة الشأن، عظيمة الفائدة، نخص منها بالذكر المنظار المقرب أو التلسكوب، ثم آلات تحليل الطيف الضوئي، فأمكن تكوين رأي لا يزال حتى الآن غير محكم عن أصل تكوين الأرض.

وخلاصة المأخوذ به حتى الآن هو أن الأرض التي نعيش عليها جزء من المجموعة الشمسية التي تترب من عدة أجرام سماوية تتوسطها الشمس، وهي ثمانية كواكب سيارة مرتبة حسب قربها من الشمس:(عطارد. الزهرة. الأرض. المريخ. المشتري. زحل. أورانوس. نبتون). كذلك من 635 كوكباً صغيراً سياراً بين المريخ والمشتري، وكذلك التوابع وهي أجرام سماوية صغيرة تدور حول الكواكب السيارة (كالقمر بالنسبة للأرض)؛ هذا غير عدد لا يحصى من أجرام سماوية صغيرة اسمها الشهب تدور على غير هدى.

ونحن إذا رجعنا الآن إلى تكوين الأرض من هذه المجموعة، وجدنا أن الآراء متفقة على إنها كانت قبل انفصالها عبارة عن كتلة واحدة متماسكة، ثم انفصلت إلى أجزاء صغيرة كانت الأرض أحدها. وإليك بيان ذلك:

كانت المجموعة الشمسية في البداية سديماً، (وهو جسم يرى بالعين المجردة كأنه سحابة بيضاء، ولكنه في الحقيقة جسم غازي شديد الحرارة جداً، له مركز أشد صلابة ولمعاناً من باقي جسمه، وهو بيضاوي الشكل)، انخفضت درجة حرارته بعامل من العوامل فانفصلت أطرافه على شكل حلقات دائرية، واستمرت بعد عملية الانفصال تدور حوله في نفس الاتجاه الذي كان يدور فيه، فتكونت من هذه الحلقات الكواكب السيارة، وكان أولها في التكوين أبعدها عن الشمس، وهو نبتون الواقع على طرف المجموعة الشمسية؛ وكان آخرها أقربها إليها وهو عطارد. وتعرف هذه النظرية بالنظرية السديمية وهي النظرية التي قال بها العالم الفرنسي الشهير في أواخر القرن الثامن عشر.

حار العلماء في تفسير منشأ حرارة السديم ولم يتمكنوا من إيجاد تحليل معقول يستسيغه

ص: 69

العقل فسكتوا على مضض حتى تقدم سير نورمان لوكيار بنظرية الشهب وخلاصتها أن النيازك العديدة التي تسبح في الفضاء إذا ما تقاربت نشأ عن اتحادها واحتكاكها درجة حرارة تبدأ قليلة المقدار لكنها تزداد كلما ازداد مقدار تقاربها من بعضها بفعل الجاذبية نحو المركز، وهكذا إلى أن تصل إلى حد تتحول معه النيازك إلى مادة غازية ثم يأتي وقت بعد ذلك تزيد في الحرارة المتشععة من الشهب عن الحرارة الناشئة من الاحتكاك فتتكاثف هذه الغازات ثانية. وتأخذ درجة حرارة السديم في الانخفاض تبعاً لذلك. وتكون أبعد الأماكن عن المركز أولاها في هذه العملية. ومن هنا نعلم أن أبعد السيارات عن مركز المجموعة أقدمها في التكوين كما سبق ذكره.

استمرت النظرية السديمية مأخوذاً بها طول القرن التاسع عشر غير أنه كان فيها بعض نقط غامضة احتاجت إلى إيضاح كثير: من ذلك مثلاً إن هذه النيازك التي قيل إنها تكون السديم صغيرة الحجم إلى حد كبير تسير في الفضاء على غير هدى وبسرعة عظيمة. ومن الصعوبة أن نتصور القوة الجبارة التي سببت اتحادها بعضها ببعض. وبغير هذه القوة لا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير النظرية السديمية. ومن الاعتراضات الأخرى التي قامت في وجه هذه النظرية حقيقة جغرافية ثابتة، وهي إن توابع كل من أورانوس ونبتون تدور حولهما من الشرق إلى الغرب على عكس باقي أجزاء المجموعة الشمسية.

وقد تقدم في القرن العشرين بعض علماء الإنجليز والأمريكان بنظرية عن أصل تكوين الأرض تعرف بنظرية المد خلاصتها أن تكون الكواكب السيارة وقيرها من المجموعة الشمسية قد نشأ عن اقتراب نجم كبير من سديم الشمس في أوقات مختلفة. فنشأ عن اقترابه أن جذب إليه جزءاً من كتلة السديم انفصل منه بقوة هذه الجاذبية.

ولا تختلف النظرية الأخيرة وهي نظرية المد عن النظرية السديمية في شئ إلا في تعليل انفصال الحلقات المكونة للمجموعة الشمسية عن جسم السديم الاصلي.

وهناك اختلاف بيّن بين قولنا هذا وبين من يقول إن الأرض أصلها جزء من الشمس لأن القول الأخير غير صحيح إذ أن الأرض والشمس جزءان من سديم واحد أو كتلة واحدة وليست جزءاً من كل بالنسبة للثانية.

باطن الأرض:

ص: 70

كانت الأرض كما قلنا جزءاً من السديم الشمسي وكانت حرارتها في البداية شديدة جداً ثم انخفضت وأخذت في القلة تدريجاً بفعل الإشعاع فبردت قشرتها الظاهرية شيئاً فشيئاً حتى وصلت لحالة الصلابة، ثم تجعدت هذه القشرة تبعاً لبرودة الأجزاء الباطنية وأخذت في التقلص فتكونت فيها منخفضات ملأتها الأبخرة المتكاثفة (الماء) وأخذت معالم الحياة تظهر شيئاً فشيئاً وكان آخر هذه المعالم هو الإنسان. إلا أن باطن الأرض ظل مرتفع الحرارة. تدل على ذلك ظواهر طبيعية عديدة:

1 -

تزيد درجة الحرارة بمعدل درجة واحدة فهرنهيت لكل عمق مقداره 56 قدماً.

2 -

سخونة المياه التي تخرج من الينابيع الساخنة. وقد وجد أن درجة حرارة الماء الخارج من نافورات أيسلندة 261 ف.

3 -

خروج المواد المنصهرة من البراكين.

ولقد أثارت الظاهرة الأولى اهتمام العلماء وكانت سبباً في

اختلافات كثيرة وقعت بينهم في القرن التاسع عشر، لأنه إذا

كانت زيادة درجة واحدة فهرنهيت لكل 56 قدماً بعد الخمسين

قدماً الأولى صحيحاً واستمرت هذه الزيادة باطراد لوجب أن

تكون حرارة الباطن 1500 درجة حرارة مئوية على عمق

28 ميلاً أو على عمق 1141 من نصف قطر الأرض. وهذه

الدرجة تذوب عندها أشد العناصر صلابة. فوجب على هذه

الحال أن يكون سمك القشرة الأرضية الصغرى غايته 28

ميلاً وفيما يلي ذلك يكون الباطن منصهراً.

غير أنه ثبت في القرن الحالي أن باطن الأرض صلب، وأن الأرض تتكون من طبقتين متميزتين عن بعضهما:

ص: 71

الأولى: طبقة سطحية تتكون من صخور قليلة الكثافة يطلق عليها اسم

الثانية: طبقة معدنية عظيمة الكثافة تسمى

وأن الطبقة السطحية تحتوي بالقرب من الظاهرات على جيوب مملوءة بالمواد المنصهرة، وهي ما تعرف بالحمم ومنها تفيض البراكين عند ثورانها. وهناك أدلة تثبت أن باطن الأرض أصلب منها:

(1)

كلما تعمقنا في باطن الأرض زاد الضغط بنسبة العمق الذي نصل إليه، ومعنى ذلك أن الطبقات على عمق 100 متر مثلاً تقع تحت ضغط يساوي عمود الهواء وثقل الطبقات التي تعلوها. ولذا فإن المواد التي توجد على هذا العمق تحتاج إلى درجة حرارة اكثر بكثير من الدرجة التي تنصهر عندها نفس المواد إذا ما وجدت على سطح الأرض.

(2)

لما كانت كثافة الأرض 6ر5 وكثافة السطح الخارجي 5ر2 وجب أن تكون كثافة الباطن أعلى من ذلك بكثير حتى يكون الناتج 6ر5.

(3)

تزيد سرعة الموجة الزلزالية عند مرورها في باطن الأرض عنها على السطح، فقد لوحظ أنه بينما تسير الموجة بسرعة 86ر1 ميلاً في الثانية على السطح، فإنها تسير بسرعة 05ر5 أميال في الثانية في باطن الأرض.

(4)

لو كان باطن الأرض سائلاً لوجب أن يتأثر بالمد والجزر، فيظهر ارتفاع في القشرة الأرضية من جهة المد، وانخفاض في الجهة الأخرى.

(5)

قد ثبت أن النشاط الراديومي محصور في دائرة ضيقة غاية قطرها 45 ميلاً من السطح الخارجي. ولو كانت الصخور التي دون هذا العمق، تحتوي على راديوم لازدادت كمية النشاط الراديومي. ولما كانت المواد الحديدية التركيب من المواد القليلة الخالية من هذا النشاط. يثبت لنا من ذلك أن باطن الأرض يتكون من مادة حديدية عظيمة الكثافة، وهذا يتفق مع النظرية الشهبية التي قال بها السير نورمان لوكيار. كما يتفق مع الحقيقة الثابتة في النقطة الثالثة.

انتهينا الآن من ماهية باطن الأرض، وسنبحث في مقال آخر في ظواهر حرارة باطن الأرض، فنتكلم عن البراكين وظواهرها وأسبابها. ثم نبين التضارب الحادث في تعريفها جغرافياً، والتغليط العلمي في شرح ظواهرها وأسبابها.

ص: 72

نعيم علي راغب

دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا

ص: 73

‌القصص

من التاريخ

ذكرى زينب

بقلم مهدي الجم الطرابلسي

أقبلت عليه متهادية، تحمل أذيالها الجواري السود، وجلست قربه وقالت بصوتها العذب: عمْ صباحاً أيها الأمير. فقال: عمي صباحاً أيتها الأميرة. قالت: ما لي أراك طويل التأمل، عميق التفكير، مؤرق الليل، محزون النهار؟ قال: آه يا زينب! كيف لا يأرق العربي ويموت أرقاً، ويحزن وذوب حزناً، إذا استُلب الكرامة، وفقد الحرية؟؟

حنانيك يا زينب! إني أكاد أموت هماً وكمدا! إني أريد أن استقل استقلالاً تاماً! إني أريد أن أملك زمام المشرق والمغرب!

إلى متى أنا خاضع للروم؟ إني أخاف هؤلاء اللئام يا زينب، وأرهب غدرهم، فهم لا يرعون ذمة، ولا يوفون عهداً، ولا يصدقون قولاً. إني أشفق أن يمر بنا حين نذل فيه، ونساق للهوان والصغار سوق الإبل!

إن الحرية يا زينب لا تنال بمعاهدة ولا مفاوضة، بل تنال بالدم، والدم وحده. ونحن لا جيش لنا ولا عدة، فمن اين نأتي بالدم؟ أبالشجاعة وحدها؟

أفديك يا زينب! اهدني بنور وجهك المشرق، وحبك إياي، وإخلاصك لي سبل الحرية!

فقالت حييت أيها الأمير! هيئ جيشك، وحالف سابور ذا الأكتاف ملك الفرس، ولأسِر معك نحارب الروم ولا نرجع إلا ظافرين أو مقتولين. فلَلموت في سبيل الحرية خير ما يتصف به العربي!!

عاد أمير تدمر بعد أيام وقال لزينب: لقد سار ملك الروم بجيش جرار على سابور ملك الفرس، وخفت أن يظفر به، فصالحته من بعد ما اتفقت مع سابور عليه. إلا أن الفرس هزموا جمع الروم، وأسروا مليكهم، فأشفقت كثيراً أن يسير سابور إلينا يطلب الوِتر، وما أحسبه إلا قاضياً علينا القضاء الأخير!

ولقد أرسلت إليه رسول الاعتذار، وكتاب الوفاء، وإعلان السلام، وهدية المحبة

ص: 74

والإخلاص، فعتا اللئيم عتواً كبيراً، فأهان الرسول، ومزق الكتاب، ورفض السلام، ورمى بالهدية، وتهددني أمام الوفد الذي أرسلته إليه، ثم طرده من مجلسه، وأخشى أن يحقق وعيده! فهبت زينب تقول: الساعة يلتئم المجلس الحربي، والساعة يعلن الحرب على العِلج، والعداء على لئيم العجم. . .

وفي تلك الساعة التأم المجلس الحربي التدمري، وبدا من القادة أنهم يترددون في إعلان الحرب، لأنهم يعلمون أن سابور ملك عظيم، تتصدع له الجبال خشية. وإنهم لفي ترددهم إذا زينب تبدو على المنبر متلثمة، ثم تخطب خطاباً بليغاً، تحرك به العواطف، وتلهب القلوب، وتهيج النفوس، وتهتف قائلة: العربي لا يرضى بالذل والهوان، وإنما يرضى بهما الفرس والرومان، فهو للعز يموت، وهما للذل يحيان.

وبعد أيام تكون الجيوش العربية في طريقها إلى الفرس، يتقدمها أمير تدمر (أذينة) وأميرة تدمر (زينب) الزبّاء.

تلاقى الجمعان، وكانت جولتان، ثم انهزم الفرس، وسبى أذينة من قصور سابور الحور والولدان، وأسر الأحرار والعبدان.

وأتي بسابور ترهقه ذلة، ووجهه قترة، فاعتذر واسترحم، وذل واستكان، ودفع الجزية عن يدٍ صاغراً، وأضحت تدمر جنة البادية بما نقل إليها من بلاد فارس.

امتلأت نفس أذينة بنشوة الانتصار، فعلم أن بعض الروم عصوا ملكهم وثاروا عليه، فسار إليهم ورد عصيانهم إياه طاعة، وثورتهم عليه استكانة، وعاد مع زينب إلى قاعدته بين هتاف ودعاء، وما انقضت أيام حتى أتى وفد ملك الروم (جاليانوس) يرأسه الأمير (سولفا)، ومثل بين يدي الملك العربي والملكة وشكرهما باسم الملك والإمبراطورية الرومانية، وقدم إليهما ولاءها وصداقتها. انفتحت أمام أذينة مدارج الآمال، وأمِل السيادة التامة، والحكم المطلق، فكتب إلى جاليان يسأله إياهما وأشياء أخرى تضر بملكه، فحنق ملك الروم وغضب وأرسل قائده (أورل) بجيش ليحرق تدمر ويخربها، ويزيل هذه العقبة الكأداء من طريق مطامعه في الشرق. فانتهز الفرصة سابور فزحف بجيشه إلى حاضرة البادية يريد الانتقام، وكان في حمص ابن أخٍ لأذينة يلقب بالمعنيّ، وكان يحسد عمه، ويريد سريره، فلما رأى تألب الأمتين عليه قال حان حينه. اقتله وألبس تاجه، وأرث عرشه.

ص: 75

فأما سابور فهزمته زينب بشجاعتها وبسالتها. وأما الروم فلم يبدأوا الحرب بعد. وأما المعني فاستأذن أذينة، ودخل عليه بوفد من أتباعه وأنصاره، فلما اشتد الهجير، وهدأ القصر، اغتاله وأعلن نفسه ملكاً على تدمر.

هاجت زينب هياجاً شديداً، وهتفت بقوادها المخلصين إلى الانتقام، وأهابت بشعبها إلى الثورة، وسارت بالجيوش إلى حمص، ثم حاربت المعني حروباً كثيرة، وصاولته بنفسها، وأخيراً أسرته، وحكمت عليه وعلى من ساعده ولاذ به بالصلب والفصد، وقالت هذا أقل ما يعاقب به خائن الوطن، وهكذا استأثرت بسرير تدمر وحدها، وما أجدر زينب بسرير تدمر، وما أليق زينب لأعظم من مثله.

كانت ميّ جميلة رائعة الجمال، حسناء بارعة الحسن، وكانت مي وفية كريمة شجاعة صبوراً، وكيف لا تكون كذلك وهي الابنة البكر لزينب ملكة العرب؟

وكان سولفا رئيس الوفد أميراً جميلاً فتاناً كريماً، اعتلقته مي اعتلاقاً شديداً، وشغفت به كثيراً، ولم يكن ما يضمر لها من الحب بأقل ما تضمر له، ولطالما اجتمعا وتشاكيا الهوى والجوى. إلا أن سولفا فارقها إلى روما ليفي عهد الرسالة، ومي تعذبت لفراقه كثيراً؛ وحنت إليه حنيناً، وبكت حتى كادت تتلف. وعلمت أمها بأمرها فعذرتها في نفسها، لأنها تعرف الحب ودلائله وأفعاله، وجنونه وفنونه. إلا أن الذي آلمها أن الروم أعداؤها وسيحاربونها، وما سولفا إلا رجل من رجالهم، بل قائد من قوادهم، فإذا خان وطنه في سبيل حبه استصغرته ولم ترض أن تصهر إليه، وإن لم يخن فابنتها مائتة غراماً ما في ذلك شك.

ولقد أقبلت عليها ذات يوم فقالت لها: أي مي! أي ابنتي العزيزة! لقد وكلت إليك ملك تدمر إلى حين، لما أعهد من حزمك ودرايتك، وأما أنا فذاهبة لأحارب الروم وأموت، أو أملك ما بين المشرق والمغرب. فتوكلت مي راضية مسرورة. إلا أنها بكت لفراق أمها كثيراً، وتجلدت لفراق سولفا وتصبرت فما ازدادت إلا حزناً ولوعة.

انقضى شهر، ثم أتى البشير يعلن انتصار مليكته على الروم، وإنها أسرت كثيراً من قادة الجيش وضباطه، فأمرت مي بسوق الأسرى إلى تدمر، وفي تدمر أطلّت عليهم من الطاق، فرأت بينهم الأمير سولفا، ففرحت كثيراً واندفعت إليهم، وحيتهم، ودعتهم إلى قصرها،

ص: 76

وأكرمتهم كثيراً، لأن سولفا بينهم، لا لأنهم قادة، ولا لأنهم من الروم. وهؤلاء أعجبوا بها وبحنكتها وأخلاقها كثيراً، وأول من أعجب بها سولفا. وبعد حينٍ أقبلت زينب فارسة كمياً، فزغردت النساء، وهزجت الأطفال، وغردت طيور الأماني. وما انتهت إلى قصرها حتى سرّحت الأسرى، فأعظم الناس كرم خلقها، وهتف العرب والروم وكثير من الفرس: مرحى زينب الزباء! مرحى ملكة العرب!

لم تقنع زينب باستقلالها التام، بل أرسلت جيشاً فغزا ساحل البحر الأبيض الآسيوي كله، وأعدت جيشاً آخر لغزو النيل، وفتح مصر، فجعلت تدمر ملكية عظيمة يخشى بأسها القياصرة والأكاسرة. وملك الفرس الجديد (بهزاد) عقد معها معاهدة ليجعل منها ملاذاً وحمىً، وخطب مياً من زينب، فأقبلت هذه على ابنتها، وقالت بشراك يخطبك بهزاد ملك الفرس، فاعترفت لها مي بحبها سولفا وغرامها به. ولكن زينب تريد أن تزوجها ببهزاد لتأمن شره، فقد يكون له شر. فدعت سولفا إليها وقالت. أهكذا أيها الأمير تسيء إلى من أحسن إليك؟ قال ما كان لي ذلك أيتها المليكة المعظمة! قالت نمي إليّ أنك جاسوس لقائدك (أورل). قال اسمحي لي أيتها المليكة أن أقول لك، إن مثلي أرفع من أن يكون جاسوساً. إني لا أخفي أني صديق (أورل)، وصديق ملكي، وصديق الروم كلهم، كما أني أعترف أني صديق مخلص إليك، وإلى ابنتك. فوجمت زينب وقالت أيها الأمير! لقد وجدتك قائداً شجاعاً، ووطنياً مخلصاً، وصديقاً لي أميناً. وسأجعلك القائد الثاني للجيش الذي سأسيّره إلى مصر، فحارب وعد إليّ ظافراً منتصراً. فقال سأكون إياه، وكان إياه.

إلا أن مياً خافت أن يُقتل في هذه الحرب. وعلمت أن أمها لم ترسله إلا لتنجو منه.

وبعد شهور أقبل فارس يقول. إن الجيش العربي قد انتصر، وعاد إلى المعسكر غانماً، غير أن أمراً أحزن الجيش كله، هو أن الأمير سولفا الذي ناضل كثيراً، وكان سبب النصر والفوز الأكبر، اختفى بغتة.

ما وصل الخبر إلى مي حتى صاحت قائلة: آه إنها حيلة مدبرة! إن سولفا قد قتل. ثم انزوت في حجرتها، وأنشأت تبكي وتنتحب. ولبثت على حالها أياماً، لا تأكل ولا تتكلم، حتى وهنت ووقعت في سرير المرض. فعالجها الطبيب فشفيت، إلا أن وجهها الناضر الزاهي أضحى شاحباً حائلاً، لا رونق فيه ولا حياة.

ص: 77

أقبل رسول بعد ذلك يقول إن الأمير سولفا حي، وهو يحارب المصريين بعيداً عن المعسكر. فطار لب مي فرحاً، وكادت تهوي على يدي الرسول تلثمهما شكراً، لكنها خلعت عليه خلعة، ووصلته بالمال والحلي.

عاد القائد العربي (زبدا) بعد أيام يرافقه الأمير سولفا فاستأذنا على زينب، ومثلا بين يديها فقال (زبدا) أيتها الملكة المعظمة، إن الأمير سولفا بطل يجب أن يفتخر بمثله، فهو هو الذي هزم المصريين، وجعل العلم العربي يخفق على ربوع النيل.

ما زال الروم يسألون زينب أن تعترف بسلطانهم عليها، وأن تدفع لهم جزية الانتداب، وما زالت زينب على شممها وإبائها، لا تعترف لهم بشيء. وأرسل إليها أورل ذات مرة يقول، تعترفين بسلطاننا عليك، وتدفعين الجزية، أو أحاربك وأخلعك، وأصلبك، وأسبي ابنتك، وأتوّج على سريرك زيد بن المعنيّ. فثارت زينب ثورتها، وغضبت غضبتها، وجمعت المجلس. وقالت إلى الحرب أيها الأبطال، إلى الانتقام أيها الرجال! إن تدمر العربية لا تستكين أبداً لتطاول الروم أو البربر. . .

وهكذا اضطرمت الحرب، ورحل الروم المقيمون في تدمر إلى وطنهم، بينهم الأمير سولفا. ولاقت زينب جيش الروم ورأت أن زيد بن المعني تحت لوائهم، فقالت الويل له من عاقبة كعاقبة أبيه، وحاربت وناضلت كثيراً، وشجعت القادة، وتقدمتهم إلى الموت.

غلب الروم، وانهزم جمعهم، فتبعتهم زينب تريد التنكيل بهم والقضاء عليهم، فما أحست إلا وفرسان جيشها في مستنقعات (العُوَيق) يغالبون الموت والموت يغالبهم، وما أحست إلا والروم قد طوق المشاة من جيشها، وأعمل فيهم السيوف، فجزعت كثيراً، وخطبت في سائر جنودها الخطب الحماسية، فما أفادت، وما زالت عددها تنفد، وعددها يقل حتى أوشكت على الهلاك فاستنجدت ملك الفرس قال مي ابنتك وأعنيك. فما رأت بداً من التراجع فتراجعت ودخلت تدمر محزونة مكتئبة، وأغلقت الأسوار.

بينما كانت زينب تحارب الروم جوار (إنطاكية) كانت مي ابنتها ترسل إليها العدد، وتدير أمر المملكة، وأقبل عليها ذات يوم رسول وقال لقد وجدنا الأمير سولفا يا سيدتي قتيلاً في سهول حماه. فقالت في نفسها إذن أهلك معه. وأمرت خادماً لها أن يأتيها بثعبان تتعلم إمساكه. ففعل. فخلت الثعبان وقربت الناب القاتل من الثدي الزاهي وهتفت قائلة: نفسي

ص: 78

فداء الأمير سولفا، وما كاد الناب يغرز في الثدي حتى هتفت وقالت: لا لا. نفسي فداء الوطن. ورمت الثعبان من النافذة. وإنها لتفعل إذا رسول بالباب يقول سيدتي هذه خوذة الأمير سولفا يرسلها إليك وهو جريح نعالجه وسيشفى عن قريب، فقالت: وا فرحتاه! ووصلت الرسول بما يستحقه.

حاصر أورل بجيشه تدمر، وطال الحصار فملّ، ونفدت مؤن المدينة، وتضاغى الناس جوعاً، فجمعت زينب المجلس الحربي، فلقيها القادة باكين، فقالت لم البكاء أيها الأبطال؟ إما الموت، وأما الحياة!

وصعدت ابنتها مي المنبر وقالت إن حفيدة السميْدع مياً لتضحي بنفسها فداء الوطن.

أخرج بكم أيها الأبطال، من السرداب الخفي الذي يصل تدمر بنهر الفرات. ثم أسير إلى ملك الفرس وأعلن له قبول خطبته إياي، ثم نرجع بجيش وعدةٍ من عنده، فنكرّ على الروم، ونمزقهم شر ممزق!

فأكبرت زينب إخلاص ابنتها، وتفاديها وتضحية حبها في سبيل الواجب، وأكبر القواد إخلاص أميرتهم وشجاعتها.

في تلك الساعة قال زيد بن المعني لأورل قائد الروم: إن بين الفرات يا سيدي وبين المدينة سرداباً خفياً، ترسل منه زينب رسولها إلى بهزاد، ليمدها بالرجال والزاد، قال إذن الليلة تمسكون الرسول، وتفتحون الأبواب، وتدخلون المدينة، وتدكون القصر دكاً دكاً وتثلون العرش ثلاً ثلاً!

وما غشي الليل واختلط، حتى كانت مي متقلدة حمائل سيفها تتقدم القواد في السرداب، وتشجعهم. وما أطلت حتى كان زيد يطوقها بجنده، فأهابت به قائلة الويل لك أيها الخائن، وأقامت تحارب وتناضل ما تقدر أن تفعل، وودت لو تقتل ولا تؤسر، إلا أن أورل أقبل بجيشه فأسرها، وفتح المدينة، وأسر زينب، لكن لم يثل العرش ثلاً، وإنما توّج على سرير تدمر زيد الخائن.

سيقت زينب وابنتها والقواد إلى منزل الذل والهوان، وحكم أورل على زينب بالصلب، وفي الساعة التي كادوا ينفذون بها الحكم، كان قائد جميل روماني يدفع الجموع بمنكبيه، ويهب بالجلاد قائلاً: رويدك أيها العِلج. ويتقدم إلى أورل، ويركع عند قدميه، ويقول: أنا

ص: 79

صديقك سولفا أناشدك الصداقة التي بيننا أن تعفو عن زينب! إنها بطلة يا سيدي! إنها لم تحاربك إلا دفاعاً عن حريتها واستقلالها وكرامتها، فلا تلطخ جبين الدولة الرومانية الناصع بقتل البطلات اللائى يضحين أنفسهن في سبيل الحرية والكرامة والاستقلال!! فصرخت زينب قائلة: لا، لا، الموت أعذب لي من الحياة بعد الآن! إن العربية لا تعرف الحياة إلا بالعز، ولن تعرفها إلا به أبداً!!

عفا أورل عن زينب وابنتها وأمر بنقلهما معظمتين إلى قصره. وتقدم الأمير سولفا يوماً من مي يخطبها فقالت: أنا لا أخفي عليك أيها الأمير أني أحبك كثيراً، ولكن لا أقدر أن ألبّي طلبك إلا حين أبعث؛ وأنا اليوم ميتة! إن العربيات اللائى دوخن الفرس والروم، وخفقت رايات نصرهن في لبنان وربوع النيل، لا يرضين التزوج بالروم، ولا يعرفن الحياة والحب إلا مع العز والكرامة والحرية.

حماه

مهدي الجم الطرابلسي

النقد

ص: 80

‌شخصية أبي شادي في ديوانه (الينبوع)

بقلم الأديب حسن كامل الصيرفي

يمر صدى المطرب أمام جهاز (الراديو) فيطوف في الأثير بين رياح عاصفة ونسمة هادئة، ويمتزج في ضجيج الحياة وجلبتها ويغرق في صمت البوادي والقفار، حتى يتلقاه جهاز الاستلام فإذا الصوت ناطق بشخصية صاحبه. . كذلك يمر ذهن الشاعر بمحيط الحياة، يسمو إلى الأفلاك فلا يسمع منه أهل الأرض إلا همسات ونجوى يستشعرون فيها حناناً وراحة، ويهبط منها إلى صخب الحياة فيحاول أن يلطف من حدة ذلك الصخب بأنغام قيثارته، ولكن جمود الحياة يستثيره فيترك القيثارة لحظات تراه فيها صاخباً ثائراً متململاً، وهو بين سموه عن الحياة وبين اندماجه فيها محتفظ بشخصيته.

وهناك شعراء يفقدون شخصياتهم في جولاتهم الواحد منهم كالمهرج عليه رقع ليس بين ألوانها وحدة وتناسب. فالاحتفاظ بالشخصية يرجع إلى مؤهلات الشاعر الفنية، فالأول يطوف ويقف ويحلق ويهبط، وهو ينظر إلى العالم كما ينظر المصور إلى اللوحة التي يخط عليها بريشته عارفاً حدودها. أما الآخرون فيسيرون في طريقهم على غير هدى لم يرسموا لأنفسهم غاية.

وبمقدار احتفاظ الشاعر بشخصيته تكون قوته أو ضعفه، فلننظر إذاً في ديوان (الينبوع) ولنبحث عن شخصية أبي شادي، وعن مدى ظهورها أو تلاشيها. ولقد قرأت هذا الديوان فما كانت شخصية ناظمه تنأى عني أو تنمحي من أمامي قد يفقد الشاعر في أثناء حلمه الجميل ذاته ولكنه لن يغيب عن قارئه إذا استطاع أن يمزج روحه بآثاره.

فأبو شادي الذي أعرفه في حياة الناس شعلة فانية يريد أن يجمع العالم في يده فيحيله قطعة فنية في أقصر وقت كما تحيل النظرة الفاتنة دنيا العاشق لحظة قصيرة العمر مسرعة الخطى يتعجل اقتناص ما وراءها، هو نفسه أبو شادي الذي عرفته في حياة الشعر شعلة فانية يشقيها التسامي ويفنيها الكد.

فلأبي شادي شخصية واحدة تظهر دائماً وإن تنوعت ثيابها وتشكلت، فهو محب للحياة متصوف في حبه عالمي الروح، يريد الحياة خالصة سامية، يريدها قطعة فنية، فهو يحاول تهذيبها، أو هو يحاول تلوينها بألوان من السعادة تختلف فتبدو للناس عجباً، وتجتمع عنده

ص: 81

في قرارة نفسه، فلا يراها إلا وحدة متماسكة الأطراف متساوقة لا تناقض فيها، ويراها طريقاً إلى غايته وسبيلاً إلى أداء فكرته، وأنه ليشعر بحيرته بين كل هذا، ولكنها حيرة الشاعر أمام ربط معاني قصيدته حتى يلم بها فإذا هي آية تؤلف بين أبياتها وحدة تامة فيقول:

عييت من قلقي فيما وجدت له

وفي المعاني لكوني أو لأحلامي

أسائل الدهر عنها وهو مضطرب

مثلي، وأصحب كالمبهوت أعوامي

وأنتحي عن وجودي شبه منعدم

في الصمت، والصمت آمالي وآلامي

في حيرة وكأني عالمٌ يئست

منه الحياة فعافت روحي الدامي

أبكي وأضحك في نفسي فإن بها

من التناقض إيساري وإعدامي

ما بين ضدين قد عاشت وليس لها

من شاغل غير معنى عيشها السامي

تصدّرت لهموم الناس تسعدهم

وعوقبت بين أحبابٍ وأخصام

ولقد ظلت غايته، وهي نشدان المثل الأعلى، تتبعه كظله حتى أكسبته هذه الشخصية: شخصية الصوفي العالمي؛ فهو أمام الجمال المغري صوفيّ يحوّل الشهوة الصاخبة في أعماق جسده فناً يملأ روحه ويغمرها، ولا يرى في ذلك الجمال إلا روح الوجود وروح الفن كما في قصيدته (العيون المتكلمة).

ولقد جاهر الكثيرون ممن نقدوا أبا شادي بأن في قصيدته (الينبوع) التي يقول فيها:

أيها الينبوع كم ساع إليك

يدعي بغضاً كما أهوى لديك

كل ما يرجوه موقوف عليك

فإذا الانعام منك وإليك!

أنت سحر غامضٌ للعالم

أنت ينبوع الرجاء الدائم

أنت موسيقى الخلود الباسم

أنت ومض للشريد الهائم!

أيها الينبوع يا رمز الأبد

يا شعاع الله في طيف الجسد

كم معانٍ فيك كادت لا تحدّ

وعزاءٍ عن حياة تفتقد!

دعوةً صريحة إلى الشهوة، وأن ليس فيها نظرة صوفية، ذلك أن فيها تقديساً للجسد، وتقديس الجسد ليس من معاني الصوفية عندهم. فهل يرى هؤلاء أن الشهوة حقيرة للدرجة التي لا تسمح للشاعر بأن يتناولها في فنه مع أنها الدافع الأول إلى خلق مواهب الفنانين،

ص: 82

وليست العبقريات إلا شهوة تجمعت في عدسة عين صوفية فتطهرت واستحالت سمواً. ومن منا ينكر أن هناك مثّالين عبدوا تماثيلهم وفتنوا بها بعد أن كانت فتنتهم وقفاً على المثال، وهل عيب عليهم تصويرهم جسد امرأة عارية تحمل معنى من معاني القداسة يراها المثّال ويراها كل من مسته يد الفن وإن خفيت على بعض الناس.

إن الفنان عندما يتكلم عن الأجساد أو يصفها لا تكون لديه إلا فكرة واحدة هي تقديس الجمال، وهذا هو ما عناه الدكتور أبو شادي في قصائده عن الجمال والحب، وما عبر عنه بقوله:

عبثي هو الفن الجميل، وروحه

روح السمو وإن يعدّ ضلالا

يعيش أبو شادي في بيئة ظالمة جاحدة، تحيط به خصومات وأحقاد وأعداء مناوئون، وقصيدته (المهزلة) التي صور فيها هذه البيئة تصويراً بديعاً سكب فيه من شعوره ما يتدفق حاراً، من أقوى الشعر الاجتماعي العاطفي. وفيها يقول:

ويلي من الدهر! يبكيني ويبتسم

ولا يرد عوادي جَوْرِهِ السقمُ

قد عدَّ شر ذنوبي ما يفيض به

قلبي إلى الناس من حب ويزدحم

ويلي من الدهر! ويلي! مَن أقرَّ له

هذا العتوّ؟ وهل في الحب متهمُ

أطلّ دمعي وماء العين مضطرم

وهاج وجدي وسخط القلب محتدمُ

أنا الذي في شكاتي يزأر الشمم

وفي بكائي وناري يهزم الألمُ

سخرت من بيئتي لما برمت بها

ونُحت لكن نواحي كله كرم

لست الذي إن تغالي في محبته

فساءه الدهر عمراً ناله الندم

وهو إذ يصور لنا البيئة المصرية - وكم له من صور عنها! منها الحزينة الهادئة والصارخة الملتهبة والمتهكمة اللاذعة! - وينغمس في مناقشات ومجادلات لا يفقد شخصيته البارزة، تلك الشخصية الصوفية الزاهدة فيقول:

وعشتُ في وحدتي الموفورَ في شرفي

أبكي وأضحك والأحداث تلتطمُ

ولقد جمع ديوان (الينبوع) صوراً شتى لصوفية أبي شادي الغالبة عليه منها هذه الأبيات من قصيدة (غليون الشاعر)

أشعل الغليون من نا

ري وحيداً في الظلام

ص: 83

ناظراً نحو سماء

في ضرام كضرامي

حبأتها غير لمعٍ

في نجوم كابتسامي

حرقة الدنيا أطلت

من ثقوب في الغمام

كل ما فيها جميل

هو قلب في اضطرام

وكأن الخالق الفن

ان يشقى بالتسامي

وهذه الأبيات من قصيدة (وداع الشاطئ في الإسكندرية) هي لوعة الفنان العازف بين الصخور الصمّاء:

إيه يا قلب تأمل

هذه دنيا الصراعِ

يبدع الفنان لكن

هو كالنور المشاعِ

خاسر مهما تفانى

في وفاءٍ وابتداعِ

وفي قصيدته (عيش الألوهة) صفحة 63 نزوع قوي إلى التغلغل في أعماق كل ألوان الجمال، ليعيش في لبه وصميمه عيشة الألوهة، بعيداً عن أذى الحياة في حلم من أحلام الجنة. ولقد تلعب ريشته وترقص، فترسم لنا أخيلة لتلك السعادة التي يحكم بها في هدوئه وتصوفه

فأبو شادي ذلك الإنسان الدائم الحركة، الموزع الجهود، المختلف الصور، المتناقض السبل، رجل يحمل في طياته شخصية واحدة تظهر في شعره دائماً أتم الظهور، وفي قصيدته (بعد الكفاح) التي يتكلم فيها عن القطن المكدس بعد جنيه، فيعطينا منه فكرة، هي تلك الفكرة التي تشغل باله، والتي تشرق وتغرب فيها شخصيته، فيقول:

هذي بقايا القطن ترقد في الثرى

كجنود حرب بعد طول كفاحِ

صرعى مجندلة، ولكن بعدما

ضحت بأجمل نورها الوضاحِ

حتى النبات يرى الضحية واجباً

ومُنىً فليس يضنُّ بالأرواحِ

هذه الشخصية التي تجلت لي في مطالعة (الينبوع) شخصية أبا شادي التي تلابس شعره هي بنفسها التي طالعتني وتجلت لي يوم قرأت دواوينه السابقة، وهي هي بنفسها التي يعيش بها بين الناس، فليس من الحق أن ننكر على شعرائنا ثبات شخصياتهم في شعرهم إلا إذا دققنا واندمجنا في روح الشاعر.

ص: 84

حسن كامل الصيرفي

ص: 85