المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 560 - بتاريخ: 27 - 03 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 560

- بتاريخ: 27 - 03 - 1944

ص: -1

‌أبو العلاء المعري

بمناسبة عيده الألفي

في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول عام 363، والشمس في الغروب، والقمر في المحاق، والمعرّة في همود الكلال، والطبيعة في فتور الكرى، ولد الطفل النبيل الضئيل أحمد أبو العلاء!

كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر! ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء وأنشأ عواطفه، وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه!

ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله، فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس وقوة الحفظ ودقة التخيل. وهو القائل:

سواد العين زار سواد قلبي

ليتفقا على فهم الأمور

وإذا كان لكل عاهة من عاهات الحس تعويض من قوى الروح، فإن لها كذلك أثراً شديداً في حياة المعُوهِ، ترسم له الطريق وتعين له الغاية. فعاهة أبي العلاء فرضت عليه أن يجعل العلم شغل حياته؛ واختارت له من العلم أنواعه النقلية والنظرية مما تغنى فيه الحافظة وتعين عليه المخيلة، كاللغة والدين والشعر، ووسائلها من الرواية والنحو والصرف والعروض؛ فقضى عمره الأول بين أيدي الشيوخ في الشام وبغداد، أو على مقاعد المكتبات في المساجد والأديرة، يسمع ويعي، ويجمع ويستوعب، حتى لم يدع كلمة في معاجم اللغة وكلام العرب إلا علقها، ولا مسألة من مسائل العلوم الأدبية إلا حذقها. ثم قضى عمره الثاني معتكفاً في داره، يُعسِّل الشهد تعسيل النحل امتلأت بطونها برحيق الزهر المختلف، ويقطر الزلال تقطير المرشح الضخم أفعم جوفه بماء السيل المشوب. ولغلبة الأدب على حافظته لم ينضح فؤاده إلا به؛ وكتبه التي أملاها وهي تربى على المائتين لم تخرج عن فنون الأدب المختلفة. أما علمه بالفلسفة وسائر العلوم فقد كان علم الأديب، يأخذ منها ولا يعطيها، ويشارك فيها ولا يختص بها. وأروع مظاهر النبوغ في ثقافته الأدبية إحاطته باللغة إحاطة المستوعب، حتى كانوا إذا عدوا من رزقوا السعادة في شئ لم يؤته الله غيرهم، عدوا أبا العلاء ممن تفرد بالاطلاع الواسع على لسان العرب. ومن هنا طغى

ص: 1

الغريب على نظمه ونثره؛ إذ كان همه مصروفاً إلى تقييد الأوابد اللغوية مما جمع عليه وعاء قلبه. وما كان في نية أبي العلاء أن يكتب لدهماء الناس، إنما كان يكتب لنفسه ولتلاميذه. فهو ينظم ليرتاض، ويؤلف ليسجل، ويملي ليعلم. ومن قوله في مقدمة سقط الزند:(لم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلباً للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس) فإذا كتب للعامة أشرق لفظه وسهل أسلوبه، كما صنع في كتابه (سيف الخطيب)، وهو مجموعة من الخطب المنبرية ألفها على حروف من حروف المعجم، ثم قال:(وتركت الجيم والخاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً)

وعاهة أبي العلاء هي التي جذبت إليه العيون وشغلت به الألسن؛ لأن الضرير الذي يجيد النرد والشطرنج، ويدخل في كل باب من أبواب الجد والهزل، ويحفظ من مرة واحدة ما يرد على سمعه مما يفهم وما لا يفهم، عجيبة من العجائب التي يجب أن ترى، وتستحق أن تروى. واكتظاظ مجلسه بالناس سبيل إلى الفضول والتزيد منهم، وإلى مقابلة الحال بالحال وموازنة الحظ بالحظ منه. وأبو العلاء الذي خلق بحكم منبته الكريم عزيز النفس رفيع الهوى ظاهر المزية، كان يستشعر العجز والنقص بما يعلم من انطفاء بصره ودمامة وجهه وضآلة بدنه وقصر قامته، فكان لذلك شديد التيقظ لحركات الجالس وكلمات المتكلم. وربما أساء الظن ببرئ، وتوهم الإساءة من محسن. وهو في طعامه وهندامه وسلامه وقيامه عرضة للخطأ ومظنة للمؤاخذة؛ فكان لا ينفك متزايلاً ضجراً يديم الحذر ويؤثر العزلة

صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فانقلب إلى داره ناقضاً كفيه من دهر لا رجيَّة له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه. وساعد على إمضائه نية الاعتزال فجيعته في أمه وهي الظل الذي يأوي إليه، والسبب الذي يتعلق به؛ فزهد في الدنيا وصدف عن الناس، وأخذ نفسه بالخشونة والحرمان خمساً وأربعين سنة لا يلبس غير القطن، ولا يفترش غير اللبد، ولا يأكل غير العدس، ولا يتفكه إلا بالتين. وهو في أثناء ذلك الدهر الطويل منطو على نفسه، متحامل على ذهنه، يحوك القوافي ويصوغ الأسجاع في التسبيح

ص: 2

لله، والتزهيد في العيش، والترغيب عن الزواج، والزراية على أم دفر، والتنديد بأبي البشر، والتشنيع على رياء أهل الدين وجور أصحاب الحكم، والتشكيك في صلاح الأنظمة والشرائع.

كان أبو العلاء في شبيبته نسيم رحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا، وتغير رأيه في الناس!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌على هامش العيد الألفي

لأبي العلاء

بقلم صديقه الأستاذ كامل كيلاني

(وهي صفحة من مقدمته التحليلية لرسالة الهناء، إحدى رسائل

المعري المخطوطة. وستظهر للناس مشروحة مضبوطة بقلم

الأستاذ عما قليل)

القدرة الإلهية

يرى أستاذنا الجليل (أبو العلاء) - فيما يراه - أن قدرة الله، سبحانه، لا يعجزها شئ؛ فاليبيسُ مستعيدٌ - بمشيئته - بعد اصفراره، شبابه وخضرته، مسترد - بعد مواته - حياته ونضرته

والنيران الملتهبة متفجر لهيبها - بأمره - مياهاً سائلة، والطبيعة الإنسانية متحولة - بإذنه - من الغدر إلى الوفاء. والأغنام متغيرة طبائعها - بحكمه - مستبدلة بضعفها قوة، وباستخذائها إقداماً وعزيمة، متخيرة من عرين السباع سكناً تأوي إليه وتقر فيه

وهكذا يسترسل أبو العلاء في خياله البارع، وأسلوبه الساخر الفياض بالدعابة القاسية والتهكم اللاذع، والسخط المرير، فيثبت لنا بما ألفناه من طرائق إثباته المبدعة أن الطبيعة الإنسانية لا سبيل إلى استقامتها واستوائها، إلا إذا تغيرت طبائع الأشياء كلها، وانقلبت حقائق الكون الثابتة، فدبت الحياة في الهشيم، وتحولت النار ماء، والأغنام المستضعفة سباعاً ضارية

وإلى القارئ النص العلائي الذي فصلناه:

(إذا أذن ربنا أخضر الدرين (اليبيس)

وتبجست - بالماء الإرين (النيران)

ووفي لقرينه، القرين، وراحت الساجسية (وهي ضرب من الغنم) ومأواها العرين. . .

وذلك - من القدرة - ليس ببديع!)

ص: 4

وفي رسالة الهناء هذه التي نجلوها لرواد الأدب العلائي في عيده الألفي يقرر لنا شيخ المعرة كيف يتحول الطبع الإنساني من الكذب إلى الصدق، ويسلك في تقريره مثل ذلك النسق الفريد المبتدع الذي سلكه في فصوله وغاياته، فيتمثل صاحبه وقد انشقت له لجج البحار بإذن الله، كما انشقت من قبل لموسى الكليم، ثم يتمثل دهشة الأسماك - حينئذ - مما حدث، ويتخيل حيتان البحر وهي تتحدث متعجبة متطلعة إلى تعرف اسم ذلك الشيخ العظيم الذي تمت على يديه المعجزة، مضاعفة لصاحبه الثناء، داعية له بطول البقاء، وموصول السعادة والهناء، مبتهلة إلى الله أن يجزل له في عطائه ومكافأته، في دنياه وآخرته، جزاء ما أسلف للناس من مكرمات، وأسدى إليهم من حسنات

فإذا انتهى شيخ المعرة من هذا التمهيد، راح يصف في براعته النادرة، وألمعيته الساخرة، كيف تأذن القدرة الإلهية أن تخمد نيران الكذب، ومتى تريح العالم من لهيبه المستعر، الذي لا يبقى ولا يذر

ولكنه يبنى آماله البعيدة على مقدمات تسبقها، وهي في قدرة الله هينة، وإن كانت في طاقة البشر مستحيلة التحقيق

فهو إذا شاء - سبحانه - أمر اللجج الملاح، فأصبحت عسلاً سائغاً حلو المذاق، وانقلبت ملوحتها المفرطة في المرارة شهداً مفرطاً في اللذاذة والحلاوة

وهو إذا شاء - سبحانه - جعل السفينة تمشي على اليابسة، وتصبح قبساً متوهجاً من السّنا والنور، كأنما قبس لتوه من شعلة من النار ملتهبة. وليس هذا بالمطلب البعيد المنال، متى أذن من أبدع الأكوان على غير مثال

وهو إذا شاء - سبحانه - أمر الريح أن تحمل السفينة وأن تطير بها في أجواز الفضاء، كما حلت عرش (بلقيس) في غابر الزمان، فإن القياس يجوِّز وقوعه ويرضاه، والقدر تقر حدوثه ولا تأباه

ولو شاء - سبحانه - لجعل أسماك البحر وحيتانه آمنات ممنعات، في رغد من العيش هانئات، يتهادين في ذرا الجبال الشامخات، ويمرحن في أرجائها الفسيحة منطلقات، ويجرين في جنباتها مسرعات، كما تجري أسراب النعام في واسع الفلوات، زرافات وجماعات.

ص: 5

وهنا يتمثل (أبو العلاء) صاحبه - وقد تم له المراد، وبلغ من غايته ما أراد - ويتمثل القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ ممتنع في العقول، وقد أذنت لمياه البحر أن تعود إليه، وأعلنت كلمتها بأن ينصلح ما فسد من الزمان، ويستقيم ما اعوج من طبع الإنسان، وتنطفئ نيران الإفك والبهتان

ومتى تحققت هذه الخوارق والمعجزات، انتصر الصدق على الأكاذيب والترهات. فلنرتقب مع شيخنا المعري هذه النتائج الباهرات، فلسنا يائسين من الفوز والظفر، والعاقبة لمن تأنى وصبر

لعل الكثيرين من قراء (ابن الرومي) يذكرون - بهذه المناسبة - أسلوبه البارع في سخريته من الوزير (أبي الصقر) حين ولى الديوان، وعجب خصومه من تلك الطفرة، وكيف تظاهر (ابن الرومي) باستنكار ما تخيله من دهشتهم فقرر لهم معابثاً ساخطاً أن ظفره بذلك المنصب ليس أعجب من ظفره بالانتساب إلى أسرة (شيبان) العربية الكريمة مع أنه من الأعجام، ولكن الحظ السعيد يصنع الأعاجيب، والقدرة الإلهية تفعل ما تشاء من الغرائب، ثم ختم دعابته القاسية بقوله:

إن للحظ كيمياء، إذا ما

مس كلباً أحاله إنسانا

يفعل الله ما يشاء، كما ش

ء، متى شاء كائناً ما كانا

وللمعري في هذه الرسالة مثل ما له في غيرها من منثوره ومنظومه: فنون معجبة في وصف ما تبدعه القدرة من تصوير الأماني والأحلام، وبعث الهواجس والأوهام، شخوصاً بادية للعيان، مائلة في الخلد والجنان

وهو لا يفتأ يتمثل جميع الكائنات، من جماد وحيوان ونبات، وكواكب وسيارات، وحروف هجائية وكلمات، وقواف وحركات، وأصفار وأعداد وأرقام مضروبات ومقسومات، كأنما هي أناسي مثلنا، موفورة الإحساس بالحياة، تألم مثل ما نألم، وتتناجى كما نتناجى، ويعرض لها كما تعرض لنا - ألوان من الأماني والرغبات، وتستحر بينها ضروب الفتن والعدوات وتعلن في منطق - هو على خفائه عنا - بليغ فصيح، رائع التقديس والتسبيح، تبتهل بصادق الدعوات، في الغدوات والآصال والروحات، لخالق الأرضين ومبدع السموات

ص: 6

فلا غرو إذا رأيناه يتمثل - في هذه الرسالة - طريقاً ضيقاً يبتهل إلى خالقه أن يجزي صاحب (المعري) أحسن الجزاء مكافأة له على ما بذل من صالح المسعى، ويتجه الدرب إلى الله أن يبدل من شعابه الضيقة، مسالك وطرقاً فسيحة الرحاب. تغدو - لفرط سعتها - كأنها الصحاري والسباسب، لا تضيق بالعدد الأوفر من الجيوش الحاشدة والمواكب. وأن تتبدل أحجار الأكمة الخشنة، فتصبح بعد خشونتها ناعمة، كأنها لملاستها رق نعام

ثم يتمادى في خياله فيتمثل القدرة الإلهية قد بدلت لصاحبه أحجار التلال موائد حافلة بلذائذ الأطعمة والأشربة، يصيب منها الجائع ويرتوي الظمآن كما شاء، لا يتكبد في ذلك مشقة ولا عناء

وللمعري - في غير هذه الرسالة أيضاً - من روائع الصور الفنية التي يتمثل فيها من عجائب القدرة الإلهية، ما لا تتسع له هذه الإلمامة الموجزة، فلنجتزيء من ذلك بوجازة خاطفة، تاركين التفصيل لفرصة أخرى، فهو يقول في فصولة:

(يقدر الله على المستحيلات: رد الفائت، وجمع الجسمين في مكان، وما لا تحتمله الألباب، إذ كان لا ينسب إلى عجز أو انتقاص. فإذا مررت بعود بال، فاعلم أن الله يستطيع أن يكسوه أخضر كخضرة الحسام، حتى يورق ورقاً، كعدد الرمال، ويقف على كل ورقة ورقاء (حمامة) تعبده بألحان معبديات (منسوبة إلى (معبد) المغنى المعروف) أو يقول:

وفي قدرة الخالق أن يجعل الراحة (بطن اليد) ذات ذوائب، والهامة (الرأس) كفاثور اللجين (خوان الفضة) وأن يجري الفضة من الفجاج) أو يقول:(والله - بقدرته - يطير ذوات الأخفاف)

ثم يسبح الخيال بأبي العلاء. فيستبق الأجيال، حتى ليتمثل عصرنا الحاضر: عصر السرعة الخاطفة وما يتلوه من عصور، متنبئاً بما كشفه العلم وما لم يزح الستر عنه إلى اليوم، فيقول:

(إن شاء المليك قرب النازح وطواه، حتى يطوف الرجل - في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر طوفه بالكعبة حول (قاف)(وهو - فيما تقول الأساطير جبل محيط بالأرض)، ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار)

وثمة يطفر به خياله الوثاب، فيتمثل في عالم الأماني والأحلام ما بلغه العلم بعد عصره

ص: 7

بألف عام، فيتخيل الإذاعة اللاسلكية التي أصبحت الآن حقيقة راهنة بعد أن كانت وهماً من الأوهام فيقول:(ويسلم بمكة، فيسمعه أخوه بالشام)

ثم يتمادى في خياله فيتمثل الإنسان وقد استطاع أن ينقل النار في لحظات من مكان قصي إلى آخر، أو يتخيله يغص باللقمة وهو في (خراسان) فيسرع إلى ماء (زمزم) ليستقي منه ويزيل غصته به. أو بغيره من المياه البعيدة النائية، فيقول:(ويأخذ النار من نهامة، فيوقد بها النار في يبرين وقاصية الرمال. ويجأز بأكيلته (بغص بلقمته) في قصور فرغان (في خراسان) فيعتصر بماء المضنونة (زمزم) أو جراب (موضع بعيد، فيه ماء)

كامل كيلاني

ص: 8

‌الأدب والأخلاق

للأستاذ عمر الدسوقي

تقليد:

ربَّ! إلى أين نحن سائرون؟ وما هذه العواصف التي تعصف بنا من كل صوب؟ وما هذا الفيض المنهمر الذي ترمينا به المطابع في هذه الأيام؟ أبلغنا حد الترف العقلي والعمراني، وأخذنا نصيبنا كاملاً من ضروريات الحياة، والغذاء الصحيح للعقول، ومقومات الأخلاق والشخصية، ولم يبق أمامنا إلا أن نعكف على مخلفات الحضارة الأوربية نلتقط منها الغث والسمين، والنافع والضار، والجميل والدميم، وما يلائمنا وما لا نستسيغه، وما لا يوافق طباعنا وعاداتنا وجوهر شخصيتنا؟

أهو اتجار بعقلية الجماهير، واستغلال لرغبتها الملحة في القراءة، وحمى من حميات كسب المال التي ملكت على بعض الناس عقولهم وألبابهم في هذه الأيام العصيبة؟ أم هو افتتان بما أوقع أوربا في التهلكة، وفكك فيها الأسرة والشعب، وطوح بالأخلاق والفضيلة والإيمان، وجعلها تنبذ المثل العليا، ولا ترى إلا المادة المزرية هدفاً يذلف إليه ويتناحر الناس في سبيل الوصول إليه حتى أرداهم حرصهم عليه في ذلك الأتون المستعر الذي كاد بالطارف والتليد؟

وإلا فما هذا القصص الخليع الذي يثير الشهوة ويقتل الحياء، ويلطم وجه الفضيلة والشرف، ويوحي بالإجرام والفسق؟ وما هذا الأدب الموبوء الذي يزلزل العقيدة ويخدش العفاف؟ إنه ورد آسنٌ وغذاء عفنٌ وايم الحق، وأحرى به أن يصادر، ويؤاخذ المتجرون به أخذاً عنيفاً على ما أجرموا في سبيل أمتهم الشادية في العلم والحضارة! إنهم يريدون مسخها وتشويهها حتى تتناسى ماضيها، وتفقد ما كمن فيها من عزة وأنفة، وتنسى أن لها ديناً يعصمها من الزلل والعثار، وتاريخاً يزخر بالبطولة والمثل العليا، وأدباً هو وحي الفطر السليمة

ولقد أعدت الحمى كثيرين فأخذوا يقلدون هذه السلع الدخيلة من غير وعي، ويصورون أسوأ ما في مجتمعاتنا مرة باسم (الأدب الواقعي) وتارة باسم (الأدب الحر)، وأخرى باسم (الفن للفن). . . إلى غير ذلك من هذه العلامات التي رأوها ملصقة على الآداب الواردة

ص: 9

من الخارج، دون أن يدركوا ما في انتحالهم هذا من عبث وهذر وتزييف وتقليد غث

إن تملق النزعات الوضيعة عند الجمهور، وبعث الغرائز الدنيا لدى الإنسان من معقلها - وقد حاولت الأديان والأخلاق والعلم الصحيح كبتها وتهذيبها - تحت هذه الأسماء المزيفة التي جنت على الغرب من غير أن نتعظ بمأساته جرم لا يغتفر

ليس للأدب الواقعي قيمة لا من جهة الفن ولا من جهة المغزى؛ لأنه محاكاة لما في الطبيعة أو لما في البيئة الإنسانية محاكاة لا تصرف فيها، فلا تظهر شخصية المؤلف أو إحساس الخاص، أو ما يضفيه خياله على الصورة المنقولة، وكل ما له من جهد أنه جرد الصورة مما يحيط بها وحاول إبرازها بأداء تعبيره، على قدر استطاعته، طبق ما في الخارج

ففن المؤلف هنا سلبي محض، وأما المغزى، فالأصل دائما أروع وأبلغ وأكبر أثراً في النفس من التقليد. ولم أجد على هذا المذهب أشفى من رد أرسطو حين يعرف الأدب في كتابه الشعر (بأنه تقليد الناس بصورة خير مما في الحياة أو شر مما في الحياة) مهملاً مطابقته لما في الحياة؛ (لأن الأصل أمامنا أبداً وهو أبلغ وأقوى) وبدهي أن أرسطو قصر الأدب بتعريفه هذا على المأساة والمهزلة، ولا يعنينا تبيان رأيه هذا إلا بالقدر الذي سقناه إليه؛ إذ يريد إثارة العواطف والمشاعر في الناس، ولذا فهو يبالغ في مثل الخير حتى يحمل الناس على احتذائها، ويبالغ في تصوير مثل الشر حتى ينفر الناس منها

ثم لماذا لا يقلد هؤلاء باسم (الأدب الواقعي) إلا الصور الدميمة التي تدفع إلى الرذائل ذوي القلوب الخاوية والأخلاق الرقيقة، ومن ليس عندهم مبادئ تعصمهم أو إيمان يردعهم، ومن تسهل غوايتهم وإضلالهم؟

أما (الفن للفن) أو للفن المقصود لذاته فعبارة يريدون بها أن ليس للفن وظيفة يؤديها في الحياة، وأنه لا يحكم عليه بأمور خارجة عنه فلا يقال: إنه صادق أو صحيح أو نافع أو مهذب أو ضار أو كذب، وإنما هو التعبير لمجرد التعبير دون أن نتوقع منه أن يخبرنا بشيء أو يقنعنا برأي

أما أن يكون للكلام معنى أو خالياً من المعاني، فإن كان له معنى، فإما أن يكون المؤلف قد عناه وحاول التعبير عنه أو يكون قد جاء عفواً دون أن يدري به أو يقصده، فإن كان قد عناه ورمى إليه بعبارته فليس أدبه من الفن للفن؛ وإن كان رمية من غير رام وشيئاً صدر

ص: 10

عنه من غير أن يشعر به أو يعمل فيه فكره - فلو سلمنا بهذا - لم يؤاخذ عليه صاحبه لأنه أشبه بهذيان المحموم وعبارات المعتوه لا يعنيها ولا يريدها ولا يسأل عنها أو يحاسب عليها. ومثل هذا حري بنا ألا نشغل به عقولنا أو نسميه أدباً. وأما إن كان الكلام خلواً من المعاني فحسبنا أنه كذلك، فهو لغو وهراء فهل هذا هو (الفن للفن)؟

إني أفهم (العبارة) على أنها وسيلة لنقل معني في نفس المؤلف يريد أن يفضي به للقارئ، لا غاية في ذاتها؛ وهذا المعنى سيؤدي وظيفته من تأثير في نفس القارئ بالخير أو الشر، وسيصدر عليه القارئ حكمه حتماً حسب استعداده وحسب قوة وصوله إليه أو ضعفها - تبعاً لمهارة المؤلف الفنية - سواء أراد المؤلف ذلك أم لم يرده. أما ألا نوجه للفن حكماً خارجاً عن طبيعته، فأغلب الظن هذه نظرية أرادوا بها التخلص من التبعات والتهرب من النقد، والتستر وراء الفن حتى لا يهاجموا أو يحاكموا إن ند فكرهم أو شردت أغراضهم عن المألوف، أو طعنوا الفضائل واستخفوا بالأخلاق

مهمة الأدب

الأدب صورة لما يتجاوب في النفس الإنسانية الملهمة الفنانة من فكر وإحساس ورغبة، فنفس الأديب تتأثر تارة بما في الحياة من تجارب ومناظر وحقائق واحساسات فتنفعل لتلك المؤثرات وتتحد معها وتضفي عليها من إلهامها وخيالها ومشاعرها ثم يبرزها بعد ذلك الانصهار ليتأثر بها غيرها، وتارة تتبع تلك الصورة من النفس ذاتها وما اختزنته من تجارب وما أدته من علم وخيال. وفي كلتا الحالتين هناك صورة تختمر من نفس الأديب تظهر في عبارة لتنقل إلى القارئ، وكلما كان تأثر الأديب بالصورة عظيما، وتعبيره عنها قوياُ، كان تأثيرها في القارئ لا يقل عن أثرها في نفس مبدعها.

وما دام الأدب لا بد أن يمر على النفس الإنسانية ويصدر عنها، فمظاهر هذه النفس تحدد لنا الغاية من الأدب والمهمة التي يضطلع بها في الحياة.

نعلم أن للنفس الإنسانية ثلاثة مظاهر: تفكير ووجدان وإرادة. فالتفكير يبحث عما في الحياة والكون من حقائق، ويتفهم ما في هذا العالم تفهماً صحيحاً عارياً عن اللبس والغموض، فغاية هذا المظهر الحق.

والوجدان يتأثر بالجمال والجلال والقوة، والألم والأمل، وينفعل بكل ما يثير العاطفة

ص: 11

ويغذيها ويرهفها، فغايته الاهتداء لمواطن الروعة والجمال، سيان في ذلك ما يوجد في الكون والطبيعة، وما يرى في الحياة الإنسانية من تصرفات ومآسٍ وخلق، فما كان منه منسجما رائعاً شع في النفس الأديب الإعجاب والارتياح، وما كان منه متنافراً رديئاً أثار في نفسه الألم والاشمئزاز

والإرادة تصبو إلى تنفيذ ما يرجوه الإنسان وما يرغب فيه، وما يراه أنه خير له، وأن في تحقيقه سعادته، والإنسان دوماً حريص على أن يحقق عظائم الأمور، ويتوق إلى الكمال؛ ولهذا كان مظهر الإرادة في نفس الإنسان السليم هو الخير

فالنفس الإنسانية بمظاهرها الثلاثة تجرى وراء الحق والجمال والخير، وما دام الأدب صورة لنفس إنسانية ممتازة بالإلهام والقدرة على التعبير فلابد أن يحقق واحداً من هذه الثلاثة

وإذا كان هناك أدب لا هذه الأمور أو يفصح عنها فهو أدب نفس مريضة شاذ يهيم بالضلال والدمامة والشر، وهو أدب يترضى النزعات الحقيرة في الإنسان، وينادي الأجزاء الدنيا من النفس الإنسانية لتستجيب له، ويعمل على شل سيطرة العقل أو إضعاف سلطانه على بقية أجزاء النفس من قوى شهوانية وغضبية، وفي هذا ما فيه من شر مبين على نفس الفرد وانسجام المجتمع.

ثم إن نفس القارئ تهتز وتطرب وتأذن بيسر وسهولة لمن يحدثها عن الحق والجمال والخير إلا النفوس الوضيعة الملتاثة. ولا ريب أن الموضوعات النفسية تختلف أنواعها في نظر الإنسان بين الجميل والقبيح والجليل والحقير والشريف والوضيع، وهي تهتز وتعجب بمن يصور لها الجمال والمجد والشرف، وتصغي لهذه الحقائق في نهم وشوق لأنه يسمو بها ويحلق في أجواء المثل العليا التي تطمح في الوصول إليها، وبنيه فيها مشاعر الجمال والجلال. قد يجيد بعض من يتحدثون عن الأشياء التافهة الحقيرة؛ بيد أن جودة فهم قد تغبن في تفاهة الموضوع. والأدب لا ينظر فيه إلى الإجادة فحسب، ولكن يراد مع هذا الموضوع الذي ينفث في النفس الإنسانية من قوته وسحره وروعته. فيشد من عزيمتها وينمي مشاعر الخير والجمال منها، وبهذا يؤدي الأدب رسالته السامية، وفي هذا يتفاوت الأدباء في ميدان الخلود والشهرة، وكلما حققوا في كتبهم وجعلوا غايتهم تلك المثل الرفيعة، كان حظهم من

ص: 12

المجد والعبقرية أوفى

أما هؤلاء الذين يتشدقون بأنه ليس من شأن الأديب أن يكون واعظاً أو مرشداً وإلا ثقل على النفس وسمج فأقول: إن هناك طرقاً شتى للتأثير في نفس القارئ وتحقيق الغاية من الأدب، فالإيحاء والتعريض، والصورة والرمز وضرب المثل، وإبراز المآسي، والتهكم والتندر بالأسلوب الطريف الشائق؛ كل هذه وسائل تعبد أمام الأديب سبيله. أما أن يكون أدبه مجرد عبارة تقال لا غاية لها ولا معنى تفصح عنه، فهو هراء تربأ بأنفسنا وبكم أن نشغل به

وبعد فنحن أمة لا يزال نصيبها من الرقي ضئيلاً، وفينا عيوب خلقية واجتماعية كثيرة، ونحن أحوج إلى من يرينا الحق ويهذب نفوسنا، ويكبح جماح شهواتنا، ويرشدنا إلى طريق السعادة والخير. إن بيتاً من الشعر قد يصلح نفساً ضالة أو يرد النكس الجبان إلى الثبات والشجاعة. ولقد قتل بيت من الشعر أبا الطيب المتنبي حين هاجمه أعداؤه وهو عائد من لدن عضد الدولة، فلما رآهم كثراً وأنه ليس لهم نداً، هم بالفرار فنادوه: ألست القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ورحم الله معاوية حين قال: (اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهدير بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملتني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

أبت لي همتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقحامي على المكروه نفسي

وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات

وأحمى، بعد، عن عرض صحيح

عمر الدسوقي

ص: 13

‌محاورات الموتى

المحاورة الثالثة

للكاتب الفرنسي برنار توفيه دفونتنيل

بقلم الأديب يوسف روشا

هوميروس وإيزوب

هوميروس: صاحب الملحمتين الخالدتين الالياذة والأوديسة، عاش حوالي 850 قبل المسيح، ومن أغرب ما تحكى أن الرسام أغاتون قد دفعه تعصبه لهوميروس إلى أن يصوره وهو يقيء وسائر الشعراء يزدردون قيئه

إيزوب: مؤلف وفيلسوف إغريقي، صاحب القصص الخرافية المشهورة، عاش في القرن السادس قبل المسيح، وكان عبداً ثم أعتق لنبوغه.

للمحاورة

هوميروس: ليس من الممكن حقاً أن تظفر كل هذه القصص الخرافية التي قرأتها على بإعجاب الناس كثيراً. على أنك لو لم تكن على جانب عظيم من الفن ما استطعت أن تضمن قصصك القصيرة هذه العظات البالغات، وأن تذيع أفكارك القيمة على ألسنة البهائم.

إيزوب: ما أجمل المديح لهذا الفن يصدر عنك أنت الذي تجيده كل الإجادة!

هوميروس: أنا؟ أنا لم أحاوله قط.

إيزوب: ماذا؟ ألم تزعم أنك ضمنت مؤلفاتك عظات بالغات؟

هوميروس: مع الأسف لم يخطر ذلك على بالي

إيزوب: ولكن العلماء في زماني قالوا كلهم ذلك، وقد أقبلوا على الإلياذة والأوديسة فاستعاروا صورهما، وصاغوا منها أجمل المعاني الرمزية، مؤكدين أن جميع أسرار اللاهوت والطبيعيات والأدب، حتى الرياضيات مبثوثة في ما كتبت، على أن نشرهم لتلك الروائع لم يكن سهلاً هينا؛ فبينما كان أحدهم يجد معنى أخلاقياً إذا يراه طبيعياً. ولكن ما عدا ذلك لم يكن هناك اختلاف في أنك كنت محيطاً بكل شئ، ولقد قلت كل شئ للذين يفهمون ما كنت تقول

ص: 14

هوميروس: أقول لك الحق، لقد وقع في نفسي أن بعض الناس لا يعجزون عن استنباط أروع المعاني وأبلغ العبر مما كتبت، مع أني لم أقصد إلى شئ من ذلك. ما أسهل على المرء أن يتنبأ عن حوادث بعيدة ثم ينتظر وقوعها، أو أن يقص حكايات خرافية ثم ينتظر من يطبق عليها المجازات!

إيزوب: لاشك أنك كنت جريئاً بعض الشيء في إلقائك عبء إدخال المجازات في شعرك على كواهل قرائك. أين كنت تكون لو أنهم فهموها على معناها الحرفي؟

هوميروس: هدئ من روعك، فإن ذلك لو حدث لما نشأ عنه نكبة عظمى كما تتصور

إيزوب: كيف! وهؤلاء الآلهة الذين بعضهم بعضاً! أما ترى إلى كبير الآلهة (جوبيتر) كيف يتوعد زوجه البارعة (جونو) في أحد اجتماعات الآلهة بضربها؛ وإلى مارس إله الحرب وقد جرحه (ديوميدس) جرحا بليغاً كيف يصرخ كما تقول بقوة تسعة آلاف أو عشرة آلاف رجل، ومع ذلك لا يعمل ما يعمله رجل واحد! فبدلاً من أن يمزق اليونانيين شر ممزق لا يرى غضاضة في أن يذهب إلى كبير الآلهة يشكو له جراحه! كان في الإمكان أن تبلغ هذا الغرض من غير حاجة إلى استعمال المجازات

هوميروس: وماذا على من ذلك؟ أتتصور أن الطبيعة البشرية لا تتوخى غير الحقيقة؟ إذن ما أضلك! إن هناك عطفاً متبادلاً واتصالاً وثيقاً بين الذكاء البشري والكذب. فإذا أردت أن يستسيغ الناس الحقيقة فلابد أن تكسوها بالأساطير، على حين أن الأساطير لا تحتاج إلى الحقيقة ليستسيغها الناس! فالحقيقة إذن مضطرة إلى أن تستعير وجه الكذب ليتقبلها ضمير الإنسان قبولا حسناً، ولكن الكذب ينفذ إلى قلب الإنسان بغير استئذان ولا شفيع، ذلك لأن هناك مولده وفيه مقامه. أما الحقيقة فهي وحدها الغريبة. والحق الذي لا شك فيه ولا يحسن بك أن تجهله هو أن آلهتي على علاتهم لم يستسخفهم الناس.

إيزوب: إن الذي تقوله يفزعني، فأنا شديد الخوف من أن يعتقد الناس أن الحيوانات تتكلم جعلتها تتكلم في أساطيري

هوميروس: ذلك خوف لا حقيقة له

إيزوب: كيف؟ إذا كان الناس يعتقدون أن في إمكان الآلهة أن يتحدثوا فيما بينهم على الصورة التي قصصت، فماذا يمنعهم من أن يعتقدوا أن الحيوانات تتكلم كما أردت لها أن

ص: 15

تتكلم؟

هوميروس: تلك مسألة أخرى. إن الرجال يسرهم أن تنخفض الآلهة إلى دنياهم، ولكنهم لا يرغبون أن ترتفع الحيوانات إلى مستواهم!

يوسف روشا

ص: 16

‌منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها

للأستاذ سعيد الديوه جي

- 4 -

(أ)

الاعتقاد بآلهة سبعة

يعتقد اليزيديون أن الله خلق سبعة آلهة من نوره، وكان عمله هذا كمن أوقد سراجاً من سراج. وهؤلاء الآلهة السبعة هم:

الملاك عزازيل وهو (طاووس ملك) رئيس الجميع خلقه يوم الأحد

الملاك دردائل وهو الشيخ حسن خلقه يوم الأثنيين

إسرافيل شمس الدين خلقه يوم الثلاثاء

ميخائيل أبو بكر الأربعاء

عزرائل وهو السجادين خلقه يوم الخميس

شمنائل ناصر الدين الجمعة

نورائل بدين السبت

وقال لهم الله إني خلقت السماء فليصعد كل منكم وليخلق شيئاً، فصعد الأول وخلق الأرض، وصعد الثاني وخلق الشمس، والثالث القمر، والرابع الفلك، والخامس (المصرفع) أي نجمة الصبح (والسادس الفردوس، ثم جهنم. ثم صعد الله إلى محله وتناوب هؤلاء الآلهة السبعة إدارة العالم منذ طوفان نوح إلى الآن، وكل منهم تولاه ألف سنة دون أن يتدخل أحدهم في شأن الآخر. والحكم الآن والتدبير (بين طاووس) وهو رئيسهم والمتأمل في آلهتهم يجد أنهم - ما عدا طاووس ملك - مشايخهم الذين أضلوهم عن الطريق، وأولهم الشيخ حسن، وهو أول من بدل دينهم. وهذا نتج عن الغلو في حب هؤلاء المشايخ حتى أدى إلى تأليههم. والاعتقاد بآلهة سبعة هو اعتقاد الصابئة؛ ولعل هذا الاعتقاد سرى إليهم من صابئة (حران)، وقد علمنا أن هذه المدينة كانت منذ العهد الأموي من أشد الناس تعصباً للأمويين وأنها كانت كذلك مركز الصابئة في صدر الإسلام

ص: 17

(ب) الشيطان (طاووس ملك)

ويعتقدون أن الشيطان - ويسمونه (طاووس ملك) - أشد هذه الآلهة بطشاً، وأنه أقربهم إلى الله تعالى؛ بل إن سلطانه في بعض الأحيان لا يقل عن سلطان الله جل وعلا، وأنا مختص بالملة اليزيدية. وقد جاء عندهم ورأوه، وينكرون أمر طرد من الجنة. جاء في مصحف رش:(إن الأمم لا تعرف ذلك فنقول إن إلهنا نزل من السماء مطرودا محتقراً ولذا يجدفون عليه، فقد غلطوا بذلك وضلوا، أما عندنا نحن اليزيدية فلا نقبل ذلك، لأننا نعرفه وحدنا وهو واحد من السبعة الآلهة المذكور آنفاً ونعرف صورته وشخصه وهي صورة الديك، فلا يجوز لأحد أن يلفظ اسمه أو ما شابه اسمه كالشيطان والقبطان وشروشط وما شاكل ذلك، ولا لفظة ملعون أو لعنة أو نعلبذ أو ما أشبه، فكلها حرام علينا لفظها احتراماً له. وإذا جدف عليه أحد أو نطق بما شابه ذلك أمام يزيدي يجب على اليزيدي أن بقتله أو يقتل نفسه. أما بقية الطوائف فلا تعرف هذه الأشياء كلها، لأنها لا تعرف طاووس ملك ولا يعرفها ولا ينزل عن حدها. أما نحن معشر اليزيدية فأني عندنا وسلم لنا الآيات والحقائق والقوانين، فصارت كلها بالتناسل وراثة من الوالد إلى ابنه ثم صعد إلى السماء). وفي (مصحف رش) ما يستفاد أن (طاووس) هو المتسلط على العالم الفعال بلا منازع ولا يسمح لغيره من الآلهة أن يتدخل في أمره. قال (طاووس ملك)(أنا موجود ولبس لي نهاية. أنا رتبت منذ القديم تدابير العالم وانقلاب الأجيال وتعرف مديريهم لي تسلط على كل الخلائق، وإلى تدبير مصالح كل الذين تحت حوزتي وقبضة يدي. أنا حاضر سريعاً عند الذين يثقون بي ويدعونني وقت الحاجة، ولا يخلو مني مكان في الدنيا كلها. أنا مشترك في كل الوقائع التي يسميها الخارجون شروراً لأنها ليست تحسب مرامهم) وهو فوق هذا متسلط على بقية الآلهة وهم قاموا بوظائفهم حسب إرادة هذا الرئيس.

ومن لم يفعل ما يأمره به (طاووس ملك)، فإنه يندم. جاء في الجلوة:(لكل زمان مدبر مشورتي. ويندم ويحزن الذي يقاومني. جميع الآلهة ليس لها مداخلة في شغلي. بيدي قوة وسلطة على جميع ما في الأرض فوقاً وأسفل) وطاووس ملك نوصي أتباعه أن يخلصوا لتعاليمه ويدافعوا عنها فإن فعلوا هذا، فإنهم يجدون في أنفسهم لذة وفرحاً وينالون خيراً منه. وأما الذين يقاومونه فإنه يسلط عليهم الأوجاع الأسقام. وهو الذي يعطى. ويمنع والعظمة

ص: 18

والثروة بيده يعطيها لمن يختاره من بني آدم، ويمنعها عمن يسخط عليه. ويروون حكايات كثيرة تدل على تسلطه على بقية الآلهة، وإنه يفعل ما لا يقدر غيره من الآلهة أن يفعله حتى ولو كانت هذه الأفعال خلافاٌ لأمر الله غز وجل. ومن ذلك: أن الله غضب على عيسى بن مريم مرة فأخذه ونزل به الأرض وألقاه في جب ووضع طبقاً كبيراً من الحجارة على فوهة الجب لئلا يخرج، وبقى هذا المسكين يعاني آلام الوحدة والوحشة والجوع والعطش، وأخذ يستغيث بالآلهة واحداً بعد آخر فلم يجبه أحد خوفاً من الله. وأخيراً خطر بباله طاووس ملك فاستغاث به فما كاد يسمع صوته حتى هرع إلى الأرض وأخرجه من الجب وصعد به إلى السماء. ولما رآه الله جل جلاله سأله من أخرجك؟ قال له: طاووس ملك. فقال له الإله: لا بأس بذلك، لأن طاووس ملك عزيز علىّ ولا أرد له عملاً وأن غيره لا يقدر على إخراجك من محبسك إلا بأمري

أما عدم سجوده لآدم فيعتقدون أنه كان محقاً في ذلك، وكان بفعله هذا ممتثلاً لأمر الله تعالى ولم يخالفه، وإنما نال القربى منه بعد أن حاجه في فعله، وذلك (أن الله عندما خلق السموات والأرض سلم مفاتيح الخزائن إلى طاووس ملك وأوصاه أ، يفتح هذه المخازن كلها إلا واحداً. ولكن طاووس ملك فتح المخزن الذي نهاه الله عن فتحه فوجد فيه ورقة مكتوباً عليها: (لله ألهك تسجد، وله وحده تعبد) فأخذ الورقة واحتفظ بها. ولما خلق الله آدم وأمره بالسجود له أبى، فألح عليه، وأصر طاووس ملك على عدم السجود، وأراه الورقة. فقال له الله تعالى: أفتحت البيت الذي نهيتك عنه؟ قال: نعم. قال له الله: (هرطوقى) باللغة الكردية ومعناها (اذهب إلى الطوق) وهو طوق حديدي يضعه الله في رقبة من يغضب عليه. ولكن الله تعالى لما وجد حجة طاووس ملك قوية وأنه محق بفعله ممتثل لأمره رضى عنه وأرجعه إلى السماء. ويقولون: (هل يمكن أن أحداً يغضب عليه أبوه ويطرده إلى الأبد؟ كلا. إنما غضب عليه ثم رده حالاً احتراماً له)

وأما إغواء آدم وطرده من الجنة، فكان بأمر (طاووس ملك) جاء في الفضل الثاني من مصحف رش:(وأمر جبرائيل أن يدخل آدم إلى الفردوس، ويأمره بأن يأكل من كل الشجر ما عدا الحنطة. وبقى آدم مائة سنة. فقال (طاووس ملك) لله كيف يكثر آدم وأن نسله إن لم يأكل من شجرة الحنطة؟ فقال له الله تول أنت، سلمت الأمر والتدبير بيدك. فجاء (طاووس

ص: 19

ملك)، وقال لآدم هل أكلت من الحنطة؟ أجاب آدم كلا، لأن الله قد نهاني. قال (طاووس ملك) كل من الحنطة فتغدو أحسن، ثم أكل آدم من الحنطة وللوقت انتفخت بطنه وأخرجه من الفردوس وصعد إلى السماء. وكان آدم خزيناً كئيب الخاطر يبكي وينوح. ويعتقدون أن سبب الطوفان الأول هو من استهزاء الجنس البشري الذي تناسل من آدم وحواء (أي اليهود والنصارى والإسلام) بإلههم. ولهذا سلط عليهم (طاووس ملك) المياه وأغرقهم. ثم أعقبه الطوفان الثاني الذي مضى عليه سبعة آلاف سنة حكم به كل إله ألف سنة ينزل في أرض (اليزيدية) لأن كل الأماكن المقدسة عندهم. وفي هذا الزمان قد أقام عندهم (طاووس ملك) وهو يكلمهم باللسان الكردي من عهد آدم إلى الآن وجميع وصاياه وتعاليمه أملاها عليهم بهذه اللغة لقدمها

وإن سبب مقاطعتهم للعن وما أشبه هذه اللفظة فإنه بدأ في زمن (الشيخ عدي الكبير) وذلك لأنه عندما وجد تفاقم أمر اللعن عند الحزبين الأموي والعلوي - كما مر آنفاً - حرم عليهم كل لعن ليجتث هذه السنة السيئة من أساسها. ثم تطورت هذه الفكرة بعده على يد أحفاده الضالين المضلين فحرموا اللعن حتى على الشيطان والنطق باسمه واستعاضوا عنه (بطاووس ملك) وإني أرجح أن يكون لفظ (طاووس ملك) محرفاً عن (طاغوت) وقد ورد هذا اللفظ في عدة أماكن في القرآن الكريم بمعنى الشيطان، منها قوله عز وجل:(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذي كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) واليزيدية ينطقونه (طاغوس ملك) والتقارب قوي بين اللفظين

والخلاصة أن عقيدة اليزيدية في الشيطان مرتبكة جداً، ومن الصعب أن نقف على أول دخولها عندهم وعلى تطورها حتى آلت إلى ما هي عليه من الارتباك. وأعتقد أن هذا الارتباك في أمره نتج عن أمية هذه الطائفة، وخاصة أن كتبهم المقدسة كتبت في عهد قريب على ما يظهر من سقم عباراتها وابتذال ألفاظها وارتباك معانيها. كما أن القراءة والكتابة محرمة على كافة اليزيدية ما عدا طبقة الملالي وقم الذين يدعون أنهم من نسل (حسن البصري)

وهم يذكرون متناقضات عنه: تارة بأنه خلق العالم منذ الأزل وأنه متصرف فيه، وأن كل

ص: 20

صغيرة وكبيرة لا تكون إلا بأمره، وأن جميع الآلهة قاموا بإدارة العالم بمشورته، وإن الله لا يرد له عملاً. ومن جهة أخرى إن الله خلقه كما خلق بقية الآلهة، وإنه غضب عليه وطرده من الجنة ثم أعاده وغير ذلك. ولا شك في أن عقيدتهم فيه متأثرة بالديانة (الزردشتية) فهو إله الشر (وأعماله التي يقوم بها خير بخلاف ما يظنه أهل الملل الباقية إنها شرور، فهي شرور عليهم لأنهم لا يعرفون حقيقتها ولا يعرفون (طاووس ملك)، ولكنها بالنسبة إلى الأمة اليزيدية التي تعترف به والتي يحيها هو، وقد اختارها من دون الخلق، خير وسرور وسعادة)

(البقية في العدد القادم)

سعيد الديوه جي

ص: 21

‌سجاد الأناضول

للدكتور محمد مصطفى

- 3 -

سجاد (دمشق)

اشتهر هذا النوع من السجاد أي (سجاد دمشق)، لأن زخارفه تماثل زخارف ألواح القاشاني المشهورة باسم (دمشق). ولكن علماء الفن الإسلامي يقولون إن دمشق لم تشتهر بصناعة السجاد، وهم لذلك يرجحون أنه كان يجمع في هذه المدينة لشهرتها كمركز تجاري، ويعد بها للتصدير إلى أوربا. والرأي السائد هو أنه كان ينسج في مناسج خاصة بالبلاط العمثاني أنشأها السلطان سليمان القانوني بجهة قريبة من القسطنطينية مثل مدينة بورصا، وأحضر إليها صناع السجاد من مصر وإيران. ويتضح مما نراه في طريقة نسج زخارفه النباتية من الدقة التامة والعناية أنها منقولة عن رسوم وتصميمات وضعت لها من قبل.

ونلاحظ في هذا السجاد أن الزخارف النباتية الإيرانية التي استعملت فيه قد تطورت إلى درجة كبيرة، ودخلت عليها عناصر جديدة جعلتها كثيفة وغنية، فتبدو كأنها تحاكي الطبيعة إذا نظر إلى كل وحدة منها على حدة، ولكنها تظهر في مجموعها مهذبة وشديدة الكثافة. ويتبين هذا في أشكال المرواح النخيلية الكبيرة، وفي تموجات الأوراق الملتوية ذات الأسنان، وفي الأغصان والفروع المثقلة بالزهور، وفي الطريقة الزخرفية التي ترسم بها زهور النرجس والسوسن والقرنفل. وتنسج هذه الزخارف باللون الأصفر أو الأبيض على أرضية بالأحمر أو الأزرق، والألوان الأخرى المستعملة فيه هي الأخضر والأسود

وينسج سجاد دمشق من صوف ماعز الأناضول اللامع، أو من الحرير. وللسجاد المنسوج من الحرير خصائص أنواع سجاد الأناضول الأخرى المنسوجة من هذه المادة، أي أن لحمته تصبغ باللون الأخضر، وكذلك السداة إذا كانت من الحرير أيضاً

وفي (شكل 1) بساط من سجاد دمشق أرضيته باللون الأحمر عليها بالأصفر والأبيض والأزرق المائل إلى الاخضرار زخارف نباتية وفروع متشابكة وكثيفة بأوراق مسننة كبيرة

ص: 22

مرسومة في أوضاع متناظرة (سيمترية). وهذا البساط من أواخر القرن السادس عشر، وهو في مجموعة دار الآثار العربية

سجاد (ترانسلفانيا)

عثر هواة السجاد في أواخر القرن الماضي على عدد كبير من نوع خاص من سجاد الأناضول كان محفوظاً في خزائن كنائس مدينة كرونستاد بمقاطعة ترانسلفانيا، فعرف هذا النوع باسم (سجاد ترانسلفانيا)، ويعلل وجود عدد كبير منه في مدينة كرونستاد أن رجال الكنيسة في هذا البلد كانوا يتقاضونه بمثابة مكس من تجار السجاد القادمين من الأناضول كي يسمحوا لهم بالمرور إلى غرب أوربا. وكان هذا السجاد يستعمل في الكنائس البروتستانتية بترانسلفانيا لتغطية كراسي الصلاة، وكان أفراد العائلات يتوارثونه جيلاً بعد جيل.

ونجد سجاد ترانسلفانيا مصوراً في اللوحات الأوربية المرسومة فيما بين سنتي 1520 و 1700. والغالب أنه كان ينسج في جهات قونية أو لاذق كما يتبين من متانة نسيجه وكثافته، وقد انقطعت صناعته منذ منتصف القرن الثامن عشر

وهذا السجاد متشابه في رسومه، ففي وسط أرضيته نرى عقد محراب أو عقدين متقابلين، وتواشيح العقود مزينة بفروع متشابكة بسيطة مرسومة بطريقة هندسية يمتاز بها نوع ترانسلفانيا، أو بزهور في شكل تروس وأوراق بسيطة مسننة. ويزخرف الإطار بزهور كبيرة غريبة المنظر يتدلى من جانبي كل منها ورقتان مسننتان يجعلانها تشبه شكل الجعران، أو بمناطق نجمية بداخلها وحدات زخرفية يتفرع من جانبي كل وحدة ما يشبه الخطاف

وألوان سجاد ترانسلفانيا زاهية ويغلب فيه اللون الأحمر والأحمر الزاهي والأزرق الفاتح والأصفر السمني والبني المائل إلى اللون الأسود الذي يحصلون عليه باستعمال مرارة الحيوانات في الصباغة

واللحمة والسداة من الصوف، ولا تزيد مقاساته عن 1. 2 2. 00 متراً

وفي (شكل 2) سجادة صلاة من نوع ترانسلفانيا، عليها محراب بعقد مدبب تتدلى منه مشكاة، وأرضية المحراب باللون الأصفر السمني، عليها بالأبيض والأحمر الفاتح والأزرق

ص: 23

الزاهي فروع مزهرة متشابكة في وضع هندسي متناظر سيمتري. وخاصرتا عقد المحراب باللون الأزرق القاتم وعليها بالأحمر فروع متشابكة مرسومة بشكل هندسي تظهر كأنها متشجرة. وإطار هذه السجادة يتألف من شريطين على شكل شرفات متجاورة بالأحمر والبني الأسود، بينهما شريط عريض عليه مناطق نجمية بداخلها وحدات زخرفية هندسية يتفرع من جانبي كل وحدة ما يشبه الخطاف من النوع الذي يمتاز به سجاد ترانسلفانيا. وزخارف الإطار مقطوعة وغير متصلة كما يتبين ذلك في الركن الأعلى الأيمن وفي الجانب الأسفل من الإطار، وهذا النقص يمتاز به سجاد الأناضول، لأن الصناع الأناضوليين - بعكس الصناع الإيرانيين - لم يتقنوا نسج الإطار المتصل الزخارف. وهذه السجادة من أواخر القرن السادس عشر، وهي في مجموعة المسيو بنسيلوم

سجاجيد الصلاة

تميز سجاجيد الصلاة بالمحراب الذي يحدد عليها بخطوط واضحة وبألوان تتباين مع الألوان المحيطة به. وعقود هذه المحاريب لها أشكال كثيرة، فهي ترسم بخطوط مستقيمة أو مدرجة أو متموجة، وتكون مدببة الشكل أو مفرطحة أو على شكل حدوة الحصان. وقد تكون للمحراب عقد واحد أو عقدان أو ثلاثة عقود. ولكل بلد ينسج فيها السجاد طراز خاص بها لعقد المحراب، حتى أنه يمكن غالباً الاستدلال على مكان نسج السجاد من شكل عقود محاريبه.

وقد تزخرف أرضية المحراب فتتدلى من العقد مشكاة أو إبريق أو باقة من الزهور أو فرع طويل مزهر، وأحياناً تنتشر عليها زهيرات صغيرة فيسميها تجار السجاد (سينكلي) أي بالذباب

وترتكز بعض عقود المحاريب على أعمدة تكون في السجاد القديم مطابقة للشكل المعماري، ثم تتطور هذه الأعمدة حتى تصبح في شكل فروع مزهرة تتدلى من العقد بدلاً من أن تكون دعامة له يرتكز عليها

وتزخرف تواشيح خواصر هذه العقود بفروع نباتية شديدة التهذيب، أو بزهور مرصوصة في صفوف منتظمة

أما إطار هذه السجاجيد فإنه يتألف من ثلاثة أشرطة يكون الأوسط منها عريضاً، أو من

ص: 24

عدة أشرطة رفيعة بيضاء وسوداء عليها نقط في مسافات متساوية فتسمى (شُبُكلى) لأنها تشبه غابة (الشبك)

ومن بين أنواع سجاجيد الصلاة نوع يسمى (صف) ينسج في جهات متعددة من مراكز نسج السجاد بالأناضول، ويرسم له عليه (صف) واحد أو أكثر من صف من المحارب المتجاورة، لتأدية الصلاة جماعة. وهذا النوع ينسج غالباً في الأناضول وفي بلاد التركستان الصينية. ومحاريب القديم منه متماثلة في السجادة الواحدة، ولكنها تختلف من حيث اللون والزخارف في كل سجادة من السجاد المنسوج بعد أواخر القرن الثامن عشر

وثمت نوع آخر من سجاجيد الصلاة يسمى (تربه لك) أو (مزار لك) ترسم على أرضية محرابه شواهد قبور أو مدافن بها أشجار سرو. ويستعمل هذا السجاد لفرش المقابر أو لتغطية نعش الموتى

جورديز

تقع مدينة جورديز في الجهة الشمالية الشرقية بالقرب من أزمير، وإليها ينسب السجاد المعروف بهذا الاسم

ويرسم محراب هذا النوع عادة في وسط السجادة تماماً، فتصير مقاساته بذلك أقصر منها في الأنواع الأخرى. وتعلو المحراب حشوة عليها زخارف قائمة بذاتها تختلف عن الزخارف الأخرى في السجادة، وترسم في أسفله حشوة أخرى متماثلة لهذه

وتلون أرضية المحراب غالباً بلون واحد أحمر أو أخضر أو أزرق أو أصفر وأحياناً باللون العاجي. وهذه الألوان تكون دائماً خفيفة وباهتة

وتنسج سجاجيد الجوردين من نسج ضيق محكم يزيد في دقة الرسم. واللحمة والسداة في السجاد القديم من الصوف، وفي بعض السجاد المتأخر تكون السداة من القطن

وتعرف بعض سجاجيد هذا النوع باسم (قيز جورديز) أي جورديز الفتاة. ويقال إن هذا السجاد كان ينسجه البنات ويعنون بنسجه عناية كبيرة بقصد إهدائه إلى أزواجهن عندما يتزوجن. وتتألف زخرفة الإطار من مثلثات في وضع مختلف، ترتكز على قاعدتها أو على إحدى زواياها وتزخرف بزهور مهذبة ويفصل بين هذه المثلثات أشرطة عريضة بيضاء عليها نقط سوداء موزعة بنظام وتنسيق. ويوجد نوع آخر من سجاد قيز جورديز ينسب

ص: 25

إلى كبير من العظماء اسمه (قرا عثمان أوغلو) تكون أرضيته دائماً بالأبيض وهو دقيق في رسومه

ويرجع إلى عصر السلطان عبد المجيد (1839 - 1861) سجاجيد أرضيتها باللون الأبيض عليها شجرة سرو أو شجيرات مورقة، وزخارفها متأثرة بالزخارف الأوربية

وفي (شكل 3) سجادة صلاة (صف) من نوع جورديز عليها خمسة محاريب بجانب بعضها، أرضيتها بالتوالي من اليمين إلى اليسار باللون الأصفر السمني الغامق والأحمر الباهت والأزرق الزاهي والأخضر النباتي والأصفر السمني الفاتح. وتواشيح العقود محلاة بزهور متجاورة مرتبة في صفوف. ويحد المحراب من أعلى وأسفل منطقة مستطيلة على شكل خشوة بها زخرفة نباتية. وإطار السجادة به شريط من وحدات زخرفية لها أسنان تشبه المشط، وهي لذلك تسمي (دركلي) أي ذات المشط، ويتفرع من جانب كل الشط تفاحتان. وهذه السجادة من أواخر القرن الثامن عشر وهي في مجموعة السيد صلاح الدين رفيق صير مالي.

(يتبع)

محمد مصطفى

ص: 26

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

538 -

ما أراد به النصيحة

قال معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جواداً والأموي حليما والعوامي شجاعاً والمخزومي تياهاً لم يشبهوا آباءهم

فقال الحسن بن علي: والله ما أراد معاوية بقوله النصيحة، ولكن أراد أن يفنى بنو هاشم ما في أيديهم فيحتاجوا إليه، ويشجع بنو العوام فيقتلوا، وأن يتيه بنو مخزوم فيمقتوا، وأن يحلم بنو أمية فتحهم الناس

539 -

فرحم الله ذلك المفتي

في البدر الطالع للشوكاني: لما أسلم غازان بن أركون (سلطان التتار) قيل له إن دين الإسلام يحرم نكاح نساء الآباء، وقد كان استضاف نساء أبيه إلى نسائه وكان أحبهن إليه خاتون وهي أكبر نساء أبيه. فهم أن يرتد عن الإسلام، فقال له بعض خواصه: إن أباك كان كافراٌ، ولم تكن خاتون معه في عقد صحيح، إنما كان مسامحاً بها، فاعقد أنت عليها، فإنها تحل لك، ففعل. ولولا ذلك لارتد عن الإسلام. واستحسن ذلك من الذي أفتاه به لهذه المصلحة، بل هو حسن ولو كان تحته ألف امرأة على سفاح. فإن مثل هذا السلطان المتولي على أكثر بلاد الإسلام في إسلامه من المصلحة ما يسوغ ما هو أكبر من ذلك حيث يؤدي التحريج عليه، والمشي معه على أمر الحق إلى ردته. فرحم الله ذلك المفتي!

540 -

صائر إلى مالك

في وفيات الأعيان:

كان الفقيه أبو بكر المبارك الملقب بالوجيه والمعروف بابن الدهان - حنبليا، ثم تفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم شغر منصب تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشروط الواقف ألا يفوض إلا إلى شافعي المذهب، فانتقل الوجيه إلى مذهب الشافعي، وتولاه، فقال المؤيد أبو البركات التكريتي:

من مبلغ عني الوجيه رسالة

وإن كان لا تجدي عليه الرسائل

ص: 27

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل

وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت قول الشافعي تدينا

ولكنما تهوى الذي منه حاصل

وعما قليل أنت لاشك صائر

إلى مالك، فافطن لما أنا قائل

541 -

تحط ولكن فوقهم في جهنم

من القول بالموجب لبعض الحنابلة:

يحجون بالمال الذين يجمعونه

حراماً إلى البيت العتيق المحرم

ويزعم كل أن تحط ذنوبهم،

تحط ولكن فوقهم في جهنم

542 -

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

ابن خلكان: لما انتقل سيف الدين الآمدي إلى الديار المصرية وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي وتصدر بالجامع الظافري بالقاهرة واشتهر بها فضله، واشتغل عليه الناس - حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة وانحلال الطوبة ومذهب الفلاسفة والحكماء، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطها بما يستباح به الدم. وبلغني عن رجل منهم فيه عقل ومعرفة لما رأى تحاملهم عليه، وإفراط التعصب، كتب في المحضر وقد حمل إليه ليكتب فيه مثلما كتبوا فكتب:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

كتبه فلان بن فلان

ص: 28

‌الكتب

(سلامة القس)

للأستاذ دريني خشبة

مَهاة من مَهَى مكة، ذات عينين خلقتا للحب، وفم برأه الله للغزل، وصوت رقَّقه للغناء، وقلب صغير إلا أنه فتيٌّ قويٌ زاخر، لأنه استطاع أن ينجو من إبليس، وأن يقاسم على مرضاة الله!

نشأت سلامة في كنف رجل تقي ورع محافظ، فكانت ترعى له البُهمْ في بطائح مكة تذهب بها خماصاً وتعود بها بطاناً، ثم تحلب وتطهى وتخدم، فإذا أوت إلى فراشها أخذت ترجع بصوتها المختبئ ملء صدرها وحلقها وطي لسانها، وتجد في ذلك الترجيع وهذا التسجيع لذة وراحة. . . حتى إذا زارت مكة جميلة المغنية، ونزلت في بيت ابن سهيل القريب من دار سلامة، وأخذت تملأ الدنيا كلها في هذا البلد الآمن غناءً، وتذيب قلوب أهله شدواً، كان قلب سلامة أول ناهل على ظمأ، وكان سمعها أول مستجيب على طول اصطبار، وكان لسانها أول مردد لألحان البلبل الغريد. وسمعها سيدها تجدف بهذا الغناء فنهاها عنه، ووكل إلى زوجته أمر مراقبتها، وإغرائها بترتيل القرآن؛ فأطاعت سلامة، لكنها كانت تطبق على آي الذكر الحكيم أصوات جميلة وألحانها، فلما سمعها مولاها جن جنونه واشتد في أمرها؛ وكانت سلامة ترعى البهم يوماً، فتركها تتخير من رطب الكلأ ما تشاء، وجلست هي تملأ الهواء بما ملأ صدرها من غناء، فما تنبهت إلا على صوت رقيق حلو ذي رنين يكمل لها اللحن ويضبط لها النغم، وإذا صاحب الصوت راع صغير يبتسم لها فتبتسم، وإذا هما يتعاهدان على أن يكون أحدهما معلماً والثانية متعلملة. . . بأجر زهيد. . . قبلة لقاء كل لحن!!

ويضيق بها سيدها لأنها لم ترعو عن هذا الغناء فيبيعها ابن سهيل صاحب القصر الذي نفذ منه إلى سمعها وقلبها غناء جميلة، والذي كان ندى الشعراء والمغنين في مكة، يغشاه ابن ربيعة والأحوص والغريض والعرجي ومعبد وكثيرون غيرهم. . . ويسلم ابن سهيل سلامة إلى زعماء الغناء فتثقف عنهم أحانه، وتصبح فتنة الفتن وريحانة القلوب. . . وإلى هنا لا تكون المأساة قد بدأت بعد! لأنها لا تبدأ إلا منذ هذه المصادفة التي تبدأ العاصفة في حياة

ص: 29

قديس!

لقد كان في مكة تقي من أتقياء المسلمين وأشدهم ورعا، وكان يدعى عبد الرحمن بن عمار، وكان يدعوه قومه القس، لصفاء نفسه وانصرافه عن الدنيا وإكبابه على الصلاة، ولزومه المسجد، وزهده في مباهج الحياة، واحترازه من شراك الشيطان. وكان عبد الرحمن يوماً ماراً بقصر ابن سهيل في طريقه إلى المسجد، فما شدهه إلا أن سمع شدواً ينسكب في روحه وينساب في دمه، ثم يستقر في قلبه ليكتب في صفحته مأساة هذا الحب الخالد والهوى الحلال والعشق المكين

أبطأ عبد الرحمن في سيره. . . لكنه عاد فاستعاذ بالله؛ وقبل أن يسرع إلى المسجد سمع منادياً يناديه. . . فإذا هو ابن سهيل يدعوه إلى جلسة في قصره يشرفه بها. . . وكان ابن سهيل قد رأى عبد الرحمن إذ وقف ساهما مسبوهاً منصتاً للغناء، فسره أن يسحر صوت سلامة أتقى أتقياء مكة وأصفى أصفيائها، فأقسم ليأتمرن بهذه النفس التي تجردت من الدنيا، ليرى كيف يكون عبد الرحيم بين تقواها وبين مفاتن سلامة. . . وتأبى عبد الرحمن أول الأمر؛ ثم وعد أن يزور ابن سهيل وأن يستمع إلى سلامة من وراء حجاب. وقد أجابه الرجل إلى هذا الشرط، ثم رآه مرة وقد نفذ سحر الغناء إلى أغوار نفسه وأخذ يعصف بها عصفاً شديداً، فسأله إن كان يسمح بدعوة سلامة لتجلس إليهما وتغنى في حضرتهما من دون ما حجاب. . . وقبل أن يجيب عبد الرحمن دعا ابن سهيل جاريته فأقبلت. . . ولم تقبل لتغنى فحسب بل أقبلت لتغزو من نفس عبد الرحمن ما لم يغزه غناؤها. . . لقد كانت جمالاً منوِّرا وحسناً مزهرا وبهجةً سارية، فما هي إلا نظرة واستقرت من قلبه في قرار مكين!

ومضت الأيام. . . ولم يبال عبد الرحمن بما شرع أهل مكة يلوكونه عنه ويحيكونه عن هيامه بسلامة. . . وخلا بها مرة في قصر مولاها فصرح الحب، وباح الغرام، وقالت له وقال لها، ثم كانت سلامة أجرأ منه فتشهت أن تضع فمها على فمه. . . لكن الله القدير آثر لهما العفة، واختار لغرامهما الطهر، فصرف الشيطان عن نفس عبد الرحمن حفظاً لعرض صديقه، وإبقاء على الخيط الذي يربطه بأسباب السماء، وكان حسبه أن يترفق بصاحبته، وأن يفئ بسورتها إلى الله. . . ساقيا هذا الهوى الملح، والغرام المسرف بعض ما أسعدت

ص: 30

عيناه من دموع. . . ثم عاهدها على أن يعمل كما يعمل الناس، حتى إذا اكتمل له ثمنها دفعه إلى ابن سهيل ثم أعتقها، ثم تكون له بعد هذا زوجة!

وكان ابن سهيل رفيقاً بعبد الرحمن حين لحظ ما كان يعصف به من رياح هذا الحب. . . فلم يلبث أن عرض عليه سلامة هدية خالصة. . . إلا أن عبد الرحمن أبى، وزاده إباء أن ابن سهيل كان إذ ذاك في عسرة من أحواله المالية، فإذا اشتراها عبد الرحمن ببعض المال كان أصلح لابن سهيل وأوفق لظرفه الخاص، ثم كان ذلك أكرم لهوى عبد الرحمن وأصون لحبه. . . ولم يبال، وقد فكر هذا التفكير أن يبيع بعض عقاره ليشتري سلامة. . . فلما فعل، وذهب بالمال إلى ابن سهيل، كان السيف قد سبق. . . فقد باع القاضي جميع ما يملك ابن سهيل، وسلامة في كل ما يملك. . . لقد اشتراها ابن رمانة تاجر الجواري بالمدينة، ولقد دفع فيها غالياً

وكانت صدمةً أي صدمة لعبد الرحمن! لقد ضاقت به الدنيا. . . وبكى أحر البكاء وأعنفه، وكانت دموعه تمتح من أعماق قلبه لا من أغوار عينيه. . . لكنه احتمل. . . وانتوى أن يعمل أضعاف ما عمل ليرضى شهوة المالك الجديد الذي اشترى سلامة تجارة رابحة وصيداً ليس مثله صيد!

ثم مضت الأيام كما مضت من قبل. . . أو أشد مما مضت من قبل، وربح عبد الرحمن مالاً جماً، وكان هذه المرة يعمل مع ابن سهيل؛ فلما بارك الله لهما، شدا رحلهما إلى المدينة بعد أن تجهزا. . . من أجل سلامة. . . وكان قلب عبد الرحمن يحدثه عند كل ثنّية، وكانت مشاعره تهيج عند كل مقام. . . لأن سلامة مرت من قبل بتلك الثنية أو قامت بهذا المقام. . . ثم نزلا ضيفين عند أحد الأصدقاء بالمدينة، قبل أن يتوجها إلى دار ابن رمانة. . . وعلما من صديقهما أنباء سلامة ففرحا واطمأنا وكان الرجل قد ذكر لهما أشياء وأخفى عنهما أشياء. . . ثم وجهه إلى ابن رمانة، وحضرا مجلس غناء شدت فيه سلامة، وأغمى على عبد الرحمن عند بيت من قصيدة له كانت تغنيها، وكانا قد تلاحظا وتعارفا قبل الإغماء. فتولت سلامة العناية به حتى عاد إليه صوابه، فما سلّما حتى استخرطا في بكاء شديد

وخلا الرجلان بابن رمانة وعرضا عليه ما قدما من أجله فأوشك التاجر الذي لا يعرف إلا

ص: 31

عواطف المال ولغة المكسب أن يبكى من التأثر، ثم ألقى إليهما بالنبأ الفاجع:(لقد اشتراها رسل الخليفة بعشرين ألفاً، فهي منذ اليوم ملك يزيد بن عبد الملك. . . وغداً يذهبون بها إلى دمشق!)

وإذا كانت الدنيا قد أصبحت ظلمات بعضها فوق بعض في عين عبد الرحمن حين اشترى ابن رمانة سلامة، فيا ترى؟ ماذا تكون حاله الآن!. . .

وترفق ابن رمانة فأذن للعاشقين بخلوة، تعاهدا فيها بالصبر والصلاة. الصبر إلى يوم الدين إذ يلتقيان. . . في جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. . . والصلاة التي تهدى إلى هذه الجنات بإذن الله

هذه أيها القارئ قصة سلامة القس التي أنشأها الأخ الصديق الأستاذ علي أحمد باكثير، والتي كان قد نشرها من قبل فصولاً في إحدى المجلات، والتي تنشرها له اليوم (لجنة النشر للجامعيين) ضمن ما تنشره من كتب قيمة، فتملأ في عالم القصة المصرية فراغاً كبيراً، إن لم يكن فراغاً مخيفاً والأستاذ باكثير أديب حضرمي كسبته مصر التي نشأ فيها وتخرج في الجامعة المصرية، فهو يدين لمصر بتعلمه، كما يدين لها بهذا الأدب الناضج المتشعب، المتعدد النواحي، فهو شاعر رقيق الشعر جيد المعاني ثائر على التقاليد، وقد كنت على أن أتكلم عن طريقته في الشعر المرسل لولا أشياء صرفتني عن ذلك إلى حين. وباكثير شاعر مسرحي أيضاً، وله درامتان بالشعر المرسل هما إخناتون ونفرتيتي ثم إبراهيم باشا بطل مصر الخالد وتصور الأولى صفحة ناصعة من تاريخ مصر الروحي القديم، كما تصور الثانية صفحة ناصعة من تاريخ مصر الحديث في سبيل العروبة التي ننادي اليوم بوحدتها، وكان باكثير في المقدمة من دعاتها بدرامته هذه. . . ولولا أن اختار باكثير لهاتين الدرامتان

(الحكيم وليلى) للأستاذ توفيق حسن الشرتوني

قصة تحليلية تعالج كثيراً من المشكلات الاجتماعية. وإذا كان صاحبها الأستاذ توفيق حسن الشرتوني مجهولاً في مصر فإن أسرته خدمت العربية في المعجم النفيس (أقرب الموارد) الذي جمعه الشيخ سعيد الشرتوني

وعجيب جداً أن يكون للأستاذ توفيق الشرتوني أربعة كتب لم تذكرها صفحات النقد في

ص: 32

مصر بكلمة واحدة. أو لعلها ذكرتها وغاب عنا زمانها ومكانها. ولكن هذه الظروف السعيدة بين لبنان ومصر قد حملت إلينا الأستاذ (توفيقاً) وحملت معه كتبه

في نظرات هذا الكاتب المفكر وميض قوي الشعاع؛ ولذا تجد أفكاره دائماً مومضة مشعةً. وتفكيره العميق يبدو في حديثه كما يبدو في كتابته. فهو لا يرمي الكلمة عفواً، ولا يرسلها كما تكون؛ ولكنه يزنها ويقدر لها مكانها بجانب أختها. ولهذا لا تجد في عباراته تزويقاً أو تنميقاً؛ ولكنها عبارات تمتاز بالوضوح وعدم الإسراف في القول والمغالاة فيه. وهو حكيم في نظراته إلى الأمور، يبصرها من زوايا متعددة لا من زاوية واحدة. ولهذا تجد الحوار في هذه القصة حوار الحكيم لا حوار القاص. والمؤلف نفسه (حكيم) هذه القصة المؤثرة؛ فهو يمشي إلى بيت البطلتين ليلى وسلمى؛ ويخلو إليهما خلوة الحكيم لا خلوة العاشق. وتراه يغشى كل ناد، ويرتاد كل مرتاد، ويخالط الناس في كل ضرب من الأرض. وفي خلال ذلك يبث آراءه وينشر تعاليمه، لا ييأس من إصلاح، ولا يقنط من موعظة؛ لأنه يريد أن ينشل (ليلى) مما تورطت فيه. و (ليلى) فتاة تزوجت من شاب غني انحرف عن الجادة، وجار عن السبيل، وأفسده القمار والخمار. . . فأهمل حق زوجته وواجب أولاده. فرأت الزوجة البائسة أن تنتقم منه فانتقمت من نفسها. . . فأهملت بيتها وتركت أولادها، وشغلت بشاب آخر على نصيب من المال والجمال وقوة العضلات. . .!

وهنا تزور (سلمى) جارة (ليلى) الحكيم وتقص عليه من حوادث جارتها المنحرفة ما يكون سلسلة من الفجائع. . . فقد مات ولداها ومات زوجها أشنع ميتة. . . وهي لا تزال ممعنة في نوازع هواها ونزعات شيطانها. . . ولا تزال الأيام ترميها بكل داهية حتى خولطت في عقلها

والأستاذ توفيق (الحكيم). . . اللبناني لا (توفيق الحكيم المصري) مخلص للأدب، مخلص للإنسانية. ففي كتابته نزعات نبيلة تطفر من بين سطوره طفراً. وهو صادق في فنه لأنه يعتقد (أن الصدق في القول والعمل هو جوهر الأدب الصافي في هذا الكون) وهو فوق ذلك كثير العطف على الإنسانية؛ كثير الإشفاق عليها؛ كثير الرجاء في صلاحها. وقصة (الحكيم وليلى) محاولة في سبيل هذا الإصلاح.

محمد عبد الغني حسن

ص: 33

من الشعر المنسي لحافظ

في سنة 1902 أصدرت مطبعة هندية كتاباً ألفه محمد حافظ صبري من رجال القضاء المصري - ولا أدري أين هو الآن - وهذا الكتاب تحت عنوان: (المقارنات والمقابلات بين الأحكام والمعاملات والحدود في شرع اليهود ونظائرها من الشريعة الإسلامية الغراء، ومن القانون المصري والقوانين الوضعية الأخرى). وقد قرظ هذا الكتاب شاعر النيل المرحوم حافظ بك إبراهيم بقصيدة أثبتت في آخره، ومع ذلك لم تذكر هذه القصيدة في ديوان حافظ الذي طبعته وزارة المعارف، بينما ذكرت فيه (التقريظات) في الجزء الأول من صفحة 148 إلى صفحة 158؛ وهاهي ذي القصيدة:

أشرع العقل أم شرع الكليم

أرى في ذلك السفر العظيم؟

قرأت سطوره فلمحت فيها

برغم القوم تنزيل الحكيم

همو وضعوا لهم شرعاً جديداً

فعاد بهم إلى الشرع القويم

ولولا هَدْى أحمد بعد موسى

لما ساروا على النهج القديم

كذاك إذا النهى بلغت مداها

هدتك إلى الصراط المستقيم

أحافظ قد وضعت لنا كتاباً

جمعت بصلبه شمل العلوم

وأودعت النصوص به فكانت

نصوص الدر في العقد النظيم

وأبرزت الشرائع في حلاها

فمن آي، ومن قول كريم

ومن نص إلى (التلمود) يعزى

ومن قول (صولون) الحكيم

جُزيت عن النهي والدين خيراً

ووقيت العداء من الخصوم

فلعل الذين قاموا على جمع هذا الديوان وطبعه يلتفتون إلى إثبات هذه القطعة في الطبعة الجديدة للديوان.

(كلية اللغة العربية)

أحمد الشرباصي

ص: 34