المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 561 - بتاريخ: 03 - 04 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 561

- بتاريخ: 03 - 04 - 1944

ص: -1

‌شر ولا سر.

. .

للأستاذ عباس محمود العقاد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(. . . أرجوكم أن تتكرموا. . . بشرح هذا الموضوع على صفحات الرسالة الغراء. . . وهو (المرأة سر غامض)

(. . . هي الجميلة وهي القبيحة، هي الجنة وهي الجحيم هي الخادعة الفاتنة وهي المخدوعة المفتونة، هي الكريمة المحسنة وهي الشريرة الظالمة، هي الضاحكة الباسمة وهي الباكية القاتمة هي الوفية المخلصة وهي الخائنة الغادرة. . . كل هذا وأكثر من هذا عند المرأة، وهو عندها في زمان واحد، وعندها في عقد واحد وقلب واحد. . . فهل لكم أن تتفضلوا بكشف الغطاء عن هذا السر العويص، وعن خفايا هذا القلب وهذا العقل الغامضين. . .)

(بيت المقدس)

داود العارودي

كتاب جاءني من الأديب صاحب التوقيع واكتفيت بما نشرته لأنه هو المقصود بالإجابة، ورأيت حقاً أنه موضوع قديم حديث لا يزال الآن، ولن يزال آخر الزمان، صار للعودة إليه وزيادة القول فيه

فالمرأة كما قال الأديب شتيت من النقائض والصفات. ولا غرابة عندي في ذلك، لأن الغرابة إنما هي في الصورة التي نتلقاها وليست في الحقيقة التي تلقى تلك الصورة على أبصارنا

فمن شاء عجب واستغرب، ومن شاء نظر إلى السبب فبطل عنده العجب، وعلم أن النقائض في الظواهر إنما تفضي إلى باطن لا تناقض فيه، لأنه مفهوم على الوجه الذي ننتهي إليه، وليس هو في منتهاه ببعيد

إذا عرف السبب بطل العجب كما قيل

وإنما نعرف السبب في تناقض المرأة كلما اقتربنا أولاً من التفاهم على الشخصية الإنسانية،

ص: 1

واقتربنا (ثانياً) من التفاهم على جوانب طبع المرأة، واقتربنا (ثالثاً) من فهم الأنوثة في جملتها

فمصدر الخطأ كله في تصور (الشخصية الإنسانية) أننا نتصورها شيئاً واحداً لأنها تنطوي في اللغة تحت عنوان واحد. ولكن الواقع أن (الشخصية الإنسانية) سواء في الرجل أو المرأة هي أشياء لا تحصى تنطوي تحت كلمة معدودة الحروف مجهولة الحدود

فهي تختلف بين حالة وحالة، وتختلف بين سن وسن، وتختلف على حسب العلاقة بينها وبين هذا الإنسان أو ذاك الإنسان، وتختلف على حسب العلل والبواعث التي تحركها إلى الأعمال

فهي في حالة الرضى والنعيم غيرها في حالة السخط والبأساء، وهي في الشباب الباكر غيرها في الكهولة أو الشيخوخة، وهي في معاملتها لفريق من الناس غيرها في معاملة أناس آخرين، وهي إذ تنبعث عن الطمع والخوف غيرها حين تنبعث عن النخوة والشجاعة

فإذا صدرت عنها الأعمال مختلفات فلا عجب في ذلك، لأنها لا تأتي من مصدر واحد، ولا تزال لها مصادر متعددات

ويقال هذا عن النساء كما يقال عن الرجال أو الأطفال، بل كما يقال عن الأشياء التي ليس لها حس ولا مشيئة

إن (الشواء) مثلاً هو قوة وضعف، وهو دواء نافع وسم ناقع، وهو لذيذ وكريه، وهو غال ورخيص

وسبب ذلك أنه قد يأكله الطفل كما يأكله الرجل، وقد يأكله المريض كما يأكله الصحيح، وقد يجود صنعه وقد يسوء في يد الطاهي الواحد على حسب اختلاف الأوقات والأدوات، وقد يؤكل من السفود أو يؤكل بارداً بعد أيام

وإذا جاز اختلاف الأثر إلى هذا المدى في صنف من الطعام فهو جائز إلى أبعد من هذا المدى في الخلائق الحية التي تتقلب بين الدوافع والطبائع كل حين

أما التفاهم على جوانب طبع المرأة فنحن نقترب منه كلما أحضرنا في أخلادنا هذه الجوانب المتعددة وذكرنا أنها تجتمع في وقت واحد وتعمل في وقت واحد، فتأتي أعمالها

ص: 2

متفقات أو متناقضات على حسب الدواعي والغايات

فالمرأة من جهة فرد من أفراد نوع تستقل بوجودها الخاص بين جميع أفراد ذلك النوع، فهي هنا في مقام المناضلة عن استقلالها، أو مقام التضامن بالغريزة النوعية على تباين الأحوال والعلاقات

والمرأة من جهة ثانية هي عضو في بنية اجتماعية هي الأمة أو المدينة أو القبيلة، وهي من ثم زوجة أو بنت أو أخت أو صاحبة عمل تجمعها بتلك البنية الاجتماعية صلة العرف أو القانون، وتلك صلة أخرى غير صلة الغريزة النوعية أو صلة الفرد بسائر الأفراد الذي يشاركونه في نوع واحد

والمرأة من جهة غير هذه وتلك أنثى لها تركيب حيوي يربطها بمخلوق آخر تنظر إليه نظرة غير نظرتها إلى الفرد أو إلى الشريك في البنية الاجتماعية

وهي من جهة أخرى أم تحب أبناءها بالغريزة والألفة، وهي كائن حي من حيث هي وليدة الحياة في جملتها أيا كان النوع الذي تنتمي إليه والأمة التي تعيش بينها والعلاقات التي تجمعها بالزوج أو القرابة أو البنين

هي كل أولئك معاً لا فكاك لبعضهم من بعض ولا افتراق وليس من الضروري أن يتفق كل أولئك في الوقت الواحد على اتجاه واحد، لأن مطالب الفرد والزوجة والأم والحبيبة والكائن الحي قد تتعارض في مذاهبها وهي مجتمعة في بنية واحدة

وليس من الضروري كذلك أن تكون المرأة أما بالفعل لتشعر بحنو الأمومة، لأنها مخلوقة للأمومة قبل أن يولد لها الأبناء، وقد تكون الأم الوالدة أقل في حنوها من الفتاة العذراء، إذا طرأ للأم الوالدة ما تحجب فيها شعور الأمهات إلى حين

لدينا إذن فرد يريد بفطرته الفردية أن يستقل عن جميع الأفراد الآخرين سواء كانوا من الآباء أو الأمهات أو الأزواج؛ فلا يلبث أن يستقر فيه هذا الشعور الطبيعي حتى ينازعه فيه شعور الأنثى التي تريد أن تنضوي إلى رجل تهواه، وقد ينازعها شعوران بل أكثر من شعورين إذا تعددت الصفات التي تستهويها من الرجال وتفرقت بينهم على نحو يضلل الإرادة ويشتت الأهواء

ولا تلبث أن تغالب استقلالها الفردي وتطاوع نزعتها الأنثوية حتى يبرز لها المجتمع

ص: 3

بحكمه الذي قد يخالف حكمها في الاختيار والترجيح، فيقودها إلى الجاه والمال وهي تنقاد إلى الفتوة والجمال، أو يلزمها الوفاء للزوج وهي تنظر إلى رجل آخر نظرة الأنثى التي سبقت بفطرتها قوانين الأمم وقواعد الآداب

ولا تلبث أن تحتال على هذه البواعث حتى يغلبها حنو الأمومة فيربطها بمكان لا تود البقاء فيه، أو ينهض الكائن الحي في نفسها نهضة لا تطيع باعثاً غير بواعث الحياة بمعزل عن نزوة الأنثى قانون المجتمع وغرائز الأمهات

تناقض كهذا لا عجب فيه ولا مباينة للمعقول؛ لأن كل دافع من دوافعه مرجعه إلى سبب مفهوم موافق لسنة الأحياء

ثم يضاف إليه تناقض آخر يرجع إلى تعدد الدواعي في كل صفة من هذه الصفات

ونكتفي بصفة واحدة لأن توضيح الصفات جميعاً شرح يطول بنا في هذا المقام

فالمرأة في صفة الأنوثة، وهي تنضوي إلى الذكورة، تحب الرجل الكريم لأنه يغمرها بالنعمة ويريحها من شدائد العيش ويخصها بالزينة التي توهيها وترضى كبرياءها بين النظيرات والمنافسات، فضلاً عما في الكرم من معنى العظمة والاقتدار

ولكنك قد ترى هذه المرأة بعينها تتعلق ببخيل لا ينفق ماله على زينة ولا متاع، فهل هي مناقضة لطبيعتها في هذا الاتحراف العجيب؟

كلا: بل هي لا تناقض طبيعة الكبرياء نفسها التي ترضيها عن كرم الكريم؛ لأن المرأة يجرح كبرياءها أن ترى رجلاً يستكثر المال في سبيل مرضاتها، ومتى جرحت المرأة في كبريائها أقبلت باهتمامها وحيلتها وغوايتها من حيث أصابها ذلك الجرح المثير، وليس أقرب من تحول الاهتمام إلى التعلق في طبائع النساء

فالنزعة الواحدة قد تكون سبيلاً إلى النقيضين في ظاهر الأعمال، ولكنهما نقيضان لا يلبثان أن يتفقا ويتوحدا عند المنبع الأصيل، متى عرفنا كيف تنتهي الردة إليه

أما فهم الأنوثة على جملتها فمن الحق أن نذكر أن الأنوثة درجات، وأن لها أطواراً كثيرة بين الظهور والضمور. فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها كما يقال قديماً في معنى التعميم والشمول، أو ليست كل امرأة أنثى مائة في المائة كما يقول الأوربيون اليوم؛ بل ربما كانت فيها نوازع إلى الأنوثة ونوازع أخرى إلى الرجولة، وربما

ص: 4

كانت أنوثتها رهناً بقوة في الرجل الذي يظهرها لا يتشابه فيها جميع الرجال، وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة أو أقرب إلى الذكورة الغالبة، وهي العوارض التي كانت تحسب فيما مضى كلاماً من كلام المجاز، فأصبحت اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا وفصلاً مدروساً من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء

وبعد فالمرأة شخصية إنسانية لا تنحصر في لون واحد ولا يستغرقها الحس في علاقة واحدة

والمرأة صفات متعددة أو أدوار كثيرة تتمثل على مسرح النوع ومسرح المجتمع ومسرح الطبيعة والحياة

والمرأة أنوثة لا تستقر على حال بين الحدة والفتور وبين الظهور والضمور

فأي عجب أن تختلف وتتناقض في لحظة واحدة؟ إنما العجب أن تختلف البواعث والأسباب ولا تختلف الأعمال والآثار

ومع هذا كم يقول النساء عن تناقض الرجال ولا يخطئن المقال؟ كم يقلن إن الرجل (كالبحر المالح) لا يعرف له صفاء من هياج؟ وكم يقلن إن فلاناً كشهر أمشير لا تدري متى تهب فيه الأعاصير؟ وكم تقول إحداهن للأخرى: (حبيبك في ليلك، عقرب في ذيلك؟) وكم لهن من أمثال هذه الأمثال مما لا يحفل به الرجال؟

إنهن لا يعنين بمقاربة الرجل من طريق الفهم كما يعنين بمقاربته من طريق التأثير. ولو حاولن فهمه كما يحاولن التأثير فيه لخرجن به لغزاً من الألغاز وأعجوبة من أعاجيب البحار في قديم الأسفار.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحكم على الشعر

وأساليب النقد والتحليل

للدكتور محمد صبري

الشعر أعلى وأدق تعبير للحياة وقد وصفه أحد شعراء الإفرنج بأنه (لآلئ الفكر)، وهو يتصل بخياله وأوزانه بالتصوير والموسيقى اتصالاً وثيقاً، فلابد من الحس المرهف للحكم عليه، ولابد من (الذوق)، وقليلون جداً من يتذوقون الشعر و (يحسون نبو الوتر)، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد في كل عصر وفي كل جيل. ومهما كان من الأمر فإن التذوق درجات تتفاوت وتختلف باختلاف الأمزجة، والتمرس بالآداب المختلفة، والخبرة والاستعداد الشخصي. فالشاب المنعم الذي لا يعرف متاعب الحياة ويجهل حب البنين، ليس في مقدوره أن يحس لواعج الخزن وعولة الحياة في رثاء ابن الرومي أو الهذلي لبنيه، ولا يفرق بين غناء العود وأنينه، وهو لا يستمع إلا بأذن صماء إلى بكاء الطير في الدوح، ونحيب البلبل في الغاب، وحنين الجمال في البيداء

حنينها وما اشتكت لغوبا

يشهد أن قد فارقت حبيبا

إن الغريب يسعد الغريبا

والشعر في اعتقادي كالحبة التي أودعها الخالق قوة هائلة مركزة تركيزاً عجيباً مادياً وروحانياً؛ فمن الحبة تخرج الحياة، ومن حدودها الضئيلة تنبت وتتفرع وتنتشر الشجرة بظلها وجناها، فليس في مقدور كل أديب الإحساس بتلك (الهيولي) الساحرة الماثلة في بيت من الشعر. . . في غضون كلمات معدودات. . . وليس في مقدور كل إنسان أن يرى جمال الحقيقة وبهاءها، وفتنة الحياة وفجيعتها، وقوافل الإنسانية البائسة الصامتة المنكسة الرءوس والأعلام، وهي تطل من البيت والبيتين. . .

وقد بكى شعراء العرب أطلال المنازل التي كانت شاهد حبهم وحياتهم في عصر من عصورها، في لحظة من لحظات السعادة الزائلة، فلم يبك أحدهم الحياة في أوسع آفاقها وجناتها الخاوية مثلما بكاها البحتري وهو واقف (بين يدي الإيوان) وبين يدي الله. ولم يندب أحد بعد امرئ القيس الطلل البالي وسكونه. ووحشته بعد الأنس والحياة والحركة والضوضاء وبهجة الألوان، والوجوه والظلال والأشباح، كما ندبها البحتري في قوله:

ص: 6

تلك المنازل ما تمتع واقفا

بزها الشخوص ولا وغى الأصوات

ولأبي تمام بيت رائع من هذا القبيل كان يتغنى به المرحوم حافظ إبراهيم في غاب بولون، وقد صحبته إليها حين زار باريس:

لا أنت أنت ولا الديار ديار

خف الهوى وتقضت الأوطار

فهذا الشعر يمثل الحقيقة لأنه صادر عن وجدان صادق، وعاطفة وتجارب مرة، وقوة ملاحظة وتصوير ناطق، وقد امتاز امرئ القيس بحب الحقيقة وتصويرها في أبهتها وجلالها وروعتها فأصبح عاهل الشعر حقاً

ولا ريب أن أروع شعر أبي تمام هو الشعر الذي ترسم فيه الحقيقة، لا الشعر الذي ملأه بديعاً وتكلفاً، وإذا كانت أشهر مراثيه قصيدة:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر

فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

وفيها يقول:

تردى ثياب الموت حمراً فما دجى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر

فإن هناك قصيدة أخرى هي في اعتقادي أروع منها وأجل، وهي القصيدة التي رثى فيها ابنه، ووصفه وهو يتقلب على فراش الموت ويعاني آلامه:

أخر عهدي به صريعا

للموت بالداء مستكينا

إذا شكا غصة وكرباً

لاحظ أو راجع الأنينا

يدير في رجعه لسانا

يمنعه الموت أن يبينا

يشخص طوراً بناظريه

وتارة يطبق الجفونا

بُنَىّ يا واحد البنينا

غادرتني مفرداً حزينا

وقد ذكر شعراء العرب من جاهليين وإسلاميين الطبيعة في شعرهم، ولكن الجاهليين الذي كانوا يعيشون في البادية والفضاء الرحب، والماء والغاب والوهاد والنجاد والصخور والكثبان والسيول والأنهار، كانوا أصدق عاطفة في تصويرها من المولدين، لأن الآخرين ولعوا بالرياض والزهور ومظاهر الطبيعة (السطحية) المنمقة (كالوشي) و (التطريز)، أكثر من ولعهم بالرياح التي تهب، وقوى الطبيعة التي تزخر وتصخب، وتئن في أحنائها وأفيائها. . .

ص: 7

ولعل أكبر صلة تربط امرئ القيس بالإفرنج وتميزه على شعراء العرب كافة هي إحساسه العميق بالطبيعة، وإني وإن كنت قد بينت الصلات الأخرى نصاً وتصريحاً، فإني تركت هذه الصلة (صلة الطبيعة) تبدو (من تلقاء نفسها) شرحاً وتحليلاً، والواقع أن امرئ القيس موهبة من مواهب الطبيعة، يجب أن ندرسها ونتعلق بها تعلق الإنجليز بشكسبير وتراثه الخالد

وقد حصرنا إلى اليوم همنا في تنفير الناس من امرئ القيس، وحصر عبقريته في الاستعارات بين (بيضة الخدر) و (قيد الأوابد) و (السجنجل) و (العقنقل)، وتركنا جوهر الشعر اللامع الوضاء دفيناً تحت الرماد

وقد أبدع العقاد في تحليل شعر ابن الرومي، وكتب صفحات رائعات، وقد يكون لغيره في النقد والتحليل نفثات، وكل ما نرجوه أن نعمل جميعاً على إظهار مكنونات وكنوز الشعر العربي. وأحب هنا أن أذكر أن (كتابة) النقد والتحليل قد ترتفع إلى أعلى مراتب الكتابة والبيان، لأن شخصية الكاتب تتجلى فيها، وهذه الشخصية تبدو في غضون الكتاب لا في العنوان. والشخصية تشمل المزاج وقوة التصوير والقدرة البيانية وتجارب الحياة، وهي كلها ذات أوشاج وصلات مع شعر الشاعر وحياته

وهذا (سانت بيف) أكبر ناقد فرنسي بدأ حياته بالشعر ثم أرصدها للنقد، فساعده خياله وأدبه وسعة اطلاعه على فهم الشعر والمجتمع، وصار الناقد في عبقريته لا يقل عن أكبر شاعر، كما أن (بول بورجيه)، وهو من خيرة الروائيين الذين حللوا الحب والحياة، ساعدته قوة تحليله وفلسفته على كتابة صفحات في نقد الشعراء المعاصرين هي آية في الفلسفة التحليلية، واختراق الستار الذي يحجب الحياة والمجتمع في شعر الشاعر، وقد تمكن كل منهما من إظهار تلك الأشعة الدقيقة التي تحيط بجوهر الشعر والفكر والخيال

محمد صبري

ص: 8

‌اللغة. . . والوطن.

. .

للأستاذ دريني خشبة

يوشك الداء الوبيل الذي تفشى في أفريقيا الشمالية، ولا سيما في تونس والجزائر، أن يتفشى على الصورة نفسها في سوريا ولبنان. وها نحن أولاء نرى جراثيمه في دور الحضانة في مصر. . .

يوشك هذا الداء الوبيل الذي زعزع أركان اللغة العربية في تونس والجزائر، أن يزعزع أركان هذه اللغة في سوريا ولبنان، لأن العلية من إخواننا السوريين واللبنانيين يعدون اللغة الأصلية التي يأخذون بها أنفسهم وأبناءهم منذ الطفولة هي اللغة الفرنسية، فهم يحلونها محل العربية في مدارسهم ومعاملاتهم وأحاديثهم، وبالتالي فهم يفكرون بها، ويمزجون بها دماءهم، ويملأون بها أحلامهم، ويقومون بها ألسنة أطفالهم، حتى ليستطيع الطفل السوري أو اللبناني أن يحاورك بالفرنسية في سهولة ويسر، في حين أنه يعجز عن فهمك ومبادلتك الحديث إذا قصرت المخاطبة على اللغة العربية

ويجب قبل كل شئ أن تشغلنا هذه القضية عن كل تأويل يصح أن يؤول به الدافع الذي حدا بنا إلى الكتابة في هذا الموضوع الذي عزمنا على الخوض فيه عقب دعوة جمعت بين أسرتنا المصرية وبين أسرة سورية كريمة عرف اثنان منها على الأقل، في العالم العربي كله برسوخ القدم في الفكر والأدب والاجتماع ومنهما إحدى زعيمات النهضة النسائية العربية في الشرق الأدنى. فلقد هالني أن أرى السيدة النبيلة تخاطب أطفالها بالفرنسية فيجيبوها في انطلاق عجيب أكد لي أن هؤلاء الأطفال قد ثقفوا الفرنسية قبل أن يشدوا العربية. . . وهذه هي القضية التي أطرحها أمام القراء اليوم، وأمام الرأي العربي العام في جميع الشعوب العربية، لما فيها من الخطر الجسيم الذي نستهين به أول الأمر، ثم لا يلبث أن يجتاح كل مقوماتنا من لغة ودين وعادات ووطنية، ثم يؤدي آخر الأمر إلى الانسلاخ من الشرق، والضياع بين الأمم؛ لأننا مهما أتقنا الفرنسية فلن نصبح فرنسيين، ومهما استبدلنا الإنجليزية بالعربية فلن نكون من الإنجليز ولا كالإنجليز، ولن نجني على أنفسنا إلا شراً مستطيراً وبلاء كبيراً كهذا الشر وذاك البلاء اللذين تغص بهما تونس والجزائر اليوم

ص: 9

وأنا إن كنت أخص سوريا ولبنان بالذكر فلست أصدر في ذلك إلا عن هذه المحبة التي أكنها ويكنها كل شرقي مخلص لهذين القطرين الشقيقين اللذين كانا في عصر مجيد من عصور هذا التاريخ العربي، كعبة اللغة العربية ومحور الثقافة العربية، وقطب الرحى في الشعر العربي، عنهما تأخذ كل الأقطار العربية، وإليهما تهفو قلوب العرب، وفيهما يخفق القلب العربي بالحكمة والسياسة والشعر والنثر والرواية والقصة وعلوم الشريعة وما إلى ذلك كله من الأمجاد العربية. . .

1 -

وبعد. . . فما الدافع يا ترى إلى تمسك الآباء والأمهات في هذين القطرين العزيزين بتعليم أطفالهم الفرنسية قبل أن يثقفوا العربية؟ هل هو هذا الاستعلاء السخيف الذي تأخذ به أسر مصرية كثيرة، والذي مظهره عدول هذه الأسر بأطفالها عن المدارس المصرية إلى المدارس الأجنبية التي ما فتحت أبوابها في مصر والشرق إلا للاعتداء الصريح على قومياتنا وأدياننا ولغتنا واستقلالنا وكراماتنا؟ أو هو سبب اقتصادي يتعلق بمستقبل هؤلاء الأطفال في أوطاننا التي يغزوها الاقتصاد الأجنبي غزواً يريد اليوم أن يتحكم في وسائل التعليم كما حاول من قبل أن يتحكم في كل شئ آخر؟! أو هو قصر نظر منا نحن الشرقيين حين تبهرنا بهارج الغرب الزائفة، فنقع كالفراشة في نارها دون وعي ولا تدبر ولا تفكير؟

اللهم إن كان السبب هو الاستعلاء الذميم عن أن يبدأ أطفالنا التعلم باللغة العربية لا لشيء إلا أنها لغة عربية. . . وما يتصوره التعساء منا من أنها لغة الفقراء، أو لغة الطبقة الثالثة، فلشد ما نرتكب بهذا التصرف الخيانة الوطنية العظمى ضد وطننا وضد الشرق وضد العروبة

أما إن كان هو السبب الاقتصادي فيما يتعلق بمستقبل الأطفال في ذاك الوسط الذي يغزوه الاقتصاد الأجنبي، فعلاجه شئ آخر ليس هو البدء بتعليمهم اللغة الأجنبية قبل أن يثقفوا لغة بلادهم الأصلية

أما إن كان قصر نظر منا معاشر الشرقيين، فعلاج ذلك إعلان الحرب عليه، والأخذ بسياسة جديدة في تعلم اللغات الأجنبية

2 -

ولعل انتشار مدارس البعثات الدينية هو أكبر الوسائل التي أدت إلى إهمال اللغة العربية كأداة أساسية من أدوات التعليم، إذ تعلم معظم المواد، بل كلها، في تلك المدارس

ص: 10

بلغة أجنبية، ومن هنا تنقطع الصلة بين الطفل وبين لغة بلاده، بل بينه وبين بلاده، ووطنيته، ودينه؛ ومن هنا أيضاً استخفاف الطفل، حين يصبح رجلاً، والفتاة، حين تصبح أما، بالشرق، وباللغة العربية، وبما يتصل بالشرق وباللغة العربية من ثقافة وعادات ودين. ومن هنا أيضاً نظرة المتعلمين من هذا الطراز إلى إخوانهم الشرقيين على أنهم برابرة متوحشون. ومن هنا أيضاً عداؤهم المر للغة العربية وثقافة اللغة العربية ولكل ما له صلة بالعرب. والعجيب في أمرنا أننا نقبل على التعلم في تلك المدارس إقبالاً شديداً، ونحن نقبل ذلك الإقبال الشديد لسببين، أولهما أننا لا نجد من المدارس الوطنية ما يقوم بمهمة تعليم أطفالنا، والسبب الثاني هو هذا اللألاء الكاذب الذي نضفيه على تلك المدارس الأجنبية، والذي لا تستحق منه إلا ما يعدل أغراض تأسيسها التي أشرنا إليها

3 -

وقد كانت النتيجة الأولى لهذا البلاء أن نشأ أبناؤنا الذين تعلموا في هذه المدارس وهم أضعف ما يكونون في اللغة العربية، فهم يخطئون في نحوها، ويخطئون في التعبير بها، وإذا كتبوا بها رأيتهم يكتبون كلاماً عربياً في مظهره سبقه تفكير بلغة أجنبية؛ وهنا يبدو الشذوذ في التراكيب، وتشيع الركاكة في الأساليب، ويلتوي الفهم، وتعتاص على القارئ متابعة الكاتب، فيزور عنه، ويضيق به، ثم يطويه وفي نفسه من الهم والحسرة على اللغة العربية ما فيها

وإذا قلت إن آثار ذلك بادية مع الأسف الشديد في كثير من أقلام الصحافة اللبنانية والسورية فإنما أقوله ولا أقصد مطلقاً أن أعيد إلى الأذهان هذا الحديث السخيف عن الزعامة الأدبية بين لبنان ومصر. . . إنما أقوله وبنفسي من المحبة للبنان ولسوريا ما لا يقل عن محبة اللبنانيين والسوريين بلادهم التي نفتديها بالمهج، وأقوله لأن قضية اللغة العربية هي قضيتنا جميعاً، وقد قدمت أن هذا الداء الذي يوشك أن يزعزع أركان اللغة العربية في لبنان وفي سوريا قد بدأت جراثيمه دور حضانتها في مصر، فكثير من الأسر المصرية تتخاطب فيما بينها بالفرنسية من غير ما ضرورة تلجئهم إلى ذلك إلا الاستعلاء الذميم على أشرف لغات الأرض والسموات! وقد تعلم أبناء هذه الأسر في مدارس تشبه المدارس المنتشرة في سورية وفي لبنان

4 -

ولعل جريرة ذلك تقع على كاهل الحكومات العربية بقدر ما تقع على كاهل الشعوب

ص: 11

العربية نفسها، فتقصير الحكومات في فتح المدارس الوطنية، ولا سيما للبنات، هو الذي ألجأ الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس الأجنبية، وقدر زاد الطين بلة ترك الحرية لهذه المدارس كاملة في اختيار طرق التدريس ووضع المناهج وتكييف التلاميذ فيها حسب ما تشتهي! ولعل الذي كان يحدث في هذه المدارس في مصر إلى عهد قريب جداً من تدريس جغرافية فرنسا وتاريخها لصغار الأطفال المصريين، وإهمال التاريخ المصري والجغرافية المصرية هو نفسه الذي كان يحدث في مثل تلك المدارس بلبنان وسوريا، بل لعله لا يزال قائماً فيها إلى اليوم!

أما نصيب الأهالي من تلك الجريرة فهو انخداعهم في أمر تلك المدارس وإقبالهم عليها ذلك الإقبال الشديد بدافع من العوامل التي أشرنا إليها. ولعل نصيب العهد التركي من هذه الجريرة، والامتيازات الجنونية التي كان يمنحها في سفه هو أسود الأنصبة الثلاثة جميعاً

5 -

على أننا خليقون ألا نفقد الأمل في علاج هذا الشر وحسمه قبل أن يستشري بالصورة التي استشرى بها في تونس والجزائر، فعلى الحكومات العربية واجب إنشاء المدارس التي تضارع تلك المدارس الأجنبية عظمة بناءٍ وفخامة مظهر، وعليها أن تنشئ المدارس الراقية في كل مدينة وقرية لتعليم الفتاة، وعليها أن تتولى هي أمر تعليم اللغات الأجنبية التي لا غناء عنها لنهضة الشرق، على أن تتفق فيما بينها على ألا يتعلم الطفل أية لغة أجنبية إلا إذا تجاوز العاشرة أو الثانية عشرة من عمره، أي بعد أن يدرس لغته ويثقفها ويمرن لسانه بها، وليستطيع أن يفهم بها شئون الحياة. وإلى أن يتم ذلك فواجب الحكومات العربية الإشراف على التعليم في تلك المدارس الأجنبية، فلا تسمح بتدريس أية مادة بها بغير اللغة العربية لصغار التلاميذ، أي قبل الثانية عشرة، وجواز تدريس مادة واحدة بلغة أجنبية بعد ذلك، بقصد تمكين التلاميذ من تلك اللغة، كما يجب ألا تقل الحصص المقررة للغة العربية عن حصص اللغة الأجنبية. أما واجب الشعوب العربية فهي أكرم من أن تنبه إليه

تلك كلمة مخلصة بريئة في تلك القضية أدعها تحت أنظار ولاة الأمور في البلاد العربية راجياً أن تشترك فيها أقلام كثيرة

دريني خشبة

ص: 12

‌أطوار الوحدة العربية

القضية العربية

في المرحلة الحاسمة

فضل مصر على بلاد العرب

للأستاذ نسيب سعيد

لقد مضى زمن غير يسير انقطعنا فيه عن التحدث إلى القراء عن أطوار الوحدة العربية، وتركنا ذلك البحث القومي الذي بدأناه في العام المنصرم لأسباب قاهرة وهي سفرنا إلى الجزيرة في أقصى تخوم بلاد العرب مما سنتحدث عنه في المستقبل

ولابد لي من القول قبل مواصلة حديثي الماضي عن تاريخ الوحدة العربية من أن أستعرض في هذا المقال التطور الرائع والخطوات السريعة التي خطتها القضية العربية في هذه الأيام القليلة مما يبشر بمستقبل لامع لبلاد العرب، وبأمل باسم لأبناء العروبة، يعيدون به مجدهم التالد، وعزهم الخالد، وأرى لزاماً على أيضاً أن أسجل هنا بكل فخر وإعجاب للذكرى والتاريخ، فضل مصر العظيم على هذا التطور السريع الذي تجتازه القضية العربية في هذا الدور الخطير، فكلما كان لعزيز مصر محمد علي باشا الكبير الأثر البارز في بعث الفكرة العربية، والوعي القومي العربي، واليقظة الوطنية في بلاد العرب حينما حلم بتأسيس إمبراطورية كبرى تضم شتات هذا الشرق العربي، فكذلك قام اليوم رئيس حكومة مصر صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا يدعو لهذه الوحدة، ويعمل لها، ويسعى في سبيل تحقيقها ليل نهار، بدون كلل ولا ملل ليخرجها من الفكرة إلى الواقع، ومن الحلم إلى الحقيقة، بل قل من الظلمات إلى النور

وقد قام لأجل ذلك بمشاورات الوحدة العربية مع سائر دول العرب المستقلة واجتمع إلى أقطاب هذه الدول ورجال حكوماتها المسئولين، واستمع إلى آرائهم في جمع شمل العرب، ولم شعثهم، وضمهم في منظومة دولية واحدة. وكان أول من دعى إلى هذه المشاورات رئيس الحكومة العراقية نوري باشا السعيد في أول مايو عام 1943 ثم دعى رئيس الحكومة الأردنية واستقبل بعد ذلك الوفد السعودي، ثم الوفد السوري، وتلاه الوفد اللبناني،

ص: 14

ثم اليماني. مما سنتحدث عنه مفصلاً

وإني لمن المؤمنين بأن التاريخ العربي، سيسجل بأحرف من نور على صحائف غر، هذه اليد البيضاء التي تسديها مصر العظيمة إلى القضية العربية، وهذا السعي الحثيث في سبيل وحدة العرب، تلك الوحدة التي فيها سعادتهم ورفع شانهم بين الدول فتعيد مجدهم وعزهم، وتفتح أمامهم آفاقاً جديدة، أبواباً واسعة للتقدم والرقي، فيد الله مع الجماعة وفي الاتحاد قوة، وفي التفرق ضعف ووهن

وليس أدل على عمل مصر وجهادها في هذا السبيل، من ذلك البيان الخطير الذي أذاعه رفعة النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية على العالم في شهر فبراير سنة 1943 قبل البدء بمشاورات الوحدة على الدول العربية، وألقاه في مجلس الشيوخ المصري وزير العدل الأستاذ محمد صبري أبو علم باشا باسم رفعته رداً على سؤالين وجها إليه بشأن موقف مصر من الوحدة العربية. وإني لناشر هذا للبيان الخطير في مجلة الرسالة اليوم بكامله، لأنه ولا شك صفحة لامعة لمصر الخالدة، في التاريخ العربي. قال رفعة الرئيس الجليل: (إنني معنى من قديم بأحوال الأمم العربية، والمعاونة على تحقق آمالها في الحرية والاستقلال، سواء في ذلك أكنت في الحكم أم خارج الحكم، وقد خطوت إلى ذلك خطوات واسعة صادفها التوفيق، فاتجه نظام الحكم في بعض الأقطار العربية الاتجاه الشعبي الصحيح

ومنذ أعلن المستر إيدن تصريحه فكرت فيه طويلاً، ولقد رأيت أن الطريقة المثلى التي يمكن أن توصل إلى غاية مرضية هي أن تتناول هذا الموضوع الحكومات العربية الرسمية، وانتهت من دراستي إلى أنه يحسن بالحكومة المصرية أن تبادر باتخاذ خطوات رسمية في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل على حدتها ثم تبذل جهودها للتوفيق والتقريب بين آرائها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ثم تدعوهم بعد ذلك إلى مصر معاً في اجتماع ودي لهذا الغرض حتى يبدأ المسعى للوحدة العربية لوجهة متحدة بالفعل، فإذا ما تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر برئاسة رئيس الحكومة المصرية لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققاً للأغراض التي تنشدها الأمم العربية

ص: 15

هذه خير السبل للسير بالموضوع سيراً يكفل له النجاح ويضمن التوفيق

والواقع أن رفعته قام بعد ذلك بمشاورات الوحدة مع سائر الدول العربية المستقلة لأجل خير العرب وتحقيق أمانيهم.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا القول أن مصر تولت بحق زعامة القضية العربية فرعتها باهتمام وقوة، وأن هذه المشاورات للوحدة التي قام بها زعيم العرب الأكبر رفعة النحاس باشا الذي تخطت جهوده الآفاق الإقليمية الضيقة إلى الوطن العربي الكبير هي خير وسيلة للوحدة، والنحاس باشا بما يكنه قلبه من الإخلاص لفكرة العروبة والإيمان بالقضية العربية، يعتبر خير من يقوم بتوجيهها الوجهة الصحيحة التي ستنمو وتزدهر وتتطور مع الزمن تطوراً يؤدي إلى تحقيق الأمل المنشود والأماني العذبة التي ينتظرها العالم العربي بأجمعه

على أن هذا الدور الذي يقوم به رفعة الرئيس المصري كجندي أمين في تطور الوحدة العربية واتجاهاتها، وانتقالها من الطور التجريبي الذي سارت فيه متعثرة متلكئة مدة ربع قرن، إلى الدور الإنشائي الإيجابي الصحيح المثمر المستند إلى حقائق التاريخ والواقع والمنطق، والذي يمكن أن تقبله عقول الأجانب ويستقر في أعماق نفوسهم ويشعرون معه بالسرور بالتسليم بحق العرب في التضامن والتآزر والتكتل والتعاون، نقول إن هذا الدور الذي يقوم به الرئيس المصري له أثره لا في بلاد العرب فحسب بل في العالم الشرقي بأجمعه. ولمصر الفضل الكبير بالدعوة إلى الوحدة العربية دعوة عملية. وقد نشر النحاس باشا بعمله هذا صفحة جديدة لامعة ستجعل البلاد العربية في وقت قريب بلاداً واحدة تخضع لنظام واحد، وتشريع واحد، وتنسجم فيها المناهج الثقافية، والأساليب الاقتصادية، وقد خلقتها الطبيعة موحدة فيأبى العقل والتفكير أن تكون هذه الحواجز الضيقة الوهمية التي فصلت بين أجزائها

وليس من شك في أن مصر الخالدة ستقود العالم العربي في تطوره السياسي العتيد، خلال المرحلة الجديدة فتسير في طليعة الشعوب العربية وتكون واسطة عقدها، وقطب رحاها، فتؤلف بينها وتقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها في الجامعة العربية، ولا غرو فإن مركز مصر الجغرافي، ومقامها الثقافي والاقتصادي ومكانتها العلمية الممتازة تضمن لها هذا التفوق وهذه الزعامة الصحيحة، فهي من الناحية الواحدة واقعة في وسط بلاد العرب،

ص: 16

فالشام والحجاز واليمن والعراق ونحن وجميع هذه الأقطار تقع في شرقي مصر، كما تقع برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش في غربها، والسودان يقع في جنوبها؛ وتقوم سواحلها على البحرين الأحمر والأبيض، وللعرب فيهما أوسع المصالح وأكبرها، ثم إن لها مقاماً علمياً وثقافياً وأدبياً لا يجاري ولا ينافس، كل ذلك يجعل مصر زعيمة العرب، فتقود شعوب الشرق العربي إلى المثل العليا

وأجد نفسي قد أطلت القول، لذلك أرى أن خير ما أختم به حديثي اليوم هو أن أنقل إلى القراء خلاصة وجيزة عن مقال لجريدة التيمس الكبرى عن أطوار الوحدة العربية قالت:(إن تجدد المساعي لتحقيق الوحدة العربية بما يجري في هذه الآونة من مباحثات جدية بين حكومات الشرق العربي ليس في الواقع إلا ترديداً لصدى التصريح الذي أدلى به المستر إيدن في (مانشان هاوس) بشهر مايو عام 1941 وقطع فيه عهداً بتأييد أي مشروع يظفر بالاتفاق التام ويرمي إلى تعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية والسياسية بين الدول العربية

وليس هنالك ما يحول دون تحقق مشروع الاتحاد العربي إذا استطاع العرب تسوية المسائل التي تعترض سبيلهم، ولاسيما وإن المشروع يتألف من أقطار تجمع بينها روابط تاريخية وجغرافية وجنسية ولغوية، ولم تفقد هذه الأقطار في الماضي روابطها واتصالها برغم الصحاري البعيدة التي تفصل بينها. وقد زاد تقاربها وقويت صلاتها بعد ظهور السيارة، وأصبحت الصحراء كالبحر تجتازها السيارات دون مخاطرة) هذا ما يقوله الأجانب عنا، وسنتحدث في الأسبوع المقبل عن مشاورات الوحدة العربية مع العراق

(دمشق)

نسيب سعيد

المحامي

ص: 17

‌محاورات الموتى

المحاورة الرابعة

للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل

بقلم الأديب يوسف روشا

سقراط ومونتين

سقراط: ولد في أثينا حوالي 470 قبل المسيح وأشهر تلاميذه أفلاطون وإكزانفوف وألسيبيادس. ولقد هاجمه أرسطوفان هجوما عنيفا وسخر منه في قصته (السحاب). اتهم ظلماً في سنة 399ق. م بإفساد الشبيبة بتعاليمه وقدم للمحاكمة فدافع عن نفسه بخطبة شهيرة أحنقت القضاة فحكموا عليه بالموت

مونتين: أديب فرنسي شهير ولد سنة 1533 ميلادية، وقد اشتهر بمقالاته التي تناول فيها رجالات المجتمع في عصره بالدرس والتمحيص. وإنك لتجد آراءه وتأثيره بأدبه في أغلب كتاب فرنسا في العصرين السابع عشر والثامن عشر. على أن تأثيره لم يقتصر على فرنسا بل تعداها إلى إنجلترا، حيث تأثر به الكاتبان الإنجليزيان (شكسبير) و (بيكن)

المحاورة

مونتين: أأنت سقراط النبيل؟ ما أسرني بلقائك! لم يمض على قدومي هذه المدينة غير يسير، ومنذ قدمت ما برحت أبحث عنك. وأخيراً، وبعد أن ملأت كتابي باسمك وبالثناء عليك أستطيع أن أتكلم الآن معك وجهاً لوجه لأعرف شيئاً عن تلك الفضيلة الساذجة التي اتصفت بها والتي لا نظير لها حتى في ذلك العصر السعيد الذي عشت أنا فيه

سقراط: يسرني جداً أن أرى شبحاً كان فيما يظهر فيلسوفا. ولما كنت قد هبطت إلينا منذ قريب ولم أجتمع بأحد هنا منذ بعيد، لأني أعيش في عزلة تقريباً؛ فهل تسمح لي أن أسألك. كيف حال العالم؟ هل تغير؟

مونتين: لقد تغير العالم إلى حد أنك لا تعرفه إذا عدت إليه

سقراط: أنا مغتبط بهذا جداً. لقد كنت على يقين دائم بأن من الحتم أن يصبح عالمكم أحسن وأعقل من عالمي الذي عشت فيه

ص: 18

مونتين: ماذا تعني؟ لقد أصبح العالم أحمق وأفسد مما كان عليه من قبل. ذلك هو التغير الذي إياه عنيت وإليه قصدت. وإني كنت منتظراً أن أسمع منك وصف العالم الذي عشت فيه وعاصرته وكان يسود فيه العدل والاستقامة

سقراط: وأنا أيضاً كنت منتظراً منك أن تصف لي عجائب العصر الذي عشت فيه وصفاً شاملاً. يا للداهية الدهياء! أحق أن الناس لم يقلعوا حتى الآن عن تلك الحماقات التي كانت سائدة في قديم الزمان؟

مونتين: يغلب على ظني أن انتسابك لذلك العهد هو السبب في احتقارك إياه وتصغيرك من شأنه. ولكني أعلمك أن ضياع تلك العادات والأخلاق لمما يبعث الأسى والأسف، ذلك أن الأمور تزداد سوءاً يوما بعد يوم

سقراط: أممكن هذا؟ إن الأمور في زماني كانت تبدو لي سيئة جداً؛ ولكن لم يساورني شك في أنها ستتحسن على تعاقب الأجيال، وأن الناس سينتفعون من تجاريب هذه السنين الطويلة

مونتين: أينتفع الناس حقاً من تجاربهم؟ إنهم لا يختلفون عن الطيور التي تقع دائماً في الأشراك التي وقع فيها مئات الألوف من جنسهم قبلهم. كل امرئ يدخل الحياة مستقلاً، فلا يستفيد الأبناء حماقات الآباء

سقراط: ماذا لم يكن هناك من تجارب يستفيد منها الناس. وكنت أظن أن سيكون للعالم شيخوخة أقل سخفاً وعناداً من شبيبته

مونتين: الناس في أي زمان شئت تحفزهم نفس الميول والأهواء التي لا سلطان للعقل عليها، وحيثما كان الناس كان الطيش والحمق اللذان لا يتغيران أبدا

سقراط: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تتصور أن الأقدمين كانوا خيراً من المحدثين؟

مونتين: تلك طريقتك التي انفردت بها يا سقراط والتي أعرفها جيداً. . . طريقة في المحاورة والمداورة بارعة تشوش بها مناظريك وتقودهم إلى حيث شئت. وإني لأعترف بأني قد رأيت هنا رأياً يخالف ما كنت رأيت من قبل ولكني مع هذا لن أسلم لك لأن رجالاً ذوي حزم وعزم وثبات كأرستيد وفوسيون وبركليس ولا سيما سقراط لا تجد لهم نظراء اليوم

ص: 19

سقراط: ولماذا؟ وهل استنفدت الطبيعة قواها ولم يعد في إمكانها أن تخرج رجالاً عظاماً؟ ولماذا يصيبها العقم فيما عدا ذلك؟ لم ينحط عمل من سائر أعمال الطبيعة فلماذا قدر للرجال وحدهم أن ينحطوا؟

مونتين: يبدو لي أن الطبيعة في بداية أمرها أخرجت لنا نماذج من الرجال الممتازين لتقنعنا بأنها تعرف جيداً كيف تخلقهم إن هي أرادت ذلك ثم أهملت فيما بعد شأن الباقين فانحطوا وتدهوروا

سقراط: كن على حذر من هذه، الناحية فلا تشتط. إن القديم في ذاته شئ فريد؛ وإن تقادم العهد يضفي عليه شيئاً من الروعة. ولو قدر لك أن تعرف أرستيد وفوسيون وبركليس وتعرفني، ما دمت تحب أن تعدني منهم، لوجدت في زمانك رجالاً يماثلوننا. ولكننا عادة نميل إلى القديم ونتعصب له لأننا نكره زماننا ونمقته. فنحن نعظم القدماء لنحط من قدر المحدثين. ولقد كنا في زماننا نذهب في تقدير أسلافنا إلى أبعد حدود الغلو والإسراف، واليوم يمجدنا أحفادنا أكثر مما نستحق ولهم كل الحق. وأكبر ظني أن النظر إلى العالم من ناحية واحدة خليق أن يبعث في نفوسنا السأم؛ لأن العالم لا يتغير ولا يتبدل

مونتين: لقد كان يخيل إلي أن كل شئ في العالم يتغير وأن لكل جيل طابعه الخاص الذي يتميز به، وذلك كالناس، فهناك أجيال اشتهرت بالعلم وأخرى بالجهل. أفلا يوجد ثمة أجيال كان طابعها الجد وأخرى كان طابعها الهزل؟

سقراط: بلى

مونتين: إذن ما هو المانع من أن يكون هناك أجيال أكثر صلاحاً وأخرى أكثر طلاحاً من غيرها؟

سقراط: ذلك لا يطرد ولا يستقيم مع ما نحن بصدده. فالملابس تتغير بتغير الأزياء ولكن ذلك لا يعني أن شكل الجسم يتغير أيضاً. فالدماثة أو الخشونة، والعلم أو الجهل، والجد أو العبث، ليست إلا مظاهر خارجية للرجل وكلها تتغير، ولكن القلب لا يتغير، وما الرجل إلا قلبه. فقد يشيع الجهل في جيل ما ثم تعقبه نهضة علمية فتحل محله. ولكن الأنانية لن تزول من العالم مهما بذلنا في سبيلها من جهد، ذلك لأنها تصدر عن القلب. وأن من بين ملايين الرجال الضعاف القلوب لا تجود الطبيعة في كل مائة عام إلا بعشرين أو ثلاثين

ص: 20

من الرجال الواسعى العقول، الكبيري القلوب، فتضطر إلى توزيعهم على جميع أنحاء العالم. ومن هذا تستطيع أن تحكم بأنه لا يمكن أن يوجد منهم في أي مكان عدد لنشر بذور الفضيلة والعدالة

مونتين: ولكن هل روعي العدل في توزيع هؤلاء الرجال العقلاء النوابغ؟ ألم يكن نصيب بعض الأجيال منهم أوفر من نصيب البعض الآخر؟

سقراط: قد يكون هناك بعض الاختلاف؛ ولكن الطبيعة على العموم تبدو منتظمة متسقة.

(بغداد)

يوسف روشا

ص: 21

‌منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها

للأستاذ سعيد الديوه جي

(تتمة)

(ج) الاعتقاد بيزيد وعدي

ولليزيدية آلهة أخرى غير الآلهة السبعة الذين ذكرناهم؛ فهم يؤلهون (يزيد بن معاوية) ويعتقدون أن معاوية تزوج من امرأة ولدت إلههم (يزيد) وهذا نتج عن الغلو في حب يزيد كما مر الكلام عن هذا، ولكننا لا نجد عملاً لهذه الإله في الدنيا والآخرة سوى أنه تسلم السناجق (الأعلام) السبعة من سليمان الحكيم وسلمها للأمة لليزيدية، وهذه السناجق محفوظة عندهم. وفي مصحف رش يسميه (يزيد البربري) في موضع واحد

والإله الثاني هو (الشيخ عدي) ويسمونه (الشيخ عادي) وتأليهه كان من نتيجة المغالاة في حبه حتى صار إلهاً يعبد. ويدعون أنه ذهب إلى مكة مع (الشيخ عبد القادر الكيلاني) ومكث هناك أربع سنين ظهر لهم خلالها (طاووس ملك) وادعى أنه (الشيخ عدي) علمهم بعض الأمور الدينية وحذرهم إذا جاء غيره وادعى أنه (الشيخ عدي) أن يرفضوه. فلما رجع الشيخ عدي رفضوه ورذلوه فمات حزيناً

ثم ظهر لهم (طاووس ملك) وأخبرهم بحقيقة الأمر فندموا على ما فعلوا ودفنوه في زاويته (بجبل لالش) وجعلوا قبره حجاً لهم

وبعضهم يدعى أن (عدياً) وزيراً لله أو مشيراً أو هو مشارك له أو أن حكم السماء بيد الله وحكم الأرض بيد (الشيخ عدي). وربما كان ما يملكه (عدي) أكثر مما يملكه الله جل وعلا، ومن ذلك أن الله زار الشيخ (عدياً) في (لالش)؛ فقام بحق ضيافته خير قيام. ثم زار (الشيخ عدي) الله في السماء فذهب هو وأتباعه ومزيدوه؛ ولما حلوا في السماء لم يكن عند الله علف لخيولهم، فأمر الشيخ أتباعه أن يذهبوا إلى بيادره في (لالش) ويأتوا منها بالعلف، ففعلوا وسقط التبن في السماء، فكان منه (المجرة)، ويسمونها (درب التبانة) إلى غير ذلك من الحكايات. وبينما يدعون أن (الشيخ عدياً) هو مشارك لله في الحكم لا نجد له تصرفاً في هذا العالم أو نفوذاً أو سلطة سوى: أنه في الآخرة يضع الأمة اليزيدية في طبق

ص: 22

ويحملهم على رأسه ويدخل بهم الجنة، بينما تعاني بقية الطوائف أهوال الموقف والحساب. وزيارة قبره فرض على كل يزيدي. وجبل (لالش) الذي به قبره أفضل من مكة والقدس. وزمن حجهم إلى هذا الجبل وزيارة قبر (الشيخ عدي) هو من اليوم الخامس عشر من شهر أيلول إلى اليوم العشرين منه. ومن تمكن من زيارته ولم يزره فهو كافر

3 -

ويعتقد اليزيدية أنه سيظهر نبي من العجم في آخر الزمان ينسخ الأديان جميعها ويؤيد عقائد اليزيدية. وهذه العقيدة تسربت إليهم من إحدى فرق الخوارج وهم (اليزيدية) أتباع (يزيد بن أبي أنيسة الخارجي) فإنه كان يدعى هذا

4 -

واليزيدية يقرءون القرآن، ولكنهم لا يصومون ولا يصلون ولا يرون أنفسهم مكلفين بهذه القيود؛ فهم يصومون ثلاثة أيام من الصباح إلى المساء من شهر كانون الأول الشرقي. جاء في مصحف رش:(أما الصوم والصلاة فإن الله لا يشابههما لكن يريد الخير وفعل الصدقة)، وهم يعتقدون أن الشيخ (عدياً) أفضل من محمد ومن سائر الأنبياء؛ بل هو وزير لله أو شريكه - كما مر - وهذه العقائد مشابهة لعقائد (البابكية) الذين يزعمون أن (شرون) أفضل من (محمد) ومن سائر الأنبياء. وقد بنوا في جبلهم مساجد للمسلمين يؤذن فيها المسلمون وهم يعلمون أولادهم القرآن. لا يصلون في السر ولا يصومون شهر رمضان

5 -

الحلول: مذهب الحلول وتناسخ الأرواح قديم اعتنقه كثير من الأقوام الوثنية، وكان منتشراً في فارس بكثرة. واليزيدية يعتقدون به. وقد جاء في الفصل الثاني من كتابهم (الجلوة):(لا أسمح لأحد بأن يسكن في هذه الدنيا أكثر من الزمن الذي حددته له وإن شئت أرسلته مرة أخرى ثانياً وثالثاً إلى هذا العالم أو إلى غيره بتناسخ الأرواح)

وهم يعتقدون أن روح (منصور الحلاج) حلت في أخته. وذلك أنه بعد أن قتله الخليفة (المقتدر) وأحرق جثته ورماها في النهر جاءت أخته لتملأ جرتها فدخلت الروح فيها. ولما شربت أخته حلت روحه بها فحملت وولدت ولداً كان أخاها وابنها. ولما رمى رأس (منصور الحلاج) في النهر سمع له صوت كالهدير، ولهذا فإن اليزيدية لا يشربون الماء من الأكواز الضيقة الأفواه، لأن صوت الماء أثناء خروجه منها يشبه هدير الماء عند رمى رأس منصور الحلاج في النهر

ومنصور الحلاج فارسي رحل إلى بغداد وأظهر الزهد والعبادة، والناس في أمره مختلفون؛

ص: 23

فمنهم من ادعى كفره ومنهم من رأى أن لكلامه ظاهراً وباطناً

وقد ثبت كفره في مجلس عقده الخليفة وحوكم واعترف بذلك، فحكم عليه بالإعدام. وأثناء تنفيذ الإعدام صرح بأن روحه ستحل في غيره ولذلك يدعى أتباعه بأنه لم يمت وأن روحه تنتقل بالتناسخ. وانتقلت هذه الفكرة من أتباع منصور الحلاج) إلى اليزيدية

6 -

ويعتقدون أن الله خلق جهنم على عهد آدم الأول في الوقت الذي ولد ابنه (إبريق شعوتا) وابتلى الله هذا الولد بالدمامل الكثيرة في جميع جسده فأخذ يبكي ويجمع دموعه سبع سنين حتى امتلأ الإبريق فصبه على نار جهنم وطفأها وخلص الأمة (اليزيدية). وهذه العقيدة مبنية على أساس العقيدة المسيحية وهي أن (المسيح) تحمل آلام الصلب ليكفر عن خطيئة البشر. وكذا (إبريق شعوثا) تحمل آلام الدمامل ليطفئ نار جهنم ويخلص اليزيدية منها

وهم يعمدون أولادهم كالمسيحين، ويختنونهم كالمسلمين، ويسجدون للشمس والقمر كالوثنيين وغير ذلك

هذه هي أهم عقائد اليزيدية وقفنا عليها من الكتب الإسلامية ومن كتابيهم المقدسين (الحلوة) و (مصحف رش). ولهم معتقدات أخرى كثيرة مبنية على أساطير وخرافات أكثرها إسرائيلية سنعرض لها في بحث آخر

(الموصل)

سعيد الديوه جي

ص: 24

‌القضايا الكبرى في الإسلام

قدامة بن مظعون

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

هذه القضية تبين أصلاً مهماً من أصول التشريع، اشتبه أمره على قدامة بن مظعون رضى الله عنه، فأقيم عليه بسبب هذا حد الخمر، وهو صحابي بدري من السابقين إلى الإسلام، وممن حاز شرف الهجرتين، وكان زوج صفية بيت الخطاب أخت عمر رضى الله عنه، وهو خال حفصة وعبد الله ابني عمر، فإذا اشتبه عليه ذلك الأصل التشريعي وهذا أمره فغيره أجدر بذلك الاشتباه، وإذا لم ينجه ذلك الاشتباه من حد الخمر لم ينج أحداً منه ولا من غيره من أنواع الحدود والتعازير

لما ولى عمر الخلافة استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، وكان في قدامه نزعة إلى الشذوذ في الاجتهاد، ومن ذلك أن أخاه عثمان بن مظعون لما توفى أوصى إليه بعد موته، وكان لعثمان بنت من خويلة بنت حكيم، فخطبها إلى قدامة عبد الله ابن عمر بن الخطاب، فأجاب خطبته ورأى أن يزوجها له، ولكن أمها خالفته في ذلك، ودخل عليها المغيرة بن شعبة فأرغبها في المال، فرغبت فيه زوجاً لبنتها، وكان رأي الجارية مع أمها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قدامة فسأله، فقال: يا رسول الله، هي ابنة أخي ولم آل أن أختار لها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها. تم انتزعها من قدامة وزوجها المغيرة بن شعبة

وقد أوقع قدامة شذوذه في الاجتهاد في مخالفة ظاهرة للشرع، فشرب الخمر بعد استعماله على البحرين، وقد رآه الجارود سيد عبد القيس، فقدم من البحرين على عمر بالمدينة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حداً من حدود الله حقاً على أن أرفعه إليك. فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة. فدعا أبا هريرة وسأله: بم تشهد؟ قال: لم أره شرب، ولكني رأيته سكران يقيئ: فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة. يعني أنه تأنق فيها وأظهر أنه يتحرى الحق، ولكنه أتى في ذلك بضد ما يقصد، لأن رؤيته إياه سكران لا يقطع في إقامة الحد عليه، ولهذا اختلف الأئمة في هذه الشهادة، فذهب بعضهم إلى أن من تقيأ الخمر يحد حد شارب الخمر. وذهب بعضهم إلى أنه لا يحد بذلك،

ص: 25

لأنه يجوز أن يكون شربها جاهلاً أنها خمر أو مكرهاً على شربها، إلى غير هذا من الأعذار المسقطة للحدود

وقد رأى عمر مع هذا أن يستقدم قدامة من البحرين، فكتب إليه أن يقدم عليه فقدم، فلم يلبث الجارود أن رآه حتى ذهب إلى عمر فقال له: أقم على هذا كتاب الله. فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. فقال: قد أديت شهادتك. فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله. فقال عمر: ما أراك إلا خصما، وما شهد معك إلا رجل واحد. فقال الجارود: أنشدك الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنّك. فقال الجارود: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني. وقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فاسألها، وهي امرأة قدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها، وثبت عليه بذلك شرب الخمر، ولا شك أن في موقف عمر مع الجارود أكبر دلالة على أن الغيرة على الدين يجب أن تكون في اعتدال واتزان، ألا يكون معها تحامل ولا شهوة انتقام، فإذا لم تكن الغيرة الدينية بهذا الشكل لم يكن لها قيمة في الدين، واستحق صاحبها أن يردع بما ردع به عمر الجارود. وما أحوج كثيراً ممن يصيحون بالغيرة على الدين في عصرنا إلى من يردعهم ذلك الردع، ليقفوا عند حد الاعتدال في غيرتهم على الدين، ولا يصلوا في ذلك إلى حد التهور الذي يضر الدين ولا ينفعه، ويجعلهم كالصديق الجاهل الذي يضر صديقه من حيث يريد النفع له، وقد آثر القدماء في ذلك العدو على الصديق، وذهبت فيه حكمتهم المشهورة: عدو عاقل خير من صديق جاهل

وإنما سقطت شهادة الجارود بطلبه أقامة الحد بعد تأدية الشهادة، لأن طلب الحكم من حق المدعي لا الشاهد، فإذا طلبه الشاهد بعد تأدية شهادته وأصر عليه كما أصر الجارود بطلت به شهادته، وكان ذلك مما يدعو إلى الشك في أمره

ولكن ذلك التأويل الخاطئ إذا لم ينفع قدامة في إسقاط الحد عنه، فإنه لم يتخذ وسيلة للتشهير به وقد أخطأ فيه خطأ ظاهراً، ولم يطعن به أحد عليه في دينه وقد خالف فيه إجماع أهل عصره. وما كان لمثله أن يخفى عليه ذلك النص المحكم في تحريم الخمر، بل بقى له دينه صحيح الأديم، وبقى له شرف هجرته وبدريته وسبقه إلى الإسلام. وقد غاضب

ص: 26

عمر لأنه أقام الحد عليه ولم يسقطه عنه، وهجره إلى أن أتى موسم الحج فحج عمر وحج قدامة وهو مغاضب له، فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسقيا نام، فلما استيقظ من نومه قال: عجلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آت في منامي فقال لي سالم قدامة فإنه أخوك، فعجلوا علىّ به. فلما أتوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر إن أبى أن يجروه إليه، فكلمه واستغفر له

فرحم الله ذلك السلف الصالح الذي كان يزن أموره بالحكمة ولا يأخذ فيها بتفريط أو إفراط، فيأخذ قدامة بالحد الذي يستحقه من غير تفريط، ولا يضيق صدره بتأويله الخاطئ الذي خالف الإجماع، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، لأنه لم يكن في ذلك سيئ القصد، ولم يقصد به إلى عناد أو كفر. وإنه ليجب الأخذ بالتسامح في خطأ الرأي وإن وصل إلى ذلك الحد، لأن الخطأ من طبيعة الإنسان، وما من أحد وأن علا قدره إلا وهو عرضة لأن يقع في مثل ذلك الخطأ الظاهر، فلو ضيقنا الأمر في خطأ الرأي ولم نتسامح مع من يصل فيه إلى ذلك الحد لتهيبه كل من هو أهل له، وآثر عليه السلامة لدينه وعرضه، فيسود الجمود بين الناس، ويحرم الأمة من الآراء النافعة لأصحاب الرأي فيها

فليتعظ بهذا الذين أصبحوا حرباً على أصحاب الرأي في عصرنا وضاقت صدورهم بكل جديد ولو كان صواباً، وليس لهم سند في ذلك إلا الصخب واستفزاز العامة باسم الدين، والسعي في إيذاء أصحاب الآراء في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ولم يجن المسلمون من صخبهم إلا ذلك الجمود الذي خيم على الأفكار، ووقف عقبة في سبيل الإصلاح، فتقدمت الأمم وتأخرنا، وضعف الدين وفشا الإلحاد في بلادنا، وقد استعصى الداء، وعز العلاج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 27

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

543 -

في بيت واحد

لما ادعى إبراهيم بن المهدي الخلافة أتى إليه المعتصم بابنه الواثق فقال: هذا عبدك هرون. ولما استخلف المعتصم قبض إبراهيم بيد ابنه ودخل عليه وقال: هذا عبدك هبة الله

قال أصحاب التواريخ: وكانت الوقعة في بيت واحد!

544 -

إلا جعلك سببا لردها عليك

في (المحاسن والأضداد): قالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة! ولا زالت لكريم إليك حاجة! وعقد لك المنن في أعناق الكرام! ولا أزال بك عن كريم نعمة! ولا أزالها بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه!!

545 -

لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا

ابن حجة الحموي: حكى عن القاضي فخر الدين لقمان والقاضي تاج الدين أحمد بن الأثير أنهما كانا صحبة السلطان على تل العجول ولفخر الدين مملوك اسمه (الطنبا) فاتفق أنه طلب مملوكه المذكور وناداه: يا طنبا، فقال له: نعم ولم يأته، وكانت ليلة ممطرة مظلمة، فأخرج فخر الدين بن لقمان رأسه من الخيمة فقال: تقول: نعم ولم أرك. فقال القاضي تاج الدين:

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا

546 -

أسد متعلم غراب متكلم

في نفح الطيب:

قال عبد الله بن عمر السرخسي: بلغني أن قوماً من الغرباء قصدوا السلطان يعقوب المنصور ومعهم حيوانات معلمة، منها أسد وغراب، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس، ويربض بين يديه، وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه. وأما الغراب فكان يقول:(النصر والتمكين، لسيدنا أمير المؤمنين) وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

أنس الشبل ابتهاجاً بالأسد

ورأى شبه أبيه فقصد

ص: 28

انطق الخالق مخلوقاته

شهدوا والكل بالحق شهد

أنك الخيرة من صفوته

بعدما طال على الناس الأمد

فأعطاهم وكساهم، وأحسن حباءهم. وبلغني أن قوماً أتوه بفيل من بلاد السودان هدية فأمر لهم بصلة ولم يقبله منهم. وقال: نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل

ص: 29

‌العزلة.

. .

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

في روضة مِعْطارْ

تَخْضَلُّ بالَّتذكارْ

هاجت بها الأفكارْ

ناراً على قلبي!

فيها جَناحٌ طارْ

وعطُر أَيْكٍ ثارْ

وجدول هدَّارْ

يجري بلا سَكْبِ

صَلَّتْ بها عيدانْ

لا تعرف الأديانْ

واسْتَغْفَرَتْ أغصانْ

لكن بلا ذنبِ

خَمِيلُها حَرّانْ

ونبعها ظمآنْ

وصمتها ولهانْ

شوقاً إلى الغيبِ

تفجرت أنهارْ

فيها من الأسرارْ

يجري بها إعصارْ في عالمي الرَّحْبِ

دارت سواقيها

تبكي لتسقيها

من دمع ماضيها

ما فاض من هُدْبيِ

مشى بها الماضي

يدوس أنقاضى

كمرهف ماضِ

يُغْمَدُ في جنبي

ولاحت الأيامْ

مشلولة الأقدامْ

كأنها أوهامْ

مصلوبة الركْبِ!

من أين لا أغصانْ

سرباً إلى سربِ؟!

وكيف لا حاناتْ

فيها ولا كاساتْ

طافت بها الآهاتْ

سكرى بلا شرب

وهذه أفواجْ

من خاطري الوهاجْ

تجيش كالأمواجْ

جنباً إلى جنب. . .

وهذه أنفاسْ

في صمتها الوسواسْ

تدق كالأجراسْ

في معبد القلبِ

ص: 30

وهذه أنغامْ

مغلولة الإلهامْ

كأنها أنسامْ

قُيِّدْنَ بالعُشْبِ. . .

وهذه أصفادْ

للِحَّنِ والأعوادْ

تضج كالأجنادْ

في غمرة الحربِ

وهذه أشواقْ

مجهولة الآفاقْ

مقتولة الإشراقْ

مسدولة الحُجْبِ

وهذه رُكْبانْ

للغدر والبُهتانْ

تنسلُّ كالثعبانْ

في الْمَزْحَفِ الرطْب

وهذه أكوابْ

مما سقى الأحبابْ

بالسُّمِّ والأوصابْ

تدور في قلبي. . .

وهذه رنَّاتْ

ممدودة الراحاتْ

كأنها قُبْلاتْ

ظمآى إلى الحبِّ

تنهيدة من عودْ

في مهجتي مشدودْ

معذَّبٍ مكدودْ

من قسوة الضربِ

أم نغمة خرساءْ

مسحورة الأصداءْ

أشهى من الإغضاء

في ساعة العتْبِ؟!

وهذه صحراء

في وحدتي السوداء

مرت بها الأنواء

تبكى من الرعب

وهذه حيات

تسعى من الساعات

كأنما الأوقات

غابٌ نما قُرْبى. . .

وهذه جنَّاتْ

رفَّتْ بحوريّاتْ

ينثُرن بالهالاتْ

زهراً على جَدْبي

سرْبٌ من الآمال

يدب كالمحتال

مُرَقَّشَ الأسمالْ

بالزيف والكِذْب

أكعَبةٌ أم حانْ؟

أم مخدع النسيانْ؟

ص: 31

أم موئل الإيمانْ؟

أم مَعْقِلُ الريبِ؟

وهذه أطيارْ

يا نفس أم أوكارْ

لاذت بها الأسرارْ

من روعة الخطْبِ؟

وهذه أكوان

للروح أم أكفانْ

يا حادي الأزمان

تهنا عن الدربِ. .

ياُ عزْلة الأرواحْ

لا تظمئي! فالراحْ

وهاجة الأقداحْ

من دمعيَ العَذْب!

أبكي كما أبكي

من ظُلمة الشك

فدمع عينيك

أهْمى من السُّحْب

ربيعك الرفرافْ

خريف حبْ طاف

مُلأَلأ الأفوافْ

كأدمع الصب

أطلقت فيكِ الروحْ

كطائر مجروح!

فعاد كالمذبوحْ

مُلْقَى على التُّرْب

عمري غريبٌ تاهْ

ضلت به دنياهْ. . .

من سجنه الأوَّاهْ

أطلقْه يا ربي!!

ص: 32

‌جراح!!

تعالى هنا نحيا سعيدين لا نرى

على الكون إلا ما يسر ويفُرح

تعالى نعش فوق الحياة فإننا

خلقنا كهذا الطير نشدو ونمرح

تركت فؤادي نهبة لشجونه

وإن كان عن أشجانه ليس يفصح

هنا في فؤادي. . . آهة كم حبستها

فظلت به مجنونةَ العصف تلفح

كثيب. . . أجل! لكنني من كآبتي

أغنى ألا حين الحياة وأصدح

وصوتك لحن صاغة الله فتنة

لقلب مع الآلام يمسي ويصبح

إذا سمعت أذناي ترجيعه انطوى

زماني. . . وظلت مهجتي تترنح

ترف على كون من النور ساحر

وتسبح في دنيا بعطرك تنفح

على وجهك الفتان تسبيح راهب

وألحان أيك بالصبابة ينضح

دعيني فلي في ظلمه السمح سجدة

أظل بها في باحة النور أسبح

حييت على الدنيا شجياً معذباً

وأنت بكفيك الصفاء المجنح

وما ضرني أن كنت وحدك فرحتي

وغيرك إعصار لنفسي ومذبح

سخرت بأفعال البريات كلها

فسيان عندي من يذم ويمدح

فهيِّا بنا يا أخت نلهو فإننا

خلقنا كهذا الطير نشدو ونمرح

عبد العليم عيسى

ص: 33

‌البريد الأدبي

شعراء الشباب والأستاذ الجليل (أ. ع)

لست أدري ما علة هذه الحملة التأديبية المفاجئة التي يأبى أستاذنا

الجليل (أ. ع) إلا أن يشنها على شعرائنا الشباب الذين يضطلعون

بمهمة تجديد الشعر العربي والنهوض به ونفض هذا الثرى المتراكم

عليه والذي يوشك أن يخمد أنفاسه. . . لقد تذرع أستاذنا الجليل بكلمة

نشرها الوالد الأغر والأستاذ الأكبر إسعاف النشاشيبي عما سماه

(الشعر الخذروفي!) فشمر عن ساعد الجد، وانطلق يوسع شعراءنا

الشباب غمراً ولمزاً وتجريحاً. . . وكل ذلك من وراء حجاب كان

الخير في كشفه ما دام الأستاذ يريدها حرباً وليس يريدها سلاماً! لقد

أنكر الأستاذ جميع الشعر العربي بعد البارودي وشوقي وحافظ. . .

وأشفق من الشعراء الشيوخ الإجلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة.

والذين يعتز بهم الشعر العربي، والذين لا ينكر إلا ظالم أن منهم من لا

يقل مرتبة عن البارودي وشوقي وحافظ، فرأى أن يشملهم بإشارة

عطف ورحمة ورثاء وهو يحسب أنه بهذا قد اتقى سخطهم، ثم خلص

من إشارة العطف والرحمة والرثاء إلى صب جام سخطه على

الشعراء الشباب الذين ثاروا على المذهب القديم، وراحوا يواكبون قافلة

الحياة، ويوسعون آفاق الشعر مطرحين نظم المناسبات، جاعلين

لعواطفهم وقلوبهم ودموعهم وآلامهم وقضايا جيلهم الحق الأول في كل

ما ينظمون، هازئين بالهودج والعيس والريم الواقف على القاع بين

البان والعلم، تتشوق أرواحهم إلى المستقبل ولا يتباكون على الماضي،

ص: 34

يبتدعون ويفتنون ولا ينبشون قبور الموتى ويسرقون أكفان النائمين

تحت التراب. يمشون في جنات الفكر ويتغنون ألحانهم الخاصة غير

مقلدين ولا متأثرين بأشباح الماضي السحيق

ماذا ينقم أستاذنا الجليل من شعراء الشباب؟! أمن العدل أن يحدثنا عن قصيدة لم نرها لنحكم إن كان إنكاره منها ما أنكر حقاً أو ليس من الحق في شئ؟ وهل من العدل أن يجحد أستاذنا الجليل شعر الشباب عامة لأن تلك القصيدة المجهولة لم ترقه؟ وهل من العدل أن ينكر الأستاذ هذه العشرات من شعراء الشباب وهم أثمن قلادة يتحلى بها جيد مصر الحديثة والشعر المصري الحديث؟ هل من العدل أن يجحد علي محمود طه وناجي والخفيف ومحمود حسن إسماعيل ورامي وجودت وغنيم وعبد الغني حسن وعبد الغني سلامة ونجا والعجمي والنشار وشيبوب والبشبيشي وقطب وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم اللامعة في سماء شعرنا الحديث؟ أمن العدل هذا يا أستاذنا الجليل والذين تنكرهم هم تلاميذك وأبناؤك؟ فماذا تقول؟ هل فشلتم في إنشاء هذا الجيل الجديد؟ أليس من الخير أن ندفع العربة إلى الأمام لا أن نقف في سبيلها فتحطمنا أو ندفعها إلى الوراء؟

دريني خشبة

النسب إلى أم وأمهة

اطلعت في عدد الرسالة (559) على رد للكاتب الكبير الأستاذ العقاد يرديه على من انتقده في استعمال لفظ (الأموية) نسبة إلى الأم. وخلاصة الرد أن النسبة الصحيحة، وأن أصل أم أمة وأمهة، فقلبت الهاء واواً، كما تقلب في سنة وسنوي وشفة وشفوي وعضة وعضوي للدلالة على عواطف الأمومة والنسبة إلى أحد الأبوين فرقاً بين هذا المعنى وبين معنى أمي، للدلالة على الجاهل بالقراءة والكتابة

وأقول: ورد في اللغة عن الأثبات الثقات، أن في لفظ الأم أربع لغات، هي؛ أم بضم الهمزة وكسرها، وأمة وأمهة. وجمع الكل أمات وأمهات. قال:

إذا الأمهات فبحن الوجو

هَ فرجت الظلام بأماتكا

ص: 35

والنسبة إلى أم (أمي) وإلى أمهة (أمهى) وهذا هو القياس الصرفي

ثم إن قياس أم من أمهة على سنة ونحوها في النسب ليس بصحيح لوجهين:

الأول: أن الهاء من سنة لم تقلب واوا في النسب - كما قد يتوهم - لأن هذه الهاء مبدلة من تاء التعويض المشوب بالتأنيث وهي تحذف من المنسوب إليه ألبتة، والواو في سنوي ونحوه أصل من أصول الكلمة كانت حذفت وعوض عنها التاء (الهاء)؛ ولما كان النسب يرد المحذوف في مثل هذا الموضع حتما ردت الواو كما ردت في الجمع فقيل سنوات. ويقال في النسب سنهى بالهاء، لأن (لام سنة) المحذوفة ذات وجهين عند العرب، كما هو مبين في متن اللغة. وإذا ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء في سنة ثبت أن الهاء في أمهة لا يصح قلبها واوا؛ إذ لا يعرف هذا النوع من الإبدال في لغة العرب

الثاني: أن الداعي إلى عودة الواو في النسب هو تكميل اللفظ برد ما حذف من أصوله إليه؛ ليكون ذلك جبراً لما فاته من تاء التعويض التي تحذف وجوباً عند النسب. فكان - لولا الرد - يبقى من الكلمة حرفان فقط، وهذا إجحاف ببنيتها من غير داع إليه. وكلمة (أم) ليست كذلك؛ لأنها لفظ ثلاثي تام غير محتاج في النسب إلى تكميل. فكما يقال في النسب إلى در درى، يقال في النسب إلى أم أمي، ولا التباس حينئذ؛ لأن التمييز بين المعاني المختلفة يكون بقرائن الأحوال.

عبد الحميد عنتر

أخطاء في الأعلام

كتاب الأعلام للأستاذ الزركلي هو عند الباحث كأقرب الموارد. وكثرة أغلاطه اضطرت مؤلفه المخلص إلى أن يقول في مقدمته (فما على لتكون الخدمة خالصة للعلم إلا أن ألتمس ممن حذقوا التاريخ ومازوا لبابه من قشوره وكان لهم من الغيرة عليه ما يحفزهم إلى الأخذ بيده أن يتناولوا الكتاب منعمين مفضلين بنقد خطأه وعدل عوجه وبيان ما يبدو لهم من مواطن ضعفه، وقديماً قال إبراهيم الصولي: المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل فيه من منشئه)

وقد مضى على طبعه ست عشرة سنة ولم نر من عرض لنقده، فأمسى من الواجب أن

ص: 36

أذكر القوم بالتنبيه على النزر من أخطائه:

في ص 17 لم يذكر المؤلف في ترجمة البقاعي أعظم آثاره وهو تفسير المناسبات

في ص 37 لم يشر في ترجمة البيهقي إلى أن كتابه (الأسماء والصفات) مطبوع كما شرط على نفسه، ومثل هذا كثير لا تتسع الرسالة لتقصيه. وفي ص 105 نص على أن الجوهري توفى سنة 393 مع أن في ذلك اختلافاً، لأنه وجد خطه أثر بعد هذا التاريخ. وفي ص 143 في ترجمة برقوق (ولى سلطنتها سنة 884)، والصواب 784 على ما في الضوء اللامع للسخاوي. وفي ص 154 في ترجمة الكاشاني (بدائع الصنائع أربع مجلدات) والصواب سبعة مجلدات

وفي ص 482 (ابن العماد العكري) بفتح العين، والصواب ضمها، وهو مؤلف (شذرات الذهب في أخبار من ذهب). وفي ص 488 في ترجمة السيوطي (لب الألباب) صوابه (لب اللباب) وهو مختصر (اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير) وفي ص 582 (البطليوسي) بضم الياء، صوابها بفتح الياء وإسكان الواو

وفي ص 652 من مؤلفات ابن جني (المنهج) صوابه (المبهج) في تفسير شعراء الحماسة، وهو مطبوع

وفي ص 652 ترجم لعلوان بن علي بن عطية الحموي، ثم ترجم له أيضاً في ص 682 باسم علي بن عطية

وفي ص 661 (الهيتمي) والصواب (الهيثمي) بالثاء المثلثة. وذكر من مؤلفاته: غاية المقصد في رواية أحمد. والصواب غاية المقصد في زوائد أحمد، على ما في ذيول تذكرة الحفاظ وغيرها

وفي ص 849 قال إن وفاة الأبيوردي سنة 557 مغتراً بما في وفيات الأعيان. والصواب 507 كما في شذرات الذهب وغيره. وفي ص 873 ذكر في ترجمة ابن زريق أن من مؤلفاته (الأعلام بما في مشنبه الذهبي من الأعلام) و (عقود الدرر في علوم الأثر) و (تذكرة الطالب المعلم بمن يقال إنه مخضرم) و (التبيين لأسماء الأندلسيين) والصحيح أن الكتابين الأولين هما لابن ناصر الدين، والثالث والرابع هما لسبط ابن العجمي. وقد طبعا، و (الأندلسيين) محرفة عن (المدلسين) لأنه يذكر فيه من عرف بالتدليس. وفي ص 916

ص: 37

قال إن السخاوي توفى بمكة؛ والصواب أن وفاته كانت بالمدينة على ما فصله ابن العماد في (شذرات الذهب). وعد الزركلي في مؤلفات شمس الدين السخاوي (الذيل على طبقات القراء لابن حجر) والصواب (الذيل على طبقات القراء لابن الجزري) و (تحفة الأحباب) والصحيح أنها لسخاوي آخر

وفي ص 1088 وهم في متابعة ابن خلكان في تأريخ وفاة أبي منصور الجواليقي في سنة 539، والتحقيق أنها في سنة 540 على ما في (شذرات الذهب) وغيرها

وفي ص 1156 قال إن (الإفصاح عن شرح معاني الصحاح) مطبوع، والمطبوع جزء واحد منه.

محمد غسان

صعوه ومعيه

يقول الأستاذ أحمد عنبر: (قد ورد في كتب اللغة: (عيه الزرع: أصابته العاهة فهو معيوه). ويظن أن الأفضل أن تكون الكلمة (المعيه) بدل المعوه)

وتقول: جاء في أقرب الموارد مادة (عوه)(عيه الزرع والمال مجهولاً أصابته العاهة فهو معيوهٌ ومعيهٌ ومعوهٌ) والفعل وارى العين ويائّيها

ص: 38