المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 562 - بتاريخ: 10 - 04 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 562

- بتاريخ: 10 - 04 - 1944

ص: -1

‌في الأدب والفن

للأستاذ توفيق الحكيم

قرأت في هذا الأسبوع رأيين في الأدب والفن أحدهما يمسني والآخر يهمني. فأما الأول فهو رأي صديقنا الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في تقريظه لقصتي السينمائية (رصاصة في القلب) الذي نشره في جريدة البلاغ تحت عنوان (بين الأدب والسينما)، وقد تحدث فيه عني حديثاً مستفيضاً، ورحب بالتفاتي إلى الفن السينمائي ترحيباً نم عن نفس نبيلة وزمالة شريفة. ثم تطرق من ذلك إلى الإسهاب في صلتي بالأدب العربي قائلاً:(وليس لصديقي الحكيم عيب فيما أرى سوى قلة عنايته بالأدب العربي. ولست أزعم أنه لا يقرأ من الأدب العربي شيئاً، والعياذ بالله، فإن هذا يكون شططاً لا يغتفر ولا يقبل ولا يعقل، وإنما أقول إنه لا يعني به كعنايته بالأدب الغربي من فرنسي على الخصوص، وإنجليزي وألماني وروسي على العموم. . . وهنا موضع التحرر من خطأ قد يقع فيه القارئ أو وهم يركبه، فلست أقول إن صديقي الحكيم لا يحسن العربية، أو أن لغته ركيكة أو واهية البناء، فما إلى شيء من هذا أقصد. . . فإن لأسلوبه العربي لجمالاً ورشاقة وحلاوة وطلاوة. . .) الخ

هكذا قال صديقي المازني. وإذا تأملنا هذا القول ومثله لتكشف لنا عن نتيجة عجيبة: هي أن أمثال تلك الروايات التي تشاع عن إغفالي للأدب العربي ليس فيها ما يضيرني بقدر ما فيها من إساءة إلى الأدب العربي نفسه. فإن القارئين لأسلوبي الذي تكرم المازني فأسبغ عليه تلك الصفات لا ريب قائلون: (هاهو ذا كاتب قد استطاع أن يجعل لأسلوبه (جمالاً ورشاقة وحلاوة وطلاوة) دون أن يحتاج في ذلك إلى الأدب العربي. ففيم الاهتمام بهذا الأدب، وما نفعه إذن؟!) ماذا يكون الحال إذا قالها الناس أيها الصديق المازني بينما الحقيقة غير ذلك؟ فالحق الذي يجب أن يقال هو أني ما وصلت إلى هذا إلا بعد اطلاع على الأدب العربي وتأمل له ونظر فيه. وكل ما في الأمر أني أتناول هذا الأدب تناول رجل الفن لا رجل العلم ولا رجل البحث. وإني آخذ منه ما ينفعني وأمضي به صامتاً إلى فني الذي أمارسه. والفنان يحتاج من مادة اللغة إلى قدر غير القدر الذي يحتاج إليه العالم المحقق للنصوص المفسر للمتون المستخرج للوثائق. وإن الفنان ليعرف بغريزته الفنية ما يلزم

ص: 1

لفنه وما لا يلزم، كالدوحة تدرك جذورها بالفطرة طريقها إلى موارد الماء ومواطن الغذاء. أما ذلك الذي يقال ويحكى عن الجلد والصبر على مشقة أدبنا العربي، فهو توهم ساذج، أو مفاخرة تعرفها ممن لا محصول عندهم غير هذا، فما أظن الغوص في كتب الأدب العربي أشق من الغوص في بحار العلوم والفلسفة والآداب والفنون لمختلف الأمم والحضارات. وأنا الذي طالب الأديب بأن يكون (موسوعياً) على قدر الإمكان، يلم بكل علم وبكل أدب وبكل فن (راجع كتاب زهرة العمر) لا ينتظر مني أن أستهول تلك المشقة المزعومة في مطالعة أدبنا العربي!! على أن الصديق المازني خليق بالشكر على كل حال؛ فقد رأى من واجب الزمالة أن يكون مخلصاً في الرأي. وما أجمل هذا الموقف منه! وما أحرى بي أن أبادله إخلاصاً بإخلاص ونصحاً بنصح، فأكشف له عن مخاوف طالما ساورتني وساورت اليقظين من محبيه. فهو قد أراد التقريب بين العامية والفصحى فتبسط في أسلوبه ومعانيه، وهذا ما يحمد عليه؛ ولكن الذي نخشاه هو أن يكون جريه في طريق التبسيط داعياً إلى أن يجر معه الفكر من عليائه إلى مستوى غير المستوى الذي ينبغي له. ولعلنا واهمون! ولعلها مخاوف الصداقة! فالمحبة خوف ورجاء. وكلنا يرجو للمازني أن يحلق إلى جلال الفكرة كما برع في جمال العبارة. وليس هذا بعزيز على الصديق العزيز.

وأما الرأي الآخر فهو رأي أخي أحمد أمين بك في الأدب الأمريكي الذي تحدث عنه في العدد الماضي من مجلة (الثقافة) قائلاً: (وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العملية في شتى شئونها، ثم لم يكتبوا في خيال وأوهام وأحلام، إنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم الحالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية، وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان والرومان، وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه. فللأديب العربي أن يستوحى امرأ القيس أو (شهرزاد)! ولكن يجب أن يكون ذلك نوعاً من الأدب لا كل نوع، ولا هو النوع الغالب ولا هو الأرقى. . .)

مع الأسف أراني مضطراً أن أقول للصديق المبجل أن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس و (شهرزاد) هو النوع الأرقى في الأدب. . . في كل أدب. . . لا في الماضي وحده ولا في الحاضر. . . بل في الغد أيضاً وبعد آلاف السنين، ما دام الإنسان إنساناً، وما دام رقيه الذهني بخير لم يصبه نكاس. فالإنسان الأعلى هو الذي يصون

ص: 2

(الجمال الفني) عن الاستغلال الأرضي في أي صورة من صوره؛ ويحتفظ به لمتعته الذهنية وثقافته الروحية. وإن اليوم الذي نرى فيه (الأدب) قد استخدم للدعايات الاجتماعية، و (التصوير) استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، و (الشعر) جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية، لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلاً يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعاً غير ذلك النفع المادي المباشر. والأدب الأمريكي الذي يعجب به أحمد أمين بك هو في أغلبه صحافة راقية أكثر مما هو أدب حقيقي. والأدب الحقيقي فيه هو ما استند إلى أساطير اليونان والرومان، أي مخلوقات الإنسانية التي أبدعتها أحلامها الجميلة وخيالها الرائع. فالخلاف بيني وبين صديقي الأستاذ أحمد أمين هو على معنى (الرقي)؛ فأنا لا أسلم أبداً بأن رقي الإنسان هو في تقدم أسباب معاشه المادية. هذا حقاً هو الرقي بالمعنى الأمريكي، ولكن الرقي بالمعنى الإنساني المثالي شيء غير ذلك. إن الإنسان الأعلى ليس ذلك الذي يضع كل شيء في فمه. . . ولكنه ذلك الذي يشعر بحاجته إلى متع معنوية وأغذية روحية وأطعمة ذهنية لا علاقة لها من قرب أو بعد بضرورات حياته المادية أو الجثمانية. هذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان. فالحيوان لا يحتاج إلى أن يطرب لبيت من الشعر أو لصوت من الغناء أو لتمثال من الرخام، ولا يمكن أن يخطر له على بال وجود عالم آخر غير عالم الأكل والشرب والمأوى. ولو نشأ أدب بين فصيلة من الحيوان لكان هذا الأدب في رأيي قائماً في جملته على مشكلات العراك على صيد الفريسة. . . ولاقتصر خياله على الحلم بأن في بطن كل سبع غزالاً سميناً، وفي فم كل حيوان في الغاب صغر أو عظم غذاء موفوراً بغير وثب ولا بحث ولا تربص. بل فلنأخذ مثلاً جماعة النحل أو النمل وقد بلغت من الدقة والتناسق وروح التضامن في نظامها الاجتماعي ما أثار الدهشة. . . هذا المجتمع الذي شيده النحل على هذا الأساس من (الوعي الاجتماعي) لا (الوعي الفردي) لو قامت فيه نحلة شاعرة أو أديبة، أو ظهر فيه أدب وشعر، فما يكون نوعه واتجاهه ومراميه؟ لا شك عندي أن هذا الأدب أو الشعر سيكون له عين المرامي التي ينزع إليها الأمريكان ويتمناها لنا أخي أحمد أمين. سيتحدث أدب النحل وشعره عن الأزهار من حيث كمية عسلها، ونصيب كل عامل من عمال النحل في نقله وإعداده والانتفاع به في الخلية، وعن

ص: 3

حقوق الطوائف العاملة وواجباتها، ومشكلاتها اليومية وشئونها الحيوية. أما الذي لن يحدث أبداً فهو التفات النحل في أدبه أو شعره إلى حسن الأزهار في ذاتها، وإلى بهائها في ألوانها، وإلى تمايلها اللطيف مع النسيم كأنها تراقصه، وإلى تفتحها ابتساماً للفجر وهي تعانقه، وإلى نداها بدموع الليل وهي تفارقه. . . لن يفطن النحل إلى هذا أبداً. . ولو فعل لانقلب إنساناً في لحظة واحدة. كل فضل الإنسان على غيره من المخلوقات أنه ارتفع إلى العناية بأشياء معنوية لا تتصل مباشرة بطعامه وشرابه ومقومات حياته المادية. وهذه الأشياء سماها فيما سماه: الفن والأدب. وحرص على أن تبقى على قدر المستطاع بعيدة عن تفاهاته الأرضية، لتذكره من حين إلى حين أنه ليس حيواناً. وهنا عظمة الفن والأدب. ولكن مطامع الناس شاءت أن تمد أيديها الفاتية إلى هذا الجوهر السامي لتسخره في شئون الأرض؛ فرأينا الشعر والأدب يتجهان إلى غايات نفعية؛ فاستخدم الشعر أحياناً لمدح الملوك والأمراء من أجل المال والثراء، أو لنشر الدعوة في الدين أو السياسة من أجل الثواب أو الجزاء. ولكن كلمة الفن هي العليا دائماً؛ وحكمه هو النافذ وحده. وهاهو ذا قد حكم لامرئ القيس الجاهلي فرفعه وقدمه على داعية الإسلام حسان. وفي هذا الدليل على أن الفن الخالص لوجه الجمال الفني هو الأرقى والأبقى. وذلك ما لا يسلم به الأستاذ أحمد أمين. فهو يعتقد أن الفن المسخر لخدمة الضرورات اليومية في المجتمع هو الفن الأرقى، متأثراً ولا ريب بتلك النظريات الحديثة في السياسة والاقتصاد التي ترمي كلها إلى تملق الجماهير ومداهنة الدهماء ومصانعة الجماعات والنقابات والهيئات ومسايرة الكتل والسواد من الناس والشعوب، موهمة إياهم بجعل كل شيء في خدمتهم. وخدمة الجموع معناها خدمة مصالحهم الأرضية المادية من مأكل ومشرب ومأوى؛ لأن السواد والكتل لن يطلبوا أبداً ولن يقبلوا ولن يعرفوا غير هذا النوع المادي من المطالب. فإذا أردنا تسخير الفن في هذه الأغراض فمعنى ذلك الهبوط به إلى ذلك اللون من أدب النحل. . . أو على الأقل إلى ضرب من أدب الدعاية والوعظ والهداية

أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أرحب به وأسلم من الفور بأنه الأرقى. ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان. فمن أين لنا في شعرنا بأمثال (المتنبي)؟ لقد أعدت قراءة ديوانه منذ أسابيع

ص: 4

لأنظر كيف بقى ذلك الشعر الذي خرج من وحي الدنانير. الحق أن المال كان باعثه ولكن الفن كان غايته. ذلك الذهن الذي أبدع صوراً ترى لها أحياناً حركة ويبصر لها بريق ويسمع لها رنين كما في قوله:

وأمواه تصلْ بها حصاها

صليل الحلي في أيد الغواني

ماذا يعنينا منه أن يكون حافزه استجداء مال أو مدح ذي سلطان أو خدمة مجتمع أو تملق شعب؟ المهم أن يكون هنالك فن قبل كل شيء. بغير هذا ما عاش لنا المتنبي حتى اليوم؛ فالسلطان يذهب والدولة تدول والشعوب تتغير؛ ولكن الفن باق. . .

أما بعد، فليتجه الأدب العربي حيث شاء له أخي المبجل أحمد أمين بك. وليخدم الجماعات ومشكلاتها الحالية ومسائلها اليومية ومطالبها المادية، وليبتعد عن (الفردية) التي هي أساس كل فن، والتي بغيرها لا يقوم فن؛ وليتجنب (تراجم الأفراد أو ترجمة الكاتب لنفسه أو تحليل الأديب لبعض الشخصيات أو روايات الغرام) أو نحو ذلك مما يراه صديقي من قبيل النزعات الفردية؛ ولننكر الحقيقة القائلة إن (الفنان إذا لم يقل (أنا) فهو ليس بفنان، كما أن العالم الذي يقول (أنا) ليس بعالم) لننكر ذلك مؤقتاً ولننتظر. . . عسى أن يخرج لنا أثر فيه الفن وفيه منفعة السواد. . . والله لا يخيب رجاء المصلحين.

توفيق الحكيم

ص: 5

‌برناردشو والحروف اللاتينية

لأستاذ جليل

قالت مجلة (المستمع العربي) منذ نحو من حولين في الجزء (17) من سنتها الثانية - وهي مجلة القسم العربي في دار الإذاعة البريطانية - في حديثها عن كتاب (معجزة نشأة اللغة) للأستاذ ويلسون

،

(. . . وتمتاز الطبعة الجديدة من هذا الكتاب بمقدمة ضافية كتبها (برناردشو) الأديب الإنكليزية المعروف عالج فيها موضوعاً لا يخلو من أهمية لقراء الشرق الأدنى. إذ يرى هذا الكاتب الألمعي أن حروف الهجاء الإنكليزية لا تناسب اللغة الإنكليزية نظراً لأنها وضعت في الأصل من أجل اللغة اللاتينية التي تختلف في مخارج ألفاظها عن لغة أبناء التاميز. وعلى ذلك فهجاؤها يبعد كل البعد عن وقعها على السمع. ولا شك أن هؤلاء الذين يرغبون في حذق الهجاء الإنكليزي يقرون نقده هذا. وهو نقد لا شك سيهم القارئ العربي أيضاً لاتصاله بالتغيير الذي يقترحه بعضهم بشأن كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية. إذ يحق لنا أن نتساءل بعد ذلك إذا كان من الحكمة الاستغناء عن حروف الهجاء العربية التي تمتاز على الأقل بأنها وضعت خصوصاً للغة العربية واستبدال حروف بها، وإن كانت شائعة الاستعمال إلا أنها لا تناسب حتى هذه اللغات التي دأبت على استعمالها منذ أول عهدها بالكتابة)

ذلكم قول المجلة العربية الإنكليزية، وأغلب ظني أن الكاتب هو الأستاذ (بابار) العرباني المعروف في الغرب الأقصى (مراكش) ومصر وفلسطين وغيرها، وهو رجل مثقف مهذب طيب، عرف العربية ونقل إلى لغته كتباً منها.

والحروف اللاتينية التي نقدها كاتب القوم العبقري (برناردشو) وأيدت تلك المجلة نقده إياها - إنما هي الحروف العربية غير المهذبة كتبها كاتبوها من الشمال مكثرين من حروف المد فيها - والبركات في تلكم الحركات قد خفت وسهل النطق بأحرفها - مطيلين الكلمة بتسطير حروفها جميعها - والعربية قد أبدعت حين اختزلت - متعبين عيون القارئين بما

ص: 6

صوروا وطولوا. وشتان ما حرفان أحدهما يريح البصر وآخر يرهقه، فسم الحرف اللاتيني بالحرف المتعب تنصفه. ولقد بالغ إخواننا الترك في الإساءة إلى أنفسهم باستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير وتفضيل الشمال على اليمين. وفي مقالتي (الحرف العربي والإفرنجي) في الرسالة الغراء قد نعيت عليهم ضلالهم هذا، وبينت في تلك المقالة ما بينت. وإني لموقن اليوم أن القوم سيستيقظون من سنتهم بعد سنين، وسيندمون وسيرجعون إلى حروف لسانهم عاملين بالقول الحكيم:(الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). وفي الأتراك - يا أخا العرب - عقلاء حكماء مخلصون، فلا تيئس من عودتهم

وأما مقترح تصوير العربية بالحروف اللاتينية الذي أشارت إليه مجلة (المستمع العربي) فهو كمقترح استعمال تيك العامية - ولكل إقليم عربي عامية بل بلية - والاقتراحان هما من بنات ليل المرء في وقت المرض. والأمم العربية قد أجمعت على أن تكون في هذه الدنيا في الكائنين لا أن تبيد مع البائدين. وإن وعوعة الباطل متلاشية، ودعوة الحق هي الباقية. وكتاب الدهر كتاب العربية يقول:

(. . . فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. . .)

ما أشقى أولئك الإنكليز المساكين بحروف تهجيهم! إنهم إذا قصدوا التلفظ بالحرف الذي يحاكى (الذال) أو (الزاي) عندنا اضطروا أن يجلبوا حرفين وهما والحرف وإذا أرادوا أن ينطقوا بالحرف الذي يشاكل (الشين) في العربية جلبوا كذلك حرفين وقس على ما ذكر ما لم يذكر. إن بلايا الإنكليز في حرف لغتهم لكثيرة مساكين!

أيها الإنكليز، اتركوا الحروف اللاتينية أو اللاطينية - كما يقول الأقدمون وابن خلدون - وخذوا الحروف العربية كما فعلت الأسبان في وقت من الأوقات. إنهم (خطوا لسانهم الأسباني بالحرف العربي) وما كانوا مخطئين. ولولا سلطان الدين أو الكنيسة، لولا القسيسون والرهبان ما انفكوا يكتبون به حتى يوم الناس هذا

(ن)

ص: 7

‌معهد التمثيل المصري

للأستاذ دريني خشبة

1 -

بعد أيام قليلة يفتتح معهد التمثيل المصري فتتحقق إحدى أمانينا التي لم نيأس من الدعوة لها والكتابة فيها، صادرين في ذلك كله عن إيمان لا يتزعزع بأن التمثيل هو ركن من أقوى الأركان في ثقافة أمة تفهم معنى الثقافة الحقة، وتدرك روح العصر الجديد، فيجب أن تتخذ وسائل هذا العصر الجديد

بعد أيام قليلة تأخذ مصر الحديثة في تعليم عدد متواضع من أبنائها أصول هذا الفن الرفيع ليأخذوا على عواتقهم حين يتخرجون تلك المهمة الخالدة. . . مهمة خلق المسرح المصري بكل دعائمه. . . من ممثلين ومخرجين ومؤلفين وناقدين، ومن إلى الممثلين والمخرجين والمؤلفين والناقدين من مهندسين ومصورين وإداريين وعمال وصانعي ملابس وعلماء أزياء، وكل من يستطيع أن يضع مشكوراً لبنة في صرح هذا المسرح الذي نريده مسرحاً مستنيراً لا يعرف الشعبذة ويأنف أن يتخذ التهريج وسيلة إلى قلوب الجماهير، مسرحاً يسمو بجمهوره ولا يهوى بنهضتنا إلى حضيض الهمجية. . . نريد أن يكون لنا مسرح يخدم سمعتنا ويسوى خلقنا ويجدد أدبنا ويهدي الشباب المصري إلى أرفع المثل، فيجافي بينهم وبين تلك الرخاوة التي توشك أن تسمم رجولتهم، ويسلك بهم إلى الفضيلة والفكر الحر تلك السبل التي سلكها شباب أوربا في عصر إليزابث ولويس الرابع عشر. . . ونحن حين نريد هذا نشكر الله الذي هيأ للمسرح المصري هؤلاء الرجال الثلاثة الذين يجاهدون من أجله لأنهم يفهمون وسائله وأغراضه على وجهها الصحيح. . . فأولهم وكيل وزارة عظيم لا يمنعه مركزه الكبير من أن يتزعم حركة الإصلاح المسرحي في مصر، بل هو يرى في تزعمه هذه الحركة ما يزيد مركزه الكبير رفعة لأنها جهاد شريف في سبيل حركة شريفة لخدمة البلاد وخدمة الفكر واللغة والأدب، فهو لا يرى بأساً في أن يحاضر الناس عن طريق الراديو في تاريخ المسرح المصري، وضرورة خلق الدرامة المصرية وجعلها هدفاً من أهداف الأدب المصري. وهو يشجع الفرق المصرية التي تعمل لرفعة الفن فيلخص للناس رواياتها ويزكي مؤلفي هذه الروايات ويظهرهم على عبقرياتنا المسرحية الجديرة بالعطف. . . وثانيهم مراقب للفنون الجميلة قد أشرب قلبه محبة هذه

ص: 8

الفنون، فهو يضحي راحته ويسهر الليالي الطوال ليشرف بنفسه على تلك الفرقة الناهضة المتواضعة التي نرجو أن تكون نواة طيبة للمسرح المصري الذي نصبو إليه. وثالثهم بطل من أبطال المسرح القومي مولع بفنه، قد وهبه قلبه ولسانه وبيانه ودمه، قرأنا له منذ أكثر من ربع قرن شهدناه ممثلاً وشهدناه مخرجاً وشهدناه عالماً فما شهدنا في أية ناحية من نواحيه ضعفاً يزري به، وهاهو ذا يعمل مديراً لهذه الفرقة الناهضة المتواضعة فلا يدعي أنه عاهل لمملكة في الخيال، بل ينادي بأعلى صوته أن مسرحنا يفتقر إلى أشياء كثيرة وأن لابد من إدراك هذه الأشياء الكثيرة أو إدراك بعضها ليكون لمصر الحديثة الناهضة مسرحها ولتكون لهذا المسرح شخصيته. . . هؤلاء الأبطال الثلاثة هم الجنود الأوفياء الذين تدور حولهم اليوم آمالنا في خلق مسرحنا المصري، عن طريق هذا المعهد الذي هو آية من آيات الإصلاح التي تنشط اليوم في حياتنا العامة

ولن تمر فرصة إنشاء هذا المعهد، أو إعادة إنشائه، دون أن نسجل هذه الملاحظة الجديرة بالالتفات، فما كاد الإعلان عنه يذاع في الصحف حتى توالت عليه طلبات الالتحاق، ولم تزل تتوالى حتى زادت على الألف. . . وأكثر من نصف هذه الطلبات من حملة الشهادات الراقية، ومن بينها عدد كبير من حملة الشهادات العالية. . . وقد تقدمت أكثر من ستين فتاة من أرقى الأسر المصرية للالتحاق بالمعهد

3 -

ولكن المعهد بطبيعة الحال لن يتسع لهذا العدد الضخم، والقائمون بالأمر فيه لا يريدون قبول أكثر من أربعين طالباً وعشرين طالبة، وهو عدد نستقله على المعهد الناشئ الذي نطمع أن يضطلع بخلق نهضة تمثيلية في مصر وفي الأقطار العربية تكون سبيلاً إلى تجديد ناحية مظلمة في الأدب العربي المفتقر إلى الأدب المسرحي. لهذا نرى لزاماً علينا أن نشغب على القائمين بأمر المعهد، وأن نصيح بملء قوتنا أن اقبلوا مائة أو مائتين ليكونوا طلاباً أصليين، واسمحوا لثلاثمائة أو أربعمائة ليكونوا طلاباً منتسبين، واشرطوا عليهم أن يحضروا نسبة معينة من الحصص لا يصح أن يتقدموا إلى الامتحان النهائي إن لم يحضروها؛ فإذا احتججتم بضيق المكان وبقلة المدرسين الصالحين فلا ضير أن تستنجدوا بحضرتي صاحب المعالي وزير الشئون ليهيئ لكم المكان الفسيح الصالح، ووزير المعارف لييسر لكم المعلمين الصالحين المقتدرين. . . وليذكر صديقي الأستاذ مدير

ص: 9

المعهد أن له زميلين قديرين تخرجا مثله في أوربا، وأنهما يستطيعان مشاركته في تعليم الفنون المسرحية بأنواعها وبذلك يسهلان عليه دروس الإلقاء وما إليها. . . أما الدروس الأخرى فحسبها المحاضرات التي تتسع لمئات الطلاب، أصليين ومنتسبين وزائرين!

4 -

وليذكر القائمون بأمر المعهد أنهم أملنا الذي نرجو ألا يخيب خلق المسرح المصري، وليذكروا أننا لا ننشئ المعهد لإمداد فرقة واحداة أو فرقتين اثنتين بالممثل الصالح والمخرج الصالح والناقد الصالح والمؤلف الصالح وغير هؤلاء من المسرحيين الصالحين. . . كلا، كلا. . . إننا نريد فرقاً كثيرة إقليمية ومدرسية غير فرقة العاصمة. . . لقد أنشأت معظم البلديات المصرية دوراً فخمة للتمثيل، فواجبكم أنتم أن تعمروها بالفرق التي تبعث فيها الحياة. . . واذكروا تلك الحرب التي كانت تنشب بين فرق لندن التمثيلية وفرق الأقاليم، أيها يكون لها الشرف في النهوض بالمسرح الإنجليزي، وما كانت تبذله مسارح لندن من العون للمسارح الإقليمية مما تناولناه في عشرات المقالات على صفحات هذه المجلة

5 -

ولابد من التذكير هنا بأن المسرح المصري لا يحسن النظر إليه باعتباره مورداً من موارد الدولة الاقتصادية، بل يجب اعتباره منشأة ثقافية لا تستغني عنها نهضتنا، فهو لا يقل قيمة عن مجمع اللغة ودار الكتب والمتحف الزراعي وإحدى كليات الجامعة، ولهذا وجب على الدولة أن تسخو عليه وأن تدبر له في ميزانيتها كل ما هو خليق به من مال. . . وخليق بنا ألا نقدر نجاحه بمقدار إقبال الطبقات على شهود رواياته، فقد فسد مزاج كثير من هذه الطبقات بسبب عوامل شتى تسربت إليها عن طريق السينما وعن طريق التمثيل الوضيع الذي راجت سوقه بينها مع الأسف الشديد. . . ولهذا لم نر بداً من التذكير بأنه لا يحسن النظر إلى المسرح الذي سوف ننشئه باعتباره مورداً اقتصادياً. ورأيي أن يكون شهود رواياته في أول أمره بالمجان، ورأيي أن تتنقل فرقه في المدارس الثانوية والعالية لتمثل بالمجان أمام الطلبة وأمام الأهالي - على أساس الدعوة المحدودة - كي نطب لهذا المزاج السقيم الذي أمرضته السينما الوضيعة والتمثيل الوضيع.

6 -

ويجب أن تواكب الدراسة في المعهد دراسات في مدرسة الفنون الجميلة وفي معهد الموسيقا الشرقي، فينشأ في مدرسة الفنون الجميلة قسم خاص لتصوير المناظر المسرحية

ص: 10

ولهندسة المسرح، على أن يدرس في هذا القسم علم تاريخ الأزياء والإضاءة المسرحية. . . أما في معهد الموسيقا الشرقية فتنشأ مادة خاصة بالموسيقا المسرحية، على أن يتولى تدريسها الأخصائيون المصريون ممن درسوا الموسيقا الأوربية وثقفوها علماً وعملاً

7 -

هذا. . . ولا ينبغي أن نختم هذه الكلمة دون أن نرجو الحكومة أن تعمل شيئاً لضمان مستقبل رجال المسرح على نحو ما أصلحت به حال المعلمين والمحامين ومستقبلهم، فالمسرحيون بطبيعة حياتهم الفنية قوم مسرفون يبسطون أيديهم ولا يستطيعون أن يغلوها، وقل منهم من يستطيع أن يدخر لغده المظلم الباكي، قرشاً من يومه المشرق الضاحك، وتيسير العيش لهذه الطائفة المجاهدة هو تيسير لقيام المسرح المصري على أسس قوية قويمة، ثم هو واجب على الدولة لا يسعها إلا أن تقوم به في صدق وإخلاص.

دريني خشبة

ص: 11

‌الحرف اللاتيني والعربية

للأستاذ محمود محمد شاكر

رب رجل واسع العلم، بحر لا يزاحم، وهو على ذلك قصر العقل مضلل الغاية، وإنما يعرض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل. وإن أحدنا ليقدم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه فينقضه نقض الغزل.

ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرأي فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغريه عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر ثم يغالي ثم يعنف ثم يستكبر. . . ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه.

فمن ذلك أني قرأت في عدد مجلة (المصور) 1015 بتاريخ 29 ربيع الأول سنة 1363 حديثاً لصاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا عن (الإسلام والحروف العربية) فرأيته يفتتح حديثه بهذه الكلمة، إذ يقول لسائله:

(أني لا أعني نفسي البتة بالاطلاع على ما قد يقال من هذا الهراء الذي هو أهون عليّ من الغبار الذي يمس ردائي وحذائي، فما بالك أنت تهتم بما لا أكترث له؟)

وعبد العزيز فهمي رجل كنا نعرفه بالجد والحرص والفقه وطول الباع في القانون، وكنا نظنه رجلاً محكم العقل من جميع نواحيه، لا يتدهور إلى ما ليس له به عهد، ولا يرمي بنفسه في غمرات الرأي إلا على بصيرة وهدى. فلما قال ما قال عن الحروف العربية في المجمع، ونشرت الصحف قوله ورأيه، قلنا: عسى أن يستفيق الرجل ويعود إلى سالف ما عهد فيه من الحكمة والمنطق، وأن يكون ما قال خالصاً لخدمة العربية، فإن يكن في رأيه شيء من الصواب فسيحقق الجدل الذي يدور بينه وبين الناس فضيلة رأيه على الآراء، وإن يكن أخطأ فهو خليق أن يرجع إلى صواب الناس غير معاند ولا لجوج

كان هذا ظننا فيه، فلما قرأت فاتحة حديثه التي رويتها قبل، علمت أن الرجل لن يستفيق،

ص: 12

ولن يعود، ولن يعقل ما يقول الناس - وما ظنك برجل من رجال القضاء - رجل مارس العقل والفهم وتقليب الرأي، والتثبت من الحجج المتضاربة الموهمة، والحرص على أدق الصغائر لا تخدعه عن عدله وإنصافه؟ ما ظنك برجل هذه صفته يزعم أنه لا يطلع، بل لا يعني نفسه بأن يطلع على آراء خصمه! ثم ماذا؟ ثم ترى هذا القاضي العادل، بعد أن شهد على نفسه وأقر أنه (لا يعني نفسه البتة بالاطلاع على ما قد يقال)، يصف هذا الذي لم يطلع عليه ولم يقرأه ولم يتعب فيه، بأنه (هراء)!؟ فمن أين علم؟ وكيف حكم على شيء لم يقرأه؟ ثم يزيد فيقول إن هذا الهراء الذي لم يقرأه، أهون عليه من الغبار الذي يمس رداءه وحذاءه! ثم يبالغ فيعنف سائله ويتعجب له ويسخر منه، ويقول له: ما بالك أنت تهتم بما لا أكثرت له؟

وهذا التسلسل العجيب الذي كنا لا نظنه مما ترضى عنه بصيرة رجل مفكر، فضلاً عن قاض حريص، فضلاً عن رأس من رءوس القانون، فضلاً عن نابغة من نوابغ مصر، قد كان، ورضى عنه عبد العزيز فهمي باشا، وجعله حجته ومنطقه في حومة الرأي والجدال. ولعل الغضب هو الذي احتمله حتى أضله عن مواطئ حجته، ثم تركه يتضرب في كلامه، حتى اقترف من اللفظ والمنطق ما لا يليق به

ونحن سنرضى أن نكون في الغبار الذي يمس رداء الباشا، وفي الغبار الذي يمس حذاءه! ونسأل الله أن يجعله بركة للناس وخيراً، وأن يسبغ عليه من نعمه ما هو له أهل، وأن يسدد خطاه حيث ذهب، فحيثما اهتدى الباشا كنا من الغبار الذي يهتدي بهدي حذائه! وسواء علينا بعد ذلك أقرأ هذا الهراء أم لم يقرأه!

نحن نسلم للأستاذ الجليل بما يقول عن صعوبة الحرف العربي المكتوب، وبأنه يعوق القراءة، وأنه يجعل العربية أبعد متناولاً عن عامة الناس، نسلم له بهذا، ثم ننظر كيف يكون الرأي الذي اعتسفه مظنة للتسهيل، ومدعاة لنشر العربية! وكيف يكون هو الذي يخرج الحرف العربي الغامض إلى البيان والوضوح، فلا يكون مضللاً ولا معوقاً، فإنه زعم أن:(ليس لدى المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم)! هذا هو محصول رأيه فما هذا التضليل الذي زعم؟ لقد قال من قبل إن الذي دفعه إلى هذا الرأي هو تيسير الكتابة العربية، (لأن حروف هذه اللغة ليس بينها حروف

ص: 13

حركات! وكثيراً ما يحدث فيها التصحيف والتحريف لهذا النقص. فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ في قراءتها، وقد عالج الأقدمون هذا المشكل الكبير بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف)

ودليل الاضطراب لم يزل يظهر في هذا المنطق كما ظهر في حديث محرر المصور، وهو سؤال وجواب لا عنت فيهما، فأول الوهن وأول الفساد في هذا المنطق أننا رأيناه في اقتراحه قد أبقى الحروف المعجمة (المنقوطة)، وقصر ما ادعاه من التضليل والعسر على (حروف الحركات). وهذا عجب فالإعجام (النقط) هو في التصحيف والتحريف بمنزلة الشكل أو أقل منه قليلاً، فكان لزاماً عليه أن يبحث مسألة الحروف المعجمة، ويخلص العربية منها ليدرأ عنها التصحيف والتحريف! ولكنه لم يفعل، ولم؟ لا ندري!

ومع ذلك، فلنفرض أننا أدخلنا ما سماه (حروف الحركات) في كلام عربي مكتوب باللاتينية، ثم لنفرض بعد ذلك أنه قد أجدى ونفى التضليل من هذا الوجه. ولكن يبقى أن ننظر: أينتفي التضليل البتة، أم هناك نوع آخر من التضليل يجره هذا العمل؟ وأي التضليلين أهون شأناً؟ فإذا تساويا بطلت الحجة المرجحة، وإذا غلب أحدهما كان الانصراف إلى أخفهما ضرراً هو الوجه الذي لا معدل عنه. أليس هذا هو منطق الناس يا صاحب الحروف اللاتينية، أم تراه ينبغي أن نسير على هدى منطقك؟!

فخذ إليك مادة من العربية مثل (قام)، ثم اجعلها فعلاً، ماضياً ومضارعاً وأمراً، وألحق به ما يلحقه من الضمائر، وأدخل عليه ما يدخله من قبل أوله وآخره مثل (فليقمهنّ) وفي التثنية والجمع، والخطاب والغيبة، ثم أخرج جميع مشتقاته من الأسماء، وألحق بها ما يلحقها، وضعها في حالة الإضافة إلى الاسم الظاهر والضمائر، في التثنية والجمع أيضاً، ثم اجمع الأسماء على اختلاف صور الجموع الممكنة فيها، ثم افعل ذلك بالمادة حين يزاد فيها ما يزاد مثل (أقام وقوم واستقام)، وصرفها في الوجوه التي ذكرناها، وتبين حركات الإعراب في سياق الكلام، وضع كل ذلك أمامك مكتوباً بالحرف العربي، ثم بالحرف اللاتيني ذي الحركات التي تجعل الكلمة مرسومة كمنطوقة. ثم انظر إليهما، فهل تستطيع، غير معاند ولا لجوج، أن تميز بين كلمة وكلمة، وأن تتبين الشبه بين هذه المتقاربات من مادة واحدة في اللغة؟ ونحن قد جرينا على أسلوب صاحب اللاتينية، فجربنا ذلك بأنفسنا فما اهتدينا ولا

ص: 14

أدركنا، وصارت الكلمة الواحدة التي لا تخطئها العين في العربية، ولا تخطئ الشبه بينها وبين صواحباتها، كلمات لا يدري ما هي! وهذا شيء قائم على الحس والتجربة والعيان

فإذا عرف، من لا يستكبر عناداً ولجاجاً، أن ذلك مما يضل ويعمي، نظر فإذا هو يرى أن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية، أن يضيع على القارئ تبين اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عسر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له، وصار فرضاً عليه أن يعمد إلى رسم المادة الواحدة من اللغة في جميع صورها التي تكون في السياق العربي، ثم عليه أن يحاول تقريب الشبه بالذاكرة الواعية، ثم عليه أن يحفظ معاني ذلك كله. فإذا كان هذا شانه في المادة الواحدة فما ظنك باللغة كلها؟ يومئذ تصبح العربية أجهد لطالبها من اللغة الصينية. نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها، لأنها لم تبن إلا عليهما. وهي من هذا الوجه مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني، لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها، حتى تختلف الحركات على كل حرف في كل بناء مشتق أو مصرف، ثم يزيد على ذلك ما يدخل على الكلمة من جميع ضروب الحروف العاملة وغير العاملة، ثم علل الإعراب والبناء والحذف. . . إلى آخر ما يعرفه كل مبتدئ في العربية

فإذا كان هذا هكذا، كان التضليل كائناً فيه، وكان هذا التضليل واقعاً في أصول الاشتقاق والتصريف، الذي يرد القارئ إلى أصل المادة اللغوية، وإذا كان الضلال عن أصل المادة ضلالاً عن معناها، فأي السبيلين أغمض وأضل: سبيل عسر القراءة لعدم (حروف الحركات)، أم سبيل امتناع الفهم لامتناع الاهتداء إلى أصل الاشتقاق؟ ونحن لا نشك في أن كل رجل ذي بصيرة حسن المنطق، سيجد في هذا وحده من المشقة والعسر، ما لا يدع اختياراً في الاعتراف بالضلال المطبق الذي تجلبه الكتابة بالحرف اللاتيني، وأن التصحيف والتحريف الذي يدخل الحرف العربي أهون بكثير من الاختلال والفساد والمضلة والعبث التي يجرها الحرف اللاتيني

وإذن فغاية المشروع الذي انتحله، أن ييسر نطق الكلمة المكتوبة في حال إفرادها، غير ناظر إلى سهولة الاهتداء إلى الاشتقاق الذي هو أصل العربية، وأراد أن يأمن الخطأ في الإعراب، والتحريف في ضبط الكلمة، فنسى كل شيء، ولم ينظر ماذا يجلب مشروعه من

ص: 15

التضليل والتشويه والتعسير والاستحالة، والغموض الأعمى الذي لا يهدي إلى شيء في هذه اللغة العربية! وهذا وحده عجب أي عجب

هذه واحدة، ثم زعم الباشا أن الحروف العربية تعوق القراءة، فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ! وأن هذا المشكل قد عالجه الأقدمون بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف!

هما علتان، ثم علتان ملفقتان قد غلغل فيها البطلان، ونخرتهما المغالطة في الصميم وفي المنطق. ونحن لن نناقش اليوم هاتين العلتين إلا من وجه واحد يظهر به فسادهما، أما سائر الوجوه فندعها حتى يحين وقتها ومكانها من الكلام. فالخطأ عندنا لا يعود إلى صعوبة الحرف المكتوب، وإنما يعود إلى القارئ المخطئ نفسه، وهذا هو وضع القضية عندنا: إذا كان المتكلم حين يتكلم يستطيع أن يسوق كلامه على العربية الصحيحة غير مخطئ، فمحال أن يخطئ فيها عند القراءة مهما اختلف الخط عليه سهولة وصعوبة، لأن النطق سابق للقراءة، فالذي لا يخطئ وهو يتكلم (أي كأنه يقرأ من حرف غير مكتوب)، لا يتأتى له أن يخطئ وهو يقرأ حرفاً مكتوباً ظاهراً مميزاً ببعض الدلالات. وإذا عولج بعض العسر بوضع الشكل على الحروف، فالخطأ عندئذ أشد استحالة لوجود دلالات صريحة لا تقل في إفصاحها وبيانها عن حروف الحركات التي أرادها صاحب هذا المشروع اللاتيني، ومن ثم فهي ليست مجلبة لزيادة التصحيف والتحريف كما زعم. أما قوله، في خلال ذلك، إن الشكل قد أفلس، فهذا حكم باطل في قضية باطلة بطبيعتها، وما دامت القضية في أصلها لا تصح على الوضع الذي لفقه، فالحكم نفسه لم يدخل إلا زيادة في التلفيق. لقد نسى صاحب الحروف اللاتينية أن الإعراب في العربية شيء يختلف اختلافاً كبيراً عن سائر اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية، وأن الخطأ فيه لن يكون من قبل الكتابة سهلة أو صعبة، بل هو راجع إلى المتكلم أو القارئ من قبل الضعف والقوة والعلم والجهل ليس غير

وأما ثالثة الأثافي، كما يقولون، فهو زعمه أن (ليس لدى المسلمين، وغيرهم من أهل البلاد العربية، وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم)! فأي طلاسم؟ أهي الطلاسم التي تدخل على كل حرف من الحروف في المادة الواحدة، ألواناً من الحركات تكتب بين كل حرف وحرف، وفي أواخر كل كلمة، وتقف فواصل متباينات بين حروف مادة واحدة من لغة

ص: 16

بنيت على الاشتقاق وعلى الاختصار، وجاء فيها الجموع المختلفة، والصفات والأبنية ذوات المعاني، والبناء للمجهول، وأحكام المعتل في التصريف، واختلاف المصادر وأسماء الزمان والآلات، وللترخيم والنسبة، والإضافة والتقاء الساكنين، وأحكام الإعلال والإبدال والإدغام، إلى آخر هذا كله، مما يغير الأبنية والأطراف والأوساط، هذا إلى كثير من أحكام النحو الأخرى التي تفزع من يتتبعها إذا هو أراد جدال صاحب الحرف اللاتيني! أهذه هي الطلاسم أم تلك؟ وأيهما أفسد لوقت المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية؟ بل أيهما أضرى وأشنع فتكاً وشراسة؟ بل أيهما الذي يغول العقل لا الوقت وحده!

ولكنها فتنة! فتنة اغتر بها شيخ صالح، فاستغلها من لا يرى للعربية حقاً ولا حرمة، ولولا بعض حسن الظن لقلنا:

لا تأمنوا قوماً يَشبُّ صبيُّهم

بين القوابِل بالعداوة يُنشعُ

فضلَت عداوتهم على أحلامهم

وأبتِ ضباب صدورهم لا تنزع

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفى غليل صدورهم أن تُصرعوا

وأي مصرع يا صاحب المعالي! علمك الله الخير وهداك إليه وسددك وحفظك.

محمود محمد شاكر

ص: 17

‌كتاب نفيس

آراء وأحاديث في التربية والتعليم

للأستاذ ساطع الحصري

بقلم الأستاذ محمد عبد الغني حسن

مؤلف هذا الكتاب ليس غريباً عن أسرة (الرسالة)، ولا غريباً عن رجال التفكير والثقافة في الشرق العربي عامة، أو في مصر خاصة، وهو نفسه لا يعد نفسه غريباً على مصر إذا عالج مسألة من مسائل الفكر أو تناول قضية من قضايا التعليم فيها. فإن نظراته الصائبة في التربية والتعليم لا تضيق في حدود وطن واحد، ولا تتضاءل في مساحة بقعة واحدة؛ ولكنها تمتد إلى ما وراء التخوم السياسية فتتسع لسورية والعراق ومصر وغيرها من البلاد العربية

وبهذا الاعتبار يمكن أن يفسر اهتمامه البليغ بأمور التربية والتعليم في مصر، ويدفع هو عن نفسه ما قد يرمي به من الكلام في أمور لا تتصل بوطنه؛ فيقول في عزة عربية نسجلها له مع الفخر:(وأرجو أن لا يعتبرني أحد متطفلاً على مصر بهذه الملاحظات؛ فإني عربي صميم، أدين بدين العروبة بكل جوانحي، وأهتم بمصر بقدر ما أهتم بسورية والعراق). وهذا دفاع بليغ يقطع الطريق على أمثال من يقولون:

إنما نسكر من أموالنا

فسلوا الشرطي ما هذا الغضب!

لأن غضبة الأستاذ الجليل ساطع الحصري ليست غضبة (الشرطي) ولكنها غضبة المضري التي يجب أن يحسب لها حساب. . .

ولهذا لا نظن أحداً من الناس في مصر أو في غير مصر يضيق صدره بآراء ساطع الحصري في التربية والتعليم، لأنه مخلص في إبدائها، ولأنه عربي قبل أن يكون مصرياً، والعروبة تقتضيه حقوقاً كثيرة، وخاصة في هذه الأوقات التي نسمع فيها كثيراً عن الوحدة والاتحاد والتعاون واليقظة العربية والوعي القومي. ولأنه هو نفسه قد أبان في كتابه نوازع اهتمامه بمصر (لأنها أصبحت القدوة المؤثرة على العالم العربي بأجمعه)

لا نظن أن أحداً من المفكرين والمثقفين والمربين في مصر يغضب لأن مفكراً عراقياً

ص: 18

وسورياً نشر كتاباً نفيساً في التربية وفيه مقالات حول نظام التعليم في مصر. لأننا نرى الخبراء يستقدمون إلى بلادنا، وتغدق عليهم الأموال، وتفتح لهم الأبواب ولكن ساطع الحصري زار مدارس مصر - قادماً لا مستقدماً - في سنتي 1921، 1936، وكشفت له الزيارتان عن أمور رأى من الإخلاص للوطن العربي الأول أن لا يكتمها، ورأى من الخير أن ينشرها

ونحن نرى أن بعض (الزوار) قد ينشرون كلاماً له خبئ أو يذيعون آراء لها خواف. ولكن الأستاذ ساطع واضح المقصد بين الغاية حسن النية. ونرجو أن تكون تلك حاله التي ينطق بها لسان المقال

ليس هذا الكتاب كتاباً (فنياً) في أصول التدريس وطرق التعليم، وليس كتاباً (مدرسياً) في (الدرس) وأجزائه (والمقدمة) وشروطها. (وملخص السبورة)(ووسائل الإيضاح) وما إليها من الموضوعات الجافة التي يحفظها (المعلم الجديد) ويضحك منها المعلم المتمرس أو يبتسم لها. ولو كان كتاباٌ كذلك ما استحق أن نطيل الوقوف عنده، وأن نعرضه على القراء عرضاً يحملهم على الاطلاع عليه والظفر به، لأن فيه نظرات في التربية والتعليم جمعها المؤلف من هنا ومن هناك. ولا شك أن هذه النظرات وليدة تجارب بلاها المؤلف بنفسه، وهداه إليها اطلاع وسيع، وبحث عميق، ومتابعة لكل جديد من الرأي في آفاق التربية والتعليم

والقسم الأول من الكتاب فيه مشاهدات وملاحظات في التربية والتعليم. وهذا القسم يجمع إلى صحة الفكرة التربيبية طرافة الأسلوب وحسن العرض، والخلوص من المثال أو المشاهدة إلى القاعدة التي يقررها. ولهذا لا تحس وأنت تقرؤه الجفاف الذي يصادفه من يقرأ كتب التربية البحت، و (الطفل المعاكس)(وإثبات الذات)(والتربية بالثقة)(والحرية) وغيرها نصيب في هذا القسم من الكتاب

أما القسم الثاني فهو محاضرات ومقالات في التربية والتعليم ألقى بعضها في نادي التضامن وبعضها في نادي المعلمين ببغداد. ويمتاز هذا القسم من سابقه بالدراسة الفنية وعرض النظريات التربيبية عرض المربي الفني لا عرض المشاهد المتنقل كما في القسم الأول

ص: 19

وفي هذا القسم فصل ممتع عن التربية الاجتماعية. وقد نجح المؤلف في محاولة رد تربيتنا الاجتماعية أو بالأجدر مشاكلنا الاجتماعية في الشرق العربي إلى تغلب الإيثار. وإلى أننا لم نتعود التفكير في غيرنا تفكيراً اجتماعياً، كما أننا لم نتعود العمل مع غيرنا عملاً

وهذا كله كلام جميل، وفيه كثير من الحق وكثير من الصدق، فإن ذلك كله ينقصنا. ولكن ينقصنا شيء آخر لم يشر إليه الأستاذ ساطع؛ ولكن أوضحه البروفسور كامبانياك الأستاذ بجامعة ليفربول في كتابه النفيس:

المطبوع في إنجلترا سنة 1925

يقول هذا الأستاذ الإنجليزي في كتابه ص 33 (إذا شاء المواطن أن يتمتع بميزات، فواجب عليه أن يقبل تلك المزايا بشروط. فما هي الشروط التي يمكن أن يتمتع بها الرجل بمزايا الجماعة؟ إنها شروط يمكن التعبير عنها في سهولة ويسر في جملة واحدة: يجب أن يتعلم الرجل أن يفعل ما يطلب منه، يجب أن يطيع قواعد الجماعة إذا أراد أن يحتفظ بعضويته فيها)

وهذا التوضيح يفسر لنا كثيراً مما يحدث في مجتمعاتنا ومجامعنا الشرقية. فكثيرون من لا يفعلون ما تطلبه قواعد الجماعة ومواضعاتها منهم؛ كالذين أشار إليهم الأستاذ ساطع في مقصورات أحد المسارح ببغداد حين علا صوتهم وضوضاؤهم؛ فلما نبههم إلى خطئهم أجابه أحدهم: إننا أحرار، لا حق لأحد أن يتدخل في أمرنا. . .

لقد رد الأستاذ الحصري هذا السلوك الشائن إلى أننا لم نتعود العمل مع غيرنا عملاً (معشرياً) وذلك صحيح. وصحيح كذلك أن نرده إلى الطبيعة العصيان والتمرد على قواعد الجماعة كما فسره الأستاذ كامبانياك

أما الفصل الذي كتبه الأستاذ الحصري عن (تيارات التربية والتعليم) فهو فصل معنى به مسهور عليه. وهو يشهد باطلاع المؤلف على اتجاهات التربية الحديثة ومراميها، والعوامل التي أثرت فيها؛ والمراحل التي مرت بها. وهنا تظهر طريقة المؤلف في حسن العرض العلمي عرضا متسلسلاً يدل على الفكر المتسق. . . ولقد أشار في خلال هذا الفصل إلى وجوب تقوية علاقة الطلاب (بالطبيعة) التي طغت عليها حياة (المدن). إلا أننا نأخذ على

ص: 20

الأستاذ ساطع إيجاز الإشارة إلى هذا الموضوع الهام، وكان المقام يتطلب منه إطالة واهتماماً أكثر. وللبروفسور كامبانياك في كتابه المشار إليه سابقاً فصل رائع (عنوانه العودة إلى الطبيعة)

كما أن الأستاذ (نيومان) عالج هذا الموضوع معالجة علمية في كتابه القيم (فكرة لجامعة): ص 133، 143

ومن عبارات كامبانياك الرائعة في ذلك الفصل قوله في صفحة 95 (يمكننا أن نلجأ إلى عالم الطبيعة مرات ومرات، لإنعاشنا وتطهيرنا وتقويتنا) وقوله: (أن مشروعاً تربيبياً يوجه عقولنا وحواسنا إلى قوى الطبيعة ومختلف مجاليها، لهو مشروع حكيم الخطة)

أما الفصل الذي عنوانه (تعليم التاريخ) فلنا عليه استدراك، فالأستاذ ساطع يختم أن نعيد النظر في تاريخنا العربي بنزعة تربيوية قومية، وينادي بأن دروس التاريخ يجب أن ترمي إلى (التربية القومية) قبل كل شيء. وتلك دعوة طيبة تقابل من الأستاذ الحصري بالقبول الحسن من كل البلاد العربية التي تنشد الوحدة في عالم اتحدت فيه أمم مختلفة النزعات واللغات، فكيف بأمم وحدت بينها اللغة والجنس والعادات؟ إلا أن الهدف من تعليم التاريخ ليس تنمية القومية (قبل كل شيء). فمن الغبن أن نغمط الأهداف الأخرى ونبخسها قدرها. فقد ينفعنا تعليم التاريخ على وجه صحيح في إدراك صورة واضحة لمعنى (الخير) للجماعة وأعضائها؛ وقد ينفعنا تعليم التاريخ العربي على وجه صحيح في إيقاظنا من سبات عميق طال عليه الأمد. . . وقد ينفعنا تعليم التاريخ العربي على وجه صحيح في تجريد الدين من كل ما علق به من أوشاب القرون وغبار السنين. . .

وقد ينفعنا التاريخ في العمل على تحسين حالتنا الصحية التي أصبحت مرضاً عضالاً وداء قتالاً. فلو اعتنى في مدارسنا بتدريس تاريخ الأوبئة والحميات والأمراض، ولو اعتنى بدراسة تاريخ ما اتخذ من وسائل لمقاومة المرض وتحسين الصحة وإنشاء البلديات وكشف الجراثيم، لاجتمع لأبنائنا ثقافة صحية تقوم إلى تربيتهم القومية

وقد كان ذلك من أغراض تعليم التاريخ في إنجلترا بناء على الرسالة التي نشرتها الحكومة البريطانية سنة 1934 بعنوان: (مطبعة الحكومة الإنجليزية لندن - ص 64)

أما الفصل الممتع الذي كتبه الأستاذ ساطع حول تعليم اللاتينية واليونانية فهو يستحق عليه

ص: 21

التهنئة. فقد عرض القضية عرضاً لا يدع فيها مقالاً لقائل. وهو هنا يتكلم دائماً والدليل بين يديه والحجة بيمينه؛ فيحملك على الاقتناع بكلامه وقد أثار في نفسي شهوة إلى قراءة (التحقيق البرلماني الفرنسي) الذي يذكره أستاذنا وصديقنا توحيد السلحدار بك

بقى أن في الكتاب نسباً يستعملها الأستاذ ساطع (كالفردانية)(والأنوية) نسبة إلى أنا. (والقبمدرسية) نسبة إلى (قبل مدرسي) وهي طريفة في هذا الكتاب وأطرف منها المصادر التي يستعملها. وهي صحيحة ولكنها لا تستعمل عندنا في مصر (كالتمديد)(والترفيع)(والاقتياس) بدلاً من المد والترقية والقياس التي نستعملها هنا

وبعد فإن كتاب الأديب المربي الأستاذ ساطع الحصري يعد محاولة ناجحة في عرض الاتجاهات التربيبية عرضاً يرتاح إليه الأديب، قبل أن يرتاح إليه المربي. وهو من هذه الناحية كان خليقاً بأن يقرأه الأدباء والمفكرون والمثقفون قبل أن يقرأه المربون والمعلمون

وكفاه قيمة أنه - فيما نعلم - أول كتاب عربي غير مصري يتناول مسائل التربية والتعليم في مصر بصراحة وإخلاص يستحقان الشكر والإعجاب.

محمد عبد الغني حسن

ص: 22

‌القرآن الكريم في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

تمهيد

شكا الدكتور زكي مبارك في العدد 557 من الرسالة من أني كتبت فيه كلمة مؤذية سبقتها كلمات مؤذيات، وزعم أني أبحث عن فرصة جديدة تؤيد غرامي باتهامه في إسلامه، وأن الباعث على محاربتي إياه ليس هو الدين، ولكن غرامي بأن يقرن اسمي باسم الدكتور زكي مبارك

وتأذى الدكتور زكي مبارك بما كتبت ليس لي فيه من فضل، فالفضل - أو الذنب - فيه راجع كله إلى الدكتور المفضال. فهو الذي لا يفتأ يتعرض للدين بما لا يمكن أن يقره عليه عقل ولا دين، وبما يخالف الكتاب والسنة والإجماع عند المسلمين. يتعرض لا لجزئية من الجزئيات يجوز فيها الخلاف، ولكن للأصول التي يقوم الدين بقيامها، وينهدم بانهدامها، كأصل إعجاز القرآن، وأن القرآن كتاب الله لا كتاب محمد ابن عبد الله

والخصومة التي بيننا ليس منشؤها ما يعتقد الدكتور زكي مبارك، ولكن ما يعلن الدكتور ويدعو إليه. فاعتقاده ودينه أمر بينه وبين ربه، أما ما يعلن ويكتب فأمر بينه وبين الناس. هو حر فيما يرى ويفكر وفيما يعتقد ما اقتصر ذلك على ذات نفسه، أو ظل سراً بينه وبين خلصائه. لكنه يفقد تلك الحرية في اللحظة التي يحاول فيها أن يتخذ من الأدب وسيلة لبث آرائه ومعتقداته بين الناس. إنه في تلك اللحظة يصطدم بما يعتقد الناس، إذا كان ما يعتقد يخالف ما يعتقدون، خصوصاً إذا كان ما يعتقدونه هو الحق وما يدعو إليه هو الباطل. أفيعجب الدكتور عندئذ أن يرتد عليه الاصطدام فيتأذى به كما آذى به الناس؟ أم هو يظن أن الحرية له في الهجوم، وأن ليس لغيره حرية في الدفاع؟

وللدكتور في الخصام حيل كتلك التي تكون في القتال، منها أن يلقي إلى خصومه أقوالاً يرجو أن يشغلهم بها وأن يشكك الناس فيهم. ولا بأس من أن ننخدع له هذه المرة فننظر فيما ألقى

يقول إننا نحاربه لا للدين، ولكن ليكون لاسمنا ذكر مع اسمه الكريم. ولو وجد الدكتور شيئاً غير هذا يقوله لقاله، ولكنه نظر فوجد أننا لا نتخذ الأدب صناعة فيأتينا من ناحية المنافسة،

ص: 23

ولا يجوز عنده أن تكون محاربتنا له لوجه الله، فلم يبق إلا أن يقول أننا نلتمس الشهرة عن طريق التعرض له والطعن فيه

إن كل ذلك كذلك، فلماذا تركنا الدكتور كل هذه السنين يبدي ويعيد في الأخلاق وغير الأخلاق مما يتصل بالدين اتصالاً وثيقاً أو غير وثيق، من غير أن نتعرض له إلا مرتين يفصلهما خمس سنين: الأولى حين ختم كلمة له في نعيم الجنة بذلك الدعاء الماجن: (اشغلني عنك يا رباه بأطايب نعيم الجنة، فإن نظري لا يقوى على نور وجهك الوهاج). والثانية حين كتب مقاله: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) الذي أنكره ابتداء، حين حوسب على بعض ما فيه، ثم أقر به لما أيقن أن لن يصدقه أحد في الإنكار، كالرجل الذي يتبرأ من ولده الجاني وينكره ثم يستلحقه إذا وجد عار الإنكار أكبر من عار الإقرار. . . مناسبتان اثنتان بينهما خمس سنوات لم نتعرض للدكتور إلا فيهما في عمر الدكتور المملوء بما يؤاخذ عليه في الأدب والأخلاق والدين. فهل لم يكن بنا حاجة إلى الشهرة طوال تلك الأعوام لنلتمس التحليق في جوها على جناحه المتين؟

وقد وقع الرجل على حيلة أخذها عن صديقه الشيطان هي أن يسمى المسميات ضد أسمائها ليدخل على بعض النفوس عن طريق الإيحاء. فستر الإنسان جسمه بالثياب رياء واعوجاج في الضمير؛ والدعوة إلى تعريته دعوة إلى الحياة؛ واحتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل؛ وهجوم الفتاة على الفتى طاعة لغريزة كريمة؛ وانتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال؛ والشيطان مخلوق شريف؛ والأديب الحق يستبيح في عتاب الأقدار ما لا يباح؛ وبعض الكفر إيمان ولكن أكثر الناس لا يفقهون؛ إلى آخر ما هنالك

ولست في شيء مما كتبت أو أكتب عن هذا الرجل متجنياً عليه أو مبالغاً، فتلك المعاني التي نسبتها إليه آنفاً ليست من عندي ولكن من عنده. هي بعض عباراته تشهد عليه، وبعض بضاعته ترد إليه

وحيلة أخرى لهذا الرجل أن يلقى إليك المعنى الذي يعرف أنك تأباه مقروناً بمعنى أنك ترضاه ليسهل عليك بهذا قبول ذاك، أو على الأقل ليوقفك موقف المرتاب. فتراه مثلاً يقول لك:(انتفع الصوفية بسماحة الإسلام، وهو دين يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط، فقرروا أنهم أرفع من الأنبياء. وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان)!

ص: 24

فانظر كيف رتب على المعنى الذي يعرف أنك ترضاه معنى يعرف أنه لو ألقاه إليك مجرداً لا بيت عليه، ولنبذت إليه. والمعنى الذي ألقاه معنى ذو نتوء كرأس إبليس. ظاهره أن الصوفية يضعون أنفسهم فوق مرتبة النبوة، لأنهم أعرف بالله وأرعى له من الأنبياء، وباطنه أن ليس بهم ولا بك إذا ارتقيت مثلهم إلى الأنبياء حاجة، وإلا كان بينك وبين الله وسطاء، والإسلام يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط؛ فتلك هي في رأي زكي مبارك سماحة الإسلام وبها انتفع الصوفية! والرجل يكذب في الحالين على الصوفية وعلى الإسلام. فلا الإسلام يهدم نفسه بسماحة حمقاء كالتي نسبها إليه زكي مبارك، ولا الصوفية بلغ بهم الغرور أن يروا أنفسهم فوق الأنبياء

ومثل آخر من نفس الباب قوله: (وفي طلب السلامة من أذى السفهاء. قال الرسول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة). . . والعدل يوجب أن يكون ما يترك الأنبياء ميراثاً حلالاً لأبنائهم، ولكن الحرص على قطع ألسنة المتزيدين هو الذي أوجب أن يحرم الأنبياء أبناءهم من ذلك الميراث. وذلك ظلم جميل!) هكذا يقول زكي مبارك، وهكذا يقدم لقرائه في هذا الكلام قنبلة ملفوفة تكفي لنسف أي إيمان

دعك مما في كلامه هذا من مثل (جميل) و (رسول)(وأنبياء) و (قطع ألسنة المتزيدين) وتأمل ما وراء ذلك تجده يريد أن يدخل في نفسك أن ترك الأنبياء أموالهم كلها صدقة شيء فعلوه من عند أنفسهم لا بأمر ربهم، وأنهم بذلك خالفوا العدل ووقعوا في أقبح الظلم، ظلم الأنبياء. ومن أجل ماذا؟ من أجل السلامة من أذى السفهاء وقطع ألسنة المتزيدين، أي من خوف الناس! وماذا يبقى من مبدأ عصمة الأنبياء بعد هذا؟ لا شيء عند من يقبل من زكي مبارك هذا الكلام، وعلى دينه العفاء!

وإذا رجعت إلى حديث الرسول صلوات الله عليه - وزكي مبارك حرف المعنى ولم يحرف اللفظ - تجده يحتوي على الحجة المبطلة لكل ما ذهب زكي مبارك إليه، وهي قول الرسول (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) بصيغة التعميم لا بصيغة التخصيص. فلو صدق ذلك على بعض الأنبياء دون بعض لما كان من سنن النبوة، ولكن من رأي ذلك البعض، ولجاز ولو من بعيد ما زعمه زكي مبارك. أما وهو صادق على الأنبياء أجمعين فلا بد أن يكونوا فعلوه عن أمر الله لا أمر أنفسهم، لاطراده فيهم على اختلاف الأزمان - والاطراد

ص: 25

على اختلاف الزمن هو طابع الفطرة التي هي دين الله - ثم لاستحالة معرفة الرسول صلوات الله عليه أن الأنبياء أجمعين كانوا يفعلون ذلك إلا بإخبار وتوقيف من الله

لكن زكي مبارك لا يلتفت إلى مثل هذه الدلالات في كلام النبوة، لأنه مشغول بترويج ما له من مذهب ورأي؛ يتلطف للدخول به على الناس حيناً، ويتقحم به عليهم حيناً؛ تارة يلمح وتارة يصرح، وطوراً يجمع لهم الأضداد ويرميهم بالمتناقضات تلهياً وتشفياً، كأن بينه وبين الناس ثأراً لا يشفي نفسه منه إلا أن يبلبل منهم الفكر ويزلزل منهم العقيدة ليكون أدبه قوة تقتل الخصوم وتزلزل الزمان

محمد أحمد الغمراوي

ص: 26

‌من نداء القلب

الإناء. . .

للأستاذ إلياس أبو شبكة

أصدر الشاعر اللبناني المطبوع الأستاذ إلياس أبو شبكة ديواناً لطيف الحجم سماه (نداء القلب)، وهو - ما عدا القصيدة الافتتاحية - مجموعة من الشعر الغنائي الرقيق؛ يقرأه الخلي في ساعة إذا شاء، ولكن الرجل ذا القلب الشاعر لا يستطيع أن يفرغ منه ولا أن ينفصل عنه؛ فهو في كل بيت من أبياته لا ينفك بين ذكرى تعاوده، أو أمل يراوده، أو شعور لذيذ يحس انبثاقه فيه، أو وجد أليم يجد أبلغ العبارة عنه. وكان الأشبه بما قلنا أن نسمعك لحناً من ألحان هذا الغزل المشبوب، لهذا الشاعر الموهوب، ولكننا آثرنا أن نسمعك القصيدة الأولى منه، لأنها أبلغ ما يصور حال الأدب الرفيع، في هذا الزمن الرقيع

عصرت فؤادي في إناء من الهوى

وأدنيتهُ من مرشف الفقراء

فقالوا: (خمور ما تبرد غلة)

فتمتمتُ: (واهاً أكبد الشعراء!

أينكر حتى البؤس ما فيك من غنى

وأيّ غذاء أنت للبؤساء؟!)

وذوِّبتُ قلبي في إِناء من الهوى

وأدنيته من مرشف الرؤساء

وقلت لهم: (هذا هو العدل فاشربوا

لعلكمُ تصغون للضعفاء!)

فمالوا جميعاً عن إنائي وغمغموا:

(إناؤك محظور على الزعماء)

وذوبت قلبي في إناء من الهوى

وأدنيته من مرشف السجناء

وقلت لهم: (هذا غراءٌ قلوبكم

ص: 27

فللأبرياء التاعسين دمائي)

فقالوا: (دماءٌ ما تحلْ قيودنا

فهاتِ قوانيناً لغير قضاء)

وذوبت قلبي في إناء من الهوى

وأدنيته من مرشف الحكماء

وقلت لهم: (هذا هو النور فاشربوا

فآراؤكم في حاجة لضياء)

فقالوا، وقد هزوا الرؤوس شماتةَ:

(ضياؤك هذا خدعة الجهلاء)

وذوبت قلبي في إناء من الهوى

وأدنيته من مرشف الأمراء

وقلت لهم: (هذا هو النبل فاشربوا

وطوفوا بأقداحي على النبلاء)

فقالوا: (أتحقير لطغراء جَدِّنا

وما تنسل الأصلاب من شرفاء؟)

وذوبت قلبي في إناء من الهوى

وأدنيته من مرشف الشعراء

وقلت لهم: (هذا هو الحب فاشربوا

فأزياؤكم مرهونة لفناء

إذا الحب لم يضرم لهيب قلوبكم

بَشِعتم ولو جئتم بألف رداء)

وما زلت في الدنيا أطوف بخمرتي

وحوليَ شعبٌ هازي بوفائي

إلى أن دهاني اليأس فاخترت عزلة

أفتش فيها عن حُطام رجائي

ص: 28

وذوبت خمري في إناء من الهوى

لأشربها ممزوجةً ببكائي

فشاهدت قلبي في إنائيَ ضاحكاً

به دعة عذراء في خُيَلاء

فأدنيته من مرشفي وشربته

وما زال ماءُ الحبْ ملء إنائي

ص: 29

‌البريد الأدبي

5 -

الشعر الجديد

وضعنا أمام القارئ في كلمتنا السابقة وصفاً إجمالياً لمنظومة من (الشعر الجديد) حاولنا أن نكشف به عن الطابع العام لهذا الشعر. فإذا هو - كما يمكن أن يتخيل القارئ - مجموعة من التفكك والاضطراب، والبرقشة والأغراب. ولولا خشية الإملال لوصفنا غيرها وغيرها، فلدينا من هذا الشعر أكداس. وقد وعدنا أن نزيد في هذا الكشف في أثناء حديثنا كلما عنت مناسبة. ونجد الآن الفرصة سانحة للإشارة إلى مظهر آخر من مظاهره البارزة: ذلك هو الإسراف في بث المجاز والاستعارة في تضاعيفه، وتحميل الكلام منهما أحمالاً ثقيلة، والغلو في ذلك غلوا شديداً. ولا تحسبن أن هذا عن بصر بهما، أو علم بأصولهما، أو إحاطة بأساليبهما، فذاك مطلب جد عسير عليهم؛ فقد أزحنا بعض الستار عن ماهيتهم، وأبنا شيئاً من طرائق تزييفهم، ووسائل تمويههم. وإنما الذي يصنعون صور منهما افتعلت افتعالاً، وصيغت على أمثلة صاخبة متراكبة، وصبت في قوالب غثة، مما نراه في الأدب الرخيص الشائع الآن بين العامة وأشباه العامة

ويضطرني هذا المقام أن أقول - والأسف يملأ نفسي - إن بلية هذا (الأدب) ليست مقصورة على هؤلاء الشعراء وغيرهم من صغار الكتاب، بل تجاوزتهم إلى الطلاب ممن لم يزايلوا بعد مقاعد الدراسة الثانوية. فعملت فيهم عمل السوس، وأفسدت من سلائقهم، وشلت من ملكاتهم، ولوثت من نفوسهم.

وطالما جهرت - بقلمي وبلساني - بأن هذا الضعف الملحوظ في منشآت الطلبة الآن إنما مبعثه قلة ما يقرءون من مستجاد الكلام وشريف الأفكار، ثم ذيوع هذا (الأدب) بينهم، وتهافتهم عليه؛ لما به من مغريات الشباب وعوامل استمالته ومخادعته. (والفتى آلف لما يستعيد). فضع ما شئت من مادة بين يدي الحدث، وخذه بها، وأدمه عليها، يطبع عليها لا محالة.

ولقد كنت أرى ممن خالطتهم من الإنجليز في بلادهم، أن الوالدين يحرصان كل الحرص على انتقاء ما يطالعه الأبناء في أوقات فراغهم، ويحولان بينهم وبين ما يمس أخلاقهم، أو يضعف لغتهم، ويبذلان في ذلك أعظم الجهد

ص: 30

فللولد هناك مكتبة، وللبنت مكتبتها، حافلة بما يقوي العقل، ويقوم الخلق، ويغذي اللسان

والنشء من أبنائنا محرومون كل هذا، مهملون إهمالاً يكاد يكون شاملاً. وقد انصرف أدباؤنا وشعراؤنا عنهم، وأمعنوا في نسيانهم، وكتبوا وألفوا للكبار وحدهم؛ اللهم إلا محاولات لا تنقع علة، ولا تبل صدى

أعود - وقد استطردت مرغماً - إلى ما كنت بسبيله من الكلام في المجاز والاستعارة، فأقول: إن الأساليب العربية النقية قد اقتصدت فيهما اقتصاداً، فلا تلجأ إليهما، ولا إلى التشبيه أو غيره من طرق البلاغة إلا لغرض حافز، لا للزينة وحدها أو التهويل. يستبين ذلك في كلام الأبيناء من أئمة الترسل قديماً وحديثاً، لا الذين احتفلوا بالتنميق والتزويق، وتعملوا وتكلفوا، وجعلوا الكلام بضاعة تزخرف كما تزخرف السلع المعروضة للأنظار

وهذا كتاب الله، وهو في الذروة من البيان، لا ترى فيه - إذا تجوز - إلا السهل الممتنع الذي حيكت مادته من المألوف السائغ، والبسيط المستعذب

وللعربية مناهجها في التعبير، وروحها في التصوير، ومهايعها في التفكير. ويفهم عنها هذا من تمرس بها وكابدها وتوفر عليها - ولها فوق ذلك - مرانتها ولينها وسلاستها

فعبروا - في هذا النطاق - عما تدعون من غريب مبتكراتكم، وبديع تجديداتكم، ثم دعونا نفهم عنكم، إن استطعتم

ولقد كنت عمدت إلى طائفة من هذا (الشعر) فنثرت ما أمكنني أن ألم شعثه منها، بعد جهد وعناء، فحصل لدي صفحات كنت أبغي عرضها في كلمة من كلماتي ابتغاء التمثيل

فلما عدت إليها بعد ذلك ألفيتها تمثيلاً غير صادق لمذهبهم؛ إذا أن ألفاظهم وحدها هي - في الحقيقة - التي تكشف عما أوضحت من خصائصهم. ومتى بدت الألفاظ، تكشفت عنها الأشخاص. وقد آثرنا - كما قلنا من قبل - أن نكون عن هذا بمنأى

حاشية:

بعد أن فرغت من مقالي هذا، جاءتني الرسالة (عدد 561) وفيها كلمة موجزة للكاتب الفاضل الأستاذ دريني خشبة، ينقد بها آرائي في (الشعر الجديد)، وسأجيب عنها إن شاء الله

(للحديث بقية)

ص: 31

(ا. ع)

حول شعراء الشباب

الأستاذ (دريني خشبة) رائد لهذا الجيل، في جميع فنون الأدب بلا استثناء، ومن ذلك فن الشعر بلا مراء!

وهو يحمل المشعل لشعراء الشباب؛ فآناً يجندهم تجنيداً للتمثيلية الشعرية، وآناً ينافح عنهم منافحة الراعي الذي يشملهم بالعطف والحماية، إذا عنّ لأحد من الشيوخ أن يهاجمهم، كالأستاذ (ا. ع)

ولأن الأستاذ رائد من رواد الجيل، ولأنه راع للشباب بوجه خاص، فإن عطفه يتسع ويتسع حتى ليشمل الكثيرين، فيسلكهم في عداد الشعراء

والحمد لله والمنة على أنني كنت في مرتين أو أكثر ممن وسعهم عطف الأستاذ الذي وسع كل شيء. . . حتى لقد وسع شعراء بحكم الوظيفة، وشعراء بحكم الأقدمية، وشعراء بحكم النظم، وشعراء بحكم محاولة النظم، وشعراء بحكم برقشة النظم؛ وسلك هذه الكثرة الكثيرة مع تلك القلة القليلة التي تستحق لقب الشعراء. وهذا عطف سابغ ولا شك. ولكن ما رأي الأستاذ المفضال، لو رجوته في ألا يشملني بعطفه الوسيع؟ ولو أنهيت إليه كذلك أن بعض من حشدهم في كلمته يرجونه مثل هذا الرجاء في خاصة أنفسهم. . . مع خالص الشكر، وموفور التحية

سيد قطب

فلم رصاصة في (القلب)

طغى على الأفلام المصرية - وهي في طور النشأة - نوع من الفن الغليظ يعمد إلى استدرار الدموع بتلفيق الحوادث المروعة، وافتعال المواقف المثيرة، أو إلى إثارة الضحك بالحركات المبتذلة والنكات المكشوفة. وكان هذا الأسى العنيف، أو هذا اللهو السخيف، طبيعياً أول الأمر لعجز الكتاب والممثلين والمخرجين عن إدراك الفن الصحيح، فكانوا يتوخون التأثير من جوانبه السهلة وطرقه القريبة، كتمثيل ما يؤثر بطبيعته من نكبات الفاقة

ص: 32

والبؤس والمرض والموت، أو تصوير ما يضحك بذاته من شخصيات الحشاشين والفلاحين و (البرابرة)، وكل ذلك في إخراج ينسجم في قبحه واضطرابه مع سخف الرواية وضعف التمثيل

أما فلم (رصاصة في القلب) لواضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وممثله الأستاذ محمد عبد الوهاب، ومخرجه الأستاذ محمد كريم، فشيء آخر يختلف في لهوه وجوه وفنه. هو قطعة من المرح الرقيق الرفيق العذب، فيه الفكاهة وليس فيه الإسفاف، وفيه النشوة وليس فيه العربدة. رواية طريفة الموضوع فنية الوضع مطردة الحوادث هادئة السياق؛ وتمثيل طبيعي الحركات منسجم الأشخاص بارع المواقف؛ وإخراج قام على فهم روح المؤلف وإدراك طبائع الممثلين، فرتب المشاهد، وحرك الأشخاص، وسلسل العمل، على نظام عجيب من الفن جعل كل شخص وكل شيء في هذا الفلم قائماً بعمله المطلوب، وموضوعاً في موضعه الحق

ولعل أعجب ما في هذا الفلم أن عبد الوهاب الممثل كاد يطغى على عبد الوهاب الموسيقار! فقد كان الجمهور مفتوناً برشاقة حركاته وعذوبة كلماته وصدق تمثيله، حتى كان انتظاره للقطع الغنائية على روعتها وجمالها في هذا الفلم أقل منه في الأفلام السابقة. وربما كان مرجع ذلك أيضاً إلى أن روح الفنان التمثيلية غلبت على روحه الموسيقية، فمذهبه الحديث في التلحين يغلب فيه تمثيل العواطف والمواقف بالنغم المعبر، دون أن يكون للقرار تلك النغمة الخاصة التي كانت تشق الحناجر بالهتاف وتدمي الأكف بالتصفيق.

وجملة القول أن (رصاصة في القلب) فصل جديد في تاريخ النهضة السينمائية المصرية يسمح للذين قاموا على إنتاجه وإخراجه أن يضعوه يوم المنافسة بجانب الأفلام الأمريكية من غير تهيب ولا تردد.

ص: 33

‌الكتب

الأدب يعرض التاريخ

عمرو بن العاص

للسيدة وداد سكاكيني

كان لي عجب أن رأيت الأستاذ عباس محمود العقاد، على غير ما خيل إلي ونعت، فلما لقيته تهيبت جانبه وتحيرت في تحيته فوجدتني أدير على لساني كلاماً أستل به ملامة وقرت في نفسه يوم دفعت عن المرأة ما شاء الأستاذ الجليل أن يصمها به من الفثاثة في الفن والضآلة في العبقريات، وقد كنت في سوالف الخيال أحسبه قد بسط على منكبيه من أدبه المتين بردين من العنجهية والخيلاء؛ ولكن حين أتيت مصر سألت عنه من يعرفه فوصف لي بغير ما حسبت، ولما سمعته صغر الخبر الخبر

رجل حبار القامة، رفيع الهامة، وديع الطلعة، يفيض حديثه من علم عقله وشعور قلبه ووحي ضميره، ويمد ببصره إلى أغوار الكلام فيتناول لآلئ المعاني، ويجول في آفاق الفكر تجوال الأديب المكين. قلت له لا تتريث على أن يكون أول ما أرى من مآثر مصر أدبها الحي ووثبتها المرموقة في نوابغها وقادة الفكر فيها، ونحن وإن اختلفنا في الرأي والمقالة؛ فإننا نرجع إلى الحرية. فتبسم عن رضى وتألقت فيه نفس الأديب الكريم

وسرعان ما عكفت بعد لقياه على كتابه الجديد (عمرو بن العاص) فقرأته بإعجاب نسيت فيه ما كنت أحسه من كآبة الاغتراب في نفسي، وألفيتني أستمع للتاريخ وأتدبر الأحداث، فإذا أنا بين دفتي كتاب على نسق العبقريات، وسمه ناشروه بأعلام الإسلام، فكان فاتحة لجهدهم المحمود. جلا فيه العقاد عمراً في شخص فذ عظيم من شخوص العرب الذي صمدوا للدهر

وتركوا في الدنيا دوياً، فقرب المؤلف بلباقته وبراعته ما تناءى من التاريخ على القارئين. ومن للناس في كل حين بالطبري والدميري والطبقات والسير وكتب التراجم والأخبار، فهم إن عركوا أوراقها ومزقوا جلودها من طول البحث فيها والتنقير ما حصلوا منها على طائل ولا نالوا من نائل، حتى كانت منالة الأدب الحديث، فأورد القراء بكرام الكاتبين موارد

ص: 34

السهولة في التاريخ والسير، إذ سكبوا بيانهم على الحادثات الغوابر، فردوها نواضر وبعثوا أمجادها للأجيال لتكون لهم فيها أسوة ومنفعة

وكذلك فعل العقاد في كتابه الجديد، فارتديت رداء امرأة من نساء العرب وخلطت نفسي بنسوة من قريش يعجبن بصنع عمرو وخليقته، ويرين إلى أبيه العاص بن وائل وهو في الذروة من بني سهم فيشفقن مما يخوض به الرجال من ملامز عمرو بن العاص وضعة نسبه لأمه السبية، وأنها كانت كبرى المغنيات في مكة وآخذهن لأجرة. فقلت لله هؤلاء العرب الأشداء الذين عبدوا أنسابهم فتنافسوا فيها وناشدوا بها الرجال والنساء، وأرادوها في الخيل والسيوف! ثم رأيت عمراً وقد أفضت مضجعه هذه الفرحة الدامية، وأنداده في صحة منها وعافية، صليبتهم نقية وحسبهم معروف، فكانت مغامز الحساد لابن العاص حوافز مرهفة لتعاليه ونشدانه البسطة في الوجاهة والثروة. وقد أعدته المواهب والشمائل لبلوغ ما صبا إليه في زهو الشباب، وكان يرى بلحظ الغيب نصيباً من المجد والسلطان أدركه في عنفوان الرجولة وفي عهد الفتح المبين

لقد عرض الأستاذ العقاد عمراً في معاريض الدهاء المبكر؛ إذ كان يحل خلافاً قد استحكم بين طلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام. وإذا بالإسلام يظل العرب فيندبه الرسول عليه السلام ليحكم بين جماعة من قومه يهددون المسلمين فيكسر ابن العاص شوكة الظالم ويفل جمع الباغين بدهائه وفطنته، فتتطامن له الشجاعة والحيلة، ويزكو ذكاءه مع الأيام القابلة وهو ما يزال يحس بين جنبيه هذه الشوكة الناخزة في نسبه لأمه التي يجهر بخبرها الناس إذا خلا بعضهم إلى بعض، ويسرونها كلما رأوه فيزداد طموحه وتغريه وثبات هذا الطموح بالتماس الأسباب للغلاب بالأمارة والرئاسة على من يفاخرونه بشرف الأمومة

ويموت أبو عمرو، وكان من سراة السهميين، فأخو عمرو يرث أباه ويكون ذا مال، وعمر مقل فقير، فأين ماله من أبيه؟ هاهنا يقلب الأستاذ العقاد وجوه الرأي ومدار البحث حول هذه المسألة، فيرينا عمراً وقد بقى محافظاً على رضى أبيه. ولم يسلم حتى مات أبوه الذي رغب عن الإسلام، وأنه لا يبعد أن يكون عمرو قد أصاب شيئاً من الميراث فأنفق منه ما أنفق بعد يأسه من تجارة الحبشة والشام، ولم يبقى له عند ولايته على مصر إلا اليسير. على أني أجد تعليلاً لفقر عمرو سهلاً هيناً، أفلم تقل أمه: انظروا من يشبه فألحقوه به.

ص: 35

وكان عمرو في صغره يرعى غنما لأبيه، ثم صار جزاراً. وما ظنك بشيخ من أقوام العرب كالعاص بن وائل أبي عمرو يبلغه هذا المطعن في نسب ولد يعزى إليه ولم يكن للعرب يومئذ حكومة يدفعون بها عن أنفسهم ما لحقهم من سوء الأنساب بأولاد يعزون إليهم كرهاً، وكيف حاول أبو سفيان إخفاء نسب ابنه زياد، فلا يبعد أن يلجأ العاص بن وائل إلى حرمان عمرو من ماله وهو عنده شيء مادي مقدر ومقوم بالدينار والدرهم. وكان من خصال بني سهم المطال في الدين وكم كانوا له يلوون! ولعله قال يكفى عمراً أن ينتمي ويدعي إلى العاص

ولا جرم أن مثل هذا الخاطر مر ببال الأستاذ العقاد، ولكن ما كشفت عنه نصوص الرواية. وكان جهده في حقائق التاريخ أسد الآراء وأبلغ الحجج، فإذا علل الأستاذ المؤلف سر طموح ابن العاص وتعاليه بفقدان نسبه الطيب لأمه، فما أحرى التعليل بميله للمال وتكالبه عليه لحرمانه الميراث

أما نفس ابن العاص فقد حلل العقاد تفاريقها وألوانها من وجهات عدة؛ فآونة عرضها في نفس متهالك على الثراء، وجاء بالبرهان على ذلك في أقوال عمرو وأفعاله منذ عهد الرسول إلى وفاته بمصر بعد فتحها الثاني. وآونة يشرح بديهته ودرايته واضطلاعه بالحكم والولاية، وظفره بالثقة والخبرة اللتين مكنتاه من الفتح والنضال، فهو في حضرة البطريق ينجو من مكيدة، وهو في مبارزته للإمام عليّ ينجو بالحيلة والدهاء

وهذا عمرو كهلاً يدلف إلى أعز العمر بأساً وحصافة، فهو فاتح فلسطين ثم فاتح مصر مرتين. وهذا عمرو شيخاً منهوماً يتلهف شوقاً إلى المال وله ضيعة وحشم، ويكون من همه بعد أن عزت عليه الخلافة أن تكون له مصر ولاية جامعة، فينال ما يبتغى ويموت فيها ويدفن في ثراها

قلت ما أحسن كتباً يطرف بها الناس أديب الكنانة الأستاذ العقاد، فهو بعد أن طوف طويلاً في آفاق فنه بالأدب الصرف، تلفت صوب الماضي الأغر واتصل بمآثره الخالدة، فعاد منها بما غاب عن القارئين وزودهم بعبقريات وهاجة في تاريخ الإسلام تضيء في محمد بن عبد الله وصحبه وأبطاله، وهذا لعمري أجل فضل يؤديه الأديب للسيرة والتاريخ.

وما انتهيت من كتاب العقاد (عمرو بن العاص) حتى قلت: يا لله لمصر الخيرة، ويا لمجد

ص: 36

العرب فيها! لقد ملكوها ردحاً من زمان في عهد الفراعنة، وكانوا رعاة إبل وغنم يسمون (الهيكسوس)؛ وفتحوها في عهد الإسلام، وهم أهل دين وحضر، وكانوا يسمون صحابة رسول الله!

(القاهرة)

وداد سكاكيني

ص: 37