المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 563 - بتاريخ: 17 - 04 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 563

- بتاريخ: 17 - 04 - 1944

ص: -1

‌بين التخطئة والتصويب في اللغة وغيرها

للأستاذ عباس محمود العقاد

عاد بنا الأستاذ (عبد الحميد عنتر) إلى قواعد الصرف في النسبة إلى أم وأمه وأمهة التي تحدثنا عنها في مقال سابق

فالأستاذ يقول (إن الهاء في سنة لم تقلب واواً في النسب كما قد يتوهم، لأن هذه الواو مبدلة من تاء التعويض المشوب بالتأنيث. . . والواو في سنوي ونحوه أصل من أصول الكلمة كانت حذفت وعوض عنها التاء. . .)

إلى أن يقول: (وإذا ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء في سنة ثبت أن الهاء في أمهة لا يصح قلبها واواً. . .) إلى آخر ما جاء في مقاله تخطئة (للأموية) في النسبة إلى أمه وأمهة

ورأينا أنه لم يثبت بالدليل أن الواو في سنوي أصل من أصول الكلمة محذوف، وإلا لجاز على وجه من الوجوه أن يقال سنة وسناء وشفة وشفاء وعضة وعضاء، كما يقال فرو وفراء ودلو ودلاء وجرو وجراء وحقو وحقاء، إلى آخر هذا الباب

ومن الطريف في إضعاف الدليل الذي عليه الأستاذ عنتر أن بعض العلماء بالعبرية يردون سنه إلى أصلها العبري وهو (شنه) المؤلفة من ثلاثة حروف مجموعها بحساب الجمل 355 وهو عدد الأيام في السنة القمرية. فالشين في هذا الحساب تساوي ثلثمائة والنون تساوي خمسين والهاء تساوي خمسة، ولا محل هنا للواو ولا للتاء

فقول الأستاذ (ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء) لا يؤيده شيء وتنفيه أشياء، وفي تعليلات النسب التي يعتمد عليها الصرفيون ما هو أضعف جداً من التعليل الذي اخترناه للنسبة إلى أمه وأمهة على اختلاف القول في أصل حروفها

بل نحن لو ذهبنا إلى القول بأن الأموية والأبوية جائزة على الجوار لما كنا في قولنا أغرب عن المألوف من القول بالغدايا والعشايا لهذا الجوار بعينه، أو للاتباع الذي هو أغرب من الجوار

لكن الخطر على اللغة في هذه الكلمة هين - بالغ في الهون - إلى الخطر الأكبر الذي نحن متهمون بتعريض الإسلام له في كتابنا (الصديقة بيت الصديق)

ص: 1

أيدري القارئ ما هو هذا الخطر الأكبر الذي يقوم له بعض الأناسي من أنباء آدم ويقعدون؟

خطر لا يخطر على بال، ولا نظنه بعد ذلك يثبت في بال

ذلك الخطر هو اجتهادنا في إثبات سن السيدة عائشة عند زواجها بالنبي عليه السلام، لاستبعادنا أن نكون خطبتها في السادسة والبناء بها في التاسعة كما جاء في بعض الروايات، فقلنا إنها ربما تجاوزت الثانية عشرة عند البناء بها، معتمدين على الأسباب التي سردناها في الكتاب

والظاهر أن بناء النبي بفتاة تتجاوز التاسعة خطر لا تنام عنه بعض العيون التي تنام عن كل شيء

فلهذا يقوم بعض الأناسي من أبناء آدم ويقعدون ليدرأوا هذا الخطر الأكبر ويثبتوا جهدهم أن عائشة لم تتجاوز السادسة وهي مخطوبة، ولم تتجاوز التاسعة وهي زوجة في بيت محمد عليه السلام

والبديع حقاً أن الغاضبين - أو الغاضب - لارتفاعنا بسن السيدة عائشة إلى ما فوق الثانية عشرة عند زواجها هو قاض شرعي، فهو لا يقبل من مسلم من عامة الناس أن يتزوج بمن لم تبلغ السادسة عشرة ثم يثور ليؤكد أن محمداً عليه السلام بنى بزوجة في التاسعة أو ما دونها، مع قيام القرائن التاريخية التي تدحض هذا التقرير

إن حقدك علينا لا يغض منا لأنه مقياس نعمة الله التي خصنا بها على رغم أنفك، وإذا كان حقدك علينا فوق غيرتك على واجبك فأي مقياس لنعمة الله أبلغ في الدلالة من هذا المقياس، وأحق بالشكران منا فوق هذا الشكران؟

فالحمد لله. وزادنا الله، وزادك، مما أوجب هذه الهيجة التي لا تنام عنها عيناك

وقد كانت السيدة عائشة في الثانية عشرة على أقل تقدير، ولم تكن قط في السادسة أو التاسعة كما تقول

واصرخ في واديك بعد هذا كما تشاء

ويظهر أن هناك معركة أخرى تشملني في حومتها خلال هذا الأسبوع، كما نمى إلى من أسئلة بعض الأدباء

فهؤلاء الأدباء على ذكر مما كتبت أخيراً عن غرض الأدب وعلاقة الفنون بالمشكلات

ص: 2

الاجتماعية، وهو موضوع يختلف فيه اليوم كاتبان كبيران كلاهما له حق الرأي والتوجيه في هذه الشئون، وهما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ توفيق الحكيم

فالأستاذ أحمد أمين يقول: (إن الأدب العربي إلى الآن تغلب عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية، فالغزل والمديح والعتاب والرثاء والفخر والهجاء ونحوهما كلها في الأدب القديم نزعات فردية طغت على الأدب العربي ولو نته اللون الذي نراه. . . وأرى أن العربي يجب أن يتجه من جديد إلى النزعة الاجتماعية. . . أعنى نظر الأدباء إلى مجتمعهم الحاضر يشتقون منه رواياتهم وأقاصيصهم وشعرهم ومقالاتهم الأدبية. . . وهذا النوع من الأدب يجب أن يكون أسلوبه سهلاً واضحاً جميلاً جهد الطاقة، لأنه لا يؤدي رسالته حتى يصل إلى آذان أكبر عدد ممكن في الحقيقة الاجتماعية)

والأستاذ توفيق الحكيم يقول: (إن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس وشهرزاد هو النوع الأرقى في الأدب. . . في كل أدب. . . لا في الماضي وحده ولا في الحاضر. . . بل في الغد أيضاً وبعد آلاف السنين. . . وإن اليوم الذي نرى فيه الأدب قد استخدم للدعايات الاجتماعية والتصوير استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، والشعر جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية - لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلاً يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعاً غير ذلك النفع المادي المباشر. . . هذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان). . . وقد سألني أدباء فضلاء من قراء الرسالة: ما الرأي بين المذهبين؟ وأي القولين فيه الخطأ وأيهما فيه الصواب؟

وأقرب الوسائل عندي إلى الوجهة القصوى من هذا الاختلاف أن نعود إلى الماضي البعيد لنرى على التحقيق الذي لا تردد فيه - على ما نعتقد - إن وجهة الأدب والأخلاق والشريعة جميعاً إنما تتقدم من الاجتماعية إلى الفردية، لا من الفردية إلى الاجتماعية، كما يؤخذ من مقال الأستاذ أحمد أمين

ولهذا كانت أغراض الأدب العربي فيما مضى هي الأغراض التي تعني القبيلة ولا تعني أفرادها على استقلال، وهي الفخر والحماسة والمديح والهجاء والغزل والرثاء

فالفخر بالأنساب والأحساب سنة من سنن القبائل البدوية التي تتفاضل بعراقة الأجداد

ص: 3

والآباء

والحماسة مطلب لا غنى عنه في حالة الصراع بين القبائل التي تتقاتل أبداً على المرعى والماء ومظاهر الجاه والغلب

والمديح والهجاء سلاح للقبيلة يرتبط به العز والهوان، وتنظر إليه القبائل نظرتها إلى سلاح؛ فتحتفل بظهور الشاعر كما تحتفل بالفرس الكريم والغارة الموفقة

وليس الغزل من المسائل الفردية التي تنفصل عن النوع والأمة والقبيلة، وليس الرثاء كما عرفه العرب مطلباً فردياً، لأنهم قلما نظموه في غير السادة الذين ترثيهم القبيلة قبل أن يرثيهم الأقربون، وليس ما نظم في رثاء أخ أو صديق أو زوجة يبالغ عشر ما نظم في الرثاء القبلي الذي يهم من الوجهة الاجتماعية مرات، قبل أن يهم مرة واحدة من الوجهة الفردية

هذا في الأدب جملة

أما في الأخلاق والشريعة فحسبنا أن نذكر الرجل كان يقتل في التراث لأنه فرد من أفراد القبيلة، لا لأنه هو القاتل بيديه، وحسبنا أن نذكر سنة الخلع لنعلم أن الخروج على حظيرة القبيلة هو بمثابة الخروج على حظيرة الشريعة والأخلاق

فاتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية، أو من التبعات والحقوق العامة إلى التبعات والحقوق الخاصة، ومناط التقدم عندنا هو قدرة المجتمع على إخراج أكبر عدد من الأفراد لهم استقلال في الحق والتبعة يعترف به العرف والقانون

كذلك نرى من جانب آخر أن الاهتمام بالحاجة المادية هو أقدم المطالب التي شعر بها الناس، وليس هو بأحدثها وألزمها للإنسان في عصور التقدم والارتقاء

وأن أمل الإنسانية الأكبر لهو أن تصبح على توالي الأيام أقل اشتغالاً بالطعام والكساء، وليس أكثر اشتغالا بهما كلما ارتفعت في معارج الحياة، وأن تنتقل من الشيوع إلى التخصص الذي يجعل بعض الناس مشغولين بعمل لا يشتغل به الآخرون، ولا يجعلهم من كتاب وشعراء وفلاسفة واقتصاديين وتجار وزراع مشغولين بشؤون المعيشة في عالم الواقع وعالم الفكر وعالم الخيال وعالم الأحلام

ومناط الفن الأعلى أن يتذوقه أرفع الناس ذوقاً وأدقهم حساً وأغزرهم علماً، وليس أن

ص: 4

تشترط فيه الملاءمة لأقل الناس في جميع هذه الصفات

وقد أحسن الأستاذ الحكيم حين شبه المجتمع الذي يستخدم الفن للرغيف بالطفل الذي يضع الحلية في فمه، لأنه لا يحسن أن يتملاها بنظره

فلا بد من شيء في الفن لا ينتهي إلى المعدة ولا يتوقف على الذين يعيشون للمعدات

لكن هل يفهم من ذلك أننا خطأنا الأستاذ أحمد أمين في حرصه على المصالح الاجتماعية والمطالب المعيشية؟

كلا. بل نحن مثله في حرصنا على تلك المصالح والمظالب، ولكننا نقول إن ظهور الفنون الخالصة في بنية الأمة ضرورة حيوية لسلامة تلك البنية، فإذا وجدت الفنون الخالصة في الجو الذي يلائمها كان ذلك دليلاً على استكمال المطالب التي دونها في مراتب الكمال، كأنما هي الزهرة التي لا تؤكل ولا تشرب، ولكنها إذا غابت عن الشجرة كان ذلك دليلاً على مصاب أحاط بالثمرات والقشور والأوراق والأحطاب

فالفنون الخالصة زهرة الأمة التي تنم على حياتها، ولن تحيا أمة يكون فيها اختلال يعوق مصالح الأكثرين ومطالب المعدات والأجسام.

وعلى هذا نتفق جميعاً إذا اتفقنا على أن الفنون علامة صحة ونماء، وليس من الضروري بعد ذلك أن نطالب حمرة الخدين بفائدة مادية غير الدلالة على الجسم الصحيح

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الميل إلى الهدم

وصراع الديكة بين الأدباء والفنانين

للأستاذ دريني خشبة

يحيا الأدباء والنقاد ورجال الفكر والموسيقيون وسائر الفنانين في مصر كما تحيا الديكة. . . يعدو بعضها على بعض، ويحاول أحدها أن يمزق جلد الآخر إن لم يستطع أن يقتله. . . والناس مغرمون بهذا بالرغم مما ينطوي عليه من شر، وما يفسر ما في غرائزنا من نقص، بل نكسة إلى الحيوانية. . . فهم يقفون ليلتذوا صراع الديكة التي يدمى بعضها بعضاً، وكلما ازداد هذا الإدماء ازداد التذاذ المتفرجين على حساب الآلام القتالة التي يألمها الطائر المسكين، وقل في الناس من يحمل قلباً يأنف أن يلتذ آلام الغير

ويلذ الناس في مصر أن يشهدوا هذا الضرب من صراع الديكة بين الكتاب والنقاد ورجال الفكر والموسيقيين وأبطال المسرح وسائر الفنانين. . . ثم بين المشتغلين بسياسة البلد العليا من رجال الأحزاب بوجه خاص. على إنه إن جاز شيء من صراع الديكة بين رجال الأحزاب السياسية، فلست أدري لماذا يشتد هذا النوع من الصراع بين رجال الفكر والفنون؟ هل قال أحد إن الحكومة ستنشئ وزارة للأدب، فالأدباء يصطرعون عليها؟ أم زعم زاعم أن الدولة سوف تنشئ للنقد المناصب العوالي فالنقاد يستعدون ويستعدون ويشرعون الأسنة والرماح؟

1 -

كتبت مرة كلاماً في المسرح المصري أدعو فيه إلى الوحدة والتعاون من أجل الخير العام، ثم جعلت أشيد بالجهود الكبيرة التي بذلها فلان وفلان من أبطالنا المسرحين، فما أصبحت حتى زارني بعض رجال أحد المعسكرات المسرحية، ثم شرعوا يعاتبونني معاتبة شديدة لأني عددت هؤلاء الأبطال المسرحيين أبطالاً حقيقيين جديرين بأن تذكر أسماؤهم في صفحات الرسالة، بله أن يشاد بجهودهم فيها؟!. . . ولقد كانوا يتدفقون حماسة وهم يقذفون في وجهي بهذا العتب، حتى كددت أركن إليهم شيئاً قليلاً لو لم يعجلوا بالانصراف. فلما انصرفوا، لم يزد دهشي إلا إقبال نفر من المعسكر المسرحي الآخر، جاءوا للسبب نفسه الذي جاء من أجله إخوانهم السابقون! وبالطبع لم يكن قدح هؤلاء في أولئك أهون من قدح أولئك في هؤلاء! وبالطبع، كدت أركن إلى هؤلاء كما أوشكت أن أركن إلى أولئك. .

ص: 6

وقلت في نفسي: هذا سبب أليم من أسباب انحطاط المسرح المصري!

2 -

وكتبت مرة كلاماً أدافع به عن الموسيقيين المصريين مما رماهم به الأستاذ توفيق الحكيم من جمود وعقم، ثم ذكرت بعض أسماء هؤلاء الموسيقيين، ولاحظت أن تمثل هذه الأسماء المدارس أو المذاهب الموسيقية المختلفة في مصر. . . فما أصبحت حتى زارني بعض الأساتذة الأفاضل المشتغلين بالموسيقا ليخبرني أنه يوشك أن يغير رأيه في، لأني أعد فلاناً وفلاناً وفلاناً من الموسيقيين أو الذين يعرفون شيئاً في الموسيقاً؟!. . . ثم انطلق، حفظه الله، يبرهن لي على جهل هؤلاء الزملاء، إن صح أن يتشرفوا بزمالة الأستاذ العظيم، ثم انتهى إلى التصريح بأن الذين ذكرت هم سبب نكبة الموسيقا المصرية، وأن فلاناً هذا صفته كيت، وأن فلاناً ذاك نعته كيت وكيت، وأن فلاناً الثالث دعي ولا وزن له ولا. . . ولا. . . وقد كدت أيضاً أن أركن إلى الأستاذ المتحمس شيئاً قليلاً أو شيئاً كثيراً. وذهبت في المساء إلى بعض من ذكرت في كلامي الذي أثار صاحبي، وانطلقت أعدد له الكثير من المآخذ التي حفظتها من أحد؛ لكنه ابتسم ابتسامة عريضة هادئة، ثم قال: كلا يا صديقي، عهدي بك جاهلاً بالموسيقى من حيث هي فن وعلم وتطبيق؛ ولكنه كلام أحد غيرك قذفه في أذنيك فأتيت تغيظنا به. . . فمن ذا الذي زارك اليوم؟ واعترفت له أن كلاماً ألقى في أذني عن الموسيقا وأنني ربما لم أفهمه. فلما ضاق بي لأنني لم أبح له باسم الصديق الكريم، انطلق يسفه آراء القائلين بإلغاء الموسيقا الشرقية جملة، وإحلال الموسيقا الغربية محلها، ثم انتقل من التسفيه إلى التجهيل، ومن التجهيل إلى السب. . . يوجهه إلى أسماء بعينها. كان ظريفاً أن يحي اسم الصديق الجليل بينها، وأن يناله من غضبة الموسيقى المنفعل قدراً طيباً

فعجب في نفسي وقلت: وهذا أيضاً سبب أليم من أسباب انحطاط موسيقانا!

3 -

ويؤلف السادة من رجال الفكر فينا كتباً قيمة يسدون بها في المكتبة العربية أركاناً خاوية في كل علم وفن وأدب، وهي كتب ثمينة قضى في تأليفها هؤلاء السادة الكتاب أخصب ما ينفق المؤلفون من أعمارهم. . . فهم مؤرقون والناس نيام؛ يحبسون أنفسهم في مكتباتهم أو في دور الكتب يبحثون ويقرئون ويكتبون وينفقون المال والجهد في سبيل حقيقة علمية أو طرفة أدبية؛ بينما الناس يملأون الحدائق ودور اللهو البريء وغير

ص: 7

البريء، حتى إذا صدرت مؤلفاتهم تلقفها السادة النقاد أو بعض السادة النقاد، وأقبلوا عليها، كما يقبل الغريم على غريمه، واقتعدوا منها مقاعد الأستاذية والمعرفة المتبججة التي تدعى علم كل شيء والإحاطة بكل شيء، حتى إذا تصفحوها عجلين شمروا عن سواعدهم المفتولة، وشرعوا أقلامهم المسنونة، ثم أخذوا في الحط من أقدار المؤلفين والتأليف، وبكوا أو تباكوا على هذا الزمن اليائس التعس الذي رخصت فيه أقدار العلم، وهانت منازل الأدب. وذهبوا في المبالغة إلى حد أن يتمنوا إن لم يكونوا قد شهدوا هذا الزمان العابث الذي يجسر فيه سادتنا الكتاب المؤلفون على إصدار ثمار قرائحهم، غير عاملين حساباً لهؤلاء السادة النقاد المحترمين. وقد شهدنا في الشهرين المنصرمين غير مأساة من مآسي النقد، اضطر فيها المؤلفون إلى صراع الديكة إزاء النقاد الجائرين الذين جعلوا وكدهم كشف العورات وغض النظر عن الحسنات

ولا شك أن هذا السلوك من النقاد سبب أليم في تأخر فن النقد في مصر

4 -

وأطلعني الأستاذ صاحب (الرسالة) على كتب يحملها إليه البريد من مصر ومن الشرق العربي فيها قدح شديد في بعض كتاب هذه المجلة - والله المحمود على أن كان نصيبي من هذا نصيباً طيباً - وقد هالني ما تناول به أحد القراء أحدنا نحن الكتاب المظلومين من ثلب وانتقاص وتجريح، لأنه غفل عن محاربة كذا وكذا من أفكار المؤلفين الغربيين التي يبشرون بها في كتب وضيعة تقدح في الشرق وفي أديان وعادات الشرق، ثم ذكر حضرة القارئ المتحمس طائفة من أسماء هذه الكتب، وأخذ على الكاتب المسكين عدم اطلاعه عليها. . . كأنما يظن أن لنا وكالات لتسقط أخبار هذه الكتب في البلاد الأوربية فهي تصلنا بانتظام لكنا كسالى أو سيئو النية لأننا نعلم ما في هذه الكتب ولا نأخذ أصحابها بالرد العنيف الذي يؤدبهم ويردهم إلى محجة الصواب

ألا ما أظلم الكثيرين من القراء! حقاً إن القراءة فن لا يحسنه إلا الأقلون!

5 -

وخامسة الأثافي، أو داهية الدواهي، ما وقعت فيه من أسبوعين من الخطأ الشنيع. . . فقد ذكرت في كلمتي إلى أستاذنا الجليل (ا. ع) طائفة غير قليلة من الشعراء الشباب في مصر على أنهم بعض من يمثل شعرنا الحديث، وكان هذا الخطأ سبباً في إثارة بعض هؤلاء الشعراء الشباب أنفسهم، فقد ساءهم أن تحشر أسماؤهم على هذا النحو الزرى في

ص: 8

ذاك الثبت الطويل من أسماء الشعراء

وما زالت عند رأيي من استجادة شعر هؤلاء الشباب، وربنا كنت أعرف بهم من حضرات زملائهم الناقمين، لأن كثيرين منهم يتفضلون على فيرسلون إلى طرفاً رفيعة من أشعارهم تدل على ما سيكون لهم من أثر في الأدب المصري عامة والشعر المصري الحديث على وجه التخصيص. . . ولكن المضحك في هذا الأمر غلو بعض من نقموا مني ذكر أسمائهم في ثبت الشعراء هؤلاء! لقد أقبل أحدهم ثائراً كالعاصفة و (نكش) شعر رأسه (نكشة) أفزعتني، ولست أقول إلا الحق! ثم راح يتهمني بأنني أناقض نفسي حين أعلن استجادتي لشعر هؤلاء (ال. . .) - على قرب عهدي بالدعوة إلى تجديد الشعر العربي، وما أطلت في الكتابة عن وجوه هذا التجديد

فانظر أيها القارئ كيف انصرف هؤلاء الشعراء الشباب الأفاضل عن أستاذنا الجليل (ا. ع) الذي شوى جلودهم فلم ينبس منهم أحد بحرف، إلى هذا القلم الضعيف الذي شرع نفسه للدفاع عنهم فرفضوا هذا الدفاع أو جحدوه لأنه أخطأ فذكر أسماءهم بين أسماء متواضعة، غير لامعة. . .

والظريف أن الذين أنكر عليهم صديقي (العاصفة) شاعريتهم كانوا شعراء من الطبقة الأولى عند صديق آخر سعى إلى ليعلن احتجاجه للسبب نفسه. . . وقد حرت والله في أمر هؤلاء الشعراء الشباب، كما حرت من قبل في أمر المسرحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والنقاد والقراء. . . وأخشى أن أحار أخيراً في أمر نفسي. . .

يا رجال الفكر والفنون في مصر، بعض هذا الهدم، ولا تكونوا: كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله!

دريني خشبة

ص: 9

‌التفاؤل.

. .!

للأستاذ عمر الدسوقي

واحسر تاه على هؤلاء الذين حرموا سعادة التمتع بالوجود، ورأوا الدنيا دار شقوة وعذاب، وأن العالم يغص بالشر يكمن لهم في كل ثنية، ويطالعهم في وجه كل إنسان، ويرددون مع ابن الرومي قوله:

لما تؤذن للدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأفسح مما كان فيه وأرغد

ويتندمون على أنهم تنسموا هواء هذه الحياة فيما فيها إلا إفك وبهتان، وخب وخداع، وأمراض وآلام، لا يحقق فيها رجاء، أو تصفو فيها مسرة، ويقولون مع أبي الطيب أولاً:

وما الدهر أهل أن تؤمل عنده

حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل

ومع أبى العتاهية ثانياً:

ما زالت الدنيا لنا دار أذى

ممزوجة الصفو بألوان القذى

إن أصابهم خير قالوا: ضحك القدر الساخر، يمد في أسباب النعمة الزائلة، لتكون جراحاته أشد إيلاماً أنكى وقعاً، وأمض للنفوس لا تؤمن غواثله، ولا تكف عواديه. وإن مسهم شر ظاهر برموا بالحياة وودوا لو عجلتهم المنية؛ وطففت ألسنتهم تقذف بالسباب للدهر، والسخط على القدر والناس طراً، وتنم عن قلوب مشحونة بالغيظ والحسد واليأس، والناس عندهم أحلاس مكر ونفاق، فليس الحديث إلا أحبولة طامع وشرك منافق، والاقتصاد في زخرف القول خشونة معتد واعتداد قوي

إذا ما الناس جربهم لبيب

فإني أكلتهمُ وذاقاً

فلم أر فيهمُ إلا خداعاً

ولم أر بينهم إلا نفاقاً

هكذا يقول المتنبي في بعض سخطاته على العالم لأنه لم ينله طلبته ويبلغه أمنيته، بل نراه يحرص على الانتقام من البشرية:

ومن عرف الأيام معرفتي بها

وبالناس روى رمحه غير راحم

فليس بمرحوم إذا ظفروا به

ولا في الردى الجاري عليهم بآثم

والأرض وما فيها من زهر فواح، وبحر رقراق، ونسيم عليل، وسماء صافية، وشمس

ص: 10

ضاحكة، وطبيعة متبرجة، لا تدخل على نفوسهم مسرة، أو تقلل من نكدهم وعبوسهم، بل إنهم ينكرون هذا الجمال، فالسماء شوهاء، والأرض جرداء

ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مُرُّا به الماء الزلالا

إذا بدا لهم أن يقدموا على عمل تملكتهم الرهبة، وتوقعوا الخيبة، وأوجسوا خيفة من كل شيء فيقدمون وقلوبهم مزعزعة وعقولهم مضطربة، وقلما يصيب النجح من يمشي وتمثال الإخفاق والشر نصب عينيه

وما أدرى إذا يممت أمراً

أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

ولذا نراهم يلجئون إلى الخرافات والتطير يتخذون منها نذراً لما عساه يصيبهم من مخبآت القدر الذي ضعف إيمانهم به وثقتهم فيه، وهذا عنوان العقول التعبة والنفوس الخوارة العيابة

أحقاً أن الحياة نقمة لا نعمة، وأن نظام العالم مختل، وقانون الطبيعة معتل، وأن ليس في هذا الوجود ما يحببنا في الحياة؟ إن العالم بنظامه الحاضر - بشموسه وأقماره، وأرضه وبحاره، وما فيه من انسجام ونظام، أبدع عالم يمكن أن يوجد ما في ذلك ريب. وحسبنا أنه هيئ ليعيش فيه الإنسان ويسخر كل ما يحيط به من بحار وشموس وجبال وحيوان، وأنه الحي المفكر يلمسها ويستخدمها ويتغلب بما أودع فيه من ذلك النور الرباني على الطبيعة العاتية، ويجتلى به أسرارها ليبرهن بحق على أنه خليفة الله في الأرض، وأنه أهل لأن يحمل الأمانة التي أشفق غيره من حملها

ألا يرى هؤلاء المتشائمون أن صغار الأحياء من حمل في الحقل، وطائر على الفنن، وطفل في الملعب، تنهل كلها وتعل من نبع الوجود الصافي، وتغدو طربة وتروح مرحة، وأنها لا تشعر بأن الحياة شقوة بل تراها نعمة سابغة جديرة بأن يستمتع بها، ويحرص عليها؟

وإذا كان هناك من الكبار من لا يرى وجهها الفتان إلا نكداً مشوهاً، فذلك لأنهم لم يحيوا الحياة الطبيعية، أو أنهم حرموا في طفولتهم الحب والعطف والحنان، فتأصل في نفوسهم سوء الظن بالعالم، أو أنهم أخفقوا في نيل مآربهم فخارت منهم العزائم وألقوا السلاح

ص: 11

مفلولاً، وضجروا بمن حولهم وضاقوا بالدنيا ذرعاً، لما في قلوبهم من أثرة مكينة رانت عليها، فأفسدت هناءتها وطوحت بطمأنينتها وجعلها لا ترى العالم إلا ظلاماً دامساً

ألا يحمد هؤلاء الله على أنهم لم يخلقوا حجارة على قارعة الطريق تحطم وتقذف وتداس، أو حيواناً أعجم يتألم ولا يستطيع الشكوى، كل أمله في الحياة أن ينال ما يشبع بطنه، محروماً نعمة التفكير. إننا نبصر ونسمع، ونجرى ونتكلم، ونفكر ونضحك، ونمثل دورنا في مأساة العالم التاريخية، وهذه نعمة خليقة بالشكران إلى الله واهب النعم، ولكن صدق الله حيث يقول:(وقليل من عبادي الشكور)، ورحم الله المتنبي حيث قال في ساعة رضاه:

ولذيذ الحياة أنفس في النف

س وأشهى من أن يمل وأحل

وإذا الشيخ قال أفّ فما مَلًّ (م)

حياة إنما الضعف ملاَّ

ألا يعلم هؤلاء أن الحياة يجب أن تلبس على علاتها، وأنها كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيها من قويت منته وعظمت عدته، ومن لا تطير نفسه شعاعاً ساعة الإخفاق، بل يجمع الهمة، ويشحذ العزيمة ليعاود الكرة، حتى تسير الدنيا إلى غايتها، فتعمر وتؤتى أكلها، وتسير حثيثاً في سبيل الكمال

دون الحلاوة في الزمان مرارة

لا تحتظى إلا على أهواله

وأولى بهم أن يقولوا مع الأخطل:

وكان قوى الهموم إذا اعترتني

زَمَاعاً لا أريد به بدالا

إن المتفائل هو الذي يبسم للحياة في سخطها ورضاها، وهو الذي يرى في الظلمة المطبقة عليه شعاعاً من الأمل ينير جنبات فؤاده، ويغمره بالثقة والإيمان. وليس من التفاؤل ادعاء أن كل شيء يسير على خير ما نرجوه بينما المصائب متحفزة أو غاشية، فتلك بلاهة لا تفاؤل، ومثل من يفعل ذلك مثل النعامة تخفى رأسها حتى لا ترى الخطر المحدق بها، ولكن المتفائل حين يرى الكارثة مقبلة يقدرها كالمتشائم تماماً ويحذرها حذره، بيد أنه يختلف عنه بشجاعته، وابتسامته، وتفكيره السريع المنتظم لتفاديها أو التغلب عليها، أما المتشائم فيجزع من هولها، وينكص على عقبيه فراراً منها وهيهات

يقول روبرت بروننج

(إن المتفائل من لا يولى ظهره للحياة بل يسير في شرعتها قدما

ص: 12

هو من لا يرتاب في أن السماء ستمطر بعد جدب

ومن لا يحكم بانتصار الباطل وإن رأى الحق منهزما

ومن يعتقد أننا نكبو لنقال من عثرتنا، وتنام لنستيقظ)

إن الإنسان يخلق نفسه بنفسه، فإذا اعتقد أن الحياة شقاء وتعس فهي كذلك؛ والفقير يعزى نفسه بالجنة، والغني ربما اعتقد أن الله ساخط عليه فنغص ذلك عيشه. ويقول الدكتور جونسون:(إن نظرتك إلى الجانب المشرق من الحياة تساوي ألف جنيه في العام)

إننا لا نجيد عمل شيء نرغم عليه، بل نتقن ما تحفزنا إليه الرغبة والشوق والحب، وما دمنا نعتقد أننا دفعنا إلى هذه الحياة دفعاً لا حيلة لنا فيه، وأنها فرضت علينا فرضاً ونحن لها كارهون، وأننا نسير فيها على الرغم منا فلن نكون أبداً سعداء في الحياة، ولن يصيبنا منها إلا الخيبة والإخفاق والشر

إذا اعتقد الإنسان أن الحياة مغامرة تتطلب العزم الثابت، والإرادة الصارمة، والرأي الحصيف، والثقة الحافزة - دع جانباً جمال الأرض الطبعي، وما تفيض علينا به الأسرة والأصدقاء من سعادة - نجح الإنسان في فن الحياة وجنى أحلى ثمارها.

أما النكس الرعديد الذي يفرق منها، ويعتصم بالاستكانة والخنوع فلن ينال إلا فتاتها.

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه

حريصاً عليها مستهاماً بها صبّا

فحب الجبان النفس أوردة التقى

وحب الشجاع النفس أورده الحربا

إن واجبنا نحو أنفسنا ونحو غيرنا أن نكون متفائلين. إنك إذا طردت الوساوس والأوهام، واقتحمت طريقك في الحياة متذرعاً بالحب، والشجاعة والإيمان سائراً وفق قانون الطبيعة السمح، جليت لنفسك السعادة. وإذا أفضت من بشر نفسك وتفاؤلك على غيرك كنت ملاك الرحمة. يقول سدني يشعر بعض الناس بالسعادة لأنه ذاقها مرة، فإذا استطعت أن تجعل من حولك سعداء اليوم فسيشعرون بالسعادة عشرين عاماً، إذ تغذيهم بها الذكرى الطيبة). فعلى المتفائلين ألا يضنوا بالبشر والمرح الذي تفيض به نفوسهم على من يتصل بهم. ويقول: إن فرح الإنسان لا يكمل إلا إذا شاركه فيه سواه

لقد أصبح التفاؤل نظرية فلسفية خلاصتها: (اعتقاد أن الحياة خير، ومن الممكن جعلها أحسن مما كانت، وأن طريق ذلك هو الإيمان والأمل والحب). أما المتشائم فيعتقد أن العالم

ص: 13

يسير نحو الانحلال والشر، وأن الحياة مقبرة الآمال والسعادة؛ والمتشائم الذي ينشر آراءه هذه بين الناس يساعد إبليس في إضلاله.

إن هؤلاء الذين يخافون المستقبل، ويتأسفون على الماضي يخلقون جواً فاسداً لغيرهم من الناس، جواً خانقاً لهم قائلاً لصحتهم مطوحاً بطمأنينتهم إلى الهاوية

ومن الممكن أن نصير متفائلين بالعادة والمران؛ فالتفاؤل عادة السعادة والشكر. لماذا نكره الحياة وهي كما يقول ستيفنسن: (الحياة تغص بكثير من الأشياء التي تجعل الناس كلهم سعداء). لو فكر الإنسان أنه دون غيره في هذا الوجود يجد في القراءة والموسيقى وفي الصور وفي الفنون، وأن حديثه ليس عن الطعام والشراب فحسب، ولكن حول الطبيعة والعلم والدين والفلسفة والتاريخ، وأنه طلعة المعرفة الماضي، والكشف عن المستقبل، وأنه مهتم بالحاضر، وجب عليه أن يقول:

مهما كنت فعندي من أسباب السرور والفرح ما يوجب عليَّ الشكران لله. من أنا حتى أغمر بفضل الوجود؟ وما الذي جعلني أستحق هذه النعمة أن أنظر الشمس في الربيع الطلق أو السماء في الليلة الصافية، أو البحر العريض، أو الجبال تكسوها الغابات الخضر وتحلى قممها الثلوج، أو أتمتع بوجه أمي وطلعة أولادي؟ لا شيء!

إن المتشائم لا يعتمد على العقل في حل مشاكله، بل يعتمد على الغرائز البهيمية، لأن العقل مشلول من الجزع والرعب وسوء الظن والنظرة الحالكة إلى العالم. إن اليأس يملك عليه لبه، والخطيئة يقول:(ولا ترى طارداً للحر كاليأس) إن المتفائل لا يعتقد أن حياته تنتهي بالموت، ولكن هناك حياة أخرى، وما الموت إلا باب الخلود، وإن النفس خلقت لتعرض يوماً على الله، ولهذا لا يجزع المتفائلون من الموت بل هو حادث طبعي، وإذا كان ثمت ألم فلفراق ما ألفناه، ولكنه لا يوجب اليأس، ورحم الله أبا الطيب حيث يقول:

إلف هذا الهواء أوقع في النف

س أن الحمام مُرُّ المذاق

والأسى قبل فرقة الروح عجز

والأسى لا يكون بعد الفراق

ما أحوجنا في هذه السنين المدلهمة، وقد طغت الخطوب، وفاضت الكوارث على العالم، أن نستعصم بالإيمان والأمل والحب، فنخفف عن أنفسنا ومن حولنا آلام المحنة العالمية، حتى تنجلي الغمة ويشرق وجه الحياة في ظل السلام والدعة!

ص: 14

عمر الدسوقي

ص: 15

‌وظيفة المرأة

للأستاذ حسين غنام

تلخيص بعض آراء للكونتيس أف أكسفورد في كتابها (من

السجلات)

من أقوى غرائز المرأة طموحها. . .

ومن أقوى غرائزها كذلك حبها الإطراء والإغراء والتملق والرياء. . .

وكثيراً ما كان التقرب إلى المرأة بالكذب والتغرير سبباً في سقوطها أو حيدتها - على الأقل - عن طريق الصواب

وفي مصر بعض المجلات الأسبوعية لا تفتأ تتعالى المرأة وتضرب على ذلك النغم الذي يحبه النساء ويغرمن به، وهو محاولة دفعهن في طريق الرجال، وإن تكن تلك المحاولات فاشلة من بداءتها، إلا أن المرأة لا تلبث أن يأخذ منها الغرور مأخذه. . .

وأكثر هذه المجلات دعوة إلى تملق النساء، هي مجلة أسبوعية تخرج كل أسبوع بجديد من هذا النوع

وآخر محاولة لها في هذا السبيل طلبها للمرأة المصرية ما لم تفكر فيه المرأة في أرقى الأمم الغربية، بل ما تخجل من التفكير فيه، بله المطالبة به!

وكأن هؤلاء الكتاب لم يكفهم مزاحمة المرأة للرجل في كل عمل، حتى كانت سبباً في بطالة الآلاف بل الملايين من الرجال، وحتى خلقت مشكلة لبحاث السياسة والاقتصاد يحاولون حلها بعد هذه الحرب؛ لأن المرأة سترفض أن تنكمش في بينها الذي خلقت للعمل فيه، والانصراف إلى العناية به. وستطالب بما اكتسب في هذه السنين وما ظنته حقاً من حقوقها!

وطالب هؤلاء الكتاب عن طريق خفي، وهو طريق الإغراء في أسلوب مستور أن يكون للمرأة نصيب في حكم البلد عن طريق الوزارة!

وقد كان من نتائج مثل هذه الدعوات أن أسست بضع سيدات مصريات حزباً سياسياً نسائيا في مصر. وكأنما لم يكفهن ما في مصر من أحزاب الرجال السياسية العديدة، التي حاول

ص: 16

الكثيرون حلها أو الإقلال منها، فقمن أيضاً بهذا العمل الجريء، ولكني لا أرده إلا إلى دعوة هؤلاء الكتاب وأمثالهم

ويبدو أن هؤلاء الكتاب لم يعرفوا واجبهم. . . وفي مصر تكاد أغلبية الشعب لا تعرف واجبها، ما لها وما عليها، وعذرها في ذلك الجهل. أما هؤلاء الكتاب فليسوا جاهلين وإن تجاهلوا. . . فنحن المصريين - مهما كابرنا - لا يمكننا إلا أن نعترف بأننا متخلفون عن غيرنا من الشعوب الراقية، وخاصة الشمالية منها. . . فإذا قامت المرأة المصرية في هذا الوقت تطالب بما تسميه حقها في الانتخاب، وفي مجلس النواب، وفي الوزارة، أضحكنا الشعوب الراقية منا. . .

سيضحك بعض هؤلاء الكتاب من كلامنا هذا، وسيرموننا بالرجعية ولاشك، وقد لا يفهمون أن ما يدعون إليه هو الرجعية بعينها، لأنه لا يتفق وناموس الطبيعة، ولا يساير أي عصر من العصور، ولا نهضة من النهضات، اللهم إلا في حالات نادرة جداً. . . فهل يمكن أن نقيس حضارتنا الراهنة بحضارة الإنجليز اليوم؟ لا أظننا نكابر في هذا؛ ولكن الإنجليز - رجالاً ونساء - يفهمون واجبهم على وجهه الصحيح

وقد قامت إحدى كبيرات السيدات في المجتمع البريطاني، وهي الكونتس أوف أكسفورد واسكويث، بوضع كتاب سمته (من السجلات)، رسمت فيه دستوراً للمرأة الإنجليزية الحديثة؛ بعد أن رأت انصرافها بالتدريج عن شئون منزلها وسعيها وراء الوظيفة ومزاحمتها الرجال، حتى في كبار الوظائف

فهي في كتابها هذا تقول إن واجب المرأة هو أن تتفرغ لشئونها التي خلقت لها، ولوظيفتها الطبيعية، وهي الزوجية

فالزوجين فن؛ وفاتحة هذا الفن هي ممارسة الحب بين الزوجين. فالحب، وإن لم يوجد بين الزوجين، لاختلاف بينهما في الميول والعادات والمشارب والطباع، تستطيع الزوجة الذكية العاقلة أن تخلقه، وأن تمارسه، وأن تجعل بينها وبين زوجها رابطة متينة إن لم تكن حباً حقاً كانت صداقة عظيمة وعشرة صادقة وألفة متبادلة؛ لا تقوم على الرياء، ولكن على صفاء، لأن الحب يتولد مع الزمن ما دامت الرغبة فيه موجودة

وهذه الزوجة تستطيع أن تجعل من بينها جنة. مهندسها هذا الفن الجميل العظيم، فن

ص: 17

الزوجية

والمرأة لم تخلق للوظيفة أو لعضوية البرلمان أو لرآسة الوزارة ولكنها خلقت لما أهلتها له الطبيعة

وقد شرحت هذه الآراء في كتابها، ونحن نلخص بعضها فيما يلي:

(لقد كتب الكثير من الهراء حول جنس النسوي، وعندما ادعى النساء مساواتهن بالرجال لم أباينهن في رأي كهذا الرأي؛ فالنساء لا يختلفن عن الرجال في تكوين الجسم فحسب، ولكن في عقولهن كذلك، وأكاد أضيف إلى هذا أخلاقهن أيضاً. ولعل هذا القول يبدو غريباً على القراء، ولعلهم يقولون إنه بينما يرون معظم النساء مهذبات فإن أغلبية الرجال على النقيض من ذلك، ولكني أعجب من هذا، ولا أظنه حقاً

إن الرجال وحشيون، ولكن النساء أغلظ قلباً من الرجال وأقسى، وإني لأعرف كثيرات من النساء جعلن من بيوتهن جحيما لا يطيقه أزواجهن، وذلك بثرثرتهن وتفيهقهن الذي لا يكاد ينتهي. فإذا عاشر زوجة لا تفتأ تفحمك بمثل هذه الأسئلة دائماً: أين كنت؟ ماذا صنعت؟ من رأيت؟ وغيرها من آلاف الأسئلة الجافة العجيبة، فإن حياتكما ستنتهي بالطلاق الحتم

ولكن إذا فطنت سيدة إلى زوجها على وشك أن يحب امرأة أصغر منها، وربما كانت أكثر جاذبية منها، فيجب أن تختلف أسئلة الزوجة وتتغير حتى لا تشعر زوجها بمثل ما يشعر به عند إلقائها الأسئلة السابقة، كأن تقول له مثلاً: لقد أخبرتني أنك ربما خرجت من عملك اليوم مبكراً، فسررت لهذا كل السرور، فقد كنت تبدو هذه الأيام منهوكا تعباً، والرجال المرهقون في أعمالهم لا يسرون بها ولا يحبونها

فيرد الزوج: هذا حق؛ إنهم لا يحبونها

الزوجة: لقد أملت أن تكون بصحبة (السيدة أو الآنسة فلانة) وقضيت معها أصيلاً سعيداً. إني لم أرها إلا لماماً، ولكنك عندما قدمتني إليها رأيتها ساحرة جميلة! وظني أن من حقك أن تراها كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً. لماذا لا تدعوها لتقضي معنا بعض الوقت في الريف عندما نترك لندن أيام عطلتنا؟ أليست هذه فكرة جميلة؟

الزوج: أمتأكدة أنك ستحبين ذلك؟

الزوجة: طبعاً سأحب ذلك. فإذا أحببت أن تكون سعيداً، فهذه أمنيتي كذلك. إن زواجنا لم

ص: 18

يكن ما يسميه الفرنسيون زواجاً نفعياً، ولكن زواجنا بني على الحب

وسيؤخذ الزوج بهذه الفكرة، وعندئذ يدعو صديقته لقضاء عطلاتها في الريف معهم، والزوجة العاقلة ستتركهما ولا شك معاً في أغلب الأحيان، وكلما وجدت فرصة لذلك. فإذا مر بعض الوقت عليهم هكذا بدأ الزوج يمل هذه الخلوات وأخذ يحن إلى الانفراد بزوجته فقط

(البقية في العدد القادم)

حسين غنام

ص: 19

‌2 - القرآن الكريم

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

ألف زكي مبارك كتابة النثر الفني كأنما أراد أن يزلزل به الزمان فخرج فيه على الإجماع في أمر القرآن

وعلماء العربية - والأئمة المجتهدون منهم - مجمعون طوال تلك القرون على أن القرآن معجز. وأول شرائك الإعجاز التنزه عن كل ما يمكن أن يعد عيباً في الكلام، وإلا لأمكن لبليغ أن يستدرك على القرآن. من أجل ذلك لم يؤثر عن عالم من علماء العربية الذين تعرضوا لنقد الكلام الفصيح أن ذكر شيئاً يكمن أن يعد عيباً حين تكلم عن القرآن؛ لكنك حين تأخذ في أول فصل من فصول كتاب زكي مبارك، فصل نقد النثر الفني، تجده في أول صفحة منه يعيب على علماء العربية أنهم حين تعرضوا لنقد القرآن لم يذكروا إلا المحاسن، فنقدهم من أجل ذلك ليس في رأيه بالنقد الصحيح! اقرأ له إن شئت قوله من صفحة 17:

(وليس في اللغة العربية كتاب منثور شغل به النقاد غير القرآن. على أن شغل النقاد لم يكن عملاً فيناً بالمعنى الصحيح للنقد الأدبي؛ فقد كان مفروضاً في كل من يكتب عن القرآن أن يظهر عبقريته هو في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد، وليس هذا من النقد في شيء. وإنما النقد أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب. من أجل ذلك وسم أكثر ما كتب عن القرآن باسم الإعجاز لأن النقاد اطمأنوا إلى أن القرآن هو المثل الأعلى الذي تقف عنده حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان)

فما رأيك في مذهب صاحب هذا الكلام في القرآن؟ أتراه يطمئن إلى ما اطمأن إليه النقاد، أم تراه مخالفاً لهم يرى في القرآن عيوباً لم يروها ولا يمكن أن يراها بصير منصف لأنها غير موجودة في القرآن، فعابهم بأنهم لم يذكروا إلا المحاسن، وأن نقدهم من أجل ذلك غير فني ولا صحيح؟ وعبارته تلك فيها أكثر من مأخذ من ناحية الدقة ومن ناحية الخروج. فهو غير دقيق في حكاية مذهب النقاد في تقدير بلاغة القرآن، فإن مذهبهم أعلى كثيراً مما نسب إليهم وحكى عنهم، لأنهم يجعلون القرآن فوق طاقة البشر ووراء حدود الطبيعة

ص: 20

الإنسانية في البلاغة والبيان، وهو يجعله في مذهبهم عند حدود الطبيعة الإنسانية، وما كان عند الحدود أمكن بلوغه وإن احتاجت الطبيعة الإنسانية إلى أقصى غايتها وأقصى مداها كي تبلغه. وهو معنى لم يقصد إليه النقاد طبعاً، كما لم يقصد زكي مبارك بنسبته إليهم أن يظلمهم، وإنما هي قلة دقة منه في التعبير عنهم، فالقرآن عندهم هو المثل الأعلى الذي تقف دونه - لا عنده - حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان

كذلك هو غير دقيق في قوله إن أكثر ما كتب عن القرآن وسم باسم الإعجاز، ولو قال باسم إعجاز القرآن لأصاب الدقة والصحة التاريخية معاً، لأن إعجاز القرآن عندهم من الثابت المسلم، فمن المعقول إذا كتبوا في بلاغة القرآن أن يبينوا ذلك الإعجاز ودلائله، وأن يطلقوا على ما يؤلفون في ذلك في الكثير الغالب باسم إعجاز القرآن

أما خروجه في تلك العبارة على علماء العربية وعلى الإجماع فكما رأيت. فالنقد عنده أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب. وهذا صحيح ولكن في نقد كلام الناس لا كلام الله. لو كان القرآن كلام بشر لكان أثراً أدبياً لصاحبه، ولجاز أن يكون بازاء المحاسن عيوب يبحث عنها النقد. أما وهو من كلام خالق البشر أنزله سبحانه معجزة لرسوله وتحدي به الجن والإنس على اختلاف العصور، فكيف يمكن أن يقف الناقد أمامه إلا كما يقف العالم أمام آية من آيات الله في الأرض أو في السماء؟

إن العلم حين يقترب من آيات الله في الخلق يقترب اقتراب المنقب عن سر مودع، لا الباحث عن عيب. يقترب اقتراب العابد لا اقتراب الناقد، فإذا وقف على ما يعقل ويفهم عد ذلك من التوفيق واتخذه نبراساً ودليلاً في بحثه عن سر ما لا يفهم، ولا يخطر له مطلقاً أن يحسن الظن بنفسه ويسيء الظن بالفطرة إذا تعارض رأى مع شيء من الواقع في الفطرة، فهو يأخذ الواقع كما يجده، وينبذ من الرأي ما لا يتفق معه وإن عز. ومن هنا ينتقل العلم من ظفر إلى ظفر ويكشف عن سر بعد سر ويزداد قوة على قوة. ولو فعل غير ذلك واقترب من الفطرة يفترض عيوباً فيها يتطلبها لوقف ولفسد ولضل، ولأصبح فصلاً من فصول الأدب الذي يريد الدكتور زكي مبارك. والفطرة هي الفطرة في عالم المادة أو في عالم الروح، وفاطرها هو هو سبحانه، يتقرب إليه عباده بدراسة آياته، أينما وكيفما تكون، بروح الخاشع الملتمس الهدى المبتغى الوصول. فإذا كانت حكمة الله ورحمته قد اقتضت

ص: 21

أن يجعل للإنسان بازاء الآيات التي لا نهاية لها في عالم المادة والعلم آية واحدة عظمى في عالم الروح والأدب، ألا وهي كتابه المنزل على خاتم رسله وصفوتهم، أفيكون من المعقول أن يقترب الإنسان من آية الله هذه بغير الروح التي يقترب بها من آيات الله تلك، وينظر في كلمات الله المودعة في قرآنه بغير روح الخشوع والإجلال وطلب الهدى التي ينظر بها في كلمات الله المودعة في خلقه؟

إن القرآن كلام الله كما أن النبات والحيوان والكواكب من كلماته، وإن اختلف في كل الخطاب. بكل خاطب الله عباده، ومن كل أعجز الله خلقه أن يأتوا بمثله، بعضه أو كله، ليكون عجزهم دليلاً لهم وحجة عليهم، وعن كل عجزوا. أفيدرس الناس آيات الله في النبات والحيوان والكواكب لا يتوقعون عيباً ولا يرون إلا كمالاً يتفاقم ويزداد فلا يجد زكي مبارك في ذلك ما يلمزهم به، ولا يعد علمهم لذلك علماً غير صحيح، حتى إذا درسوا آيات الله في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يتوقعوا نقصاً ولم يروا عيباً ولم يجدوا إلا كمالاً وجلالاً وإعجازاً، لمزهم وهمزهم وقال لم يذكروا إلا المحاسن كأن هناك يجنب المحاسن عيوباً كان عليهم أن يذكروها وإلا كانوا غير نقاد؟

إن العهد الذي كان ينظر فيه في القرآن نظر تطلب للعيوب قد مر بالفعل، مر إلى غير رجعة. والذين نظروا في القرآن تلك النظرة التي يدعو إليها الآن الدكتور زكي مبارك كانوا أقدر من منه ألف مرة على إدراك عيب لو وجدوه، وأبصر بنقد الكلام، لأنهم كانوا أهل العربية الفصحى رضعوها ودرجوا عليها ونشئوا فيها وأحكموها شباناً وشيباً رجالاً ونساء، فكانوا يصدرون فيها عن بصيرة وفطرة، كما لا يمكن أن يصدر الدكتور زكي مبارك أو يبصر مهما تكلف واجتهدوا واحتفل. وما منهم من أجد إلا ونظر - قبل أن يسلم - في ما بلغه من القرآن نظرة ناقد خبير فاحص يلتمس الوهن والعيب، فلما لم يجد عيباً ولم ير إلا كمالا باهراً وإعجازاً ظاهراً سلم وأسلم. فكل عربي كان مشركاً ثم أسلم شاهد صدق على أن القرآن فوق القوى والقدر، مبرأ منزه في جملته وتفصيله عن النقص والعيب. فأي كتاب أو أي كلام لقي من النقد ما لقي القرآن، وعرض من أهل العلم والفن على مثل من عرض عليهم القرآن كثرة ومقدرة وخبرة، وفاز ببعض ما فاز به القرآن من التسليم له والإيمان به الجهاد بين يديه؟ أفيقال بعد ذلك إذا أقبل علماء العربية عليه

ص: 22

يتطلبون أسرار كماله كما يتطلب علماء الفطرة أسرارها، أن فنهم لم يكن بالفن ونقدهم لم يكن بالنقد، لأن كلا منهم كان يظهر عبقريته في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد؟

أظن النص الذي قدمته من صدر أول فصل في النثر الفني كافياً في إثبات دعواي على صاحب النثر الفني أنه يدعو إلى نقد القرآن. وليس هو بالنص الواحد الذي في الكتاب في هذا الباب؛ فهناك في الجزء الثاني في ترجمة القاضي أبي بكر الباقلاني نصوص لا تقل دلالة عن النص السابق. ففي صدر ذلك الفصل يقول مؤلف النثر الفني (ص61):

(إن الباقلاني ومعاصريه رأوا أن في الإمكان أن يوازنوا بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن وإن لم يتحد الموضوع) وهم لم يفعلوا ولم يوازنوا بين قصيدة وسورة، لأنهم كانوا أبصر بالنقد وأرعى لحرمة القرآن من هذا، ولكنهم تعرضوا للشعر ونقدوا بعض عيون قصائده، مبينين عيوبها غير مغفلين محاسنها، كما فعل القاضي رحمه الله، وكما ينبغي أن يفعل الناقد البصير حين يتعرض لما فيه محاسن وعيوب. أما القرآن فقد كانوا يعلمون عن بصيرة ويقين أن محاسنه فوق أن يحيط بها علم عالم أو نقد ناقد، فكانوا يكتفون بالبحث العام في وجوه الإعجاز موضحين آراءهم بالأمثلة يضربونها من بعض الآيات وبعض السور من غير قصد إلى مقارنة أو موازنة حيث الفرق هائل والبون شاسع بعيد

ثم يقول صاحب النثر الفني في نقد الباقلاني وأمثاله:

(وهذا النحو من النقد يعد من المحاولات البارعة في الأدب العربي ولا عيب فيه إلا التحامل والإسراف)! ثم يحاول أن يوهم القارئ أنه هو يصدر عن غير تحامل وإسراف وأنه يحكم بالعدل بين فريقين، فيمضي يقول:(فإن خصوم القرآن كانوا يأبون إلا الوصول إلى شواهد يحكمون لها بالفضل، والباقلاني كان يعمد إلى القصائد التي يعرف فيها الضعف ليصل دائماً إلى الحكم للقرآن بالفضل) ص62

وهو لم يأت بمثل لما كان يفعل خصوم القرآن، كما أنه يعلم أن الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن لم يتعرض إلا لما أجمع أهل الأدب أنه من عيون الشعر كمعلقة امرئ القيس، لكن صاحب النثر الفني في سبيل مذهبه لا يبالي أن يفتري على الباقلاني، ولعله افترى على من سماهم خصوم القرآن

ص: 23

ثم يمضي الدكتور زكي مبارك فيقول: (إن الذي يوازن بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن يجب أن يكون مستعداً للحكم بالعدل. وهذا لا يتيسر لناقد يرى من همه أن يبحث عن مساوئ القصيدة ويطمس محاسنها أو يتجاهلها أو يغض من قيمتها، وهو في مقابل ذلك يجد في البحث عن محاسن السورة القرآنية وإبراز مزاياها، ولا يستبيح لنفسه التفكير في وضع ألفاظها أو معانيها أو أغراضها أو أسلوبها موضع النقد. وهذا كاف في تجريح ما هموا به قديماً من الموازنة بين أثرين أحدهما من الشعر وثانيهما من القرآن)

وهذا أيضاً كاف في إثبات ما ادعيناه على الدكتور زكي مبارك من دعوته إلى نقد القرآن، وهو أول أدلتنا على ما اتهمناه به في أمر القرآن

محمد أحمد الغمراوي

ص: 24

‌من روائع (دكنز)

مطاردة. . .

للأستاذ محمود عزت عرفة

تقديم

عاش تشارلز دكنز في إنجلترا بين عامي 1812 و 1870 م. وكان كاتباً روائياً مبدعاً؛ ومصلحاً اجتماعياً ثابت القدم في ميادين الإصلاح، شديد العارضة في التنديد بمساوئ المجتمع، وكشف مواطن الشر والرذيلة فيه

قصر أعظم جهوده على كفاح الفقر والبؤس والتشرد والجهالة وما إليهن، وحمل المجتمع ونظمه الجائرة وزر تفشيء هذه الأدواء الموبقة على عهده

وروايته: مغامرات أوليفر تويست - وقد نشرت عام 1838 - تعد نموذجاً كاملاً لحملته في هذا الاتجاه، ففيها يعالج مشكلة الأطفال المتشردين علاج الطب الخبير. وأوليفر - في نظرنا - هو النموذج التام للإنسان البائس، الذي تلفظه الحياة ويأبى عليه المجتمع إلا حياة التشرد والذلة. ولكنه - على حد قول بعض النقاد الإنجليز - (يجتاز هذه العوالم من الرذائل والشرور دون أن يقع فريسة لها، أو يروح ضحية لمغرياتها وتجاربها)

وهذا الفاصل شبه المستقل الذي نترجمه من الرواية، يرينا أوليفر أول مقدمه إلى لندن (وهو غلام في مبدأ العقد الثاني من عمره) وقد وقع في شرك عصابة من اللصوص يحرك أفرادها من الغلمة الطرادين، يهودي عجوز يدعى فاجين

ونأمل كثيراً أن يلحظ القارئ مبلغ الشبه بين حوادث هذا الفصل ونظائره مما يمثل حتى اليوم على مسارح الشوارع في بعض مدائننا الكبرى!

وإذا كنا نعالج الآن بقايا مشكلات كتلك التي عالجها الغربيون منذ مائة عام، فأملنا وطيد في أن نحلها كأحسن ما حلوا، وأن نغير من أثرها فينا كأفضل ما غيروا، والله يتولانا بهديه وتوفيقه. . .

الترجمة

انطلق الفتيان الثلاثة مهطعين: المراوغ في إزاره الكميش وقبعته مثلثة الإطار، كما هو

ص: 25

شأنه دائماً. ومستر باتس يسير الهوينا وقد دس يديه في جيوبه. ثم أوليفر يتوسط الفتيين وهو يسائل نفسه عجب عن وجهتهما

وكان الثلاثة يدلفون من طريق ضيق إلى الميدان الرحيب المسمى (ذي جرين) - قرب كلر كنوبل - عندما توقف المراوغ فجأة، معترضاً بسبابته فمه، مجتذباً إليه رفيقيه في حرص وحذر

وهتف أوليفر: ماذا جرى؟!. . .

فأجاب المراوغ: صه، أما ترى هذا العجوز الواقف لدى المكتبة؟

قال أوليفر: آلسيد الهرم الذي هنالك؟. . . نعم أراه

- إنه طلبتنا!

فقال مستر تشارلي باتس: يا لها من ثمرة مبكرة!

وأدار أوليفر نظره بين الفتيين في عجب بالغ، ولكن لم يتح له أن يشفى غليله بسؤال؛ إذ سرعان ما رآهما يعبران الطريق فيتسللان خلف الرجل مقتربين منه. وتبعهما أوليفر عن كثب وهو موزع القلب بين إقدام وإحجام

كان السيد شيخاً وقور الهيئة أشيب الرأس ذا منظار ذهبي، يرتدي سراويل بيضاء وسترة دكناه الخضرة موشاة بنيقتها بالمخمل الأسود، وقد تأبط عصاً أنيقة من الخيزران الهندي

وكان قد ابتاع كتاباً من الحانوت ثم توقف منهمكا في قراءته كما لو كان مستقراً على مقعده الوثير في قاعة مطالعته الخاصة!

ومن المحتمل كثيراً أن يكون قد توهم نفسه كذلك؛ إذ كان من الواضح أنه لم يعد يعير الحانوت ولا الشارع ولا الصبية التفاتاً. وبالجملة لم يكن يحس وجود شيء إلا الكتاب نفسه؛ وقد أقبل على مواصلة النظر فيه، فما يفرغ من صفحة إلا ليستأنف القراءة في أخرى. . . وعلى وجهه سمات واضحة من الشغف والاهتمام

وبدت رهبة أوليفر وذعره بالغين حدهما - وهو واقف على مدى خطوات مشدوه العينين - حينما أبصر المراوغ يدس يده في جيب السيد فيستل منه منديلاً يدفعه إلى تشارلي باتس، ثم ينطلق الغلامان صوب أول منعطف من الطريق في سرعة هائلة

وفي لحظة واحدة تكشف أمام عينيه سر هذه المناديل والساعات والجواهر التي طالما شهد

ص: 26

الصبية يقدمون بها على (فاجين) في مسكنه

ووقف برهة وقد تنزي الدم في عروقه رعباً وفزعاً، حتى أحس كما لو أن ناراً تلتهمه. ثم استدار على عقبيه في ارتباك ووهل، وراح يطلق ساقيه للريح حتى ما تكادان تلمسان الأرض، دون أن يعرف حقيقة ما يأتي أو يتبين عاقبته

جرى كل هذا في آونة قصيرة. وفي اللحظة التي بدأ فيها أوليفر يجري، كان السيد قد دس يده في جيبه فافتقد منديله. وأدار فيما حوله نظرة ثاقبة، وما إن رأى الغلام يركض في هذه السرعة حتى قر في نفسه أنه السارق فصاح بملء حنجرته:(أوقفوا اللص!) ثم انطلق خلفه مهرولاً والكتاب في يده

ولم يكن السيد وحده مثير هذه المطاردة: ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد توقفا لدى مدخل أول بيت بعد المنحنى، كيلا يلفتا إليهما الأنظار وهما يجريان عبر الشارع العريض؛ فما إن سمعنا الصيحة وأبصرا أوليفر يجري راكضاً حتى تصورا ما حدث تماماً. فبرزا من مكمنهما في تأهب وإعجال وأقبلا يصيحان:(أوقفوا اللص) مشتركين في المطاردة كسادة كرماء ذوي أريحية. . .

ولم يكن أوليفر متأهباً لتطور الموقف على هذا الوجه، فرهب واستطير، ومضى في جرينه كالريح العاصف، ومن خلفه السيد العجوز يقفوه الغلامان، وهم يتصايحون جميعاً في صرخات تشبه الزئير

(أوقفوا اللص. . . أوقفوا اللص) شد ما يسحر الناس هذا النداء!

لقد ترك له البائع حانوته والحوذي مركبته؛ وطرح القصاب والخباز واللبان أوعيتهم التي يحملون؛ وتخلى الشيال عن حمله، والتلميذ عن دفتره، وممهد الطرق عن معوله، والطفل الصغير عن لعبته. . . وجرى أولئك جميعاً في هرج ومرج، متدافعين متصايحين؛ يصدمون السابلة عند كل منعطف طريق. . . ويهيجون الكلاب. . . ويفزعون الدواجن. . . وقد دوت الشوارع والميادين والرحبات مرددة صدى صيحاتهم: أوقفوا اللص، أوقفوا اللص. . . كانت الصيحة تنطلق من أفواه مائة، والحشد يزداد كثافة عند كل مفترق طريق، وقد ثارت الهبوات والأوحال تحت أقدامهم، وارتفع لنعالهم فوق الأرصفة خفق شديد

ص: 27

وانفتحت النوافذ على مصاريعها، وهرع الناس من مساكنهم وتدفعت الغوغاء في طريقها لا تربع على شيء، وانطلق رواد مسرح (بنش) برمتهم - والرواية في أدق مواقفها - فالتحقوا بالجموع المتدفقة، وضاعفوا من صدى الصيحات المتصاعدة، وأمدوا الصرخة الرهيبة:(أوقفوا اللص!) بقوى ناشطة جديدة

أوقفوا اللص، أوقفوا اللص! يبدوا أن هنالك رغبة في (مطاردة شيء ما) متغلغلة في نفس كل إنسان! وهاهو ذا طفل بائس مبهور الأنفاس يلهث من فرط الإعياء، قد ارتسم الجزع في نظراته، وبانت سكرة الموت في عينيه، وسالت قطرات من العرق كبيرة على وجهه - يرهق كل عصب من أعصابه ويستدر كل وتر من أوتار قوته، لينجو بحياته من براثن مطارديه

ولكنهم، في تعقبهم إياه وازدلافهم نحوه في كل لحظة، كانوا يبتعثون بصياحهم مذخور نشاطه ويستنهضون بهتافاتهم مخذول قواه وهم يصيحون من خلفه في حماسة ومرح: أوقفوا اللص!

أجل أوقفوه - نستحلفكم بالله - فذلك عين العطف عليه والرحمة به

وأخيراً وقف! ويالها من لطمة بارعة! لقد انكفأ على الإفريز ساكناً لا يختلج، وأحاطت به الجموع في لهفة وتطلع؛ وكان كل قادم جديد يزاحم الآخرين ويدفعهم كيما يحظي بنظرة

(تنحوا جانباً). . . (دعوه يتنفس قليلاً). . . (هذيان! ما هو بجدير أن يشم هذا الهواء). . . (ألا أين السيد؟). . . (هاهو ذا قادم من أقصى الطريق). . . (أفسحوا الطريق يا من هنالك للسيد!)(أهذا هو الغلام يا سيدي؟)(نعم)

وكان أوليفر مطروحاً على الأرض وقد لطخه العثير والطين وانبثق الدم من فمه غزيراً. وراح يجيل عينيه فزعاً مرعوباً في كتلة الوجوه التي أحدقت به من كل صوب. وتقدم رؤساء المطاردين بالسيد شاقين له دائرة الجمع الحاشد، حتى أوقفوه في المقدمة، فعاد يقول: نعم، أخشى أن يكون هو

وهمهم الواقفون: تخشى؟ عجيب منك هذا القول. . .

وعاد السيد يقول: يا للطفل المسكين، لقد أصاب نفسه!

فقال شاب ضخم متبلد - وهو يخطو إلى الأمام قليلاً - بل أنا الذي أصبته يا سيدي، لقد

ص: 28

تحطمت بناني من عظم ما ارتطمت بفمه. أنا أوقفته يا سيدي

ولمس الشاب قبعته وهو يبتسم، مترقباً الجزاء على ما تعرض له من ألم. ولكن السيد حدجه بنظرة قاسية وأدار بصره فيما حوله حيران قلقاً، كما لو كان يراود نفسه على الفرار. ولم يكن من المستبعد أن يحاول ذلك فيكلف القوم مطاردة أخرى، لولا أن قدم الشرطي في هذه اللحظة (وإنه لآخر شخص يظهر عادة في مثل هذه المناسبات) فشق طريقه بين المجتمعين وجذب أوليفر من طوقه وهو يصيح به في جفاء وغلظة: تعال. . . قم. . .!

وأطبق أوليفر راحتيه في توسل، وشرد ببصره فيما حوله وهو يقول:

لست أنا بالحقيقة يا سيدي! الحق؛ الحق أنهما غلامان آخران، وهما هنا من غير شك في مكان ما. . .

فقال رجل الشرطة: آه. . . كلا، ما من أحد هنا. . .

حاول الرجل أن يتهكم بهذا الجواب، ولكنه كان يقرر الحقيقة دون أن يعرف؛ ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد استدارا عند أول منعطف مرا به وذهبا ناجيين

وكرر الشرطي صيحته: هيا. . . انهض! فقال السيد وقد استشعر الرأفة: لا تحاول إيذاءه

وأجاب الشرطي - وهو يقد سترة الغلام من فوق ظهره ليبرهن على صدق قوله -:

كلا لست أوذيه. أنهض! إني لأعرفك فلا تجوز عليَّ ألاعيبك. أما تنهض على قدميك بعد أيها الحرامي الصغير؟!

وجهد أوليفر في النهوض حتى استوى على قدميه، ثم اقتيد من طوقه خلال الشوارع في خطوات سريعة، وكان السيد يمشي إلى جانب الشرطي؛ أما المتفرجون فلم يغب عن أكثرهم أن يقوم بهذه المناورة البارعة: كانوا يوجفون إلى الأمام في خطوات قليلات سراع، ثم يديرون وجوههم ليحدقوا النظر إلى أوليفر بين حين وحين!

وكان الصبية يتصايحون في نشوة عارمة من الظفر والانتصار وهكذا انطلق الجميع ميممين ديوان الشرطة

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 29

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

547 -

المسلم لا يحارب المسلم

في (مروج الذهب) للمسعودي:

الغالب في هذا البلد - آمل: دار مملكة الخزر - هم المسلمون لأنهم جند الملك، وهم يعرفون في هذا البلد باللارشية، وهم ناقلة من نحو خوارزم، وكان في قديم الزمان بعد ظهور الإسلام وقع في بلادهم جدب ووباء فانتقلوا إلى ملك الخزر. وهم ذوو بأس وشدة، وعليهم يقول ملك الخزر في حروبه، وأقاموا في بلاده على شروط بينهم:

أحدها إظهار الدين والمساجد والأذان. وثانيها أن تكون وزارة الملك فيهم، والوزير في وقتنا هذا - سنة 332 - أحمد ابن كوبه. وثالثها أنه متى كان الملك الخزر حرب مع المسلمين وقفوا في عسكره منفردين لا يحاربون أهل ملتهم، ويحاربون معه سائر الناس من الكفار

ويركب منهم مع الملك في هذا الوقت شخوص منهم سبعة آلاف ناشب بالجواشن والدروع والخوذ، ومنهم رامحة أيضاً على حسب ما في المسلمين من آلات السلاح، ولهم قضاة مسلمون

548 -

تقبيل المصحف

قال عبد الوهاب السبكي صاحب (طبقات الشافعية): سمعت الوالد (تقي الدين السبكي) رحمه الله في درس الغزالية يقول - وقد سئل عن الدليل على تقبيل المصحف -: دليله القياس على تقبيل الحجر الأسود ويد العالم والوالد والصالح، ومن المعلوم أن المصحف أفضل منهم

549 -

القصة في الكتاب فاقرأها

مرض الأعمش (سليمان بن مهران) فأبرمه الناس بالسؤال عن حاله، فكتب قصته في كتاب، وجعله عند رأسه؛ فإذا سأله أحد قال: عندك القصة فاقرأها. . .

550 -

إنا قصدنا ذلك

ص: 31

في (النفح): كان إبراهيم بن الفخار اليهودي قد تمكن عند الأذفنش ملك طليطلة النصراني، وصيره سفيراً بينه وبين ملوك المغرب، وكان عارفاً بالمنطق والشعر. قال إبراهيم: أدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر، فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة، ورأيت على بابه بواباً في غاية القبح. فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت: رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان، وهذه على بابها مالك. . . فضحك وأخبر الخليفة بما جرى، فقال: قل له: إنا قصدنا ذلك، فلو كان رضوان عليها بواباً لخشينا أن يرده عنها، ويقول له ليس هذا موضعك، ولما كان هناك مالك أدخله فيها، وهو لا يدري ما وراءه، ويخيل إليه أنها جهنم. . . فلما أعلمني الوزير بذلك قلت (الله أعلم حيث يجعل رسالاته)!

ص: 32

‌أين الطريق؟

(إلى أبي وأمي أسوق الحديث)

للأستاذ علي شرف الدين

ملَّ الرَّحيلَ معفَّرٌ أودَى به حظٌّ الأديبِ

لم يَبْلُغ الأملَ البَعيدَ، فمالَ لليأس القريبِ

سِيَّان يا شمْسي، أنيرِي لي حَياتِيَ أوْ فَغِيبي

وخُذِي من الأفلاكُ برْحَ السَّعدِ أو بُرْجَ الخُطوب

لن تشهدي مني السرورَ على الشروق، ولا البكاءَ على الغروب

وترفَّقي كبِدِي - إذا أخْفَقتُ يوماً - أو فَذُوبي

نَفَّضْتُ كفَّى من حَياةٍ - بعد تجْريبي - كَذُوبِ

وعًدتْ، وما برَّتْ، فكانَ الوعْدُ كالبرق الخَلوبِ

وسئمتُ من ليْلَ الشَّبيبِة، وانتظرْتُ سَنَا المشيب

وتمرَّدتْ نَفْسي زماناً، ثمَّ ثابتْ من لُغُوب

مات الشُّعورُ بها، فما أنا بالحزينِ، ولا الطّروب

لا يَلْمَحُ الرائي بها سخط المُشِيحِ، ولا القَطوب

إلاً بَقايا مأتمِ في الوجْهِ يبُديه شُحوبي

أشلاءُ آمال تلوحُ كأنها صَرْعى الحُروب

وجِراحُ أنَّاتٍ تلاشتْ، واندمَلْنَ على نُدوب

ورفات آهاتِ تضمَّن قبرَها صدْر الغُيوب

وقناةُ دمعٍ، لم تزلْ بالخدِّ من عهْدِ النحيبِ

وحنين قلبِ مُلْجَم الدْقَّاتِ، مكبوحِ الوجيب

نزَّاعِ شجٍو، دونه في ناره شجوُ الغَريب

وقصيدُ عُمْرِ، داميَ الأوزانِ مجروحَ الضُّروب

سِفْرٌ من الحِكم الغوالي، هُنَّ فلسفةُ الكروب

أُمِّي، أبي، أدْعو، وعند كلِيْكما خير المجيب

ص: 33

اشكو أساي، وإنها شكوى الحبيب إلى الحبيب

مَاِلي تهبُّ صَبَا الشمال علىَّ من صوْب الجنوب؟

مالي فَنيتُ، وأقفَر المخضَلُّ من قلبي الخصيب

لا البشر يدعوني، ولا أّهتز للمرحِ اللعوب

لا الكأس تُغريني، ولا البسمات من ثَغر شنيب

أصبحت رسماً حافلاً باليأس، والصمتِ الرَّهيب

وبلغت - من زهدي - الثمانين التي هدت جنوبي

أغضبتما فكبا جواديَ، أم ترى كثرت ذنوبي؟

مَنْ لي بأيام الطفولةِ في حِمى الصَّدر الرَّحيبِ

ومَلاعب الأولاد في كنفِ المنازلِ والدُّروبِ

كانتْ أرقَّ من الصَّبا، وأحبَّ من نجوَى القلوبِ

رفَّافة كالرُّوح، أو كالنُّور، أو طَيْفِ الحبيبِ

ريَّا كنُّوارِ المُروجِ يَضوع في أرَجِ وطيب

مرَّتْ ولم تتركْ سِوى جفْنٍ على الذكرى سَكوبِ

ومُتوَّج بالثَّلجِ مَرْهوبِ المغاِوِر والجُيوب

أمْلَي الشَّباب علىَّ أنْ أرقاهُ في الزمن العَصيبِ

زَمَنٌ به حِفظُ الكرامة والإباءِ من العيوبِ

فصعدت لا زادٌ سوى الأعصابِ والفُصحى العَروبِ

فتمزَّقتْ كَّفي، وأدْمَى صَخْرُه العاتي كُعوبي

والشمس تلفح جَبْهة تنفضُّ عن ماء صبيب

وأدور حولي، لا أرى غير الموامي والسهوب

وتكشفت لي مِحنَةُ الأكْفاء في البلد العجيب

فرجعت مكلومَ الفؤاد بحظِّ منشىَ سليب

وكأنما للغَمْطِ والحرمان - من أبنائها - حظُّ الأديب

علي شرف الدين

ص: 34

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ سيد قطب

ألا تستطيع يا أخي أن تكتب دون أن تغمز أو تلمز؟ أكلما كتبت شيئاً فأنت تفهمه أسوأ الفهم، وتؤوله أفسد التأويل؟ بعض هذا العجب وبعض تلك الكبرياء يا نابغة الزمان! وماذا تعنى بقولك إن بعض من ذكرت من الشعراء هم شعراء الوظيفة؟ أخشى أن أكون قد أضعفت جبهة شعراء الشباب بذكرك، وأن أكون بذلك قد مهدت لانتصار أستاذنا الجليل على أمثالك. . . ثم هل هذا هو الذي يجب أن نهتم له؟ ألا تعرف من هو أستاذنا الجليل! إنه رجل يستطيع أن يقضي على الجهود التي بذلتموها يا معشر الشعراء الشباب في سبيل تجديد الشعر العربي. . . وهاهو ذا قد أخذ يأتيكم من نواحيكم الضعيفة التي تجلت إحداها في كلمتك المتهافتة. . . عنك هذا الغرور إذن. . . وأقنع الأستاذ بنماذج من شعرك أو شعر غيرك لنكون إيجابيين في ردودنا. . . ولأكن قد أسأت التمثيل، وهذا ما لا يدور في خلدي أنني وقعت فيه، فلماذا لم تتول أنت الرد؟ أو لماذا لم تشترك فيه؟ لقد كان في وسعي أن أقول إن ميدان الشعر لم يقفر بعد البارودي وشوقي وحافظ، لأنه لا يزال يزخر بمطران والجارم والعقاد وشكري ومحرم، وقد يكونون خيراً ممن توفوا إلى رحمة الله. . . ولكني أثرت التباهي بكم لأن المستقبل لكم، فكيف نصل عن اللباب وتأبه بالسفساف؟ تفضل أنت فكن رائد الجيل واملأ شدقيك بما شئت؛ فإذا أصبت شيئاً من التوفيق فلن يكون أحب إلى من أن أصفق لك

دريني خشبة

إلى الناقد الأستاذ دريني خشبة

أحسست يا صديقي، من الكلمة التي نشرتها في عدد (561) من الرسالة، وعنوانها شعراء الشباب والأستاذ الجليل (ا. ع) أنه لا يطيب لك سماع رأي يخالف رأيك، سواء أكانت المخالفة كلية أو جزئية، بدليل تسميتك الكلمة البريئة التي وجهها الأستاذ (ا. ع) إلى الشعراء الشباب (حملة تأديبية)

الحق أولى، يا صديقي، أن يقال، أنه صار من اللازم اللازب أن تجرد حملات نقدية على

ص: 36

الناقدين الذين يأخذون بناصر العجزة المهازيل من النظامين

فإنك تعرف يا صديقي، أن الشعر روح، وأن الحياة الشعرية التي لا تفيض بالنعمة، ولا تشيع السرور بالنفوس والفرحة بالوجود ليست بحياة. هل شعرت بشيء من ذلك حين قرأت ما نظم أكثر من ذكرت من أصدقائك شعراء الشباب؟ ليس بين معظم الشعراء الذين ذكرت من يطير بجناحين، بل فيهم من يمشي ويتسكع ولكن أكثرهم يزحف

لا فارق، يا صديقي، بين ما قلته عن شعراء الشباب أنهم (أثمن قلادة يتحلى بها جيد مصر الحديثة، والشعر المصري الحديث، وبين ما كان يقوله كتاب مقدمات الكتب قبل عشرين أو عشرة سنين

وفي ختام، أحيي باحترام الأستاذ الجليل (ا. ع) الذي أثار هذه المسألة وأطالبه المزيد، لا حباً في النقد لذاته، بل حرصاً على نقاء تاريخ أدب هذا الجيل.

حبيب الزحلاوي

شعراء الشباب

أشكر الأستاذ دريني خشبة ويشكره معي شعراء الشباب - والمتواضعون منهم خاصة - على وقوفه دونهم في كل مسألة تثار أو قضية تقام

وأقل ما يملكه شعراء الشباب له اعترافاً بالجميل وحفاظاً على الصنيع - أن يتفقوا جميعاً على الثناء عليه في مجلة (الرسالة) التي نعرف من صاحبها ومن كاتبيها الجليلين (ا. ع)، (ن) حسن النية، وشرف الأمنية للشعر العربي الحديث

ومهما يكن بين الأستاذ خشبة وبين الأستاذ الجليل (ا. ع) من خلاف فنحن الشعراء نعد من الخير لقضية الشعر المعاصر أن يكثر الناقدون له، المتبرمون به، المتكلمون فيه، حتى يمضى إلى الغاية التي يرجوها له كل غيور عليه

وأنا سعيد كل السعادة لأن الأستاذ دريني سلكني مع طائفة من الشعراء أرجو أن أسمو إلى نباهة شأنهم، على الرغم من أنه نبه شأني بذكرى في عدادهم. وهي طائفة اختص الله كل واحد منها بمزية لم تتح لغيره: - ما بين إشراق فكرة، وسريان فرحة، وحلاوة تعبير، وأصالة طبع، ورقة عاطفة، وحسن تصوير، وغزارة شعور، وصدق إحساس، وتسجيل

ص: 37

لأحداث العصر ومناسباته الكبرى

وموضع التباين بين مذاهب شعرائنا اليوم هو بعينه موضع الجمال في اختلاف الأزهار التي تتألف منها الطاقة الجميلة

فلا يحق للوردة الناضرة أن تغضب، لأن البستاني الأنيق وضع بجانبها النرجسة الغضة، ولا يحق للنرجسة الغضة الفواحة أن (تتأفف)، لأن الزهار المتذوق وضع بجانبها الأقحوانة التي لا تفوح بالعبير. . . فلكل زهرة جمالها. . . حتى الزهرة المتسلقة على الجدران وكذلك لكل شاعر جماله. وعلى الأستاذ مني السلام

محمد عبد الغني حسن

الدرزي لا الطرزي

ينشر الدكتور (زكي مبارك) في جريدة المصري خواطر وهواتف مما توحي به (حياته اليومية) سمى فيها (خائط الثياب) طرزي - بدل ترزي - حاسباً أن تحريف النطق هو الذي حول الكلمة - وكثيراً ما يكون ذلك في الكلمات التي تتحد أو تتقارب مخارجها - وغاب عن الكاتب الفاضل أن الأصل والتحريف كليهما خطأ، وأن الصواب أنها (الدرزي) ودرز الثوب خياطته. وأولاد درزة السفلة والخياطون والحاكة والغوغاء. . . أما الطراز أو الطرز أو التطريز التي يراد إرجاع الكلمة إليها فبعيدة كل البعد، لأن الطراز علم الثوب والهيأة والنمط. والطرز بإسكان الراء الشكل. وفي اللسان أن أم المؤمنين (صفية) قالت لزوجات النبي: من منكن مثلي؟ أبي نبي، وعمي نبي، وزوجي نبي. . . فقالت لها عائشة رضى الله عنها: ليس هذا من طرازك. تقصد من نفسك. . . لأنه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياها. . .

إبراهيم علي أبو الخشب

ص: 38

‌إن الغناء زاد الراكب

أورد الأستاذ الجليل (محمد إسعاف النشاشيبي) في العدد (555) من الرسالة تحت عنوان (إن الغناء زاد الراكب) من (نقل الأديب) هذه الفقرة:

(قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا سعيد؟ فقال: نعم العون الغناء على طاعة الله؛ يصل الرجل به رحمه ويؤاسي صديقه)

فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه، ويؤاسي صديقه؟ وهل هذا الوصف ينطبق على الغناء بالمد، أم على الغنى بالقصر كما فهمت؟

(مكة المكرمة)

عبد العزيز الرفاعي

كتب

1 -

الفلاحون

كتاب عن فلاح المصري ألفه الدكتور الأب عيروط اليسوعي، ووصف فيه مصر البلد الزراعي وحياة الفلاحين فيها وأعمالهم ومواسمهم وعاداتهم وصفاً دقيقاً صادقاً وإن جاز أحياناً. . . وقد نقل الكتاب إلى العربية الدكتور الفاضل محمد غلاب أستاذ الفلسفة بالأزهر. . . ولسنا ندري ما نقول عن هذه الترجمة التي كنا نجل صديقنا الدكتور غلاب عن وضع اسمه عليها. . . إنها ترجمة ركيكة كثيرة الأخطاء اللغوية، يميل أسلوبها إلى العامية ويجافى العربية السليمة، بله العربية الفصحى، ونأمل أن يتدارك الأستاذ غلاب هذا كله في الطبعة الثانية

2 -

روح التربية والتعليم

الأستاذ محمد عطية الأبراشي من خيرة المشتغلين بالتربية علماً وعملاً في مصر، وهو رجل منتج، وإنتاجه مثمر قيم دائماً، وقد ألف، أو اشترك في تأليف كتب كثيرة في التربية وعلم النفس وفي اللغة العبرية، وهو يؤلف للكبار وللصغار على السواء، وقد انتفع بكتبه التي ألفها للصغار آلاف التلاميذ في مصر وفي الشرق العربي، وكتبه التي ألفها للكبار لا

ص: 39

تقل عن كتبه الأخرى انتشاراً وذيوعاً. وكتابه - روح التربية والتعليم - هو من خيرة الكتب في موضوعه وقد كسره على أربعة عشر فصلاً، يصلح كل فصل منها أن يكون كتاباً مستقلاً؛ فهو يتناول الطفل والمدرسة والمنزل ولعب الأطفال والمدرسين وإعداد الدروس ومهمة المدرس الحديث، وكيفية تدريس المواد المختلفة والعيوب الشائعة في التدريس وآفة الامتحانات ومصيبة مدرسينا في قلة اطلاعهم. . . الخ؛ ولعل هذا الشمول وحده هو نقطة نقدنا لهذا الكتاب القيم، إذ لو صدر في أربعة أجزاء مثلاً مستقلة بعضها عن بعض لأمكن أن تنتفع به طوائف مختلفة ممن يهمهم تنشئة الطفل والعناية به سواء في ذلك رجال التربية والآباء والأمهات. على أن من الصعب جداً في هذه اللمحة الخاطفة عن الكتاب الإحاطة بحسناته، وإن أقحمت بينها في الوقت نفسه بحوث كان الأفضل أن تستقل بكتاب خاص. . . مثل ذلك ما جاء في الكتاب عن تاريخ التربية عند بعض الأمم التي لا تربطها بمصر رابطة تربيوية تاريخية، كالصين مثلاً. . . مع غض النظر عن التربية في فرنسا التي تنغمس في تقليدها إلى أذقاننا

وبعد فالمدرس أو رجل التربية الذي يهمل قراءة هذا الكتاب ومناقشة آرائه يخسر ولا شك خسارة ذهنية

3 -

حدائق الأمثال العامية

هذا كتاب من أمتع الكتب التي توفرت على تأليفها السيدة فائقة حسين راغب، وقد جمعت في جزأيه الأول والثاني الأمثال العامية الشائعة في مصر، والمناسبة التي يضرب كل منها فيها، ثم المثل العربي أو بيت الشعر الذي يطابق المثل العامي روحاً ومعنى. وقد دل الكتاب على ما لقيت مؤلفته الفاضلة من عناء وجهد، كما دل على اطلاع واسع وذوق دقيق وملاحظة عميقة. وسينتفع بحدائق الأمثال العامية العلماء المشتغلون بعلم الأساطير والأمثال الشعبية أو ما يسمى علم (الفولكلور). والرسالة تهنئ السيدة الفاضلة بهذا السفر النفيس وترجو أن يقدره عارفو فضلها

4 -

من ميونخ إلى وارسو

هذا كتاب أذاع فصوله من فلسطين أحد أشبال أسرة النشاشيبي، بيت العلم والأدب في

ص: 40

القطر الشقيق، وتتناول موضوعات الكتاب أدق سنة في تاريخ الإنسانية. السنة التي سبقت الحرب المشئومة الحاضرة. السنة التي سبقت العاصفة واضطرب فيها الجو الدولي، وتتابعت الحوادث الجسام التي أدت إلى كارثة بولندة، ثم إلى كارثة الدنيا بأجمعها من بعد. . . لقد كما ننتظر أحاديث الأستاذ أنور النشاشيبي المذاعة من فلسطين لنسير معه في دورة الفلك ولنتحسس يد المقادير متى تبطش بهذا الكوكب السيئ الطالع. واليوم، وهذه الأحاديث مجموعة في كتاب مطبوع، وبعد إذ أوشكت الحرب أن تضع أوزارها، نرى من واجب المؤرخ ألا ينسى سجله الأول من مؤلف الأستاذ أنور النشاشيبي، هذا المؤلف لشامل الذي حققت الحرب الحالية كثيراً جداً مما هب إليه من آراء.

(د. خ)

جريدة الإصلاح في عامها الثامن

دخلت زميلتنا الإصلاح في عامها الثامن وهي على عهدها المعهود من اطراد الرقى وسمو التحرير ونبل الغاية، وستصدر في خلال هذا الشهر لهذه المناسبة عدداً خاصاً محلي بصور أبناء الدقهلية البررة البارزين من الأدباء والشعراء والفنانين لتكون صلة تعارف بينهم وأداة تعريف بهم. وسيشترك في تحريره صفوة من كبار الكتاب

استدراك

سقط من المقال الذي نشر في العدد 562 من الرسالة عن كتاب (آراء وأحاديث في التربية والتعليم - للأستاذ ساطع الحصري) اسم الرسالة التي نشرتها الحكومة البريطانية سنة 1934 بعنوان:

عبد الغني

ص: 41