الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 564
- بتاريخ: 24 - 04 - 1944
الفن والإصلاح
للأستاذ توفيق الحكيم
لم يزل موضوع الأدب العربي ومستقبله في حاجة إلى كلام، على الرغم من الأدلة القوية التي ساقها أخي أحمد أمين بك في رده على كلمتي السابقة. وأخشى أن يتبادر إلى الذهن أننا نتجادل في قضية لنا فيها مصلحة. فالواقع المعروف أن أكثر مؤلفات أحمد أمين مثل (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (قصة الفلسفة) الخ. بعيدة في الاتجاه القومي أو الاجتماعي الذي يرجوه لأدبنا العربي؛ كما أن بعض كتبي مثل (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) قد رمت بالفعل إلى هذا الهدف منذ زمن. فالقصة الأولى (عندما نشرت بالفرنسية في باريس عام 1937) كتب عنها ناقد يقول:(لو كان بريس حياً واطلع عليها لنعتها بقصة النشاط القومي). كما أن الكتاب الآخر يرمي كما هو معلوم إلى نقد المجتمع الريفي بحكامه ومحكوميه؛ فأنا إذن أقرب إلى تلك الدعوة ولي في نجاحها مصلحة أكثر مما لصديقي أحمد أمين. ولكن العقيدة الأدبية والإيمان الفني أقوى فيما يبدو عند كل منا وأرفع من المصالح الخاصة والغايات الشخصية. فمنا قشتنا اليوم تقوم في جوهرها إذن على الرغبة المجردة في الوصول إلى غرض واحد: هو كيف نبلغ بأدبنا العربي الكمال؟ الغاية واحدة ولا ريب ولكن السبل مختلفة؛ فأحمد أمين يرى أن أدبنا لن يصل إلى مرتبة الآداب الأوربية إلا إذا خاض مثلها في طريق الحياة العامة، فنقد الفاسد من أوضاع المجتمع، وقوم المعوج واقترح وسائل الإصلاح، ونادى بالنافع من العلاج، والمستحدث من النظم. وكان له من أعلامه قادة للرأي العام يبصرونه بمواقع خطاه في طريق التقدم الاجتماعي. واتخذ من أناتولل فرانس وبرنارد شو وتولستوي مثلاً يحتذي
وهنا يجدر بنا أن نسأل: هل من الحق أن الأدب الأوربي بلغ مبلغه هذا بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، أو بفضل قيمته الفنية ومزاياه الأدبية؟ وهل نزعات الإصلاح الاجتماعي هي اللون الغالب في الآثار الأوربية، أو إنها لون ليس بالغالب حتى في آثار المؤلف الواحد؟
الذي أعلمه هو أن أناتول فرانس أديب، وأن برنارد شو مؤلف مسرحي، وأن تولستوي قصصي. وتلك هي صفاتهم التي تؤخذ على سبيل الجد. أما ميول فرانس وشو الاشتراكية
ونزعات تولستوي الإصلاحية، فهي نواحي ينظر إليها تارة بغير احتفال، وتارة أخرى على أنها توابع أو ظواهر ودلائل قد تفسر على ضوئها بعض أعمالهم الأدبية وآثارهم الفنية
إن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناً أو أدبياً لأنه مصلح؛ ولكنها قد تحترم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً. ولعل أبرز مثل لذلك هو (إبسن)؛ فقد هزته أحداث بلاده السياسية والاجتماعية فكتب تمثيليات مفعمة بروح الإصلاح مثل (براند) و (عدو الشعب) و (بيت العروس) الخ. ومات إبسن وتغير مجتمعه ونظر الناس في أعماله. . . وكاد يهزأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع، لولا فنه. وهكذا مات المصلح في إبسن وبقى الفنان
نحن الشرقيين تبهر عيوننا دائماً كلمة (مصلح) بقدر ما نستهين بكلمة (فنان). وإني لا أنسى دهشي يوم قرأت في مجلة (ماريان) الباريسية نقداً للطبعة الفرنسية من (يوميات نائب في الأرياف) للناقد المعروف (رامون فرنانديز) يقول فيه: (إن القارئ لهذا الكتاب ينسى في أغلب الأحيان المقاصد الإصلاحية التي حركت المؤلف لوضع كتابه، بل إن القارئ يتمنى ألا يتغير شيء في عالم هذه المخلوقات الإنسانية) صدمني هذا القول لأني كنت أعتقد أن مقاصد الإصلاح لها الاعتبار الأول في مثل هذا النوع من الكتب، وأن صفة المصلح هي التي يجب أن توضع موضع التقدير
لقد تحدث الأستاذ أحمد أمين في أكثر من موضع عن الروايات الغرامية وعرامة الحب بما ينم عن الازدراء. . . فذكرني ذلك من فوري برواية شكسبير (روميو وجولييت)؛ وقلت في نفسي: هاهي ذي قصة ليس فيها إصلاح لمجتمع ولا نهوض بشعب، وكل ما فيها عرامة الحب. ومع ذلك فقد خلدتها الإنسانية حيث طرحت ومزقت كثيراً من صفحات المصلحين وكتابات الهادين والمرشدين. إن الإنسانية لأدرى بما يسرها وأعلم بما يسعدها مني أنا ومن أخي أحمد أمين. كم من المؤلفات المملوءة بالإرشاد والإصلاح قد نشرت وظهرت ولم تحتفظ بها ذاكرة الزمان. . . ولكنها احتفظت بقصة غرام وقصيدة غزل ورواية حب عارم. . . وإذا كان حقاً أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فماذا نقول في بقاء (روميو وجولييت) وفناء الكثير من القصص الإنكليزي الذي قصد به إصلاح المجتمع؟ بل ماذا نقول في خلود قصة (غادة الكامليا) لدوماس الصغير
وموت أكثر رواياته الأخرى التي عالج فيها موضوعات اجتماعية كلها جد وحسن قصد. . .
كلا. . . لا ينبغي أن نملي على الفن اتجاهاً بعينه. ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة أو رداء الإصلاح الوقور. . . إلا أن يشاء هو ويرضى. . . لأننا إذا أرغمناه سخر منا وجعل من أردية رزانتنا ووقارنا أثواب مساخر، وقلب بسحره أثواب الهزل خلوداً تنحني أمامه الجباه على الرغم منا. لقد أصاب (أندريه جيد) إذ قال إن الفن لا ينبغي له أن يثبت شيئاً ولا أن ينفى شيئاً. إن الفن العالي ليس أداة للجدل. إنما هو شيء كالسحر ينفذ إلى النفوس فيحدث فيها أشياء. إن الفنان ليس مصلحاً ولكنه هو صانع المصلح. كل أولئك المصلحين من ملوك وزعماء وساسة ما كونهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء وشعر الشعراء وفن الفنانين. إن الفنان هو مصلح المصلح ولا شيء غير ذلك. أما أن ينزل الفنان بفنه إلى الميدان يناقش ويدافع ويهاجم وينافح. . . فهذا ما لم نره حتى الآن في فن استحق البقاء في أي أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات. من الحق أن بعض أهل الفكر والفن قادوا الرأي العام في بلادهم وبلاد العالم، ولكنهم كانوا في الواقع يفعلون ذلك باعتبارهم شخصيات عظيمة مفكرة من واجبها أن تبدى آراءها في المسائل الكبرى. لا باعتبارهم فنانين يقحمون فنهم في ميادين الشئون اليومية. لطالما تحدث الشاعر (فاليري) عن المشكلات الإنسانية التي تمس المجتمع العالمي الحاضر، ولكن هل رأيناه وضع ذلك في قصيدة واحدة من قصائد؟ إن قيادة الرأي العام واجبة على الأديب. ولا ينسى أحمد أمين ندائي إلى الأدباء أن يتسلموا القيادة الروحية والفكرية في أول هذه الحرب وما لم قام حول هذا النداء من جدل؛ ولكن الذي أراه خطراً على الأدب هو قهر الأديب على أن يتجه اتجاهاً بعينه في صميم فنه. وحسبنا أن نتأمل حال الأدب في البلاد الدكتاتورية التي كبلت وحي الأدباء بالقيود فلم تخرج من قلوبهم إلا كتابات مفتعلة تفوح برائحة واحدة كأنها خارجة من مطبخ واحد. إن الفن هو الحرية. حرية الفكر والشعور. ولا منبع له إلا فكر الفنان وقلبه. هما وحدهما الهاديان له. إن الوعي الفردي هو روح الفن. فإذا أردنا إبادة الفن واستئصاله من الأرض فلنقتل فيه ذلك الوعي الفردي. ولقد أصاب صديق الطرفين الكاتب الكبير العقاد إذ قال في تعليقه على مناقشاتنا هذه: (إن اتجاه
التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية). وهذا حق؛ إذ الفردية هي عنوان الكرامة الإنسانية. هي شعور الإنسان بقيمة فكره وإحساسه لا بفكر الجماعة وإحساسها. إن الحيوان لا يفكر بفكره ولا يحس بإحساسه. إنما هو يفكر ويحس بغريزة الجماعة كلها والنوع كله. ولن يرقي الحيوان إلى مرتبة الإنسان إلا إذا استقل في تفكيره وإحساسه. إن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً، والفردية أي الحرية هي التي جعلت الإنسان إنساناً. على أنه لا ينبغي الخلط بين الفردية والأنانية. فإني حينما قلت إن (الفنان الذي لا يقول أنا ليس بفنان، كما أن العالم إذا قال أنا ليس بعالم). إنما قصدت إلى المعنى الفني لا المعنى الخلقي. قصدت أن الفنان هو الذي يقول (إن الطبيعة جميلة لأني أراها جميلة). أما العالم فلا ينبغي له أن يقول ذلك. ولكن عليه أن يقول: (الطبيعة جميلة أو قبيحة، ساكنة أو متحركة، لأن البحث والتحليل والبرهان والدليل تؤدى إلى هذه النتيجة). الفنان هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال نفسه. والعالم هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال المجهر. وكلاهما يكمل الآخر في بناء المعارف الإنسانية. ولا ينبغي لأحدهما أن يلجأ إلى وسائل الآخر في استجلاء الحقائق واستكناه الطبائع. إن الفن مصدره الشخص، والعلم مصدره الموضوع. الفن شخصي والعلم موضوعي. الفن يقول (أنا) أي (نفسي)؛ والعلم يقول (هو) أي (الشيء).
أما أن يخدم الفنان والعالم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة، لأن آثار الفن والعلم لا تبقى ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة. فلا ينبغي أن نقول للفنان والعالم:(اصنعا شيئاً نافعاً للناس) بل يجب أن نقول لهما فقط: (اصنعا فناً وعلماً).
وبعد فأراني قد أثقلت على القراءة وعلى أخي الجليل أحمد أمين بك، وإني لأشكره إذ أتاح لي هذه الثرثرة التي تريح النفس أحياناً، كما أحمد له ويحمد له القراء هذه الموضوعات التي يقع عليها بعين بصيرته النافذة ويعالجها بما عرف عنه من إشراق ذهني ينير للناس غوامض الأشياء. وله من أخيه المعجب بفكره وأدبه أخلص التحية.
نونية أبي تمام في رثاء ولده
لأستاذ جليل
للدكتور محمد صبري أن يرى في مقالته (الحكم على الشعر وأساليب النقد والتحليل) في الرسالة الغراء (561) أن نونية أبي تمام في رثاء ولده قد فاتت رائيته في محمد بن حميد الطوسي التي يقول فيها:
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة
…
ولكن كبرا أن يقال به كبر
وللأستاذ عبد الرحمن شكري أن يستعجب في إحدى مقالاته في الرسالة كيف أن حبيباً - وهو في رثاء ما هو - لم يجد في النونية إجادة ابن الرومي في الدالية رثى بها ولده. غير أن تلك القصيدة فائقة كانت أو مقاربة ليست لأبي تمام وإن جاءت في ديوانه المطبوع وفي المخطوط في دار الكتب المصرية (عمرها الله)؛ فإن أبا بكر الصولي يقول في مصنفه (كتاب الأوراق) في سيرة (أبي محمد القاسم بن يوسف): (وقال - يعني القاسم هذا - يرثي ابنه أبا علي محمداً) وأورد القصيدة بتمامها، وروى بعدها دالية للقاسم في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين له تجانسها كل المجانسة. والصولي هو المشغوف بحبيب. وهو صاحب أخباره وجامع أشعاره فيستبعد أن يأخذ منه ليعطى غيره كما يستبعد أن يضل في الرواية، وهو الراوية العظيم. وما حدثتنا (أخبار أبي تمام) له ولا (هبة الأيام) للبديعي ولا مؤلفات كتبت سيرة حبيب أن له ابناً، كنيته أبو على، فجع به فرثاه بشيء، ولا أن له ابنا اسمه محمد درج وأخوة لأبي تمام في عام واحد فبكاهم بمقطوعة (أربعة أبيات فقط) ختامها:
تتابع في عام بِنىَّ واخوتي
…
فأصبحت إن لم يخلف الله مفرداً
ولا نعرف لحبيب ولداً إلا (تماما) ذكره الأنباري في (نزهة الألباء) في سيرة أبيه، والصولي في كتابه (أخبار أبي تمام) وأورد له هذه الحكاية:(لما ولى محمد بن طاهر خراسان دخل الناس لتهنئته، فكان فهم تمام بن أبي تمام الطائي فأنشده (وروى الصولي ثلاثة أبيات ركيكات) فاستضعفت الجماعة شعره، وقالوا: يا بعد ما بينه وبين أبيه! فقال محمد لعبد الله ابن اسحاق، وكان يعرفه الناس وهو على أمره: قل لبعض شعرائنا أجبه، فغمز رجلاً في المجلس، فأقبل على تمام فقال وروي ثلاثة أبيات ثالثها:
فهاك إن شئت بها مدحة
…
مثل الذي أعطيت أعطاكا
فقال تمام: أعز الله الأمير! إن الشعر بالشعر رياء؛ فاجعل بينهما رضخاً من دراهم حتى يحل لي ولك. فضحك محمد وقال: إن لم يكن معه شعر أبيه فمعه ظرف أبيه. أعطوه ثلاثة آلاف درهم. فقال عبد الله بن إسحاق: ولقول أبيه في الأمير عبد الله ابن طاهر:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
…
فقلت: كلا ولكن مطلع الجود
ثلاثة آلاف أخرى، قال: ويعطي ذلك)
وأما صاحب النونية التي وهبها الوراقون أو غير الوراقين لغنى، عنده قناطير - هو القاسم بن يوسف بن القاسم بن صبيح القبطي، وهو أخاه أحمد بن يوسف وزير المأمون. قال الصولي:(لما ولى أخاه القاسم خراج السواد، فجباه فضلاً مما جباه غيره في سائر أيام المأمون، وكان أحمد بن يوسف إذا عرض على المأمون النفقات قال: يا أحمد، القاسم يجمع، ونحن نفرق. . .)
وقد اشتهر القاسم بمدح البهائم (أعنى الحيوانات) ومراثيها. قال المرزباني في (معجم الشعراء): القاسم شاعر، حسن الافتنان في القول، وهو أشعر من أخيه أحمد وأكثر شعراً، وهو أرثى الناس للبهائم
وقال أبو الفرج في الأغاني في أخبار أخيه أحمد: شاعر مليح الشعر، وكان قد جعل وكده في مدح البهائم ومراثيها، فاستغرق أكثر شعره
وقال الصولي في كتاب الأوراق: القاسم أسن من أحمد، وأحسن شعراً منه، وأفصح في شعره، وأشعر في فنه الذي أعجبه من مراثي البهائم - من جميع المحدثين حتى إنه لرأس فيه، متقدم جميع من نحاه، وما ينبغي أن يسقط شيء من شعره، لأنه كله مختار، وللناس فيه فائدة) ثم روى له طائفة كبيرة من مراثيه في الجماعة. . .
رأى الأستاذ توحيد السلحدار
في كتابي: (الوعي القومي) و (دراسات عن مقدمة ابن
خلدون)
أهدي أحد الفضلاء في لبنان هذين الكتابين القيمين إلى صديقنا
الأستاذ الكبير محمد توحيد السلحدار، فلما قرأهما كتب إليه
كتاباً جاء فيه:
ذكرت في بعض ما كتبت (للرسالة) أن من أصحاب الفكر والذوق للمعاني من قال: إن الثقافة وعي أطراف صالحة من أثمار العقول، العلمية والفنية والأدبية، بها يلتفت المثقف إلى المبادئ والأسباب والقوانين، ويرشد قومه إلى الأصلح لحالهم، والأنقع لترقيتهم، والأخلق بالإنسانية
وكتاب (الوعي القومي) لبادعه الفاضل، الدكتور قسطنطين ذريق، أستاذ تاريخ الشرق بالجامعة الأمريكية في بيروت، ثمرة شهية من أثمار الثقافة الجدية، ومثال رائع يتجلى فيه معناها
هو كتاب يبين حال الشرق العربي الحاضرة بعجرها وبجرها، ويعرف وسائل التخلص منها، ويهديه - إذا هو أراد أن يهتدي - سبل الأهداف والمثل العليا والحياة بين الأحياء، وبحثه على سلوكها
ولقد جمعت أجزاءه ووحدت توجيهاته الحكيمة فكرته الأساسية مركزة في عنوانه المحكم البليغ، مرفرفة على كلامه السهل الممتنع الرفيع من أول البحث إلى آخره، حيث هدأ القلم، وحيث تفجرت من سنه حرارة وطنية وعاطفة إنسانية
قواه صاحبه بروحه العلمي ووضوح حجته، وجمله بنور بصيرته وبراعته الكتابية الفنية وبكياسته في التمهيد للنقد وبيان العلل، ولطف مدخله في النصيحة. وقد شف كلامه عن عمق إيمانه بحقائق دعوته، وحبه البين لأثمار العقول، حبا يكسب تلك الثقافة التي وصف، وكلما أحرزنا حظاً منها تكشفت لنا الأهداف القومية والمثل العليا التي لم يتورط في
تعريفها الآن، لحكمة لم يرد بعض النقاد أن يدركها
أضف إلى ذلك فضل أخلاقه الكريمة من عفة لسانه في صراحته، ومن نزاهته عن التعصب والتحزب، وصدقه وإخلاصه في الدعوة للوعي القومي، وكرامته وتواضعه تواضعاً يهبه العلم والأدب والتربية
استقصي واستوعب، وشخص الداء ووصف الدواء، شارحاً دعوته في إيجاز نير، حتى يرى من لا يرى، ويعلم من لم يعلم، ويفهم من لم يفهم، ويعمل من لا يعمل على مصلحة قومه
(في الوعي القومي) آية للزمان ومدعاة إلى الاطمئنان على مستقبل نتمناه، سواء أكان بعيداً كل البعد أم قريباً كل القرب
من أجل ذلك كله قد لا أكون مبالغاً إذا أنا زعمت أن هذا الصنيع الأساسي النفيس، المبتكر بوحدته ومميزاته ومرماه وظهوره في الشرق العربي في إبان الحاجة إليه، هو أجل كتاب بين الكتب العربية التي وضعت منذ أطفأ الدهر نور هذا الشرق
أما الأستاذ الكبير، ساطع بك الحصري، فقد أبدع كذلك في (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) إذ جاءت مصداقاً لتقريره (أن الطرافة في الدراسات لا تتأنى من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضاً)، فإنه خدم قومه باتجاهه العلمي، وعرف الأصول التي اهتدى بنورها في دراسة المقدمة، وكان البادئ في العربية بدراستها على الطريقة العلمية فيما أعلم
ذكر، مثلاً، أن كل عالم ومفكر يشاطر بوجه عام معاصريه أكثر أخطائهم، ولذا فإن منزلته (لا تتعين بملاحظة جميع الآراء الصائبة والخاطئة المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل تتقرر بملاحظة الآراء المبتكرة التي يسمو بها على معاصريه، والحقائق الجديدة التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، والخدمات التي يقوم بها بهذه الصورة في سبيل تقدم الأفكار والعلوم)؛ وعرف طرائق النقد الداخلي والنقد الخارجي والنقد التفسيري؛ ولاحظ أن مباحث المقدمة قسمان: (المباحث الأساسية. . . تحوم حول علم العمران وأسس التاريخ مباشرة)، و (المباحث الاستطرادية التي تأتي تمهيداً للأبحاث الأصلية أو إتماماً لها)؛ وأن عمل ابن خلدون في هذه (لا يتعدى حدود النقل والجمع، والعرض والتلخيص،
والترجيح والتسجيل؛ أما تلك فتظهر فيها قدرته الابتكارية وعبقريته الحقيقية)
وضع الأستاذ (أبو خلدون) دراساته على أصول الطريقة التي ذكر أسسها في شرح نظراته في آراء ابن خلدون ونظرياته. فنبه، مثلاً، إلى أن صاحب المقدمة استعمل كلمة العصبية (لغير معناها في المعاجم والاستعمالات الحالية)؛ واستعمل كلمة العرب (بمعنى البدو الأعراب)، فأدى ذلك إلى (أخطاء عظيمة) في فهم مقاصده، وأظهره (بمظهر التحامل على العرب، وحمل بعض الشعوبيين على الاستشهاد به، كما دفع بعض القوميين إلى الهجوم عليه)
وكشف الأستاذ المفضال خطأ الذين (ظنوا أن ابن خلدون يعزو أهمية كبيرة إلى البيئة الجغرافية، كما زعموا أنه يعتبر الدين أهم عوامل الاجتماع)؛ وأيد بالبحث والموازنة أن ابن خلدون أحق من الغربيين (باسم مؤسس فلسفة التاريخ أو علم التاريخ) و (بلقب مؤسس علم الاجتماع)؛ وأظهر مكانة هذا العالم العربي في نظر علماء الغرب
جمع المؤلف التحرير أشتات كل رأي لابن خلدون من أبواب المقدمة وفصولها بعد أن نظر في الفصول المنسية في الطبعات المصرية والبيروتية للمقدمة، وهي موجودة في الترجمتين التركية والفرنسية المطبوعة في باريس؛ وقابل هذه الآراء والمبتكر منها بما سبقها وبما جاء بعدها من آراء تتعلق بفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، وعين ابتكارات ابن خلدون وبين (كنه نظريته في العصبية، وآراءه الأساسية في الحياة الاجتماعية البدوية والحضرية)؛ فجاءت نظرته في المقدمة نظرة ناقد مثقف بصير
ألا إن فضل ساطع بك الحصري هو، على الخصوص، في الطريقة العلمية التي اتبعها في دراساته، وفي اتجاهه وأسلوبه الفني في الإحياء الثقافي، وفي قدرته على القيام بهذا العمل الدقيق النافع الذي توخاه، وصنيعه النفيس دليل على تقديره وإجلاله لتراثنا العربي العظيم، وعلى تحقيقه النظر فيه واجتهاده في تفهيمنا إياه ونحن في حاجة ماسة، ليست تنتهي في زمن قريب المدى، إلى مثل هذا النوع من الكتابة والتأليف. وذلك وجه من أوجه الإحياء الذي يدعو إليه (الوعي القومي) لإيقاظنا من سباتنا العميق.
محمد توحيد السلحدار
شعر ناجي
للأستاذ دريني خشبة
لا يلبث الإنسان حين يقرأ شعر ناجى أن يستمع إلى نبضات قلب كبير، ولا يلبث حين يفتح ديوانه أن يرى حوله جنات معروشات كلهن ألوان وكلهن صور وكلهن حياة، وفيهن جمال وفيهن حب دعة؛ وبين أولئك جميعاً قلب ناجي الفنان ينبض ويلون ويبتسم، وينبت في فردوسه الأعاجيب
وقلب ناجي هو باب شعره العذب، بل هو معينه الذي لا ينضب. . . وقليل من الشعراء من يودعون شعرهم قلوبهم، وقليل منهم من تحس أن لهم قلوباً تقول هذا الشعر المنمق الذي ينظمون أو تدين به. . . لأنهم ينظمون الشعر صنعة ولا يهزجون به طبيعة، والشعر إن لم يكن في الدم فلن يكون في الألسن إلا كما يكون الصفير في فم الببغاء
وقلب ناجي قلب وادع تبغ في الحب، وفاض بالرحمة، ومسه الألم، وانطبعت في صفحته الحياة بصورها المختلفة. فالحب والرحمة والألم تفيض صوراً حية في شعر ناجي، والعجيب أنه أكثر شعرائنا ترديداً لقلبه في شعره، حتى ليوشك أن يذكره في كل قصائده، ولعله لا يعلم ذلك، بل لعله لم يعرفه إلا الآن، لأنه لا يتعمد شيئاً في شعره، إذ كل هذا الشعر أو أكثره غناء ردده ذلك القلب، وهتف به ذاك اللسان، ودونه هذا القلم. وأعجب من ذلك كله أن الصداقة بين ناجي وبين قلبه قد أنتجت لنا تلك الصور الخالدة في وصف هذا القلب الوادع. فحب ناجي:
يشهد الليل عليه والنهارْ
…
والشهيد المتواري في الضلوعْ
وناجي:
يشرب من روعة السماء
…
شعراً ويسقى الفؤاد وحياً
ويقول مناجياً:
وحرقت قلبي من سنا
…
ك على جمال يضطرمْ
كفراشة حامت علي
…
ك وأي قلب لم يُحمْ!
ويذكر قلبه وهو يصف مغرب الشمس عند شاطئ البحر فيقول:
نقول: هل الشمس قد خضِّبته
…
وخلت به دمها المهْرَقا
أم الغرب كالقلب، دامي الجراح
…
له طلبة عز أن تُلحقا
لنا الله من صورة في الضمير
…
يراها الفتى كلما أطرقا
يرى صورة الجرح طيّ الفؤا
…
د مازال ملتهباً محرقاً!
ويخاطب حبيبه ساعة الغروب فيقول:
قد جعلت النسيم زاداً لروحي
…
وشربت الظلال والأضواَء
مَرِّ بي عطرها فأسكر نفسي
…
وسرى في جوانحي كيف شاَء
نشوة لم تطل، صحا القلب منها
…
مثل ما كان أو أشد عناء!
ويناجي حبيبه الهاجر قائلاً:
أيُحرَم حتى وهم حبك من رمي
…
بمهجته في ناره دون إحجامِ
وأنفق فيه قلبه وشبابه
…
فلم يبق إلا الجرح والشفق الدامي
ومن عجب أحنو على السهم غائراً
…
ويسألني قلبي: متى يرجع الرامي؟
وأسرى بوهمه ينشد الآمال فلم يصحب إلا قلبه، فهو يقول:
انفردنا، أنا والقلب عشيِّا
…
ننسج الآمال والنجوى سويِّا
فركبنا الوهم، نبغي دارها
…
وطوينا الدهر والعالم طيَّا
فبلغناها، وهلَّلنا لها
…
ونزلنا الخلد فيناناً نَديِّا
ولقينا الحسن غضِّا والصبا
…
وتملِّينا الجلال الأبديا
قال لي القلب: أحقاً ما بلغنا؟
…
كيف نام القدر الساهر عنا؟
أتراها خدعة حاقت بنا؟
…
أتراها ظنِّة مما ظننِّا؟
قلت لا تجزع فكم من منزل
…
عَزَّ حتى صار فوق المتمني
أذن الله به بعد النوى
…
فثوينا، واسترحنا، وأمنا!
وينتظر حبيبه مرة في ظلام وريح وبرد فيصف هذا ويشرك في الوصف قلبه قائلاً:
ولما لم تفز بلقاك عيني
…
لمحتك آتياً بضمير قلبي
فأسمع وقع أقدام دوان
…
وأنصت مصغياً لحفيف ثوب
وأخلق مثلما أهوى خيالاً
…
وأستدني الأماني والحبيبا
وأبدع مثلما أهوى حديثاً
…
لناء صار من قلبي قريبا
أمد يديّ في لهف إليه
…
أشاكيه بمحتبس الدموع
فيسبقني إلى لقياه قلبي
…
وثوباً. . . ثم يبرد في ضلوعي. . .
ويزكيه حبه ويطهره، ويدنيه من منازل الملائكة:
سموت كأنما أمضي
…
إلى رب يُناديني
فلا قلبي من الأرض
…
ولا جسدي من الطين!
ويقول وقد نعم بلقاء:
نحن أرواح حيارى افترقت
…
ثم عادت فتلاقت في شجاها
سوف ينسى القلب إلا ساعة
…
من رضاً في وكرك الحاني قضاها
هتف القلب وقد حدثني
…
أي ماض كشفت لي شفتاها
همست في خاطري فاستيقظت
…
روحيَ الحيرى وأصغت لنداها
فأنا إن لم أكن توأمها
…
فكأني كنت في الغيب أخاها
نحن أرواح حيارى ثملت
…
وانتشت سكرى على لحن أساها
ويقول معاتباً على طول الهجر:
لقد أسرفت فيه وجُرْتِ حتى
…
على الرمق الذي أبقيتِ فينا
كأن قلوبنا خلقت لأمرٍ
…
فمذ أبصرن من نهوى نسينا
شُغلن عن الحياة ونمن عنها
…
وبتن بمن نحب موكلينا (!)
فإن ملئت عروق من دماء
…
فإنا قد ملأناها حنينا
وتؤلمه الوحدة فيقول:
تلفت القلب مطعوناً لوحدته
…
وأين وحدته؟ باتت كما باتا
حتى إذا لم يجد ريّا ولا شبعا
…
أفضى إلى الأمل المعطوب فاقتاتا
ومن شعره وهو يافع:
عجباً لقلب هيض منكَ جناحُه
…
وجرى به نصل الندامة بذبح
ومضى الحِمام يدب فيه، فإن جرت
…
ذكراك طار إليك وهو مجُنَّح
لهفي على الناقوس بين جوانحي
…
وعلى بقية هيكل لا تصلح!
وهكذا نسرف هذا الإسراف في عرض تلك النماذج العالية من أشعار ناجي في القلب
عامدين. . . لأننا مهما قصدنا في إطراء هذا القلب النابض الذي أبدع لنا ذلك الشعر دون أن نعرض تلك النماذج القليلة، فربما ظن ظان أننا نغلو فيما يذهب إليه من أحكام. . .
والعظيم في هذا الشعر أن أكثره مما سبق إليه ناجي وابتدعه ابتداعاً. . . فالشهيد المتواري في الضلوع، والقلب الذي يحرقه الشاعر من سنا حبيبه على جماله المضطرم، فهو كالفراشة تحو إلى هذا الحبيب؛ وهذه الشمس الغاربة في اليم بين السحب شبه الجرح في القلب الوامق؛ ثم هذا البيت الفريد:
ومن عجب أحنو على السّهم غائراً
…
ويسألني قلبي متى يرجع الرامي!
هو ما يعدل ألف بيت من جيد الشعر عند من يقدرون الشعر؛ ثم هنا المحب الذي ينتظر حبيبه فيلمحه آتياً بضمير قلبه؛ ثم هذا الأحاديث التي يتحدثها القلب، ثم هذا القلب الذي يسبق صاحبه للقاء الحبيب:
أمد يديّ في لهف إليه
…
أشاكيه بمحتبس الدموع
فيسبقني إلى لقياه قلبي
…
وثوباً. . . ثم يبرد في ضلوعي!
ثم هذا القلب الذي يطهره الحب حتى لا يكون من هذه الأرض؛ وامتلاء العروق بالحنين بدل الدماء التي تتدفق من القلب؛ واقتيات القلب بالأمل المطعون وقد خاب رجاؤه. . . ثم هذا الفؤاد الذي هيض جناحه ومضى الحمام يدب فيه حتى إذا جرت ذكرى الحبيب طار إليه بجناحين قويين فتيين!
كل هذا وذاك من ثروة الشعر التي ينطوي عليها قلب ناجي والتي يجود بها سهلة هينة لينة في غير تكلف ولا تعقيد
وللدم من حب ناجي ومن خياله وشعره نصيب عظيم. ألم نقل إن الشعر إن لم يكن في دم الشاعر فلن يكون في لسانه إلا كما يكون الصفير في فم الببغاء؟
اسمع إليه يقول وقد صافح حبيباً:
أهاب بنا فلبِّينا
…
مناد ضمِّ روحينا
كأنا إذ تصافحنا
…
تعانقنا بكفيْنا
كأن الحب تيار
…
سرى ما بين جسمينا
يؤجج في نواظرنا
…
ويشعل في دماءينا!
ويخاطب القمر فيقول:
قمر الأماني يا قمرْ
…
إني بهمٍ مُسْقم
أنت الشفاء المدْخرْ
…
فاسكب ضياءك في دمي!
ويخاطب الجمال الضنين:
كأنك النسَّم النشوان منطلقاً
…
أظل كالنفس الحيران أتبعه
تعال وادْنُ بيوم لا نحس به
…
أجسادنا، في صفاء لا نضيَعه
لكن أُحِسُّك تجرى في صميم دمي
…
أنت الحياة، وأنت الكون أجمعه!
ويسائل حبيبه متى يلتقي؟
متى يرق الحظ يا قاسي؟
…
ويلتقي المنسيُّ والناسي؟
متى! وهل من حيلة في متى؟
…
وفي خيالات وأحداس
هدَّ قراري جريها في دمي
…
وهمسها في كر أنفاسي!
وهكذا يتدفق شعر ناجي من قلبه في دمه، وهكذا تروي به روحه وحواسه، فيكون فيها حباً ورحمة وألماً، وسترى كيف ينطبع هذا الشعر الجميل الوادع في قلب ناجي صوراً تشمل الحياة كلها. . .
(يتبع)
دريني خشبة
3 - القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
إنكاره إعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإعجاز إعجازان، إعجاز معنى وإعجاز أسلوب. والإجماع منعقد عليهما في القرآن، لكنه إذا أطلق لا ينفك عن إعجاز الأسلوب، لأن الأدب أسلوب قبل أن يكون معنى، إذا المعنى للعقل والقلب، فهو مشترك أو يمكن أن يكون مشتركاً بين اللغات. أما الأسلوب فخاص غير عام، لكل لغة أساليبها، بل لكل أديب أسلوبه. فمن ينكر الأسلوب فقد أنكر الأدب في الواقع
وموقف الدكتور زكي مبارك من قيمة الأسلوب موقف عجب. فهو يجعل الأسلوب فصلاً بين لغة ولغة، ولكنه لا يجعله فصلاً بين أديب وأديب أو بين بليغ وبليغ. فالفصاحة والبلاغة عنده للمعنى، لا للفظ ولا للأسلوب. اقرأ له إن شئت في صفحة 68 من الجزء الثاني قوله:(ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح). وبعد أن أورد القطعة المعروفة التي أولها: لو كنت من مازن لم تستبح أبلى بنو اللقيطة. عقب عليها بقوله (وهذه القطعة من بدائع الشعر العربي. وهي قطعة خالدة ستظل قوية بارعة ما بقي في العالم ناس يفهمون سر العربية. ومع هذا لا تستطيع أن تجد فيها ألفاظاً يغز على غير قائلها الوصول إليها، أو أسلوباً في التعبير يتميز عن غيره من الأساليب. وجمالها كله يرجع إلى دقة المعنى وطرافته وتخير الألفاظ تخيراً يجعلها تتمثل مع المعنى كتلة واحدة)
ثم اقرأ له بعد ذلك (وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع. ومثال ذلك قول حطان بن المعلي يشكو فقره وما وضع القدر في رجليه من قيود الأهل والذرية:
أنزلني الدهر على حكمه
…
من شامخ عال إلى خفض
وبعد أن استوفى القطعة المعروفة قال: (وقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ ولا إلى الأسلوب). وهو في تفريقه هذا بين الشاعر وأسلوبه كمن يفرق بين المرء ووجهه أو بين الوجه وقسماته، فالأسلوب هو الشاعر والكاتب، والشاعر والكاتب هو الأسلوب. أو بعبارة أدق، الأسلوب هو مظهر الأديب ومعبره سواء عبر عن كل ما في نفسه أو عن
بعضه، فهو كل ما يعرفه الناس من الشاعر أو الكاتب، ولعل التفاوت في الأدب هو بقدر التفاوت في تعبير الأسلوب عن صاحبه، فأقدر الأدباء هو أكثرهم تمثلاً في أسلوبه. لكننا نترك هذه المسألة للمشتغلين بالأدب يتنازعونها بينهم، يوافقون الدكتور أو يخالفونه، لكن الذي يهم فيما نحن بسبيله هو إنكار الدكتور في الظاهر كل قيمة للأسلوب، واضطراره في النهاية إلى الإقرار له بكل قيمة حين جعله هو والمعنى كتلة واحدة كما رأيت في تعليقه على القطعة الأولى، وكما ترى له فيما يأتي:
(ولا جدال في أن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها. وعلى هذا الأساس وجد والأسلوب الجزل والأسلوب الرقيق. فالرقة والجزالة من مقتضيات المعاني لا الألفاظ. فالمعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق. فإذا غلبت الرقة على شاعر مثل إليها زهير فمرجعها إلى الفكرة لأنه شاعر وديع يعبر عن معان وديعة يلهم أمثالها أصحاب الوداعة والرقة من الشعراء المترفين. وإذا غلبت الجزالة على شاعر مثل المتنبي فمرجعها أيضاً إلى الفكرة لأنه شاعر طامع في أسمى ما يطمح إليه فحول الرجال. . .) ص71 وهو في هذه القطعة يجعل المسألة مسألة ألفاظ ولا يجعل للتركيب شيئاً، ثم يجعل اللفظ هو والمعنى شيئاً واحداً، كأن المعنى إذا قام بالذهن، والشعور إذا قام بالنفس، جاء اللفظ طائعاً، جزلاً أو رقيقاً حسب المعنى أو الشعور. وهو لا يلتفت إلى ما يستلزمه هذا الرأي من وجوب اتحاد الأساليب باتحاد المعاني عند الأدباء، مما هو باطل بالبداهة، بل يزداد إغراقاً وأغراباً إذ يقول:(ثم نقرر أن الألفاظ ملك للجميع يجدونها حيث أرادوا في المعاجم والدواوين! (والتعجب من عندنا) ولا يبقى موضعاً للجهد والعنت أو العبقرية إلا المعاني والأغراض
. . . إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجز حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية. ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً ويجيء الورق ثانياً كما يقول الفرنسيون). وهو يريد بالورق فيما يبدو الألفاظ والأسلوب الذي سيبدو على الورق، فإذا كان ذلك كذلك فقد رجع بعد طول الحوار والخلاف إلى ما عليه جمهرة الأدباء من أن المعنى أهم من الصناعة الفنية ولكن الصناعة الفنية لها قيمتها ووزنها. والأمر إليك الآن في أن تجد اسماً لهذه الظاهرة في كلام صاحب النثر
الفني: سمها تناقضاً، أو سمها اضطراباً وتبلبلاً، أو سمها رجوعاً عن مذهب ظن أنه ابتكره إلى مذهب الناس، وإن شئت فسمها رجوعاً إلى الحق إن كنت ممن يحسنون به الظن
ولكن - وهذا هو لب الموضوع وروحه - هل نظنه حكم القرآن بشيء من ناحية الأسلوب؟ سأترك صاحب النثر الفني يعبر عن نفسه بقدر الإمكان. قال متمهاً لكلامه السابق:
(وقد رأى ناس قول البلاقلاني (ليس القرآن من جنس كلام العرب) فقرروا خاطئين أن القرآن يخالف ما درجت عليه البلاغة العربية من حيث الأسلوب. ولو سألتهم عن تحديد معنى الأسلوب لعجزوا عجزاً مبيناً، لأن الأسلوب في رأينا هو الصورة الظاهرة لعقل الكلام أنه قد هدم كل ما قاله من قبل، وجعل الأسلوب هو كل شيء ما دام هو الصورة الظاهرة للعقل والروح والفكرة والغرض، وهذه عنده هي كل شيء، فلعله يحكم للأسلوب القرآني بشيء - (وليس في مقدور أحد من المتفوقين في علوم البلاغة أن يحدد الأسلوب تحديداً منطقياً بجمع خصائصه وبمنع ما يتطرق إليه من غريب الأوصاف، أو أن يدلنا على خواص أسلوب القرآن دلالة واضحة بريئة من عوارض اللبس والغموض، فإن ألفاظ القرآن كألفاظ كل كلام عربي مبين لا تمتاز باللفظ ولا بالأداء وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح)!
أترى صاحب هذا الكلام يعقل ما يقول؟ إنه يطالب غيره بتحديد الأسلوب تحديداً منطقياً. ألا يتعلم أولاً من المنطق كيف يكون التفكير؟ ألفاظ القرآن لا تمتاز باللفظ! طيب! ولا بالأداء! طيب أيضاً! فهذا هو مذهب الدكتور. وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح! ألم يقل هذا الرجل قبل ذلك بأسطر إن الأسلوب في رأيه هو الصورة الظاهرة لعقل الكاتب وروحه وفكرته ومرماه؟ أليس معنى ذلك أن الأسلوب يمتاز بامتياز ما يمثله من روح وفكرة ومرمى؟ فكيف استقام عنده أن يمتاز القرآن بالمعنى والغرض والروح ولا يمتاز باللفظ ولا بالأداء؟ ألم يقرر من قبل أن المعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق، وأن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها؟ فكيف جاز في تفكيره أن يكون للمعنى القرآني امتياز لا يكون مثله للفظ القرآني والأسلوب؟ إن هذا الرجل لا يدري أنه بقوله هذا يجمع على نفسه إنكار إعجاز المعنى إلى إنكار إعجاز
الأسلوب!
والعجيب من أمره أنه بمضي على وجهه بضرب الأمثال لرأيه ذلك من القرآن إذ يقول: (فإن أراد أحد شاهداً على ما نقول فإنا تفتح المصحف عرضاً بدون تخير، ثم ننقل آيات لنسأله أن بعين ما جاء فيه غريباً عن الأساليب العربية. ولنختر خمس آيات من مطلع سورة الأنبياء: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون. لا هية قلوبهم، وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون. قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم. بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون))
ومن قبل أن يستتم المعنى بالآية السادسة على الأقل (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها، أفَهُم يؤمنون) جعل يسأل القارئ (فأين تكون غرابة الأسلوب في هذه الآيات الخمس؟ وأين يكون السياق الفني الغريب عن الأعراب؟ أليس مرجع الروعة في هذه الآيات إلى المعنى والروح؟ أترونها تمتاز بالسجع؟ وكيف والسجع كان معروفاً قبل القرآن؟ أترون ألفاظها متخيرة منتقاة؟ هو ذلك ولكن كيف يدور اختيار الألفاظ؟ أترون لاختيار الألفاظ مداراً غير موجبات المعاني والأغراض؟) أسئلة يرسلها على القارئ كأن القارئ حكم في الموضوع، وليس كل قارئ يستطيع الحكم فيه. ومع ذلك فإن صاحب النثر الفني قد دل بتلك الأسئلة على أنه ليس من الأدب ولا من صحة التفكير في شيء، وإلا فأين في اللغة العربية كلها يجد خارج القرآن أسلوباً كأسلوب تلك الآيات الخمس؟ ليدل قراء العربية عليه إن كان يستطيع. وأمامه الآيات قد عرف معناها - إن كان قد عرفه - فليعبر عن المعنى، وليحتفل، ولينظر أين يصل به الجهد. بل ليختر آية منها، أيها شاء، وليقصر محاولته عليها ولو بتغيير لفظ، أو تغيير حرف، أو تغيير ترتيب، ثم لينظر هل يمكن أن يأتي بشيء يقبله منه أهل العربية أنه عدل الآية، أو قرب منها، أو يمكن أن يوضع وإياها في ميزان. إنه التحدي القديم أطرحه في أبسط صورة عليه الآن من جديد
ويزعم زكي مبارك أن السياق الفني في تلك الآيات ليس غريباً عن الأعراب. فمن أين له ذلك وهو يقول أن: (ما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر
الجاهلي. وهو على قلته مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية)؛ فمن أين له تعيين أسلوب الحواضر فضلا عن أسلوب البوادي حتى استطاع الحكم؟
ويقول الدكتور زكي مبارك إن السجع كان معروفا قبل القرآن، جواباً على ما افترض على لسان القارئ من امتياز الآيات بالسجع، كأنه يظن مجرد وجود السجع هو الامتياز. فإن كان هذا هو المراد فقد أنطق القارئ بجواب غير معقول ليأتي عليه برد معقول! أم هو يرى أن ما سماه في الآيات سجعاً هو سجع من السجع لا فضل له على ما سواه. هذا هو لازم رده على ما أنطق به القارئ من جواب، إن كان يرى أنه أحسن الرد. وإذن يكون رده ذلك دليلا على تسويته في التقدير بين سجع القرآن وسجع غير القرآن
ثم يمضي الدكتور زكي مبارك في استشهاداته يقول: (فإن كانت هذه الآيات الخمس لا تكفي فإلى القارئ شواهد أخرى من القرآن المجيد. يقول الله غز شأنه (ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا) وأنا أشهد صادقاً أني ما فكرت في هذه الآية إلا دهشت من سمو هذا النصح النبيل. فأين يكون جمال هذه الآية؟ أترونها من جنس غير جنس كلام العرب كما زعم البلاقلاني؟ هيهات! إن ألفاظها تشبه جميع الألفاظ وتركيبها لا يتميز بشيء عن غيره من التراكيب). ثم يستكمل الاستشهاد بقوله: (على أنه من الخير أن نسوق الآية كاملة لنتبين كيف يكمن أن تكون بعض أجزاء الآية الواحدة أقوى من بعض: (ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). ألا ترون إن أنصفتم أن كلمة (اعدلوا هو أقرب للتقوى) تقل في قوتها عن كلمة (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). فما هو سبب التفاوت؟ لا يظن أحد أن مرجع التفاوت هو الأسلوب؛ فإن القرآن تفرد في رأي مخالفينا بوحدة الأداء والتعبير. فلم يبق من فرق بين صدر الآية وعجزها غير تفاوت المعنى. والتفاوت هنا جاء من أن صدر الآية معنى بكر لا يجري إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء، على حين نرى عجز الآية يؤدي معنى مفهوماً لدى جميع الناس)!
فهل ترى هذا الرجل يفهم قوله تعالى (اعدلوا، هو أقرب للتقوى)؟ لو كان يفهمه ما قال أنه مفهوم لدى جميع الناس. وأي ناس يا ترى؟ الناس الآن الذين ألفوا القرآن، أم الناس في الجاهلية، أم الناس في صدر الإسلام؟ وبأي ميزان يا ترى تبين له التفاوت بين جزئي
الآية؟ إنه لا يفهمهما رغم تحمسه لأولهما، وإلا ما افترض أن الإنصاف يقضي بالاعتراف بأن ثاني الجزءين دون الأول؛ بهتاناً يلقيه بغير دليل. إنه يرمي الكلام جزافا، وإلا ما قال إن المعنى الأول بكر لا يجرى إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء والثاني غير بكر، مع أنه هو الذي لا يمكن أن يجري إلا بوحي على ألسنة الأنبياء
ثم إن الرجل يكذب حين يزعم لك أنه أورد الآية كاملة. فهو لم يورد إلا نحو ثلث الآية، على جلال ما أورد. فالآية هي من سورة المائدة:(يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون)
بقى شاهد من عدة شواهد لا يتسع لها المقال: (ثم لننظر قوله جل ثناؤه: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) هذه من غرر الآيات القرآنية فأين يقع منها الحسن؟ أترونه في اللفظ؟ أترونه في الأسلوب؟ وكيف وهي ألفاظ يجدها من يريد، في أسلوب واضح يدركه جميع المخاطبين ويستطيعه جميع الكاتبين؟ إن الجمال هنا في الروح العالي، حيث يخاطب الله الآثمين وقد ألقى بهم في نار الجحيم). ولو كانوا في نار الجحيم لجاز أن يشغلهم العذاب عن سماع الخطاب، ولكنهم في موقف الحساب قبل أن يحكم عليهم بالنار، وشتان بين وقعي الكلام في المقامين. ولكن صاحب النثر الفني لا يدرك من دقيق الإعجاز ولا جليله شيئاً، لا في المعنى ولا في الأسلوب، ولا في مقتضى الحال. فسيان منه الإنكار والإقرار. فإقراره - لو أقر - إقرار مخطئ، وإنكاره إنكار مغرور
محمد أحمد الغمراوي
دجلة في الليل
(تهدى إلى أخي الأستاذ علي الطنطاوي شقيق القلب والروح،
والرفيق في الغربة والسفر)
للأستاذ أنور العطار
الليل في بغداد لا ينام سهران تصبى روحه الأنغام ويستبيه
الوجد والهيام واللهو والإيناس والمدام والشعر والأوهام
والأحلام
أنور العطار
أُسكُبِ النور يا قمرْ
…
واغمُرِ النهرِ بالصورْ
وأذِعْ فرحةَ الهوى
…
وشعْ لذة السمر
واتركِ القلبَ حالماً
…
ناسياً روعةَ الغِيَر
يجمَعُ النفسَ كلّيها
…
منْ تَشَهِّيهِ في النظر
هاهنا الليل شاعر
…
مُلهَمٌ خَيِّرُ الفِكَر
مُستطارٌ إذا انتشى
…
مُستثارٌ إذا اذَّكَر
ملْءُ أَفياِئِه السنا
…
مِلْءُ أَعطافِهِ الدُّرَر
في وشاحِ مُنَمْنمٍ
…
ساحرٍ فتنةِ البصر
والنسيمُ الذي يُطَوِّ
…
فُ شِعرٌ لمِنْ شَعَر
ونشيدٌ مُسلسلٌ
…
في العَشِيَّاتِ والبُكَر
ما أُحَيْلَاهُ شاجياً
…
ما أُحَيْلاهُ إن فَتَر
طافَ بالأعينِ الرُّقادُ
…
وما شفَّني السهر
يَتصبُّانيَ النخيلُ
…
ويغُرينيَ النهَر
في ثناياهُ صورةٌ
…
حُلْوَةٌ كلُّها سِيَر
بأني أَنتَ مَوْرداً
…
ليسَ في وِردْهِ كَدَر
يتشهَّاك خاطري
…
وتسلَّى بكَ الذَّكَر
إن تثنَّيْتَ فالندى
…
أو تأوَّدْتَ فالطَرر
أو تَسلسلتَ صافياً
…
فأخو الدَّلِّ والخَفَرْ
مرَّ بي طَيْفُكَ الحبيبُ
…
وكم طائف سَحَر
في أَساريره فتونٌ
…
وفي طَرْفهِ حَوَر
المنى طَوْعُ أَمره
…
ما تمنَّى وما أَمَر
والشَّذا منه عابِقْ
…
فّاغِمُ العطر منتشر
فعلى الشمسِ عرشُهُ
…
وعلى هاِمها استقر
هو ريحانةُ العُلى
…
فيه مِنْ عبْقَرٍ أَثر
عُدتُ للغابر البعيدِ
…
أُناجى الذي غبر
أَتأسّى بما انطوى
…
أَتعزى بما استتر
هاهنا تخشع القلوب
…
وتصبو وتنفطر
هاهُنا سيرة الزمان
…
وعاها الذي ذكَر
هاهنا الكونُ سابحٌ
…
في خِضَمَّ من العِبَر
أَنتَ لي الحبُّ والمنى
…
أنت لي القصدُ والوطر
ليسَ لي عنكَ مُبتغُي
…
ليس لي عنك مُصطَبَر
أَتناسى بكَ الأسى
…
غَمَرَ النفسَ ما غمر
وَاَحنيني إلى الضفافِ
…
تزاحَمْنَ بالشجَر
وتسابقنَ بالرُّؤَى
…
وتساجلْنَ بالصور
وتلامسْنَ بالهوى
…
وتهامسنَ بالسير
وروينَ الذي انقضى
…
وأَذعنَ الذي استتر
أَنتَ يا نهرُ عاشقٌ
…
منْ صباباتكَ القمر
مَرَّ بالماءِ صورةً
…
فَتنتْ كلَّ مَنْ نظر
وينابيعَ حُفَّلاً
…
باللآلئ وبالدُّرَر
والنجومُ التيِ ترِفُّ
…
إطارٌ منَ الزَّهر
وربيعٌ من المنى
…
ورياضٌ من الثمر
يتوهْجنَ كاللظى
…
يتراقصن كالشرر
فيكَ ما يملأ النُّهَى
…
فيك ما يبْهَرُ البشر
آيةٌ أَنتَ للِعُلَى
…
رايةٌ أَنتَ للظَّفَر
يَتَثَنَّى بكَ الزمانُ
…
ويُزْهى بكَ العُصُر
ويباهِي بكَ الجلَا
…
لُ ويَنْدَي ويَزْدهر
رُبَّ ماضٍ بَعَثْتَهُ
…
مثلما يُجْمَع النَّشَرْ
رَفَّ كاُلحلْمِ خاطفاً
…
وتوارى وما انتظرْ
لمْ يَنلْ منكَ غابرٌ
…
لَمْ يَعبْ حُسنكَ القِصَرْ
أنت كالحبِّ ساربْ
…
أنتَ كالعُمْر مختصرْ
أنتَ كوْنٌ من الشُّمو
…
ش سنا ضَوْئها بَهَرْ
بِتُّ أَسْتَلهِمُ الرُّؤَى
…
بِتُّ أَسْتَقْرئُ الذَّكَرْ
والهوى طائف يجد
…
وكم يركب الغَررْ
لا يخاف الرَّدَى الرهيب
…
ولا يعرفُ الَحذَرْ
مَرنَ الخوضَ والدُّجى
…
أَلِفَ الشَّدْوَ والسَّحَرْ
ليسَ تَثْنيهِ غَمْرَةٌ
…
طالَ ذا العُمْرُ أو قصُرْ
هو تِرْبُ المدَى الخفيِّ
…
أخو الدَّهر والقَدَرْ
طاف بالغابر الفَصِيَّ
…
لياليه والنهُرْ
في تضاعيفه النَّعيمُ
…
وفي طيِّهِ سَقَرْ
يا له من مُتَيَّم
…
يعشق النأي والسفر
أيها الهاجر الذي
…
عذَّب القلب مُذْ نَفَرْ
أَنتَ وحيٌ أُحِبُّهُ
…
وَرَدَ الفكرَ أو صَدَرْ
كلُّ ذَنْب جنيته
…
هو في الحب مغتفَر
لا تكلني إلى الأسى
…
لا تكلني إلى الضجر
حسب روحي الذي مضى
…
حسب قلبي الذي عبر
قْم نُعدْ سكرةَ الهوى
…
فالهوى كله سكَرْ
ونُحَوِّم على الخلودِ
…
ودَارَاتهِ الأُخَرْ
فهنا الكون عابق
…
أًرجٌ زهوه عَطِرْ
سامح الحِب إن هفا
…
واعْف عَنه إذا هَجَرْ
المنى طوع من رعى
…
والهوى حظ من صبر
والهوى سلوة النفوس
…
وبُحبوحةُ العُمُرْ
كل من ذاقه استعا
…
د صباه الذي غَبِّر
وتروَّي من الحياة
…
ومن روضها النِضر
لذة العيش في الصبا
…
راحة البال في الصغر
كل أحلامه سناً
…
كلُّ أًطيافه غُررْ
وأَراجيحُ طُفَّحٌ
…
بالألاعيبِ والأكرْ
وأَساطير عُكَّفٌ
…
يتمرغن بالسُّررْ
نَذَر القلب أن يحنَّ
…
ويا صِدْق ما نَذَرْ
بعثَ الشِّعر سَلسلاً
…
كالينابيع تنفجر
أو كما يحَفلُ الغمامُ
…
وينهلُّ بالمطرْ
فإذا اهتاجَ فالحمامُ
…
وإن حنَّ فالوترْ
فامرحي يا خواطري
…
واغنمي الأُنسَ إن حضرْ
وسَلى (دِجْلةَ) الرِّضا
…
عن محبٍ بها فَكَرْ
خيرتي أنتِ في الدُّنا
…
ليتها تصدق الخِيَرْ
وهوايَ الذي طغا
…
والهوى طامعٌ أثِرْ
قد تفرَّدت بالجمالِ
…
وبالمجدِ والخطرْ
حبذا منكِ رشفةٌ
…
كلُّ منْ عَبَّها سَكِرْ
خطرتْ فَاَّمحي الأسى
…
وبدَتْ فانجلىِ الكدرْ
ومشى الحبُّ بي إلى
…
عالمِ كله سَمَرْ
جُنَّ شوقي إلى الحِمى
…
فهمي الدمع وانتثرْ
يا لَقلْبِ مُوَلهٍ
…
شفَّه الوجد فاستعرْ
ذِكرياتٌ هي الحياةُ
…
وماضٍ هو العُمُرْ
مَنْ رعاه فقد وفى
…
مَنْ قَلاهٌ فقد كفرْ
ليس في شِرعَةِ الهوى
…
هائم إن نأى غَدَرْ
وأخو الحُبِّ ثابتٌ
…
ليس يلويه مُزْدَجَرْ
رُبما عاش بالُمنى
…
ربما عاش بالفِكَرْ
هو ذا الزَوْرَقُ الحبيبُ
…
على مائِكِ انحَدَرْ
حمل الأُنس والرِّضا
…
والمسرَّاتِ والبُشرْ
واستفاضت لحُوته
…
تغمر البدْوَ والحَضرْ
هاهنا يَطربُ الثرَّى
…
هاهنا يشعر الحجرْ
هاهنا تسلس الطِّباع
…
وتستأنس الفِطَرْ
غَنِّنِي أطيب الغناء
…
وناجِ الذي خَطرْ
فلقد يثملُ الهوى
…
ولقد يَسْكَرُ الوَترْ
إيه (بَغْدادُ) هل يعودُ
…
الجلالُ الذي اندثرْ
فأرى تاجكِ النّضيرَ
…
على الكون يَنضفرْ
وأرى الأرض كلها
…
وهي مهدٌ ومستقرْ
آيةٌ أنتِ فَذَّةٌ
…
كل ما فيكِ مبتكرْ
مَنْ تلاها فقد تَلا
…
مصحف المجدِ والسُّوَرْ
حَفِظَ الدَّهُر ذِكْرَها
…
وروى للغَدِ الخَبْر
(دمشق)
أنور العطار
مستقبل العلم
للأستاذ خليل السالم
إن التطلع إلى الأمام، وبحث المستقبل وتصويره ميزات يتسم بها الرجل الحصيف أو الدولة الواعية أو الحضارة العاقلة. ومهما يتضمن هذا البحث من سعة الخيال، وأحلام الشعراء، وظوبيات الفلاسفة فإنه دون ريب يجعل من المستقبل صورة مثالية حية في فكر الإنسان، تتكيف حسب آماله ورغباته وتفرض على الواقع، يقترب منها ويسمو إليها
والعلم اليوم يجتاز مرحلة قاسية عصيبة من مراحل تطوره تدخل إلى نفسه شيئاً غير قليل من الحيرة والقلق على. مصيره؛ فبعض المفكرين يصبون عليه نقمة السماء ولعنة الأرض، ويدعون أنه علة الشقاء والويلات التي تحيق بالبشر وتفسد حياتهم. لقد سخر الأرض لتدب عليها جبال الحديد ملؤها الموت والدمار، وسخر الهواء لتركيب متنه نافثات اللهب وقاذفات القنابل وحاملات الجراثيم والغازات، وسخر الماء لتمخر عبابه مدن النار وألغام المغنطيس التي تلقى في اليم بملايين الأرواح دون أن تقيم للحياة أي وزن؛ وأتاح لنار الحرب أن تمتد وتأكل اليابس والرطب لا يسلم من أخطارها وفظائعها قطر أينما كان موقعه على وجه الأرض. وبوجه عام لقد وضع العلم في يد الشر والعدوان معاول الهدم التي تدك صرح الحضارة وتطمس معالمها
وفشل العلم في أيام السلم أيضاً، فالآلة التي قدمها لتعزز الصناعة وتضاعف الإنتاج وسعت نطاق البطالة وتركت ملايين العائلات تتضور جوعاً وترتجف عرياً وتعمى جهلاً. وحرم العلم ملايين العمال أي متعة وأي هناء بينما كدس لأصحاب العمل المال الطائل والربح الوافر. فالنظام الاقتصادي الذي تمخضت عنه الصناعة العلمية جائر سيئ لا ييسر لجميع الطبقات أن تستفيد من الإنتاج وتأخذ قسطها العادل من الثروة، فكان الفقر المدقع وكانت الأزمات المروعة، وكانت الثورات الدامية
ومن جهة أخرى ينظر رجال السلطة الذين استفادوا من العلم أولاً إليه كلغم خطر يضعه الفكر تحت مناصبهم وعروشهم، فإنه إن قوى وامتد وعم جميع الطبقات كما تبشر الحركات العلمية الناشطة فإن هذا اللغم سيشتعل بالاحتكاك المباشر وينسف تلك الكراسي، وينزع السلطة من أيديهم، ويقلب النظام القائم فتتغير القيم الأخلاقية، وتتعدد أنماط الحياة
تتعقد
وفشل العلم في دراسة طبائع الناس، فبينا العلم الفني التطبيقي يعدو ويطفر، إذا العلم النفسي الاجتماعي يتسكع ويدور حول نفسه؛ فالقوانين المسنونة لا تمنع الجريمة، ونوازع الشر والإثم تساور الأخيلة، والنفس البشرية لا تزال متخلفة إلى الوراء تحمل في طياتها بقايا الوحشة التي تشحذ أظفارها وتكشر عن أنيابها كل عقد من السنين في الحرب الضروس. وهاهي ذي الإنسانية تتجرع غصص حرب طاحنة شاملة، وإذا تساوت الأمور فسيبقى شبح المرعب مهدداً حلم الأمن والطمأنينة في نفوس الناس
قال رئيس معهد تقدم العلوم البريطاني في فرصة سابقة: (إن سعادة البشر ورفاهته لا يتأثران بكبت جذوة العلم، وإغلاق جميع المختبرات الكيميائية والطبيعية ولو لمدة عشر سنوات) ترى أيأخذ العالم بهذا الاقتراح ويعمل بموجبه في المستقبل؟
لعل أسئلة كثيرة تتردد على شفة القارئ الآن، واعتراضات عنيفة تدور في خلده، وهي لو انطلقت بحرية لصاحت قائلة: والآلة البخارية، والمحرك، والمولد، والتلغراف، والنور الكهربائي، والسينما، والطائرة، والأسمدة، والأصبغة، والراديو، والتلفاز، أشعة إكس، والبنيسيلين، وغيرها. . . كيف تنسى؟ أليست هذه دعائم المدنية الإنسانية التي نعتز بها ونسعى للمحافظة عليها؟ ألم يقدم العلم كل هذه لترفه عن الإنسانية وتسمو بها إلى السعادة والكمال؟
حقاً إن الحضارة ما كانت لتزدهر، وإن الطبيعة البشرية ما كانت لتبلغ بعض تطوراتها لولا إرشاد العلم وقيادته الحازمة. إن شجرة العلم الباسقة تؤتي ثماراً يانعة حلوة طوراً، وتؤتي حنظلاً وعلقماً في طور آخر. ترعى العلم ملائكة الرحمة حيناً وتستغله مردة الأبالسة حيناً آخر. أفلا يستحق هذا المخلوق الفكري العجيب وقفة قصيرة نتأمل فيها مصيره؟ أينبذه العالم ويعود إلى الخرافات المرقعة القديمة، أو يعتمد عليه في حل مشاكل الحضارة الراهنة؟ وكيف يتسنى بناء عالم سعيد يشعر الأفراد فيه بالحرية والرخاء؟
علمنا التاريخ أن ندرس المستقبل على ضوء الماضي، فتيار النشاط البشري واتجاه الحوادث العام يوحيان باتجاه المستقبل وحوادثه. وأصلح السبل للنجاح في المستقبل ستكون هي السبل التي نجحت في الماضي مع أي تعديل يفرضه الوضع الجديد. والنتائج القادمة
المتوقعة تبنى على المقدمات المعلومة المفروضة. وبناء على هذا يمكننا رسم صورة لمستقبل العلم لها حظ غير يسير من الصدق والحقيقة والقرب من واقع الحياة. ولعل القارئ لا ينتظر مني أن أتنبأ بالاكتشافات الجديدة في لباب العلم، أو النظريات التي ستوضع في المستقبل، فهذا يكون اكتشافاً لها أو وضعاً وأنا أعجز عن مثل هذا. ويطول بي البحث إن عرضت كل مجالي التقدم في علم الطبيعة مثلاً بفضل المكرسكوب الألكتروني (الكهيربي) أو تلسكوب الأشعة تحت الحمراء، أو التلفزة أو الكهرباء المتموجة، أو حاولت التعليق على آفاق الكيمياء التي سيفتقها علم الطيف وتحليل الأشعة السينية وعلم البلورات الجديد، أو ذكرت ما يتوقعه العلماء نتيجة درس الأفعال الكهرطيسية في الأجسام الحية وانقسام الكروموسومات في الخلية، ومدى تأثير ذلك على الوراثة والعمر أعني تطور الإنسان وخلوده. فبحسبي إذن أن أشرح التفاعل بين العلم المنظم والمجتمع، وعلى أي وجه ستكون العلاقة بينهما.
لقد كشف العلم كثيراً من أسرار الكون والحياة، وبرع في استخراج الطاقة من مكانها الطبيعية. تدخل في الصناعة فتضاعف الإنتاج، وتدخل في الزراعة فارتفعت الغلة في روسيا والولايات المتحدة إلى عشرة أمثال ما كانت عليه. وتدخل في الطب فقمع معظم الأمراض السارية وأتقن سبل الوقاية فارتفع معدل العمر في الأوساط الراقية علمياً ارتفاعاً بيناً (متوسط عمر الإنسان في الهند 26 سنة وفي إنجلترا 55 سنة). وتدخل في مسائل الفكر فحرر العقل من قيوده وعبوديته للخرافات والشعوذات العامية. والإنسان لم يشتعل ذكاء وحيلة في المائتي سنة الأخيرة، مع أن منحنى التقدم في كل ناحية من نواحي الحياة خلاها قد أسرع في الارتفاع. ولكن الطريقة العلمية الحديثة وراء هذا التقدم السريع ما تمكننا من أن نحكم ببساطة أن العلم وحده يستطيع أن يضمن للبشرية حياة رغدة هنيئة، وإن شلل العالم لا يشفيه أي نظام لا تسوده نواميس العلم ومخترعاته. وهو بالإضافة إلى أنه يضمن التقدم الآلي الذي يضمن التقدم العقلي، فالإنسان الذي لابد أن يؤمن بشيء يركن إليه في حل مشاكله وابتداع أسلوبه في الحياة، يحد من الأسس العلمية الثابتة المنطقية المنسقة ما يرتكز عليه ويطمئن له ويحيا به. ولو عدنا إلى تلك الجرائم التي ألصقناها بالعلم لوجدنا أنه لم يكن سبباً مباشراً لها، فسدنة العلم وخدامه لم يتطوعوا الخلق المشاكل
ولم يقصدوا في نضالهم التخريب والتدمير. ولكن النواميس التي تجلت لهم في لحظات الإلهام والعبقرية تطبق على وجه فاسد. وهذا التطبيق هو الذي أفسد الأرض. ولذا أعتقد أن العلم في المستقبل سيبدأ من هذه النقطة إصلاحه للمجتمع، فلن يسمح بعد الآن لرجال غرباء عنه تسوقهم الأثرة الجشع والنهم المادي أن يشوهوا وجهه باستغلال مبتكراته على وجه فاسد لئيم، بينما يقصد بها أن تكون نافعة مجدية، يتبعها العلماء بالملاحظة اليقظة فلا تستغل إلا في سبل الخير العام. وكي يتسنى للعلماء تنفيذ هذا القصد النبيل يجب أن تلقي إليهم مقاليد السلطة ومقدرات الحكومة. قد يذكر الآن فشل أفلاطون في نقل جمهوريته الفاضلة من حيز المثل إلى حيز العمل، ولكن فرقاً واحداً سيجعل من العلماء حكاماً صالحين لإدارة دفة المجتمع. وأحب أن أحترس أولا خشية أن يساء فهمي. بأني لا أقصد وضع (أينشتين) و (بلانك) و (بندهام) و (ادنفتن) و (مشرفة) وغيرهم ممن لف لفهم في مناصب الحكم والسلطة، وإنما أرى أن مقاليد الأمور لن تسلم بعد الآن لأشخاص لا تكفي مؤهلاتهم العلمية الاختصاصية لجعلهم في الطليعة. وقد رأينا بوادر هذا في روسيا حيث يدير كل مصلحة رجلها الفذ المختص. وفي إنكلترا عند تدبير اقتصاديات الحكومة المتحدة والإشراف عليها، أو عند وضع مشروع خطير كمشروع (بفردج)، وفي أمريكا حيث يطبق هذا المبدأ على نطاق واسع، فالاعتقاد بأن المشاكل لا تحل إلا بالاختصاص العلمي والتفكير العلمي أصبح جازما أكيداً
وسبب آخر يجعلنا نؤمن بأن العلماء سينجحون في مهمتهم هذه هو أن جميع الأفراد في المجتمع سيتثقفون بالثقافة العلمية الصحيحة، ويتبينون وجهة النظر العلمية في تدبرهم الآراء والأشياء. وهم بهذا سيرتفعون إلى مستوى ينظرون منه إلى المتفوقين نظرة التشريف والاحترام والاعتراف بالسبق والفضل. ومن هنا نستنتج أن الخطوة التالية هي نشر الثقافة وشيوع العلم بشتى الوسائل كالمدارس والجامعات وقاعات المحاضرات المجانية والصحف والمجلات والأفلام السينمائية. ففائدة المجتمع تتطلب إتاحة الفرصة ليتعلم كل الأفراد، وتتطلب استخدام النابغين بنسبة مواهبهم، وتوزيع المناصب على الشعب دون أن تقصر على فئة محدودة لها مصالحها ورغباتها المحصورة فيها
وستضبط هذه الحكومة الواعية مسالك الإنتاج والاستهلاك فيقوم العلم بالشق الثاني من
واجبه في خدمة المجتمع، فقد نوع الإنتاج أولاً وضاعفه، ولكنه سينشد في المستقبل العدل كل العدل في توزيع المصنوعات. ولن يكون استغلال رأس المال في المشاريع التي تدر أوفر الأرباح، وإنما يكون في المشاريع التي تدر المغنم على أكبر عدد من الناس. ولذا توحي الحكومة أو تأمر بتنفيذ بعض المشاريع بينما تحرم غيرها. ولن يسرف في استنفاد المواد الخام الضرورية. وعندما تجدب مناجمها رغم التدبير؛ فسيعسى العلم في أن يعوضها بما يسد مسدها فتحل الأغذية والألبسة والزيوت الصناعية محل ما تقدمه لنا الطبيعة منها. وربما تضطر الحكومة لتحديد النسل أو إكثاره، لأن عدد السكان إن زاد أو نقص عن معدل معلوم سيزعج اقتصاديات البلاد وينغص عيش الأفراد. وهي في محاولاتها هذه ستحسن النسل، فتكون الأجيال القادمة أصح جسما وعقلاً. وربما لا تحتاج الحكومة إلى أن تضع يدها على المصانع والمنشئات ولكنها بأي طريقة مناسبة ستقمع الاحتكار والمضاربة واللعب بالأسعار والتضخم المالي وتوزيع الثروة السيئ؛ وسترفه عن العمال، لأن الآلة تقوم بالعمل الرتيب الممل، وتراقب هذه الآلة العين الكهربائية، وتحس بها الأنسجة التركيبية بدل اليد، وتستخدم الأذن الصناعية فيما تستخدم فيه الأذن الطبيعية، فتقل بذلك ساعات العمل ويتسع الفراغ. وأوقات العمل نفسها ستكون شقية لذيذة. أنا أصعد للمدرسة مبكراً عندما يصلح الراديو فيها للاستعمال، وأتركها متأخراً عندما ألعب كرة الطاولة؛ وعلى هذا القياس سيولع العامل بمصنعه لزيادة وسائل التسلية والترفيه وتنوعها، وسينتظر الذهاب إلى المعمل بفراغ صبر أو برغبة عادية؛ ويخرج منه لإزجاء الفراغ في تنمية مداركه وتوسيع اختباراته وتبليغ رسالة خاصة نبيلة للمجتمع. فالفرد لا يعيش في المجتمع على الهامش ويموت كغلطة في حضن الأبدية، وإنما يكسب المجتمع من الصفات التي تشعره بعزة الانتساب إليه، فتتجه الحيوية الكامنة في الشباب نحو غايات مخصوصة يرسمها أعلام العلم. فالمجتمع لن يتطور اعتباطاً وبدون قصد
وسيكون للدين والفن مقام كبير في نفس الرجل العلمي. وسيعتنق فلسفة الدولة ويؤمن بها غير مكره كما هو الحال في بعض الحركات الفكرية السياسية المعاصرة، بل لأنها فلسفة صادقة قيمة مستقاة من وحي العصر والبيئة. وستلغي المعتقدات الموروثة التي لا تقوم على أسس علمية واضحة بنفسها، فيفتر الشعور بالعائلة والقربى مثلاً، ويتضاءل أمام
الشعور بالدولة، وقد يتطور هذا فيصبح إيماناً بخير الإنسانية جمعاء، فلا أكتم هنا أنني أومن أعمق الإيمان بأن وحدة العالم ستكون الهدف الأبعد الذي تتجه إليه جهود الشباب في المجتمعات العلمية. وسيلقى النور الجديد على غرائز النفس ونزواتها فيهذبها ويشذبها وينشط الصالح ويخفى الطالح منها، فحب السيطرة والحيازة سيفني ويمحي، وعندما يترفع الناس عن مغريات المادة، ويزول تكالبهم عليها ينزاح كابوس الحرب الجاثم على الصدور وتأمن النفوس، وترصد الأموال التي كانت تستنفدها الاستعدادات الحربية لبناء المدارس والمعاهد والمستشفيات المجانية. ولجعل دوائر الصحة والبريد وشركات الكهرباء والمادة والغاز والسكك الحديدية وغيرها مصالح عمومية تديرها الحكومة كخدمة مجانية للشعب
سيطول هذا البحث ويتشعب إن وصفت أسلوب الحياة في العالم الجديد من حيث الغذاء والملبس والمسكن والعلاقات الجنسية والاجتماعية ووسائط النقل والمواصلات، فأكتفي بما فات عن علاقة العلم بعقبتين كؤودتين تعترضان سبيل الحضارة والتقدم أعني الحرب والتوزيع الاقتصادي. ولا أشك أن معظم أحلام هذا المستقبل ستحقق بالضرورة بعد الحرب، وقسم آخر سيؤجل تحقيقه عاملان: أولهما قوة الاستمرار في عقليات الناس، ومحافظتهم على القديم؛ ولكن تاريخ العلم يقطع بأن العلم لم يستنفد طاقة وجهداً كبيرين في تحويل الرأي العام عن المذاهب الفاسدة التي تطوي في تضاعيفها عوامل هدمها واضمحلالها. والعامل الآخر مقاومة العناصر المنتفعة التي ترى في بقاء النظام القائم بقاء لسلطتها واستئثارها بأطايب الأرض، وهذه فئة قليلة ضئيلة في المجتمعات لن تستطيع تحويل التيار الجارف أو الوقوف في وجهه وهو ينحدر من عليائه
وقبل أن أنتهي أحب أن أقول كلمة قصيرة عن مستقبل العلم في البلاد العربية خاصة. فلا يدري أحد متى يكون هذا المستقبل الذي صورته حقيقة واقعة واضحة المعالم شاملة التفاصيل في العالم أجمع؛ ولذا يكون من واجب العالم العربي أن يستعد في فترة الانتقال هذه، ويعي كل الأوضاع والنظريات العلمية الحديثة التي سيبنى عليها العالم الجديد. إن البلاد المتأخرة علمياً لا تنال تقدماً ذاتياً سريعاً، فلا بد للحكومات أن تبذل الجهود في هذا السبيل وتشرف على نشر الثقافة العلمية، وخلق البيئة الصالحة لأن يسمو العلم فيها ويترعرع. وقد نشرت في (الرسالة) سابقاً بحثين أجملت في أحدهما خصائص البيئة
العلمية، وفي الآخر شرحت كيف عممت روسيا الثقافة العلمية وبنت المختبرات ونظمت ميادين البحث والتحقيق فبلغت في غضون عشرين عاماً مستوى علمياً مشرفاً. ولعلنا نحسن صنعاً إن درسنا تلك السبل القويمة ووضعنا خطط التقدم التي تناسبنا. والواقع أن أغلب الحكومات العربية بما تولى العلم من بعض التشجيع والتنشيط تشعر بضرورته لبلوغ التحرر الفكري والتحرر الاقتصادي والتحرر السياسي. ولكنها في المستقبل القريب ستضاعف هذا الاهتمام وتعز العالم وتنيله حقه الكامل من الرعاية والتشجيع.
(ثانوية السلط)
خليل السالم
ب. ع. الدرجة الأولى في الرياضيات
البريد الأدبي
6 -
الشعر الجديد
قد يكون مما يدخل في أحاديثنا هذه ويتعلق بأطرافها، أن أعرض لبعض ما يدور من آراء حول (الشعر الجديد). فالناس لا بد متحدثون فيما تطالعهم به الصحف، ولا سيما حديث الشعر والشعراء، والكتابة والكتاب، فهذا ميدان يجول فيه كل جائل، ويصول كل صائل.
ولقد سمعت كثيراً في موضوع هذا الشعر، وقرأت كثيراً. ولكن الكثرة الغالبة ممن قرأت لهم، أو سمعت منهم، يرمون الكلام على عواهنه، غير داعمين قولاً، أو قاطعين بحجة؛ وإنما هي أحكام تسرد سرداً وتلقى جزافاً. وكثيراً ما تكون غير مستندة مطلقاً إلى قراءة، أو راجعة إلى دراسة. . . وما أكثر الثناء والإطراء بيننا! وما أعظم ما يتحكم الهوى، ويستبد الغرض! وتقارض المديح داء عياء في بيئتنا الأدبية؛ فاضمحل النقد وصوح، بعد أن كان يوماً مزدهراً مونعا. وخلا الجو للبغاث فاستنسر، وللباطل فران على الحق؛ فإن رأيت نقداً فقوامه همز ولمز، وتعريض وتجريح
وإني نكتف هنا برأيين اثنين علقا بذاكرتي لغرابتهما، ولكثرة ما يتداولهما ناس من الناس
فقد قالوا إن هؤلاء المجددين - سواء أكانوا شعراء أم كتابا - إنما ينهجون مناهج الإفرنج في أخيلتهم وتصوراتهم، ويحتذون فنهم، ويستعيرون منهم، ويحاكونهم في تشبيههم ومجازهم؛ فقد طال عهدنا بالقديم، ونالتا منه السأم. . . وما ضر لو أرسلنا في شعرنا من شعرهم دما جديداً، وبعثنا في نثرنا من نثرهم حياة جديدة، فنجاري الزمن في حركته، ونساير العصر في تطوره؟
هكذا قالوا
وإن تعجب فعجب أن يصدر مثل هذا الكلام عمن يعقلون؛ فهم بلا شك مقلدون، يرددون ما لا يفهمون. أيجرؤ ملم بلغة أجنبية راقية أن يلغو هذا اللغو؟ أمامنا الأدب الرفيع من أدب الغرب، وهذا شعرهم وهذا نثرهم، فليقرءوا وليحكموا
فهل مما يعقل أن يكون ثمة صلة أو شبه صلة بين لغط هؤلاء المتشاعرين وأشباه الكتاب، وذلك الأدب الغض، والبيان الرائع، والقول المبين؟ إنهم لأعجز من أن يردوا هذا المورد، أو ينهلوا من ذلك المنهل، وإنهم لأقصر باعاً من أن ينالوا ذاك المنال
ولا عليكم - إذا أعوزتكم لغة الإفرنج - أن ترجعوا إلى ما ترجمه أعلام أدبائنا عنهم. فهذا حافظ في (بؤسائه)، ومطران في شكسبيرياته، والزيات في (آلام فرتر)، والمنفلوطي في رواياته، وغير هؤلاء ممن نقلوا فأجادوا النقل وفهموا فأحسنوا الفهم
فارجعوا إلى هذه التآليف البارعة، تروا كيف يفكر الإفرنج، وكيف يتخيلون ويتصورون، وكيف ينقشون ويصورون؛ وتروا أيضاً نصاعة العربية في أقلام هؤلاء الأفذاذ وصفاءها ونقاءها؛ وتميزوا الفائقة من العجز الفاضح، والديباجة المشرقة من العي الواضح
والرأي الثاني أصوره في حوار وجيز في مجلس من أصحابنا، وقد تذاكرنا (الشعر الجديد) فقد اندفع من بيننا رجل فقال: إن ما ترونه يا قوم في بعض هذا الشعر من التعمية والخفاء إنما هو قصد إلى الرمز والإشارة. ألا ترون إلى بعض المتصوفة كيف يعمى في شعره، أو يغنى في حديثه، وهو يشير من طرف خفي إلى ما لا يتبين من ظاهر ألفاظه؟ فهكذا الحال هنا. فقلت له: وإلام يرمز شعراؤنا هؤلاء يا سيدي؟ فقال: إنهم يختلفون في نزعاتهم وأغراضهم، فيتغايرون - تبعاً لذلك - في مراميهم البعيدة. فقلت: أمؤمن أنت بما تقول؟ وهل اكتنهت شيئاً من هذه الرموز؟ هات - رحمك الله - فأطرفنا بعضها، وفك لنا مستغلقه
فسلك يده في جيبه فأخرج دفتراً، فتلا منه أبياتاً لأحدهم ثم أخرى لغيره، ثم مقطوعة لثالث، ثم كر راجعاً، وطفق يشرح. فلا وربك ما وهي مما قال شيئاً وما وعينا، وما فقه وما فقهنا!
فقمت عن المجلس وأنا أقول في نفسي: لقد خبنا بالأمس في حل طلاسم (الكاتب المجهول) فإذا نحن في حل هذه الطلاسم أخيب!
(للحديث بقية)
(ا. ع)
خصومة لا عداوة للنقاد والشعراء
صديقي صاحب (الرسالة)
مهدت السبيل لصديقنا ناقد الرسالة أن يصول في موضوع (الميل إلى الهدم وصراع الديكة بين الأدباء والفنانين) ومنحت نفسك سلطة الدفاع المستتر عن ناقد الرسالة بحذفك شطراً من كلمتي التي وجهتها إلى صديقي ناقد (الرسالة)
فعلت ذلك، يا صديقي، إرضاء لطبيعتك الهادئة، ونحيزتك التي تأبى الخصومة، لا اندفاعاً مع غرض أنزهك عنه. وكم أتمنى أن يحزبك الغرض النبيل فتسمع قراء الرسالة غضبه كتلك التي أطلقتك على سجيتك يوم كتبت (فلاحون وأمراء)، فعرفوا فيك منها، كيف يكون الكفاح الحق عن الحرية، وكيف تكون تنقية الطبقات وتمييز البر منها من الزوان، وكيف تكون صولات النقد في حلبة الخصومة، ولا فرق عندي بين النقد الاجتماعي والنقد الأدبي إلا في الصيغة
إذن لا محيد لنا يا صديقي في كل بناء للحياة، من خصومة هادئة كانت أم صاخبة، لا تبلغ في حال من الأحوال حدود العداوة. أقول لا محيص لنا من خصومة تكون الرسالة منبرها العام، وتكون أهدافها كتابها ومن يتصل بهم وبها من العاملين في حلبة الحياة
يريدنا صديقنا ناقد الرسالة، تمشياً مع خطة الرسالة المستمدة من طبيعة صاحبها أن يتخذ من اللين أداة يستحث بها الشعراء على شحذ قرائحهم، وجلاء بصائرهم، وصقل شعورهم وأحاسيسهم ليرسموا بأقلامهم صوراً واضحة الخطوط والمعالم لطبيعة ما يصورون ويرسمون. فإذا ما أنف أستاذ كبير كالأستاذ (ا. ع) وتأفف من سماع أصوات هؤلاء الشعراء قيل له إنك تجرد عليهم (حملة تأديبية) وإذا ما قلت لصديقي ناقد الرسالة، إننا في حاجة إلى القذف بطائفة من شعراء الشباب إلى النار، نار النقد تنقيهم وتطهرهم، وإلى (تجريدة) تأديبية نشنها على النقاد، وقفت أنت يا صاحب الرسالة تصد عنهم الهجمات شفقة بهم ورثاء لحالهم بسلاح قاطع من اللطف والذوق والروح الإنساني النبيل
وبعد هذا، أزعم أن الفرق بيني وبين ناقد الرسالة، وبيني وبينك يا صاحب الرسالة يتلخص في أن القسوة في النقد - في اعتقادي - أجدى وأنفع للشاعر الناشئ وللشاعر الذي أدركته الكهولة ولم ينضج بعد، لأن الصراحة في النقد - في اعتقادي أيضاً - هي الحد الفاصل بين الإقدام على الحياة بروح المتوثب المتحدي، وبين الإحجام عنها. أما أنت يا صديقي وناقد الرسالة أيضاً تريان عكس رأيي في القسوة في النقد وصراحته، وبذلك يتوهم المهازيل من شعراء الشباب أنهم عباقرة سبقوا جيلهم، وأن الواحد منهم هو إله الشعر وحده وسواه العدم وهذه هي الطامة الكبرى.
حبيب الزحلاوي
لقد ظلموا شعراء الشباب!
أكاد ألمح في أكثر ما قرأت غمطاً لحق شعرائنا الشبان، وتثبيطاً لعزائمهم؛ فأكثر ما أقرأ يدور حول الزراية بأسلوبهم، والغض من أخيلتهم، ورمى كثير منهم بالغموض تارة، وبالمروق من مألوف العرب تارة أخرى؛ وما انصرف كاتب منصف لبيان فضل أولئك الشباب في شق طريقهم إلى المجد بين مختلف العثرات، ومسايرتهم النهضة الحديثة في طرائق التفكير، وتساميهم بأساليبهم بين أمواج الدخيل وعواصف العجمة وظلمات العامية المطبقة التي تأخذ على الغربي سبيله في المسارح والمجالس وكثير من المجلات المغرمة بإرضاء العامة؛ وأستاذنا الكبير (ا. ع) قادر بما له من واسع الثقافة، وطويل الخبرة، وأسلوب الحليم على أن يجعل من بحثه الرائق معهد نقد (بمعناه الأعم) يصف الداء، ويتبعه الدواء، والأستاذ دريني خشبة في استطاعته وهو المواكب لنهضة الشباب أن يجلو محاسن شعرهم، ويبرز للقراء لمعات العبقرية في أشعارهم، ومواطن الرجاء عند أكثرهم؛ إذا يجد القارئ قضية الشباب مبسوطة جلية ويستمع لأنصارهم كما يستمع للزارين عليهم. أما أن نبسط في أمر هؤلاء الشباب صحيفة السيئات ونطوي ما عداها وهم خلفاؤنا - رضينا أو سخطنا - على تراث الأدب فإن ذلك ليس في شرعة الإنصاف، وقد يكون له عواقب بعيدة المدى في تثبيط العزائم
إذا كان في أسلوبهم ضعف فأين مواطنه؟ وكيف يستطيع بعضهم أن يرضى قراء البحتري والمتنبي وأبي فراس وابن هانئ وأمثالهم؟ كيف يستطيع بعضهم - ممن لم تيسر لهم دراسة أدبية خالصة - أن يظفروا بإعجاب أولئك السادة وما وجدوا أمام أعينهم في أكثر مراحل التعليم إلا مختارات ضئيلة وتراجم قليلة تعني بفلسفة البحث أكثر من عنايتها بطرائف الأدب؟ عدلوا أساليب الدراسة الأدبية، ويسروا على شبابنا سبل الوصول إلى كنوزها، وزودوهم بمراجع الشعر مجلوة مسفرة، ثم وجهوا درس الأدب إلى تذوق الجمال الفني قبل غيره من بحوث فلسفية قليلة الجدوى؛ وإذاً لا يكون للشعراء الناشئين إلا أن يجودوا أو يتعرضوا للنقد اللاذع الصريح
وإن كان في أخيلة بعضهم شيء من الغموض وجنوح إلى التهاويل فهل خلا شعر هؤلاء
من نفحات الشاعرية، وومضات العبقرية؟ وهل خلا شعر أبي تمام والمتنبي والمعري وابن هانئ وشوقي والزهاوي من عقد في الخيال، ودقة في التصور حيرت الباحثين أزماناً؟ أليس الزمن وحده والنقد الرفيق الموجه أجدى على شعر الشباب من هذه القسوة التي لا يبررها نبل أصحابها وشرف مقاصدهم؟
(الإسكندرية)
م. ع البشبيشي
حول شعراء الشباب
أخونا الأستاذ (دريني خشبة) رجل طيب ما في ذلك شك. وآية ذلك أن يفهم أنه يمنح أحداً من الناس شيئاً، أو يسلب أحداً من الناس شيئاً، بشيء يكتبه على تسق ما يكتب في هذه الأيام. وسبحان من أودع في كل قلب ما أشغله!
وآية ذلك كذلك، أن يشفق على الشبان من الأستاذ الجليل (ا. ع) هذا الإشفاق، وأن يأرق منه هذا الأرق. وأن يفهم (أنه رجل يستطيع أن يقضي على الجهود التي بذلتموها يا معشر الشعراء الشباب في سبيل تجديد الشعر العربي). . .
وإنه ليعز على أن يساور الأستاذ (دريني) كل هذا القلق على (شبانه!) الذين يشملهم برعايته، ويجد من بعضهم - المتواضع - البر والشكران، ومن بعضهم - المتكبر - العقوق والكفران. فأحب أن أرد إلى قلبه الطمأنينة، وإلى عينه الكرى. فلا - وحق طيبته علينا - فما الأستاذ الجليل (ا. ع) بصانع شيئاً في شعراء الشباب، يمثل هذا الكلام (العايم) الذي قصاراه أن يندب شعراء الجيل الماضي، أن يزري بشعراء هذا الزمان. وما الأستاذ الجليل أيضاً (دريني خشبة) بصانع شيئاً لشعراء الشباب بمثل هذا الذي يكتبه
ونحن - مع كل هذا - أميل إلى (مفهوم) رأي الأستاذ الجليل (ا. ع) في معظم ذلك البهرج الزائف الذي يفتن به الكثيرون من الشبان. وإذا احتجنا يوماً إلى توسيع آفاق الشعر عن مدى ما يستطيع أن يفهمه الأستاذ الجليل منه، فإننا سنكون أحوج إلى إنقاذ الشعر من مثل هذا البهرج
وإني لأرجو في النهاية ألا أكون قد أزعجت طيبة مولانا الأستاذ (دريني) وإنني لصادق
حين أقسم له أن لا شيء أعز عليَّ من طمأنينة هذه الطيبة المبروكة.
سيد قطب
الصداقة والأدب والنقد
قرأت في إحدى المجلات ما كتبه الدكتور زكي مبارك عن تأثره البالغ مما كتبه أحد الأدباء عن كتابه (النثر الفني) في مجلة (الرسالة)، وكنت أظن الدكتور المبارك أكثر احتمالاً لهجمات النقد أكثر مما رأيت اليوم، لأن الاحتمال والمرابطة من شأن من يصاولون وينازلون، وما أكثر ما صاول ونازل الدكتور لمناسبة ولغير مناسبة! أما مأخذه على صاحب (الرسالة) من العقوق للأصدقاء، فهو حجة على الدكتور لا له، لأن من يخدم الأدب الرفيع يجب أن يكون على هذه الرفعة من الأخلاق العالية لا يحابي صديقاً، ولا يناصر فريقاً، إنما العيب كل العيب أن ينشر الناشر نقد الدكتور (مبارك) وهو أمشاج وأخلاط من الإغلاظ والإفحاش. ومثل الرجل (الزيات) كمثل ذلك الأبي العربي الذي يقول:(إن قوله الحق لم تدع لي صديقا)
أكتب هذا بمناسبة طلب إحدى المكتبات إلى أن تنفرد بنشر كتاب لي في النقد الذي يعمل برسالته الزيات جاهداً، فعندما مثل الكتاب بين يدي مدبرها قال: ألا تظن أن نشر هذا الكتاب يغضب كثيراً من كبار الكتاب؟ قلت: وما يهمك من غضب الناس ما دمت تريد خدمة الأدب بنشر كتاب للنقد؟! قال يحرمون نشر كتبهم علينا! قلت: إن الأدب لا يخدمه (التجار) وإنما يخدمه أبناؤه الأبرار، واعتزمت طبع كتابي ثم بدأت
هذه يا دكتور قصة (كتاب وتاجر). فهل كنت تأمل أن تخلق من الزيات تاجراً يعق الأدب ولا يعقك، أو تمنع عنه كتبك؟! هذا ما أرجو أن تتدبره ويتدبره الكتاب والقراء جمعياً، فليست العبرة في أن يفقد الإنسان أصدقاءه في سبيل رسالة الحق، وإنما العبرة في أن يصبح الأديب بعد حياة حافلة أداة للإرضاء والإبقاء على الأصدقاء
(ع. س)