الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 565
- بتاريخ: 01 - 05 - 1944
الأعمار والتواريخ في الجاهلية
للأستاذ عباس محمود العقاد
روى صاحب الطبقات الكبرى روايات كثيرة عن سن النبي عليه السلام يوم وفاته. فروى عن أنس بن مالك أنه عليه السلام توفى وهو ابن ستين سنة
وروى عن الأسود بن عامر بسنده أنه عليه السلام بعث وهو ابن أربعين ومات وهو ابن ستين وتعددت الروايات التي تقول بهذه السن كما تعددت الروايات التي تقول بثلاث وستين سنة. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه توفى في الخامسة والستين
وعرض المؤرخون لسن عمر بن الخطاب فذكر ابن قتيبة أنه رضي الله عنه مات في الخامسة والخمسين. وروى عامر بن سعد أنه مات في الثالثة والستين
وعرضوا لسن عمر بن العاص فقال النواوي إنه مات في السبعين، وقال الليث بن سعد والهيثم بن عدي والواقدي وابن بكير أنه مات وسنه مائة سنة. وقال أحمد العجلي وغيره تسع وتسعون سنة. وقال السيوطي وغيره تسعون!
هذه روايات المؤرخين الثقات لتواريخ الميلاد في الجاهلية، وأي ميلاد؟
ميلاد صاحب الدعوة الإسلامية التي بدلت وجه الدنيا بعد أن بدلت وجه البلاد العربية؛ وميلاد خليفة من أشهر خلفاء الإسلام وأشهر حكام العالم كله على إطلاقه؛ وميلاد قائد كبير وسياسي خطير فتح مصر وفلسطين وأقام مع بني أمية أول دولة ذات عرش في تاريخ الإسلام
وذلك هو مبلغ اليقين من تواريخ ميلاد هؤلاء الأعلام، ومن تقدير أعمارهم جميعاً في يوم الوفاة: فرق خمس سنوات في عمر النبي! وفرق ثماني سنوات في عمر الخليفة! وفرق ثلاثين سنة في عمر القائد الكبير
ونقترب من وجهتنا فنروي أقوال المؤرخين عن سن السيدة أم رومان زوج أبي بكر الصديق وأم السيدة عائشة رضى الله عنهما
جاء في الإصابة: (قال أبو عمر كانت وفاتها فيما زعموا في ذي الحجة سنة أربع أو خمس عام الخندق. وقال ابن الأثير ست. . . . والخبر الذي ذكر ابن سعد وأخرجه البخاري في تاريخه عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة. . . . عن علي ابن زيد بن جدعان
عن القاسم بن محمد قال: لما دليت أم رومان في قبرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه. . . وقال أبو نعيم الأصبهاني قيل إنها ماتت في عهد رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم وهو وهم. . . وقال إبراهيم الحربي سمع مسروق عن أم رومان وله خمس عشرة سنة، ومقتضاه أن يكون سمع منها في خلافة عمر، لأن مولده سنة إحدى من الهجرة، إلى آخر ما جاء في ترجمة أم رومان)
وذلك هو مبلغ المؤرخين من تحقيق سن سيدة أصبحت زوج الخليفة الأول وحماة النبي عليه السلام
ونقترب أيضاً من وجهتنا فنروى ما جاء في الاستيعاب عن سن السيدة فاطمة الزهراء إذ يقول:
(كانت هي وأختها أم كلثوم أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف في الصغرى منهما. وقد قيل إن رقية أصغر منها، وليس ذلك عندي بصحيح. وقد ذكرنا في باب رقية ما نبين به صحة ما ذهبنا إليه في ذلك، ومضى في باب زينب وباب خديجة من ذلك ما فيه كفاية. وقد اضطرب مصعب والزبير في بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيتهن أكبر وأصغر اضطراباً يوجب أن لا يلتفت إليها. . .)
ونروى ما جاء في الإصابة حيث يقول: (واختلف في سنة مولدها فروى الواقدي من طريق ابن جعفر الباقر قال العباس: ولدت فاطمة والكعبة تبنى والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة وبهذا جزم المدائني. ونقل أبو عمر بن عبيد الله ابن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي أنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مولدها قبل البعثة بقليل نحو سنة، وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين)
ومعنى هذا أننا إذا أخذنا بقول العباس، وهو أولى الناس أن يؤخذ بقوله في ذرية النبي عليه السلام، فهناك فرق يبلغ ست سنوات بين سن عائشة كما يرويها بعضهم وسنها كما تخلص لنا من هذا الحساب
وجاء في ترجمة زينب رضى الله عنها كما رواها صاحب الإصابة: (هي أكبر بناته وأول
من تزوج منهن، ولدت قبل البعثة بمدة قيل إنها عشر سنين. واختلف هل القاسم قبلها أو بعدها. وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن ربيع العبشمي. . .)
فقد بلغ الاختلاف إذن في ترتيب الأعمار أن لا يعلم على التحقيق من السابق ومن التالي من البنين والبنات، وفي ذلك ما يأذن بفرق سنتين أو ثلاث سنوات
رأينا هذا التفاوت البعيد في رواية أعمار النابهين والنابهات فوقفنا موقف الحذر من كل رواية تخالف المعقول والمألوف ولا داعي للجزم بها دون سائر الروايات
ورأينا أن التفاوت على هذا النحو في سن السيدة عائشة غير بعيد بل هو أقرب من ذلك إلى الاحتمال، لأن مولد السيدة عائشة ليس أولى بالتحقق من مولد النبي أو مولد عمر أو مولد أبناء النبي وبناته، ولأن الرواة هنا لا يفضلون الرواة هناك، ولأن الاختلاف واقع فعلاً بين سبع وتسع سنوات عند الخطبة. وجاء ابن هشام فقال:(وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة وهي بنت سبع سنين، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر)
واخترنا رواية العباس التي يضاف فرقها إلى هذه السن فترتفع إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة
وقابلنا بين الأعمار وبين مناسبات الزواج فعلمنا أن السيدة خولة بنت حكيم اقترحت الزواج على النبي صلوات الله عليه بعد وفاة السيدة خديجة لأنها رأته في بيته على حال وحشة فقالت: (أي رسول الله! ألا تزوج؟ فسألها من؟ قالت إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً). . . وهي بالبداهة لا تقترح عليه في تلك الحالة خطبة بنت في السادسة أو ما دونها ليتم الزواج بعد حين
وعلمنا أيضاً أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل ذلك لجبير بن مطعم وهو مشرك، فلما خطبها النبي عليه السلام قالت أم رومان زوج أبي بكر: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم ابن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت:
يا ابن أبي قحافة! لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟) فانفسخت الخطبة على أثر هذا الحديث
علمنا هذا فأضفناه إلى ما تقدم وخلصنا منه إلى أن السيدة عائشة كانت أكبر من سنها المروية يومذاك (لأنها إما أن تكون قد خطبت لجبير بن مطعم بعد أن بلغت سن الخطبة وهي قرابة التاسعة أو العاشرة، وبعيد جداً أن تنعقد الخطبة على هذا التقدير مع افتراق الدين بين الأسرتين، وإما أن تكون وعدت لخطيبها وهي وليدة صغيرة كما يتفق أحياناً بين الأسر المتآلفة، وحينئذ يكون أبو بكر مسلماً عند ذلك، ويستبعد جداً أن يعد بها فتى على دين الجاهلية. . .)
قلنا ذلك لم يخف علينا حين قلناه إن الزواج قد جمع بين المسلمات والمشركين في أوائل عهد الدعوة المحمدية
ولكننا كنا نعلم مع هذا أنه الاستثناء وليس بالقاعدة الشائعة المحمودة، وأنه حصل في أحوال خاصة لا يقاس عليها. وسرعان ما تبدل الموقف فيها حين تبدلت تلك الأحوال. فزينب بنت النبي عليه السلام قد تزوجت ابن خالتها وكانت أول من تزوج من بناته؛ ولعلها تزوجت قبل الدعوة قياساً على الخلاف المتقدم في الأعمار والتواريخ، وما هو إلا أن تيسر للنبي أن يفرق بينها وبين زوجها حتى بادر إلى التفرقة بينهما بعد جهد جهيد
والظاهر الواضح من المناسبة التي نزلت في صددها آيات التحريم القاطع لنكاح المشركين والمشركات أن هذا الزواج كان بغيضاً إلى نفوس المسلمين ولما تنزل بعد هذه الآيات. فقد جاء في رواية أنها نزلت في أبي مرثد الغنوي وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً. فسمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق كانت خليلته في الجاهلية، فأتته فقالت: ألا نخلو؟ فقال: ويحك يا عناق! إن الإسلام حال بيني وبين ذلك؟ فقالت له: هل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم. ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأمره فلما قضى حاجته بمكة وأنصرف إلى رسوا الله أعلمه بما كان من أمره ومن أمر عناق وسأله: أيحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية)
وورد في قول آخر أنها نزلت لأن عبد الله بن رواحة تزوج أمةَ له وفضلها على المشركات ذوات ألاحساب، فلغط بزواجه من الأمة بعض أصحابه فنزل القرآن ينصفه من لائميه (. . . ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم)
وظاهر واضح من كلتا المناسبتين أن زواج المسلم بالمشركة كان موضع تردد وتساؤل قبل
نزول الآيات فضلاً عن زواج المسلمة بالمشرك، وفضلاً عن السعي إلى زواج المسلمة بالمشرك قبل بلوغ السن بسنوات كأنه غنيمة يخشى أن تفوت!
ومع هذا لو كانت خطبة جبير بن مطعم قد تمت بعد ظهور الدعوة المحمدية فما الذي جد حتى عادت أمه تخاف من دين أبي بكر على دين ولدها؟ ألم يكن أبو بكر مسلماً وكان الخوف على الخطيب أولى وأحرى وهو طفل صغير؟ أليس هذا وحده كافياً لترجيح الخطبة قبل الدعوة كما قلنا في كتاب (الصديقة بيت الصديق). . .؟
لذلك كله رجحنا أن السيدة عائشة تجازوت الثانية عشرة ولم تنقص عنها يوم زفت إلى النبي عليه السلام
وكان في وسعنا أن نقف عند الأرقام المترددة ونريح أنفسنا فلا نفند شيئاً من المزاعم التي بناها بعض المبشرين والمستشرقين على تقدير السن عند الزواج بالتاسعة أو ما دونها، وقد كان لها من الأثر في عقول أبناء هذا الجيل ما يعلمه كل ذكي لبيب
كان ذلك في وسعنا ولا جهد فيه علينا، ولكننا وصلنا بالقرائن المعقولة والمقابلة السائغة إلى تصحيح السن على وجه لا يأذن لأحد بالتمحل والانتقاد، ولم نتوسل إلى ذلك بإنكار آية أو حديث أو أصل من أصول الدين، ولكننا تناولنا السنوات والتواريخ بالشك الذي تستحقه، وهي تتسع في أشيع الروايات لفرق السنة والسنتين والعشر والثلاثين. . . فماذا في هذا كله من دواعي التهويل والصريخ؟ وما سر الاستماتة في تخطئة هذا التصحيح والإصرار على أن السيدة عائشة تزوجت في السابعة أو التاسعة ولم تتجاوزها، مع أن النص المكتوب - ولا نذكر القياس والاستنتاج - قد زادها إلى عشر سنين؟
أما دواعينا نحن فهي تلك الأسباب وتلك القرائن وكلها مما يوافق التنزيه الواجب لمقام الرسول
وأما دواعي المنكرين التي دعتهم إلى تسجيل تلك السن دون غيرها فعليهم هم أن يبينوها وينظروا أينا أقرب إلى البر بالإسلام، وأحرص على تعظيم نبيه عليه السلام.
عباس محمود العقاد
الحكم على الشعر وأساليب النقد والتحليل
للدكتور محمد صبري
كتب (أستاذ جليل) في الأسبوع الفائت يقول: (للدكتور محمد صبري) أن يرى في مقالته. . . أن نونية أبي تمام في رثاء ولده قد فاتت رائيته في محمد بن حميد الطوسي التي يقول فيها:
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة
…
ولكن كبراً أن يقال به كبر
(وللأستاذ عبد الرحمن شكري أن يستعجب في إحدى مقالاته كيف أن حبيباً - وهو في الرثاء ما هو - لم يجد في النونية إجادة ابن الرومي في الدالية التي رثى بها ولده. غير أن تلك القصيدة فائقة كانت أو مقاربة ليست لأبي تمام وإن جاءت في ديوانه المطبوع، وفي المخطوط في دار الكتب. . .)
ودليل حضرة الكاتب على أن النونية ليست لأبي تمام هو (أن أبا بكر الصولي روى القصيدة بتمامها في (كتاب الأوراق) لأبي محمد القاسم بن يوسف، وروى بعادها (دالية للقاسم في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين له تجانسها كل المجانسة) والصولي مشغوف بحبيب، وهو الرواية العظيم. . . وما حدثتنا (أخبار أبي تمام) ولا المؤلفات التي كتبت سيرة حبيب أن له ابناً، كنيته أبو على. . . ولا أن له ابناً اسمه محمد ولا نعرف لحبيب ولداً إلا (تماما) كان هنا محمد بن طاهر حين وليَ خراسان الخ)
قد يكون الصولي راوية عظيما في عصره؛ ولكن كتبه في اعتقادي ينقصها التحقيق العلمي وكلها حلقات من روى فلان عن فلان، وحدثنا. . . هذا من ناحية الرواية؛ أما ناحية الأدب فيه فلا أظنها كاملة من حيث الذوق والصقل، ولذلك فإن كتبه وكتب غيره لم تستوعب أخبار أبي تمام ولم تدقق فيها. وإننا لا نعرف إلا القليل من حياة حبيب ومعاصريه بل من حياة العصر العباسي نفسه، فالطبري وابن الأثير والمسعودي يكررون نفس الروايات، والنساخ يمسخون أسماء الأعلام، فترى الاسم الواحد يختلف باختلاف المؤلف والناسخ. ومن الصعب أن نهتدي إلى تاريخ قصيدة أو إلى تاريخ موت وزير كبير رثاه الشاعر بقصيدة معروفة. بل إن البحتري تكلم عن حوادث حربية هامة لا تتفق مع رواية تواريخنا الكبرى إذا ذكرت فيها. . . بينما تذكر الحوادث التافهة بإسهاب وفي غضونها الشعر
السقيم. . .
ولو دقق حضرة الأستاذ الفاضل النظر لتبين له أن الصولي لم يكن من المدققين لأنه روى دالية للقاسم (في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين) ولتبين له أن هذه القصيدة الدالية لا تجانس النونية كل المجانسة!
روى الصولي في كلامه عن شعر القاسم (وقال يرثي أولاده) فلم يذكر لنا أسماء أولئك البنين، بل إن المتأمل في القصيدة يرى عجباً، يرى أن البنين، إذا كان هناك بنون، هم محمد ومحمد ومحمد!
هلك البنون محمد ومحمد ومحمد
واستأثرت بهم المني
…
ة والمنية موعد
وبعد أن استطرد الشاعر إلى ذكر الأحبة والقرناء الذين يطويهم الموت في أبيات معدودات عاد إلى رثاء ابنه محمد الذي يكنى بأبي علي:
أسفاً عليك أبا عل
…
ي والمنايا رُصَّد
أسفاً عليك أبا عل
…
ي يوم ضمك ملحد
كالبدر فارقه النحو
…
س وقارنته الأسعد
والقسم الأكبر والأخير من القصيدة لم يذكر فيه الشاعر إلا ابنه محمداً، وظاهر أنه كان ابنه الوحيد:
هل لي على الحزن الطوي
…
ل سوى (لبابة) مسعد
ثكلى بواحدها فلي
…
س لها عليه تجلد
أُلباب إن الصبر أب
…
قى للإله وأرشد
والواقع أنه لا تجانس بين هذه الدالية وبين نونية أبي تمام؛ فالدالية قصيدة فقيه زاهد، والنونية قصيدة شاعر. والواقع أنه لم يكن هناك بنون بل ابن واحد هو أبو علي محمد، والقاسم حين يقول في بدء القصيدة:
هلك البنون محمد ومحمد ومحمد
فإنما أراد التهويل من شأن مصابه بطريقة أقل ما يقال فيها إنها لا تدل على (شاعرية) كبيرة
والواقع أن أبا تمام كان له ابن اسمه محمد وكان للشاعر اخوة؛ وقد رثى الجميع بأربعة أبيات من الشعر الذي تتجلى فيه شخصيته:
فلا يشمت الأعداء بالموت إننا
…
سنخلى لهم عن عرصة الموت موردا
ولا يحسبُنَّ الموت عاراً فإننا
…
رأينا المنايا لم يدعن (محمدا)
ولا يحسب الأعداء أن مصيبتي
…
أكلت لهم مني لساناً ولا يدا
تتابع في عام بُنَيَّ واخوتي
…
فأصبحت إن لم يخلف الله مفردا
ففي نونيته يقول أبو تمام:
بني يا واحد البنينا
…
غادرتني مفرداً حزينا
وفي هذه الأبيات يقول: (فأصبحت إن لم يخلف الله مفرداً)
وقد أخلف الله عليه فرزقه (تماما) الذي ورد ذكره في تهنئة محمد بن طاهر عند ولايته خراسان، فمعلوم أن أبا تمام ولد سنة 192 هـ ومات سنة 231. ويمكننا أن نفرض أنه تزوج في سن العشرين تقريباً أي في سنة 212 أو 215 وأن ابنه محمداً مات صغيراً قبل العاشرة أو حواليها أي في سنة 222 أو 225، وفي هذه السنة عينها مات اخوته (تتابع في عام بني وأخوتي)
وإني أكرر أن نونية أبي تمام من رائع الشعر. وإني أدع جانباً الأبيات التي ذكرتها من قبل والتي صور فيها ابنه وهو على فراش الموت، وأجتزئ هنا بذكر أربعة أبيات أخرى من آخر القصيدة تطل من أسلوبها وكلماتها روح حبيب:
تصرف الدهر بي صروفا
…
وعاد لي شأنه شؤونا
وحز في اللحم بل براه
…
واجتث من طلحتي فنونا
أصاب مني صميم قلبي
…
وخفت أن يقطع الوتينا
فالمرء رهن بحالتيه
…
فشدةً مرة ولينا
ولم يرو الصولي البيت الثاني
وقد نظم أبو تمام الأبيات الدالية التي رثى بها اخوته وابنه محمداً بعد النونية، ويظهر أنه عند نظمها كانت امرأته (تحمل) تماما. . . الذي مات عنه صغيراً، وقد ولى محمد بن طاهر خراسان في سنة 248 فتكون سن تمام وقت تهنئته ابن طاهر 25 سنة تقريباً، ولا
أظن تماما روى عن أبيه شيئاً، لأنه لم يكن يتجاوز الثامنة أو التاسعة عند موته
ولعل فقدان حلقات كثيرة في حياة الشعراء وعدم وجود ملكة التمحيص والتحقيق هما اللذان دفعا الصولي إلى نسبة نونية أبي تمام إلى القاسم لاشتراك ابنيهما في الاسم والكنية
ولنعد الآن إلى الأبيات التي صور فيها الطائي ابنه وهو صريع الموت والداء:
آخر عهدي به صريعاً
…
للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصة وكربا
…
لأحط أو راجع الأنينا
يدير في رجعه لسانا
…
يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طوراً بناظريه
…
وتارة يطبق الجفونا
ثم قضى نحبه فأمسى
…
في جدث للثرى دفينا
وقد جاء في الديوان بعد ذكر القصيدة النونية ما يأتي:
وقال في أخ له وحضر وفاته
لله مقلته والموت يكسرها
…
كأن أجفانه سكرى من الوسن
يرد أنفاسه كرهاً وتعطفها
…
يد المنية عطف الريح للغصُن
فملكة التصوير واحدة في القطعتين؛ وملكة التصوير هذه لا تجدها إلا عند فحول الجاهليين والإسلاميين، وهي خاتم الجلال العتيق الذي يزين ملامح الشعر العربي وميسم الحسن والروعة والجمال.
محمد صبري
2 - شعر ناجي
للأستاذ دريني خشبة
وميزة ناجي الثانية هي قدرته على التصوير. . . وهو يصور في يسر ورخاء وخصب؛ وهو يصور الصورة الكاملة التامة بالكلمة الواحدة أحياناً يضعها في مكانها من البيت فتحار إذ ترى أنها لا تصلح إلا فيه. . . وقد يصور الصورة الرائعة بالكلمتين أو بالشطرة أو بالبيت الكامل أو بالبيتين أو بالمقطوعة أو بالمنظومة كلها، فيضع بين يديك ألواناً جيدة حسنة المزج، خالية من الصنعة والتكلف. ويحافظ ناجي على طبيعة ألوانه هذه، ويحافظ على إلا يجعلها صارخة مبتذلة، وقد يؤثر اللمس الخفيف على الخطوط القاطعة القوية، وكثيراً ما يكتفي بالرمز، بل كثيراً ما يصور بالوهم، فيجعلك تتوهم مثله لتخلق معه الصورة التي يريد
ومما يزيد في بهاء صور ناجي جودة الأداء، أقصد جودة انتقاء الألفاظ التي تحمل الصورة، وحسن سبكها، في غير مشقة ولا عسر. . . ومما يجمل التفات إليه أن جودت الأداء وحسن السبك لم يبلغا أوجهما في الشعر العربي إلا بعد ابتداع الموشحات، ومما نحمد الله عليه أن شعراءنا الشباب قد استغلوا نظام الموشحة استغلالاً حسناً ساعدهم في الثورة على القصيدة المطردة القافية فافتنوا في معانيهم وأبدعوا. . . والظريف من ناجي أنه يطبق ذلك في صمت تطبيقاً عملياً. . . ومنذ أخذنا نقرأ ناجي لم نره قط يطيل في قصائده، بل كان يؤثر لها البساطة والبحر الساذج القصير دائماً؛ فإذا كانت منظومته من طراز الموشحات رأيناه يطيل إطالة عجيبة، ورأينا مقطوعاته تحمل من الصور والبراعات ما يفتن به القلوب ويخلب الألباب
ولعل من أجمل صور ناجي تلك التي حمل إلينا فيها قلبه، والتي قدمنا منها النماذج الكثيرة في الكلمة السابقة. . . فقلبه: الشهيد المتواري في الضلوع. . . صورة رائعة فيها سحر وفيها فتنة وفيها حب وأنين وألم. . . وكلمة الشهيد وحدها حين تصف القلب تحمل إلى أذهان المحبين صور تلك الساعات الحلوة التي ألتذوا فيها آلام الصبر والتشوف والحنين والانتظار وخلف المواعيد، وهي آلام إذا أحست الجوارح الإنسانية منها شيئاً، أحس منها القلب الإنساني كل شيء. . . فما أبدع كلمة الشهيد في تصوير القلب يدمى ويألم ويتوجع
فهذه صورة رائعة من صور ناجي في كلمة واحدة!
ويقول ناجي:
رفرف القلب بجنبي كالذبيح
…
وأنا أهتف: يا قلب اتئد!
رفرف القلب! كلمتان جميلتان تصوران القلب في صورة الطائر الذي يحرك جناحيه حول الشيء كما يقول القاموس. . . ورب قائل يعترض بأن هذه صورة قديمة مأخوذة من قول من قال مثلاً: كما انتفض للعصفور بلله القطر. . . وهو اعتراض لا يكاد يقف على قدميه، فرفرفة القلب رمز جميل وتلميح، وانتفاض العصفور بلله القطر إفاضة وتصريح، ولكل من الصورتين بعد ذلك بهاؤها وروعتها، فإذا أخذنا الصورة الثانية التي يرفرف القلب فيها بجنب الشاعر كالذبيح، رأينا لوحة شاملة فيها كثير من التفاصيل الغنية. . . ثم تتغير هذه اللوحة حينما نقرأ البيت كاملاً. . . لأننا نرى الشاعر، أو روح الشاعر، تقف في جانب من الصورة الرائعة وهي تخاطب القلب هذا الخطاب الرقيق، وتهتف به مشفقة عاتبة؛ يا قلب اتئد! فرفرف القلب صورة، ورفرف القلب كالذبيح صورة ثانية، والبيت كله صورة ثالثة. . . وهنا قوة ناجي المصور الفنان الذي يجيد مزج ألوانه. . .
وانظر إلى الصور الكثيرة المتتالية في المقطوعة التالية:
هل رأى الحب سكارى مثلنا؟
…
كم بنينا من خيال حولنا!
ومشينا في طريق مقمر
…
تثب الفرحة فيه قبلنا!
وتطلعنا إلى أنجمه
…
فتهاوين وأصبحن لنا!
وضحكنا ضحك طفلين معاً
…
وعدونا. . . فسبقنا ظلنا!
فيا للفرحة التي تثب في هذا الطريق المقمر قبل المحبين؟ ويا لهذه الأنجم التي يتطلع إليها المحبون فترثي لهم وتترفق بهم فتتهاوى وتصبح لهم! ويا للمحبين حين يسعدون فيضحكون ويعدون. . . ويسبقون ظلالهم! أما كيف يسبق الإنسان ظله فصورة روحية قد لا يفهمها إلا من صحب دانتي الليجييري في مطهره، وفرجيل يقوده وسط أشباح وأرواح!
ويودع حبيبه فيقول:
حان حرماني فدعني يا حبيبي
…
هذه الجنة ليست من نصيبي
آه من دار نعيم كلما
…
جئتها أجتاز جسراً من لهيب
وأنا إلفك في ظل الصبا
…
والشباب الغض والعمر القشيب
أنزل الربوة ضيفاً عابراً
…
ثم أمضي عنك كالطير الغريب!
وفي أول هذا الوداع يقول:
حان حرماني وناداني النذيرْ
…
ما الذي أعددت لي قبل المسيرْ
زمني ضاع وما أنصفتني
…
زاديَ الأول كالزاد الأخير
رِي عمري من أكاذيب المنى
…
وطعامي من عفاف وضمير
وعلى كفك قلب ودم
…
وعلى بابك قيد وأسير!
والصورتان اللتان يحملهما البيت الأخير من أخلد الصور في الشعر العربي!
وإليك هذه الصورة:
يا مناجاتي وسري
…
وخيالي وابتداعي
ومتاعا لعيوني
…
وشميمي وسماعي
تبعث السلوى وتنسى الموت مهتوك القناع:
دمعة الجزن التي تسكبها فوق ذراعي!!
فما أبدع هذا التصوير الرمزي في البيت الأخير أيضاً
ويصور الحنين فيقول:
أبغي الهدوء ولا هدوء وفي
…
صدري عباب غير مأمونِ
يهتاج إن لح الحنين به
…
ويئن فيه أنين مطعون
ويظل يضرب في أضالعه
…
وكأنها قضبان مسجون!
ويقول فيه أيضاً:
ويح الحنين وما يجرعني
…
من مُرْه ويبيت يسقيني
ربيته طفلاً بذلت له
…
ما شاء من خفض ومن لين
فاليوم لما اشتد ساعده
…
وربا كنوار البساتين
لم يرض غير شبيبتي ودمي
…
زاداً، يعيش به ويفنيني!
كم ليلة ليلاء لازمني
…
لا يرتضي خلاًّ له دوني
ألفى له همساً يخاطبني
…
وأرى له ظلاً يماشيني
ويستطيع القارئ أن يعد صوراً شتى في هذه الأبيات التسعة وهاك صورتين عجيبتين صور بهما ناجي حبيبته: أما الأولى فهذه:
وأنت مثل النجم في المنتأى
…
وفي السنا الخاطف كألماسِ
يرنو له الناس ويبغونه
…
وما يبالي النجم بالناس
وهي صورة مركبة في البيت الأول، أما الثانية فهي:
وأنت كأس الحسن لكننا
…
مثل حباب حام بالكأس
طفا وقد قبَّل أنوارها
…
ورف مثل الطائر الحاسي
وجف أو ذاب على نورها
…
كما يذوب الطلَ بالآس
وهذه صورة مركبة أيضاً، لأنها تتألف من صور خلابة شتى، تذكرنا بصور ابن المعتز وذي الرمة والبحتري. . . ولست أبالي أن أذكر أن صور ناجي هذه تفوق صور هؤلاء بالرقة واللمس الدقيق!
وانظر كيف يحيي لنا ناجي سنة الأولين في الوقوف بالأطلال:
آها مما صنع الدهر بنا
…
أو هذا الطلل العابس أنتِ!؟
والخيال المطرق الرأس أنا؟!
…
شد ما بتنا على الضنك وبتِّ!
أين ناديك وأين السمَرُ!
…
أين أهلوكِ بِساطاً وندامى؟
كلما أرسلت عيني تنظر
…
وثب الدمع إلى عيني وغاما!
موطن الحسن ثوى فيه السأمْ
…
وسرت أنفاسه في جوِّهِ
وأناخ الليل فيه وجثم
…
وجرت أشباحه في بهوه
ولا بأس من نقل الصور التالية من تلك المنظومة الخالدة من شعر ناجي:
والبلى! أبصرته رأى العيانْ
…
ويداه نتسجان العنكبوت
صِحت: يا ويحك تبدو في مكانْ
…
كل شيء فيه حي لا يموت؟
كل شيء من سرور وحَزَنْ
…
والليالي من بهيج وشِجى
وأنا أسمع أقدام الزمن
…
وخُطى الوحدة فوق الدرج
فمن من الشعراء القدامى أو الشعراء المحدثين وقف على طلل حبه فبكاه هذا البكاء واستطاع أن يصوره هذا التصوير؟ أنظر إلى هذا الخيال المطرق كلما أرسل عينيه في
دمنة حبه وثب إليهما الدمع. . . وغاما!. . . وانظر إلى الليل كيف ينيخ في هذا الطلل ويجثم، وكيف تجرى أشباحه في عرصاته وتهوم! وانظر إلى البلى كيف تنسج يداه العنكبوت في هذا الرسم الدارس، والمحب الباكي واقف يسمع إلى أقدام الزمن تدب في أركان هذا المكان الذي كان نادي حبه وجنة قلبه، وإلى خطى الوحدة الموحشة نازلة صاعدة فوق الدرج. . .
وإليك هذه الصورة من منظومة في حبيبه المريض الذاوي:
ذهب الصبا الغالي، وزالت دوحة
…
مدت لنا ظل الوفاء ظليلا
أيام يخذلني أمامك منطقي
…
فإذا سكت، فكل شيء قيلا!
ويثور بي حبي فإن لفظ جرى
…
بفمي، تعثر بالشفاه خجولا!
فهذه صورة عادية رددها الشعراء في شعرهم طويلا، إلا أن موضع السحر فيها كامن في عجز البيت الثاني: فإذا سكت فكل شيء قيلا! كما يكمن الكثير من هذا السحر في ذاك اللفظ الذي إن جرى بفم المحب تعثر بالشفاه خجولاً!
ومن تصوير ناجي بالوهم الذي رأينا منه صورة قوية في وقوفه بطلل حبيبه، الصورة التالية:
يا طالما أَدْنتك أوها
…
م كواذب كالحلم
فلمحت صبحك في السوا
…
د وخلت روحك في النَّسَمْ
وشفيت وهمي من رضا
…
ك ورُبَّ ذي بأس وهَمْ
ورويت أذني من حديثك وهو معبود النَّغم
وحرقت قلبي من سنا
…
ك على جمال يضطرمْ
كفراشةٍ حامت
…
عليك وأي قلب لم يحم!
لك حُسْنُ نوار
…
الخميلة طُلّ صبحاً فابتسم
لك نضرة الفجر
…
الجميل على الذوائب والقمم
لك طلعة البرء
…
المرجيّ بعد مستعصي السقم
وسؤال دمعك حين يس
…
ألني، ومن لي بالكلم
لم يا أنيس خواطري
…
غفتِ العيون ونحن لمْ!؟
أكاد أنقل الديوان كله، لأنه يفيض بتلك الصور، بتلك الغرر!. . .
(يتبع)
دريني خشبة
وظيفة المرأة
للأستاذ حسين غنام
(تلخيص لبعض آراء الكونتس أف أكسفورد في كتابها (في السجلات))
(تتمة ما نشر في العدد 563)
ولماذا أنشئت المنتديات؟
إن النساء لا يقصدن المنتديات إلا نادراً، وأظن - وقد أكون على خطأ في هذا الظن - أن هذا السبب يرجع إلى تفضيل متوسط الرجال صحبة الرجال على صحبة النساء، أو لأنه يريد فترة راحة يقضيها بعيداً عن زوجته. وإذا سألت عن أحد الرجال في منتدى (بالتليفون) قيل لك هذا الجواب: إنه لم يترك عنواناً. أو نحن لا نبعث بمراسلات لأعضاء هذا النادي.
وقبل أن تمنح المرأة هذه الحرية كانت حياتنا مهددة ليلاً ونهاراً، حتى اضطرت إدارة (بوليس سكوتلانديارد) إلى استخدام رجلين من رجال الحفظ السريين ليبسطا حمايتهما علينا حيثما كنا في لندن أو في الريف
ولقد حصلت المرأة على ما أرادت، فماذا صنعت به؟ لعلك قائل إنها حتى الآن لم تتعلم السياسة تعلما كافياً حتى تبرز في مجلس النواب. وأقرر أنه لن يكفي المرأة أكبر مقدار من التعليم حتى يجعلها سياسية في المنزلة الأولى
وهل تستطيع أن ترى امرأة صائرة إلى منصب رئيس وزارة؟ إني لن أستطيع أن أتصور نكبة أعظم من وضع هذه (الجزر البريطانية) تحت قيادة إحدى النساء في (شارع داوننج رقم 10)
إن النساء لا يحسن حتى الكلام! وإذا استثنيت ابنة زوجي (فيوليت بنهام كارتر)، فإني لم أسمع مطلقاً سيدة يكمن أن تقول عنها إنها خطيبة!
لقد وجد الكثيرون من رؤساء الوزارات الرجال لم يكونوا خطباء ممتازين، ولكن كانت لهم صفات أخرى ارتفعت بهم إلى هذا المنصب
وليس من الضروري لكي تصير رئيس وزارة عظيما أن تكون خطيباً عظيما، ولكن الخصائص الأخرى التي يجب أن تتحلى بها، يجب أن تعدل تلك الخصيصة أو ترجحها،
وأهمها: العدل والروية والتبصر بالأمور، ورحابة الصدر، والقدرة على المناقشات والجدال. وقبل كل شيء التزام العدالة؛ فهل تستطيع امرأة ماهرة حاذقة أن تفعل شيئاً من هذه الأشياء؟
إنها بالتأكيد لا تستطيع إذا كانت ماهرة، بل على النقيض، فكلما كانت المرأة أحذق أو أمهر، فهي لا تلتزم العدل
وهل كانت المناقشة والحجة من أقوى خصائص المرأة العقلية؟ ربما. . . ومنها كذلك الإجحاف والميل في جانب دون الآخر؟ غالباً. . . والشجاعة أيضاً؟ دائماً. . .
لست حكما جيداً على جنسي النسوي، لأني لم أقابل امرأة تستحق الاعتبار إلا نادراً. على أنني صادفت كثيراً من الرجال الخليقين بالاعتبار والتبجيل. وقد أكون سيئة الحظ في هذه الناحية، فيجب أن يكون هناك كثيرات من هذا النوع من النساء، ولكني أكتب عن تجاربي الخاصة، فإذا كانت هناك نساء مبرزات فإني لم أقابلهن
كتب بليك عن (زواج الجنة والجحيم) فقال: (إن الفطنة عذراء غنية شوهاء عجوز، يتودد إليها العجز والقعود)
وقد تكون الفطنة حكيمة. ولكنها آخر شيء يكمن أن يسترعي نظري لو أنني كنت رجلاً!
ولماذا أوصي شيكسبير بفراشه الثمين الثاني لزوجته؟
إن هناك نساء كثيرات كان حبهن وحياً لرجالهن مدى حياتهم؛ ولكي تكون محبوباً يجب أن تكون إنساناً. ولكن هذه الإنسانية هي الشيء الذي أفتقده في النساء، فلا أجده. إنهن أقل إنسانية من الرجال، وقد فشلت زيجات عديدة، لأن الزوجة كانت تأخذ حب زوجها كفرض عليه حيالها أو قضية مفروغ من أمرها
على أن ممارسة الحب هي فن آخر من أهم الفنون وأعظمها؛ وحسبك أن سعادتك وشبابك يتوقفان عليه
فلماذا ينقطع هذا الحب بانقطاع صلصلة أجراس الخطبة، أو بانقضاء شهر العسل؟
فإذا تزوجت امرأة زيجة في غير محلها، أي تزوجت رجلاً لم يوائمها، فهذا شأنها وحدها، ولكن إذا حدث هذا، وكانت الزوجة صاحبة هذا الحظ قوية الملاحظة والتخيل، بعيدة النظر، فباستطاعتها أن تجعل عشرتها لذلك الزوج أبهج وأمتع مما تستطيع امرأة أخرى قد
توافقه مزاجاً وروحاً
ولست هنا بصدد الكتابة عن الزيجات الشقية، ولكني أكتب عن السعيدة منها. . .
أنظر إلى زوجين في مطعم، فهل تراهما يحادث بعضهما بعضاً حديثاً نابضاً بالحب والحياة؟
لم أجد شيئاً يصدمني في مثل هذا كرؤيتي ما يبدو على وجهي مثل هذين الزوجين عندما يجالسهما شخص آخر ممتلئ حركة وحياة؛ فهو يغير جلستهما الرتيبة الثقيلة
وعندما يعود زوج من عمله مكدوداً، هل تلبس زوجته أبهى ثيابها وأبهجها؟
إنها لن تفعل ذلك إذا كانت مع زوجها لا ثالث لهما!
وإذا لم يلاحظ الزوج ثوب زوجته، فهل تعيب عليه ذلك؟
وهل هي تقرأ الكتب التي يقرأها زوجها؟ أو هل هي تحاول طرقاً جديدة قد تبهجه وتدخل السرور إلى نفسه؟
إني أشك في ذلك. . .
وربما قيل في تعليل هذا، وانتحال عذر له، أن النساء، وخاصة من لهن تجارب سابقة في الحب وأسراره، لا ينظر إليهن المجتمع نظرة راضية عنهن
وفي اعتقادي أن (المجتمع) كلمة يجب أن تبعدها الزوجة من تفكيرها إذا كانت ستؤثر في حياتها الزوجية أو توجهها توجيهاً آخر. . .
إن البيت هو الكلمة المقدسة - ولا تترجم هذه الكلمة إلى أية لغة أخرى مما أعرف - وإذا كان البيت منهاجاً، فباستطاعة المرأة حينئذ أن تطفئ الأنوار. . .
(الإسماعيلية)
حسين غنام
رسائل الأصدقاء
من بركات الأدب
. . . عدت أمس صديقاً أنهكه رس المرض حتى أذواه. فما ترى إذا رأيت، سوى أعظم ناتئة تهم أن تخرج، ولا تسمع إذا سمعت غير أنين خافت موجع كأنه ودع الجسم للروح. فتلقاني بابتسامة كأنها الزهرة الذابلة، وبدمعة كأنها اللؤلؤة اللموع، وأدناني من سريره وبكى، فواسيته بالأحاديث، وخففت عنه بالأهازيل، فلم يسكن اضطرابه، ولا خفت آلامه.
ثم رأيته يتململ في فراشه حيران، ويشير إلى صدره أسوان، ويقول:(إني لأحس ههنا سكيناً تمزق وتخرق. أفلا ترقيني؟. . .)
فقلت لنفسي: (هذا أول الهذيان ثم يتبعه الجنون!) وقلت له: (ومتى عهدتني، عافاك الله، صاحب رقية، أرقي بها الناس لتسألني ما سألت، وتسترقيني؟)
قال: (سألتك بالله وبودك بي أن ترقيني. لقد كان أبوك شيخ المقرئين، وكان رجلاً مباركاً كأنه ملك كريم؛ وجدك كان شيخاً صالحاً، لم تشغله تجارته الواسعة عن التقوى ثم إن الولد سر جده وأبيه!)
وارتبكت، ورأيته يمسك بيدي فيذرف دمعة، فتساقط عليها فتلذعني، ثم يضعها على صدره ويغمض عينيه
وتكلفت الجد والوقار، وهممت أن أقرأ له، ولكن مرت على خاطري خطرة بارعة، فوجدتني أردد على مهل قطعة لصديقي (الزيات) عن الربيع، كنت حفظت فقرأ منها:
(. . . هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة، ويا طفلتي الجميلة: صفاء من سلام النفس يفيض بشراً في العين وطلاقة في الوجه؛ ورواء من ألق الشباب يشع نوراً في السماء وسروراً في الأرض؛ وخاء من نعيم الطبيعة ينشر عطوراً في الجو وزهوراً في الروض؛ وانتشاء من رحيق العيش يشيع لذة في الحس وبهجة في القلب؛ وهدهدة على أرجوحة الحب تذهب مع الأمل الباسم وترجع مع الرضى السعيد؛ واتحاد الجمال البشري بالجمال الإلهي الماثل في وشاء الحقول وأفواف الخمائل وأعطار النسيم وألحان الطير وأنفاس الأحبة. فأين بالله ربكما أجد الفرق بينكما وبين ملكين يعتنقان في نشوة الخلد ويأتلقان في وضاءة الفردوس؟ أفي النظرة الساهمة، أم في البسمة الحالمة، أم في الفتنة النائمة، أم في الحنو الخليق
بالأمومة، أم في الصبا الذي يضوع تريح الجنة. . .)
وإني لماض في ترداد ما أذكره، أهمهم تارة، وأبين مرة، وأخفي أخرى، وأغمض عيني تارة، وأحدق في صاحبي طوراً، حتى رأيته قد فتح عينيه وصحا؛ وإذا بالبسمة ترف على ثغره الذابل، وبالرضى يشيع في وجهه الجاهم، وبالهدوء يسري في جسمه النحيل، وإذا به يقول بنبرة حنون: ما أبرع رقيتك! أخبرني بربك ماذا قرأت لي، وأي رقية هذى؟ كان قلبي خافقاً فهذا، وكان جسمي مضطرباً فسكن، وكان عقلي ساهماً فثاب. ألم أقل إنك صالح وفيك صلاح؟ علمنيها أرق بها نفسي!. . .
وانفجرت ضاحكا ضحكاً يدوي، وحرت فما أدري ما أقول. فنظر إليّ دهشاً وسألني: ماذا يضحكك؟ ولم لا تضن علي بها؟. . .
قلت هذى رقية لا يعلم سرها أحد، ولا يرقى بها أحد، ولا أعلمها أحداً!
وأخذت أعتذر، وأخذ يلح، وأنا أضحك في نفسي، وأضحك منه. فلما رأيته قد ضاق صدره قلت: اكتب رقيتي:
(هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة، ويا طفلتي. . .)
فحدق بي وقال: (فتاتك وطفلتك! ماذا أصابك؟ لكأني أنا المعافى وأنت المريض، أبهذا رقيتني؟)
قلت: (نعم! ألححت علي فلم أجد ما أرقيك به غير رقية من رقى (الزيات) جرت على لساني. . .)
فضحك ضحكا متواصلاً، ونهض من فراشه واثباً، وأخذ يقول:(ارقني. . . فما أحب هذه الرقية إلي. إن فيها سحراً. . . وإن من البيان لسحراً!)
وكانت رقيتي مبدأ شفائه، فلعل الله أن يمن عليه بالصحة والعافية. . . ببركات (الزيات)!
(دمشق)
(الربيع)
القضايا الكبرى في الإسلام
نسب زياد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان من أنكحة الجاهلية أن الجماعة يباشرون البغي، فإذا ولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، وكانت سمية أم زياد لدهقان فارسي، فمرض فدعا الحارث بن كلدة الطبيب التقفي فعالجه فبرئ فوهبه سمية، وقد ولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقربه، ثم ولدت نافعاً فلم يقربه أيضاً، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين حاصر الطائف قال الحارث لنافع أنت ولدي، وكان قد زوج سمية من غلامه عبيد الرومي، فولدت زياداً بعد زواجه بها، فكان يدعى له إلى أن استلحقه معاوية في ملكه بنسب أبيه
وذلك أن أبا سفيان بن حرب كان قد صار في الجاهلية إلى الطائف، فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وقد أسلم بعد هذا وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو سفيان: التمس لي بغيا. فدله على سمية فجاءت بزياد في السنة الأولى من الهجرة
فلما كبر زياد ونشأ كان امرءاً حازماً خطيباً فصيحاً، فاتخذه أبو موسى الأشعري كاتباً له في ولايته على البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام به على أحسن وجه فلما عاد إليه حضرو عنده وجوه المهاجرين والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف أباه. فقال علي: يا أبا سفيان اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً
وقد كان هذا من أبي سفيان أول خطوة في استلحاق زياد به وإنما تأخر بها إلى هذا العهد لأنهم كانوا يكرهون استلحاق أولاد الإماء بأنسابهم، ولا سيما إذا كان على ذلك النوع من الأنكحة فإذا أنجب ولد الأمة لم يروا بأساً في استلحاقه بأنسابهم، ولكن أبا سفيان حين فكر في ذلك وجد أن أمره قد نسخ بالإسلام، لأنه حرم ذلك النوع من النكاح، وقضى بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولكنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، لأن كل تشريع لا يجري إلا على الحاضر. ولا يجري على الماضي إلا في رفع ظلم قائم، أو نحو ذلك مما يجوز الأخذ به فيه، فسكت
أبو سفيان على مضض، لأنه لم يكن له من الشأن في الإسلام ما يمكنه من التصرف في ذلك الأمر، وكان شأنه في ذلك شأن كل من تأخر في الإسلام من أشراف الجاهلية
وقد نبه شأن زياد في خلافة علي، وتولى له فارس فضبطها وحمى قلاعها؛ فلما اتصل خبره بمعاوية ساءه وكتب إليه يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان، فجمع الناس وقام فيهم خطيباً فقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق، يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمر. مخشياً ضراباً بالسيف
ولما بلغ ذلك علياً كتب إليه: إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلاً، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثاً، ولا تحل له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فأحذر، ثم أحذر، والسلام
وكان بعد هذا أن استتب الأمر لمعاوية بعد قتل علي وتنازل الحسن له، فأبقى زياداً في فارس وصالحه على ألفي ألف درهم، وسكت عن استلحاقه بنسب أبيه لأنه لم يبق له حاجة فيه فصار زياد هو الذي يسعى في أمر ذلك النسب، ويجتهد في استمالة معاوية إليه، حتى جعل لمصقلة بن هبيرة الشيباني عشرين ألف درهم على أن يذهب إلى معاوية ويقول له: إن زياداً قد أكل فارس براً، وبحراً، وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً. فإذا قال: وما يقال؟ قال له: يقال إنه ابن أبي سفيان: ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً ويستصفي مودته باستلحاقه، فانفق معاوية وزياد على ذلك الاستلحاق، ثم أحضر معاوية الناس، وحضر من يشهد لزياد بذلك النسب، وكان فيمن حضر للشهادة أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بما تشهد يا أبا مريم؟ فقال أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلا سمية. فقال: ائتي بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن أسكتيها ليقطران منياً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم، إنما بعثت شاهداً، ولم تبعث شاتماً
فاستلحقه معاوية بعد هذا بنسب أبيه، وصار يدعى زياد بن أبي سفيان، وكان يدعى زياد بن عبيد. وقد اختلف الناس في هذا الحكم اختلافاً كبيراً، فرأى كثير منهم أنه أول ما ردت
به أحكام الشريعة علانية، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للولد للفراش وللعاهر بالحجر، وقد عظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة، وكانت عائشة ممن لم يرض عن هذا الحكم، فكتب زياد إليها: من زياد بن أبي سفيان. وهو يريد أن تكتب له: إلى زياد بن أبي سفيان. فيحتج بذلك، فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد
وكان عبد الله بن عامر من بني أمية ممن أنكر أيضاً ذلك الحكم، وهو عامل لمعاوية على البصرة، فلما وفد زياد على معاوية كان معه رجل من عبد القيس، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته. فأذن له على أن يحدثه بما يجري بينهما، فلما أتى ابن عامر قال له: هيه هيه، وابن سمية يقبح آثاري، ويعترض لعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية. فلما رجع إلى زياد سأله فلم يخبره، فألح عليه حتى أخبره، فأخبر زياد معاوية بذلك فقال لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد فشكي ذلك إليه فركب معه حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس، فكم عسى أن يقعد في البيت عن غير مجلسه. فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل:
لنا سياقٌ ولكم سياقُ
…
قد علمت ذلكم الرِّفاقُ
ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت، أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني إلا عزا، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه.
فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، نرجع إلى ما يحب زياد
فقال: إذن ترجع إلى ما تحب. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه
وقد دخل الشعر والسياسة في هذا الحكم فغلوا فيه غلواً فاحشاً، وكانت هناك خصومة بين بني زياد ويزيد بن مفرغ الشاعر الحميري، فقال في ذلك شعراً كثيراً مقذعاً، هجا به زياداً وبنيه، من ذلك قوله:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
…
مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌ
…
وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد
…
كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها ولدت زياداً
…
وصخر من سُمَيَّة غير دان
ومنه أيضاً:
إذ أودى معاوية بن حرب
…
فبشر شعب قلبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر
…
أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لَبْسٌ
…
على وجل شديد وارتياع
وذكر ابن الأثير أن من اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت أواعاً لا حاجة إلى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يباشرون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فرأى معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام
ثم ذكر أن هذا مردود لإنفاق المسلمين على إنكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة
وإني أرى أن هذا الحكم كان أهون مما ظن أولئك القوم، وأن معاوية كان أكبر من أن يكون استلحاقه لزياد أول ما ردت به الشريعة علانية، فهو من أكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن اختاره لكتابة الوحي فأتمنه على أمر السماء، فبعيد على مثله أن يقصد إلى أمر يخالف الشريعة علانية كما زعم أولئك القوم، وقد كان له في ذلك اجتهاد مقبول سنبينه، ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون أخطأ فيه أو أصاب، لأن مثله إذا اجتهد فأخطأ عذر في خطئه، ولم يكن لذلك مطعن في حكمه، لأن مسائل الاجتهاد يرجع أمرها إلى الظن، ولا يعلم الخطأ فيها بيقين
ولو رجعنا إلى ما ذكره أولئك القوم لوجدنا أن منهم من ينكر ذلك الحكم لأنه يرى أن أبا سفيان لم يجتمع بسمية، وهذا تعنت ظاهر، لأنه لم يكن ما يدعو أبا سفيان إلى أن يكذب في دعوى اجتماعه بسمية، وفي دعوى أنها علقت بزياد من اجتماعه بها، وقد كان زياد في عهد عمر فتى ناشئاً لا خطر له، وكان لأبي سفيان من الأولاد من هو أجل منه خطراً، ولو لم يكن له منهم غير معاوية لكفى، وقد صدقه علي في اجتماعه بسمية وأن زيادا من نطفته، ولكنه رأى أن ذلك كان فلتة لا توجب ميراثاً ولا تحل نسباً. والحق أن رأيه في ذلك
صحيح فيما كان منه في الإسلام، لا فيما كان منه في الجاهلية
ومنهم من ينكر ذلك الحكم لأنه يخالف قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وللعاهر بالحجر. وهذا خطأ ظاهر، لأن رسول الله صلى عليه وسلم قضى بذلك في زنا الإسلام لا في زنا الجاهلية، ولهذا أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها. وقد ولد عمرو بن العاص بمثل ما ولد به زياد، فألحقته أمه بالعاص، ثم جاء الإسلام فأقر ذلك الإلحاق. ومنهم من ينكره لاتفاق المسلمين على إنكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة. ودعوى الاتفاق في ذلك ظاهرة البطلان، وعمل معاوية مما يحتج به ولو لم يسبق إلى مثله، ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إن حق زياد في ذلك قد سقط بطول المدة، وبنسخ الإسلام لذلك النكاح الذي قام الاستلحاق على أساسه. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن طول المدة قد اختلفت الشرائع في تحديده وبأن الإسلام حين نسخ ذلك النكاح لم ينسخ آثاره
عبد المتعال الصعيدي
4 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
وكتاب النثر الفني - أو النثر الفني في القرن الرابع إذا لم يختصر اسمه - بحث قدمه الدكتور زكي مبارك لينال به الدكتوراه من جامعة باريس، ولم يجد سبيلاً إلى جديد يقدمه في بحثه إلا أن يبدي ويعيد وينقص ويزيد في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وتاريخ الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها، ليثبت أن نشأة النثر الفني جاهلية لا إسلامية. والنثر الفني الذي يريد ليس هو نثر الخطب والأمثال والمحادثة، ولكن نثر الرسائل والكتب. فهو يزعم أن العرب في جاهليتهم كانوا يكتبون الرسائل ويؤلفون الكتب، ودليله في هذا (أن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي عليه السلام حتى يتهم بأنه لفق القرآن مما نقل إليه من علوم الأولين) ذاكراً آية سورة العنكبوت (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون) التي جعلها من سورة القصص. واحتج عليه المسيو مرسيه، فيما حكى في كتابه عنه وعن نفسه، بأنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدونت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم، فأجابه (بأن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنه كان لها نصيب من الوجود، ثم زاد زكي مبارك بعد ذلك (على أن في القرآن الكفاية وهو أثر جاهلي كما سنبينه بعد قليل)
وقد أنفق هذا القليل في إنكار أن تكون النصوص النثرية المروية عن العصر الجاهلي صحيحة زاعماً أنها (مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية) فأنكر مثلاً خطبة قس بن ساعدة الأيادي في قوله: (وهي الخطبة التي زعم الرواة أنه تنبأ فيها بظهور الرسول، وهي بلا شك خطبة وضعت لإيهام الجمهور أن نبوة محمد كانت مما يجري على ألسنة الخطباء الموفقين من أصحاب الحكمة في عهد الجاهلية) وبعد أن مضى ينكر وينفي ويتهم بغير دليل قال (فكيف يستقيم مع ذلك ما نراه من أنه كان للعرب نثر فني قبل الإسلام؟ فليعلم القارئ أن لدينا شاهداً من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن) ص 38، ثم عقب على ذلك بقوله: (ولا ينبغي الاندهاش من
عد القرآن أثراً جاهلياً، فإنه من صور العصر الجاهلي، إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره وهو - بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب - يعطينا صورة للنثر الجاهلي، وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء). تأمل كلامه هذا جيداً وافهمه في ضوء ما قدمنا لك في المقالين السابقين وفي التمهيد قبلهما، ثم تأمل قوله (وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء) فإن لازم هذا الكلام أنها كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند النبي. وهذا تلميح كتصريح في الوضوح. ثم مضى يتمم حكايته عن نفسه فقال:
(وقد قدمت هذا الشاهد للمسيو مرسيه الذي يرى أن النثر الفني يبتدئ بابن المقفع، فأخذ يبحث عن مخرج ولكنه لم يهتد إلى الآن. أما الدكتور طه حسين فقد اهتدى إلى مخرج لطيف وذلك إعلانه أخيراً في دروسه بالجامعة المصرية أن القرآن لا هو شعر ولا هو نثر، وإنما هو قرآن)، وأنت ترى في كلامه هذا مثلاً من شروده وعوج تفكيره، لأنه كان يتكلم عن القرآن كنثر جاهلي في زعمه، فانتقل إلى الكلام عن القرآن هل هو نثر أو غير نثر، كأنه لا يرى الفرق الهائل بين الأمرين. ثم استمر يتحدث عن رأي الدكتور طه حسين فقال:(وقد بلغتني عنه هذه الكلمة وأنا في باريس فحسبته يمزح. . . فلما عدت راجعته فوجدته يصر على أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعر ونثر وقرآن. وقد حسب الدكتور طه أنه ينجو بهذا التأويل! وكان الظن به أن يؤيدنا فيما رأيناه من قدم النثر الفني عند العرب، وأن لا يستكثر علينا أن ننقض بعض ما يرى المستشرقون، وهم يرون بلا حق أن العرب لم تكن لهم ذاتية أدبية، وإنما أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان)!
فهل رأيت أو سمعت بحمق كهذا الحمق الذي يريد أن ينفي عن العرب تهمة أخذ النثر الفني عن الفرس واليونان فلا يرى سبيلاً إلى هذا إلا أن يسلبهم القرآن كتاباً من عند الله ليرده أثراً جاهلياً يثبت لهم به ذاتية أدبية؟! افترى هذا الرجل يرى القرآن من عند الله أم من عند العرب؟ إذا كان من عند الله فكيف يمكن أن يثبت به للعرب؟ ذاتية أدبية كالتي أراد وليس فيه لعربي منهم حرف؟ وإن كان أثراً جاهلياً يثبت قدم النثر الفني أي نثر
الرسائل والكتب، عند العرب، فكيف يمكن أن يكون من عند الله؟ إن هذا الرجل بين أن ينكر القرآن أو أن ينكر (نظريته) في نشأة النثر الفني، كما يسمي فرضه الذي افترض، ليس له عن أحدهما محيص
وإن أردت مثلاً آخر فاقرأ له قوله بعد ذلك: (القرآن شاهد من شواهد النثر الفني ولو كره المكابرون. فأين نضعه من عهود النثر في اللغة العربية؟ أنضعه في العهد الإسلامي؟ وكيف والإسلام لم يكن موجوداً قبل القرآن حتى يغير أوضاع التعابير والأساليب!) ارأيت استدلال الدكتور البحاثة على وجوب وضع القرآن في العهد الجاهلي؟ الإسلام لم يكن موجوداً قبل القرآن حتى يمكن أن ينسب القرآن إلى العهد الإسلامي، وإذن فالقرآن كان موجوداً قبل الإسلام ما دامت نسبة القرآن إلى العهد الإسلامي غير ممكنة! هذه هي نتيجة منطق الدكتور. وهذا طبعاً يستلزم أنه يفرق بين القرآن وبين الإسلام، إذ لو كان القرآن والإسلام شيئاً واحداً عند الدكتور لكان القياس الذي بنى عليه حجته السابقة هو أن القرآن لم يكن موجوداً قبل القرآن، وإذن فلا يمكن أن ينسب إلى العهد القرآني! وهو قياس كما ترى لا يليق أن ينسب إلى دكتور
وللدكتور دليل آخر على أنه (لا مفر إذن من الاعتراف بأن القرآن يعطي صورة صحيحة من النثر الفني لعهد الجاهلية) ذكره في قوله عقب ذلك (وفي القرآن نص صريح على أن الرسول لا يرسل (إلا بلسان قومه ليبين لهم) وتلك إشارة نلوح بها لمن لا يكفيهم المنطق، وإلا فكيف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وإفهامهم، وهو رجل مسئول لا يستطيع أن يقصد إلى الأغراب في الألفاظ والتعابير، أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب من طرائق البيان) ص 39
وملخص هذا الدليل أن القرآن صورة صحيحة لنثر الجاهلية الفني لأن المشركين كانوا يفهمونه ويستسيغونه. ولازم هذا إن صح، أن الجاهليين لم يكونوا ليفهموا ولا ليستسيغوا نثر ابن سلام والجاحظ، ولا نثر سهل بن هارون وعبد الحميد وابن المقفع، ولا نثر الخوارزمي وابن عباد وابن العميد؛ بل ولا شعر جرير والفرزدق والأخطل وبشار وابن الرومي والبحتري، لأن شعر هؤلاء ونثر أولئك إسلامي لا جاهلي، فإذا هم فهموه واستساغوه كان في منطق الدكتور جاهلياً لا إسلامياً، كأن تعريف الأدب الإسلامي عند
الدكتور هو ما لا يمكن أن يفهمه أو يستسيغه الجاهليون!
لكن عد عن هذا وارجع إلى تلك القطعة من كلام صاحب النثر الفني ففيها ما هو أهم من هذا كله في ما نحن بصدده. اقرأ قوله: (وإلا فيكف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وإفهامهم)، وامض إلى آخر القطعة، ولاحظ استبعاده أن يقصد النبي إلى الأغراب أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب، واذكر أن هذا كله قاله صاحب النثر الفني في مقام الكلام عن القرآن وموافقته لغة العرب. ألا ترى أن ذلك القول منه أقرب ما يكون إلى التصريح بأن القرآن من كلام النبي، حدث قومه به وتجنب فيه الأغراب عليهم في الألفاظ والتعابير ولم يقهرها عما يألفون؟ إن الرجل صاحب رأي في القرآن، ويأبى هذا الرأي إلا أن يظهر فيما يكتب وما يسوق من استدلال
ويمضي الرجل إلى آخر الشوط في استنتاجه من فرضه الذي افترض من أن القرآن (أثر جاهلي) فيزعم للعرب في الجاهلية (نهضة علمية وأدبية وسياسية وأخلاقية واجتماعية وفلسفية) كان الإسلام تاجاً لها، أي أن الإسلام كان نتيجة وتماماً لتلك النهضة لا سبباً لها. اقرأ تعليله بعد إن شئت:(لأنه لا يمكن رجلاً فرداً مثل النبي محمد عليه السلام أن ينقل أمة كاملة من العدم إلى الوجود ومن الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى السيادة القاهرة، كل هذا لا يمكن أن يقع من دون أن تكون تلك الأمة قد استعدت في أعماقها وفي ضمائرها وفي عقولها بحيث استطاع رجل واحد أن يكون منها أمة متحدة وكانت قبائل متفرقة، وأن ينظم علومها وآدابها بحيث تستطيع أن تفرض سيادتها وتجاربها وعلومها على أجزاء مهمة من آسيا وأفريقيا وأوربا في زمن وجيز. ولو كان يكفي أن يكون الإنسان نبياً ليفعل ما فعله النبي محمد لما رأينا أنبياء أخفقوا ولم يصلوا، لأن أممهم لم تكن صالحة للبعث والنهوض)! فانظر إلى صاحب هذا الكلام كيف يسوي بين الأنبياء في كل شيء وبين الأديان، وكيف يرد نهضة العرب بعد الإسلام لا إلى النبوة والرسالة وما أنزل الله على الرسول من دين، ولكن إلى علوم وآداب وتجارب كانت عند العرب كل ما فعله النبي هو أن نظمها حتى استطاع أهلها أن يسودوا في القارات الثلاث في زمن وجيز! وتاريخ نشأة العلوم والآداب في الأمة العربية بعد الإسلام معروف، كما أن مقاومة العرب للنبي ودعوته ومحاربتهم له ولها معروفة، لكن الرجل ينكر التاريخ، ويفتري تاريخاً آخر، ويزعم زعماً لا يجوز ولا
يستقيم في منطق أو تفكير إلا إذا كان القرآن كلام النبي، كلام محمد العربي لا كلام الله. عندئذ فقط يعقل أن يكون العرب على ما وصف الدكتور زكي مبارك من نهضة وعلم وأدب، لأن القرآن أكثر من نهضة وعلم وأدب، ولا يعقل إن كان كلام بشر أن يأتي به صاحبه في أمة جاهلة كالتي أجمع على وجودها قبل الإسلام مؤرخو اللغة العربية من شرقيين ومستشرقين، ومؤرخو الإسلام.
(يتبع)
محمد أحمد الغمراوي
من ربيع قديم
بقايا نغم. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
. . . ظَلَلْتُ أَطوفُ بالألحانْ
…
على أرض من النِّسْيانْ
أُغَنِّيها ولا آذان
…
ولا عُشٌّ، ولا أَغْصانْ
ولا طَيْرٌ يُسَلِّيني!
وإذْ بِخَمِيلَةٍ خَضْراءُ
…
تَرَاعَشُ فَوْقَها الأضواءْ
كأنْ سُقِيَتْ من الَّصهْباءْ
…
ومنْ غَزَلٍ، وَسِحْرِ غِناءْ
وإلْهامٍ، وتلقين
وفيها أنتِ يا لَيْلايْ
…
سُلوٌّ يانِعٌ لِبُكايْ
وفَجْرٌ رائعٌ لِدُجايْ
…
وخُلْدٌ سلمِعٌ لِغِنايْ
يُعَلِّلُني، ويُوحيني!
خَطَرْتِ على ضفاف النيلْ
…
كرُؤْيا تَطْلُبُ التأويلْ
خُطاكِ بِمَسْمعي تَرْتيلْ
…
وصوْتُكِ في دَمي تنزيلْ
بلا شرع، ولا دين!
وكان الأفْقُ كالمحرَابِ
…
وركْبُ الرِّيح كالأوَّابْ
يطوفُ مُدَندنَ الأسرابْ
…
كصوفَّيٍ يَدُقُّ البابْ
على سِرِّ النَّبِيينِ
وكانتْ غُنوةُ الملاحْ
…
صلاةً جمةَ الأتراحْ
كأن لها صدًى وجَناحْ
…
ترفُّ بهِ عَلىَ الأرْوَاحْ
وتهتفُ للمساكين
وكان الموْقدُ الحيْران
…
يَؤجُّ لبُؤسه النيران
ولاذ شِراعهُ النعسان
…
بسارية من الأكفان
تَلَفَّعُ كالشياطين!
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
الشعر القديم بين الفطرة والفن الجميل
(كتاب من الأستاذ خليل بك مطران إلى الدكتور محمد صبري بمناسبة ظهور كتابه (الشوامخ))
حضرة الصديق الكريم. . .
الداء الذي ساورني في هذه الأيام عاقني عن أداء واجب الشكر لما أتحفتني به من التحفة الغالية، أعني بها النسخة من كتابك (الشوامخ)
وما زلت إلى هذا اليوم غير قادر على بذل مجهود فكري يعتد به. غير أنني بوجه إجمالي موجز أرى أن الشعر كلما اتصل بالفطرة كان من الفن الأصيل، وكلما بعد عنها أفضى إلى التعمل، وهو فن آخر، أي فن الصناعة. وشتان بين الأصل والنقل وبين الإبداء والمحاكاة
ألم تر إلى شعر هوميروس كيف بقى عند الفرنجة بمنزلة الينبوع الصافي الذي استقى منه جميع أدبائهم على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم وأهوائهم ونزعاتهم
ولقد تكلف الفرنجة ما تكلفوا ليفهموا هوميروس وليقتبسوا من لغته القديمة المجهولة ما اقتبسوا، ونحن لم نتكلف ولا تنكلف شيئاً لنفهم امرأ القيس وإضرابه من أيام الجاهلية، فيغيبون عنا فنحكم عليهم لا لهم
ولولا أنك جئت تفهمنا معاني امرئ القيس، ولولا الدكتور طه حسين بك وما جهد ليشرح آيات الشعر الجاهلي الصادق النسب، ولولا آخر كتاب للأستاذ عباس محمود العقاد في (جميل بثينة) لبقيت كنوز الشعر الجاهلي بعيدة عنا أصلاً كريماً جديراً بأن نعنى به
بعد كتابة ما تقدم على علاته أوجه إليك بعض أبيات جرت على قلمي وهي:
بعد ألف وبعد بضع مئات
…
أُنصفت عبقرية الضلَّيل
نُضيء السِتر عن جلال امرئ ال
…
قيس بسفر من البيان جليل
رد صبري ألواحه فتجلت
…
من خفاءٍ آيات فن جميل
وإذا الحسن ندّ عنه حديث
…
طُلب الحسن في العتيق الأصيل
آفة الفن جهله، كيف والأ
…
علام تُطوى ما بين جيل فجيل
إنما الرأي ما أبنت وهل أب
…
لغ مما أقمته من دليل
خليل مطران
في الفصول والغايات وفي اللزوميات
لأبي العلاء في (الفصول والغايات) وفي (اللزوميات) رميات - من رام - علميات مقرطسات. منها ما ذكرته في كلمتي (المخترعات وكتاب الفصول والغايات) في (الرسالة الغراء) 250 ص 655 س6 وأعاده مفرقاً الأستاذ كامل كيلاني في مقالته (على هامش العيد الألفي لأبي العلاء) في الرسالة 560 ص 263 س 12
ومن رمياته أو آياته قوله في تلك العبقرية النثرية:
(أحج وأحر أن تعود لجة البحر كساحة اليد لا ماء بها ولا حال إذا قضى ذلك خالق البحار)
ومنها قوله في (اللزوميات) عبقريته الشعرية:
يجوز أن تُطفأ الشمس التي وقدت
…
من عهد عاد وأذكى نارها الملك
فإن خبت في طَوال الدهر جمرتها
…
فلا محالة من أن يُنقض الفلك
قلت: لا حياة يومئذ لأحياء في هذه الكرة الأرضية ولا في تابعة للشمس من أخوات دارنا هذه وإن لم ينقض الفلك. والذي جوزه أبو العلاء فإنه سوف يكون (إنا لله وإنا إليه راجعون)!
والشمس ذات الضياء والوهيج واللهب وحياة هذه الأرض هي كما قال الشيخ في (اللزوميات):
والشمس تغمر أهل الأرض مصلحة
…
رّبت جسوماً، وفيها للعيون سنا
طهت لك الشمس ما يفني أخادعة
…
عن أن يكون له في الأرض طاهونا
وقد ذكرني مقال أبي العلاء في البحر والشمس بقول للضعيف كاتب هذه الأسطر في تضاعيف كلام، أرويه في هذا المقام:
. . . وإن من يتلو كتب الأستاذ الأكبر (أرنست هيكل) يدهش ويستعظم روايته وتبحره في العلوم والفنون. وعلمه (لله هو) علم إحاطة. وإنه ينس قطين الأرض أكابر العلماء بعد أحقاب. فأمثال ذلك (الأستاذ) في نعيم الذكر خالدون ماكر الفتيان، وما دام في البحر ماء، وفي الشمس ذكاء. لأنه إن رسخت أمواه البحر، وسوف ترسخ، وهمدت نيران الشمس،
ولابد أن تهمد، هلك الناس، ففقدت الأرض ذلك الفكر المدرك المضيء في ظلمات لياليها، وهو (لعمرابيك) خير ما فيها، لا بل هو كل ما فيها كما يقول العلامة (بوانكاريه). وإنه ليعزى الحكماء (يا فتى) أن الأجل بعيد جد بعيد، وأن حياة تستمر في غير الكرة الأرضية في سيارة من هذه السابحات في الفلك. ولكل قطين سيارة أجل، والدنيا دول.
الفلاحون
قرأنا في عدد 17 أبريل من مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان كلمة نقد جد مقتضبة وجهها الأديب (د. خ) إلى كتاب (الفلاحون) الذي ألفه حضرة الأب المحترم الدكتور هنري عيروط ونقلناه ونحن أخيراً إلى العربية. وقد رمى هذا الناقد مؤلف الكتاب بأنه يجور أحياناً ووصف الترجمة بأنها ركيكة وأن أسلوبها يميل إلى العامية ويجافي العربية السليمة، بله العربية الفصحى
فأما عن المؤلف فقد كنا نحب أن ينبئنا كاتب الكلمة بمواضع جوره وعلى من وقع هذا الجور، أعلى الفلاح وقد بذل قصارى جهده في الدفاع عنه؟ أم على بقية الطبقات الأخرى التي تشقى الفلاح أو لا تنقذه من شقائه وهو في الحقيقة لم يوفها ما تستحقه من لوم وتعنيف؟
على أنه قد قرظ هذا الكتاب أربعة وثمانون من أفاضل العلماء والكتاب في أربع وثمانين مجلة وصحيفة محترمة في أوروبا وأمريكا والشرق فلم يلاحظ عليه أي واحد منهم أنه كان جائراً على أحد. ولسنا في هذا نغالي أو نلقى الكلام على عواهنه، بل لدينا جميع هذه المقالات، وهي تحت تصرف من يريد الاطلاع عليها
وأما عن الترجمة والتجائنا فيها أحياناً إلى استعمال بعض الكلمات العامية مما قد يبدو أمام بعض القراء أنه انعطاف نحو الأسلوب العامي أو مجافاة للغة السليمة، بله الفصحى كما يعبر حضرة الكاتب، فهذا مسلك فرضته علينا طبيعة الموضوع الذي عالجه كتاب (الفلاحون) على نحو ما كان موليير يفعل في مسرحياته إذا روى أحاديث الخدم والعوام. وليعلم حضرة الكاتب أن هذه الطريقة كانت إحدى دعائم مجد ذلك الشاعر الفرنسي العظيم كما أنه ينبغي أن يعلم أيضاً أن ذلك الأسلوب الذي صغنا فيه ترجمة ذلك السفر هو ما يدعى بروح الانسجام أو مطابقة مقتضى الحال
ومن آيات صحة هذه الدعوى أننا لم نسلك هذا النهج في أي كتاب من كتبنا الأخرى، لأن موضوعاتها لا تمت إلى العامة بأية صلة
نحن إذاً، قد استعملنا الجلبية واللبدة والطاقية والملاية والبلغة وما شاكل ذلك عامدين ونزلنا إلى مستوى الفلاح وجارينا أسلوبه قاصدين. ولهذا لم تكن تلك العبارات أخطاء لغوية ولا مجافاة للغة السليمة كما خيل إلى الكاتب
على أننا نعود فنصرح بأن إطلاقنا على تلك السطور لفظة نقد فيه شيء يسير من التجوز، لأن النقد يجب أن يكون مدعماً بالبراهين والحجج. أما أن يسمع حضرة الكاتب أن المؤلفين الذين يكتبون باللغات الأجنبية عن مصر أو عن الشرق يجورون في كتاباتهم فيرمي مؤلف كتاب (الفلاحون) بأنه جائر، وإما أن يقرأ الولولة التي ترجمناها بالعامية قصداً في آخر ذلك السفر، ويلمح بعض العبارات التي تعمدنا أن تكون كذلك فيحكم بأن الأسلوب متجاف عن العربية السليمة، فهذا نسق لا يسير بالنقد إلى الأمام ولا ينتج في الحركة الأدبية خيراً يرجى.
محمد غلاب
أدب ثالث
إن صح أن في مصر أدباً للشيوخ الذين رسخت مكانتهم في النفوس واستفاضت شهرتهم في الآفاق حتى جثموا كالقشاعم في القنن الشواهق، وأن فيها أدباً للشباب وقد هبوا إلى مجاني الأدب ومغانيه كالفراش على الأزاهير حالمين ببعد الصيت مرفرفين على الأغصان كالعصافير - فإني لأرى بين هؤلاء وأولئك أدباً طريفاً قد توسط فلم يشب فوداه كالشيوخ، ولا لأن عوده كالشباب، وعند هذا الضرب من الأدب ينبغي أن تتألق نهضة وتقوم للفن مدرسة بعيدة عن الشطط وسليمة من الغلط لأنها من خير الأمور
والأستاذ عبد الرحمن صدقي يمثل اليوم هذا الأدب المستحب. عرفت قلمه من عهد بعيد، يجول بلا صخب وينساب بغير تحبس. لقد استهواه أدب الغرب فثافن إلى صحفه وأسفاره ونهل من موارده العذاب، ثم أخذ يمتاح منها طرفاً جلاها في معارض عربية، لم يتكلف في ترجمتها أسلوباً ولا تصنع لفظاً، بل انطلق فيها على نسق من السهولة والسلاسة فاستطاع
بما أوتى من تضلع في اللغتين العربية والفرنسية أن يعرب عن الدقائق فيهما. قرب (أزهار الشر) إلى شميم العرب وقد استعصى بودلير على أبناء جلدته فكيف حاله عند أهل الضاد؟ لقد جاءهم الأستاذ عبد الرحمن بمآخذ شاعر الرمز في فرنسة، لكنه نعته بالرجيم وحق له هذا؛ فهو شاعر بالزهر وراجم بالشوك. عقد معانيه وضيق مبانيه، حتى خرج على المألوف، وكانت أشعاره كجوز الهند لا يوصل إلى ذوب مائه وحلاوة طعمه إلا بعد كسر قشره. وبعد أزهار الشر طلع الأستاذ صدقي على قرائه بألوان من الحب ترجم فيها إحدى عشرة أقصوصة لأعلام هذا الفن في الغرب مما يستهوى خيالنا الشرقي ولا تنبو عنه أذواقنا. وقد كشف فيها عن اختلاف المزاج والخصائص بين قوم وآخرين؛ فكانت ترجمته المختارة ناهضة على بصيرة نفاذة إلى ما وراء السطور في هذه التلاوين التي أعرب عنها
لقد وسم الأستاذ صدقي كتابه الجديد من اسم الأقصوصة الأولى. ولا جرم أنها على إيجازها تبين فن بلاسكو إيبانيز الذي يطبيه زهو الشباب وأناقة الجمال، ويبدو اللون الأول من الحب في نفس أوديت التي روعت وفجعت حين رد إليها زوجها من ساحة الوغى مبتور اليدين والرجلين مفقود العين، وكأنه شق أنمار الذي حدثتنا عنه أساطير الجاهلية، فتولى عنه جزعة فزعة ويشركها بهذه النفرة الكلب الذي وصفه الفلاسفة والشعراء بالمحبة وصدق المودة، وينكشف في أعقاب هذه الأقصوصة لون آخر يثمل أشرف ألوان الحب وأبقاها، ذلك هو حب الأم التي جنت على ابنها الجريح فضمته بروحها وواسته بعينها أما قصة (الصمت) فكأن زينون الإيليائي فيلسوف الحركة والسكون أفرغ عليها من روح سكونه صمتاً رهيباً سادراً في عمقه، وقد نجم هذا الصمت من بنت كاتمت أباها القسيس وأمها سراً في نفسها حتى انتحرت فمات معها هذا السر، ولم يحاول القصصي أندرييف الروسي اكتناه السر وإنما تركه لحيرة القارئ الذي يشفق على ذلك الكاهن الشيخ وقد فتحت له على كرسي الاعتراف مغالق النفوس ولكنه عجز عن استجلاء السر في نفس بنته حتى زار قبرها في ليلة ساجية وأخذ يناديها: - فيروتشكا. بوحي بسرك. . .
فسمع الكاهن صوتاً رهيباً بغير كلام هو صوت الصمت العميق الذي بقى يعلو مرهفاً مستدقاً، حتى ملأ سمعه
وكانت أقصوصة بلقيس خاتمة المطاف في هذه الألوان جعلها كاتبها فاتحة قصصية تبشر بموهبة كانت كمينة في أدبه
أما وقد أفلحت تجربة الأستاذ صدقي في فن القصة، فإن موهبته لتريده على أن تظهر وتظفر في هذا الفن عندنا فينتزع أقاصيصه من الحياة المصرية وليس ببعيد أن يكون مطلع القاص الجديد في سماء القصص بين النجوم اللوامع
(القاهرة)
داود سكاكيني
قيس ولبنى
أصدرت الغرفة المصرية هذه الطرفة الأدبية الشعرية النادرة للأستاذ عزيز أباظة بك في طبع أنيق وخصصت المتحصل من ثمنها (للمشروعات الخيرية) وقد تفضل الأستاذ عزيز أباظة بك فأهدى إلينا نسخة من مسرحيته البارعة التي هيأت لنا ساعات من القراءة كانت متعة لأرواحنا لا تعد لها متعة. . . حقاً لقد كسب الأدب العربي شيئاً عظيما. . . ونحن نكتفي الآن بتهنئة الشاعر الكريم على أن تكون لنا عودة.
(د)