المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 566 - بتاريخ: 08 - 05 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 566

- بتاريخ: 08 - 05 - 1944

ص: -1

‌17 - دفاع عن البلاغة

9 -

التلاؤم في الأسلوب

بقى الكلام في الصفة الأخيرة من صفات الأسلوب الجامعة وهي: التلاؤم أو الموسيقية أو (الهرمونية). وإذا بلغنا هذه الصفحة من قضية البلاغة، فقد بلغنا موضع التهمة التي تريب المتهِم، وتعتسف الدليل، وتنكر الذوق، وتنزل القيم الفنية منزلة العبث. تلك هي تهمة اللفظ بالأناقة، والتركيب بالموسيقى، والأسلوب بالرفعة. ولو كانت هذه التهمة الجريئة تقصد المجال المزيف والحسن المجتلب لما حكَّ في الصدور من ناحيتها شئ؛ ولكنها تقصد التعبير الجميل الذي يتميز به كلام الأديب عن كلام الناس، وصوت المغني عن صوت الحمار، ورسم المصور عن تناشير الطفل. والزراية على الجمال اللفظي بهذا التعميم وهذا الإطلاق بدعة من بدع هذا العصر الذي اعتلت به الأذواق واختلت فيه المقاييس. وليس لأكثر البدع مسوغ من الفطر السليمة والفكر الصالحة. إنما هي نزوات في بعض الرءوس، أو نزعات في بعض النفوس، تصدر عن شذوذ في الفكر أو حَثَر في الذوق أو عجز عن الكمال. وإلا فكيف تعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون كسائر الناس يطلبون الجمال في شتى ضروبه ومختلف صوره؛ لماذا يثورون على تنميق الكلام بدعوى أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام وتحلية الهندام وتزويق المسكن، والغرض الأصيل منها الغذاء والوقاء؟ لم لا يقفون موقف الحيوان عند حدود الضرورة من مآرب العيش ومطالب الجسد، فلا يتفننوا في تلاؤم الأجزاء في اللباس المهندم، ولا يتأنقوا في تنضيد الألوان على الخوان الموشى، ولا يتنافسوا في تنجيد الأثاث للبيت المزخرف؟ وإذا كان أحدهم لا يحب أن يلبس الثوب المرقع، ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يتزوج المرأة المسيخة، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة والفِقر المتسقة والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة، والنظر والسمع في هذا المقام سواء (فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب) (وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عما يضاده ويخالفه. والعين تألف الحسن وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطيب وينفر للمنتن؛ والفم يتلذذ بالحلو ويمج المر؛ والسمع يتشوف للصوت الرائع وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم باللين

ص: 1

وتتأذى بالخشن، والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن للمألوف، ويصغي إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخر عن الجافي الغليظ. ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والروية الفاسدة)

الحق الصريح أن الذين يدعوننا أن نكتب كما نتكلم إنما يزورون حقيقة الفن فيهم بنقيصة العجز منهم، بدليل أنهم يجدون في أنفسهم حلاوة الرضا إن وقعت في كلامهم عفوا كلمة أنيقة أو جملة رشيقة أو سجعة محكمة. ذلك لأن الإنسان يتميز من سائر الحيوان بأن أحاسيسه التي تصل إليه عن طريق المشاعر، وعواطفه التي تنشأ فيه من فعل الغرائز، إنما تتوالد في ذهنه وتتكاثر في خياله حتى تزيد على ما تقتضيه طبيعة وجوده أضعافاً مضاعفة. هذا القدر الموفور المذخور من العواطف والأحاسيس لم يزل يطلب متنفساً ينبثق منه ومفيضاً ينسرب فيه حتى وجد الفنون الجميلة الأربعة فاستفاض مخزونه واستعلن مكنونه بتسجيع القلم وترجيع القيثار وتلوين الريشة وتمثيل المنحت. فالإنسان كما قال طاغور فنان في الكثير الغالب من أمور دنياه؛ فهو يجمِّل الهيئة ويحسِّن الشارة وينمق العبارة ويهندس الدار ويرّقش الغرف ويزخرف الأثاث وينمنم الحديقة إعلاناً لشعوره وإبرازاً لشخصه وإثباتاً لوجوده

وهو يشيد المعابد الفخمة، وينصب فيها التماثيل الرائعة، ويرسم عليها الصور البارعة، تعبيراً عن مكنون عواطفه لربه ودينه

وهو كذلك يخطط المدائن الجميلة، ويعبّد الشوارع الظليلة، وينسق الحدائق العامة، تنفيساً عن مكظوم عواطفه لأمته ووطنه

من ذلك نعلم أن جمال العبارة وجلال الأسلوب من الصفات المشتركة في جميع الناس، تتفق في الوجود والمظهر، وتختلف في الطاقة والدرجة. فالعامة يستعملون الوزن والسجع والجناس متى جاشت في صدورهم عاطفة أو جرت على ألسنهم حكمة، فمواويلهم وأناشيدهم وأغانيهم موزونة أو موقعة، وأمثالهم وحكمهم وضوابطهم مزدوجة أو مسجعة. وكلما سمت الطبقة واتسعت الثقافة وصدق الشعور وصفا الذوق وأرهفت الأذن سما الأسلوب من الجميل إلى الأجمل، ومن الجليل إلى الأجل، حتى يبلغ الأوج عند كلام الله. إن جمال اللفظ وطلاوة التعبير تابعان لقوة العاطفة وجلالة الموضوع، لا فرق في ذلك بين

ص: 2

أدب العامة وأدب الخاصة؛ فلغة القضاء بين البدو لا تزال إلى اليوم في بوادي العروبة تجرى على سننها المتبع في الفصاحة وإن كانت عامية؛ فالمتهم يتهم بالسجع، والمدافع يدافع بالسجع، والقاضي يحكم بالسجع. والأصل في سجع الكهان الجاهليين ذلك السمو الذي كان يحسه الكاهن في نفسه وفي مقامه؛ فقد كان كهان العرب ككهان الإغريق يزعمون أنهم مهبط الإلهام وأنجياء الأرباب، فكانوا يسترحمونهم بالأناشيد، ويستلهمونهم بالأدعية، ويخبرون الناس بأسرار الغيب في جمل مختارة الألفاظ مسجوعة الفواصل لتكون أسمى من كلام الناس وأجدر بصدورها عن الآلهة

أريد أن أقول إن توخى الجمال المطبوع في الأسلوب أصل في طبائع الناس امتد منها إلى تكوين اللغة وإنشاء الأدب. فإذا سلمت في المنشئ الفطرة وواتته الملكة وساعده الاطلاع، وكان قد تضلع من علوم اللسان وأحاط بأسرار اللغة، صدر عنه الكلام رقيقاً من غير قصد، أنيقاً من غير كلفة

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌السلك السياسي

للأستاذ راشد رستم

(أنشر هذا الحوار تسجيلا لصورة عن جانب من جوانب

التفكير في المجتمع الحديث)

الكاتب

أ - ما هذا الحذاء؟

ب - ماذا. . . ألا يعجبك؟ إنه من الصنف الغالي، دفعت ثمناً له خمسة جنيهات. . .

- لا. لا أقصد ذلك

- ماذا تقصد؟

- أقصد لماذا اخترته من هذا الشكل ذي الرقبة؟

- ولم لا!

- إنها (مودة) قديمة

- ولماذا إذن يعرضونها الآن للبيع؟

- ليشتريها أهل (المودة) القديمة. . . ثم. . .

- ثم ماذا؟

- ثم ليشتريها أولئك الذين يلبسون الجوارب التي من الصنف الرخيص. . .

- وما دخل هذا في ذاك؟

- كيف! ألا تدري؟ أتقول حقاً؟

- نعم. لا أدري. لأني ألبس أجود أنواع الجوارب

- ولكن ألا تدري أن رقبة الحذاء تحجب الجوارب عن الأنظار. . .

- وماذا في ذلك!

- لا يا أستاذ. لابد أن تكون جواربك ظاهرة يراها كل من يجالسك. ولا يتم ذلك إلا بلبس حذاء لا رقبة له. . .

- أو ترك الحذاء بالمرة. . .

ص: 4

- لا تهزأ. . . فهذه ملاحظة في محلها. . .

- حينئذ إذا كانت هذه القاعدة لها خطورتها فأرجو أن تدلني على طريقة لإظهار جميع ملابسي الداخلية، فإنها في الواقع من أجود الأصناف. . .

أ - هذا له ظرفه الخاص، ويلوح لي أنك تقتنيها من أجود الأصناف لهذا الظرف الخاص. . . ومع ذلك فإن ظروف الإظهار تختلف باختلاف المواقف. ولا أظن أنك تجهل ذلك يا سيد العارفين. . .

ب - إن هذه الملاحظات جديدة في نظري، برغم أني نشأت على أن أعرف مواضع الأشياء، ولكن أنت أعلم منى في ذلك لأن سلككم يقضى عليكم بمعرفة أشياء كثيرة لا يعرفها الكثيرون الآخرون كما ظهر لي الآن. . .

- هذا حقيقي، ولكنه لا يمنع أن يعرف غير رجال السلك كيف يلبسون وكيف يظهرون وكيف يتظاهرون. . .، وها أنت ذا واحد من هؤلاء الراسخين في اللبس. . .

- أشكرك. ولكن رجال السلك بدون شك هم النموذج الذي يحتذى في كل المناسبات وكل البلاد

- بهذه المناسبة أتعرف ما هي أحسن طريقة لإظهار القميص الأفرنكي إذا كان من أجود الأصناف؟

- لا. . .

- هي أن تلعب البلياردو. . .

- البلياردو. . .! وما هي الصلة بين القميص والبلياردو. . .؟

-. . . تدخل صالة اللعب، وهي عادة كبيرة وفيها ناس كثيرون، وتأخذ في الاستعداد للعب مع زملائك، وتتظاهر بعدم تحملك حرارة الصالة وحرارة الحركة، فتخلع الجاكتة فيظهر القميص فيراه الجميع. . .

- عظيم. والجهل باللعب؟!

- أمر ثانوي. غير مهم. وكذلك المكسب أو الخسارة. وكذلك (الغشومية) غير مهمة لأن الأغلبية لا تعطى بالا لهذه الاعتبارات. . . حتى أنك إذا أتلفت جوخ الخوان، وهو كما تعلم ثمين جداً،. . . كل ذلك يهون في سبيل إظهار القميص. . .

ص: 5

- أمازج أنت أم جاد، أم أنك تهزأ بمن ليس من سلككم؟!

- حاشا لي أن أقول غير ما أقصد

- أو تقصد غير ما تقول. . .

- وما الفرق؟

ب - فرق بسيط. غير مهم. هذه كلمة خاطفة، لا تعطها بالا كمّل. كمّل. . .

أ - نعم خذ أنت بالك ودعك من التلاعب بالمعاني وبالألفاظ. فهذا زمانه مضى. وأما الوقت الحاضر فيدعو إلى الكشف والوضوح. والذي أريد أن أقرره من كل الذي جرنا إليه الحديث الآن هو أن المظهرية، نعم المظهرية، مسألة هامة جداً

ب - هذا واضح جداً جداً. ولكن هل معنى ذلك أنك تفضل المظهرية على الحقيقة؟

- اسمع يا صديقي. إن الحقيقة تعرف شأنها، وهي موجودة. ولكن المظهرية لابد لها ممن يخدمها ويعمل لها وفي سبيلها، وإلا ضعت يا أستاذ بين الحقيقة والناس. . .

- ولكن ألا ترى أنه خير للعاقل أن يفنى في سبيل الحقيقة من أنه يعيش في رداء المظهرية!

- اسمع كلامي واعمل بفلسفتي، مع العلم بأنها فلسفة شاملة للجميع. دع أفلاطون الذي كان يبحث عن الحقيقة. ثم دع الحقيقة كذلك آمنة في خدرها. إنها إن أرادت الظهور فهي ظاهرة ظاهرة. . .

- وأما المظهرية فهي لا شك في حاجة إلى من يعمل لها أمثالكم. . . أليس كذلك؟

- هو كذلك لا شك. . .

- ولكن خبرني. أليست الحقيقة أولى بهذا المجهود!

- قلت لك إن الحقيقة قوية بذاتها وهي ليست في حاجة إلى أمثالنا

- أو أن أمثالكم ليسوا في حاجة إليها!

- هذا وهذا. . .

- وخبرني كذلك، هل يوجد كثير من أمثالك على هذا الرأي؟

- الدنيا كلها. . .

- أقصد في سلككم الخاص. . .

ص: 6

- الجميع يا أخي. هذا أمر مفروغ منه

- ولكن هل يتعلم الشخص فلسفة المظهرية بعد أن يلتحق بالسلك، أم هو لا يقبل ضمن السلك إلا إذا كان يعلمها من قبل؟

- هذا سؤال طيب. نعم الأوفق أن يكون الشخص عالماً بفلسفة المظهرية مستعداً لها قبل أن يدخل السلك، على أن السلك يعلمه بعد ذلك الدقة فيها وحسن التسرف وحسن السبك. . .

- أفادك الله. . . إذن سأفكر فيما يصلح لي. . .

- أتريد أن تلتحق بالسلك؟

- لا. لا. أبداً أبداً. إنما أريد أن أفكر في شأني وشأن أمثالي وشأن هذه الأفكار. . .

أ - وإلى أن تفكر وتهتدي إلى حل أنظر إلى حذائي وخبرني عن نوع جلده

- هو جلد ثعبان

- برافو! وجلد هذه الحقيبة؟

- جلد ثعبان كذلك

- برافو!

- ولكني لا أدري إن كان جلد الحقيبة وجلد الحذاء هو من الثعبان ذاته

- هذا لا يهم

- ولكن بالله اشهد. أليست هذه ملاحظة تدل على الدقة وحسن السبك؟

- أتريد أن تقول إنك تصلح للسلك؟ وهل في هذا شك يا صديقي؟

- ولكن اسمح لي. . .

- ماذا؟

- ملاحظة أخرى وإن كانت، على ما أظن، لا تجعلني صالحاً للسلك. وعلى الأقل في نظرك أنت

- قل. قل. ما هي؟

- هل تظن أن من العقل أو من الذوق أو من كليهما معاً ومعهما غيرهما. . . أن يلبس الرجل حذاء من جلد ثعبان، في حين أن أحق الناس بذلك هو الجنس اللطيف؟

ص: 7

وما المانع يا أخي!

- والله إذا كانت المسألة مسألة مانع، فإن الموانع كثيرة. هذا إن أردت الحقيقة. ولكن لا. لا. لا تؤاخذني فإن الحقيقة في خدرها. . .

- أنا لا أرى مانعاً مادمت تملك المال الذي تشتري به جلد ثعبان وتصنع منه الحذاء وحقيبة السفر وحقيبة الورق وحقيبة الجيب الخ. . .

- وهل المسألة مسألة فلوس؟ وليس للاعتبارات الأخرى أي تقدير؟!

- أي اعتبارات أخرى! مع العلم بأن جلد الثعبان ثمين جداً وهو (مودة) حديثة جداً

- لا أقصد كل هذا

- إذن أنت تقول ما لا تقصد. . . أو تقصد ما لا تقول.

- دعنا من هذا المزاح السياسي. . . ولنترك مسألة الجلد وخبرني عن نوع الجورب الذي تلبسه. . . .

- من الحرير. ثم انظر إليه وإلى رباط الرقبة وإلى المنديل والقميص

- شئ جميل جداً. كلها من نوع واحد. وهكذا تكون ملابسك مكونة من مجموعات

- حقاً. إنني أميل إلى هذا الشكل من الملابس

- ولكن هذا يتطلب تعباً وتفكيراً ومجهوداً ووقتاً ونقوداً. فهل عملك يسمح بذلك!

- من غير شك. مع العلم بأن كل هذا هين في سبيل. . .

- المظهرية. . .

- برافوا!. . وهذه هي الحقيقة. . .

- نعم. لقد ظهرت من خدرها. . .

- ألم أقل لك إنها قوية لا تحتاج إلى أحد

- نعم نعم. ولكن قل لي، لماذا أنت تلبس كل هذا اللبس العالي الفخم مع أنك على سفر؟

كان هذا الحديث في القطار بين بور سعيد والقاهرة. وكان أن الصديقين التقيا في محطة بور سعيد. وكانت مصادفة أخوية نادرة إذ يلتقيان على هذه الحال بعد غياب أحدهما في الخارج غياباً طويلاً. لذلك أسرعا فاتخذا مكانهما في القطار معاً، ثم كان ذلك الحديث الطريف. . . على أن الصديق (ب) لحظ على صديقه (أ) شيئاً من القلق وعدم الاستقرار،

ص: 8

فسأله الخبر فكان (يتظاهر) أيضاً بأن ذلك من متاعب السفر. . . ومع ذلك قام يمشي في دهليز العربة يفحص الجالسين كمن يبحث عن شخص بالذات. ولما عاد إلى مجلسه من طوافه سأله صديقه عمن يبحث؟

أ - عن صديق كان معي بالباخرة وسمعته يقول إنه سيسافر في هذا القطار

ب - وهل وجدته؟

- للأسف لا. . .

- ربما تخلف

- ولكن كان يهمني جداً أن يكون موجوداً في هذا القطار

- هل لي أن أسأل عن سبب اهتمامك به!

- نعم بكل سرور. اسأل. . .

- لقد سألت. . .

- آه. . . نعم. . . بالطبع يكون حسناً لو كان معنا. . .

- وإذا لم يكن معنا فهل في هذا ضرر عليك؟

- لا. ولكن كنت أود أن يكون معنا

- هل أعرفه؟

- لا. . .

ثم جعلا ينتقلان من حديث إلى حديث إلى أن بلغ القطار محطة الإسماعيلية. ولما تحرك لمواصلة السفر قام الصديق (أ) من مكانه مذعوراً

أ - ها هي. . . ها هي. . . يا للخسارة!. .

- ما بالك يا أخي؟ من هي؟ وما هذه الحركات؟ اجلس اجلس

أ - يا للخسارة! ولكن لا تزال الفرصة موجودة. بل لقد سنحت الفرصة

- ما هي الحكاية؟ خير! خير إن شاء الله

- الحكاية طويلة. وهناك في الإسماعيلية إن شاء الله ستكون نقطة التحول في الموقعة. . .

- خير إن شاء الله. . . هل وجدت صديقك؟

- نعم. نعم. وجدتها. . .

ص: 9

- من هي؟ أصديقك هذا سيدة؟

- سيدة بالطبع. . .

- ما أكثر سيداتكم يا (رجال) السلك!

- وهل ظننته رجلاً؟

- بالطبع. لأنك قلت صديقي ولم تقل صديقتي. . .

- لا. لم أكن أعرف. . .

جلس الصديق (أ) حائراً سارحاً بعد الذي رأى على أفريز محطة الإسماعلية، وتولاه شئ من التفكير والوجوم، ثم أخرج سيجارة من علبة مصنوعة كذلك من جلد ثعبان. ثم أشعلها بولاعة ذهبية بديعة كان ينقصها أن تكون مغطاة بجلد ثعبان. . .

ثم تذكر أنه لم يعرض على صديقه سيجارة، فأخرج العلبة مرة أخرى وقدم منها سيجارة لصديقه (ب)

ب - (وقد أراد تغيير مجرى الحديث) إنها سيجارة مصرية فاخرة. لا شك أنك بمجرد وصولك أرض الوطن أسرعت فاشتريتها

- لا. لا. إنها معي من أوربا

- من أوربا؟ كيف؟

- لأني أدخن السجاير المصرية هناك

- شئ جميل! ذلك لأنها مصرية

- نعم. ولأن لها ميزة الأفضلية

- (مداعباً) قل الحق. لها ميزة المظهرية. . .

- (مبتسما) ها هي ذي الحقيقة يا سيدي برزت من تلقاء نفسها. أمسرور أنت إذن؟

ب - بل إن للسلك السياسي لسحراً

راشد رستم

ص: 10

‌3 - شعر ناجي

للأستاذ دريني خشبة

1 -

فصول غير مكتوبة

2 -

قليل عن حياة ناجي وثقافته

3 -

ماذا نرجو من ناجي

4 -

بعض ما يؤخذ على ناجي

لولا خشيتنا ألا ننتهي من الكتابة عن ناجي ومن الثناء عليه، لعقدنا فصولاً طوالاً عن غزله الرقيق العذب، وعن فكاهته الحلوة الهادئة، وعن سخريته اللاذعة اللافحة، وعن فلسفته الضاحكة المتفائلة التي تبطن قليلاً من الشك لا يلبث أن يضفي عليه أضواء إيمانه العميق فيمحقه، وعن وطنيته التي تبشر وتهدى وتتفتح بالآمال في غير بكاء ولا إعوال. . . وعن فهم ناجي لهذه الحياة الجديدة الصاخبة التي تحترب من حولنا وتتفاعل في دؤوب وجد. . . وفي بحار من الدماء أحياناً. . . ولولا خشيتنا ألا ننتهي من الكتابة عن ناجي لعقدنا فصلاً طويلاً عن حياته ونشأته وتعلمه، لنعلم مثلاً أنه ولد في آخر ليلة من ليالي سنة 1897 وأنه يكره أن يجعل هذه الليلة تاريخاً لمولده، وأنه يرى من العدل أن يؤرخ لمولده بأول يناير سنة 1898، لأنه لم يعش في القرن التاسع عشر إلا عامين اثنين على حد قوله، وثلاثة أعوام حسب أصول الطرح الصحيح. ثم لنعرف أنه كان تلميذاً نابغاً ذكياً، مثله الآن، لأنه لا يزال تلميذاً نابغاً ذكياً، وإن تغيرت مدرسته فأصبحت مكتبة كبيرة، أو ثلاث مكتبات كبيرات حشد فيها خمسة أو ستة آلاف من كتب الأدب والفكر. . . والطب. . . وأنه حشد فيها تلك الآلاف من الكتب لا للزينة والتباهي، ولكن للقراءة العميقة المنظمة. . . وإن من هذه الكتب، كتباً إنجليزية - وهي الكثرة الغالبة وأن منها كتباً فرنسية، وكتباً ألمانية، لأن ناجي، كما أخبرني، كان مولعاً بالحصول على الشهادات العلمية، ولذلك فهو قد ثقف الإنجليزية والفرنسية والألمانية ليحصل على عدد من الدرجات العلمية من إنجلترا ومن ألمانيا. وبعد أن شفى ظمأه من شهادات هذه البلاد الطبية، شرع يروي من آدابها بلغاتها الأصلية، ولعلي لا أبالغ إن ذكرت أن ناجي يجيد الإيطالية إلى حد

ص: 11

ما، وأنه يستطيع أن يقرأ الأدب الإيطالي بلغته الأصلية

كان ينبغي أن نعقد فصلاً عن ثقافة ناجي التي ترتوي بكل هذه الثقافات، وتنهل من مناهل الآداب العالمية التي تتصل بها اتصالاً منظماً؛ وربما كانت قد أتيحت لنا فرصة نذكر فيها طريقة ناجي في تنظيم ثقافاته هذه كلها، ووضع بينها حتى لا تصير خليطاً يشحب إلى جانبه لون خاصته الأولى وأعني قرضه للشعر؛ فقد كلمني أحد الأصدقاء عن ناجي فرأيته يزعم أنه أوشك أن ينقطع عن نظمه بالفعل. والذي أعرفه أن ناجي لا يزال يعنى كعادته، وإن يكن قد انقطع بالفعل عن النظم الكثير بين عامي 1934، 1938، وذلك لأسباب لم يحن الوقت لذكرها، أما بعد سنة 1938، فقد أخذ ملك الكنار يعود إلى شدوه الأول وشجوه القديم. وليس صحيحاً أن شعر ناجي في صباه خير من شعره الحالي، وإن كنت قد أوردت جميع الأمثلة التي ذكرتها في مقالي السالفين من ذلك الشعر؛ فقد آثرت أن أفعل ذلك لكي يستطيع من يريد الرجوع إلى شعر ناجي أن يجده مجموعاً في ديوان مستقل، لا متفرقاً في عشرات المجلات، أو مختزناً في رأس الشاعر (!!). . . وذلك أن ناجياً لا يقيد شعره في ديوان أو كراسة، كما يصنع عباد الله الشعراء، وهو حين ينظم المقطوعة أو القصيدة فهو إنما ينظمها في رأسه. . . أي في ذهنه، وهولا يتناول قلماً وقرطاساً، ثم يخلو إلى نفسه كما يستوحي معظم الشعراء ملائكتهم - أو شياطينهم - ولكنه ينظم شعره كلما هاجته دواعي الشعر وهواجسه، فهو ينظمه في الخلوة، كما ينظمه بين يدي الحبيب. وهو ينظمه في الحدائق، كما ينظمه في زحمة الترام. وهو ينظمه نائماً أو مستيقظاً. . . ونحن نأسف لأن ناجياً لم يجمع شعره منذ سنة 1938 إلى الآن في ديوان يكون بأيدي محبي فنه والمفتونين به من قرائه الكثيرين في الأمم العربية. وليس يخفف من هذا الأسف أن ثلاثة أرباع هذا الشعر مسجل في صفحات الرسالة، لأن هذا التسجيل لا يسعف إلا الأقلين بالرجوع إلى هذا الشعر

وبعد. . . فماذا في جنة ناجي الوارفة الظلال من حسك وسعدان وأشواك؟ وماذا ينقص هذه الجنة الدانية القطوف مما في جنات أولئك الشعراء الأمجاد: شلي، وبيرون، وكيتس، ووردذورث، وسكوتس، وتنيسون، وبوب، وشيكسبير، وبروننج وغيرهم وغيرهم من شعراء الإنجليز والفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان وقدماء اليونان ممن كانت

ص: 12

أرواحهم تهمهم حولنا وتغمغم، وتطل علينا من خزائن كتب ناجي، وتكاد تغني لنا وأنا أحدثه عنها جميعاً؟ لقد أوشكت أن أترك هذا السؤال بين يدي ناجي، ثم أفرغ من نقده! لقد رأيت فوق مكتبه ديوان الشاعر الإنجليزي الشاب كيتس، فتناولته ثم ضحكت. . . ثم أخبرته، وقد سألني، أنني كنت أقرأ في هذا الديوان قبل أن ألقى ناجي بدقائق، منظومته الرائعة الخالدة (أنديميون). . . وأنني كنت أقرأها لأهيئ من مأساة تأليفها ونقدها ردّا صامتاً على نقاد هذا الزمان، الذين يحلو لهم أن يقضوا على شعرائنا لشباب كما قضي نقاد كيتس على كيتس، فمات في ريعان الصبا وشرخ الشباب ضحية هؤلاء العلماء الظالمين الذين لا يرضيهم إلا أن يقذفوا في نار الجحيم بشعرنا وشعرائنا ونقدنا ونقادنا ممن يعرضون أقلامهم وكراماتهم لدفع أذى أولئك العلماء العتاة الظالمين عن جنود أدبنا ومعقد رجائنا في مستقبل هذا الأدب

فهل يخشى ناجي أن ينظم لنا غرة مثل أنديميون، أو درة مثل أدونيس؟ ألا يذكر ناجي أي أثر تركته في نفسه أدونيس التي نظمها شلي تخليداً لذكرى كيتس، بمناسبة موته من جراء الحملة الظالمة التي شنها عليه حضرات النقاد الظالمين؟

لقد جرب ناجي النظم، وقد أعطانا مثالاً شائقاً في ديوانه الصغير المتواضع تحت عنوان: قلب راقصة. . . تلك الأقصوصة التي تؤكد ما ذهبنا إليه من نبل مشاعر ناجي وجمال تصويره للحياة وتفجر الشعر من قلبه وتدفقه في دمه، وقد جرب ناجي نظم الملاحم، فأنشأ ملحمتيه الرقيقتين اللتين لم تطبعا بعد: الأظلال، وليالي القاهرة، وكل منهما في حوالي ألف بيت. . . فهل يحسب ناجي أنه أدى واجبه نحو الشعر العربي، والأدب المصري الحديث، بهذا القدر الضئيل من الجهد المشترك؟ أليس يروع ناجي ما يرى من الفراغ المفزع في دواوين شعرائنا شيباً وشباناً؟ أيستطيع أن يقارن بين هذه الدواوين وبين تلك المئات من دواوين الشعراء الأوربيين الذين كانت أشباحهم تشرف علينا من خزائن كتبه؟ أخشى أن يكون ناجي شاعراً أنانياً، يقرأ كل هذا القدر من الشعر، ولا يعطى الناس غير تلك الصباباث من القصائد والمقطوعات. . . إنما نريد تجاوباً بين ناجي وبين أصدقائه من أولئك الشعراء المحبوسين في خزائنه. . . لقد أنجبت مصر ناجياً ليكون بلبلاً من بلابلها التي تأسو بغنائها أضعاف ما تأسو بطبها. . . لقد أردنا أن نكتب عن ناجي فبدأنا بالكتابة

ص: 13

عن قلبه. . . فأين قصة ذلك القلب؟ أين هذه القصة الكبيرة الطويلة ذات الصور والتهاويل التي يجيد ناجي إبداعها؟ إن بيرون حينما أنشأ دون جوان أو تشيلد هارولد، وشلي حينما نظم روزاليند وهيلين وقصصه الباكيات الأخر، وشيكسبير حينما نظم فينوس وأدونيس. . . وشعراء الغرب حينما نظموا قصصهم البارع العالي، إنما كانوا ينظمون قصص قلوبهم الفتية الكبيرة النابضة. . . فأين قصص قلوب شعرائنا في غير البيت أو البيتين أو القصيدة أو المقطوعة؟ ومن غير ناجي ومن هم من طراز ناجي ممن ثقفوا أساليب الأدبي الأوربي، ونهلوا من معينه يستطيعون أن يسدوا تلك الثلمة في الشعر العربي؟

ولا يستطيع بعد هذا أن ألاحظ شيئاً على أشعار ناجي يمكن أن يؤبه له أو يعتد به. وإن كان لا بد من ملاحظة شئ والتصريح به، فهو هذا التهافت القليل الذي ينتاب بعض أبيات ناجي. . . وهو تهافت مادي في غالب الأمر، أي من ناحية التركيب والأسلوب. ولا شك في أن السبب في ذلك هو ما يأخذ به ناجي نفسه من طريقته العجيبة في قرض شعره، وبالأحرى. . . نظمه أشعاره بتلك الطريقة الغيبية التي لا يستعين فيها بقلم أو قرطاس. ونحن نعرف من علوم النفس والتربية أن الشيء الذي يستعمل الإنسان فيه أكثر من حاسة واحدة تكون دراسته ووعيه أكثر إتقاناً مما إذا اقتصرنا فيه على حاسة واحدة أو حاستين في الوقت الذي نستطيع أن نستعمل فيه أكثر من ذلك. فلو أن ناجياً كان يتناول قلماً وقرطاساً ليدون أشعاره وقت نظمها لاستطاع أن يعيد فيها نظره ويجيل عليها عينيه، ولأجرى عليها عملية التجويد. وإذا هو أشرك مع عينيه أذنيه، ثم لسانه، أي جعل يرددها، أو (يدندن!) بها، إن صح أن نستعمل هذا التعبير المصري لجاءت كل أشعاره مصقولة على غرار واحد وتجنب ما يندُّ به ذهنه من الانحراف النحوي أحياناً: كقوله في رثاء المرحوم طانيوس عبده:

إجمع الآن طاقةً

غَضَّةَ النور تبتسمْ

أهدها روح شاعر

خالدٍ بالذي نظمْ

فقد عدّي أهدى بغير لام أو إلى وهي لا تتعدى إلا بهما. وكقوله في الشك:

تغلو الحياة بها إلى أن تنتهي

عند التراب رخيصة كتراب

يا هيكل الحسن المبارك ركنه

الساحر النور الطهور رحاب

ص: 14

فقد جرّ رحاب في غير موضع للجر، وإن احتج بالضرورة الشعرية، فليس يعيب الشاعر الناضج إلا أن يحتج بها. ومن ذلك استعماله دوى مكان دوّى بالتشديد

وعلى ذكر رثاء طانيوس عبده. . . لقد ذكر ناجي أبياتاً لم يكن (يليق!) أن يذكرها قط في ديوانه وإن يكن قد ذكرها في الحفلة، ولن أزيد الطين بلة فأذكرها هنا

وإلى أن يصدر ناجي الجزء الثاني من ديوانه فنحن نحييه ونعقد عليه أحسن الآمال

دريني خشبة

ص: 15

‌1 - الألغاز في الأدب العربي

للأستاذ محمود عزت عرفة

اللغز. . . ومرادفاته

قد يبدو لأول وهلة أن الألغاز فن مستحدث تسرب إلى أدبنا العربي في عصوره المتأخرة، فلهج به المتخلفون من الأدباء حتى أصبح فناً قائماً بذاته، وغرضاً في النثر وفي الشعر تنصرف إليه الغاية، وتصاغ فيه الرسائل والمقطعات، كما نرى ذلك في العصر التركي وما تلاه من عهود الانحطاط

على أن النظرة الشاملة تنفى عن أذهاننا هذه الفكرة الخاطئة، وتكشف لنا عن مدى تسلسل هذا الفن مع العربية منذ أقدم عصورها

والواقع أن الألغاز - وما يجرى مجراها - لا تعدو أن تكون ضرباً من التعبير عماده اللقانة والفهم وحسن التأني والفطنة من القائل ومن المستمع جميعاً؛ وتلك نفحات ذهنية كان للعقل العربي منها منذ نشأته أوفر نصيب. واشتقاق (اللغز) في اللغة يشير إلى قدم هذه التسمية أو قدم مدلولها على الأقل، إن لم يمكن التثبت من إطلاقها على هذا الفن نفسه منذ العهد الجاهلي

يقول قدامة في كتابه نقد النثر: أما اللغز فأنه من ألغز اليربوع ولغَّز إذا حفر لنفسه مستقيماً ثم أخذ يمنةً ويسرة، ليعمى بذلك على طالبه، وهو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلباً للمعاياة والمحاجاة

وأورد ابن الأثير قريباً من هذا ثم أضاف: وقيل - يعني في الألغاز - جمع لغز بفتح اللام، وهو ميلك بالشيء عن وجهه. . .

هذا وللغز مرادفات كثيرة يوردها أكثر المصادر من غير تفرقة ولا تحديد، فيقال له (اللحن) وهو التعريض بالشيء من غير تصريح، أو الكناية عنه بغيره. ومن ذلك قوله تعالى في صفة المنافقين:(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفهم في لحن القول) قال الزمخشري: أي في نحوه وأسلوبه، وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية. . .

ويطلق على اللغز أيضاً المعمي والمترجم والأغلوطة، والأحجية والمحاجاة (لدلالة الحجا

ص: 16

عليه)، والأدعية مثل الأحجية. . . وأنشد الجوهري في الصحاح:

أُداعيكَ ماُ مستصحَباتٌ مع السُّرى

حِسانٌ وما آثارهُن حسان!

وقال يعني السيوف. ويقال للغز أيضاً (الألقية) وهي ما يلقي بقصد الاختبار وطلب التعجيز، و (المعاياة) ولعلها من تطلب الإعياء أو إثبات العي. وكل هذه ألفاظ تتقارب معانيها حتى لكتاد تومئ إلى مدلول واحد. ولقد حاول ابن الأثير في (المثل السائر) أن يفرد من بين ذلك ما سماه (المغالطات المعنوية) فيجعله نوعاً، ثم يضم الأحاجي والأغاليط والألغاز والمعميات فيجعلها نوعاً آخر

تقسيم ابن الأثير

وهو يقول عن النوع الأول الذي سماه المغالطات المعنوية: حقيقته أن يذكر معنى من المعاني له (مثل) في شئ آخر أو (نقيض)، والنقيض أحسن موقعاً وألطف مأخذاً

ويقدم كنموذج لما له (مثل) قول المتنبي في وصف رمح:

يعادر كلَّ ملتفت إليه

ولَبَّته لثعلبِهِ وجارُ

فمعنى الثعلب المقصود هنا سنان الرمح. ولكن إمكان انطلاق هذا اللفظ على الحيوان المعروف أيضاً، أتاح للشاعر أن يثبت لفظ (الوجار) على سبيل الجمع بين المثلين: الثعلب الحيوان ووجاره

أما ما يأتي على سبيل (النقيض) فذلك كقول الشاعر - محاجياً في الدواب -:

وما أشياء تشْريها بمال

فإن نفقَتْ فأكسد ما تكون؟

إذ يقال نفقت السلعة أي راجت، ونفقت الدابة إذا ماتت

قال ابن الأثير: وموضع المناقضة ههنا في قوله إنها إذا نفقت كسدت، فجاء بالشيء ونقيضه، وجعل هذا سبباً لهذا. . .

ويخطئ ابن الأثير من يدخل هذا الضرب من المغالطات المعنوية في باب الألغاز؛ ويعيب ذلك على أبي الفرج في أغانيه والحريري في مقاماته

واللغز عنده - بعد ذلك - هو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر، لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازاً، ولا بفهم من عرضه. ويمثل لذلك بقول الشاعر ملغزاً في الضرس:

وصاحب لا أمل الدهر صحبته

يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهدِ

ص: 17

لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت

عيني عليه افترقنا فرقة الأبد!

على أنه يعود فيتمثل بقول الآخر ملغزاً في (خلخال):

ومضروب بلا جرم

مليح اللون معشوق

له قدُّ الهلال على

مليح القد ممشوق

وأكثر ما يُرى أبذاً

على الأمشاط في السوق!

وواضح أن من السهل إدراج هذا المثل في باب المغالطات المعنوية؛ إذ الأمشاط والسوق المقصود هنا هي تلك المواضع المعروفة من الجسم، ولكن الشاعر غالط في معنى الكلمتين جميعاً، وأتاح له هذه المغالطة المعنوية (المزدوجة) ما يكون من اقتران سوق البيع والشراء في الأذهان عادة بأمشاط الشعر التي تباع فيها، حتى لكان مما أضافه ابن الأثير إلى ذلك قوله: بلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات فقال: لقد دخلت السوق فما رأيت على الأمشاط شيئاً!

هذا وإن المغالطة المعنوية في البيت الأخير - بذكر الشيء ومثله - لشبيهة بما سلكه المتنبي من المغالطة في معنى الثعلب بذكر (مثل) له وهو الوجار. فنرى من ذلك أن اللغز ومرادفاته - ومن بينها المغالطة المعنوية - تدور جميعها حول مدلول واحد أو يكاد يكون واحداً. فمحاولة التفرقة بين معاني هذه المترادفات توشك أن تكون تعسفاً لا محصل منه مجهوداً لا طائل تحته

لماذا يلغزون؟

استعمل الفصحاء من قديم هذا الضرب من التعبير الدقيق ناظرنين إلى فوائد فيه، منها رياضة الفكر على تصحيح المعاني واستنباط دقائقها من بطون الألفاظ. ومنها إظهار البراعة في التلبيس والتمويه بتجلية الحق في معرض الباطل وإلباس الممكن ثوب المستحيل. ومنها توليد المعاني الغريبة والتزيد فيها، وابتكار ما يستثير العجب منها في غموضه، والإعجاب بعد تجلينه وإيضاحه. ومنها صون ما يراد صونه من معاني الكلام وحجبه إلا دون من يرغب في بذله إليه؛ وذلك ما يقال له (الرمز) وأصله في اللغة الصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم، ثم أطلق على ما خفي من الكلام وأريد طيه عن سائر الناس مع الإفضاء به إلى بعضهم. قال قدامة في نقد النثر: (وقد أتى في كتب المتقدمين من الحكماء

ص: 18

والمتفلسفين من الرموز شئ كثير، وكان أشدهم استعمالاً للرمز أفلاطون

يضاف إلى هذه الأغراض الدنيوية جميعاً غرض آخر متعلق بالدين، هو ما يكون من تجنب الكذب الصراح أو اليمين الكاذبة، مع سلوك سبيل المداراة والإرضاء بالظاهر من القول. وقد جاء في الحديث: رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل مداراة الناس. وإنما يكون ذلك عند التقية ومخاطبة من تخشى بادرته من حاكم غاشم أو سفيه متهجم. ويسمى ابن دريد ذلك (الملاحق) وقد ألف فيه كتاباً فيما سنشير إليه. ويسميه قدامة (المعارضة) وتعريفها عنده أنها المقابلة بين الكلامين المتساويين في اللفظ. قال: وذلك مثل قول بعضهم وقد سأله بعض أهل الدولة العباسية عن قوله في لبس السواد فقال: وهل النور إلا في السواد! وأراد نور العين في سوادها، فأرضى السائل ولم يكذب

وضرب قدامة مثلاً من المعارضة في القرآن قول مؤذن يوسف: (أيتها العير إنكم لسارقون) وهم لم يسرقوا الصواع، وإنما عني سرقتهم إياه من أبيه

قلت: وشبيه بهذا قوله تعالى على لسان إبراهيم: (بل فعله كبيرهم هذا) يعني أن الصنم الأكبر كان أشدها إغاظة له لما رأى من زيادة تعظيمهم إياه وأقوها - تبعاً لذلك - حملا على التحطيم (والفعل كا يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه) - ففي الآية أسلوب تعريضي جمع بين تبكيتهم، والتبرؤ من الكذب بإسناد الفعل ظاهراً إلى الصنم

وليس بعد هذا النوع من المعارضة كذباً بوجه، إذ كان من مأثور قولهم:(في المعاريض مندوحة عن الكذب). والصدق في اللفظ غير مراد لذاته، بل لدلالة فيه على الحق، ومعونة منه على بلوغه. وقد أزال الغزالي ما لعله يتبقى من الشبهة في استعمال (المعاريض) بقوله في شأنها:(الصدق ههنا تيحول إلى النية فلا يراعى فيه إلا صدق النية وإرادة الخير؛ فمهما صح قصده وصدقت نيته وتجردت للخير إرادته، صار صادقاً كيفما كان لفظه)

هذا لم يتفرد متصوفة المسلمين بالأغراب والتعمية في أقوالهم - تقية منهم ومداراة للعامة وظلمة الحكام - وإنما شاركهم في ذلك أهل التصوف من سائر الملل. وسبق هؤلاء جميعاً أهل التفلسف من قدماء الأمم. وقد مرت عبارة قدامة في رموز أفلاطون، والقفطى في كتابه:(إخبار العلماء بأخبار الحكماء) يقول عن أفلاطون هذا إنه ألف كتباً كثيرة مشهورة في فنون الحكمة وذهب فيها إلى الرمز والإغلاق

ص: 19

وكان هيرقليس اليوناني يسمى (الفليسوف المعمى) لأنه كان لا يتكلم إلا بالألغاز. وينسب مثل هذا إلى أبيذقليس. قال القفطي: ومن الفرقة الباطنية من يقول برأيه، وينتمي في ذلك إلى مذهبه - يعنى مذهب الشك في المعاد - ويزعمون أن له رموزاً قلما يوقف عليها وهي في غالب الظن إيهامات منهم هـ.

(جرجا - يتبع)

محمود عزت عرفة

ص: 20

‌5 - القرآن الكريم

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

ويلتحق بزعمه الذي زعم لعرب الجاهلية من نهضة علمية سياسية اجتماعية الخ زعمه أن نشأة علوم العربية كالنحو والبلاغة والعروض قديمة، أي إنها نشأت قبل الإسلام لا بعده وهو يبنى هذا الزعم أيضاً على ما افترض من أن القرآن أثر جاهلي

وفي الحق أن جميع ما ارتأى وما افترض في كتابه هذا متصلاً بالقرآن لا يتسق ولا يستقيم في بحث باحث إلا على فرض أن القرآن من كلام عربي من العرب. وهو لم يصرح بهذا كما صرح بإنكار إعجاز القرآن من ناحية الأسلوب، إلا أن وصفه القرآن بكل ما لا يصدق إلا على نتاج البيئة دليل قاطع في الموضوع

اقرأ له زيادة على ما قدمنا قوله عن القرآن من صفحة 45 (فلننظر إذن أهو كتاب طبيعي، أم هو كتاب مملوء بالزخرف والصنعة المحكمة) وقوله (فمن الواجب أن يترك الباحثون ذلك الميدان الذي أولعوا بالجري فيه وهو عصر الدولة العباسية، وأن يجعلوا ميدان النضال عصر النبوة نفسه، وأن يحدثونا ما هي الصلات الأدبية والاجتماعية التي وصلت إلى العرب من الخارج فأعطت نثرهم تلك القوة وذلك الزخرف اللذين نراهما مجسمين في القرآن. هنالك نعرف بالبحث أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية). فهذا نص لا يقبل شكاً ولا يحمل تأويلاً في أن صاحب الكتاب يرى القرآن من كلام العرب تأثر بما تأثروا أو يصح أن يكونوا تأثروا به من صلات أدبية اجتماعية جاءتهم من الخارج، وأن ما امتلأ به في زعمه من (الزخرف والصنعة المحكمة) ليس طبيعياً كالذي تراه في الزهر والشجر والشفق والسماء، ولكنه مكتسب مجلوب من الخارج! ونسى أنه لم يقل بأن القرآن أثر جاهلي إلا لينفى عن العرب أن يكونوا (أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان)، فهو يسلبهم كل ما أعطاهم، بل يشكك حتى في عبقرية القرآن لو كان من صنع عربي ووضعه، كما ترى من قوله (هنالك نعرف بالبحث أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية). والتقليد هنا ليس هو تقليد عربي لعربي، ولكن تقليد عربي لأعجمي، لأن الصلات الخارجية التي يتساءل عنها في النص السابق هي صلات بين العرب ومن حولهم من

ص: 21

الأعاجم. فتشكيكه في العبقرية وتجويزه التقليد على القرآن قاطع في أنه لا يرى القرآن من كلام واهب العبقرية وفاطر الإنسان، ولكن من كلام بشر مشكوك حتى في عبقريته

وصاحب الكتاب يعرف هذا الرأي من نفسه، ويعرف بعد ما بينه وبين ما عليه المسلمون، كما ترى من قوله بعد ذلك النص (ولكن مثل هذا البحث في رأيي خطر على الباحثين المسلمين في الوقت الحاضر: لأن الرأي العام في مصر والشرق الإسلامي لا يسمح بدرس القرآن درساً تحليلياً يبين ما فيه من العناصر العربية الصميمة والعناصر الدخيلة. والمستشرقون أيضاً لا يهتمون بمثل هذا البحث، لأن أكثرهم مقتنع بأن العرب لم يكن لهم وجود أدبي قبل الإسلام). فإذا صح ما نقله هذا الرجل عن المستشرقين فالمستشرقون أقرب منه إلى الإسلام إذ ليس بينهم وبين الإسلام إلا أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، ويتبعوا النتيجة الحتمية لوجود القرآن مع ما اقتنعوا به من أن العرب لم يكن لهم وجود أدبي قبل الإسلام. أما هو فقد رأيت ما قال

وليس ذلك كل ما قال، فقد قال أيضاً في صفحة 46 (وليس أمامنا أي دليل على أن القرآن متأثر تأثراً محسوساً بآداب أخرى أجنبية وإن كان هذا ممكناً لأن العرب قبل الإسلام كانوا على اتصال قليل أو كثير بمن جاورهم)

وقال أيضاً من صفحة 47 (ويمكن الحكم بأن اللغة الأدبية التي سبقت الإسلام لم تكن تخالف كثيراً لغة القرآن، لأن التطور الكبير الذي ينقل اللغة من أسلوب إلى أسلوب ومن روح إلى روح لا يتم في خمسين سنة مثلاً، وإنما يتطلب مدة طويلة، خصوصاً في أمة بدوية محافظة قليلة الاختراع والتبديل في لغتها وأسلوبها). اقرأ هذا واحكم ما رأى صاحبه في القرآن، أأنزله الخالق معجزة للخلق على الدهر، أم هو من كلام الناس تطور روحه وأسلوبه كما يتطور الروح والأسلوب في كلام البشر؟

ثم اقرأ له من صفحة 51: (وإنما ينبغي أن نعتقد أنه كان لهم أدب قوي متين يقرب في روحه وأسلوبه من روح القرآن وأسلوبه، فإن البيئة واحدة، واللغة واحدة، والعصر واحد) فإذا قرأت له عقب ذلك (ولم يكن محمد إلا بشراً ألهم هداية قومه كما صرح القرآن غير مرة) عرفت أن صاحب الكتاب يرى القرآن من كلام محمد، وعرفت أيضاً أنه يفتري على القرآن فإن القرآن وإن قال إن محمداً بشر لم يقل إنه ألهم هداية قومه، فإن مادة (ألهَم) لم

ص: 22

ترد قط في القرآن

فإذا قرأت له من صفحة 60 (فإن القرآن يسجع أحياناً ولكنه لا يلتزم السجع، لذلك نجا من التكليف والابتذال) عجبت لهذا الكاتب المدعي البصر بالفصاحة والبيان، كيف لم يجد ما يقوله في سجع القرآن إلا أنه نجا من التكلف والابتذال! وهو ثناء يشبه الذم لو أنه قيل في سجع أحد الفصحاء مثل ابن العميد الذي يستحسن صاحب الكتاب سجعاً له كل الاستحسان (صفحة 157)، فكيف به وقد قيل في القرآن

ولعلك لاحظت أنه حين (نجى) القرآن من التكلف والابتذال في السجع رد ذلك إلى أنه يسجع أحياناً، أي إلى قلة السجع لا إلى السجع نفسه. فإذا قرأت له قول من صفحة 65 (ولو تركنا المشكوك فيه من الآثار الجاهلية، وعدنا إلى نص جاهلي لا ريب فيه وهو القرآن، لرأينا السجع إحدى سماته الأساسية) لعجبت لهذا الرجل كيف يكتب. ألم يقل قبل إن القرآن يسجع أحياناً؟ فكيف يجعل السجع الآن إحدى سماته الأساسية؟

ومثل آخر من إنزاله القرآن منزلة كلام البشر قوله من نفس الصفحة (والقرآن نثر جاهلي، كما أوضحنا ذلك من قبل! (والتعجب من عندنا لأنه لم يوضح بأكثر مما قدمنا لك) والسجع فيه يجري على طريقة جاهلية حين يخاطب القلب والوجدان. ولا ينكر متعنت أن القرآن وضع للصلوات والدعوات ومواقف الغناء والخوف والرجاء سوراً مسجوعة تماثل ما كان يرتله المتدينون من النصارى واليهود والوثنيين ولا تنس أن الوثنية كانت ديناً يؤمن به أهله في طاعة وخشوع، وكانت لهم طقوس في هياكلهم. وكانت تلك الطقوس تؤدي على نحو قريب مما يفعل أهل الكتاب من النصارى واليهود)!

أفترى هذا الكلام يحتاج إلى تعليق؟! أم هل تريد كلاماً أوضح وأدل على رأى هذا الأفاك؟ إذن فاقرأ له ما قال بعد ذلك: (والقرآن وضع لأهله صلوات وترنيمات تقرب في صيغتها الفنية مما كان لأهل الكتاب من صلوات وترنيمات، والفرق بين الملتين يرجع إلى المعاني ويكاد ينعدم فيما يتعلق بالصور والأشكال. ذلك بأن الديانات الثلاث الإسلام والنصرانية واليهودية ترجع إلى مهد واحد هو الجزيرة العربية. فاللون الديني واحد، وسورة الأداء تكاد تكون واحدة)! فقد رأيت الآن! لقد صارحك صاحب النثر الفني بذات نفسه، لا عن القرآن فقط وتقليده حتى الوثنيين في الصورة والشكل، ولكن عن الأديان الثلاثة كيف أنها كلها

ص: 23

بنت البيئة، بنت الجزيرة العربية، ولك أنت أن تعلل لماذا أغفل الوثنية فلم يجعلها رابعة البنات!

الرجل بقوله هذا قد وضع بين أيدي الناس المفتاح إلى مذهبه في القرآن والدين، وليس النص السابق فلتة فاتت الرجل، فقد ذكر رأيه في الدين وفي القرآن فيما كتب بعد النثر الفني بما يتفق مع هذا الذي كتب في (النثر الفني) وأين؟ سأخبرك ببعض ذلك، وفي البعض بلاغ

كان الأستاذ أحمد أمين علل فقدان الملاحم والمنظومات الطويلة في الشعر العربي بتقيد الشعراء بعد العصر الجاهلي بقيود الشعر الجاهلي، فرد الدكتور زكي مبارك عليه يقول في صفحة 1393 من العدد 315 من الرسالة (إن عبقرية العرب ليست في القصص وإنما عبقرية العرب في الغناء والتعبير عن الأنفاس الروحية. وفي بلاد العرب نشأت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية؛ فإن امتازت لغات الشرق والغرب بالمنظومات الطويلة في القصص والتاريخ، فقد امتازت لغة العرب بأكرم أثر عرفه الوجود وهو القرآن. وهو حجة اللغة العربية يوم يقوم التفاخر بين اللغات بالأحساب) والأستاذ أحمد أمين كان يتكلم عن أدب العرب مقارناً إياه بأدب غيرهم من الأمم والشعوب؛ فهذا الرد من زكي مبارك لا يصلح رداً إلا أن تكون الديانات الثلاث من وضع العرب؛ وإلا أن يكون القرآن من أدب العرب كذلك

وبعد، فقد كنت أسندت إلى زكي مبارك تهماً ثلاثاً: أنه يدعو إلى نقد القرآن، وأنه ينكر إعجاز القرآن وأنه يكاد يصرح بأن القرآن من كلام البشر، وطلبت إليه أن يتبرأ أو أثبت، فأجاب إني لا أفهم كتابه، وأنه لا يتبرأ منه ولو ذهب معه إلى جهنم الحامية، فكان لابد من الإثبات. وقد فعلت، وإن لم أستقص ما في كتابه وما كتب بعده من دليل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

محمد أحمد الغمراوي

ص: 24

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

551 -

ومخبر النساء بعد المنظر

عيّرت امرأة حكيما بقبح المنظر. فقال لها: يا هذه، إن منظر الرجال بعد المخبر، ومخبر النساء بعد المنظر. . .

552 -

ثلاثون خاتما وثلاثون عكازاً

في (تاريخ بغداد للخطيب: قال عبد الله بن محمد بن شهاب: كان لخلف بن عمرو العكبري ثلاثون خاتماً وثلاثون عكازاً، يلبس كل يوم خاتماً وعكازاً طول شهره. فإذا جاء الشهر المقبل استأنف لبسها. وكان له سوط معلق، فقلت له: ما هذا؟ فقال: ما روى: (علق سوطك يرهبك عيالك)؟ وكان ظريفاً. . .

553 -

خطبة في الصلح

في (محاضرات الراغب): خطب رجل في الصلح، فقال: أما بعد، فإن الصلح بقاء الآجال وحفظ الأموال، والسلام

554 -

عجائب

في (الأغاني): أحمد بن الطيب السرخسي: حضرت مجلس محمد بن علي بن طاهر، وحضرته مغنية (يقال لها شنين) مشهورة فغنت (قول دعبل):

لا تعجبي يا سلمَ، من رجل

ضحك المشيبُ برأسه فبكى

ثم غنت بعده (والشعر لدعبل):

لقد عجبتْ سلمى وذاك عجيب

رأت بي شيباً عجّلته خطوبُ

فقلت لها ما أكثر تعجب سلمى هذه! فعلمت أني أعبث بها لأسمع جوابها، فقالت متمثلة غير متوقفة ولا متفكرة:

فُهلكُ الفتى ألاّ يَراحَ إلى نَدًى

وألاَّ يرى شيئاً عجيباً فيعجبا

فعجبت والله من جوابها وحدته وسرعته، وقلت لمن حضر: والله لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيراً منه مستظرفاً

ص: 25

555 -

اخترت استعمال الصواب فيك

في تاريخ بغداد للخطيب: قال قال المأمون لأبي حفص عمر بن الأزرق الكرماني: أريدك للوزارة

قال: لا أصلح لها يا أمير المؤمنين

قال: ترفع نفسك عنها

قال: ومن رفع نفسه عن الوزارة، ولكني قلت هذا رافعاً لها وواضعاً لنفسي عنها

قال المأمون: إنّا نعرف موضع الكفاة الثقات المتقدمين من الرجال، ولكن دولتنا منكوسة، إن قومناها بالراجحين انتقصت، وإن أيدناها بالناقصين استقامت؛ ولذلك اخترت استعمال الصواب فيك. . .

556 -

أفتانا به الإمام أبو اسحق

قال محب الدين بن النجار في تاريخه: قال شعيب بن الحسين القاضي أنشدني الشيخ أبو اسحق الشيرازي هذين البيتين لنفسه:

جاء الربيع وحسنُ وردهْ

ومضى الشتاء وقبح بردهْ

فاشرب على وجه الحبيب

ووجنتيه وحسن خدهْ

ثم بعد مدة كنت جالساً عنده فذكر بين يديه أن هذين البيتين أنشدا عند القاضي عين الدولة حاكم صور (بلدة على ساحل بحر الروم) فقال لغلامه: أحضر ذاك الشان فقد أفتانا به الإمام أبو اسحق. فبكى الشيخ الشيرازي، ودعا على نفسه، وقال: ليتني لم أقل هذين البيتين! ثم قال لي: كيف تردهما من أفواه الناس؟ فقلت: يا سيدي، هيهات! قد سارت بهما الركبان

ص: 26

‌نحو أدب قومي

الوادي المقدس

للأستاذ سيد قطب

على ضفافِ الخلودْ

وفي شِعابِ الزمنْ

والدهر يحبُو وليدْ

قد كان هذا الوطنْ

يا فجرُ مَنْ ذا رآكْ

تجولُ تلكَ السماءْ

وليسَ حَيٌّ سِواك

تُهدِي إليه الضياءْ؟

رأتْك تلك الضِّفافْ

رأتكَ تلك البُرورْ

رأتْك قبل المطافْ

وأنتَ طفلٌ غريرْ

وشبتَ والدهر شابْ

وحنِّكَتْك الحياةْ

والنيلُ بادي الشبابْ

والزهر يَقْفو خُطاهْ

ينسابُ مثل النَّغَمْ

في عزف نايِ طروبْ

وكانسيابِ الحُلُمْ

تُضْفِي عليه الغيوب

خريرهُ صَلَواتْ

معطّرَاتُ النشيدْ

وموجُهُ أُغنياتْ

مرتَّلاتُ القصيدْ

يا نيل كم من شِراعْ

يا نيل كم من سَفينْ

أسْلَمْتَها للوداعْ

على مدار السَّنِين

يا نيل كم من جموع

ماجَت بتلك الضفاف

يا نيل كم من زروع

وذِي وذِي للقطاف

وأنتَ صِنوُ الخلود

وفي يدْيك الزِّمام

وكل عام تعود

مُجدَّدَ الأيام

تجرى فتجرمي الحياة

ويُمْرِعُ الشاطئان

ويستفيقُ الرُّعاة

وتمرح القُطْعان

ويَنْشطُ الزرزور

يجمْع العيدان

لِعشه المعْمُور

بفرخه الوسنان

ص: 27

أكادُ خلفَ القرون

أحس رِكْزَ الجموع

أراهُمُ مُهطعين

في موكب للربيع

قد شمروا للحصاد

وخَلَّفوا أمشير

في فرحة الأولاد

تسابقوا للبكُور

وموكب للرَّواح

في كل يوم يؤوب

يزُّفه الفلاح

على مدار الغروب

من الحقول المَرِيعه

إلى الحمى والديار

تضم فيه الطبيعة

أبناءها الأبرار

لُحُونُه من صياح

ومن رُغاءِ النَّعَم

ومن رجيع النُّبَاح

ومن ثُغاءِ الغنمْ

على مدار القرون

يسير فيه الرُّعاة

كأنهم خالدون

ما بُدِّلُوا في الحياة

أحبُّ فيكَ الخلود

يأيُّها الوادي

أحبُّ فيكَ الصمود

للْقاهر العَادي

تَصبُّ فيكَ الوفود

وأنت يقظانُ ساهر

تصوغهم من جديد

كأنما أنت ساحر

يا مهبط الأسرار

من الغيوب العميقة

يا موطن الأسحار

من القرون السحيقة

تأوي إليك الزمان

خوف البِلَى والفناءْ

يأوي لحصن الأمان

فيستمدُّ البقاء

ووجهك الفتان

بِلونه الأسمر

يا طالما يزدان

بزرعك الأخضر!

ترنُو له عيناي

في فتنة العاشق

يا أرض يا دنياي

يا آية الخالق

يا أرض كم تحلمين

بالزهر أحلام شاعر

ص: 28

رُؤاكِ طولَ السنين

يا أرض، تلك الأزاهر

وريحك المعروف

يشمه أنفي

في خاطري مألوف

مميزُ العَرفْ

يا أرض، هذا الصعيد

مقدس في ضميري

سرى عليه الجدود

وأخلدوا للقبور

يكاد فرطُ الحنين

إليهمُ في شعوري

يردهم شاخصين

إلىَّ خلف الدهور

يا أرض سرٌّ دفين

مُغَّيبٌ في ثراك

يَرُدُّنا موثقين

إليكِ أسرَى هواكِ

هذا الثرى المنثور

في صفحة الوادي

عرفته في الضمير

رفات أجدادي

يا أرض. هذا النشيد

من وحيك العبقريِّ

فَاقْضي له بالوجود

بسرَّك القُدُسِيِّ

(حلوان)

سيد قطب

ص: 29

‌البريد الأدبي

7 -

الشعر الجديد

يلحق بالشعر الجديد ما يدعونه اليوم (الشعر المنثور). ويكاد النوعان يتطابقان في جميع المظاهر والخصائص التي ألممت بها في هذه الأحاديث. وغالب ما قرأت من (المنثور) منشأ إنشاء؛ ومنه ما هو مترجم. وما يستجاد من هذا أو ذاك لا يكاد يذكر

ولقد كنت أحسب بادي الرأي أن رحب (المنثور) وانفساح جنباته، وأنَّه غير منحصر في وزن أو قافية - مما يأذن لسلامة التعبير ومتانة الأداء. ولكني وجدت الحال هي الحال. فإن كان لهم شئ مما يزعمون من المقدرة، فهنا مجاله. وإلا فأين نتلمس (نضارة الزهر، وعبق الريحان، وفتنة الألوان)؟

وعلى ذكر (القافية) يعن مظهر آخر - سوى ما أسلفنا - من مظاهر (الشعر الجديد): ذلك هو قلق القوافي فيه ونبوها، حتى إنك لتحس أنها تحشر حشراً، وتساق سوقاً، وتضغط في أماكنها ضغطاً، فتأتي واهنة خائرة، أو باردة فاترة

ورصانة القافية تنبئ بالفحولة ورسوخ القدم. وقديماً اعتبرها النقاد من أسس الموازنة، ومقومات المقايسة بين الشعراء. وقد عنى بها (العروضّيون) فبسطوا فيها القول، ونسقوا لها القواعد، وأفردوها بالتأليف؛ حتى وصلوا من ذلك إلى تفصيلات دقيقة، وتفريعات عجيبة. وذلك لمكانتها من القصيد، وأثرها في النفوس، متى اكتملت فيها شرائط الحسن، واستحكمت لها أصول الفن

ولسنا بصدد طرق هذا الباب؛ وإنما نريد أن نقول لهؤلاء النظامين: رويدكم؛ فإن الأمر ليس من الهون كما تظنون؛ فإحكام القافية وإنزالها منزلتها، مما يتطلب تحصيلاً عظيماً، وحسا مرهفاً، ومعاناة طويلة للجزل من الكلام، والمحكم من القريض

فلا غرو إذا أن ندرك سر تبرم القوم بالقوافي فقد تواترت اليوم صيحات تدعو إلى (كسر هذا القيد، وخلع ذلك النير). قالوا: وما للتقفية والشعر؟ لئن كانت التقفية سبيل القدماء ومنبت عصورهم، لخير لنا في عصرنا هذا أن نطرحها، لنكون في التفكير أكثر سداداً، وفي الخيال أبعد مرمى، ولنكون سراعاً ككل شئ

قالوا هذا، وقالوا كثيراً غيره، وأوغلوا في الاحتجاج، فأصبحنا نرى من القصائد ما لا تقفية

ص: 30

له مطلقاً، وما نوعت فيه التقفية على أوضاع وأشكال شتى، وصور لا تكاد تنحصر

فالسر - فيما أرى - ليس فيما زعموا. وإنما السر كل السر فيما يقوم في سبيل التقفية - ولا سيما إن طالت في القصيدة - من عقبات، وما يعترض من شدائد. فكيف النجاة إلا فيما يتمحّلون وما يفتعلون من أسباب؟

وبينما أنا أهم باختتام هذه الكلمة، إذ خطر لي حوار كان بين أديبين - منذ قريب - حول ما يسمى (الشعر المهموس) وهو ما يمكن أن تتسع له أحاديثنا هذه. وكان في نفسي منه شئ. وهو فن ابتدع حديثاً، فيما أظن

ولقد كنت جهدت في تبين مدلول (الهمس) في ذاك الحوار، مستأنساً باللغة، فلم أوفق كل التوفيق. فانصرفت إلى الشعر الذي ساقاه للتصوير، وتأملته وأمعنت فيه

وكان أحد المنافسين يتعصب لشعراء (المهجر) أشد التعصب ويقدمهم في هذا الباب، وينكر على المصريين - فيما أذكر - استعدادهم فيه. وساق كل من المتناظرين مقطوعات مختلفة. وطال النقاش

إلا أني لم أتذوق في الشعر المصري مذاقاً خاصاً، لم ألمح فيه لوناً أو طعماً خاصاً - أما الشعر المهجري فكان من صفته الوَنَى والفتور والتهافت، وإن حاول الأستاذ - جاهداً - أن يحمله من المعاني ما لا يحتمل، وأن يعتصر منه ما ليس فيه. ولقد عجبت من هذا الاختيار، وفي (المهجر) شعراء ذوو مكانة سامية، ولهم فن مستملح، وتجديد عذب

فليت شعري ما (الهمس) في الشعر وما مرماه؟

(للحديث بقية)

(ا. ع)

كتابة الإسبانية بالحروف العربية

أورد حضرة الأستاذ الجليل (ن) في العدد 562 من الرسالة خبراً حول كتابة اللسان الإسباني بالحروف العربية استحدثه من أستاذنا الدكتور باول كراوس

وكأني بكثير من الناس لا يعرفون عن هذه الحقيقة التاريخية إلا اليسير؛ لذلك أحببت أن أقدم إلى أصدقاء (الرسالة) لمحة سريعة عن الظروف التي أحاطت بهذه الكتابة راجياً أن

ص: 31

تتاح لي الفرصة للتحدث عن أدب المورسكيين الذي كان جله يكتب بالحروف العربية

بعد أن استرد الإسبانيان غرناطة - آخر معقل لدولة الإسلام في الأندلس - ظل كثير من المسلمين يعيش في كنف الدولة الجديدة المنتصرة. ولكن سرعان ما اشتدت وطأة محاكم التفتيش عليهم، فحملوا - أمام هذا الضغط - على استعمال اللغة الأعجمية في حياتهم الاجتماعية. ولم يكن في وسعهم حينئذ أن يكتبوها بالحروف اللاتينية؛ فلجأوا إلى حروف لغتهم العربية

وفي سنة 1609 أقصى المورسكيون عن إسبانيا واندثرت لغتهم التي استحدثوها، فقضى بذلك على آخر مظهر من مظاهر الأدب الإسلامي في الأندلس

والأدب الأعجمي ككل أدب، له ناحيتان: النثر، ويتمثل في كتب الدين والشريعة وسير الرسل والشعر، وقد نظمت به المدائح النبوية وقصة يوسف

وهاهي ذي بعض الأبيات من قصة يوسف نظمها باللغة الأعجمية شاعر مجهول عاش في القرن الثالث عشر والرابع عشر:

حديث دا يوسف عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

لُوَ مياْ نتُ أدَ الُّله أَلَلْتُ يَاشْ إبارْ دَادَار

أُنْرَّدُ إقُنْبِلِدُ شاُّنرْ دَارَايتُرَارُ

ثم يسترسل في ذكر الصفات الإلهية حتى يصل إلى قول يوسف لأبيه:

أكاشْتُ فُوَا كابِيُ أُنْزَ أشْترَالَّشْ

كامرَّشْ لفَرَّارَ تَيايَ كُنَالَّشْ

كاْلشُلْ إَللُنَ أَرَكا أَنْدَبَ أَنْتَرَالَّشْ

ومعناه: (إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)

ولا تزال خزائن المورسكيين مدفونة لم يكشف في القرن التاسع عشر إلا على القليل منها. ولعل في استخراجها من مدافنها ما يوضح مدى النشاط الفكري الذي بلغه هؤلاء القوم المعذبون.

أحمد مدينة

ص: 32

البيت الذي يعدل ألف بيت

قرأنا في العدد الأخير من (الرسالة) رأي الأستاذ دريني خشبة في بيت للدكتور إبراهيم ناجي وهو يعدله بألف بيت من جيد الشعر

ونحن نرى أن البيت الذي يعدل ألف بيت من جيد الشعر هو بيت الرئيس أبي منصور علي بن الحسن (صردر):

ناضلننا بنوافذ مسمومة

وودت لو قبلت سهم الرامي

من قصيدته:

يا ماء (لينة) لو نفعت أوامى

كانت حياضك لي كؤوس مدام

أما البيت:

ومن عجب أحنو على السهم غائراً

ويسألني قلبي متى يرجع الرامي

فيعدل بيتاً واحداً، لأنه مأخوذ عن الرئيس أبي منصور بتصرف

محمد علي خليل

بقايا نغم

نشر الأستاذ محمود حسن إسماعيل قصيدة في العدد الماضي من (الرسالة) الغراء بهذا العنوان ورد فيها ما يأتي:

وفيها أنت يا ليلايْ

سلوٌ يانعٌ لبكايْ

وفجر رائع لدجايْ

وخلد سامع لغِنايْ

يعللني ويوحيني

أما أنت ياليلاي سلو يانع لبكاي، فهذا كلام جميل وإن كان السلو لا يوصف بأنه يانع، وأما قوله (يعللني ويوحيني)، فذلك خطأ محض إذ ليس من اللغة الصحيحة أن أقول (يوحيني) بمعنى (يوحى إلى أو لي) ولو قال (يحييني) لكفى نفسه هذا الاضطرار الذي أوقعه في خطأ واضح

هذا وللأستاذ تقديري وثنائي على أي حال.

عبد القادر محمود

ص: 33

(كتاب الفلاحون) والدكتور غلاب

طالبنا الدكتور غلاب بالأدلة على جور الأب عيروط أحياناً وعلى ركاكة أسلوب الترجمة، فإليه بعض هذه الأمثلة بلا تعليق:

1 -

جاء في ص 158: إن الشدة القرآنية تلين أمام الضرورة والتقاليد

2 -

وجاء في الصفحة نفسها: إن جرائم القتل بسبب العرض التي هي لا تزال مألوفة إلى حد كبير والتي هي مجندة من الإسلام، إن لم تكن من أوضاعه تلقى رحمة العدالة الرسمية (أي في المحاكم!)

3 -

وجاء في ص 160: أن الأم التي تلد تلحقها نجاسة شرعية مدة (أو إبان كما يقول السيد غلاب) أربعين يوماً إن كان المولود ولداً أو ثلاثين إن كان بنتاً!

4 -

وفي ص 161 يقول بعد أن شنع كثيراً على عادة إطالة مدة الرضاع: ونحن نشاهد نفس هذا التعيين في مدة الرضاع عند قدماء المصريين وفي أفريقيا السوداء وفي أوامر القرآن!

5 -

وجاء في ص 125: إن الفلاحين يقومون بطقوس الصلاة بعد الوضوء مساء!. ويوم الجمعة مرات عديدة! وأنهم يصلون جماعة، أو على الأقل يصورون هيكل حركات الصلاة!

6 -

وفي ص 133: (إن النساء الباكيات على الميت (يؤنين الإله على دعوته إياه!) ويسائلن الميت وزوجته وأولاده بل والموت نفسه) وينتهي الكلام بلا معنى عند هذه العبارة! فعم التساؤل؟

7 -

وفي ص 124: ينفى عن الفلاحات ملاحظة شئ من قواعد الإسلام حتى الشهادتين أو الصوم أو الزكاة

8 -

وفي ص 156: رمى الفلاحات المصريات جميعاً بالعهر والدعارة وعدم الصون!

9 -

وفي ص 18 يتهم الفلاحين بأنهم يقدسون الحيوان، كما كان يصنع قدماء المصريين!

10 -

وفي ص 125: إن المسلمين لا يفهمون عربية القرآن الأدبية!

فهذه عشرة مآخذ من عشرين أعددناها في مقال أشفقت (الرسالة) من نشره. فهل يأبى

ص: 34

المترجم إلا أن نزيد؟! وهل يرضيه هذا اللون المكشوف من النقد؟ أما ركاكة الأسلوب فالكتاب كله شاهد على ذلك، وفي نشر شئ منه تضييع لوقت القراء

(د. خ)

ص: 35

‌القصص

عمي حسن

للأستاذ نجيب محفوظ

رحماك اللهم! ماذا فعلت؟. . . أين جلدي وأين رشادي؟. . . وكيف أداري خجلي حيال هذه الشعيرات المحترقة؟. . . وكيف أستمع لنجوى هذا الرأس الكبير الذي ظل - ستة وأربعين عاماً - ملتقى لتجارب الحياة، يحتفظ منها بما يشاء ويعتبر بما يشاء؟!. . . فهل حقاً خانني البصر وهل حقاً خانتني الإرادة؟. . . أو إن عمق إحساسي بالخجل والخيبة هو الذي كبر الهفوة لناظري وضاعف من أثرها في شعوري؟. . . والحق أني لم آت أمراً أشذ به عن سنة الطبيعة، بل لو كنت ذا فطنة لأيقنت من زمن طويل أنه ما من هذا المصير مفر. . . ألم ألق في مرتع الحسن الصبيح والشباب النضير أشهد نضجه واستواءه؟. . . فمن أين كانت لي قوة أصد بها نزوع القلب عن أن يجني من حصاد الهوى ما يروى به غلة فؤاد أضناه الترمل وعناه التوق إلى الأليف

وقد عرفت (فيفي) وهي في المهد بعد أن نورت الدنيا بأسبوع واحد، وكنت في ذاك الوقت في الثلاثين وأنتظر مولودا أيضاً. وأذكر أني كنت أوصى زوجي - ضاحكاً - أن تكثر من النظر إلى وجه طفلة جيراننا عل مولودنا المنتظر يقبس من روائها حسناً. ولم يكن يفصل بين الشقتين سوى ردهة قصيرة فجعلت الصغيرة - حين دعاها الداعي إلى تعلم الحبو والمشي - تقطعها حبواً ومشياً، فنمت رويداً رويداً تحت سمعي وبصري، لها منتهى ودي وحبي وحناني، بل لكأنها ما كانت تتحرك وتنمو إلا بالحرارة التي يسكبها حبي على قلبها الصغير. وزاد هذا الحب وتضاعف حين ابتلاني الدهر فسلبني زوجي ثم ابني الصغير، فعلقتها بجنون ووجدت فيها سلوه وعزاء. وأحبتها أختي - وكانت تقيم معي - فصرنا لها أباً وأماً. كان حسبي أن أنظر في عينيها الخضراوين أو أعابث شعرها الكستنائي أو ألبي نداءها فرحاً مسروراً إذا نادت (عمي حسن)، وكان أبوها يضاحكني فيقول:(ما عرفت كفيفي طفلة تحب عمها أكثر من أبيها!)

فيفي الصغيرة تلك هي التي أحببت فيها بعد حباً غير الحب الأبوي الأول. وإني لأتساءل متحيراً متى أحببتها هذا الحب الجديد؟ أو كيف تحول حناني إلى عاطفة قوية وشغف

ص: 36

جنوني وهيام حق؟. . هل تولد فجأة ذاك اليوم الرهيب الذي لا ينسى؟ هذا بعيد. ففي مثل حالتي لا يأتي الحب فجأة؛ بل كيف أقول فجأة وقد ترعرعت عمرها السعيد البالغ ستة عشر عاماً بين يدي وفي متناول أنفاسي! إنما يمكن أن يقال إن بذرته ذرت في فؤادي منذ استوى العود الغض وارتوى بماء الشباب، وامتلأ الصدر والخدان بالأنوثة، وومض في العينيين بريق الفتنة والملاحة، فلم أعد أرى طفلة تلثغ باسمي أو تلهو بسلسلة ساعتي، ولكن شابة حسناء ريا الشباب ناضرة الحسن تنفث الفتنة والهيام. هنالك بهرني الحسن وملأني الإعجاب. وكنت كلما دب دبيب الفتنة في قلبي تعوذت بالله وأنكرت مشاعري. ثم جفلت من مداعبتها، فلم أعد أربت على خدها أو أعابث ذؤاباتها، وهمت في أجواء من الغموض واللهفة والشوق المكتوم والحيرة القاتلة والشغف والخوف، ولولا أني ممن يندر أن يفكروا في أنفسهم أو ينظروا في باطنهم لفطنت إلى حالي، ولكني رحت أقنع نفسي بأن ما انتابني من اضطراب ما هو إلا أثر من إعجابي بالأنوثة الناضجة يتحد في قلبي بحبي الطاهر القديم. هكذا خادعت نفسي. على أني لم ألبث أن صحت يوماً وقد بلغت بي الوحشة حد الجنون - وكانت غابت أسبوعاً في بيت جدها - (رباه إن الحياة لا طعم لها بدون فيفي واعتراني شجن وكمد ووجوم

وجاء يوم فرأيت قلبي على ضوء الشمس الساطع وبرح الخفاء، وكنت أعبر فناء البيت إلى الطريق، وكانت فيفي تلهو كمحبوب عادتها بركوب الدراجة في الفناء. فلما رأتني مقبلاً اتجهت نحوي بدراجتها في رشاقة حتى صارت على بعد أذرع مني ثم رفعت يمناها تحييني، فاختل توازنها، واضطربت بها الدراجة فهرعت نحوها حتى حاذيتها، فاعتمدت بيسراها على كتفي الأيسر متفادية السقوط، ونظرت إليها مؤنباً فطالعتني بعينين ضاحكتين، وقد شدت راحتها على كتفي وأنغرست ركبتها في قلبي ولم أسترد نظرتي فأدمت إليها النظر وقد لانت أساريري. ثم ما لبثت أن ابتلعني تيار عارم من الوجد والهيام فوددت بكل ما أوتيت من قوة وشغف لو ضممتها إلى قلبي. وجعل هذا القلب ينتفض كان ركبتها مفتاح كهربائي يسلط على شعافه تياراً عنيفاً هكذا انقطع الشك وبرح الخفاء. وبعد لحظات كنت ماضياً في طريقي وقد انشغلت عن الدنيا جميعاً، فلم أعد أشعر إلا بنفسي التي نبضت بحياة جديدة كدوامة ثائرة، فأثملني طرب دفين، ولكن لم يزايلني شعور بالتبعة

ص: 37

والخوف والحزن. وجعلت أتساءل (إلى أين تمضي بي يا قلبي؟) نعم إلى أين؟. . . فهذا طريق غير مأمون العثار، فأين مني خطى الشباب وقلوب الفتيان؟. . . وهل أنا إلا (عم حسن) فماذا يقول والداها العزيزان لو علما بما جد في قلبي؟. . . كيف يريان جارهما الرزين الوقور وقد انقلب عاشقاً ولهان؟. . . بل مالي أثقل على قلبي بالتردد والمخاوف، فلأقل مع قلبي إن هذا الحب شئ طبيعي لا غرابة فيه، وإنه لن يكون الأول أو الأخير من نوعه؛ بل سأفرض أن جاري العزيز بارك بعطفه ما يختلج في صدري، فكيف لي بعد ذلك أن أحولها من ابنة إلى زوجة! وكيف أجعلها تنظر إلى عمها حسن فترى فيه حبيبها حسن؟ وضاق صدري والتهب جبيني وذكرت الصلعة اللامعة التي أتوج بها هامتي، والشيب الذي يحرق فؤادي، وثلاث أسنان قد قلعت، وسنة جديدة قد نغضت، فأكملت مسيري ممتلئاً شجناً وكآبه.

ولكن هل ارعويت؟. . . كلا. . . ففي اليوم الثاني جاءتنا إلى البيت خفيفة نشيطة كعادتها - وكانت أختي تصلي العصر - فأقبلت نحوي وجلست إلى جانبي يتألق ثغرها بالابتسام، فأحدث مجيئها شفاء لما كنت أكابد من أوجاع الانتظار، وهيج أسقاماً أنكي من هاتيك الأوجاع وأمر. وجدتنا منفردين فخلت أني أنفرد بها لأول مرة، وداخلني اضطراب وقلق وهيام. ولم تكن أول مرة تخلو إلي وأخلو بها، ولكن أجدت لي الخلوة هذه المرة شعوراً لا عهد لي به، ووجدت في أعماق نفسي حسيس أمنية يهمس لي لو تخلو لنا الدنيا كما تخلو هذه الحجرة!. . . لو تخلو فلا أخت ولا أب ولا أم ولا مخلوق سواها وسواي. هنالك تؤاتيني شجاعتي وتنجاب عني الوساوس وتنحسر عن ناظري غشاوة القنوط. . . فمن لي بأن أطير بها إلى تلك الدنيا المقفرة؟. . . وحولت إليها عيني فرأيت المرح والبراءة، فثبتهما على وجهها المحبوب. وما كان أسعدني رجلاً في تلك اللحظة لو جثوت - أنا والأعوام التي أحملها على عاتقي - عند قدميها الصغيرتين مادا راحة راغب ضارع. . . وشعرت بتحديق عيني فرشقتهما بنظرة صافية حتى أحسست الأرض تميد بي، وتعمدت ما وسعتني الحيلة أن أجعل لنظرتي معنى جديداً غير ما عهدت، وأن أحمل عيني رسالة من أعماق الفؤاد لأجذبها من عالمها البريء إلى دنيا آمالي وأحلامي. ولكن هل أدركت شيئاً؟. . . هل بلغت الرسالة؟. . . أما لو كان ذلك كذلك لتولاها الارتباك وخضبها الخجل. . .

ص: 38

فهل تعثرت في الارتباك أو غض من طرفها الحياء؟ اختلط على عيني الأبصار والتوهم واصطرع في مجال إحساسي قوى الإدراك ونوازع الأمل. وعطفت رأسها عني برشاقتها الحلوة فاستقر بصري على خدها الوردي. وفي نشوتي وهيامي تجمعت وثبة الحياة الجارية في كياني في رغبة واحدة لا تقاوم. . . أن ألثم هذا الخد. وهوى عنقي نحوها في ذهول الوجد فلثمتها! والتفتت نحوي كالفزعة. ثم ضحكت ضحكة عالية ملأ رنينها أذني ومشاعري جميعاً؛ ثم طوقت عنقي بذراعيها وقبلتني في خدي! هل نلت المرام؟. رباه! كانت قبلة اقشعر لسريان برودتها جسدي، فجمد دمي في عروقي، وسكت قلبي عن الخفقان، واحترق وجهي خجلاً. كانت الطفلة المرحة البريئة تقبل عمها حسن، وكان مثلي كمثل مجنون عاد إليه رشاده فجأة فوجد نفسه متجرداً وسط قوم عقلاء. ألا ما أبعد الشقة بين الأفعال والنيات! ألم تلتفت إلى في رشاقة الغزلان؟ ألم تطوق عنقي بذراعيها؟ ألم تطبع على خدي قبلة؟ ولكن أين من هذا كله الحب والولع؟! وشق على الخجل وشقت على الخيبة، وبينما راحت هي، وكأنها نسيت كل شئ، تروى لي ما شاهدت في السينما أمس، جعلت أحادث نفسي: رحماك اللهم! ماذا فعلت؟ أين جلدي وأين رشادي؟ وتساءلت محزوناً: ألا يجمل بي أن أشد الرحال إلى بيت غير هذا الحي؟!

نجيب محفوظ

ص: 39