الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 567
- بتاريخ: 15 - 05 - 1944
ردود وحدود
للأستاذ عباس محمود العقاد
تناول الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك موضوع الفردية والاجتماعية في مقال آخر بمجلة الثقافة فانتهى منه إلى قوله:
(. . . ومجال القول في هذا الموضوع فسيح، ولفظ الفردية والاجتماعية يطلق على معان كثيرة ينشأ بسببها الخلاف بين الكتاب الأفرنج والعرب على السواء. فالفردية التي عنيتها في مقالي السابق هي الأنانية أو الأثرة، والاجتماعية هي الغيرية والإيثار. ولا شك أن الأستاذين معي بعد هذا التحديد في أن الرقي الأخلاقي والاجتماعي سائر نحو الاجتماعية لا الفردية. فمن أسباب رقي الغربيين على الشرقيين وعيهم الاجتماعي أو بعبارة أخرى شعورهم بوطنهم وأمتهم بجانب شعورهم بشخصهم. ومن هذا الوعي نظمت الجمعيات والنقابات، وبذلت الدماء في الحروب دفاعاً عن الوطن. . .)
ثم استطرد قائلاً: (على أن الفردية قد تطلق أيضاً على نوع النظام الحكومي الذي يتمتع به الفرد بحريته وملكيته وتجارته وما إلى ذلك من غير أن تتدخل الحكومة في شأنه إلا عند الضرورة القصوى، وضده الاجتماعية أو الاشتراكية، وفي هذا المعنى أيضاً أخالف الأستاذين، وأزعم أن العالم سائر إلى الاشتراكية على نحو ما، ومصداق ذلك أن أعظم الأمم الفردية كإنجلترا أو أمريكا تصطبغ نظمها من حين لآخر بما يقربها من الاشتراكية، فتتدخل في تنظيم الاقتصاد وتأخذ من الغني لتعطي الفقير)
وأحسب أننا متفقون بعد هذا في أكثر مراحل الطريق: فنحن نعيب أدب الأنانية المحدودة كما يعيبه الأستاذ، وهو على ما نرى يوافقنا على أن الأدب المحض مطلوب غير معيب، وكل منا يقدر الفائدة الاجتماعية ويحب أن يكون للأديب سهم كبير فيها
وإنما الخلاف على ما يظهر في تقدير الدرجات
فنحن نعطي الدرجة الكبرى للأدب المحض ونقول إنه يخدم المجتمع ولا يستغني المجتمع عنه بحال من الأحوال، لأن التعبير عن خوالج النفس علامة صحية يدل وجودها على سلامة البنية الاجتماعية، كما يدل فقدها على نقص أو عطب في تلك البنية. وليس على الأديب حرج أن يكتفي بالأدب المحض الذي يقترن بتلك السلامة؛ لأنه إذا أهمله لم يقم به
أحد غيره. أما البحث في شئون المعيشة ومسائل الأسعار والموارد والأجور فهو بحث يحسنه الاقتصادي والسياسي وكاتب الصحف الخاصة إذا قصر فيه الأدباء
ولكن الأستاذ أحمد أمين يعطي الدرجة الكبرى للأدب الذي يبحث في تلك الشئون، ويرى أن تاريخ الإنسان يتقدم من الفردية إلى الحاسة الاجتماعية أو الوعي الاجتماعي الموكل بمسائل المعيشة وما إليها، ويستدل على ذلك بأمم الغرب واصطباغ النظم الإنجليزية والأمريكية بصبغة تقربها من الاشتراكية وفي هذا نحن مختلفون
لأننا نرى أن العبرة التي خرجنا بها من الحرب بين الأمم المتحاربة هي عبرة (الحرية الفردية) في مقاومة الدعوة العنصرية التي يمحى فيها الأفراد
فقد تبين حتى الساعة من مجرى الحرب العالمية أن أقوى الأمم دفاعاً عن نفسها هي الأمم التي تبلغ فيها الحرية الفردية مداها، أو هي الأمم التي تعترف للفرد بحقوقه في جانب حقوق الدولة فالأمم العنصرية - وهي النازية والفاشية - قد استعدت كل الاستعداد للحرب فلم تبلغ من غايتها بعض ما بلغته الأمم الديمقراطية على قلة استعدادها في بداية أمرها. وهذا مع نكران الفرد الشديد في الأمم العنصرية، ومطالبتهم كل فرد في الدولة بالفناء في مشيئة الأمة كما يمثلها حكامها المطلقون
فالصراع القائم اليوم هو أصدق امتحان للفردية في مكافحتها للعنصرية العمياء التي تمحو حقوق الأفراد
أما أن الأمم الديمقراطية (تصبغ نظمها اليوم بصبغة تقربها من الاشتراكية وتأخذ من الغني لتعطي الفقير) فهذا في اعتقادنا أكبر تسليم للفردية من قبل العنصرية، وأكبر انتصار لحقوق الفرد إلى جانب حقوق الدولة
فمعنى هذا كله أن الفرد يجب أن يعرف جزاءه على خدمة وطنه، وأن نسيان حقوق الفرد في إبان الصراع القومي أمر غير عادل وغير مشكور، إذ الوطن الحقيق بالدفاع عنه هو الوطن الذي ينصف فيه الأفراد من جميع الطبقات ولا يظلمون
ونقابل بين هذا وبين (السخرة الوطنية) في الحروب الماضية فنرى جلياً أن (الحقوق الفردية) هي التي انتصرت في الحرب الحاضرة إلى جانب الحقوق الدولية، وأن تاريخ الإنسان متجه لا مراء إلى تعظيم حرية الفرد وحقوق الفرد وترجيح المجتمع على المجتمع
بمقدار ما يتفاضلان في تلك الحرية وتلك الحقوق
وتقرير هذه الحقيقة مهم فيما نرى لمصلحة الدعوة التي يدعو إليها الأستاذ أحمد أمين. إذ نحن خلقاء أن نعرف الآن هل نحن محتاجون إلى مطالبة الدولة برعاية حق الفرد أو محتاجون إلى مطالبة الفرد بحق الدولة؟ وهل التقصير الآن آت من الفرد في رعاية الحقوق القومية أو من الأمم في رعاية الحقوق الفردية؟
ويبدو لنا أن الأستاذ أحمد أمين يطالب الأمم برعاية حقوق الأفراد، فهو إذن أقرب إلينا أو نحن إذن متقاربون
وسبيلنا إذن أن نعظم إحساس الفرد بحريته وحقوقه وديونه على المجتمع حين يطالب بديونه عليه
ولا خسارة في هذا على الأمم ولا على الأفراد
ولعلم الكلام نصيبه في مناقشاتنا اليوم مع نصيب علم الاجتماع أو فلسفة الآداب والفنون
فقد كتب إلينا الأديب الدمياطي الأستاذ طاهر أبو فاشا يعقب على ما نقلناه عن المعري في بعض فصولنا الحديثة إذ نقول: (ونستبعد التخيل الذي ينتظر المذياع ورسائل البرق وركائب الهواء ونكاد نجزم أن أبا العلاء لم يذكر السماع من بعيد والانتقال في لمح البصر وسريان النار مئات الفراسخ إلا ليقول إنها مستحيل من المستحيلات الكثيرة التي تتعلق بها قدرة الله كما يتعلق بها وضع الجسمين في مكان واحد، وهو أبعد الإحالات في أقوال الفلاسفة ومنهم أبو العلاء الذي لا يخلو أسلوبه من الأغراب والتبسط حين يتحدث إلى غير الفلاسفة من الفقهاء)
وقرأنا في مجلة (دمياط) تعقيباً يشبه تعقيب الأديب الدمياطي جاء فيه: (إن قدرة الله يستحيل أن تتعلق بالمستحيل - إلا العادي طبعاً - لأنها إن تعلقت به فإما أن تتعلق به لتوجده أو لتعدمه. فإن كان الأول فهو يستحيل لأنه لو وجد المستحيل لما كان مستحيلاً، ولا نقلب واجباً أو جائزاً كما يقول إخواننا علماء الكلام، وإن كان الثاني فهو مستحيل أيضاً لأنه معدوم بنفسه ولزم تحصيل الحاصل كما يقول المتكلمون)
وتعقيبنا على هذا التعقيب أن مراجعة كلامنا مرة أخرى تغني عنه، لأننا (أولاً) لم نكن نتكلم عن رأينا بل عن رأي العرب في رسالة بعينها و (ثانياً) لم ننس أن الفلاسفة - ومنهم
أبو العلاء - يقولون إن وضع الجسمين في مكان واحد أبعد الإحالات و (ثالثاً) حرصنا بأن المعري يكتب بأسلوب الأغراب والتبسط حين يتحدث إلى الفقهاء. أي إنه يعني غير ما يقول، وأن رأيه الصحيح غير رأيه في هذه الرسالة بعينها.
ومذهبنا نحن بعد أن (إمكان ما لا يمكن) شئ لا يقبله عقل الإنسان
ولكن الإنسان قد يحكم باستحالة أمر وهو مخطئ في حكمه لبطلان الأسباب التي يبني عليها الاستحالة
ومثال ذلك من كان يؤمن بأن الأرض مسطحة تحدها آفاق السماء، فإنك لو قلت له: هل يمكن أن يذهب الإنسان غرباً ويعود شرقاً لقال لك على اليقين إنه مستحيل وليس في الإمكان
ولكنه مخطئ في فهم الاستحالة، لأن الأرض ليست مسطحة محدودة بآفاق مطبقة عليها. بل هي كرة مستديرة تذهب إلى مغربها فتعود من مشرقها، كما يحدث هذا كل آونة في هذه الأيام
وكذلك وضع الجسمين في مكان. فإن استحالته قائمة على أن الفضاء ثلاثة أبعاد، فإذا ثبت أن الفضاء أربعة أبعاد أو خمسة أو ستة تحيط بالأجسام من غير جوانبها المحسوسة، أو إذا ثبت قول أينشتين إن الزمان بعدٌ رابع يحيط بالأجسام في التقاءات كثيرة، فهنالك يتغير النظر إلى استحالة وضع الجسمين في مكان واحد، ويصح أن (يكون فيها قولان) على لسان الجادين لا على لسان الهازلين في فض المشكلات!
وللنحو نصيبه كذلك مع نصيب علم الكلام أو علم الاجتماع وفلسفة الآداب والفنون
فقد ظهر من العراق خازن آخر من أولئك الخزنة الواهمين الذين يحسبون أنهم قابضون على مفاتيح اللغة جميعاً ليفتحوا ويغلقوا ويصرفوا ويمنعوا ويقولوا بما يجوز وما لا يجوز وما يقال وما لا يقال، وليس لهم من محصول اللغة ما ينغلق عليه قفل واحد!
فهذا الخازن الواهم يقول في خلط كثير (إن المقابلة بين الكفتين) لا يجوز، ومثل هذا لا يرد عليه. وكفى
ويقول وهو يرد علينا: (احتج أولاً بالمراوحة أو الروح لا من الرواح ثم وثب إلى التراوح. وفي كليهما كان مسقطاً في القول واهماً، وهذه عاقبة من يخطئ الصواب ويريد
الخلاص من الإفراد بالخطأ، فالمراوحة عمل فاعل واحد والترواح عمل فاعلين أو أكثر منهما. فالاختلاف واحد لا يتراوح وحده، وكذلك لا يقال هذا الشيء لا يتساوى ولا يتماثل ولا يتشابه) إلى آخر هذا اللغط العجيب
وجوابنا على (لا يقال) هذه بسيط جداً، وهو بل يقال ويقال ويقال، ولا يقال غيره في هذا المعنى، وإليه المثال
فيقال مثلاً: (لا يتساوى القمر في ليلتين وقد تتساوى الشمس في برجين)
ويقال مثلاً: (لا يتشابه الرجل في عمرين، وقد يتشابه العمر في رجلين)
ويقال على هذا المثال: (لا يتماثل المرض في الإنسان والحيوان، وقد يتماثل في الإنسان)
ويقال أيضاً: (لا يتراوح الاختلاف بين عصرين، ولكنه قد يتراوح بين يومين أو سنتين)
ويقال تقاضيا وتقاضاه، وتجاوبا وتجاوب الصدى أو تجاوب المكان بالأصوات، وتراميا وترامى السحاب، وتدانيا وتدانى منه، وغير ذلك كثير مما فيه قصد المفاعلة وليس فيه قصد التعاقب والترقي
وليعلم ذلك الخازن الواهم بعد هذا أن الاختلاف مفرد ولكنه يدل على جميع المختلفين، فإذا قلنا تراوح الاختلاف فهو القياس كما يقول تراوح المختلفون وتقاتل الناس وتباينت الأمم وتعانق الأصحاب، ولا نهاية لما يقال من هذا القبيل
أفيقال هذا إذن أو لا يقال يأيها الجواد، بلغة العامة لا بلغة الضاد؟ يقال ويقال، وإن استطعت فقل خيراً منه في معناه، وما أنت بمستطيع.
عباس محمود العقاد
الغناء
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
أنا (والله) لست من علماء (الغناء) ولا من التلامذة فيه؛ ولا أغشى اليوم دوره حتى أسمعه، ولست عراقياً ولست حجازياً. . . (فما أشرب ولا أطرب. . .)
ولو كنت هناك لتمثلت بقول محمد جار الله رحمه الله:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّلى
…
من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طرباً لحل عويصة
…
أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها
…
أحلى من الدوكاه والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها
…
نقرى لألقى الرمل عن أوراقي
وما روايتي قول الحسن البصري في السماع - وقد نظمه ابن عبد ربه في عقده - وسائر ما أرويه في (نقل الأديب) إلا زلفى، تزلف إلى هذه اللغة التي شاء الله أن أكتب في ديوان خدامها ووسيلة لتحبيها إلى بنيها في هذا الزمان العجيب. فلما اطلعت في الرسالة الغراء (563) على مكتوب الفاضل السيد عبد العزيز الرفاعي في (مكة المكرمة) في الحجاز موطن الغناء في القديم ودار محلليه، خفت أن أجيب، فأخطئ ولا أصيب. وأنا في البحث فيما أعرفه المعرفة الصالحة وجل القلب، فكيف تكون حالي في الذي أجهله؟ فليس لي - وقد قلت الحق - إلا اتباع هدى الله والعمل بقوله تعالى في (النحل والأنبياء):(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
رحت إلى ابن عبد ربه وقلت له: أنت رويت قول الحسن في كتابك (العقد) - واسمه اليوم العقد الفريد - فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه ويؤاسى أخاه؟ فتلقيت منه هذا الكلام:
(إن الصوت الحسن يسرى في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمي له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات. . . وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الرحم والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرقق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويتمثله في ضميره. . . وبعد
فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب. . . من الصوت الحسن. . . وهل على الأرض رعديد مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخر سرجه
…
هل أنت من شرك المنية ناج؟!
إلا ثاب إليه روحه، وقوى قلبه؟ أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غنى بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة
…
إن الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه؟ أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد النازح ماذا
…
بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
…
بالعيش من بعده ولا انتفعا
إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه؟. . .)
وناقشت صاحب (العقد) في التحليل والتحريم فقال لي: عِ هذا الخبر:
(قال إبراهيم بن سعد الزهري قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء.
قلت: من أمتعه الله بخزيته!
قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه
قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ ولو سمعت مالكاً يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. . .)
وجيت إلى ابن خلدون وفاتحته بما قصدته لأجله، فمما أملاه على:
(إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل معها الصعب. . . ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة. . . لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة)
وقلت في نفسي: (الحكمة ضالة المؤمن) فغدوت إلى أصحاب (رسائل إخوان الصفاء) واسترأيتهم - طلبت رأيهم - في الغناء، فمن جواباتهم:
(من الألحان والنغمات ما تسكن سورة الغضب، ويحل الأحقاد، ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة. فمن ذلك ما يحكى أنه في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان وكان بينهما ضغن قديم، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد، والتهبت نيران الغضب، وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهراً في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن ثورة الغضب عنهما، وقاما فتعانقا وتصالحا. ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى (المخزن) وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت وتبكي العيون وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر، إصلاح الضمائر. وكانوا قد استخرجوا لحناً آخر يقال له (المشجع) كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب، يكسب النفس شجاعة وإقداماً. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات يخفف ألم الأسقام عن المريض. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند المصائب والأحزان يغرى النفوس ويسكن الحزن. واستخرجوا لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبنائون وأصحاب المراكب يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس. ولكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها لا يستلذها غيرهم مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات. . .)
وقد وجدت عند صاحب كتاب (إنسان العيون) المعروف بالسيرة الحلبية هذه المقالة وهي جديرة بالرواية:
(قد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار. . . ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع. وعن أبي بشر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكر عليهم. وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر. وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه (صلوات الله وسلامه عليه) بالأصوات الطيبة مع الدف ويغيره. وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف، ولو فيه جلاجل، لما هو سبب لإظهار السرور)
تلكم أقوال جماعة في الغناء، وحيا الله أخانا الفاضل المكي وحيا ربعه، وحيا مواطن عظيمة كريمة بهر الدنيا منها ذلك الضياء!
قيس ولبنى
مسرحية الأستاذ الشاعر عزيز أباظه بك
للأستاذ دريني خشبة
خرج من منزله بظاهر المدينة لبعض شأنه، فمر بخيام لبنى كعب فاستسقى، فبرزت إليه بالماء ابنة شيخ القبيلة، وسيد الحي، الحباب الكلبي، فما كذب أن سبقت القطرة الأولى التي أطفأت حر ظمئه، النظرة الأولى التي أشعلت دمه، وأججت في فؤاده ذلك الهوى المبرح، والتي أصابت روحه بهذا الظمأ، بل بذاك السعار. . . إلى العيون النجل، والفم الباسم، والوجه المغازل، والقد الفاره، والصبا المجتمع، والجمال الفينان!
ومضى قيس وقد أبرمت عيناه وعينا لبنى الوثيقة المقدسة بين قلبيها الخاليين، في تلك السرعة الخاطفة التي لا تكون إلا بين العيون والعيون!
ثم تعدد اللقاء، وصرح الحب، وغنت البيد بالهزج الحلو الذي كان يرسله قيس من أعماق قلبه شعراً موجعاً حزيناً
ومضى قيس إلى أبيه، ذريح بن ليث بن بكر، فباح له بحب لبنى وسأله أن يخطبها عليه، فأشاح ذريح، وأشار على ولده بخطبة إحدى بنات عمه، فهن أولى به. . . وكان ذريح ذا مال واسع وثراء ضخم، ولم يكن له ولد غير قيس، فخشي أن يدخل في ماله ناس ليسوا من أهله. فانطلق قيس إلى أمه يستعين بها على أبيه؛ غير أنه كان كالمستعين على الرمضاء بالنار، فانطلق إلى أخيه في الرضاع، الحسين بن علي، وكان معه ابن أبي عتيق، فشكا إليهما بثه، فطمأنه الحسين، وانطلقا به إلى الحباب والد لبنى فخطباها منه على قيس، فنسى الرجل تقاليد البادية إكراماً لفخر شباب الجنة، وإجلالاً لابن بنت رسول الله، ولم يشترط شيئاً إلا أن يسعى إليه ذريح والد قيس لتمام الخطبة، حتى لا تكون فضيحة من جراء ما رددته كثبان الجزيرة من أشعار قيس. . . ولم ير الحسين فيما طلب الحباب تعسفاً، فمضى إلى ذريح فأقسم عليه إلا أن يخطب لبنى على ابنه قيس، فخضع الرجل ولان عاصيه، وتمت الخطبة، وزفت لبنى إلى حبيبها. . . وأوى الألف إلى إلفه، ورقأ الدمع وسكن الوجيب، وتهلل وجه الحياة
وغبرت سنون. . . ثم كان ما لم يخش أحد أن يكون! لقد أحزن ذريحا ونغص عليه عيشه،
أن لبنى عقيم لا تلد. . . لقد أرسل الرجل عينيه في ظلمات المستقبل الكريه، فرأى ثروته الواسعة تؤول إلى أيد من غير صلبه، فأقسم ليكونن له من قيس ولبنى موقف، وليكونن له في هذا البلاء رأى ومنه مخرج!. . . وإذن فلتبن لبنى. . . وليتزوج قيس فتاة غيرها ولوداً غير عقيم. . . ولتكن الحياة في دار ذريح من أجل هذا جحيماً لا تحتمل، وليشن ذريح وزوجه الحرب الداخلية على قيس وزوجه، وليتهماه بالتقصير والعقوق والانشغال عنهما بلبناه، وليطلبا إليه تطليق لبنى على مسمع منها، فإن أبي فليتسر، وليتخذ من الإماء من يضمن له الولد، فإن أبي فليسلط عليه ذريح عذاباً لا قبل له به
. . . وقد رفض قيس كل هذه الحلول. . . فكان ذريح يخرج وقت الظهيرة فيعرض رأسه للنار التي تصبها الشمس، فإذا رآه قيس أقبل عليه ووقف يظله حتى يفئ الفيء فينصرف. ولما طال هذا الأمر، وكان ذريح يستعين على قلب قيس بدموعه كي يطلق لبنى، ضعف هذا القلب، وفي ساعة من ساعات الذهول أرسل قيس كلمة الطلاق التي كان يشترطها ذريح ليريحه من هذا العذاب الذي استمر عاماً بأكمله!
ولم يلبث قيس أن ذهب بعقله، وانقلبت الحياة في بيت ذريح مأساة لا تطاق. . . ولما انقضت عدة لبنى، أقبل أبوها وأهلها لاحتمالها. . . وحيل بين قيس وبين الإلمام بخبائها فهام على وجهه. . . ثم اتبع رحلها مليا. . . وهنا يقول صاحب الأغاني: وعلم أن أباها سيمنعه، فوقف ينظر إليها ويبكي، حتى غابوا، فكر راجعاً، ونظر إلى خف بعيرها، فانكب عليه يقبله ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها!)
ولم يلم قيس على ما أصابه إلا نفسه
وأشار عليه أبوه بالتقلب في أحياء العرب عسى أن يجد فتاة تسلبه أو تنسيه، فأبى أولاً. . . ثم فعل. . . ورأى فتاة حسناء فسألها عن اسمها فأجابت:(لبنى!) فخر مغشياً عليه، ولما أفاق عرض عليه أخوها الصهر، فقبل بعد طول امتناع. . . فلما زفت إليه زوجه الجديدة لم ينظر إليها ولم يهش لها ولم يدن منها ولا خاطبها بحرف!. . . وأخبره صديق له أن لبنى حينما علمت بزواجه بعدها غمها ذلك وقالت:(إنه لغدار، ولقد كنت أمتنع عن إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم!)
ولم يفتأ قيس يشبب بلبنى ويرسل نفسه في إثرها حسرات يؤجج بها شعراء الحزين الباكي
حتى اضطر الحباب إلى أن يشكوه إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، فكتب معاوية إلى نائبه بالحجاز يهدر دم قيس إن تعرض للبنى، وأمر أباها أن يزوجها رجلاً من كندة، فزوجها من كثير بن الصلت
وتلهي قيس بالاتجار في الإبل، وذهب بقطعة منها إلى المدينة فلقيه زوج لبنى ووقف يشتري منه ناقة وهو لا يعرفه، وذكر له أن يأتي إلى دار كثير بن الصلت ليقبض الثمن إذا أصبح. وذهب كثير إلى منزله، وأمر أن تعد لبنى غداء يتناوله مع أحد أضيافه. . . فلما كان الغد، وأقبل قيس، وصوت بالخادم لتخبر سيدها أن صاحب الناقة بالباب، سمعته لبنى وعرفته، فلما دخل لقيته، وكشفت قناعها، فبهت ساعة لا يتكلم، ثم نشج نشيجاً مؤلماً، واستخرط في البكاء، وانصرف من فوره محزوناً محطماً. . . وأرسلت وراءه لبنى من يسأله فيم تزوج، فقال: أقسم ما اكتحلت عيني بالمرأة التي تزوجتها ولو رأيتها ما عرفتها ولا مددت إليها يداً ولا كلمتها ولا كشفت لها عن ثوب! فكانت إجابة جددت هوى لبنى وفجرت قديم حبها!
وسافر قيس إلى الشام ليلقى معاوية، فلقيه ابنه يزيد فشكا إليه حاله، فرثي يزيد له، وأزال ما كان كتب أبوه من إهدار دمه
وأكثر الرواة بعد ذلك على أن قيساً ولبنى قد توفيا مفترقين. وذكرت قلةٌ أن ابن عتيق قد توسل إلى كثير، زوج لبنى، بالحسن والحسين وجماعة من أهل البيت في حاجة لم يذكرها له حتى وعد أن يقضيها مما له من ملك أو مال أو أهل، فقال ابن أبي عتيق: إذن تهب لي لبنى زوجتك وتطلقها! ففعل كثير، واستحيا الحسن والحسين ومن معهما لأن ابن أبي عتيق لم يطلعهم من ذلك على شئ من قبل. . . وأبقى ابن أبي عتيق لبنى عنده حتى قضت عدتها، ثم زوجها قيساً، فنعما بما كان لهما من سابق حب وسعادة حتى ماتا!
فهذه إذن قصة قيس ولبنى كما أوردها أبو فرج في الأغاني، لخصناها على هذا النحو المضغوط، لنقابل بينها وبين تلك القصة الشعرية الجميلة التي نظمها الشاعر الكبير المتفنن عزيز أباظة، للمسرح المصري أولاً، وليزيد بها في ثروة الأدب العربي، وليساهم في تجديد هذا الأدب أولاً وقبل كل شئ!
فماذا صنع هذا الشاعر الكبير بتلك القصة الفريدة؟ ومن أي نقاطها آثر أن يبتدئ، وعند أي
طرفيها آثر أن ينتهي؟ وأي قدر من التوفيق أصاب في تقسيم فصولها، وتوزيع المناظر على تلك الفصول، وبعث الحياة والحركة في مناظرها بتعدد مشاهدها المختلفة؟ وماذا من رواية أبي الفرج آثر أن يثبت، وأن يحذف؟ وهل وفق كل التوفيق في كل ما أثبت وكل ما حذف؟ وماذا ابتدع من المناظر الجديدة التي ليست من صلب الرواية الأصبهانية؟ ولغة التمثيلية وفرق ما بينها وبين لغة قيس ومن إلى قيس من عرب الحجاز قبل ثلاثة عشر قرناً. . .
كل هذه أسئلة ينبغي أن تجد أجوبتها في المقارنة بين قصتي مؤلف الأغاني والشاعر المصري؛ ونعجل فنقول إنها أجوبة سترفع رأس الأدب العربي الحديث، وستفتح أعين الشعراء العرب عامة، والشعراء المصريين بوجه خاص، على كنز من الكنوز التي نفتقدها في آدابنا، والتي لن يعمر ديوان من دواويننا إلا إذا شمل شيئاً منها أو مما يشبهها من الشعر القصصي الطويل. هذا كلام لن نفتأ نردده، وسوف نردده ما ترددت أنفاسنا
ألف الشاعر درامته فجعلها في خمسة فصول:
1 -
فالفصل الأول يتألف من ستة مشاهد، ويتضمن وفود ابن أبي عتيق من قبل الحسين بن علي الحباب، أبي لبنى، ومعه قيس وذريح، لخطبة لبنى، فتتم الخطبة ويزول ما بين الحيين من البغضاء التي سببتها أشعار قيس في التشبيب بلبنى
2 -
ويتألف الفصل الثاني من خمسة مشاهد، ويبدأ بعد زواج قيس من لبنى بخمس سنوات، ويكون قيس مريضاً أو متماثلاً للشفاء، ويتضمن مخاصمة ذريح وزوجه لقيس ولبنى، وطلب ذريح تطليق لبنى أو ضم زوجة ثانية إليها أو تسرى قيس ببعض الإماء. . . وتكون حجة ذريح وزوجه انصراف ولدهما عنهما بسبب لبنى، ثم يصرح الرجل بالحقيقة وهي عقم لبنى. ويرفض قيس جميع ما عرض عليه وينتهي الفصل بذلك. . . دون أن سلم علام استقر الرأي:
3 -
أما الفصل الثالث فيتألف من منظرين، أولهما قصير ويتألف من مشهد واحد، ونسمع فيه إلى راع يتغنى ببعض شعر لقيس، ثم نرى قيساً يناجي نفسه، ثم يناجي المغنى، ونعلم أنه طلق لبنى، وأنه لا يلوم إلا نفسه لما أصابه بسبب ذلك من وجد وحزن ولوعة
ويتألف المنظر الثاني من ثلاثة مشاهد، ويتضمن منظر ارتحال لبنى بعد قضاء عدتها في
بيت ذريح، وما كان من محاولة قيس الإلمام بخيامها، وما أوشك عمله هذا أن يحدث من قتال بينه وبين فتيان الحباب لولا تدخل أبي لبنى. . . وتبدو لبنى فجأة فيرتجف قيس. . . ثم يمضي بها الركب بين حنين قيس وأنينه. . .
4 -
ويتألف الفصل الرابع من خمسة مشاهد، ويتضمن عفو أمير المؤمنين عن قيس، ومنحه الحرية يغدو ويروح كيف يشاء، وهياج آل الحباب لذلك، كما يتضمن زواج قيس، وحزن لبنى لهذا الخبر، مما يؤكد ما كان لا يزال في قلبها من إعزاز لقيس، ثم تقدم مالك، بن عم لبنى، لخطبتها، وكان يحبها من قبل، ثم تمام هذه الخطبة، ورضاء لبنى بها بعد الذي عرفته من زواج قيس
5 -
أما الفصل الخامس، أو الفصل الأخير، فيتكون من منظرين، يتألف أولهما من أربعة مشاهد، ويتضمن لقاء مشحباً بين قيس بن ذريح، وقيس بن الملوح، أو مجنون بني عامر، وفيه عتاب بين القيسين، ثم إعتاب؛ ثم يقبل ابن أبي عتيق - حبيب المحبين، والسفير بين المغرمين، باحثاً عن المجنون فيغتبط بلقاء المجنونين! ثم يجوز بالوادي كثير زوج لبنى فيرى إبلاً وأينقا هي إبل قيس وأينقة قد عرضها للبيع، فيكلمه في مهر، فيبيعه له وهو لا يعرفه، على أن يقبض الثمن غداة غد في منزل كثير. . . ويذهب الجميع بعد انصراف كثير إلى خيمة ابن أبي عتيق ليسمروا ثمة
أما المنظر الثاني فيتألف من مشهد واحد طويل، ويتضمن ذهاب قيس والمجنون وابن أبي عتيق إلى دار كثير - زوج لبنى - ليقبض ثمن المهر. فيكون ثمة لقاء مشج عنيف بين قيس ولبنى. . . لقاء مفاجئ تتفجر فيه العواطف، وتذوب فيه روح قيس وقبله فيغشى عليه، وتحمل لبنى إليه الماء الذي يسعف به، فإذا أفيق، كان عتب وكان عذل. . . يقبل في إثره كثير، فتقدم إليه لبنى أضيافه كلا منهم باسمه، حتى إذا بلغت قيساً عرفه كثير قبل أن تذكر منهم باسمه. . . ثم يتدخل ابن أبي عتيق فلا يزال يعمى على كثير ويكني، ثم ينتهي إلى تأكيد ما بين قلبي قيس ولبنى من عقود وعهود، مع وفائها لزوجها الثاني، حتى ينتهي إلى أن يطلب من كثير أن يخير لبنى بينه وبين قيس. . . فإذا أثنت عليه لبنى وقالت كلاماً يفهم منه محبتها لقيس. . . أرسل الكلمة الهائلة. . . وتم تسريحها. . . ثم ينبض القلبان الحبيبان بالأغنية القديمة الخالدة.
(يتبع)
دريني خشبة
وليم شيكسبير
هل كان ملكا؟
للأستاذ حسين غنام
(ولد شيكسبير في أبريل عام 1564، وتوفى في أبريل عام 1616؛ وفي ذكر ميلاده وموته نكتب هذا الكلمة الطريفة تحية للشاعر العظيم في قبره)
توطئة
ظلت المسرحيات الخالدة المنسوبة إلى وليم شيكسبير، شغل العلماء والأدباء والباحثين، قرابة قرن من الزمان، في ناحية واحدة، لأن العالم شغل بها منذ أن وجدت، من نواحيها الأخرى
فلم يكن شاغلهم هذا القرن إذن هو قوتها الخارقة، فلا يختلف اثنان في عبقرية كاتبها وقوته التي لا تجاري، والذي يقدم على بحثها يتهيبها قبل الإقدام على دراستها وفهمها، وشيكسبير علم: أي مادة قائمة بذاتها تدرس في المدارس الإنجليزية جميعاً، ابتدائيها وعاليها
حتى فن (السينما)، على ما بلغه من شأو عظيم في الإخراج والحيل الخارقة للطبيعة نفسها، يتهيب الإقدام على هذه المسرحيات لإعدادها للسينما، وقد أخرجت السينما روايتين من مسرحياته، هما: حلم ليلة صيف، وروميو وجولييت. وقد بلغت الأخيرة من الجودة والإتقان في الإخراج حدا كبيراً. أما حلم نصف الليلة فقد سقطت في الإخراج، ولهذا ينظر فن السينما إلى أعمال شيكسبير خجلاً!
وهاتان المسرحيتان ليستا من أحسن أعمال شيكسبير، فماذا تكون النتيجة لو أقدم فن السينما على إخراج بعض مسرحياته الممتازة مثل مكبث، والملك لير، وعطيل، وسمبلين، ويوليوس قيصر، والعاصفة، وكما تريد؟
خذ مثلاً كاتباً مسرحياً آخر، هو برناردشو، فقد اعترف بنفسه أن فيلم (بجماليون) المأخوذ عن مسرحيته التي تحمل هذا الاسم، بلغ درجة من النجاح لم تبلغها المسرحية على المسرح. . .
وقل مثل هذا في فيلم (ميجور باربارا) المأخوذ عن مسرحيته بهذا الاسم، فقد نجح نجاحاً
كبيراً. . .
وقد عادت (السينما) إلى أعمال شيكسبير في محاولة أخرى، هي مسرحية هنري الخامس، تخرجها بالألوان الطبيعية، وهي محاولة جدية عساها تنجح!
أما أن أعمال شيكسبير شغلت العلماء والباحثين قرابة قرن من الزمان، فلم يكن مبعثها قوتها وعظمتها، ولكنه البحث في حقيقة كاتبها ومنشئها، وهل هو الممثل المغمور وليم شيكسبير، أم
هو شخص غيره؟
وقد ظهرت كتب عديدة في هذا الموضوع، إلى جانب المئات والمئات من الكتب التي تبحث هذه الأعمال وتشرحها وتحلل عبقرية شيكسيبر. . . وعلى الرغم من قيام هذه الحرب التي تكاد تستنفد جهود الشعوب جميعاً، أفراداً وجماعات، بمن فيهم من علماء وأدباء وشعراء وصحافيين، فإن الكتابة عن شيكسيبر لم تنقطع عاماً واحداً. . . ومن الكتب التي ظهرت عنه أخيراً - في نحو عام سابق من هذا التاريخ - كتاب للأستاذ هسكث بيرسون عن حياة شيكسيبر، وقد قال عنه برناردشو إنه عمل طيب لم يقرأ له نظيراً في التراجم القديمة التي وصفت عن المترجم له العظيم. . .
وكتاب ثان بقلم الدكتور تليارد عنوانه صورة عالم اليزابث، وآخر بعنوان طوالع فولستاف للأستاذ دوفر وليم
والكتاب الثاني يختص شيكسبير بالقسم الأكبر منه، في كلامه عن تأثير الأدب في العالم، وعمل الكتاب والأدباء والشعراء في سبيل الإنسانية والحضارة
أما الثالث فهو يدافع عن شيكسبير من الناحية الإنسانية فيما صور به هنري الرابع في تخليه عن صديقه فولستاف، ويدافع عن إنسانية شيكسبير المتطرفة وحبه للخير العميم، ضد آراء موريس مورجان. . .
وكتاب رابع بقلم إديت ستول عنوانه مفكرة شاعر، وهو يبحث في نظم سيكسبير وقوته على التعبير البعيد البليغ
وكتاب خامس، وهو موضع حديثنا في هذا المقال، وهو من الكتب الكثيرة التي شغلت الباحثين قرناً من الزمان في تلك الناحية الواحدة، والتي يتلخص بحث العلماء والأدباء في
محاولاتهم ومجادلاتهم منها في: هل هذه المسرحيات كتبت بقلم شيكسبير أم بقلم فرنسيس بيكون وكيل الملكة اليزابث، وظلت تنسب إلى شيكسبير مئات من السنين؟
الكتاب الجديد
هذه المسألة حيرت عديداً من العلماء والأدباء. . .
وهذا الكتاب آخر ما ظهر عن هذا الموضوع، وقد وضعه الأديب الأمريكي المعروف إدوارد مورجان، الذي توفر على دراسة شيكسبير مدة عشرين عاماً متوالية، وخرج من هذه الدراسة بنظرية جديدة إذا صحت قلبت تاريخ شيكسبير ومسرحياته رأساً على عقب، بل غيرت كثيراً من تاريخ إنجلترا المتوسط
وقد سببت هذه النظرية الجديدة حيرة جديدة، واستحدثت حدثاً ضخماً في تاريخ الأدب الإنجليزي. وقبل أن نتكلم عن هذا الكتاب ونناقشه يجب أن نضع أمامنا ما قاله أحد نقاد الإنجليز أخيراً بصدد الكتب التي تخرجها المطبعة عن شيكسبير وأعماله:(إن الكتب التي توضع عن شيكسبير شتيت مختلف، فبعضها دون، وبعضها جنون، على أن غالبيتها تحدث عن الناقد نفسه لا عن شيكسبير وأعماله، ولكنها جهود مشكورة على أية حال!)
يدعى مورجان أن الإجابة الصحيحة لكل المحاولات والمناظرات والبحوث السابقة يتلخص فيما يلي من الحقائق التي ضمنها كتابه، ونحن نأتي على بعضها ونناقشه فيما يلي:
1 -
هل مات إدوارد السادس صغيراً؟
يقول مرجان إن فرنسيس بيكون كتب المسرحيات المعزوة إلى شيكسبير، ولكن بيكون كان في نفس الوقت، هو ملك إنجلترا إدوارد السادس الحقيقي!
فالمعروف في تاريخ إنجلترا أن هذا الملك المعجزة، الخارق الذكاء، مات فجأة وهو فتى في السادسة عشرة من عمره. ولكن مورجان، على ذلك، يدعي أن ادوارد الصغير لم يمت في هذه الباكرة ولكنه اختفى فجأة اختفاء غامضاً مريباً
2 -
الرسالة الخفية
يعلم كل الأدباء الذين درسوا شيكسبير جيداً، أن هناك دلائل وقرائن تثبت أن مؤلف روايات شيكسبير حاول أن يحمل أعماله رسالة خفية بين سطورها. . .
ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أن شيكسبير حاول أن يلمح إلى أنه بيكون نفسه تجابههم هذا الحقيقة: لماذا كان بيكون، وهو ذو الشخصية القوية الممتازة في البلاط، والقاضي الفاضل رفيع الشأن والفيلسوف العظيم، يحاول، أو يرغب في إخفاء حقيقة شخصيته، ويمنح الخلود لممثل وضيع مجهول اسمه شيكسبير؟
هذه المسألة المعقولة تهلهل ما نسجه هؤلاء الذين يقولون أن شيكسبير هو بيكون. فقد كان من السهل على بيكون أن يكشف عن نفسه كمؤلف لتلك المسرحيات وهو ما تقدم من تلك المكانة الأدبية، لو لم يكن في المسألة سر أعظم من هذا وأمر أشد خطراً. . . يبدو لنا من النقطة التالية. . .
3 -
هل كان الملك وكيل الملكة؟
وهذا الرأي المعقول يؤيد وجهة نظر مورجان تأييداً قوياً. فهو يعتقد أن فرنيس بيكون كان أكثر من كاتب متحجب. لقد كان شخصية متحجبة أيضاً؛ فهو شخص فر من الجلوس على عرش خطير، محاط بالدسائس والمؤمرات، إذ لم يجرؤ على الكشف عن شخصيته الحقيقية خوفاً من (نصف أخته) القوية، إليزابث، التي نصبت على عرش إنجلترا عام 1558، حتى لا تقتله
ويعتقد مورجان أن اليزابث عرفت أن وكيلها في الملك، فرنسيس بيكون، كان ابن والدها نفسه، هنري الثامن، من زوجته الثانية جين سيمور، وإنه سيكون - تبعاً لذلك - خطراً شديداً على عرشها، إذا طالب به
ولكن، هل هناك سبب معقول يجعلنا نعتقد أن هذا الغلام، صار قادراً فيما بعد من سنيه المتأخرة، على أن يكتب هذه الأعمال التي نحلها وليم شيكسبير؟
بالتأكيد هناك سبب معقول!
كان هذا الملك، وهو طفل صغير، مشهوراً في البلاط أنه طفل عجيب معجز، مفرط في الذكاء والقوة العقلية، حتى سموه سليمان الثاني!
فقد كان وهو في السابعة من عمره، شاعراً ورساماً، وقد حذق اللغة اللاتينية حذقاً تاماً. . .
ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان يترجم اللغة اللاتينية! ويحتمل بل يرجح، أنه اتفق مع (نصف أخته) أي أخته من أبيه، الملكة اليزابث، على أن يكتب أعماله الأخرى تحت اسم
فرنسيس بيكون. . . ومن الناحية الثانية، باستعماله اسم الممثل المجهول شيكسبير لمسرحياته. . . ولا يكون بذلك خطراً على عرش (نصف أخته) حتى في تلميحاته الخفية بين سطور كتاباته فماذا يكون دخل هذا الممثل المجهول المدعو شيكسبير في عرش إنجلترا، وما هي علاقته به؟
في عام 1553، أعلن أن إدوارد الصغير مات فتربعت على عرش إنجلترا اللادي جين جراي، ولكنها قتلت بعد تسعة أيام من حكمها. وعندئذ حكمت ماري تيودور مدة قصيرة، ثم خلفتها اليزابث عام 1558
وكانت هذه الفترة من التاريخ الإنجليزي فترة دموية من دسائس ودماء
وإذا كان إدوارد حياً، ومختفياً كان لديه من الأسباب ما يجعله يخشى على حياته إذا ظهر وطالب العرش فآثر السلامة الشخصية على العرش
على أن اختفاءه المفاجئ، وإن ظل سراً مكتوباً، جعل كثيرين من الناس يشكون في أنه مات حقاً
ويقول مورجان. إن الأوراق الرسمية في سنة 1599 تثبت أن عدداً كبيراً من الناس ألقى عليهم القبض، لأنهم أعلنوا أن إدوارد السادس حي لم يمت. وكان حينئذ عمره يقرب من الستين عاماً. . .
وكثير من الكتاب والشعراء لمحوا في كتاباته إلى أن الملك الصغير إدوارد لم يمت، فهذا الشاعر (مايكل دريتون) يقول من قصيدة:
(إن الملك إدوارد السادس، المفضور في حياته القصيرة، (مع الربية في هذا) ولكنه ترك المملكة)
4 -
في منزل بيكون
ويستمر مورجان في كلامه فيقول ثانياً:
إن هناك برهاناً آخر، وهو أن المنزل القديم، الذي كان يعيش فيه بيكون، في سانت البان، كان مكتوباً على باب الحجرة الخاصة التي ينام فيها أسماء جميع الملوك الإنجليز من وليم الفاتح إلى جيمس الأول الذي ارتقى العرش بعد الملكة اليزابث. وبين اسمي اليزابث وجيمس يوجد اسم آخر يكاد يكون مطموساً ولكنه يبدأ بحرف. . . وهو أول حرف من
اسم إدوارد
ومن المحتمل جداً أن يكون بيكون في نزوة تهكمية ساخرة كتب اسم إدوارد هناك، وهو يعني به نفسه!
5 -
طغراء
وهنا يذكر مورجان برهاناً قوياً على صدق نظرياته. ويبدو معقولاً إلى حد بعيد. . . يدلل به على أن شيكسبير وبيكون، لم يكونا غير شخص واحد هو إدوارد السادس. . .
وهذا هو البرهان:
في بعض مسرحيات شيكسبير توجد هذه الطغراء. . .
فالأولى نعني الحرف الأول من إدوارد، والحرفان السادس
والثانية تعني إدوارد ركس
والثالثة تعني إدوارد تيودور
وهذه الطغراء نفسها وجدت بالذات في بعض أعمال فرنسيس بيكون
6 -
القرد في اللحية
ويلفت مورجان أنظارنا إلى صورة زيتية لفرنسيس بيكون، وجدت في كتابه المعروف
فإذا قلبت هذا الرسم وجعلت رأسه إلى أسفل، وجدت في لحية الرسم الغربية شكلا لوجه قرد!
وتذكر سجلات التاريخ أن إدوارد السادس كان مغرماً بقرد يعتز به إلى درجة بعيدة، وكان هذا القرد يجلس دائماً على كتف نديم هذا الملك. . . كهذا الرسم:
7 -
نقش في الخشب
ودليل أخر. . .
فقد وجد كتاب اسمه بقلم مؤلف مجهول باسم هنري بتشام، ويظهر في هذا الكتاب رسم عليه نقش في الخشب يحمل هاتين الكلمتين اللاتينيتين ومعناها ساكون مرئياً في العقول، ولكن الغريب في أمر هذا النقش أن نقطة وضعت وضعاً شاذاً بين الكلمتين، لأن هذه النقط لا توضع في اللغات الإفرنجية إلا في آخر الجمل، ولكنها موضوعة بين الكلمتين، فتجعل من أخر الكلمة الأولى، وأول الكلمة الثانية هذه الحروف:
وهذه هي الحروف الأولى من اسم: تيودور إدوارد السادس، كما في هذا الرسم، والكاتب يخفى نفسه خلف ستار!
(البقية في عدد قادم)
حسين غنام
3 - الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
ملاحق العرب
كلف العرب من قديم بهذا الضرب من التعبيرات الغامضة، وعرفوا قيمته. وكانت تسعدهم على ذلك فطنة ولقانة وسرعة بديهة طبعوا عليها؛ حتى لتؤثر عنهم في هذا الصدد أقاصيص معجبة لا تخلو في نظر المدقق من المبالغة والتهويل - وإن بقى لها كامل دلالتها على تأصل هذا الفن فيهم - كالذي يروى عن العنبري الذي أسر في بكر بن وائل، فسألهم يوماً رسولاً يبعث به إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا. . . والقصة مشهورة جاء فيها قول الرجل للرسول: (قل لهم - يعني قومه - أن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري. . .) وسأل قومه الحارث بعد أن أعياهم فهم كلامه، فأوقفهم على مرامز رسالته، وأنذرهم قرب وقوع أعدائهم عليهم وغزوهم لديارهم، فاتخذوا للأمر أهبته. . .
ومثل هذه القصة في الأدب الجاهلي كثير. ولقد فتن الرواة بترديد هذا النوع من الملاحن وجمعه والتزيد فيه، وتجدد بظهور الإسلام الغرض الديني - الذي أشرنا إليه - من المعارضة عند التقية، وتجنب الكذب الصراح بإضمار غير الظاهر من القول. واقتحم الأدباء واللغويون باب التصنيف والجمع في ذلك. ومن أشهر ما انتهى إلينا فيه (كتاب الملاحن)، وهو مؤلف لطيف لابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن البصري الأزدي، المتوفي عام 321هـ) وقد طبع حديثاً في مصر
ويعلن ابن دريد الغرض من تأليف الكتاب في مقدمته فيقول: هذا كتاب ألفناه ليفزغ إليه المجبر المضطهد على اليمين، المكره عليها، فيعارض بما رسمناه، ويضمر خلاف ما يظهر، ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم؛ وسميناه (الملاحن)، واشتققنا له هذا الاسم من اللغة العربية الفصيحة التي لا يشوبها الكدر ولا يستولي عليها الكلف. . . الخ
وقد سجل لنا ابن دريد جمهرة من ألفاظ اللغة التي تصلح للتعمية والمعارضة في الكلام.
منها أن تقول: والله ما سألت فلاناً في (حاجة) قط والحاجة ضرب من الشجر له شوك، وما (رأيته) أي ما ضربت رئته ولا (كلمته) أي جرحته. . . وتقول ما أنا بصاحب (بكر) وهو ضرب من النبت، ولا أخذت لفلان (فروة) وهي جلدة الرأس، ولا كشفت لفلانة (قناعاً) ولا عرفت لها (وجهاً) فالقناع الطبق والوجه القصد. . . وتقول (ما لعبت) أي ما سال لعابي وما (جلست) من قولهم جلس فلان إذا دخل الجلس وهو نجد وما والاه، وما عرفت لفلانة (بعلا) وهو النخل يشرب ماء السماء، ولا (زوجاً) وهو النمط يطرح على الهودج. . . الخ
فتيا فقيه العرب
من ضروب الألغاز ما وضعه الرواة قديماً تحت عنوان (فتيا فقيه العرب) بقصد المحاجاة والمعاياة. وقد نقل السيوطي عن التبريزي في تهذيبه أن فقيه العرب هو الحارث بن كلدة. لكن المشهور من لقب الحارث أنه حكيم العرب أو طبيبها، ولم يشهر بين القوم باسم الفقيه. على أن السيوطي يوضح هذه الشبهة فيقول: أطلق على طبيب العرب لاشتراكهما في الوصف بالفهم والمعرفة. . .
والحارث بن كلدة ثقفي من الطائف حذق الطب في بلاد فارس ونال هنالك الشهرة البالغة، ثم رجع إلى الحجاز. وكانت وفاته في أوائل عهد الرسول عليه الصلوات ولم يثبت إسلامه، وإن كان من الثابت أن النبي استشاره غير مرة، وكان يأمر أصحابه باستشارته. ولم يجزم أحد بنسبة هذه الفتاوى إلى الحارث، وإنما يبدو أن شهرته، وما أثر عنه من الفطنة وجودة الطبع هو ما جر إلى إدراج اسمه في هذا المقام. ثم أصبح فقيه العرب فيما بعد شخصاً خيالياً تسند إليه كل فتوى دقيقة أو جواب لغز بارع. يقول السيوطي في وصف ما تطورت إليه التسمية: ليس مراد ابن خالويه والحريري بفقيه العرب شخصاً معيناً؛ إنما هم يذكرون ألغازاً وملحاً ينسبونها إليه، وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا تتعرف. . .
ومن الجلي أن هذا النوع من الألغاز مقصود به التعجيز وإظهار البراعة في عمق التفكير ودقة العبارة. وأكثر من فتن به الفقهاء في مجالسهم وحلقات دروسهم وتناظرهم. . . فمن ذلك قولهم إن فقيه العرب أفتى بجواز السجود على الخد أن كان ظاهراً (والخد هنا بمعنى الطريق). وسئل فقيه العرب عن الوضوء من الإناء المعوج فقال: (إن أصاب الماء تعويجه لم يجز، وإلا جاز) والمراد بالمعوج المضبب بالعاج
ولأبي محمد الحريري طرائف معجبة من الألغاز والأحاجي، ومقامته الثانية والثلاثون - وتسمى الطيبية أو الحربية - تدور جميعها حول فتاوي فقهية ملغزة ينسبها إلى فقيه العرب، وفقيه العرب عنده هو بطل مقاماته المشهور - وشيخ المكدين - أبو زيد السروجي. . . وضع على لسانه جواب مائة مسألة ملغزة ألقيت إليه في علم الفقه، ما بين طهارة وصلاة وصيام وحج، ومعاملات مختلفة من بيع وشراء وقضاء وأحكام وزواج وطلاق. . . والمقامة مشهورة يتيسر للقارئ أن يراجعها في مصدرها
وهنالك مقامات ثمانٍ أخر تدور جميعها حول الألغاز والكنايات وما يجرى مجراها، وهي بحسب ترتيب موضعها وأرقامها من الكتاب: الثامنة المعرية، 15: الفرضية، 19: النصيبية، 24: القطيعية أو النحوية، 35: الشيرازية، 36: الملطية، 42: النجرانية، 44: الشتوية أو اللغزية
وقد سبق الحريري أستاذه بديع الزمان بمقاماته الثلاث في فن الألغاز وهي: الصفرية التي وصف فيها الدينار إلغازاً، ثم العراقية والشعرية في الألغاز عن أبيات من الشعر
ضروب أخرى من اللغز:
إذا تركنا الملاحن والمعاريض وفتيا الفقيه جانباً، ثم نظرنا إلى اللغز من وجهة طرائق الأغراب فيه، وجدناه ضروباً. . . قال ابن الأثير: منه المصحف ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية. وضرب مثلاً للأخير يقول القائل: اسمي إذا صحفته بالفارسية (آخر). فهذا شخص اسمه تركي وهو دنكر - بالدال والنون - و (آخر) بالفارسية (ديكر) بالياء، فإذا صحفت هذه الكلمة بجعل يائها نوناً صارت (دنكر) وهو الاسم المطلوب
وقد وجدت قريباً من ذلك في كتاب الله ما قصه عن بني إسرائيل في قوله تعالى: (وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون)
فقد أمروا بأن يقولوا حطة - أو ما في معناها - من كلمات التوبة والاستغفار؛ والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة. فأبدلوها ظالمين مستهزئين وقالوا (حنطة) وقيل قالوا بالنبطية (حطا
سمقاثا) أي حنطة حمراء، وهذا ضرب من التعمية والإلغاز حملهم على التشدق به حمقهم واستهزاؤهم، وما فتئوا يرددونه حتى فضح الله مكرهم. ونرى تسجيلاً آخر للقصة نفسها في آيتي الأعراف: وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية إلى قوله تعالى: بما كانوا يظلمون
وفي سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم)
قال الزمخشري: كان المسلمون يقولون لرسول الله (ص) إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه. وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين (راعنا) افترصوه وخاطبوا به الرسول (ص) وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما في معناها وهو (انظرنا) فذلك تعريض آخر لمحدثي اليهود من معاصري الرسول، يسجله الله عليهم ويكشف سترهم فيه
ويبدو أن ولوع القوم بهذه التعمية والألغاز كان لا ينتهي عند غاية؛ فقد روى عن عائشة رضى الله عنها أن رهطاً من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك فقال النبي: عليكم! قالت عائشة رضى الله عنها: فقلت بل عليكم السام واللعنة! فقال عليه السلام: يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل شئ. قالت عائشة: ألم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت عليكم!
(يتبع)
محمود عزت عرفة
كتاب الوعي القومي
تأليف الدكتور قسطنطين زريق
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
البلاد العربية الآن في سبيلها إلى التنبه والوعي الذي يسبق النهضات ويدلها على المهيع الواضع، ويأخذ بيدها إلى الطريق الواجب أن يسلك. فإن المسالك متشعبة دائماً في إبان هذه الأوقات، ولابد من إدلاء ماهرين من رجال الفكر الناضج والثقافة الصحيحة يقفون بجانب رجال السياسة والحكم في البلاد العربية الصاحية من سباتها الطويل ليوجهوا البلاد وجهة صحيحة خشية أن تطغى عليها تيارات مختلفة فتصرفها عن سواء القصد واعتدال الجادة
هؤلاء الأحرار (الوعاة) من رجال الفكر هم الذين نحتاج إليهم اليوم فيما نحن بسبيله من يقظة قومية. وإذا كان عددهم قليلاً لا يتناسب مع خطورة القضية التي تواجهها البلاد العربية، فقد ظهرت من قلائلهم (آثار واعية) تبشر بأن الوطن العربي بدأت فيه طلائع التفكير المنظم والدرس المتسق، وتبشر كذلك بأن ضآلة العدد ليست بمانعة من جودة النوع. وتبشر كذلك بأن البلاد العربية ظهر فيها قوم لا يؤمنون بقيمة الأمشاج المختلطة من الأدب والشعر إيمانهم بالقيم العالية للعلم الصحيح الذي يعبر عنه الغربيون بكلمة لا العلم الذي كان يجعل من الفقيه عالماً ومن النحوي عالماً ومن العروضي عالماً
ولقد ظهر في المكتبة العربية ثلاثة كتب قيمة تتصل بموضوع الثقافة والتربية القومية وما إليها: الأول كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) للدكتور طه حسين. الثاني كتاب (آراء وأحاديث في التربية والتعليم) للأستاذ ساطع الحصري مستشار المعارف في الجارة العربية الشقيقة سورية، والثالث كتاب (الوعي القومي) للدكتور قسطنطين زريق أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية ببيروت
أما الكتاب الأول فموضعي يختص بموضوع الثقافة في مصر، وقد لقي في حينه ما يستحقه من النقد ومكن الله لمؤلفه من الأمر ما يعينه على تحقيق برامجه الطويلة
أما الكتاب الثاني فيتناول مسائل في التربية والتعليم والقومية، وكان من حظي أن أقدمه لقراء (الرسالة) من عهد قريب. أما الكتاب الثالث - الوعي القومي - فكان من حظه أن
يقدمه إلى قراء الرسالة تقديماً موجزاً بليغاً أستاذنا وصديقنا توحيد بك السلحدار الذي كان له الفضل في إذاعة بعض نسخ منه بين أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه ويجب أن يناقشهم كثيراً في مسائل تتعلق باليقظة القومية والنهضة الحقيقية لبلادنا
وليست (الرسالة) بباخلة على مثل هذا الكتاب أن يطول الكلام فيه، فإننا نعرف من أهداف صاحبها النبيلة؛ واضطلاعه بحمل رسالة الفكر الصحيح في الوطن العربي ما يطمعنا في إطالة الكلام، فإن قيمة مثل هذا الكتاب (التوجيهي) لا تعرف ما دام مطموراً في رفوف المكاتب، أو منحى في زوايا الخزائن؛ وإنما تظهر قيمته ويعرف قدره متى ما نبه إليه منبه أو ذكر به مذكر. والذكرى تنفع المؤمنين
يشترط الدكتور زريق لاستكمال النهضة القومية العربية ثلاث خطى رئيسية: الأولى: بناء الأساس الفكري الذي تقوم عليه النهضة بدراسة الغايات والوسائل دراسة بعيدة عن الارتجال
والثانية: تحويل هذه الدراسة المنظمة إلى عقيدة قومية تتجه بالأفراد إلى الأهداف الصحيحة
والثالثة: تنظيم: الأمة العربية وضبط نوازعها وإخضاع إرادتها لإرادة وحيدة منبعثة من عقيدة واحدة، وتعنى هذه الخطوة العمل المنظم الصادر عن فكر منظم يدرب عليه الرجال والنساء على السواء
والدكتور زريق حين يدعونا إلى البحث في غايات نهضتنا لا يحرم علينا دراسة نهضات الأمم الأخرى ودرس غاياتها؛ فإن مثل هذه الدراسات تكون كالقبس على شرط أن نكيفها لحياتنا الخاصة
والعربي الواعي قومياً هو الذي يعرف من أي المنابع يفيض هذا الوعي، وإلى أي الأهداف يتجه. أما التشدق بألفاظ اللغة والجنس وجلال التاريخ القديم من غير فهم حقيقي لمعانيها فذلك نوع من الشعور الذي لم يرتفع إلى قمة الفكر؛ ولم يكتسب مع الفكر نعمة الحياة
والعربي الواعي يحس إحساس فهم وإدراك بعوامل الضعف في الشخصية العربية الحاضرة ويواجه مشكلاتها مواجهة واقعية صريحة لا عوج فيها ولا التواء
ولما كان الغرب بوصفه الحاضر عاملاً فعالاً مع شخصيتنا العربية الحاضرة، ولا مناص لنا من تفاعل هذين العاملين، فقد وجب علينا أن نفهم الغرب حق فهمه وندرك كنهه حتى نحسن مواجهته ونأخذ له أهبته ويكون اتصالنا به على ضوء وبصر وعلم لا عن صدف طارئة. ومن الخطر أن تأخذ البلاد العربية روعة وتعروها هزة بمظاهر الغرب الخلابة حتى ولو كان ذلك في سرعة السيارات وعجيب صنع الأدوات. . . فإن وراء ذلك نظاماً اقتصادياً لا شك سيبقى في جوهره النظام السائد في المستقبل. والدكتور زريق يدعونا إلى إدراك هذا النظام الذي يمتاز بالتنظيم الدقيق الذي يؤلف بين أجزائه، وأخذنا من محاسنه وتجنبنا عيوبه التي كانت تحت اختبار الغربيين
والحق أن الدكتور زريق متأثر بهذا (التنظيم) حتى في طريقة تأليفه. . . فكتابه - كما يقول أحد المعجبين به - لا يعدو أن يكون مسائل متفرقة يعرفها الرجل الواعي منا، وتخطر على باله حين يغشى مجتمعاً أو يركب سيارة أو يقرأ كتاباً أو يشاهد أحوالاً. . . ولكن الدكتور زريق جمع هذا المسائل (ونظمها) تنظيماً جعل منها وحدة متماسكة الأطراف، وأخرج منها كتاباً لا تحس فيه تفككاً أو تصيداً لفكرة أو اجتلاباً لمعنى ولكنك تراه مترابطاً محكما متسلسلاً
وليس مثل هذا التنظيم في الدرس سهل المأتاة على كل من حاوله. فكثيرون منا تضطرب الأفكار في خواطرهم وتزدحم على نفوسهم، ولكنهم يستطيعون أن يؤلفوا بينها ويصنفوها في كتاب يفضي كل سطر منه إلى تاليه، ويؤدي كل فصل منه إلى تابعه، كما في كتاب (الوعي القومي)
ولم يجعل المؤلف مهمة الإيقاظ للوعي القومي حبساً على رجال السياسة وأصحاب الحكم. بل كل فرد من أفراد الأمة يستطيع أن يساهم في الألفاظ مهما كان عمله، ومهما كان مركزه، وذلك جميل من المؤلف، فإذا كان الأفراد جميعاً يحملون ألم سوء الأحوال، ويشتركون في التنبيه على ما يعود عليهم بأحسن الفوائد وأجزل العوائد؟
فاشتراك أفراد الأمة في الإيقاظ جائز بل واجب على شرط أن تنعدم الأثرة كما يردد الأستاذ ساطع الحصري، وينعدم التمرد والعصيان على رأي البروفيسور كامبانياك
وللدكتور زريق على أستاذيته الجليلة في جامعة بيروت هو معلم من الطراز الأول؛ فهو لا
يحاول في كتابه أن يكون مبدع ألفاظ أو منشئ عبارات أو مخاطب عواطف. . . ولكنه رجل اختمرت عنده فكرة نبيلة فقام يدعو إليها في عبارة تتفق مع جلال فكرته. فلا ترى عنده مبالغة أو سرفاً في القول أو حشداً للألفاظ، ولكنه مع ذلك قد عرض الفكرة عرضاً بليغاً، لا يتزيد في لفظة ولا يهول في عبارة ولكنه يلقى الكلام على ضوء من صدق الأحكام. وبعد النظر واتساع الثقافة وإدراك لحقائق التاريخ مع وزن لقيم الألفاظ التي يستعملها وقدر حقيقي لها
إلا أن أغلاطاً قليلة وقعت في الكتاب نرجو من الكاتب الفاضل أن يتدارك أمثالها في المرجو المنتظر من تأليفه. ومن هذه الأخطاء: ص 11 (يبقى الأستاذ شيبوب وأمثاله محقون) والصواب محقين، والواو التي بعد النفي والاستثناء في قوله (وما من أحد يلمس الحياة العربية الحاضرة ألا ويشعر) لا لزوم لها والفصيح تركها؛ وقد كرر هذا الخطأ في ص 48 وص 79، والفعل عاقه بتعدي بغير همزة فلا يقال أعاقه ويعيقه ص 49
والآية التي أوردها المؤلف في آخر مقدمة الطبعة الثانية ص 16 محرفة وصحتها: (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) والمؤلف لم يشر إلى أنها آية، إلا أن وضعها على تلك الصورة قاطع على أنها اقتباس من القرآن الكريم
وعلى الأستاذ سلام الله ورحمته.
محمد عبد الغني حسن
أذان الفجر
للدكتور عزيز فهمي
الله أكبرُ هذا الذكرُ توحيدُ
…
الله أكبرُ هذا اللحنُ تجويدُ
ترنم الكونُ في رفق وفي دَعة
…
وسبح الطير والتسبيح تغريد
وأرَهفَ الليلُ أَذْنا جِدَّ صاغية
…
والبدر معتكف والأفقُ مخضودُ
وكادُ يطرق ما في الكون من حجَرٍ
…
فللجماد كما للحيِّ تهجيدُ
بلالُ أَذَّنَ في أعلى منابره
…
وردَّد الذكرَ والمزمارَ داودُ
لله صوتٌ سرى والليل منهزمٌ
…
كما تراجعَ بعد العزم رعديدُ
تطير كالعِهن أشتاتاً غياهبه
…
كما تناثر بركانٌ وجُلمودُ
ويزحف الصبحُ في أعقاب جَحْفله=فينجلي ولواء النور معقودُ
لله صوتٌ سرى وهْناً على وهَن
…
حتى تجاوبَ بعد الكبْتَ محدودُ
بينا يُجَلْجِل في الآفاق منطلقا
…
يردُّه الذكر فالممدود مشدودُ
الله أكبر يا نُوَّامُ فانتبهوا
…
جَدَّ المعاد ولمُ تنجز مواعيد
إن تُنجزوه فتكفير ومعذرةٌ
…
أو تُنسِئوه فكفران وتجديد
هذا المؤذن يسرى صوته نغما
…
لحن رهيب له في الصدر ترديد
يُطهر النفس من أدران عالمها
…
فالنفس صاعدة واللحن تصعيد
كأن تَعْويذَةً في الجو عابرةً
…
تَمَسُّها فإذا بالإثم مردود
لحنٌ حبيب يجوب الكونُ مخترقا
…
مع الأثير حدوداً دونها البيدُ
لحن شجيُّ يجوب الليل هاتفه
…
وأين إذا أسرى الأغاريد
وأين منه لحون الطير ذَكَّرَها
…
وكر الحبيب بأن الإلف مفقود
وأين منه المثاني في تلهفها
…
تبوح بالشوق أو يُفضي به العُود
الله أكبر! مات الليل وانبلجت
…
أشعة الصبح. . . هذا الفجر مولود!
على قبر أخي
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
آه يا قبر، هنا كم طاف روحي
…
هائماً حولك كالطير الذبيحِ
أَوَ ما أبصرته دامي الجروح
…
يتنزى فرط تبريح ويأسِ
مرهقاً مما يعنّيه الحنينْ
وهنا يا قبرهُ أشواقُ نفسي
…
يا لأشواقٍ على تربك حُبْس
وهنا قبلة أحلامي وهجسى
…
قرَّبتني الدارُ أو طال نزوحي
فخيالي بك وهن كل حينْ
إن نأى بي البعد ردتني إليكْ
…
لاعجات ماتني، وجداً عليكْ
لستَ تدري أيُّ دنيا في يديكْ
…
من حنان وبشاشات وأنسِ
يا لقلبي، أصبحت في الهامدينْ
آه يا قَبْرُ له إشعاعُ نورِ
…
لا أرى أجمل منه في القبورِ
فيك أحبابي، وفي قلبي الكسيرِ
…
مأتمٌ ما انفك مذ باتوا لديكْ
قائماً بأخذ منه بالوتينْ
وإذا يُنزفُ دمعُ المقلِ
…
يجهشُ القلبُ أسىً، ما يأُتلى
نادباً عندك أشهى أمل
…
باكياً فيك نصيري وظهيري
ساكباُ من ذوْبه غيرَ ضنينْ
أوحش السامر من ذاك السميرِ
…
غيرَ أَصْداء فؤادٍ وشعورِ
نغمٌ أفعم أمواج الأثير
…
بالأماني والهوى والغزلِ
وترامى بين أحضان السنين
زهرة عطرت الدنيا بنشْرِ
…
ثم مالتْ بين أحلام وشعرِ
وذوت عن عُمُرٍ للزهر نضْر
…
هكذا تنفَدُ أعمارُ الزهورِ
والشذى باقٍ بروح ألعابرينْ
كلما أشرق في الليل القمرْ
…
مُتَرعاً بالنور أعصابَ الزَهرْ
أظلمت نفسي وهاجتني الذِّكر
…
كيف غيبتُك في ظلمة قبْرِ
كيف أسلمتك للترب المهينْ
وإذا ران على الدنيا هجودُ
…
وغفا فيها شقَيٌّ وسعيدُ
لم يزل يهتف بي صوتٌ بعيدُ
…
من وراء الغيْب وافى وظهرْ
ومضى يهمسُ همسَ العاتبينْ
عتبه أَخْذِى بأسباب البقاءِ
…
أتملى من وجودٍ وضياءِ
وعديل الروح في وادي الفناءِ
…
السَّنى ضنَّ عليه والوجودُ
فهو بالحرمان لم يبرح رهينْ
أيها الهاتف من خلف الغيوبِ
…
ما ترى نبع حياتي في نضوب
لم أزل أضرب في عيش جديب
…
موحش كالقفر موصول الشقاءِ
منذ أمسى نجمه في الآفلين
أين إبراهيم مني أين أيْنْ
…
حبة القلب ونور الناظرين
أنا من عيش وموت بينَ بينْ
…
فلعلَّ الحيْنَ موف عن قريب
يمسح الجرح وآلام الحنين
البريد الأدبي
أغنية (الرياح الأربع)
أهدى الأستاذ الشاعر (علي محمود طه) مسرحيته الفاتنة
(أغنية الرياح الأربع) إلى صديقة الشاعر (محمد عبد الغني
حسن) فحياه بهذه الأبيات:
ما زلتَ تُطرب في البيان وتُبدعُ
…
وتَصُبُّ لحنكَ في القلوب وتُتْرعُ
لك كلَّ يوم آيةٌ شعريةٌ
…
لله ما هذا الخيال الطيِّع؟!
وَتَظَلُّ ترتاد الغيوبَ محلِّقاً
…
وتجوب آفاق المحيط وتذْرع
الناس في سجن الخمودِ وقيْدِه
…
حُبسٌ وأنتَ لك الفضاءُ الأوسعُ
صور تُجلِّيها بريشة ماهر
…
ينقاد في يده البيان ويخضع
تلك المعاني النافرات ذلولةُ
…
بيدْيكَ لا تأبَى ولا تتمنع
وتكادُ تبرزُ كلَّ خافية الهوى
…
فكأنها شئٌ يحَسُّ ويسمع
يا أيها الملاح مالك تائهاً
…
لا يستقر على شراعك موضع؟
والبحر مضطرب الأواذى هائج
…
والريح عاصفةُ المهبةِ زعزع
في كل ثغر مشهد لك رائع
…
وبكل ميناءٍ حديثٌ أروعُ
تلك الرواياتٌ الفصاحُ جليلةٌ
…
وأجلُّها عندي (الرياح الأربع)
شعر ناجي
حينما أصدر الدكتور ناجي ديوان شعره (وراء الغمام) كتب الأساتذة الأعلام العقاد وطه والمازني، وكتب غيرهم من أدباء الشباب الشيء الكثير في شعر ناجي. وقد اتفقت آنذاك أو كادت تتفق أقوال الشيوخ والشباب في طبيعة ذلك الشعر. والذي يخيل إلى الآن - وقد أتم الأستاذ دريني خشبة دراسته في شعر ناجي أنه لم يطلع على ما قيل في هذا الشعر. فعاد ما قال أولئك الأعلام والعقاد في شعر ناجي يناقض ما قاله فيه الأستاذ دريني خشبة مناقضة صريحة
أما المآخذ الشعرية فقد ذكر بعضها الأستاذ حافظ جلال والمرحوم معاية نور وسواهما فقد أعادوا أكثر عيون شعر ناجي إلى الأستاذين العقاد ومطران وبعضها إلى شعراء المهجر نعيمه ومعلوف. واللطيف في هاتيك المآخذ، أنها هي بعينها التي اقتبسها الأستاذ الناقد دريني خشبة للتدليل على سمو شعر ناجي!
حبيب الزحلاوي
القرآن في كتاب النثر الفني
الأستاذ الغمراوي يرى فيما يرى أن الدكتور زكي مبارك يذهب إلى أن القرآن الكريم من عند محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد صرح الدكتور بما ينفى هذا الزعم في كتابه (الموازنة بين الشعراء) ص 226 إذ يروى بيتي البوصيري
ما حوربت قط إلا عاد من حرب
…
أعدى الأعادي إليها مُلقى السلم
ردت بلاغتها دعوى معارضها
…
رد الغبور يد الجاني عن الحرم
ثم يعقب قائلاً: (كلمة صدق؛ ويكفي أن تقرأ القرآن بحيدة ونزاهة لتلمس هذه الحقيقة؛ فالقرآن كتاب خطر رهيب يحمل عدوه على الإيمان به والخشوع لديه، ولو صحت - لا صحت - أراجيف الملحدين من أن القرآن من إنشاء محمد بن عبد الله لكان محمد أعظم رجل شهد هذا الوجود (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون)) طبعة ثانية سنة 1936م، وأنا أرى أن قول الدكتور ولو صحت إرخاء العنان للخصم. وأقول للدكتور أيضاً إن محمداً أعظم رجل شهد الوجود، لأن صاحب العزة والجبروت علمه أهلاً - والله أعلم حيث يجعل رسالته - لأن يحمل عبء تلك الرسالة العظيمة، ولأن ينزل عليه ذلك الكتاب العظيم، فمن البدائه أن الدكتور لا يرضى لرأيه أن يكون من أراجيف الملحدين!
هذا ومن بعض الإلزامات التي ألزم بها الأستاذ الغمراوي الدكتور مبارك قوله في الرسالة (565)(إذا كان - يعني القرآن - من عند الله فكيف يمكن أن يثبت للعرب ذاتية كالذي أراد وليس فيه لعربي منهم حرف)، ويمكننا أن نرد هذا الإلزام قائلين: إن القرآن الكريم -
وهو من عند الله يدل على أن العرب لهم ذاتية باعتبارهم مخاطبين به وهو أجدر من يراعى مقتضى الحال
إبراهيم السيد عجلان
إلى الأستاذ الكبير (ا. ع)
تصديت - مشكوراً - للأخذ بيد شباب الشعراء إلى النهج السوي، فشكرنا لك صنيعك وحمدنا لك كريم نهضتك، وانتظرنا منك - وأنت الأستاذ والوالد - أن توضح لهم معالم الطريق في رفق وأناة، شأن المربى القادر يغضي عن العيب، ويدل على الصواب
ولكننا يا أستاذنا رأيناك - وقد كتبت إلى اليوم سبع كلمات - تحمل عليهم حملة التأديب والزجر والتشهير دون توجيه صالح، أو رغبة صادقة مخلصة في تقويمهم وإصلاحهم وهدايتهم
أين يا سيدي الأمثلة والنماذج تشرحها لهم وتقفهم على مواضع الحسن والقبح فيها؟
أين الشرح والتعليم الذي يفعله الأساتذة مع تلاميذهم الذين يريدون بهم خيراً؟
ألا ترى يا سيدي الأستاذ الجليل أن كلماتك هذه ربما كان من نتائجها تثبيط بعض العزائم التي نريدها على أن تنشط، وإماتة بعض الهمم التي نريدها على أن تحيا وتعيش وتنمو؟
إن شعراء الشباب هم الرجاء المرموق، والأمل المرجى، وإن لهم لجهداً مشكوراً، وأثاراً حميدة، وإن (الرسالة) الكريمة هي مؤازرتهم ومناصرتهم ومعينتهم، وهي سلمهم إلى المجد الذي يبغون ونبغي لهم ويحبون ونحب لهم
فإما أن تكون - يا سيدي الأستاذ - هادياً ومرشداً وموجهاً له وإما أن تدعهم يشقون طريقهم إلى المجد أو يهلكوا دونه. والسلام
(المنصورة)
علي متولي صلاح
إلى الدكتور زكي مبارك
إن مما أحزن كل معنى بالأدب هذه الخصومة التي قامت بين الزيات ومبارك وهذه القطيعة
التي وقعت بين المبارك والرسالة
وإنني كواحد يعني بالأدب ويعجب بالزيات والمبارك ويحب الرسالة من حقي أن أحزن وأتألم وأتأذى لما حصل، ومن حقي أن أنتصر لصاحب الحق في هذا الخلاف
إن السبب الذي إليه يعزو الدكتور مبارك هذه الخصومة هو أن الرسالة نشرت لأحد خصومه كلاماً آذاه وآلمه وأغاظه
ولا أخال أحداً ممن يعرفون الأستاذ الزيات على حقيقته - لا كما عرفه الدكتور مبارك أخيراً - يجاري الدكتور في اعتقاده ويقره على رأيه؛ لأن الزيات كما نعرفه ويعرفه غيرنا وكما عرفنا به الدكتور مبارك نفسه في أكثر من مناسبة أديب رضى الخلق كريم النفس سليم القلب نبيل القصد لا يخاصم إلا الباطل ولا يناجز إلا الضلال ولا يناصر إلا الحق. يعتز بأصدقائه ويعتز أصدقاؤه به ولا يختلف مع أحد منهم إلا على حق
ولعل الدكتور مبارك يذكر قوله في الأستاذ الزيات في حديث له مع الأستاذ طه الراوي نشر في الرسالة بعددها 530 الصادر بتاريخ 30 أغسطس 1943 وهو (أن الزيات صديق مضمون) ولما سئل عن معنى مضمون أجاب (أن لها معنى ومعاني، فالصديق المضمون هو الصديق الذي لا يخشى تغيره بأي حال)
وكيف يكون الصديق (المفطور على العقوق) والذي لا ينفع معه عتاب) (والذي حرم نعمة الفهم لمعنى الصديق) صديقاً مضموناً؟ وهل حقاً أن الزيات مفطور على العقوق يا دكتور؟
إن كان تلفيقاً ما نشر في الرسالة من كلام أغضبك فأدحضه بما يتوفر لديك من براهين؛ أما أن تسكت عمن آذاك وآلمك وتنحي باللائمة على الأستاذ الزيات وحده فهذا ظلم؛ لأن الزيات بنشره ما نشر إنما يؤدي واجبه كواحد لا يحابي ولا يمالئ أحداً
والرسالة كما يعرفها كتابها وقراؤها وأنت منهم يا سيدي الدكتور ميدان تتصاول فيه الأفكار وتتبارى فيه القرائح وتتسابق فيه الأقلام فمن حقها أن تؤدي رسالتها الأدبية وفق الخطة التي وضعتها لنفسها
فكيف ترضى يا سيدي الدكتور أن تسلبها حريتها في التصرف بهذا الحق وتحرمها حقها في استعمال هذه الحرية فتطالبها بمراعاة صداقتك وهذا مما لا يتفق ومنهجها الذي تسير عليه
(بغداد)
يحيى محمد علي
تجول تلك السماء
جاء في قصيدة الأستاذ سيد قطب المنشورة في العدد الماضي
يا فجر من ذا رآك
…
تحول تلك السماء
فاستعمل كلمة (تجُول) بمعنى تطوف متعدية بذاتها
مع أن الفعل (جال) لم يرد في كتب اللغة عامة متعدياً بنفسه بهذا المعنى فقد جاء في المصباح والمنجد ما يأتي: (جال يجول في البلاد طاف يطوف)(وجال جولاً وجولة وجولاناً في المكان) طاف به ودار وجاء أيضاً: (جال بمعنى اختار) وهذا ليس المعنى المقصود في البيت
فلو أن الأستاذ قطب استبدل بكلمة (تجول)(تجوب) لما وقع في هذا الخطأ
محمد عبد الفتاح إبراهيم