الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 568
- بتاريخ: 22 - 05 - 1944
18 - دفاع عن البلاغة
10 -
التلاؤم في الأسلوب
أثبتنا بحجة العقل ودليل الوجدان أن التألق في الأسلوب أصل في طباع الناس، وسر في كيان اللغة، وركن من أساس البلاغة؛ وأن الجمال اللفظي المطبوع منية كل لسان ينطق، وبغية كل أذن تعي؛ فالناس خاصتهم وعامتهم يحبون أن يسمعوه، والكتاب قادتهم وساقتهم يتمنون أن يستطيعوه. وإذا كان في حملة القلم من يقدح فيه وينفر منه كان ذلك من باب الكذب على النفس مرده إلى أسباب يعرف بعضها ذلك الثعلب الفاضل الذي
رام عنقوداً فلما
…
أبصر العنقودَ طالَه
قال: هذا حامضٌ لما
…
رأى أن لا ينالَه!
فلندع ذلك الآن ولنسدد القول إلى الغرض المقصود من التلاؤم. فما التلاؤم في حقيقة معناه وطبيعة مداه؟ التلاؤم كلمة جامعة لكل وصف لابد منه في اللفظ ليكون الكلام خفيفاً على اللسان، مقبولاً في الأذن، موافقاً لحركات النفس، مطابقاً لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر
فالتلاؤم من حيث القبول في الآذان والخفة على اللسان، يكون في الكلمة بائتلاف الحروف وتوافق الأصوات وحلاوة الجرس. ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقر وحسن الإيقاع. ومن هنا تنشأ السلاسة والعذوبة والطلاوة والرخامة، وانسجام التراكيب، ومتانة الحبك، وكل صفة تنفي عن الكلام التنافر والنبو والقلق والتعسف والتعقيد والهلهلة والركاكة والغثاثة والحوشية والجفوة. ومدار ذلك على الذوق الفني السليم، والأذن الموسيقية المرهفة. ففي هاتين الحاستين وضع البارئ المصور البديع - جل وعلا - سر الفن كله. وبهاتين الحاستين هذبت الدهور اللغة، وصقلت العبارة، وتنخلت الألفاظ والتراكيب، فتخيرت منها. للأساليب الرفيعة لغة خاصة يعبرون عنها في تاريخ الأدب بالألفاظ الكتابية والتراكيب الشعرية
وإلى هاتين الحاستين يعزى التفاضل بين كاتب وكاتب، والتفاوت بين شاعر وشاعر، والتباين بين ناقد وناقد؛ وإليهما كذلك يرجع تقديم كلمة على كلمة، واختيار لفظة دون لفظة، وقصور الكلام عن مداه، أو بلوغه إياه، سواء أكان هذا البلوغ أو ذلك القصور من جهة
تأثير الكاتب أو الشاعر، أم كان من جهة تأثر القارئ أو السامع
وعلى هاتين الحاستين يجري نظم الكلام متسقاً كحبات العقد، مؤتلفاً كنغمات اللحن، منسجماً كسلاسل النهر، مصقولاً كمن السيف، مونقاً كأفواف الوشي؛ وتلك خصائص الطبع الموهوب لا حيلة فيها لمحتال، ولا قدرة عليها لمقلد. وتفاوت الفضل كما قال ابن الأثير (يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق)
وتمييز اللفظ الحسن من اللفظ القبيح يحصل بأدنى كلفة، لأن المرجع في ذلك إلى الحاكم المطلق وهو السمع، فما استخفه كان حسناً، وما استثقله كان قبيحاً. (وحسن الألفاظ وقبحها ليس إضافياً إلى زيد دون عمرو، وإلى عمرو دون زيد، لأنه وصف ذووي لا يتغير بالإضافة) فالقراح والنقاح وصفان مترادفان للماء ولكن حسن الأول وقبح الثاني لا يختلف فيهما أحد
وأما التلاؤم من حيث موافقة الكلام لحركات النفس، ومطابقته لصور الذهن، فيكون بتقطيعه فقراً وفواصل تقصر أو تطول تبعاً لحالات النفس والفكر. فلكل عاطفة درجتها من الإبطاء أو الإسراع، ولكل فكرة مداها من الضيق أو الاتساع، ولكل صورة طبيعتها من الظهور أو الضمور، ومن القوة أو الضعف. قد تكون أشعة الإلهام كومضات البرق تتعاقب على الذهن بسرعة؛ وقد تكون عواطف النفس فائرة تجيش بالألم أو تضطرم باللذة؛ وحينئذ تكون الفقر القصيرة أنسب الصور للتعبير عنها؛ كما ترى في السور المكية من كتاب الله؛ فإنها لاشتمالها على أصول الدين تتصل بالعاطفة، فجاء لذلك أسلوبها قصير الآي كثير السجع رائع التشبيه قوي المجاز. وقد تكون المعاني رزينة بطبيعة موضوعها لتوخيها الإفادة أو الإقناع أو الشرح، فتقتضي الأسلوب المرسل أو المفصل، كما ترى في السور المدنية من القرآن الكريم؛ فإنها لاشتمالها على أصول الأحكام تتجه إلى العقل، فنزل أسلوبها هادئ البيان طويل الجمل مفصل الآيات واضح الغرض. أما إذا كانت الفكرة متشاجنة الأصول متشابكة الفروع فالابلغ أن تفصل بالاستدارة. والاستدارة صورة من صور التعبير في اللغات العليا، تحدث عنها أرسططاليس وترجمها مترجموه إلى العربية بهذا الاسم، ولكن البيانيين من علمائنا لم يحفلوا بهذا النوع ولم ينبهوا إليه في أساليب العربية على كثرة وروده في النثر والنظم، حتى وقع عليه بعض المتأخرين فسموه (القول
بالنظم) أو (حسن النسق). والاستدارة جملة متوسطة الطول تشتمل على فاتحة وخاتمة، وتتألف من فواصل ترتبط بإحكام، وتتساوق في انتظام، وتحمل كل فاصلة من فواصل الفاتحة جزءاً من المعنى بحيث لا يتم المراد إلا بذكر الجملة الأخيرة وهي الخاتمة
مثالها من الشعر قول النابغة:
فما الفرات إذا هب الرياح له
…
ترمي غوار بُه العِبْرين بالزَّبد
يمده كل وادٍ مترعِ لَحبِ
…
فيه ركام من الينبوب والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصماً
…
بالخيزرانة بعد الابن والنَّجد
يوماً بأجود منه سيبَ نافلةٍ
…
ولا يحول عطاء اليوم دون غد
ومثالها من النثر قول الجاحظ: (فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، وكان منزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة)، والاستدارة كثيرة الدوران في طريقة ابن المقفع وطريقة الجاحظ
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
2 - قيس ولبنى
للشاعر المجدد الأستاذ عزيز أباظة بك
للأستاذ دريني خشبة
وضعنا بين أيدي القراء - وذلك في العدد السابق من الرسالة - خلاصة مضغوطة لقصة هذا الهوى اللافح، والحب المرمض الممض، الذي ملأ حياتي قيس ولبنى بمأساة من أروع مآسي الأدب العربي القديم، أو الأدب العربي في صدر الإسلام، وذلك وفق ما أثبت القصة أبو الفرج في أغانيه، ثم أردفنا الخلاصة بموجز جاف لمسرحية الشاعر المجدد عزيز أباظة بك، رجاء أن نشرك معنا القراء في استعراض القصتين، والموازنة بينهما، وإدراك ذلك الجهد الشاق الموفق الذي بذله الشاعر المصري البارع في استغلال قصة الأغاني والتصرف فيها، دون تقيد برواية، ودون تقديس لتاريخ، فالأغراض الأدبية، ولاسيما إن كان المسرح هو طريق إبرازها، لا يلزم أن تتقيد بما ورد في سجلات الماضي، حتى وإن كان ما ورد في تلك السجلات هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي نواحيه. . . ولا داعي لأن نضرب مثلاً بالطريقة التي تنوولت بها مأساة مثل مأساة كليوبطرة على أيدي شيكسبير وشوقي مثلا. . .
وقد كان شيكسبير نفسه لا يحفل كثيراً بدقائق التاريخ وحقائقه، بل كان يضحي كل شيء في سبيل الهدف الذي كان يضع من أجله دراماته، مع أنه كان يغترف الحوار أحياناً من سجلات هذا التاريخ
1 -
فلقد استغنى الأستاذ عن شخصيتي الحسن والحسين، واكتفى بأن يكون ابن أبي عتيق رسول الحسين إلى الحباب أبي لبنى، وللشاعر رأيه في هذا الاستغناء. . . والكلام عن ذلك لا بد أن يكون كلاماً شائكا، لأنه يتناول مسألة إبراز الأشخاص الذين نحيطهم بهالات مقدسة على المسرح. . . وقد كان الشاعر لبقاً في وسيلة هذا الاستغناء، إذ جعل سببه اشتغال الحسين بموضوع تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين لابنه يزيد، ولم يجعل سببها إكبار الحسن أو الحسين عن المشاركة في هذه القضية الغرامية. . . التي كانا فيها رسولي رحمة وحنان وعطف بين قلبين، وبين أسرتين كريمتين من أسر المدينة والبطون القريبة منها في سرف
2 -
واستغنى الشاعر أيضاً عن قصة بزوغ هذا الحب بين قيس ولبنى، كما استغنى عن مرات اللقاء المختلسة الأولى، التي تذكى الحب عادة وتؤكده، والتي تصور ما كان يتجشمه المحبون في سبيل هذا اللقاء في البيئة العربية القديمة من أخطار وما كانوا يستهدفون له من هول وروع
3 -
واستغنى كذلك عن هذا المشهد المؤثر الذي توسل به ذريح للتأثير على قلب قيس الغض كي يطلق لبنى. . . مشهد قيامه، في الظهيرة عاري الرأس والشمس تصب لهبها على يافوخه، ومجيء قيس ليظلل أباه حتى يفئ الفيء. . .
4 -
ومنظر وداع لبنى في قصة أبي الفرج! هذا المنظر الذي لا يكاد أن يضارعه مثيل في أدب أمة من الأمم! اسمع إلى الأصفهاني حيث يقول: (فوقف ينظر إليها ويبكي حتى غابوا. فكر راجعاً ونظر إلى خف بعيرها، فأكب عليه يقبله. ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها! فلما جن الليل، وانفرد، وأوى إلى مضجعه لم يأخذه القرار، وجعل يتململ فيه تململ السليم، ثم وثب حتى أتى موضع خبائها، فجعل يتمرغ فيه ويبكي. . .!!)
ولست أدري لماذا لم يسجل شاعرنا الكبير هذا المشهد الرائع في نهاية الفصل الثالث؟ لعلنا نوفق إلى كشف السر في المقال الباكي الذي سوف يتلو هذا الفصل
5 -
ولم يشأ الشاعر لمسرحيته أن تنتهي إلى مأساة، ولذلك لم يأخذ في ختامها بأقوال الجمهرة من الرواة الذين قرروا أن قيساً ولبنى لم يجتمعا بعد الطلاق، وأنهما ماتا على هذا الفراق المر. والبعد الوبيل، وأخذ بأقوال القلة التي لا يؤبه لها من الرواة الذين زعموا سعي ابن أبي عتيق والحسن والحسين، أو ابن أبي عتيق وجاه الحسن والحسين لتطليق لبنى من كثير، وردها على قيس. وهكذا آثر النهاية السعيدة التي تجبر ما انشعب من تلك القلوب الكسيرة وترد الآمنة إلى عيون المؤرقين، على النهاية الباكية القاسية التي تفرق بينهم أبد الدهر. وللشاعر مطلق الحق في أن يتصرف هذا التصرف، وسنترك تعليل اختياره هذا إلى الفصل الباكي الذي سوف يتلو هذا الفصل كما ذكرنا من قبل، والذي سوف نطلع فيه القراء على الأهوال النفسية التي يضطرب بها فؤاد شاعرنا العزيز فتوزه أزّا. . . هذا الفؤاد الذي أصبح في ذاته ملحمة حزينة آسية، مشرقة بالدمع، من أروع ملاحم شعرنا الحديث. . . ملحمة تحترب فيها الذكريات وتتضرم بالآلام والأوجاع
ولو قد أراد الشاعر أن تكون مسرحيته مأساة، لأحببنا له أن يخلق من ضعف القصة الأصبهانية قوة، وأن يثور فيها على التاريخ وعلى الرواة ثورة كاملة شاملة. . . فقد أحب قيس لبنى، وبادلته لبنى هذا الحب الجارف الذي خالط قلبيهما وامتزج بدمائهما، وربط بينهما الرباط المقدس الذي لا يعقل أن ينفصم على هذا النحو الزري المضحك، لأن ذريحاً أراد له أن ينفصم، ولأن ذريحا وزوجه أصرا أن ينفصم، بحجة أن قيساً قد آثر عليهما زوجه أولاً، ولأن لبنى أنثى عقيم ثانياً. . . فيظل قيس يخالف من أمرهما عاماً بأكمله، إبقاء على زوجه التي لا بد لها في هذا العقم، ثم ينهزم هذا النبل كله فجأة، وينهزم هذا الحب العارم الصارم كله فجأة، وتنحل الأواصر المقدسة فجأة، فيرسل قيس زوجه وحبيبة قلبه ومنية نفسه إرسالاً سهلاً هيناً ليناً، لأنه لم يعد يحتمل أن يعذب أبوه المأفون نفسه، ولم يعد يحتمل أن يرى تلك النار المشبوبة في دار المجانين الذين يظلون عاماً طويلاً وأكثر من عام طويل يشاكسون زوجين سعيدين حبيبين، وينغصون عليهما صفو الحياة. . . لوددنا إذن لو أن شاعرنا قد ثار على التاريخ وعلى الرواة وعلى أبي الفرج ثورة كاملة شاملة، فرفض قصة هذا الفراق وذاك الطلاق الذي أضحك الدنيا بأسرها على سذاجة قيس لبنى، وأشمت به قيس ليلى، وعرضه لزراية المحبين وازدرائهم في عالم الإخلاص والوفاء.
6 -
ولكن ماذا عست أن تكون ماجريات الحوادث لو ثار الشاعر هذه الثورة؟ هنا يترك الأمر كله للعبقرية التي برهن الشاعر الكبير على أنه يدخر منها الشيء الكثير
7 -
ثم طلاق كثير للبنى. . . هذا الطلاق الذي تم في جلسة واحدة ما خطبه؟ أبهذه السهولة يتم الطلاق في البيئة العربية المحافظة الصارمة؟ ومتى طلب إلى عربي، بله المسلم، أن يعطي حرية التصرف في أحد من أهله. . . ولا سيما إن كانت الزوجة هي الغرض من إعطاء تلك الحرية؟ ثم كيف تتم تلك الخدعة التي لا يجيزها عرف ولا دين في حضرة الحسن والحسين، سبطي رسول الله، وسيدي شباب أهل الجنة؟ وإن فوجئا بها مفاجأة؟!
ولكن هذه هي الرواية التي أثبتها أبو الفرج، وأبو الفرج راوية ماهر يستعين على أذهاننا بإثارة مشاعرنا، فلا يدعنا مستطيعين أن نسأل ما خطب كذا وما خطب كذا. . . ولكنه
يتركنا نتألم في غير استنكار لهذه القلوب الرطبة التي أنهكها الحب، وأنهكتها الرحمة للمحبين. . . الرحمة التي لا تدع لسائل أن يسأل، ولا لمستدرك أن يستدرك
وبعد، فقد كانت قيس ولبنى نجاحاً كاملاً على مسرح الفرقة المصرية، وقد تلفت الشعب فجأة فوجد آذانه تمتلئ ببيان عربي فصيح، وشعر بدوي فيه جزالة وفيه فخامة وروعة، وفيه موسيقا تلين عاصيه، وتتدفق به في القلوب ميسراً مفهوماً. . . بل محفوظاً في كثير من رقائقه، محبباً في كثير من قوافيه، مدهشاً في كثير من كلماته التي تخيرها ذوق دقيق كأنه ذوق لال، أغرم بالعربية الفصحى فوهبه الله سرها، يجلو من غررها ودررها ما يشاء. . .
لقد كانت قيس ولبنى، برغم ما حاك في القلب من قصة أبي الفرج، قطعة من الحياة يختلط فيها جد الواقع بروعة الشعر، وتدفق الحوار بهدوء النجوى، وحرارة الحب بصلابة الواجب!
لقد كان فرحنا بها لا يعدله فرحنا بأية طرفة أدبية صدرت عن المطبعة المصرية هذا العام. . . وكيف لا نفرح بها وقد صدرت بعد الدعوة الطويلة التي دعت إليها الرسالة، من وجوب عناية الشعراء بالدرامة المنظومة التي آن الأوان لكي تسد فراغاً مخيفاً في الأدب العربي. . . وليس معنى هذا، قبل أن يعقب علينا معقب، أو أن يسئ تأويل كلامنا مسيء. . . أن قيساً ولبنى كانت ثمرة لهذه الدعوة، ولكنها كانت آية من آياتها. . .
لقد سألت ناظمها الشاعر الجليل: ماذا أوحى إليك بنظم مسرحيتك؟ فأجاب حفظه الله: لقد اقترحتها علي زوجتي. . . ظللها الله برحمته ورضاه!
ولهذا حديث غير هذا الحديث، ومقام غير ذاك المقام. وسوف أتحلل مما وعدت الأستاذ به من عدم التحدث عن هذه الأشياء، لأنها من حق التاريخ والأدب لا من حقه.
دريني خشبة
بحث نفسي اجتماعي
لماذا لا تكون سعيداً؟
للأستاذ عبد العزيز جادو
كثيراً ما يتوق الناس إلى ما ليس في متناول أيديهم، لا لأنهم يريدون هذا الشيء بذاته، ولو أنهم يظنون بأنهم سيكونون سعداء إذا حصلوا عليه، ولكن لأن هناك شيئاً يفتقرون إليه في تركيبهم العقلي والروحي
ومن أوهام الجنس البشري أن يعتقد أن السعادة رهينة بشيء أو مكان أو زمن؛ أو بأنه يمكن الاستحواز عليها بالمال، أو بأنها توجد في جهة دون أخرى، أو بأنها ستأتي حتما على أجنحة الزمان، وكل أولئك - لعمر الحق - من بعض الترهات التي تعتري الناس في طفولة التفكير
السعادة لا يمكن أن تشرى بمال لأنها حالة من حالات العقل - الحالة المستمدة من الداخل موجهة إلى الخارج - وستتبعك إلى كل مكان، وفي كل وقت وفي كل حالة إذا أنت نظرت إلى الأشياء والحالات التي تحيط بك بعين مميزة فاحصة، وعندئذ تعرف أن التمييز والتقدير هو الحب، وأن الحب هو أن تكون سعيداً
وبعد، فما الأشياء التي تجعلك سعيداً أو شقياً؟ أنت اليوم تقول إنك سعيد لأن لديك ما كنت تريد. وبعد شهر ستكون شقياً وتود أن تحصل على شيء آخر، وستكون سعيداً مرة أخرى عندما يضئ أمامك أمل الحصول على رغبتك الجديدة؛ وشقياً عندما ينهار بسبب نكبة ما. والفقر الحقيقي أو الشقاء ليس في أن تمتلك القليل بل هو في أن تشتهي الكثير، فلكي يكون المرء سعيداً عليه أن يكون قنوعاً فالقناعة كنز لا يفنى
السعادة التي تترجح من خيط واه إنما هي كرغبات محسوسة معرضة للسقوط والضياع. هذى السعادة مثلها في الخداع كمثل السراب
الرغبة، والطموح، والتأميل فيما هو أحسن، كل أولئك ضروري للتقدم الإنساني ولاسيما إذا فسرت كما يجب أن تفسر فهي مبعث السعادة. ولكنه التفسير الذي يخفف كفة الصواب أو كفة الخطأ في الميزان. فإذا رغبنا في شيء صائب يستحق الاهتمام وجدنا طريقة أو أخرى نحصل بها عليه ويمكننا أن نعيش في الأمل سعداء. وعلى ذلك، يجب علينا أن
نذكر أن ليس هناك شيء مادي يستحق أن نزن كل سعادتنا به؛ فإذا كانت رغباتك تهدر سعادتك، فغربلها جيداً وانظر كم منها غير مجد، ورض نفسك على أن تقذف به بعيداً
لا تكن متتبعاً لأولئك الأغرار الواهمين لأنه ينقصهم العقل، إنهم يرون قشور الأشياء لا لبابها، والشيء الذي يعوزهم هو المقدرة على التغلغل في أعماق الأشياء، أي التفرس والتبصر والاستشفاف
إن المغنطيس الكهربي يجذب الحديد عندما يسري التيار في وحداته، كذلك تجذب الشخصية السعادة عندما يتدفق تيار عقل ثاقب في شعوره الداخلي. ربما يكون المرء محبوباً من شخص ومكروهاً من آخر، والاتجاهات العكسية ما هي إلا محض رد فعل لفكرة فردية تتبعها مقارنة للشخص المعين طبقاً للفكر والمقاييس المعينة لرجل بعينه. والمرء يحتمل أن يكون في الحقيقة غير مستحق حب أحد له أو كراهية أحد؛ أو ربما يستأهل حب كل منهما. ولكن شعورهما المحدود يمنعهما رؤية الحقيقة كاملة واضحة.
وهكذا يواجه الناس الحياة. وغالباً ما تكون التأويلات الشخصية هي التي ترقى بالعقول التي لا تتسع لإدراك الأشياء إدراكاً شاملاً، وبغير ذلك يضيع الكثير من الجمال والسعادة. فإذا أمكن الفرد أن يرى السعادة في شيء فلم لا يمكن أني يراها الجميع؟ ألم يكن الفرق غالباً في عقل الفرد؟
أنت لا يمكنك أن تكون سعيداً لأن عندك ما عندك، ولكن لأنك تحب ما عندك. وقوة الحب والكراهية كامنة في نفسك، واتجاهك الفردي نحو شيء وصلتك الشخصية به هي التي يعتد بها
ربما تكون هنا، أو هنالك، أو في أي مكان، فإذا أضاء قلبك وسما عقلك ستشعر بالسعادة تغمر نفسك. أما إذا فكرت بأنك عوملت بإجحاف، أو إذا ظننت أنه لا يمكنك الحصول على ما ترغب، أو إذا لم يبد لك الجو جميلاً، فلا يمكن أن تملك إلا الحزن
عندما تمطر السماء ويكفهر الجو وتتلبد السحب بالغيوم يشعر الكثيرون بالتعاسة إذ يقولون (أين هي الشمس؟ يا له من يوم عبوس!) ويفهم آخرون - وهم أسمى روحاً - أن هناك وراء تلك السحابة المليئة بالمياه الغدقة شمساً لا تزال تشع. أليس من الخرق أن يخدع بمثل نقاب رفيع كهذا أناس عقلاء ذوو حس؟ ومع ذلك فالحد الذي يفصل بين الفرح
والحزن دقيق كما أنه خداع؛ مبهم لمن يميلون للظاهر، وواضح لمن أوتوا الإيمان والذكاء فيرون الحق من خلالهما
إذا كان حب شخص هو ما تظن أنه سيجعلك سعيداً فلا تعتمد على ذلك الحب. أحبب بقوة ما استطعت ولكن لا تطلب الحب إن لم تر هناك استجابة. الحب الصادق القوي هو المثل الأعلى، ولكن إذا كان هناك تفاوت كبير في الطبع وأنت نفسك الشخص الذي لا يميل إلى التبادل فيحسن بك كثيراً أن تنقل انتباهك - مع إرادتك - إلى شخص آخر أكثر تلبية
والحب في صدق وإخلاص ورزانة يمكن أن نطلق عليه بسهولة مسألة انتباه انقل انتباهك، فينتقل حبك. وأنت لا تحب كل الملايين من الناس المحبوبين لأنك لا تعيرهم انتباهك، ولأنك لا تعرفهم معرفة ألفة، ولذلك لا يمكنك أن تفهم حياتهم. سيأتيك الحب بأخذك الاتجاه الإيجابي نحو الشخص الذي تحب واهباً لا سائلاً، معطياً خطتك الحكيمة الاعتبار والانتباه الضروريين. . .
ثم إن التعاسة ناشئة معظمها عن أننا نتصور غيرنا أسعد حالاً منا، وعن أننا نريد أن نكون دائماً أسعد من سوانا. . .
والشخص إذا أضاع كل شيء فعليه ألا يفقد الأمل وحب العمل. فالعمل المنتج يرفع القلب ويعلي الفكر ويشرف الشعور ويؤله النفس. وهل هناك سعادة فيما عدا ذلك أو في شيء غير ذلك؟
عبد العزيز جادو
دبلوم علم النفس وعضو نادي المتكلمين بإنجلترا
في دنيا الأحلام
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا أمن بالأحلام ولا أعيرها اهتماماً جدياً، لأني أعتبر أكثرها ناتجاً عن عوامل الغريزة المكبوتة والعقل الباطن، غير أني أقف حائراً أمام بعض الأحلام التي حلمتها وأصبحت بعد قليل حقيقة راهنة لا أحلاماً طارئة لا تتجاوز مخيلة النائم ولا تعدو فراشه
وكم تساءلت: أهي المصادفة تقضي بصحة بعض الأحلام أم هو الإلهام؟ ولكن ما هي المصادفة وما هو الإلهام؟ وكيف أعلل حدوثهما؟ لا أدري
وكل ما أدري أنني رأيت أربعة أحلام صح ثلاثة منها والرابع ما يزال غامضاً؛ وأرجح أنه سيظل غامضاً إلى ما شاء الله
حلمت وأنا في عهد التلمذة أن المفتاح الذي كنت قد أضعته وكان يهمني أمره كثيراً مطمور في التراب قرب شجرة قديمة العهد في قلب الملعب الشرقي في مدرسة الحكمة. وكنت قد فتشت عنه في كل مكان هناك دون جدوى، ثم وجدته في المكان نفسه الذي هداني إليه الحلم
أما الحلم الثاني فهو: كنت ذات ليلة جالساً في داري أطالع إحدى الصحف اليومية فجاءني ولد لا يتجاوز الثالثة من عمره وضرب الجريدة التي في يدي وطرحها أرضاً. ثم أخذ يداعبني مقهقهاً ويلاعبني راكضاً من كرسي إلى كرسي، ومن ناحية إلى ناحية. والغريب في الأمر أنني حلمت أن هذا الولد هو ولدي مع أني ما كنت أباً في ذلك الحين ولا متزوجاً
وبعد سنوات صح هذا الحلم بحذافيره، إذ كنت صباح يوم جالساً في المكان نفسه أطالع بعض الجرائد، فخرج ولدي من غرفته وهو دون الثالثة من عمره وتقدم نحوي وضرب الجريدة وأوقعها من يدي. ثم شرع يلاعبني ويركض مقهقهاً من مكان إلى مكان. وكان في لباسه وكامل هيئته يشبه تمام الشبه الولد الذي عاينته في الحلم
أليس من الغريب المدهش أن يشاهد المرء ولده في الحلم قبل مجيئه إلى العالم؟ أإتفاقاً كان ذلك أم وحياً أم ماذا؟
أما الحلم الثالث فهو: حلمت منذ أعوام أن أحد الأنسباء وهو شاب في ريق العمر ونشاطه قد قضى نحبه في أحد المستشفيات؛ وبعد أيام قليلة جاءني رسول يبلغني خبر وفاته في
المستشفى نفسه الذي حلمته ممدداً فيه على فراش الموت
وأغرب من ذلك أن الشاب كان يتمتع بصحة يحسد عليها فلم يدر بخلدي أدني خوف على حياته. ولم يكن لدي من داع لحدوث هذا الحلم الذي أوحى إلي بموته
أنا لا أدعي معرفة الغيب ولا ما يخبئه المستقبل في طياته، ولست من مدعي النبوة، أنا رجل من طلاب الأدب والعلم لا من طلاب المعجزات والخوارق. لكني لا أنكر وجود قوة في الإنسان تستبق معرفة الحوادث. هذه القوة ما تزال مستترة على العلم لم يسبر غورها بعد ولم يتح له تحديدها
فكم مرة يفكر المرء في أحد أصدقائه ولا يلبث حتى يراهم أمامه. وكم مرة يتخيل أمراً فيتحقق لساعته، وقد قيل:(اذكر الذيب، وهيئ له القضيب)
أما الحلم الرابع فهو على جانب عظيم من الغرابة، لا يمت بصلة إلى الشهوات المكبوتة التي يقال إنها تستيقظ في العقل الباطن في خلال النوم، ولا يتعلق أيضاً بموت أو ولادة أو كسب أو خسارة أو ما شاكل ذلك مما يكثر حدوثه بين الأحياء فيعلق بمخيلاتهم ويشغل أذهانهم، فيأتيهم في الحلم
لا أزال أذكر أنني ليلة الحلم أويت إلى مخدعي قبيل منتصف الليل، وبقيت أتقلب على فراشي إلى ما بعد الساعة الثانية دون أن يغمض لي جفن من تكاثر قصف الرعود وتواصل هدير الزوابع والأمطار، لأن الليلة كانت هائلة من أروع ليالي الشتاء برقاً ورعداً ومن أشدها برداً وزمهريراً
لم يتملكني النعاس إلا في الهزيع الأخير من الليل ولم أكد أستسلم إلى سلطان الكرى حتى نزل علي هذا الحلم، فشعرت ساعة نزوله كأنني لست بالنائم ولا بالمستيقظ بل بينهما، وما بينهما سوى عالم الرؤى - عالم الأنبياء والأولياء - ولا شأن لي في هذا العالم
فحلمت أن صديقاً لي توفاه الله منذ عدة سنوات هبط مخدعي وانتصب أمامي قائلاً: أنتم معاشر الأحياء تعتقدون أن المرء الذي تغادره الحياة تغادره المعرفة ويبرحه الشعور، فتنقطع كل صلة له بكم وبعالمكم، فيعود لا يدري ما يحدث بأوساطكم ولا يشعر بأعمالكم ولا بسرائكم وضرائكم؛ وهذا خطأ فاضح، فالميت لا يفقد غير الحركة والنطق اللذين كان بهما يظهر لكم معرفته وشعوره، ولا يعني فقدانهما فقدان المعرفة والشعور، بل فقدان
الواسطة التي كان بها يتصل بكم
أجل ليس لدى الأموات ألسنة تتكلم ولا أجسام تتحرك لتعرب لكم عن معرفتها وإدراكها وشعورها بل هم بقوة الحياة الكلية - وقد أصبحوا جزءاً منها - غدوا أقوى منكم معرفة وأسمى إدراكاً وأشد شعوراً
كنت في الحياة الدنيا أعد نفسي ويعدني الناس من فطاحل العلماء، ومن أعاظم الدهاة الذين لا تخفى عليهم خافية، وبعد الموت تبينت جهلي وجهل الناس تقدير إدراكي ومعارفي
فأنا الذي كنت أحسب عالماً لم أكن إلا على يسير من العلم، وأنا الذي كنت أعد مدركاً لم أكن إلا على ذرة من الإدراك لأنني لم أعرف من شجرة الحياة طيلة حياتي إلا قشورها
كنت على جانب عظيم من الجهل لأنني لم أتمكن في الحياة من معرفة أقرب المقربين إلي، الذين كنت أساكنهم أو كانت تربطني بهم صلة من الصلات. أما اليوم فقد حررني الموت من الجهل، فغدت علومكم التي كنت أتبجح بمعرفتها بمثابة ألاعيب صبيانية أمامي، وصارت دنياكم الحافلة بالرموز والأسرار والأحاجي مضيئة عن ظهر قلبي، وبواطنكم المستترة التي لم أدرك كنهها في الحياة أصبحت اليوم واضحة حيال ذهني وضوح شمس الظهيرة
لقد كنت مخدوعاً حقاً في كثير من الأمور. مخدوعاً في معرفتي لنفسي ومعرفتي للناس. فجاءني الموت يعرفني بنفسي مبيناً لي مقدار قصورها وعجزها في المعرفة خلال الحياة. ويعرفني بالناس كماهم لا كما كنت أتوهم معرفتهم. لأنه أظهر لي ما تكنه طبائعهم من خفايا الغرائز والنزعات التي كانت غامضة عليّ كل الغموض
لقد كنت مخدوعاً بالمظاهر الخارجية إلى أقصى حد. فكم رجل كنت أحسبه صديقاً فكان عدواً. وكم إنسان كنت أعده مخلصاً فكان مخاثلاً. وكم رجل دين كنت أعتبره جم الفضائل فكان جم الرذائل. وكم امرأة كنت أعتقد بها الطهر والورع فكانت على غير ذلك
أما الآن فقد تجاوزت عالم الغش والخداع والتمويه إلى عالم الحقائق فأصبحت أرى كل شيء واضحاً جلياً. إني أطل عليكم من كوة هذا العالم - عالم الحياة الكلية وأرقبكم من نوافذها المشعة في دخائل أذهانكم وقلوبكم: وأتفقد أعمالكم وكل ما يصدر عنكم من خير أو شر. وإني لعالم بكل ما تظهرون وما تكتمون
ولست وحدي أعلم ذلك بل يعلمه مثلي كل من حرره الموت من قيود دنياكم وأصبح متحداً بالحياة الكلية التي تسبغ عليه نعمة المعرفة الكاملة
فالأموات يرونكم دائماً وأنتم لا تشعرون برؤيتهم إياكم، ويتفقدونكم دائماً وأنتم لا تعلمون بتفقدهم لكم، لأنهم اصبحوا أرقى منكم معرفة وأسمى روحاً وأنفذ بصيرة
فكم من رجال حولي يتطلعون إلى دنياكم ويرقبون فيها أبناءهم وأحفادهم ويرون ما آلوا إليه من الضنك والفقر على الرغم من كثرة ما أورثوهم من مال وعقار. فهم يشاهدون أموالهم التي اكتسبوها بعرق الجبين وادخروها لأبنائهم كيف تتبدد في الحانات والمواخير وأندية الميسر والخلاعة، ويأسفون لضياعها في بؤرة الفساد ويتألمون لأنهم لم يعملوا بها عملاً مفيداً للجنس البشري بدلاً من توريثها لمن لا يستحقها
أما دنياكم هي دنيا الحروب والمطامع - دنيا الرياء والأباطيل - دنيا الأخطاء والفواحش - دنيا الخوف والجهل والضعف. ولهذا نحن نشفق عليكم بالرغم من كثرة شذوذكم وتهربكم على الأخص من معرفة الحقيقة - حقيقة نفوسكم وحقيقة غرائزكم. كأن الحقيقة هي غول دنياكم تخشونها كما تخشون الموت، والحقيقة وحدها هي رجاؤكم العتيد. فخير لكم أن تظهروا على علاتكم بدلاً من أن تتقنعوا بأقنعة الغش وتتستروا بها، فهي لا تستركم عن وجه الحق، فالأقنعة فانية والحقائق باقية.
انتهى الحلم فاستيقظت فور انتهائه وأنا أردد عبارته الأخيرة. فقلت في نفسي هل الأقنعة الفانية هي أجسامنا التي نتعارف بها في هذا الكون، والحقائق الباقية هي جوهر الحياة الذي لا يدركه الفناء. ثم عكفت على نفسي أسألها: كيف جاءني هذا الحلم؟ وهل يحلم المرء بما لا يدركه وما لا يقع تحت حواسه؟
ألا تبلغ المخيلة شأواً لا تبلغه الحواس ولا يصل إليه الإدراك؟ أليس للدين الذي يلقن الإيمان بالحياة الأخرى ضلع أيضاً في هذا الحلم المرتكز على الإقرار الصريح ببقاء الحياة بعد الموت؟
أليس لمعضلات الحياة الدنيا ومشاكلها أو بالأحرى، أليس لتعطشي لمعرفة أسرارها وحل رموزها وأحاجيها يد في إلهام هذا الحلم الذي يعللني بكمال المعرفة بعد الموت ويشبع رغباتي وتمنياتي ولو في العالم الآخر بالوصول إلى ذروة الإدراك: إدراك حقائق الحياة
وخفايا الكائنات؟
(بيروت)
توفيق حسن الشرنوتي
3 - الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
ألغاز الفقهاء والنحويين
(1)
كان الفقه الإسلامي في نموه، وانشعاب فروعه من أصوله، أشبه شيء بالدوحة العظيمة أنشبت في الأرض جذورها ثم تطاولت إلى السماء بهيكلها، وأرسلت أفنانها مكتسيات بالورق النضر في كل متجه فلم تدع تحتها مكاناً ضاحياً أو موضعاً غير ظليل
وفي العصر العباسي وما تلاه من عصور التدوين والتصنيف توسع الفقهاء في دراسة الفروع توسعاً لم يتركوا معه شاردة ولا واردة إلا أثبتوها؛ وراحوا يفتنون في افتراض مواطن الشبه، ثم الإفتاء فيها بما يزيل لبسها، افتناناً ولجوا به باباً من التكلف والصنعة لم يحمد الكثيرون لهم مغبته لما قد صرفهم إليه من الحفول بالتوافه واستنفاذ قوى التفكير فيما لا تعظم جدواه أو ينفع كثيراً علمه
وقد أشرنا فيما قبل إلى ذيوع ما أسموه فتيا فقيه العرب؛ ونذكر هنا أن جلة العلماء ورؤساء المذاهب منذ القرن الثاني لم يسلموا في مجالسهم وحلقات دروسهم ممن يتعرض لهم بأسئلة يرمي بها إلى تعجيزهم، ويذهب فيها مذهب التعمية والإلغاز على نهج فتاوى فقيه العرب
ولم يكن بد لهؤلاء الأئمة من أن يجيبوا وإن صرفهم ذلك لحظة أو لحظات عما هم بسبيله من البحث المجدي والتحقيق المفيد
قال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي - المتوفى سنة 606هـ - في كتابه مناقب الإمام الشافعي: اعلم أنه نقل أن الشافعي سألوه في بعض المسائل بألفاظ غريبة، فأجاب عنها في الحال بألفاظ عربية ونحن نذكر بعضها. أحدها: قيل له: كم قرء أم فلاح؟ فأجاب على البديهة: من ابن ذكاء إلى أم شملة. والمراد بالقرء الوقت، وأم فلاح الفجر وهو كنية الصلاة. والسؤال واقع عن مدة وقت صلاة الفجر؛ وقول الشافعي رضي الله عنه من ابن ذكاء أي من وقت الصبح وهو كنيته، إلى أم شملة وهي كنية الشمس أي إلى طلوع الشمس. . . وسئل: هل تسمع شهادة الخالق؟ قال: لا ولا روايته. والخالق الكاذب قال تعالى: (إن هذا خلق الأولين) وأورد الفخر الرازي أمثلة أخرى، ثم ختم بقوله: فلنكتف بهذا القدر، إذ لا يمدح الشافعي بمثله!
(ب) وقريب من ألغاز الفقهاء وفتاويهم - وإنهن لكثر - ألغاز أئمة اللغة
على أن هؤلاء لم يكتفوا بابتداع الألغاز ابتداعاً، أو جمع ما قيل منها مقصوداً به التعمية حقيقة، وإنما أضافوا إلى ذلك أشياء من كلام العرب فطنوا إلى إمكان إيجاد التعمية فيها، وإن لم يقصد قائلوها ذلك. وأكثر هذا أبيات من الشعر القديم (لم تقصد العرب الألغاز بها وإنما قالتها فصادف أن يكون ألغازاً. وهي نوعان: فإنها تارة يقع الألغاز بها من حيث معانيها وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب). ويسمى القسم الأول أبيات المعاني، ومن أقدم أمثلتها قول الشاعر - يصف عقاباً صعد إلى موضع وكرها في يوم عاصف الريح:
ومحجوبة أزعجتها عن فراشها
…
تحامي الحوامي دونها والمناكب
وخفاقة الأعطاف باتت معانقي
…
تجاذبني عن مئزري وأجاذب
ومن جياد أبيات المعاني في شعر المتأخرين قول النواسي يصف الكرم:
لنا هجمةٌ لا يدَّري الذئب سخْلها
…
ولا راعها غضُّ الفِحالة والحظرُ
إذا اختبرت ألوانها مال صفُوها
…
إلى الحوِّ إلا أن أوبارها خُضُر
وقوله من قصيدة يمدح فيها الفضل بن يحيى:
إليك أبا العباس من بين من مشى
…
عليها امتطينا الحْضَرميَّ الملسَّنَا
قلائصُ لم تعرفْ حنيناً على طَلي
…
ولم تدْرِ ما قرعُ الفنيق ولا الهِنا
قال ابن رشيق: (فذكر أن قلائصهم التي امتطوها إليه نعالهم، فأخرجه كما ترى مخرج اللغز، واتبعه أبو الطيب فقال:
لا ناقتي تحمل الرديف ولا
…
بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها
…
زمامها، والشسوع مِقْودها
ومن أبيات المعاني قول شاعر يصف أيام الزمان ولياليه (وهي الأسبوع):
سبعٌ رواحلُ ما ينخْنَ من ألونا
…
شيمٌ تُساق بسبعة زُهْر
متواصلات لا الدؤوبُ يملُّها
…
باقٍ تعاقُبها على الدهر
ولأبن اسحق الجرمي (توفى 225هـ) في دودة القز:
وبنات جيب ما انتفعت بعيشها
…
ووأدتُها فنفعْننَى بقبور
ثم انبعثن عواطلاً فإذا لها
…
قرن الكباس إلى جناح طيور
وقال صرّ در ملغزاً بجرة (توفى عام 465هـ):
ذاتُ أيدٍ ثلاثة أبدَ الدهْ
…
ر ترى فوق رأسها أيديها
شربتْ ما سقيتهَا من شراب
…
ثم تسقيك مثل ما تسقيها
خَرْتُ آذانها مَغابنُ أيدي
…
ها ويافوخُها مقرٌّ لمفيها
ولأبن الخشاب بلغز في كتاب (توفى سنة 567هـ):
وذي أوجه لكنه غير بائح
…
بسر، وذو الوجهين للسر مظهر
تناجيك بالأسرار أسرا وجهه
…
فتفهمها ما دمت بالعين تنظر
وقال شاعر يلغز في (الإبرة):
سعت ذات سَمّ في قميصي فغادرت
…
به أثراً، والله يشفي من السمِّ!
كست قيصراً ثوب الجمال وتبَّعاً
…
وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وللحاتمي في الباب (توفى عام 388هـ):
عجبت لمحرومين من كل لذة
…
يبيتان طول الليل يعتنقان
إذا أمسيا كانا على الناس مرصداً
…
وعند طلوع الفجر يفترقان
ألغاز في اللفظ والتركيب والإعراب
مرت بنا أمثلة مختلفة لأبيات المعاني قديمها ومحدثها. . . أما الضرب الثاني من ضروب الألغاز وهو ما يستعان فيه بالأغراب في (اللفظ أو التركيب والإعراب) فذلك ما تتضاءل جودته أمام النوع الأول ويصغر قدره دونه
وإن أثر التكلف والصنعة ليظهر فيه ظهوراً لم تعرفه العربية في عصورها المتقدمة. وهو لا يعدو أن يكون - في أكثر أمره - تمويهاً لفظياً سهل الإدراك قليل العمق، لا يصعب على السامع فهمه، ولا على المنشئ إيراد مثله
ومن أقدم نماذجه التي تلمسها اللغويون في شعر الأوائل. قول الفرزدق:
يفلِّقنَ هاماً لم تنله سيوفنا
…
بأسيافنا هام الملوك القماقم
قال ثعلب: ها حرف تنبيه ومن استفهام. قال مستفهماً: من لم تنله سيوفنا؟ وتقدير البيت: يفلقن بأسيافنا هام الملوك القماقم. قلت: فيكتب البيت هكذا:
يفلقن (ها، من لم تنله سيوفنا؟) =بأسيافنا هامَ الملوكِ القماقم
وقال آخر:
عافت الماء في الشتاء فقلنا
…
برديِّه تصادفيه سخينا
قال السيوطي: جوابه أن الأصل (بل رديه) ثم كتب على لفظ الإلغاز
ومن ذلك قول الآخر:
لما رأيت أبا يزيد مقاتلاً
…
أدع القتال وأشهد الهيجاء
قال: يقال أبن جواب لما؟ وبم انتصب (أدع)؟ ثم أوضحه بما خلاصته أن يكتب البيت هكذا. لن - ما رأيت أبا يزيد مقاتلا - أدعَ. . . الخ
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا
…
ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
معنى البيت: أقول لعبد الله - لما سقاؤنا وهي أي ضعف ونحن بهذا الوادي - شم، أي شم البرق عسى يعقبه المطر. . .
ونلاحظ أن هذا الضرب الأخير من الألغاز اللفظية لقي أنصاره والمتشيعين له منذ القرن الخامس الهجري فما بعده؛ وراج على ألسنة النظامين والسجاعين ممن آثروا جانب اللفظ على جانب المعنى، وأنفقوا مجهودهم في المحسنات البديعية والحلي اللفظية يرصعون بها صفحات منثورهم ومنظومهم. وكأنما الضرب الأول من أبيات المعاني قد ذهب بذهاب المطبوعين من أدباء اللغة، وذوي القرائح المبتكرة فيها. وبقى هذا الضرب الأخير من التلاعب بالألفاظ يتمم الصورة الباهتة لحالة الأدب في عصور انحطاطه، وهو كما قلنا أيسر تأليفاً وأقل عمقاً من سابقه. ومن أمثلته المتأخرة قول ابن نباته ملغزاً في (القطائف):
أحاجيك، ما حلو للسان وإنه
…
لأبكم إذ تعزى إليه المعارف
يُرى جالساً في الصدر ما كان كاملاً
…
فإن نقصوه فهو في الحلْقِ (طائف)
وللشريف فتح الدين القنائي يلغز في (كمون):
يأيها العطار أعرِبْ لنا
…
عن اسم شيء قل في سوْمكْ
تبصره بالعين في يقظة
…
كما يرى ب (القلب) في (نومك)
وذلك أن مقلوب أحرف (نومك) هو (كمون). . .
وقال صلاح الدين الصفدي ملغزاً في (الفيل):
أيما اسم تركيبُه من ثلاث
…
وهو ذو أربع، تعالى الإله!
حيوان و (القلب) منه نباتٌ
…
لم يكن عند جوعه يرعاه
(فيك) تصحيفه، ولكن إذا ما
…
رمت عكساً يكون (في) ثلثاء
وقال آخر ملغزاً في (بلبل):
وما طائر نصفُه كله
…
له في ذرى الدوح سير ولبث
رأينا ثلاثة أرباعه
…
إذا صحفوها غدت وهي (ثلث)
وكانوا ربما يهوى أحدهم إلى درك من السخف بعيد فيقول:
يا من له الطول في المعالي
…
وبالمعاني لنا يبصِّرْ
إني كما قلت في سؤالي
…
ما مثل قولي نعم مقصِّر!
و (نعم مقصر) يرادفها (إي وان)؛ فذلك لغز في (إيوان) بعث به علي بن الحسين الموصلي إلى صديقه ومعاصره صلاح الدين الصفدي
وقريب منه قول شهاب الدين بن حجر ملغزاً في (صهباء):
يا فاضلاً هو في الأحا
…
جي ليس يخلو من ولع
ما مثل قولك للذي
…
يبكى الحبيب: (اسكتْ رجَع!)
(يتبع)
محمود عزت عرفة
القضايا الكبرى في الإسلام
5 -
قتل حجر بن عدي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه القضية من أكبر القضايا الإسلامية، وقد قام المسلمون وقعدوا لها، وعدوها على معاوية بن أبي سفيان في أربع عدوها عليه. روى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة، وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلاف ابنه يزيد وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي، فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر
وهذا إلى ما بلغه عدد الشهود في هذه القضية، فقد بلغوا فيها سبعين شاهداً، ولم تصل إلينا قضية إسلامية بلغ الشهود فيها مثل هذا العدد، وكل هذا يدل على ما لهذه القضية من الشأن في الإسلام، وسنقوم بدرسها غير متأثرين فيها إلا بما يقضي به الشرع، لأن حكمه فوق كل شخص، ويجب أن يكون نافذاً في الناس كلهم، كبيرهم وصغيرهم، ورفيعهم ووضيعهم
كان حجر بن عدي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد القادسية في خلافة عمر، وشهد بعد ذلك الجمل وصفين وصحب علياً، فكان من شيعته، وكان من أعظم الناس ديناُ وصلاة وعلماً، ولكنه كان مغالياً في تشعيه، حتى إنه لم يسترح لما استراح له الناس جميعهم من تسليم الحسن بن علي لمعاوية ابن أبي سفيان. واجتماع كلمة المسلمين بعد ذلك الخلاف الذي كاد يقضي عليهم
وقد تم ذلك الصلح سنة إحدى وأربعين من الهجرة، فاستعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة، وأوصاه فيما زعم المؤرخون ألا يترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم، فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة، ولكنه كان لا يدع شتم علي والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال: بل إياكم ذم الله ولعن، ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم؛
فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته. فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله، فقام حجر فصاح صيحة بالمغيرة سمعها كل من بالمسجد، وقال له: مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبر، مُر لنا بأرزاقنا، فإن ما أنت فيه لا يجدي علينا نفعاً. وأكثر من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة ودخل عليه قومه فقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك؟ فقال لهم: إني قد قتلته، سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله
ثم توفى المغيرة فضم معاوية الكوفة إلى زياد بن أبي سفيان، فقدم إليها من البصرة، ثم قام في الناس فخطبهم، وترحم على عثمان وأثنى على أصحابه، ولعن قاتليه، ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، فبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص إلى الكوفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه - وحجر جالس - ثم قال: أما بعد فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وأمنوني فاجتروا علىّ، والله لئن لم تستقيموا لاداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، وأدعه نكالا لمن بعده
ثم أرسل إلى حجر يدعوه وهو بالمسجد، فقال له أصحابه لا تأته ولا كرامة، فرجع الرسول فأخبر زياداً بذلك، فأمر صاحب شرطته أن يبعث إليه جماعة، ففعل فسبهم أصحاب حجر، فجمع زياد أهل الكوفة وقال لهم أتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق، هذا والله من دحسكم، والله لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك. فقال لهم: فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله، ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، ثم بعث زياد صاحب شرطته إلى حجر وأمره أن يشد عليه وعلى أصحابه بالسيوف إن لم يتبعوه، فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته، وحصل بين الفريقين قتال لجأ بعده حجر إلى داره، ثم انتقل منها إلى دور بعض أهل الكوفة يحتمي بها، ولما ضاق عليه الأمر أرسل إلى محمد ابن الأشعث الكندي ليأخذ له من زياد أماناً حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع محمد جماعة ودخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن
يرسله إلى معاوية فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر فحضر عند زياد، فلما رآه قال: مرحباً بك أبا عبد الرحمن، حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس، على أهلها تجني براقش. فقال حجر: ما خلعت طاعة، ولا فارقت جماعة، وإني لعلي بيعتي. فقال زياد: هيهات هيهات يا حجر، تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكن الله منك أن ترضى، كلا والله. فقال حجر: ألم تؤمني حتى آتى معاوية فيرى في رأيه؟ فقال زياد: بلى قد فعلنا، انطلقوا به إلى السجن
ثم بعث زياد إلى أصحاب حجر حتى جمع منهم أثنى عشر رجلا في السجن، ودعا رؤساء الأرباع وهم عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة وقيس بن الوليد وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وقال لهم: اشهدوا على حجر بما رأيتم منه، فشهدوا أن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره
وقد نظر زياد في شهادتهم فقال: ما أظن هذه الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن تكون الشهود أكثر من أربعة. فكتب أبو بردة شهادة غيرها قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء. فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق. فشهد عليها سبعون شاهداً من وجوه أهل الكوفة
ثم بعث زياد بحجر وأصحابه إلى معاوية ومعهم الشهادة، فحبسهم بمرج عذراء، وكتب إلى زياد: أما بعد فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه، وشهادة من قبلك عليهم، فنظرت في ذلك، فأحياناً أرى قتلهم أفضل من تركهم، وأحياناً أرى العفو عنهم أفضل من قتلهم، والسلام
فكتب إليه زياد: أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك في حجر وأصحابه، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم، وقد شهد عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجراً وأصحابه إلي
فلما قرأ معاوية كتابه أمر بقتل حجر وسبعة من أصحابه، وعفا عمن بقى منهم بشفاعة بعض أصحابه من قومهم، وكان مالك بن هبيرة السكوني قد قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين دع لي ابن عمي حجرا. فقال له معاوية: إن ابن عمك حجرا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصرى، فيضطرنا غداً إلى أن نشخصك وأصحابك إليه بالعراق. فلما قتل معاوية حجرا اعتزل مالك معاوية في منزلة، فأرسل إليه معاوية أن يأتيه فأبى فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: إن أمير المؤمنين لم يمنعه أن يشفعك في ابن عمك إلا شفقة عليك وعلى أصحابك أن يعيدوا لكم حرباً أخرى، وإن حجر بن عدي لو قد بقى خشيت أن يكلفك وأصحابك الشخوص إليه، وأن يكون ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر. فقبلها وطابت نفسه، وأقبل إليه من غده في جموع قومه حتى دخل عليه ورضى عنه
ولكن كثيراً من الناس لم يقبلوا هذا العذر من معاوية في قتل حجر وأصحابه، وأنكروا عليه هذا الحكم إنكاراً شديداً، وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان ما علمت إلا لمسلماً حجاجاً معتمراً. وقد رثته هند بنت زيد الأنصارية وكانت تشيع فقالت في رثائه:
ترفع أيها القمر المنير
…
تَبصَّر هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب
…
ليقتله كما زعم الأمير
تجَبَّرتْ الجبابر بعد حجر
…
وطاب لها الخورنق والسدير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً
…
ولم ينحر كما نحر البعير
فإن يهلك فكل زعيم قوم
…
من الدنيا إلى هلك يصير
والذين لا يعذرون معاوية في قتل حجر يرون أن ما حصل منه لا يحل به سفك دمه، لأن دم المسلم حرام ما لم يرتد عن دينه أو يسفك دم غيره، وقد حملوا في ذلك آية الحرابة على خلاف ظاهرها، وهي قوله تعالى في الآية - 33 - من سورة المائدة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فذهبوا إلى أن أوفى هذه الآية للتفصيل لا للتخيير، وعلى هذا يكون جزاء أولئك
المحاربين أن يقتلوا إذا قتلوا، وأن يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، وأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، وأن ينفوا من الأرض إذا أخافوا الناس ولم يأخذوا مالاً ولم يقتلوا
ولا شك أن هذا كله خلاف ظاهر الآية، ولهذا ذهب كثير من السلف إلى أن أوفيها للتخيير لا للتفصيل، فيكون ولي الأمر مخيراً في هذه العقوبات يجتهد فيها على ما تقتضيه مصلحة الدولة، ولا يتقيد فيها بتلك القيود السابقة، وقد أخذ معاوية بهذا في حكمه على حجر، ورأى أنه أمام فتنة إذا لم يأخذ فيها بأقصى العقوبة استطار شرها، ويكون في ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر وأصحابه، وقد كان له أن يأخذ في ذلك بأخف هذه العقوبات وهو النفي من الأرض، ولكنه استعمل فيه حقاً أباحه له الله تعالى، وله في ذلك اجتهاده الذي يعذر فيه ولو كان خطأ، ولو أنه استعمل في ذلك أخف هذه العقوبات لكان أولى وأحسن
وكان على حجر وأصحابه أن يتعظوا بتلك الفتن التي ذهبت فيها دماء من لا يحصى من المسلمين، وقتل فيها خليفتان من الخلفاء الراشدين، وأن يسعهم في ذلك ما وسع من كان أعلى منهم مقاماً، وأعظم شأناً، وأقوى كلمة، من كبار المهاجرين والأنصار، وزعماء قريش وغيرها من القبائل، وما كان لهم أن يتكلموا وقد سكت الحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وغيرهم ممن يجب أن يرجع إليهم في ذلك الأمر، ولا يذكر حجر وأصحابه بجانبهم، لأنه لم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل
وقد يقال إن حجراً وأصحابه كانوا على حق في ثورتهم للعن علي رضي الله عنه، ولكن حقهم في ذلك يضيع بما كانوا يذهبون إليه من لعن عثمان ومعاوية، وقد كان منهم عمرو بن الحمق الذي كان يزعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص معه، على أم كثيراً من المؤرخين ينكرون ما روى من أن بني أمية كان يلعنون علياً على المنابر، وقد ذكر من روى ذلك أن الحسن طلب إلى معاوية في صلحه معه أن يكف عن شتم علي فلم يجبه إليه، فطلب ألا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ولكنه لم يف به، ولا ادري كيف يعقل هذا مع أن معاوية كان قد جعل الأمر بعده للحسن، وما أطن الذي كان يتلى على المنابر يتعدى لعن قتلة عثمان، فكانت شيعة علي ترى أنهم يقصدونه بذلك، وكان يؤلمهم ذلك اللعن، لأن كثيراً
منهم اشترك في ذلك القتل
عبد المتعال الصعيدي
على هامش النقد
من الشعر الجديد
للأستاذ محمد محمود رضوان
يأبى شعراء الشباب الذين يحمل عليهم الأستاذ الكبير (ا. ع)، ويأبى الذي ينافحون عنهم من الشيوخ أن يقروا هذه الحملة إلا أن تكون مدعومة بأمثلة من هذا الشعر توضح نهجه وتكشف عواره إن كان فيه عوار
والأستاذ (أ. ع) يأبى ذلك ولا يرضاه، ولعل عذره أنه لا يهاجم أشخاصاً، بل يريد إصلاحاً فما به من حاجة إلى إثارة شاعر بعينه أو تجريحه
وللأستاذ في ذلك رأيه، ولكن هاهو ذا شاعر من شعراء الشباب يقدم نفسه، ويعرض على الأستاذ الكبير قصيدة من شعره - لعلها من أحسن بضاعته - ثم يسأله رأيه في هذا الطراز من شعر الشباب
وما على الأستاذ الكبير لو أجابه؟ إنه لم يفعل. حينئذ رأيت - وأنا ممن يضيقون بهذا الشعر الجديد - أن أكفيه الجواب، وأتولى عنه بعض ما أشركه فيه من رأي في هذا الشعر
أما هذه القصيدة فهي (أين الطريق)، وصاحبها هو الشاعر الشاب الأستاذ علي شرف الدين
- 1 -
وقبل أن نناقش القصيدة يجدر بنا أن نتساءل، أهي من الشعر الجديد حقاً حتى يمكن أن نتخذها أنموذجا ننتهي من دراسته إلى الحكم لهذا الشعر أو عليه؟ أو بعبارة أخرى هل يرضى شعراء الشباب الذين يحوم حولهم النقاش أن تمثل هذه القصيدة مذهبهم الجديد؟
أما أنا فأرى أنها جمعت القديم والجديد معاً. أخذت من القديم شيئاً ومن الجديد أشياء، هي من القديم في وحدة موضوعها، ومن النادر أن ترى قصيدة في هذا الشعر الجديد تدور حول موضوع مؤتلف تتسلسل أفكارها وتتواكب معانيها لبلوغ هدف واحد، بل إنك ترى القصيدة - من هذا الشعر - فجوات لا اتساق بينها، يطرق الشاعر معنى ثم يوغل فيه بأنماط من التشبيهات والاستعارات المعتسفة والأخيلة البعيدة حتى لتخرج منه بفكرة مشوهة غير محدودة، ثم ينتقل بك إلى آخر لا يمت إلى سابقه بوشيجة وهكذا دواليك، حتى
تنتهي من القصيدة، التي قد تبلغ المائة من الأبيات - وما ظفرت منها بهدف أو عرفت بين أفكارها نسباً
أما قصيدتنا فهي إلى القديم أقرب من هذه الناحية، تفهم من عنوانها (أين الطريق) ما في نفس الشاعر من حيرة. يبدؤها بيأس من الحياة جره عليه احترافه الأدب، ثم يمضي في وصف هذا اليأس وكيف أدرك قيمة الحياة فنفض منها كفه ومات شعوره فما يحس فرحا أو حزناً، ثم يخاطب أمه وأباه فيشكو إليهما أساه وحاله اليائسة، ويتساءل أذلك من غضبهما عليه أم لكثرة ذنوبه؟ ويذكره ذلك بأيام الصبا في كنفهما فيتحسر على تلك الأيام الذواهب، كما كان يتحسر عليها الأقدمون من الشعراء، ثم يذكر همته التي طمحت إلى المجد فكبا دونه سالكا في ذلك سبيل الاستعارة، فإذا المجد جبل مرهوب المغاور أملى الشباب عليه أن يرقاه ولا زاد له إلا الأعصاب والفصحى فتمزقت كفه ودميت قدماه، ولكن لا عجب فقد تكشفت له محنة الأكفياء ونكبة الأدباء في هذا البلد العجيب
- 2 -
ولو أنك نظرت إلى هذه المعاني التي طرقها الشاعر لم تجد فيها شيئاً جديداً يمكن أن نعده من سمات الشعر الجديد إلا انتحاءها ناحية اليأس المرير يطالعك في مطلع القصيدة ويصاحبك في كل بيت من أبياتها حتى تأتي على آخرها
عافى الله الأستاذ حبيب الزحلاوي إذ يقول (إن الشعر روح وإن الحياة الشعرية التي لا تفيض بالنعمة ولا تشيع السرور بالنفس والفرحة بالوجود ليست بحياة)
وأي أمل نرجوه في شعر يدعو إلى اليأس ويثبط الهمة ويجعل الدنيا ليلاً حالكا
لم يبلغ الأمل البعيد
…
فمال لليأس القريب
أصبحت رسماً حافلاً
…
باليأس والصمت الرهيب
هذه النغاصة التي تفيض على القصيدة من أولها إلى آخرها هي من أبرز سمات الشعر الجديد. كأن الشاعر لا يعرف قدره إلا أن شاع في شعره اليأس والحزن والأسى
نعم. . . لقد ردد القدماء بؤس الأديب وشقاء من أدركته (حرفة الأدب) ورأينا هذا المعنى كثيراً في شعر الخريمي وأبي تمام وأبي العلاء ولكننا لم نر منهم شاعراً يناقض شعره حياته ويقول غير ما يحس، لم نر منهم من كان في حياته راضياً وفي شعره ساخطاً كما
نرى في هذه الأيام. بل رأينا من كان في حياته وشعره راضياً كأبي نواس، أو فيهما ساخطاً كأبي العلاء. أما التلفيق بين رضا الحياة وسخط الشعر فبدع لم نره إلا عند سادتنا شعراء هذا الزمان
إنك لترى الشاعر في أيامنا هذه وحياته كلها مرح ولهو ومجون وانبساط، فإذا أمسك القلم لينظم رأيت الدموع والحسرات واليأس المر كأنه لا يكون شاعراً إلا إذا ركب زورقاً من الأحزان في بحر من العبرات
إن شاعراً كعبد الحميد الديب رحمه الله إذا شدا في شعره بالبؤس والشقاء فلا بدع، لأنه كان بائساً شقياً فهو يصور حاله التي يعانيها، ويصف حياته التي يقاسيها - وهذه هي مهمة الأدب
أما شاعر كطاهر أبو فاشا - وهو معروف بمرحه ولهوه وازدحام حياته بأساليب المزح والدعابة - فلن نقبل منه هذا الشعر القاتم الحزين الذي تلمحه حتى في عنوان ديوانه (الأشواك) فتحس منه الوخز وتلمس الدماء. . . وما أحسب هذا الشعر إلا أثراً من آثار التقليد بين شعرائنا المحدثين من الشبان. سرى فيهم فسموا دواوينهم (ألحان الألم) و (الدماء) وغير ذلك من الأسماء
نعود إلى قصيدتنا فنقول إنها خالفت الشعر الجديد أيضاً في وضوحها. فليس فيها فكرة غامضة كهذه الأفكار التي يكتظ بها هذا الشعر، وعجيب من الأستاذ البشبيشي أن يضع هذا الغموض بجانب ما في شعر أبي تمام والمتنبي والمعري وابن هاني وشوقي والزهاوي من عقد في الخيال حيرت الباحثين أزماناً
شتان يا سيدي ما بين غموض منشؤه عمق الفكرة ودقة التصور، وغموض منشؤه خطأ الفكرة وفسادها. هذا غامض لأنه يحتمل كيت وكيت من أوجه التأويل والتخريج وكلها صائب. أو لأنه عميق بعيد الغور حتى إذا كشفت عن معناه وأسفر لك وجهه هششت له وانشرح صدرك
أما ذاك فغامض، لأنه لم يبن على أساس من الفكر الصحيح فهيهات أن ينكشف لك فيه وجه - لنه لا وجه له - إلا مع تعسف لا يحتمله اللفظ ولا تطيقه العبارة
هل قرأ أستاذي البشبيشي بيت أبي تمام في الخمر:
جهمية الألفاظ إلا أنهم
…
قد لقبوها جوهر الأشياء
وهل الفكر أي مذاهب يريد؟ وهل قرر ما يحتمله البيت من تأويل وتخريج؟ وهل تذوق النشوة التي يتذوقها من يتكشف له وجه يرضيه من قصد أبي تمام بهذا البيت؟
وهل قرأ قوله:
هن عوادي يوسف وصواحبه
…
فعزماً فقدما أدرك النجح طالبه
وفكر في هذا الغموض ما مصدره؟ وهل بنى على أساس صحيح أم فاسد؟
ومع هذا فإن أبا تمام لم يسلم من الملامة بسبب هذا الغموض الذي له وجه، فكيف تريدنا على أن نرضى من شعرائنا الجدد غموضاً ما له وجه؟ بل ولا عين!
(البقية في العدد القادم)
محمد محمود رضوان
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
553 -
أحق الناس بستر هذا الشعر أنت
قال أبو الفرج: تقدم رجل إلى عبيد الله بن الحسن ابن الحصين بن أبي الحر وهو قاضي البصرة مع خصم له، فخلط في قوله، فتمثل عبيد الله بقول أبي الأسود:
يصيب وما يدري ويخطي وما درى
…
وكيف يكون النوك إلا كذلكا
فقال الرجل: إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئاً فعل، فقال له: ادن. فقال له: إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت، وقد علمت فيمن قيل (وكان قد قيل في جد عبيد الله) فتبسم عبيد الله وقال له: إني أرى فيك مصطنعاً فسر إلى منزلك وقال لخصمه: رح إلى فغرم له ما كان يطالب به
554 -
اعتاد بدني ما نعتاد وجوهكم
في (الكامل): يروي عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير في يوم قر في مشيته، فقال له: ممن أنت يا مغرور؟ فقال أنا ابن الوحيد أمشي الخيزلي، ويدفئني حسبي. وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد؟ فقال: بلى (والله)، ولكني أذكر حسبي فأدفا. وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قُر عما يجد، فقال: ما على منه كبير مئونة، فقيل: وكيف؟ فقال: دام بي العرى فاعتاد بدني ما تعتاد وجوهكم.
555 -
إذا شكر انصرف
كان الزمخشري في جوف الكعبة مشغولاً بتأليف الكشاف، فجاء الإمام عمر النسفي، وقرع باب الكعبة. فقال الزمخشري: من على الباب؟ فقال النسفي: أنا عمر
فقال الزمخشري: إذا نُكرَ صُرف
556 -
فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا
قال أبو حيان التوحيدي: سمعت الشيخ أبا حامد (الأسفرايني) يقول لطاهر العباداني: لا تعلق كثيراً لما تسمع مني في مجالس الجدل، فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته، فلسنا نتكلم لوجه الله خالصاً، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى
الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام، وإن كنا في كثير من هذا نبوء بغضب الله (تعالى) فأنا مع ذلك نطمع في سعة رحمة الله
من خريف الربيع
(إلى حمامة أبريل!. . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ذَهَبْتُ للرَّوضِ في صَباحِ
مُقيِد اللَّحن، والجناحِ
وفيه ما فِيَّ من أَغانٍ
مَطلُولةِ الشدو بالجراحِ
أَوتارُ أَطياره سُكارَى
يَعْزِفنَ وَجْدَ المحب نارا
سعيرُها خمرةُ الحيارىَ!
حَثَّتْ إليه الرُّؤَى خُطاها
وخلفها انسابت الدُّموعُ!
سِيَّانِ في قَبضةِ الريِّاحِ
شوْكُ الجلاميدِ، والأقاحي
فكم رحيقٍ بلا دِنان!
وكم دتان بغير راحِ!
وكم رَبيع لنا تَوارَى
تَوَدُّ لو كانت العذارَى
لِسِحْره الغائب انتظارا
ماتتْ لياليهِ في صِباها
فهل لأحلامها رُجوعُ؟!
وكم خريف بلا زهور
ولا أغان، ولا طيور
يلوحُ مُسْتَيقْظ الشُّعور
كأن، فجراً عليه سارا
مُتَيَّمَ النُّور مُستطارا
كمشوة حَلَّتِ العِذارَا
ونغمة رقرقت شجاها
ومالها في الرُّبى سميعُ!
رأيتُ عُشا على خميل
كمهجة جَمَّة الغَليل
رَيَان بالنوْحِ والعَويل
هديله في الصباح طارا
فضج للدوح واستجارا
ناحَتْ بأشواقه جِهارا
حمامة مَزَّقَتْ حشاها
وخان أحلامَها الرَّبيع!
وأنَّ تحتَ الظلال جدولْ
يجري. . . ولكنه مُكبَّلْ
كخاطر في دمي تَنقَّل
إن قلت: أقبِلْ! أرى نفارا
أو قلت: أبعِد! دنا مَزارا
كطائر في الشِّبَاك ثارا
وأنَّه في الحشا طواها
سجن يُسمونه الضلوع!
حزينةٌ أنت يا ظلالُ؟
أم فيك نفسٌ بها ملالُ؟
أحاطَنا الحَبُّ والجمالُ
وأنتِ مثلي كَتمتِ نارا
وتنُفضينَ الأَسى عِطارا
لبستِ من حَيْرَتي دثارا
ولُحتِ ثَكلَى تُريدُ فَاها
يبكي به قَلبها الصديُع!
وأنتَ يَأُّيها الحزينُّ
يا شاعراً شَفَّه الحنينُ. . .
ألْقَى مَزَاميرَكَ الأنين
في ظُلْمة لم تجدْ نهارَا
فَدَفَّ إنشادُها ودَارَا
كَغُرْبة ضلَّت الدِّيارَا
فَطَنبتْ في الِرُّبى أساها
والرَّوض من حولها خليعُ!!
البريد الأدبي
8 -
الشعر الجديد
أوضحت في هذه الأحاديث آرائي في (الشعر الجديد) مطلقة صريحة. وكانت قد تجمعت لدي من مطالعات طويلة. وكنت أهم أحياناً بتقييدها، وأنساها أحياناً، حتى كان أن فتح (الأستاذ الجليل) هذا الباب. فلممت شعث ما تفرق منها في ذاكرتي، وجهرت بها مستهدفاً وحدي لغضب الغاضبين؛ فإن جلة النقاد آثروا العزلة، واعتصموا بالسكوت، لما قدمت في كلمتي الأولى. ولقد وددت لو كنت قد خرجت من الإجمال إلى التفصيل؛ ولكني جانبت الأشخاص، لما أسلفت، وعمدت إلى (المدرسة) - كما يعبر الآن - وهي تجمع ما تفرق من خصائهم، وتضم شتات مميزاتهم
ولا شك عندي أن الذين تتبعوا كلماتي وتأملوها في إنصاف وعدل، قد أدركوا أي صنف أعني من الشعراء، وأي نوع تنظم هذه الصفات التي عنيت ببسطها، وجهدت في تحديدها - فلا يغالطن معالط بعد هذا - أني أعني فلاناً أو فلاناً من شعرائنا ذوي المكانة فينا، أولئك الذين أجمعنا على تمجيدهم، لا الذين يتلمسون شهرتهم بين فئة قليلة من المعجبين
والآن آن أتحدث إلى الكاتب الفاضل الأستاذ دريني خشبة في بعض نقداته، كما وعدت أن أفعل
قال الأستاذ: (لقد أنكر الأستاذ جميع الشعر العربي بعد البارودي وشوقي وحافظ. . . وأشفق من الشعراء الشيوخ الإجلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، والذين يعتز بهم الشعر العربي. . . الخ)
أقول: يشير الأستاذ إلى مقالي بالرسالة. فقد قصرته على هؤلاء العلية الأمجاد، وضممت إليهم صبريا - وإن كان كثير غيري لا يذكرونه في حلبتهم - لأوجه من الشبه كثيرة بينه وبينهم. وقد رجعت إلى هذا المقال، فإذا هو خلو من هذا الإنكار. ولعله توهمه من قولي:(فلما خلا الميدان من هؤلاء الفرسان، ودالت أيامهم، سدلت على المسرح الستارة. ثم عادت فارتفعت. فإذا مشهد عجب، وإذا الحال غير الحال، وإذا نحن أمام فوضى النظم والنظام. . . الخ) فهذا يا سيدي لا يدل بمنطوقه ولا بمفهومه - فيما أدرك أنا - على أنه لم يكن بيننا إذ ذاك شعراء من الطبقة الأولى، بدليل قولي:(فوضى النظم والنظام)؛ فإن كلمة (النظام)
إنما تطلق في العرف العام على القارضين الذين ينظمون ولا يشعرون؛ فهذه الفوضى لا نعرفها في أثناء حقبة شعرائنا هؤلاء. وإنما شاعت بعدهم هذا الشيوع الذي نلمسه الآن. أما قولي: (إن تلك الحقبة لا تعبر إلا عنهم وحدهم، وإن نجم بينهم من يعترف لهم بالاقتدار رسمو الشاعرية)، فدليل آخر يشهد لي. ومعنى كون تلك الحقبة لا تعبر إلا عنهم وحدهم، أن لهم ميزات اشتركوا فيها جميعاً، فأفردتهم بين شعراء جيلهم. فهم فصل قائم برأسه في تاريخ الشعر الحديث. وهكذا يجب أن يكون في تاريخ الأدب المصري
على أني مع ذلك عند عقيدتي الثابتة فيهم - وهي عقيدة جمهرة المتأدبين في العالم العربي - تلك هي أنهم لا يزالون يتسنمون المكانة الأولى بين الشعراء لهذا العهد. والفلك الدوار قد يجود بأمثالهم وبأعظم منهم. فليرقب الفلك الدوار
وقال الأستاذ الفاصل: (أمن العدل أن يحدثنا عن قصيدة لم نرها، لنحكم إن كان إنكاره منها ما أنكر حقاً، أو ليس من الحق في شيء؟ وهل من العدل أن يجحد شعراء الشباب عامة، لأن تلك القصيدة لم ترقه؟)
أقول: ليرجع الأستاذ إلى مقالي الأول خاصة، ومقالاتي بعد ذلك، ليرى أبان أنا أحكامي جميعاً على تلك القصيدة وحدها؟ وليراجع سيدي المقال الذي تعرضت فيه لهذه القصيدة، ولينظر ما قلت هناك. وإذا كان الأستاذ يحكم هذا الحكم من غير أن يقراً كلامي حق القراءة، فما حيلتي؟ وما حيلتي أيضاً أن يسيغ أن يكتب مثلي سبعة أحاديث مستنبطاً آراءه فيها من قصيدة واحدة؟
وهل في كلامي ما يشير أو يدل على أني (أجحد شعراء الشباب عامة؟) لا يا سيدي. إني حكمت على فئة كبيرة تسنى لها - بعوامل مختلفة - أن تنشر شعرها بين ظهرانينا. وهو شعر هزيل في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه. فليس معنى هذا ألا يكون من بين شعراء هؤلاء الشباب ما يستجاد أو يستملح. ولولا أني لزمت الصمت عن الأشخاص في هذه الأحاديث لمثلت
أما (نبش قبور الموتى) و (سرقة أكفان النائمين تحت التراب). . . الخ. فهذه ألفاظ معادة، نسمعها دائماً في معرض الازدراء بالقديم أو التنفير منه. فنضرب عنها صفحاً
وقال الأستاذ أيضاً من مقال آخر: (وخامسة الأثافي، أو داهية الدواهي، ما وقعت فيه من
أسبوعين من الخطأ الشنيع فقد ذكرت في كلمتي. . . طائفة غير قليلة من الشعراء الشباب في مصر، على أنهم بعض من يمثل شعرنا الحديث. وكان هذا الخطأ سبباً في إثارة بعض هؤلاء الشعراء أنفسهم، فقد ساءهم أن تحشر أسماؤهم على هذا النحو الزري في ذلك الثبت الطويل من أسماء الشعراء). ثم قال:(ولكن المضحك في هذا الأمر غلو بعض من نقموا مني ذكر أسمائهم في ثبت الشعراء هؤلاء! لقد أٌقبل أحدهم ثائراً كالعاصفة، ونكش شعر رأسه (نكشة) أفزعتني، ولست أقول إلا الحق! ثم راح يتهمني بأني أناقض نفسي حين أعلن استجادتي لشعر هؤلاء (أل. . .). ثم قال:(والظريف أن الذين أنكر عليهم صديقي (العاصفة) شاعريتهم، كانوا شعراء من الطبقة الأولى عند صديق آخر سعى إلي ليعلن احتجاجه للسبب نفسه. . . الخ.)
هذا ما رأينا اقتباسه ضرورياً من كلامه
فانظر إلى هؤلاء الشعراء كيف ينكر بعضهم شاعرية بعض على هذه الهيئة الغريبة!
وهل بعد تصوير الأستاذ دريني خشبة لهذا المنظر البديع، تحتاج إلى شرح أو تعليق؟
(انتهى الحديث)
(ا. ع)
جائزة أدبية
في عدد المقتطف الصادر في شهر مايو نشر الشاعر بشر فارس قصيدة عنوانها (إلى زائرة)
قرأت القصيدة، ثم قرأتها مرات، ثم أعدت قراءتها في أوقات متفاوتة، وكنت، عقب كل قراءة، أعود بالخيبة من عدم الفهم؟! ولكن هل في أداة تفكيري عطب أو تلف، وقد قرأت وفهمت أكثر ما نشر في ذلك العدد من المقتطف من بحوث في العلم والفلسفة والأدب؟
يحسن بي إذن أن أشرك قراء الرسالة معي في قراءة هذه القصيدة وأتعهد بجائزة مالية قدرها خمسة جنيهات مصرية، أدفعها إلى من يستطيع فهم معاني تلك القصيدة وشرحها، ولا أستثني قراء العربية في سوريا ولبنان وفلسطين والحجاز والعراق، وقد أودعت المبلغ في إدارة الرسالة. وهذه هي القصيدة:
إلى زائرة
لو كنتِ ناصعة الجبين
…
هيهات تنفضني الزياره
ما روعة اللفظ المبين؟
…
السحر من وحي العباره
ظِلّ على وهَج الحنين
…
رَسمته معجزة الإشاره
خطٌّ تساقط، كالحزين،
…
أرخى علىِ العزم انكساره
ماذا بوجّد المحصَنين؟
…
صوت شجٍ خلف الستاره
غيَّبتِ في العجب الدفين
…
معنى براعتِه البكاره
درَّا يفوت الناظمين
…
ونهضت تهَديني بحاره
خطوات وسواس رزين:
…
وهبٌ تُعمِّيه الطهاره
(بشر فارس)
حبيب الزحلاوي
حول مزايا الخط العربي
مما رزئت به هذه اللغة الكريمة بتأثير من ضعف حماتها، أن أصبحت حسناتها سيئات تعتد عليها
ومن عيوبها عند الكثيرين أنها أهملت في خطها حروف الحركة مستعيضة عنها بالشكل الجزئي، أو الشكل الكامل لمن لا يجيد القراءة، وحجة من يفضلون الكتابة اللاتينية أنها برئت من هذا (العيب) الذي أورث كتابتنا اللبس والغموض
وإن من الطريف المضحك أن يكون صدى هذه الصيحة عندنا، صيحة تقابلها هنالك، يتنادى فيها القوم بحذف حروف الحركة من كتابتهم ضنا بالزمن والورق والمجهود
وإلى القارئ نص عبارة وردت بإحدى المجلات الأمريكية عن هذا الموضوع
(لقد كتب الشيء الكثير حول التهجية المنقحة كوسيلة من وسائل التوفير في المساحة. ومن المحتمل أن تكون هذه خطة جيدة، على أنها ستكون أجود إذا نحن تقدمنا بها إلى مدى أكثر؛ باتخاذ نهج من الاختزال يتوفر به نحو أربعين في المائة من مساحة المكتوب. ولن يكون هذا شاقاً إلى الحد الذي تعتقد، لأنك تستطيع بلا شك أن تتلو هذه العبارة. أليس
كذلك؟) وكتبت المجلة العبارة على هذا النسق من الهجاء:
. .)
وهذا نص الجزء الأول مما ترجمناه؛ وإذا نحن أعدنا كتابته على الوضع الذي يكتب به في الإنجليزية اليوم، جاء هكذا:
ويرى القارئ مبلغ الاقتصاد في الطريقة الأولى؛ ويتضح من الإشارة باستعمالها أن القوم قد بدءوا يتلمسون أسلوباً في التهجية كأسلوبنا، يحذفون منه حروف الحركة. أفلا يحق لنا بعد كل هذا أن نستمسك بما نحن عليه، وندع القوم وكتابتهم يبقون عليها أو يصلحونها. وحسبنا من شر سماعه؟
(جرجا)
محمود عزت عرفة
شعر ناجي
في العدد السابق كلام عن شعر ناجي هو صدى لذلك التطاحن القديم الذي لا نؤثر له أن تشب ناره بعد أن خمدت بين الشعراء والشعراء وبين الشعراء والنقاد وبين النقاد والنقاد. . . وأبغض شيء إلي أن أكون من موقدي تلك النار أو أن أتسبب في إيقادها. . . ورجائي أن يتقي الله الذي يحاولون - قاصدين أو غير قاصدين - إيقاد تلك الفتنة من جديد، لأنها تضر الأدب ولا تنفعه، فرب نقد أو اتهام لا يعدو أن يكون تجنياً، يقضي به الناقد أو المتهم على روح الأديب. . . أما الاتهام بالسرقة في مثل تلك السهولة وفي مثل ذلك اليسر فهو من الظلم الصارخ الذي يحسن أن نجنب أنفسنا الوقوع فيه. . . وقد تفضل أحد الأدباء في العدد الأسبق، فرد أحد أبيات ناجي التي راقتنا حتى عدلناها بألف بيت من جيد الشعر إلى الشاعر صر در حيث يقول:
ناضلنا بنوافذ مسمومة
…
وودت لو قبلت سهم الرامي
وبيت ناجي هو:
ومن عجب أحنو على السهم غائراً
…
ويسألني قلبي متى يرجع الرامي!
ولو ألقى الأديب الفاضل باله إلى أن لحاظ الحبيب لا يحسن بل لا ينبغي أن توصف بأنها مسمومة (!) لأن السم والعياذ بالله لا يكون إلا في رؤوس الأفاعي وأذناب العقارب واليعاسيب والزنابير والنمل، لفطن إلى ناحية الضعف في بيت صر در
ولو أراد الأديب الفاضل أبياتاً أقرب إلى بيت ناجي، وهو مع ذاك يفضلها جميعاً، لوضعنا بين يديه الأبيات الآتية: لابن الرومي:
فيسبيك بالسحر الذي في جفونه
…
ويصيبك بالسحر الذي هو نافثه
يحن إليه القلب وهو سقامه
…
ويألف ذكراه الحشي وهو فارثه
وللبحتري:
أين التي كانت لواحظ طرفها
…
يصبو إليها القلب وهي سهام
إن مت من أسف لشط مزارها
…
فالموت روح والحياة حمام
وللسري الرفاء:
بنفسي من أجود له بنفسي
…
ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامن في مقلتيه
…
كمون الموت في حد الحسام
وله أيضاً:
وقد فوقن بالألحاظ نبلاً=قلوب العاشقين لها رمايا
تمنينا اللقاء فكان حتفا
…
وكم أمنية جلبت منايا
وكنا قد أعددنا مائة بيت أو تزيد كلها تدور حول معنى بيت ناجي فإن أحب الأديب الفاضل أرسلناها إليه. . . وسيفضل معنا بيت ناجي عليها جميعاً، لأن ناجياً في غنى عن أن يسرق من أحد، لأنه يصور بروحه ودمه، وله ثقافة وحسن اطلاع يغنيانه عن صر در القديم وصرر درر العصر الحديث. وقد آن لنا أن نعدل.
(د. خ)