المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 569 - بتاريخ: 29 - 05 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٦٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 569

- بتاريخ: 29 - 05 - 1944

ص: -1

‌الشعر والدبابات

للأستاذ عباس محمود العقاد

الآراء في الأدب والشعر كثيرة يضل القارئ المبتدئ بينها فلا يدري أيها المصيب وأيها المخطئ ولا يسهل عليه الفصل بين الأصيل منها والدخيل

ولكنني - على تبعتي كما يقولون في لغة السياسة - أقرر هنا قاعدة مضمونة الصواب، يستطيع أن يعتمد عليها من شاء فيصون وقته ويريح نفسه من العناء، وهي: أن أقرب الآراء في الأدب والشعر إلى الخطأ هو الرأي الذي يفرض على الأديب موضوعاً لا يعدوه، ويوجهه إلى مطلب ينحصر فيه، كائناً ما كان ذلك الموضوع من جلالة القدر، وبالغاً ما بلغ ذلك المطلب من سعة الأفق

فالأدب تعبير عن الحياة

والحياة أكبر من أن تنحصر في غرض واحد أو تعتكف على سنة واحدة، فليس أوسع من شعور الأحياء بالحياة، وليس أوسع من تعبير الشعراء والكتاب عنها

خطأ أن يقال للأديب أنك مطالب بالكتابة في شئون السواد الجاهل ومحرم عليك أن تخط شعراً أو نثراً لا يفهمه هؤلاء، لأن صعود الجاهل إلى طبقة العارف أكرم وأجدى على بني الإنسان من نزول العارف إلى طبقة الجاهل

وخطأ أن يقال للأديب إن مسائل العيش هي موضوع الكتابة الوحيد في هذا الزمان أو في أي زمان. لأننا نكرم الأديب ولا نرحم الفقير بهذا المذهب. فليس من الكرامة للأدب أن يكون فرعاً ملحقاً بالمطاعم والأفران، وليس من الرحمة للفقير أن يقضي نهاره في الكدح للعيش ثم يتناول كتاباً ليقرأه فإذا هو أيضاً كدح للعيش من طريق البصر والبصيرة

وخطأ أي يقال للأديب إنك مقيد بأقاليمك فلا تكتب حرفاً يخرج بك من نطاق ذلك الإقليم. لأن غارس البصلة - ودع عنك الأدب - لا يقول لها وهو يغرسها: كوني إقليمية ولا تشبهي البصلة التي تنبت في خارج هذا الإقليم. ولكنه يغرسها وتخرج هي على ما تشاء لها التربة والنور والهواء، ولا نظن البصلة أقدر على الاستقلال (بالتكيف) الإقليمي من الفكرة الإنسانية. فمن كتب في مصر فلن تكون كتابته إلا مصرية ولو كان موضوعها قطب الشمال أو قطب الجنوب، ولن يصبح الأدب الذي يكتبه النرويجي المصري الإقليم

ص: 1

ولو أجراه كله على النيل والأهرام والصحراء

ومنذ مدة شاعت في مصر والشرق العربي بدعة ببغاوية من تلك البدع التي لا يدري قائلها نفسه ماذا يفهم منها وماذا عسى أن ترمي إليه

فقالوا إن العصر عصر مخترعات وحروب فلا موضع فيه للشعر والغزل ولا لتواريخ الشعراء والغزلين!

وتشاء المصادفات أن يلغط اللاغطون بهذه البدعة ومطابع الغرب تلقى بين حين وحين بالدواوين الجديدة والنخب الكثيرة من أشعار القدماء والمحدثين!

هذا وهم أصحاب المخترعات وأول المصابين أو المصيبين بحروب الطيارات والدبابات

بل تشاء المصادفات أن نرى العشرات من هذه الكتب في مكتباتنا الشرقية، وأن يتصدى المجندون في الجيوش الأوربية بيننا لطبع النشرات الدورية، فإذا هي حافلة بالحديث عن الشعر والأدب والجد والفكاهة، وإذا هي خالية أو تكاد تخلو من تلك الموضوعات التي يخيل إلى أصحاب البدع الببغاوية أنها دون غيرها موضوعات الكتابة في عصور الحروب والمخترعات

ولكن المصادفات قد شاءت في هذه الأيام مشيئة لم تكن تخطر لببغاء من تلك الببغاوات المسكينة على بال

ففي بريد الشهر الماضي وصل إلينا من لندن كتاب يقول كثيراً بلسان المقال ويقول أكثر من ذلك جداً بلسان الحال.

أي كتاب؟ كتاب مختارات شعرية سماء صاحبه (أزهار أناس آخرين) '

ومن صاحبه يا ترى؟

لتتعب الببغاوات أدمغتها إن كانت لها أدمغة تتعب فما هي بقادرة على تخمينه ولا المقاربة منه

ولكننا نعفيها ونعفي غيرها من جهد التخمين فنقول لهم: إن صاحب هذه المختارات هو المارشال ويفل حاكم الهند العام وقائد الميادين الذي عرفه المصريون وأبناء الأمم العربية في الشرق الأدنى

أي والله هو القائد الكبير بعينه! هو الرجل الذي لا يصنع شيء في ميدان من ميادين

ص: 2

الحرب إلا سئل عنه وسمع له رأي فيه، هو الرجل الذي يحرك من الدبابات والطيارات والمدافع أضعاف ما تراه تلك الببغاوات رأي العين من بعيد

تكبره وقعة (النبيوة) في أعين الناس

وتكبره فوق ذلك هذه المختارات التي يرتضيها الأديب الناقد ولا عمل له غير القراءة والكتابة والاختيار

لأن نبوغ القائد في فنه عمل عظيم، ولكنه غير عجيب

أما العظيم والعجيب حقاً فهو نبوغه في الذوق الأدبي ومساهمته فيه بالنصيب الراجح واتساع وقته له في أحرج الأحوال

وذلك هو النبوغ الذي لا تفهمه الببغاوات ولا يفهمه أصحاب البدع ممن لا يصلحون للعمل ولا للكتابة ولا للقراءة، ولكنهم يجلسون في مقاعد المعلمين ليقسموا الأعمال بين الكتاب والقراء والساسة والقواد، وكل من خلق الله وما خلق الله في ملكوت الله!

بين قصائد الكتاب نماذج يقرأها الجندي، ونماذج أخرى يقرأها محب الطبيعة ومحب الأسفار، ونماذج يقرأها العاشق ويقرأها الفتى والعذراء، ومنها في الكتاب مئات تمتلئ بها صفحاته التي تربى على الأربعمائة، وواحدة منها تكفي لسؤال الببغاوات عن مكانها من زمان الطيارات والدبابات، وهي قصيدة توسون عن رسالة الفتاة المحتضرة إلى حبيبها حيث يقول:

(ماذا أقول لحبيب فؤادك الصدوق أيتها الفتاة التي تودع هذه الغبراء؟

(ماذا أقول للحبيب يوم تنضين عنك كساء الحياة؟)

(قولي له: في هذا الجانب من وراء القبر نحن العذارى لا ندري كيف تكون الحياة مرة التناول، ثم تكون بعد ذلك مرة الفراق)

ماذا أقول لحبيب فؤادك الصدوق حين أراه؟

ماذا أقول له وقد أطبقت عينيك على الظلام؟

قولي له حين تفارقين سرير العذراء الذاوية: إنها الآن تراك بنور الضمير وقد عميت العينان

ماذا أقول لحبيب فؤادك الصدوق وأنت تضعفين عن نزر الكلام؟ ماذا أقول له أيتها المقبلة

ص: 3

على وادي الحمام؟

قولي له وأنا أجاهد الشفتين بختام كل كلام: إن التي أحبتك أمس بكل ما فيها من حياة تحبك اليوم بكل ما فيها من موت!)

هذا نموذج من نماذج مختلفات في الكتاب، لا حاجة بنا أن نسأل عصر الطائرات والغارات الجوية عنها أو نلتمس لها جواز الدخول فيه، لأن الرجل الذي اختارها له على الأقل حقوق في الطيارات توازن أضعاف الحقوق التي تدعيها الببغاوات الآدمية، لاسيما وهي بحمد الله ببغاوات لا تطير!

وقد جاءنا في البريد نفسه كتاب دوري يسمى (أوربا) يعني بنشر الأنباء الثقافية والاجتماعية عن القارة الأوربية في إبان الحرب الحاضرة، فإذا في صفحاته المختارة صفحة عنوانها (قارة من الشعراء)، ومطلعها يغنى عن سائرها، حيث يقول مقدمها في بضعة سطور:

(إحدى الظواهر البارزة - والمعزية - في هذه الظلمة الدموية أنها حفزت القرائح من كل طراز إلى معالجة القريض. . . وهذه صحف الجيوش المتحالفة تزدحم بشعر الهواة كما تنتشر الصحف السرية في القارة بين الأمم المقهورة، وفيها قصائد لا تحصى يترنم فيها أصحابها بما طلب لهم من نغمات التحدي والصبر على البلاء)

هذه الحقائق التي نلفت إليها الأنظار من حين إلى حين هي أنفع الحقائق الأدبية لقراء العربية في هذه الآونة

لأننا قد برمنا بعصر الجمود ورجونا أن تسرع الخطى في عصر الطلاقة والتجديد

وما هو الجمود في لبابه؟

هو ضيق الأفق أو هو حصر الحياة في نطق محدود

وهذا الجمود بعينه هو الذي يتخبط فيه ببغاوات البدع، وهم يحسبون أنهم مجدون وأنهم يخرجون بالشرق المسكين إلى زمان غير زمان الجمود

هذا الضيق الوبيل هو الذي يستقرون فيه أو يرجعون إليه حين يقولون ويعيدون: نحن في عصر العلم فدعونا من الأدب! نحن في عصر النار والحديد فدعونا من الفن والجمال! نحن في عصر الطيارات فدعونا من القصائد والشعراء! نحن في عصر الحقيقة فدعونا من

ص: 4

الخيال!

وحقيقة الحقائق الكبرى أن العصر الذي يحصر الحياة في نطاق واحد هو أخبث العصور وشر العصور وأسخف العصور، وأن الهمجية في عصرها لأصدق وأشرف منه لأنها صادقة في اندفاعها ولو في الظلام، وهذه العصور التي يصفونها تضيق بفسيح الطرق وهي في النور

إن الغرب لم يغلبنا لأنه قال بالعلم دون الأدب أو بالمخترعات دون الأخيلة والخواطر النفسية، ولكنه غلبنا لأنه وسع نطاق الحياة

فليكن هذا شعارنا في نهضتنا فهو آمن شعار وأنبل شعار. وسعوا أفق الحياة ولا تضيقوه وأنتم على ثقة من صواب ما تعملون وجدوى ما تعملون. أما (خذوا هذا ودعوا ذاك)، فهو كلام كسالى مهزولين لا يصلحون للعلم ولا للأدب، ولا يفلحون مع الطيارات ولا مع الحمير والبغال، ولا يزالون يجهلون ما يقولون ثم لا يتوارون بجهلهم عن العيون بل يتحلون به حلية الفخار ويبرزون للتعليم والتنديد!

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الهوى العذري بين جميل وبثينة

للأستاذ نقولا الحداد

كثيراً ما يكون أن تؤدي الحوادث إلى أمور جسام، ما من أحد إلا رأى ثمرة تسقط عن شجرة فلم يبال. ولكن السير اسحق نيوتن رأى يوم تفاحة تسقط من شجرتها فتنبه إلى سبب سقوطها. وكان من جراء تفكيره فيه أنه اكتشف ناموس الجاذبية واستنبط (حساب التفاضل والتمام) الذي يعد في قمة العلوم الرياضية

والحب غريزة في الأحياء حتى في الجماد. وكل إنسان يحب ويعشق. على أن الآدميين متفاوتون في سورة الحب. وجميل بثنية لا يعد نادرة الزمان في العشق والغرام. فمثله كثيرون: كقيس ليلى وقيس لبنى وكثير عزة ومثالهم ممن كناهم الناس بأسماء معشوقاتهم أو لم يكنوهم. ولكنهم اشتهروا بشغفهم وافتتانهم وغرامهم المضني

والأستاذ عباس العقاد اتخذ عشق جميل بثينة (تفاحة نيوتونية) لكي يتوسل به إلى أبحاث سيكولوجية وأخلاقية واجتماعية في الحب والعشق. فأوغل في صميم هذه الأبحاث في كتابه جميل بثينة حتى استخرج منها نواميس الحب العليا كما استخرج نيوتن من سقوط (تفاحة) ناموس الجاذبية الكونية). ولا بدع فكلا الحب والجاذبية نبضة واحدة في الطبيعة وعند التحقيق تجد أن لهما ناموساً واحداً

إنما جاذبية الكون حبٌّ

وكذا الحب في الورى جاذبية

وعندي أن أقوى ما يسترعى الأذهان في مباحث العقاد إصابته موضوع (الهوى العذري). وهو بالحقيقة موضوع سيكولوجي ليس بالهين الخوض فيه والغوص إلى قرار بحره؛ لأن: الهوى العذري ظاهرة نفسية إنسانية تناقض سنة الغريزة النسلية في خط مستقيم. وفي الطبيعة البشرية الآن كثير من الظاهرات الأخلاقية التي تناقض الغرائز الطبيعية في الأحياء حتى العليا منها. وأظهرها سنة التنازع، (تنازع البقاء وبقاء الأنسب). تقوم تجاهها في العالم الاجتماعي (سنة التعاون والتضامن) فهذه طبيعة اجتماعية أخلاقية تناقض على خط مستقيم سنة تنازع البقاء البيولوجية

والمسألة التي هي موضوع التحليل والتعليل في الناحيتين هي: إلى أي حد يند الهوى العذري عن الحب الطبيعي الغريزي. ففي فصل عشق جميل وبثنية بحث مستفيض في

ص: 6

هذا

ولى في تعليل الهوى العذري كلمة أبسطها فيما يلي تمشياً مع الأستاذ في بحثه:

إذا كان المعشوق على منال اليد من العاشق كان الحب غريزياً لا يخيل فيه ولا تصور. الذات حاضرة فلا لزوم للصورة ولا وظيفة لها. والحقيقة قائمة فلا سبيل للخيال. ومتى طلعت الشمس اختفى الظلام، وإذا تفتحت العينان أمحى الطيف من المخيلة

الحب الغريزي هو المبدأ الأول، هو لهب الشهوة. فإذا انطفأت هذه الشهوة خمد الحب، ومتى تيقظت احتدم. فإذا كان الحبيب بعيد المنال تولى الخيال العمل في دولة الحب بإيعاز الشهوة. حينئذ تخترع المخيلة الجمال وتبدع في تصويره إلى أن تصبح صورة الحبيب في صفحة التصور أجمل من الحبيب نفسه في هيكل المادة. حتى إذا استعرض الصب حبيبه رآه كما صورته المخيلة لا كما ترى عيناه هيكله المادي. ولهذا قد تستغرب إذ ترى معشوقاً لا مزية له على سائر الناس يفتن عاشقه دون سائر الناس، ويفتتن به عاشقه دون سائر الناس. فتستغرب هذا الافتتان وتندهش من وله هذا العاشق وهيامه بحبيب لا يتفوق بشيء عن سائر المعاشيق. ولا يزيل دهشتك هذه إلا آية الغرام الذهبية وهي (الجمال في عين الرائي)

فإذا تعذر اتصال المحب بالحبيب تحول غرامه إلى طيف الحبيب وخياله. يصبح عاشقاً خيالاً قائماً في مخيلته وهو ما نسميه (الحب الروحاني). يرتفع الحب في نفس الإنسان من حضيض المادة إلى سماء الروح. ويحلق في أعالي تلك السماء حتى يصبح العاشق وهو يبتغي تمتعاً نفسانياً لا جسدياً. حينئذ يتواري الحب الغريزي وراء الحب الروحاني. وهذا قابل دون ذاك للتعاظم إلى ما لا نهاية له. يتعاظم الحب الروحاني ويتضاءل الحب الجسداني، إلى أن يصبح ذاك برجا هائلاً، وهذا حصاة في أسفل البرج. يصبح العاشق كله روحاً تطوف في سماء الوجود، بل تكاد تمدد خيال المعشوق حتى يشمل الكون كله، أو تقلص الكون كله حتى ينطوي في خيال المعشوق. حينئذ يقنع العاشق بنسمة من أنفاس المعشوق، وبنظرة في صورته، ويسمع كلمة رضى منه، كما قال ابن الفارض:

عديني بوصل وامطلي بنجازه

فعندي إذا صح الهوى حسن المطلُ

وما دام هوى العاشق. يتجسم على هذا النحو، والعاشق يتلذذ بهذا الوهم، ولا يمكنه أن

ص: 7

يحصل على الحقيقة. فهواه هذا هو الذي نسميه (الهوى العذري). ونعني بالهوى العذري الحب الذي خلا من نبضة الغريزة النسلية وتوارت فيه الشهوة الجنسية

هو العنب الذي أعرض عنه الثعلب لأنه عال لا يمكنه أن يثب إليه، فقال:(إنه عنب حامض)

فإذا قدرت ما تقدم من التعليل فلا تستغرب أن يعظم هذا الحب الروحي إلى حد يطمس أن الحب الغريزي، ويتمادى العاشق في تولهه وهيامه حتى يتراءى له أن اللذة الجسدية أصبحت ثانوية عنده

ولكن متى زالت موانع الاتصال بالحبيب ارتد الهوى الروحاني إلى الوراء، وبرز الهوى الغريزي إلى الأمام وقضى على عذرية الحب

على أن الهوى الروحاني لا تذهب قوته سدى بل تضاعف قوة الهوى الغريزي، لأنه كلما حلق الحب في جو الخيال وسبح في فضاء الروحانيات انقض إلى حضيض الحب الغريزي متى زالت موانع الاتصال بالحبيب. وكلما كان ارتفاعه عظيما كان انقضاضه قوياً

وفي رأي مارى ستوب مؤلفة كتاب (الحياة الزوجية) أنه يحسن بالزوجين أن يفترقا حيناً بعد حين ويعيشا منفردين لكي يتعاظم في قلبيهما الحب الروحاني العذري حتى متى اشتد شوقهما التقيا بقوة حب شديد

ولذلك ما نسميه هوى عذرياً ليس إلا فرقاً أثيرياً وهمياً يزول بزوال الموانع من لقاء الحبيبين

أما الموانع فلا يجهلها أحد. فمنها ما هوة شرعي كارتباط أحد المتعاشقين بزواج آخر. أو ما هو شبه شرعي كتفاوتهما في المقام والشرف والنسب الخ. أو ما هو عرفي كالحشمة الفائقة التي تأبى عليهما اتصالاً بلا مسوغ شرعي. وهذا المانع الأخير كان قوياً عند العرب وله أشكال مختلفة. ومنها عند العرب تشبيب الشاعر بعشيقة يحرم عليه الزواج منها. وكنا نود أن يشرح لنا الأستاذ العقاد هذه الشريعة العرفية عند العرب ويفسر لنا سببها وفلسفتها

والمرأة عند الأمم العريقة في الحضارة ولا سيما الأمم العربية متصونة كل التصون. وفي كثير من العصور كانت في الخدور والعرض مقدس بعد قداسة المعبود. ولذلك كان الحب

ص: 8

الغريزي محتبساً في نطاق ضيق من الأدب ولا يجد له منفذاً إلا من نافذة التخيلات الشعرية. فمتى عز على العاشق لقاء محبوبه جنح إلى التأمل العقلي حتى تسنى له أن يتمثل لقاءه بحبيبه ويشاهد جماله الفتان وبهاءه اللامع ولطفه الأثيري فيتمتع به تخيلياً

إذن فهذا الهوى العذري الذي هو منطق الحب الروحاني الخيالي هو موحى الشعر الغزلي. ولولاه لما كان ثمت شعر، لأن الحب الغريزي لا يوحي بشيء سوى طاعة الطبيعة فقط. والإنسان والحيوان فيه سواء

بهذا الحب الشعري يتلذذ المحب ويترفع عن الشهوة البهيمية. وفي هذا الفردوس الغرامي الذي تبتدعه المخيلة ينشأ إله الشعر أجل، في هذه الخلوة العقلية التي يحتكر فيها الحب القوي العقلية ويحصرها في التأملات الغرامية تتيقظ في نفس العاشق غريزة الشاعرية. فكل عاشق شاعر بحكم الحب. ولكن ليس كل شاعر ينظم

بناء على ما تقدم لا يمكن أن يكون حب جميل لبثينة عذرياً إلا حين يكون جميل ممنوعاً عنها، وكان إنه إذا اتصل بها عاد حبه غريزياً كما فهم من سيرة حياته التي تخللت كتاب الأستاذ العقاد، ولا ريب أن ذلك المنع الذي منى به جميل تارة من قبل أهله وتارة من قبل أهل بثينة عظم فيه الهوى الروحي الشعري، ثم الهوى العذري في حين الصد والمنع

بقيت كلمة في باب من أبواب الحب طرقه الأستاذ العقاد وناقش فيه الأستاذ الدكتور طه حسين بك وهو غدر المحب بالحبيب وتعريضه للفضيحة. ولذلك قصة رواها الدكتور وهي:

(زعموا أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلاً لا يشبب بابنتهم بل بأمة لهم. فغضب جميل لهذه القالة وأراد أن يكذبها فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة وتحدثا. ثم عرض عليها جميل أن تضجع فما نعت، ثم قبلت. وأخذها النوم. فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى، وأصبح الناس فرأوا بثينة نائمة في غير بيتها فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل وقال جميل في ذلك شعراً)

قال الدكتور: (أتظن أن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقاً؟ وأن رجلاً كجميل كان يحب بثينة حباً كالذي نجده في شعره يستطيع أن يعرض حبيبته لمثل هذه الفضيحة!) اهـ

وفي رأي الأستاذ العقاد (أن حب جميل لا يمنع أن يعرضها لتلك الفضيحة، لأنها لا تتجاوز

ص: 9

معنى قصيدة من القصائد الكثيرة تغنى فيها بحبها ولقائها ومناجاتها، ثم أرسلها في أفواه الرواة تطوف البادية والحاضرة حيث يقدر لها المطاف)

فالدكتور يعتقد أن العاشق الذي يحب ذلك الحب العذري لا يمكن أن يغدر بحبيبته ذلك الغدر، والأستاذ لا يحسب تعريضها للفضيحة غدراً بها ينقض حبه لها فهو يمكن أن يحبها حباً جماً ولا يبالي بفضحها على ذلك الشكل

وإني لأستأذن حضرة الأستاذين الكبيرين أن أقول: إن تصرف جميل مع بثينة في ذلك الحادث وفي قصائده التي تمس سمعتها ليس قاعدة لتصرف العشاق جميعاً. على أن تصرفا كهذا لا يتوقف على الحب وشدته أو ضعفه، وإنما يتوقف على أخلاق العاشق ونوع تربيته، فقد يتورع عاشق غير جميل عن أن يعرض حبيبته لفضيحة، وجميل لا يتورع، لأن لذلك خلقاً نبيلاً ليس لجميل، فيتحاشى أن يعرض حبيبته لملامة أو فضيحة بل يمكن أن يكون أنبل من ذلك فيعرض نفسه دون حبيبته لفضيحة لكي ينقذها منها أو من مثلها، وفي الروايات كثير من أمثلة ذلك. والروايات تمثل على الغالب حقائق لا مثلاً عليا وهمية فقط. ولا بد أن يكون بعض القراء قد وقعت لهم أو لذويهم حوادث من هذا القبيل. فالمسألة مسألة أخلاق لا مسألة حب. بل هي مسألة أنانية أو غيرية

والغالب أن الهوى العذري يعصم العاشق عن أذى معشوقه أو فضحه. وجميل لم يهو هوى عذرياً، لأنه لم يكن ممنوعاً من بثينة. أو أنه كان يتخطى المنع فيتصل بها على الرغم ممانعة أهله وأهلها وأراجيف الناس. وإن كان في شعره أو قوله ما يدل على أنه عذري الهوى فهو من قبيل الدعوى الكاذبة بالنزاهة والتعفف كما يفعل كثير من الناس حرصاً على سمعتهم وكرامتهم ومقامهم وهم كاذبون

نقولا حداد

ص: 10

‌بين (أنات حائرة) وبين (قيس ولبنى)

من دموع الشاعر الجليل عزيز أباظة بك

للأستاذ دريني خشبة

ترى، هل كانت هذه الزوجة الكريمة الملهمة تدري أنها تقترح على زوجها إنشاء رثائها هذا المؤلم الحزين الخالد، وهي لا تزال على قيد الحياة، حينما اقترحت عليه نظم (قيس ولبنى؟)

ويا ترى، هل فطن هذا الزوج الكريم، وقد شرع ينظم (قيس ولبنى) أنه إنما شرع ينظم رثاء أعز الناس عليه، وهي بعد لا تزال تنبض بحياة حافلة سعيدة؟

يا للمأساة التي أنتجت لنا كل هذا الأدب، وكل هذا الشعر!

فوجئت بهدية الأستاذ الكريم على غير سابق معرفة، ففرحت بها، لأنها ملأت يدي بأملي المنشود الذي كنت أرسلهما من أجله في الأدب العربي فلا تفوزان منه إلا بالوشل الذي لا يشفى غلة، ولا يبل ظمأ. . . فلما قرأتها، عرفت فيها ريح ذلك الفؤاد المحزون الذي نفس عن أشجانه (بأناته الحائرة) أو هذه الباقة العبقة من زهرات الألم والأسى، التي نظمها الشاعر تحية لروح أعز الناس وذكرى! وجدت في المسرحية ريح هذا الفؤاد المحزون، وكنت قد تصفحت (أنات حائرة)، فلشد ما راعني أن صدق حدسي! لقد وقعت فيها على زفرة من ذاك الأنين الموجع الذي وصف به الشاعر في إحدى مراثيه تلك الليلة الخالدة في حياة كل زوج، الليلة الأولى التي تربط بين قلبين، وتحقق حلمين، وتستفتح في تاريخ كل عش هادئ طوبى من السعادة والمحبة والتوفيق. . .

لقد أجرى الشاعر على لسان قيس، في ليلته السعيدة الأولى، حينما لم الله شمله بلبنى، نغماً من تلك الموسيقا الباكية التي ترددت في أطرافها أناته الحائرة، والتي ذرف بها دموعه وروحه، وجدا على شريكه حياته وحرقة والتياعا. . .

اسمع إلى الشاعر الجليل يرثى إلفه في ليلة ذكرى عرسه:

يا ليلة جمعتنا بعد طول نوى

ذكراك هاجت لنا الأشجان ألوانا

ذكرت ما كان من عرس جلوت به

عليَّ أكرم خلق الله إنسانا

بيضاء هيفاء تحكي الصبح مؤتلقا

والروض متسقاً والبان ريّانا

ص: 11

بتنا تضئ ظلام الليل نشوتنا

وتستثير شجون الليل نجوانا

قالت وقلت، فلم تفرغ مقالتنا

إلى الصباح ولم تفرغ شكاوانا

واسمع إلى قيس يكمل هذا اللحن:

وحولنا الليل يطوى في غلائله

وتحت أعطافه نشوى ونشوانا

فتتم لبنى اللحن قائلة:

نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها

نرى الربى أيكةً والرمل بستانا

ونحسب الكون عش اثنين يجمعنا

والماء صهباء، والأنسام ألحانا

ونحسب العمر فيضاً من صبا وهوى

والغيب ملآن بالإشراق ريانا

فيشدو قيس:

لم نعتنق والهوى يفرى جوانحنا

وكم تعانق روحانا وقلبانا

نغضي حياء، ونغضي عفة وتقي

إن الحياء سياج الحب مذ كانا

ثم انثنينا وما زال الغليل لظى

والوجد محتدماً والشوق ظمآنا

وتختم اللحن لبنى وهي قائلة:

ففي سبيل الهوى ما ذاب من مُهَج

وانهلِّ من مقل زلفى وقربانا

خضنا اللياليَ نشكوها وننكرها

حتى التقينا، فقد لذت لنا الآنا

حتى التقينا فقد لذت لنا الآنا! لله ما أوجع تلك الذكرى! اسمع إذن إلى بقية اللحن يرسل فيه الشاعر الجليل روحه دموعه:

يا ليلة شبْت الذكرى بعودتها

في دورة العام ماذا هجت لي الآنا؟

قد كنت فيما مضى أنساً نطيب به

نفساً، فأمسيت أوصاباً وأشجانا

أضنيت أسوان ما ترقى مدامعه

وهجت فوق حشايا السهد حيرانا

يبيت يودع سمع الليل عاطفة

ضاق النهار بها ستراً وكتمانا

ويرسل الشجو في سر الدجى حُرقاً

لو الدجى قُدَّ صخر إذن لانا!

إلى آخر هذه الأنات الحائرة بين الديوان الوفي الخالد، وبين المسرحية الوفية الخالدة

لقد كنت أقف عند كل شعر يقوله قيس، فأحس فيه قلباً يحترق وروحاً تتململ من الوجد، في ديباجة قوية، ونفس مرسلة، لا تتفق كثيراً لمن ينظمون شعراً لا تصله بقلوبهم صلة

ص: 12

وليس لأرواحهم بموضوعه شأن، فلما وقعت على هذا الشعر الذي يقبسه الشاعر من مراثيه، ليجريه على لسان قيس ولبنى، عرفت سبب هذه الحرارة التي تشيع في كلمات قيس ولبنى خاصة فلما قرأت في خطابه إلى أنه إنما شرع ينظم مسرحيته باقتراح من هذه الزوجة الوفية، عرفت أن المقادير قد شاءت أن تكون المسرحية كلها أخلد المراثي في ديوان الأنات الحائرة

ولكن. ما دام الأمر كذلك، فلماذا آثر الشاعر الجليل أن تنتهي منظومته هذه النهاية السعيدة، ولماذا لم ينته بها إلى المأساة، والمأساة أوجع في القلب، وأنكأ للنفس! ولاسيما أن كثرة الرواة على أن قيساً ولبنى لم يجتمعا بعد افتراقهما؟

وأحسب الإجابة على هذا سهلة هينة. . . فالشاعر المحزون رجل مؤمن عامر القلب بالإيمان. . . وهو قد نظم المسرحية لتكون رثاه ووفاء. . . وهو قد اتخذ قيساً ولبنى رمزين خالدين له ولألفه. . . وهو قد كره لهذا السبب أن ينتهي حبهما إلى هذا الفراق الكريه الذي قال به معظم رواة أبي الفرج، والذي لا لقاء بعده. . . حتى في عليين. . . وهو لهذا السبب آثر أن يجمع بينهما في هذه الحياة الدنيا. . . وأظنه. . . بل أؤكد أنه رمز بذلك إلى لقاء الدار الآخرة

وبعد. . . فنحن نريد أن نتجه بأمانينا إلى هذا الإيمان الذي يعمر قلب عزيز أباظه بك. . . الرجل الذي وفى لشريكته في الحياة ما لم يف أحد لأحد. . . الرجل الذي كان يملك هذه الذخيرة من الشعر والشعور وقوة التعبير، ثم لا يطمع في شهرة أدبية، ولا يحاول منافسة أحد من جبابرة الأدب، حتى كان الذي قضى الله، فسعت إليه الشهرة التي تحفى أقدام غيره وهو أزهد الناس فيها، لأنه إنما كان يبكي لنفسه، ولم يطلب قط أن يسعده أحد، أو أن يعده بالإسعاد على ما ألم به. إنما هو حسن حظ الأدب المصري الحديث الذي أظفره الله بأدمع ذاك القلب الكبير وأناته، منظومة في سموط من الألم. أراد الله أن يرسلها الشاعر تفريجاً لهمه، وتنفيساً عن قلبه. . . وإلا فأين كان كل ذلك الأدب وقد بلغ الشاعر الخامسة والأربعين؟

فنحن إذن نتجه إلى قلب الشاعر العامر بالإيمان. بأمانينا، بأماني الأدب المصري الحديث. . . بهذه الآمال التي رددناها، ولن نمل من ترديدها، حتى يعمر شعرنا المصري الحديث

ص: 13

بهذه الثروة الزاخرة التي شهدنا بعض أقباسها في مجنون ليلى، وكليوبطره، وقمبيز، وكثير عزة، وأغنية الرياح الأربع. . . وأخيراً. . . في قيس ولبنى. . . وفيما لا أذكر الآن من روائع شعرائنا المجددين

نتجه إلى قلب الشاعر العامر بالإيمان إذن. راجين أن يسير بالشعر المصري الحديث في تلك الناحية الموضوعية التي سار بها في مسرحيته الخالدة، والتي سار بها في روائعه (في بطحاء مكة) و (على قبر خديجة أم المؤمنين) و (أحد) و (ذكريات) وليؤد كل منا الدين الذي في عنقه للوطن واللغة والأدب. وينبغي ألا تحول آلامنا بيننا وبين واجبنا

دريني خشبة

ص: 14

‌مع نفسي.

. .!

للأستاذ سيد قطب

(1)

كتاب الحياة

هذه الحياة الدنيا عجيبة: صفحة منها تعرض كأنما هي وجه الجحيم، فإذا الدنيا كلها آلام، وإذا الطريق كله أشواك؛ وإذا النفس الإنسانية في يأس لا رجاء لها فيه، وضيق لا مخرج لها منه. وصفحة منها تعرض، كأنما هي طلعة الفردوس؛ فإذا النفس الإنسانية تطلع على هذه الحياة، وكأنما ترتادها أول مرة، وفي رحابها الفسيحة آفاق للأمل لا تأخذها الأبصار

وليس بين هذه الصفحة وتلك، إلا بمقدار ما تتحول النظرة من صفحة إلى أخرى في كتاب!

فأين هو الحق والباطل في هذا الكتاب العجيب؟

(2)

لحظة سعيدة

كم في هذه الدنيا من أشياء جميلة، نفقدها كل يوم لأننا لا نلقى إليها انتباهنا في اللحظة المناسبة

بالأمس كنت في حجرتي منفرداً، كانت أبوابها مغلقة علي، لأنني في أعقاب توعك زال. وفجأة نظرت إلى النافذة المغلقة، فرأيت الشمس من روائها توصوص لي بأشعتها

لقد أحسست إحساساً - غير كاذب - أنها تستأذن عليَّ في لهفة. إنها تود لو أسمح لها بالدخول. كانت كالصبية الغريرة في مطلع الربيع. . .

وما كدت أفتح لها النافذة حتى أشرق محياها الوضئ بابتسامة عريضة. وراحت تلقي في فرح وشوق على أرضية الحجرة المتواضعة، كأنها ملكة تتخفف من التقاليد

وما لبثت أن أخذت تتجاذب مع كل شيء في الحجرة أطراف حديث شهي، كنت أصغي له بكل جوارحي؛ ولقد وعيت في لحظات قصار أشياء كثيرة، لا أملك أن أبوح بها. لقد ذابت في دمي وأحاسيسي، واندست هناك بعيداً عن متناول الألفاظ

ورويداً رويداً جعلت أشعر أن كل ما في الحجرة يؤلف (جوقة) راقصة توقع (سيمفونية) عذبة. ورأيتني أشترك مع هذه الجوقة في الرقص والتوقيع. وقد غاب عن حسي كل ما في

ص: 15

العالم الخارجي من شخوص وأحداث، وكل ما في عالمي النفس من مشاغل ومنغصات

لقد كانت لحظة جميلة. حقيقة لم تدم. ولكنها كسب لا شك فيه، يضاف إلى رصيدي المتواضع من السعادة العميقة في هذه الحياة

(3)

الحلم الضائع

حينما كنت أحلم مغمض العينين، كنت أتسخط على أشواك تؤذيني في هذه الأحلام

فلما استيقظت وتفتحت عيناي، رحت أتحسر على تلك الرؤى بكل ما فيها من آلام

عندئذ حاولت أن أغمض أجفاني مرة أخرى، وأن أستعيد الحلم الذاهب مع الكرى

هنالك سمعت هاتفاً من الأعماق:

هيهات أيها الواهم هيهات

أنه حلم واحد في هذه الحياة

(4)

الفتى المفقود

لست أنت التي أريد يا فتاة، ولا عليك آسى في هذه الحياة إنما أريد ذلك الفتى الحالم الذي كان يحيل حقيقتك المجسمة، إلى رؤيا مجنحة

ذلك الفتى الذي كان يلقاك في عالم الأجسام، كأنما يلتقي بأسطورة في عالم الأوهام

ذلك الفتى الذي كانت تضطرب أنفاسه وتتلاحق لأن كفه لامست كفك، أو لأن نظرته التقت بنظراتك

ذلك الفتى الذي كان الدم يطفر في شرايينه والبهجة ترقص في خاطره، لأن شفتيك أو عينيك قد همستا إليه ابتسامة سريعة

نعم! أريد ذلك الفتى المغمض العينين، الذي كان يراك بخياله حورية ساحرة. فإذا فتحهما مرة فرآك إنسانة عابرة، أغمض عينيه فاستطاع أن يلقاك في الفردوس المسحور

أريد ذلك الفتى الذي أفتقده في نفسي اليوم فلا ألقاه. وعليه آسي كل الأسى لا عليك أنت يا فتاة!

(حلوان)

ص: 16

‌المرأة في حياة المتنبي وشعره

(إلى المرأة التي ألهمتني كل حديث عن المرأة)

للأستاذ حسن الأمين

هل كان للمرأة في حياة المتنبي أثر من بعيد أو قريب، وهل كان لها في شعره توجيه خاص، وهل بدت على هذا الشعر صبغة لها مساس أو بعض مساس بها؟

لا بد لنا قبل التوغل في الجواب من أن نفرق في موضوعنا بين المرأة أماً وبينها زوجة أو حبيبة، إذ لكل أثره الخاص وناحيته التي لا تشبه ناحية الآخر. فماذا كان تأثير الأم على المتنبي؟ كل ما عرفناه عن أم المتنبي أنها كانت همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات ومهما أراد الدكتور طه حسين أن يحيط بمولد المتنبي من الشذوذ ومهما أردنا أن ندفع هذا الشذوذ فلا ريب أنه لم يكن لأم المتنبي أي أثر لا في حياته ولا في شعره، بل إن المتنبي الذي تغنى بجدته لم يشر إلى أمه إشارة ولم يولها ذكراً. والدكتور طه حسين محق حين يقف طويلاً أمام هذه الظاهرة فيتساءل عن السر فيها. ولكننا لا يمكن أن نذهب معه إلى النتيجة التي وصل إليها من أن ذلك إنما كان لأن مولد المتنبي كان شاذاً! ولماذا كان شذوذ المتنبي هو السر في ذلك، ولا يكون السر فيه هو أن المتنبي لم ينعم بتلك الأم ففقدها قبل أن يعرف المجتمع وينغمس في الحياة؟ أكبر الظن أن أم المتنبي قد فارقت الدنيا قبل أن يقدر لابنها التعرف عليها والتمتع بعطفها وحنانها فتركته لأمها، فكانت أمها له أماً، وكانت عاطفة البنوة ملتهبة فيه لجدته، لأنه لم يعرف غيرها أماً، وإذا لم يذكرون شوق أمه، ولماذا يعنى برثاء جدته ولا يعني برثاء أمه؟

ومهما كان مولد المتنبي شاذاً - على رأي الدكتور طه حسين - فإن هذا الشذوذ لن يحول دون شوق الوالدة إلى ولدها

ولن يحول بين رثاء المتنبي لأمه لو كانت هذه الأم حية عندما كان ابنها شاعر العرب، ومهما يكن من أمر فالذي لا ريب فيه هو أن أم المتنبي بعيدة عن كل أثر في حياته وشعره، وقد حلت محلها في هذا الأثر أمها فكان من تأثيرها في شعره تلك القصيدة الرثائية الخالدة التي قيل عنها: (أنه ورد عليه كتاب من جدته تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها فتوجه نحو العراق ولم يمكنه وصول الكوفة فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته قد يئست منه

ص: 17

فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به وغلب الفرح على قلبها فقتلها)

ونحن لا تهمنا العلة التي ماتت بها الجدة ولا فرق لدنيا إذا كانت هذه العلة هي الفرح أو الحزن أو أية علة أخرى ما دامت قد ماتت قبل أن يراها ابن ابنتها وبعد أن أوشك أن يراها، وقد كان المتنبي وهو الشاعر الحساس الملتهب الشعور المتأجج القلب كان حرياً به أن يخلد هذا الموقف الرائع بمثل ما خلوه به من الشعر الذي لا نزال نحس فيه أحزان المتنبي وآلامه، والذي لا يزال على تطاول العهد به مضرب المثل في الأسى العميق والشجن الدامي، ومن ذا الذي لا يهزه هذا القول:

أحن إلى الكأس التي شربت بها

وأهوى لمثواها التراب وما ضما

وإذا كان المتنبي ينادي بأنه نحن إلى الكأس التي شربت بها جدته فما كان ذلك لأن هذه الجدة قد ماتت وملكه عليها الحزن فحسب، بل كان ذلك لأن نفس المتنبي كانت في ذلك الحين قد امتلأت هموماً، ولأن الزمن كان قد جرعه أمر الغصص، ولأنه كان قد رأى بعينيه انهيار آماله في الحياة وأهل الحياة، ولأنه كان قد وصل إلى حال أصبح يحن معها إلى ورود كأس المنية، ثم فوجئ بموت القلب الذي كان يرى أنه وحده يخفق بحبه، وأنه وحده الذي يستروح إليه ويعتمد عليه فصاح من أعماق قلبه في ساعة يائسة (أحن إلى الكأس التي شربت بها)

وهاهو نفسه يزيد هذه الفكرة وضوحاً وجلاء فيقول:

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا

فلما دهتني لم تزدني بها علما

فهو قد قاس من صروف الليالي ما جعله سيئ الظن بها وما جعله لا يترقب منها إلا الشر، فلما أتته هذه الداهية لم يفاجأ بها ولم تزده علماً بما يحمله له الزمن من خبايا المصائب والمحن. ثم هو ذا يمعن في الإيضاح والجلاء فيصور خيبة أمانيه وتلاشى أحلامه، فلا ولاية ولا سلطان ولا حشم ولا اتباع بل حظ عاثر ويأس قائل:

طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني

وقد رضيت بي لو رضيت بها قسماً

وهكذا بعد أن طوف في البلاد وراء (الحظ)، فاته هذا الحظ وفاتته كذلك هذه الجدة الرؤوم ونحن نلمس في عجز البيت خساً من الندم الخفي على تلك المغامرات والضرب في

ص: 18

الفلوات وراء الحظ المنشود وتلمس روحاً من الأسف المكبوت على أن لا يكون قد قنع فلم يجازف ورضى فلم يندفع، وعلى أن لا يكون قد عاش إلى جانب تلك الجدة خلى البال من المطامح بدلا. من أن يعيش إلى جانب أولئك الذين لم يعرفوا حقه ولم يجيبوا سؤله، ولا أدل على هذا الندم والأسف من البيت الذي يليه:

فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها

وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما

ولا نريد أن نسترسل في النظر بهذه القصيدة، وإنما نكتفي بالقول إنها صورة حية لما كانت عليه نفس المتنبي من الحزن والكمد، وإنها مظهر واضح لما كان فيه من التبرم بالناس والحياة وأن وفاة جدته كانت مفجراً لعاطفته، فأرسل نفسه على سجيتها فبكى فيها بكاء مراً:

حرام على قلبي السرور فإنني

أعد الذي ماتت به بعدها سما

وما انسدت الدنيا على لضيقها

ولكن طرفا لا أراك به أعمى

فوا أسفا أن لا أكب مقبلا

لرأسك والصدر الذي ملئا حزما

وتحدى الناس تحدياً صارخاً:

لئن لذ يوم الشامتين بيومها

فقد ولدت مني لا نفهم رغما

تغرب لا مستعظما غير نفسه

ولا قابلاً إلا لخالفه حكما

يقولون لي ما أنت في كل بلدة

وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يسمى

كأن بنيهم عالمون بأنني

جلوب إليه من معادنه اليتما

واستهتر بالدنيا وما فيها:

كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي

ويا نفس زيدي في كرائهها قدما

هذا هو أثر المرأة الأم، أو على الأصح المرأة الجدة، في شعر المتنبي، فما هو أثر المرأة الزوجة والمرأة الحبيبة في حياته وشعره؟

إذا كان قد وجد بين المؤرخين من يذكر أم المتنبي فيقول إنها همدانية من صلحاء نساء الكوفة، فإنه لم يوجد بينهم من يذكر زوجته أو يتحدث عنها بشيء، فنحن لا نستطيع أن نعرف في أي زمن تزوج المتنبي، ولا في أي طور من أطور حياته، ولا في أي بلد من البلاد التي نزلها، بل إن الغموض ليكتنف هذه النقطة من تاريخه كل الاكتناف، وليس لدينا

ص: 19

شيء واضح عنها، غير أنه كان له ولد سماه (محسداً)، أما من هي أم محسد، وكيف اتصل بها المتنبي، وأين اتصل، وكيف كانت حياته معها؟ فإنا لا نستطيع الإجابة على شيء من هذا. فهل عاشت معه في بلاط سيف الدولة؟ وهل انتقلت معه إلى مصر؟ وهل ذهبت إلى أرجان وشيراز؟ وهل امتدت بها الحياة بعده أم ماتت قبله؟ كل ذلك لا يجيبنا عنه التاريخ بشيء، ولكن أمراً واحداً يستوقف النظر، هو أن الذين ذكروا مقتل المتنبي ذكروا أن محسداً قتل معه، فنحن نعرف من ذلك أن محسداً كان يصحب أباه في عوده من فارس إلى العراق، ولكننا لا نعرف السن التي كان فيها محسد، كما إننا لا نعرف أين كانت أم محسد في ذلك الحين. على أننا نستطيع التأكد من أنها لم تكن تصبحه في تلك الرحلة القانية، لأنها لو كانت تصحبه وقتل زوجها وولدها لسمعنا عنها خبراً، ولروى أبو نصر الجبلي للخالدين عنها شيئاً؛ فيا ليت شعري هل كانت لا تزال على قيد الحياة تنتظر أوبة زوجها وولدها وتستعد لاستقبالهما بعد الغياب الطويل؟ هل كانت أم محسد في الكوفة تترقب عودة أبي محسد ومحسد فتبثهما لواعج الوجد والشوق وتفضي إليهما بما في الصدر من هوى وحنين؟ أم كانت في مكان آخر تستطلع أخبار الغائبين العزيزين متوقعة ما يحملانه لها من مجد ورفاه ومال؟ أجل هل كانت حية تنتظرهما أم كانت ميتة من عهد بعيد أو قريب فلم يفجعها موتهما الدامي؟

كل ذلك سر في ضمير التاريخ لم يكشف عنها لأحد. ولكننا نتساءل: هل يمكن أن تموت في حياة زوجها، ثم لا يرثيها بكلمة ولا يبكيها بقصيدة بعد أن رأينا شدة تفجعه على جدته وطول حرقته لموتها، ونحن يعنينا في مقالنا هذا أن نعرف مدى تأثيرها في حياة المتنبي وفي شعره، وبعد كل الذي مر ندرك أننا لا يمكن أن تجد لها أي أثر في حياته ولا في شعره

أما ما كان من تأثير الحبيبة في المتنبي فذلك ما سنجيب عليه في مقال تال.

(البناطية - بلاد الشام)

حسن الأمين

ص: 20

‌التناقض

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

تقدم فيما أسلفنا من كلمات مثل من تناقض صاحب النثر الفني، لكن المقام في تلك الكلمات لم يكن يسمح بالتنبيه إلى ذلك التناقض إلا عرضاً. فلعل من الخبر الآن أن ننبه إلى بعض ما فاتنا التنبيه إليه هناك

وأول ما نحب التنبيه إليه من هذا تناقضه في موقفه من المأثور من النثر الجاهلي. فبينا هو ينفيه ويغالي في موقف، إذا هو يثبته ويؤكده في موقف، فهو ينفيه نفياً بتاً في قوله:

(وما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر الجاهلي. . . وهو على قلته مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية) ص35: أول: ثم يؤكد ذلك في صفحة 37 إذ يقول:

(وإذا كان الشعر الجاهلي مهدداً بمثل هذا الرفض مع اتفاق الباحثين على أنه كان وحده موضع عناية الرواة والحفاظ والناسخين، فكيف يمكن الاطمئنان إلى صحة ما نسب إلى الجاهليين من النثر مع أن عناية الرواة به قليلة، ومع أن من خطباء الإسلام نفسه من ضاعت آثارهم لقلة التدوين) لكنك تقرأ في صفحه 52 ما ينقض هذا من أساسه إذ يحدثك:

(فأنا من الذين يرون أنه كان هناك أدب جاهلي واسع النطاق. . .

يقولون: وأين آثار ذلك الأدب الجاهلي؟

وأجيب: بأن ذلك الأدب قد ضاع أكثره حتى ليصعب أن تتخذ منه أداة لوصف ما كان عليه الجاهليون من أنظمة أدبية وسياسية واجتماعية ودينية

وهنا يبتسم المنكرون قائلين ومن يدرينا أنه كان هناك أدب ضاع؟

وعند هذه المفاجأة نجد الجواب، لأن الأدب الجاهلي لم يضع إلا عند المتأخرين، أما المتقدمون من رجال القرن الأول والثاني والثالث فقد عرفوه وتدارسوه)!

ثم يعود فيؤكد هذا في صفحة 53 إذ يقول: (أنا أقول بأن الأدب الجاهلي لم يضع إلا عند المتأخرين، أما المتقدمون فكانوا يعرفونه ويروونه ويتجرون به الأسواق الأدبية وعلى أبواب الملوك

ص: 21

فصاحب النثر الفني يثبت هنا ما كان قد نفى وأنكر هناك من وجود نثر جاهلي صحيح عرفه القدماء الإسلاميون وتدارسوه، واستنتجوا منه ما استنتجوا، وحكموا عليه وله بما حكموا. وهو بهذا يهدم كل ما بنى ورتب على فقد النثر الجاهلي من نحو إهماله آراء القدماء وحكمهم في نثر الجاهلية، واضطراره إلى الرجوع إلى القرآن لاستنباط صفات ذلك النثر، بقطع النظر عن رأى صاحب النثر الفني في القرآن. أما كيف، وقد كان ذلك النثر موجوداً مدروساً في القرون الثلاثة الأولى، أمكن أن يندثر ويضيع في القرن الرابع والقرون بعده، فذلك ما لا فائدة في التسآل عنه أو النظر فيه عند صاحب الكتاب

وموقف صاحب الكتاب من أمية العرب في الجاهلية يشبه موقفه من النثر الجاهلي، فهو يقضي فيها بما يلائم غرضه في كل مقام. إذا أراد أن يهدم ما بناه الأقدمون على أمية العرب شكك فيها ثم نفاها، حتى إذا أراد أن يحتج لبعض مزاعمه التي ينقضها نفيه الأمية عن عرب الجاهلية أثبتها وأشاعها

فهو يشكك فيها حين يريد أن يثبت لهم أدباً مكتوباً في الجاهلية إذ يقول: (وهذا الذي أقوله يحملنا على الشك في التقاليد التي جرى عليها الباحثون من أن العرب كانوا أميين بدرجة خطيرة، وأنهم لذلك لم يحفظوا عن طريق الكتابة شيئاً يستحق الذكر من قصائدهم وخطبهم ورسائلهم)

وهو ينفيها عنهم حين يثبت لهم في الجاهلية علوماً ونهضة لا تقوم إلا على الكتابة والكتاب كما ترى في قوله: (وظهور كتاب كالقرآن في أي لغة يدل على أنها تعدت طور الطفولة منذ أزمان، واللغة حين تصل إلى عهد القوة والفتوة لا تخلو من باحثين يهتمون بتقييد ما يعرض للأساليب من القوة والضعف والوضوح والغموض) ص 48 وفي قوله: (وإنما أرجح أن يكون العرب في جاهليتهم عرفوا النحو وعرفوا غيره من العلوم الأدبية. ألسنا نرى القرآن يجري على نمط واحد في أوضاعه النحوية لا يختلف في ذلك إلا باختلاف رواته من القبائل المختلفة) ص 55

وفي قوله: (ونتيجة ما سلف أن العرب في جاهليتهم اهتموا بالنثر الفني اهتماماً ظهر أثرء وعرفت خواصه في خطب الخطباء ورسائل الكتاب) ص 56

فاقرأ له واعجب إذ يقول بعد ذلك مباشرة: (ولكن ما عرف عن العرب من إهمال التقييد

ص: 22

والتدوين لشيوع الأمية فيهم أضاع علينا معرفة من اهتموا اهتماماً جدياً بتدوين البديع، فكان من ذلك أن شاع الاعتقاد بأن ابن المعتز هو أول الكاتبين في هذا الفن الجميل) هذا يقوله في مقام يريد فيه أن يجعل البديع كالنحو علماً معروفاً في الجاهلية كما هو صريح كلامه في صفحة 56، فلما لم يجد دليلاً أو شبه دليل على ذلك علله بإهمال التقييد والتدوين لشيوع الأمية في عرب الجاهلية، ناسياً ما كان ادعاه لهم من قبل من وجود علماء كاتبين يهتمون بتقييد العلوم

ومثل آخر من اضطرابه وتناقضه ما كتب في القرآن وأثره في أهل العصر الأول؛ فهو في صفحة 58 يروي في الهامش ورأى المسيو مرسيه من أن العرب كانوا يتجنبون محاكاة القرآن وأن القرآن لذلك لم يؤثر في نثرهم الفني تأثيراً بذكر. وقد وافقه بحق على تجنبهم المحاكاة وخالفه بحق كذلك في إنكاره تأثرهم بالقرآن إذ يقول: فإن ذلك - أي تجنبهم المحاكاة - لا ينافي تأثرهم به وتأثيره فيهم، فإن هناك عدوى روحية تمس القلب والعقل وتصبغ الآثار الأدبية بصبغة ما يقرأ المرء أو يسمع وإن تكلف الهرب وحسب نفسه بمنجاة من المحاكاة والتقليد) فهذا صريح في أنه يرى أن تأثرهم بالقرآن كان غير مباشر، أي كان رغم تكلفهم الهرب عن المحاكاة والتقليد. لكنه يرجع بعد ذلك في صفحة 60 فيقول توصلاً إلى تخطئة بعض مخالفيه (والقرآن أساس المنهج الكتابي لذلك العصر - عصر الصدر الأول - بلا شك) فينقض بهذا ما وافق وما خالف به مرسيه، إذ كيف يمكن أن يكون القرآن أساساً للمنهج الكتابي من غير أن يقلد أو يحاكي، أم كيف يتكلفون الهرب من محاكاته ثم يكون عندهم أساساً للمنهج الكتابي؟

وأعجب من هذا وأصرح في تناقضه أنه بعد أن رجح معرفة الجاهليين علم النحو بناء على جرى القرآن على نمط واحد في أوضاعه النحوية، رجع فنفى ذلك في الهامش في نفس الصفحة (ص 55) إذ يقول تعليقاً على دعواه تلك:

(عدم اختلاف الأوضاع النحوية لا يدل على أن العرب لذلك العهد كانوا عرفوا النحو، ولكنه دليل على أن اللغة كانت موحدة في طرائق التعبير، وهذا كاف للاقتناع بأنهم فكروا في ربطها بقواعد النحو وأصول البيان)! فانظر إلى استدلاله على معرفتهم النحو في الجاهلية بعدم اختلاف الأوضاع النحوية في القرآن، ثم نصه على أن عدم اختلاف

ص: 23

الأوضاع النحوية لا يدل على أن العرب لذلك العهد كانوا عرفوا النحو، واحكم هل هذا بحث باحث أو عبث عابث؟ أما كيف أن توحد اللغة في طرائق التعبير كاف للاقتناع بأنهم كانوا فكروا في ربطها بقواعد النحو وأصول البيان في الجاهلية، أم كيف أنهم فكروا في ربطها بقواعد النحو مع أن العرب لذلك العهد لم يكونوا عرفوا النحو، فأمر لا يقدر على فهمه إلا من قدر على قوله: صاحب الكتاب ومن على غراره في البحث والتفكير.

محمد أحمد الغمراوي

ص: 24

‌من الشعر الجديد

للأستاذ محمد محمود رضوان

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ونعود بعد ذلك إلى قصيدتنا فنكشف ما فيها من سمات الشعر الجديد بقدر ما يطيقه قلمي الضعيف. فمنها:

اضطراب الوزن

وشعراؤنا المجددون لا يأبهون بأوزان الشعر كثيراً. . . هم ينظمون كما تهديهم الفطرة فإن جرى نظمهم على أوزان الشعر فيها. وإن حادوا عنها ووجدوا من يلومهم أخذتهم العزة فراحوا يعنفون هذا الأسلوب العتيق - مراعاة الوزن وينادون بتحرير الشعر من هذه القيود الثقيلة التي اصطنعها الأقدمون

وإذا كان الشاعر - علي شرف الدين وهو من الذين درسوا العربية وراضوا عروضها وقافيتها يهمل الوزن فأحر بسائر شعرائنا الشبان أن يكونوا أكثر منه إهمالاً له

مطلع قصيدته (أين الطريق)

ملِّ الرحيل معفَّرٌ

أودى به حظ الأديب

وهي كما ترى من (مجزوء الكامل) ووزنه (متفاعلن) أربع مرات. وقد اختل الوزن فيها مرتين. الأول في قوله:

لن تشهدي مني السرور على الشروق ولا البكاء على الغروب

فإنه كرر (متفاعلن) خمس مرات. والأخرى كذلك أيضاً في قوله:

كأنما للغمط والحرمان من أبنائها حظ الأديب

تناقص المعاني

ويحدث هذا في أشعار القوم، لأنهم لا يقصدون إلى هدف في نظمهم. وإنما هي أفكار تروح وتجئ، وتشرق وتغرب على غير هدى. ولقد يخيل إلى أن الشاعر منهم يشرع في نظم قصيدته وما في نفسه غاية أو هدف فما يزال يلفق البيت والأبيات من الشرق ومن الغرب حتى تستوي له قصيدته. ولئن سألته ماذا يعني وأيا يريد لتسلل لواذاً ما يلوى على شيء.

ص: 25

فهل تنتظر من مثل هذا إلا أفكاراً متناقضة ومعاني متباينة؟

وهذا شاعرنا يحدثنا عن برمه بالحياة لكثرة نوازلها حتى لقد مات شعوره

وتمررت نفسي زماناً

ثم ثابت من لغوبِ

مات الشعور بها فما أنا

بالحزين ولا الطروب

وإذن فقد مات شعوره فما يحس حزناً ولا طرباً، ولكنه بعد ذلك يحدثنا عن قلبه الذي ينزع بالشجو ثم يشكو أساه إلى والديه، ثم يرجع في آخر قصيدته (مكلوم الفؤاد بحظ منسي سليب)، ولست أدري كيف يتفق الشجو والأسى والفؤاد المكلوم لإنسان فقد الشعور؟. . .

وتراه يقول إنه لم يبق منه بعد أن أرهقه الزمان

إلا بقايا مأتم

في الوجه يبديه شحوبي

أشلاء آمال تلوح

كأنها صرعى الحروب

ولست أدري كيف يتفق لمثل هذا المحطم الذي لم تبق له الأيام إلا أشلاء من الآمال أن يرقى الجبل مزوداً بأعصاب قوية

فصعدت لا زاداً سوى

الأعصاب الفصحى العروب

ثم ما رأيك في كلمة (الأعصاب) في هذا الشعر؟

ومن تناقضه أيضاً أنك تراه ساخطاً على الشباب آملا الخير في المشيب:

وسئمت من ليل الشبيبة

وانتظرت سنا المشيب

ولكنه - وقد بلغ الثمانين من وهده وشاب بخياله - ساخط أيضاً على المشيب:

وبلغت من زهدي الثمانين

التي هدَّت جنوبي

عثرات اللغة والنحو

وهذا شائع في شعر القوم ولا سبب له إلا جهلهم باللغة وأساليبها، وفقرهم في الاطلاع على كنوزها ودقائقها. وارتضاخ ألسنة الكثير منهم بلكنة أعجمية يزهون بأن تظهر في تعبيرهم، وأخيراً عدم مبالاتهم بنا يفشو في أساليبهم من اللحن وتهوينهم من شأنه. يقول شاعرنا:

وتكشفت لي محن

ة الأكفاء في البلد العجيب

والأكفاء هم النظراء، وإنما يريد الأكفياء جمع كفى أو الكفاة جمع كاف. . . ويقول:

ص: 26

وقصيدُ عمرٍ داميً الأوزان مجروحَ الضروب

ولست أدري بم نصب نعت المرفوع. ولا معنى للتعلل بالقطع هنا

ازدحام الاستعارات وفسادها

ولعل فساد الاستعارة من أشهر عيوب القوم. فالمعروف أن للاستعارة أصولا ودقائق يزل من يحيد عنها، وأنه لا بد من أن تكون مشابهة بين المستعار والمستعار له حتى تصح. . . على هذا جري كلام العرب، ولكن سادتنا لا يحفلونه، هم يستعيرون ما شاءوا لما شاءوا من غير اكتراث بعلاقة. وحسبهم ما في الألفاظ من بريق ولمعان

ثم إن الاستعارة في كلام بلغاء العرب كانت بمقدار، وقد تقرأ القصيدة من شعر امرئ القيس أو الفرزدق فلا يقع لك إلا استعارة أو اثنتان أو ثلاث أو ما قرب من ذلك، وقد عاب النقاد على شعراء بني العباس إيغالهم في الاستعارة والتجنيس، وقضية الاستعارة في شعر أبي تمام استغرقت أكثر كلام الآمدي في كتاب الموازنة. فما بال شعرائنا يغرقون فيها - إلى فساد في التشبيه وانقطاع في العلاقة - إغراقاً بعيداً يجعل كل شعرهم استعارات وصوراً متراكمة، وما هكذا يكون البيان. وقديماً قالوا إن الشيء إذا زاد عن الحد انقلب إلى الضد. اقرأ لشاعرنا هذه الأبيات:

أشلاء آمال تلوح كأنها صرعى الحروب

وجراح أنات تلاشت واندملن على ندوب

ورفات آهات نضمن قبرها صدر الغيوب

وقناة دمع لم تزل بالخد من عهد النحيب

وحنين قلب ملجم الدقات مكبوح الوجيب

نزاع شجو دونه في ناره شجو الغريب

وقصيد عمر دامي الأوزان مجروح الضروب

أرأيت أشلاء الآمال، وجراح الأنات، ورفات الآهات وقبرها، وصدر الغيوب، وقناة الدمع، والدقات الملجمة، وقصيد العمر، والأوزان الدامية، والضروب المجروحة؟ أرأيت إلى هذه الزحمة المرهقة؟ ثم اسمع إليه بعد ذلك يصف أيام الطفولة بأنها رفافة كالروح أو كالنور أو طيف الحبيب وأنها ريا كنوار المروج، ثم إني أؤكد لك أن شاعرنا - على ما رأيت -

ص: 27

مقتصد في استعاراته وتشبهاته بالنسبة لما عودناه شعراؤنا المجددون، فهل هذا هو التجديد يا معشر الشعراء؟

لقد مرت عصور كان الجناس فيها آفة الأدباء، فهل يحق لنا أن نقول إن الاستعارة والتشبيه اليوم آفة الشعراء؟

سوء المقابلة

والمقابلة من محسنات البديع، ولكن لها دقائق. قديماً عابوا على الشاعر مقابلته المحب في قوله (سرور محب أو إساءة مجرم)، لأن مقابل المحب هو المبغض لا المجرم مع أن المبغض مجرم

وشعراؤنا يقابلون فيخلطون، وشاعر اليوم يقابل السرور بالبكاء وبرج السعد ببرج الخطوب وإنارة الشمس بغيابها، وقد يكون له في كل هذا تأويل ولكنه على كل حال مما يضعف الشعر ويشوه جماله

ضعف الأسلوب

وهذا الموضوع يطول شرحه في شعر القوم، ولكن لن يفوتنا أن نمثل له بقول شاعرنا

أمي أبي أدعو وعند كليكما خير المجيب

وقوله يخاطبهما

أغضبتما فكبا جوادي أم ترى كثرت ذنوبي

وقوله:

وبلغت من زهدي الثمانين التي هدت جنوني

فما رأيك في (عند كليكما خير المجيب) و (أم ترى كثرت ذنوبي) وجمع الجنب في (هدت جنوبي)؟

أما بعد. . . فهذه نظرات سريعة لم يملها علينا إلا رغبتنا في خير الشعر الجديد. ولدينا - فوق ذلك - مزيد.

(بني سويف)

محمد محمود رضوان

ص: 28

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

557 -

أنا آكل الكبش بصوفه

قال الطبري: كان للفصل بن الربيع (وزير الأمين) خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم ودخل في حبس الزنادقة فرأى فيه أبا نؤاس - ولم يكن يعرفه - فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة؟ قال: معاذ الله قال: فلعلك ممن يعبد الكبش

قال: أنا آكل الكبش بصوفه. . .

قال: فلعلك ممن يعبد الشمس

قال: إني لأتجنب القعود فيها بغضاً لها

قال: فبأي جرم حبست؟ قال: حبست بتهمة أنا منها برئ، قال: ليس إلا هذا

قال: والله لقد صدقتك. فجاء إلى الفضل فقال له: يا هذا لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل أيحبس الناس بالتهمة؟

قال: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى (أبو نؤاس) من جرمه فتبسم الفضل، ودخل على محمد (الأمين) فأخبره بذلك، فدعا به وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر؛ إن قال نعم، قيل له: فبعهد الله، قال: نعم، فأخرج

558 -

غريم وقاض كريم

في (جمع الجواهر في الملح والنوادر) لأبي اسحق الحصري: قال الصولي: كنت يوماً بين يدي (أمير المؤمنين الراضي بالله) إذ دخل عليه بعض الخدم برقعة دفعها صاحب الخبر الملازم لمجلس أبي عمر القاضي: يذكر أن رجلاً أحضر خصما للقاضي، وادعى عليه مئة دينار، فألزم القاضي الغريم اليمين إذ لم يجد الخصم بينة، فأخذ الدواة، وكتب بيتين، ودفعهما إلى القاضي، فأمر القاضي غلامه فأحضر مئة دينار، ودفعها إلى الرجل، والبيتان هما:

وإني لذو حلف كاذب

إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق

وهل من جناح على مسلم

يدافع بالله ما لا يطيق؟

ص: 30

فعجب الراضي من الرجل وديانته، وعجب من كرم القاضي وحسن ما فعله

559 -

بما رضى به لنفسه ولأنبيائه

كان لشريك القاضي جليس من بني أمية، فذكر شريك في بعض الأيام فضائل علي بن أبي طالب، فقال ذلك الأموي: نعم الرجل علي! فأغضبه ذلك وقال: ألعلي يقال: نعم الرجل، ولا يزاد على ذلك. فأمسك حتى سكن غضبه، ثم قال: يا أبا عبد الله، ألم يقل الله تعالى في الإخبار عن نفسه (فقدرنا فنعم القادرون)، وقال في أبوب (إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب)، وقال في سليمان (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد) أفلا ترضى لعلي يما رضى الله به لنفسه ولأنبيائه؟

فتنبه شريك منذ ذلك لوهمه، وزادت مكانة ذلك الأموي في نفسه.

ص: 31

‌ميت بين الأحياء

للدكتور عزيز فهمي

أنا حَيٌّ غيرَ أني لستُ حيْا

إنما أطوي بقايا العمِر طَيَّا

ذَبُل القلب فأذْوى مُقْلَتَيِّا

وأراني ضاحكاً طَلق المُحَيّا

وأراني ناعَم البالِ رضيّا

ليتني اليومَ كما كنتُ شقيّاّ!

يوم كُنا في أَتون العمر نُصلَي

حَرَّهُ هْجراً وتعذيباً ووصلا

إن دنا منا حبيبٌ ثمَّ مَلاّ

بَدَّلَ القلبُ حبيباً وتَسَلى

لا نُبالي من تَجنَّى أو تولى

إن دعانا الحبُّ لم نعدم حَفِيّا

يوم كان الشعر وحياً وهديلا

يوم فَجَّرناه نبعاً سلسبيلا

يوم كان العيش سهلاً وذلولا

يوم كان الجِدُّ لهواً وفضولا

يومَ عَّلمْنا القَمارىَّ المُثولا

يوم علمنا القمارىَّ الرَّويا!

يوم كنا نُرْهقُ الجسم شبابا

يوم كنا نَرْشُفُ العمر حبابا

كيف أضحى ذلك القلب خرابا

كيف حال الكرْمِ غسلينا وصابا

كيف حالت جذوة القلب ترابا

كيف أمست بعدها صفراً يُدَيّا!

ما لعيني لا ترى رأياً جديدا=أغَشتها غشوة عادت صديدا؟

ما لقلبي خافقاً خفقاً وئيدا

ذلك القلب الذي كان عنيدا!

كل شيء جامد حولي جمودا

ليس في دنياي ما يوحي إلَيّا!

كلما لاح بريق في سمائي

أو بدَا آلٌ تَلَفّتُّ إزائي

فإذا بالبرق وَمْضٌ كسًناءِ

وإذا بالآل إظلال تُرائي

وأنادي والصّدى رجع ندائي

ص: 32

ليتني لم ألْف في الأوهام شَيَّا!

ويروح الناس أو يغدون حولي

وأنا راض بحالي وَبِحِلي

ويَجِدِّون لِلَهْوِ أو لِشغل

وأنا حيرانٌ مشدوهٌ، وعقلي

عاجز عن درك ما يشغل مثلي

من رآني ظن بي مَسْا خفيّا

شاب هذا الروح واليأس احتواه

مذ أفاق الروح من حلم شجاه

وأفاق الصب من ماضي هواه

عبثاً تنشد يا قلبي سواه

قد كَبُرْتَ اليوم فاقنع بشذاه

عش جماداً أو فعش مثلي خليا!

أيُهَذا البلبل الشادي بلحن

ما لهذا اللحن لا يُطرب أُذني

أيها البلبل! ما هذا التجني؟

هاتِ صوتاً غير هذا أو فدعني

يا أمير الدوح لُمْ أو لا تَلمْني

كان هذا الصوت في الماضي شجيا!

عزيز فهمي

ص: 33

‌صديقي الربيع

للأستاذ العوضي الوكيل

شجرُ (المشمش) ازدهرْ

وغداَ أبيض الغُرَرْ

وسَرَى البِشْرُ في الغُصو

نِ نُضاراً وفي الزَّهَرْ

تلكَ بُشرَى الربيع قدْ

سبقت ركْبَةُ النَّضِرْ!

يا صديقي الربيع عُدْ

تَ، فَجَدَّدْتَ ما غَبَرْ

كم فؤاد لحسْنِكَ الرَّ

ائع الفاتنِ انتَظَرْ!

شاعر خالدِ النشي

دِ وَلَوْلَاكَ ما شَعَرْ!

ناقل عنك ما استطا

عَ سبيلاً وما قَدَرْ!

يا صديقي الربيع قَدْ

لَجَّ بي الشوقُ واستَعَرْ

لَمرَاءٍ نَضِيَرَة

فِيكَ يُرْوَى بها النَّظرْ!

ومعان وضيئَةٍ

فيك تسمو على الفِكرْ

ونسيم لشهر آذا

ر عذب السرى، عطر

العوضي الوكيل

ص: 34

‌البريد الأدبي

حول شعر الشباب

قرأت مقال الأستاذ محمد محمود رضوان في العدد الأخير من الرسالة الغراء؛ وقد تصدى فيه لاحتمال ما تركه الأستاذ الكبير (ا. ع) من سوق الأمثال لمواضع النقص في شعر الشباب. وعجيب من الأستاذ رضوان أن يتنصل من طابع الشباب مبكراً، ويحاول أن يقود الحملة على شعر إخوانه الشبان! على العجب قد يقل أو يضمحل إذا علمنا أن الأستاذ قد خلص من متاعب العام الدراسي، واستقبل فترة الراحة والاستجمام، فهو يأبى أن يدع الطير في أوكارها، ويرمي بسهامه هدفين من زملائه، ويمعن في البأس والتحدي فيرمي غرض ثالث بعيد!

لقد أخذ على الأستاذ طاهر أبي فاشا ميله إلى شكوى الزمان، ورأى

في ذلك اللون من الشعر تناقضاً مع ما يعرفه عن (طاهر) من

الدعابة. . . وفاته أن الشاعر يعلم من أسرار نفسه أكثر مما يعرفه

خلطاؤه! فقد يهزأ بالحياة ظاهراً، ويخوض عبابها مع الخائضين، حتى

إذا بلغ منه يأس الزمان، نفس عن نفسه، وسجل على الحياة عدوانها،

وهو في كل ذلك فطري النزعات، لا يمت إلى التناقض بسبب، وإنما

هو الشاعر: يسخر حيناً، ويجد حيناً:

أعاتب نفسي أن تبسمت خالياً

وقد يضحك الموتور وهو حزين!

ومن ينكر على الأستاذ (علي شرف الدين) غرامه بشكوى الزمان، وهو الشاعر الأبي النفس، الذي قعد به حظه العاثر، وسلك إلى غايته السهل والوعر، فلم ينل من الحياة ما يرضى نفسه الطموح! وهل يؤخذ على قصيدته الرائعة أنها قوية النسج، جزلة الأسلوب، موحدة الفكرة، وتلك صفات نلتمسها في كثير من الشعر فلا نظفر بها؟ أفيصح بعد هذا أن ننظر إليها على أنها من الشعر القديم؟! لقد ظلمتم شعراء الشباب! إذا أخطئهم النسج القوي، وصفتم شعرهم بالسخف والفتور، وإذا راعكم منهم البيان الجزل قلتم: هذا من الشعر القديم!

ص: 35

كنت أود أن تنقد القصيدة - وأنت الشاعر - من حيث الوزن، فتشير إلى هنة جاءت من الأستاذ سهواً، يراها القارئ المدقق في البيت الخامس منها. . . وإني أدعك لألمعيتك - وأنا بها جد خبير - وسأرى ما أنت صانع

ثم إن الأستاذ (رضوان) يفرق بين غموض بعض الصور في شعر الشباب، وغموض كثير من الصور في شعر القدامى! ويسألني! هل تبينت معنى قول أبي تمام:

جهمية الأسماء، إلا أنهم

قد لقبوها جوهر الأشياء

وقوله:

هن عوادي يوسف وصواحبه

فَعزْ ما، فَقِدْماً أدرك النجح طالبه

وقد فات الأستاذ أن الغموض غموض حيث كان، وأنه مخل بالبلاغة على أية حال، وأن الشاعر القدير لا يكد ذهن قارئه في الوصول إلى ما تنطوي عليه أساليبه، وبقدر ما يتوافر له من أسباب الوضوح يكون حظه من البيان، ومنزلته بين الشعراء. ولأمر ما وصف المتنبي وأبو تمام بالحكمة، وانفرد البحتري بصفة الشاعرية المطلقة!

وهل ضرب النقاد الأمثال للتعقيد اللفظي والمعنوي من قول القدامى ظالمين أو عابثين؟

وبعد فإني أوثر أن يتولى الشباب الدفاع عن شعرهم، وأقف من هذه القضية عند هذا الحد، وأعتقد أن عناصر النبوغ كثيرة في شعر الشباب، وأن التوجيه والإرشاد أجدى على الأدب، وأليق بالناقدين والسلام

(الإسكندرية)

(م. ع البشبيشي)

القرآن الكريم في كتاب النثر الفني

كتب الأديب إبراهيم السيد عجلان في العدد 567 من الرسالة كلمة ذات شطرين: شطر يتعلق بنص ذكره من كتاب الموازنة بين الشعراء وشطر يتعلق بإلزام ذكره مما كتبنا

أما الشطر الأول فالدكتور زكي مبارك موجود ليدفع عن نفسه إن استطاع، ومع ذلك فقد اعترف حديثاً بأن ما أسندناه إليه هو بالفعل رأيه

وأما الشطر الثاني فيكفي أن ننبه الأديب الفاضل إلى كلمتين أغفلهما تحددان الذاتية الأدبية

ص: 36

التي هي مدار الإلزام، وهما كلمتا (كالتي أراد) أي ذاتية كالتي أراد زكي مبارك. وهو لم يرد إلا ذاتية أدبية تستلزم كتابة الرسائل وتأليف الكتب في الجاهلية، أي ذاتية أدبية غير التي أشار إليها الأديب وأجمع عليها جميع العلماء والمؤرخين.

محمد أحمد الغمراوي

حول شعراء الجديد!

ليس بغريب أن تفسح الرسالة (وصاحبها من رسل التجديد في الأدب العربي عامة) صدرها لمناقشة الجديد والقديم من الروح الشعري؛ بل إن فترة الانتقال والتقلقل التي نجتازها لتفرض علينا هذا النضال، وتاريخ الأدب حافل بأمثاله. ولكن الغريب حقاً أن يكون حماة القديم والداعون له دائماً من رجال اللغة والنحويين (وإني لأحبهم، فقد أشربت تقديرهم عن والدي وأستاذي الزيات والمبارك) لم أفهم لهذه الثورة سبباً ولن أفهم حتى أجد لهذه الأسئلة جواباً:

ما معنى التجديد عند دعاة القديم؟ هل هو عرض الفكرة القديمة في لفظ جديد؟! وكيف يكون اللفظ جديداً واللغة واحدة أو ليس من الطبيعي أن تتجدد الفكرة والصورة دون اللفظ، لأن البيئة تتجدد فالأحاسيس التي تثيرها تتجدد، والتعبير الذي يصورها يتجدد. ومن التعبير تكون الفكرة. ماذا جناه شعراء الشباب - وأنا منهم - سوى أنهم جددوا في الفكرة مع حيوية في التعبير وقوة التصوير وسلامة في اللغة؟

إن التجديد - بمعنى افتراع ما لم يكن - بدأ في اعتقادنا بالتمثيلية الشعرية؛ وستجد هذه والملاحم أيضاً - كما يدعو الناقد المجدد الأستاذ دريني خشبة - سبيلها إلى الكمال عندنا؛ فقد أوشكنا أن ننتهي من ملحمة كبيرة عنوانها (ملائكة وشياطين)، وعند إخواننا الملهمين الأفاضل محمود إسماعيل وقطب وجودت وعبد الغني حسن ومحمود شعبان والخميسي وفؤاد كامل والدكتور فهمي ومحي الدين صابر ومخيمر والوكيل

هذا في الشعر أما في النقد فإن رسل التجديد فيه هم شبابنا الأفاضل مندور وخشبة وقطب والعريان، وفي القصص الأساتذة ذهني وجوهر ويا كثير والمسيري والمصري والسحار ومحفوظ.

ص: 37

هؤلاء هم حملة رسالة التجديد من الشباب؛ وإن الحياة لتسير؛ وليس منا من توهم أن رسالتنا يمكن أن تتأثر بمقال، وهيهات أن يكتمل النقد من غير مثال

حسين محمود البشبيشي

(الفوضى) في المجمعين

رأيت الأستاذ الكبير (ا. ع) بك عضو (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) يستعمل في نقد (الشعر الجديد) المنشور في مجلة (الرسالة) لفظة (الفوضى) بمعنى الاضطراب والعبث، ورأيت زميله في المجمع أيضاً الأستاذ أحمد أمين بك يستعملها كذلك في اقتراحه الذي قدمه أخيراً للمجمع المذكور، وكذلك زميلهما الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر حسين في نقده لهذا الاقتراح

ويقول الدكتور مصطفى جواد في (مجلة المجمع العلمي العربي) - ج 10 م 18 - : (الفوضى جمع مفرد، ووصف لا اسم جامد، واستعمالها وإن شاع لا يدل على بصارة بلغة العرب. فالفوضى كالمرضى والقتلى والشتى والصرعى وما أشبه ذلك. فاستعمال (الفوضى) بمعنى الاضطراب والاختلاط والعبث والانتشار والمرج والاختلال خطأ مبين). وهو موافق لما نص عليه بعض ثقات اللغويين، ولكن في كلامهم أيضاً وكلام غيرهم من الإثبات ما يؤيد صحة الاستعمال المشهور: ففي المخصص (صار القوم فوضى أي متفرقين) وفي اللسان (قوم فوضى: مختلطون. . . والوحش فوضى متفرقة تتردد. . . ونعام فوضى أي مختلط بعضه ببعض. . . التهذيب: كل ما كان في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا عن تفرق أو كثرة) وفي الجمهرة (جاء القوم فوضى إذا جاءوا وذهبوا مختلفين) وفي التاج (قال أو زيد: أمرهم فيضيضي بينهم وفيضوضى ويمدان وفيوضى بالفتح أي فوضى. وذلك إذا كانوا مختلطين يلبس هذا ثوب هذا، ويأكل هذا طعام هذا، لا يؤامر أحد منهم صاحبه فيما يفعل من أمره. وذكر اللحياني أيضاً مثل قول أبي زيد)

محمد غسان

من خريف الربيع

جاء في قصيدة الأستاذ محمود حسن إسماعيل المنشورة في العدد الماضي من الرسالة

ص: 38

الغراء ما يأتي

وأنة في الحشا طواها

سجن يسمونه الضلوعُ

ويلاحظ القارئ أن في هذا البيت إقواء؛ إذ ضم الشاعر كلمة (الضلوع) مراعاة للقافية مع وقوعها مفعولاً ثانياً (ليسمُّونه). . . وهذا غير سائغ عند العروضيين. فضلاً عن النحويين

محمد عبد الفتاح إبراهيم

تصحيح

جاء في مقال شيكسبير المنشور بالعدد 567، بالفقرة رقم 3 ما يأتي:(ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان يترجم اللغة اللاتينية)، والصواب: ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان يترجم اللغة اليونانية القديمة إلى اللغة اللاتينية)

ص: 39