المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 57 - بتاريخ: 06 - 08 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٥٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 57

- بتاريخ: 06 - 08 - 1934

ص: -1

‌حول باخرتنا (النيل)

بيننا وبين الأجانب

لمصر ماض بحري مجيد يرجع إلى عهد الفراعنة، وكان لمصر

أساطيل حربية وتجارية تشق عباب البحر الأبيض، ليس عهدنا بها

بأبعد من قرن، ولو لم تتألب أوربا النصرانية على مصر المسلمة في

نافارين، ولو لم تصب مصر بعد ذلك بما أصيبت به من المحن

السياسية التي هدت من إرادتها وحرياتها، لكان لها اليوم أسطول

يحمي ثغورها، وكانت لها سفن تجوب البحار وتأخذ بنصيبها من

حركة النقل والتجارة. فلما أتيح لمصر الناهضة أخيرا أن تبدأ بغزو

الميدان الاقتصادي، اتجهت الأماني والجهود إلى إحياء الملاحة

التجارية المصرية؛ ووفق بنك مصر - امتن واعز صروحنا

الاقتصادية - إلى وضع الدعامة الأولى في سبيل تحقيق هذه الأمنية،

فاقتنى باخرتين كبيرتين هما (زمزم) و (النيل)؛ وأدت (زمزم) في

موسم الحج الماضي للحجيج من مختلف الأمم الإسلامية اجل

الخدمات؛ وخصصت (النيل) لقطع البحر الأبيض والسفر بين

الإسكندرية ومرسيليا، وقامت إلى اليوم بأربع رحلات موفقة، وأثارت

بحسن استعدادها وفخامتها ودقة نظامها، واعتدال أجورها إعجاب كل

من شهدها أو سافر على ظهرها من المصريين والأجانب؛ واغتبط

المصريون أيما اغتباط إذا أصبحوا يستطيعون السفر على ظهر باخرة

مصرية فخمة، تسيرها وتستثمرها أموال ومصالح مصرية، ويشعرون

أثناء السفر عليها انهم بين أهلهم وذويهم.

ص: 1

بدأت مصر إذن بغزو ميدان اقتصادي جديد كان حتى اليوم وقفا على الأجانب، هو ميدان الملاحة البحرية؛ ومن قبل غزت مصر - خلال الأعوام الإثني عشر الأخيرة على يد بنك مصر وشركاته - مختلف الميادين والأعمال الاقتصادية والصناعية؛ ونمت هذه المؤسسات وازهرت، تحفها عناية الله، وإخلاص القائمين بأمرها وعطف الأمة كلها، حتى غدت ركنا هاما في حياة البلاد الاقتصادية التي كانت من قبل كلها غنما للمصالح والأيدي الأجنبية؛ وبثت هذه الحركة المباركة في الأمة روح الاهتمام بالمشاريع الاقتصادية والثقة فيها؛ وأخذت المصالح الأجنبية التي غصت بنجاحها تنظر إلى المستقبل بعين الخوف والجزع؛ وتلتمس لمحاربتها مختلف الوسائل والدعوات. وآخر ما أذيع عن جهودها في هذا السبيل موقفها من شركة الملاحة المصرية، ومن باخرتها (النيل)، فقد عرف إن بعض الجهات تبث ضد (النيل) دعوة سيئة، وتحث الأجانب على مقاطعتها، وتشترك بعض وكالات السياحة في هذه الخصومة فت

فتأبى نشر (النيل) في قوائمها، وتأبى التعريف عنها وعن أجورها أو مواعيدها؛ وهذه خصومة غربية في الواقع؛ أولاًلأن شركة الملاحة المصرية تدخل ميدان المنافسة المشروعة عزلاء من كل حماية خاصة، ولا تعتمد إلى على جهودها ومؤازرة شركتهم وباخرتهم؛ وثالثاً لأن هذه الدعوة في ذاتها غير صحيحة، إذ الواقع إن النيل من أفخم بواخر البحر الأبيض وأحسنها استعداداً، هذا فضلاً عن اعتدال أجورها ومصرية جوها ومحيطها.

على ان هذا التحرش من جانب المصالح الأجنبية بالجهود المصرية المشروعة لا يمكن ان يضر هذه الجهود، وإنما يرتد أثره بالعكس إلى المصالح الأجنبية ذاتها. فقد طال عهد مصر بعسف هذه المصالح التي تحيها الامتيازات الأجنبية الباغية؛ وقد عرفت مصر التي تطمح إلى استكمال حرياتها السياسية إن التحرير الاقتصادي دعامة قوية في هذا السبيل؛ وعرفت المصالح الأجنبية إن هذه الامتيازات التي تتمسك دائما بسلطانها وحمايتها لا يمكن أن تحقق لها ما تريد من عطف الشعب الذي تعمل بينه، لأن عطف الشعوب لا يكسب بالقوة والعنف، وعرفت من جهة أخرى إن هذا العطف ينثال على كل مشروع مصري خطير، ورأت أخيراً أن مصر تغزو الميدان الاقتصادي الذي احتكرته عصراً، بقوة ونجاح؛ فهذه

ص: 2

العوامل كلها تجعل المستقبل مظلما في وجه المصالح الأجنبية، وتحملها على أن تقف أمثال هذه المواقف التي لا تعرب عن فطنة ولا كياسة من مصالح بلد ما زالت تستغل كرمه ورعايته وضعفه.

إن في هذا الموقف وأمثاله لعبرة جديدة لمصر والمصريين. وفي وسع مصر دائما - في مثل هذه الظروف على الأقل - ان تقابل هذه الخصومة بمثلها؛ فالمصريون الذين يسافرون على البواخر الأجنبية ألوف وألوف؛ ولن تتاثر شركة الملاحة المصرية و (النيل) بهذه الدعاية الوضعية؛ ولكن الشركات الأجنبية يمكن أن تتكبد خسائر فادحة يوم يقاطعها المصريون بحق، ويؤثرون عليها (النيل) وغيرها من البواخر التي نرجو أن تقتنيها مصر في أمد غير بعيد.

فلتسر شركة الملاحة المصرية، ولتسر كل شركاتنا المصرية في طريقها محفوفة بالرعاية القومية الشاملة، فان هذا العدوان لن يضيرها في شيء، ولكنه بالعكس يكسبها عطفاً جديداً، ويمدها بروح جديد لمتابعة العمل المجيد الذي تقوم به في سبيل مصر.

(ع)

ص: 3

‌في اللهب ولا تحترق

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أفي الممكن هذا؟

لعوب حسنة الدل، مفاكهة مداعبة، تحي ليلها راقصة مغنية؛ حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، وانتبه الفجر ليقبل - أنكفات إلى دارها فنضت وشيها، وخرجت من زينتها، وخلعت روحا ولبست روحا، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك. ثم ذهبت فتوضأت وأفاضت النور عليها، وقامت بين يدي ربها تصلي. . .!

هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها. وما تراها في يوم إلا ظهرت لك احسن مما كانت، حتى لتظن إن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شعاعة ساحرة، وان كل فجر يترك لها في الصبح بريقا ونضرة من قطرات الندى.

وتحسب أن لها دما يطعم فيها يطعم أنوار الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل.

وإذا كانت في وشيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة؛ فلها نور وبصيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق. . . أن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة - وضع على جمالها خاتم قرص الشمس فإذا رأيتها بتلك الزينة في رقصها وتثنيها - قلت: هذه روضة مفتنة اشتهت أن تكون امرأةفكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها.

وهي متى نفذت إلى البقعة المجدبة من نفسك أنشأت في نفسك الربيع ساعة أو بعض ساعة.

وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نغمة إلى حركة؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغام صامتة تسمع وترى في وقت معا وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى، لتخرج لك بظرفها صراحة الفن من إبهامين كلأهما يعاون الآخر.

وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم امرأة.

وكان الليل والنهار في قلبها، فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءاً وظلمة.

وهي إلى القصر، غير انك إذا تأملت جمالها وتمامها حسبتها طالت لساعتها.

ص: 4

والى النحافة، غير انك تنظر فإذا هي رابية كان بعضها كان مختبئا في بعض.

ويخيل إليك أحياناً في فن من فنون رقصها ان جسمها يتثاءب برعشة من الطرب، فإذا جسمك يهتز بجواب هذه الرعشة لا يملك إلا أن يتثاءب. . .

ويجن رقصها أحياناً، ولكن لتحقق بجنون الحركة أن العقل الموسيقي يصرف كل أعضاء جسمها.

ومهما يكن طيش الفن في تأودها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها - ففي وجهها دائما علامة وقار عابسة تقول للناس: أفهموني.

ولما رأيتها شهد قلبي لها بان على وجهها من نور الجمال نور الوضوء؛ وإنها متحرزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها؛ وان لها عيناً عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالاً ولا جواباً ولا اعتراضا بينهما؛ وان قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئا غير ما في النساء - شيئاً عبقرياً بالغ القوة، يكف الدواعي ويحسم الخواطر، ويرغم الإعجاب إن يكون ذهولاً وحيرة، ويكره الحب أن يرجع مهابة واحتشاماً.

والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه (السيما)، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر؟

وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعاً في هذا الرأي، وكانت أخلاقها محشودة لها، متحفلة به - فتلك هي الياقوتة التي ترمي في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهديها، إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.

وليس من امرأةإلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها؛ إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك، ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معاً، فيجعل الله عقابها في عملها، ويكلها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلها أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية ان كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة. وما بد أن تستسر بطباع إما فاسدة وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد؛ ويرجع ضميرها الخالي محاولاً أنئ من ظاهرها، بعد ان كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها؛ وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب

ص: 5

حياتها، مصرفة بهذه الأسباب، خاضعة لما يصرفها؛ ويذهب الدين وينزل في مكانه الشيطان؛ ويزول الاستقرار ويحل في محله الاضطراب؛ وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم وتمنعها أن تتراكم، فإذا الغيوم ملتف بعضها على بعض؛ وتخذل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها فتنصرها بذلك على أقوى الرجال، فإذا المرأة من الضعف إلى تهافت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغترها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كل رغبة مزينة، ويستذلها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها. ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلا وحسبا وتهذيبا وعقلا وأدبا وعلما وفلسفة، فلو إنها امرأةمن (الإسمنت المسلح) لتفتتت بالطبيعة التي في داخلها، ما دامت الطبيعة متوجهة إلى الهدم بعد ان فقدت ما كان يمسكها أن تهدم وان تنهدم.

لقد رق الدين في نسائنا ورجالنا. فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة (حرام، وحلال) قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى (لائق، وغير لائق) ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى (معاقب عليه قانوناً، ومباح قانوناً. . .) ثم انحطت آخراً عند السواد والدهماء إلى (ممكن، وغير ممكن. . .).

قالت الياقوتة، أعني الراقصة:

- أخذت أبي من عهد الطفولة بالصلاة، واثبت في نفسي ان الصلاة لا تصح بالأعضاء ان لم يكن الفكر نفسه طاهرا يصلي لله مع الجسم، فان كانت الصلاة بالجسم وحده لم يزدد المرء من روح الصلاة إلا بعدا. وقر هذا في نفسي وأعتدته، إذ كنت أتعبد على مذهب الأمام الشافعي (رض)، فأصحح الفكر، واستحضر النية في قلبي، وانحصر بكلي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول:(الله اكبر)؛ وبذلك أصبح فكري قادراً على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وان يخرج منها ثم يعود إليها؛ ونشأت فيه القوة المصممة التي تجعله قادرا على أن يتصرف بي عما يفسد روح الصلاة في نفسي، وهي سر الدين وعماده.

ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأ لتتصل. ولن يعجز اضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه بضع ساعات، متى هو اقر اليقين في نفسه، انه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئا أو إثماً؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى،

ص: 6

وإنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته - مهما طال - عمل بضع ساعات. قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت امي، فلا تكاد تلم بي فكرة آثمة إلا انتصابا أمامي فاكره أن استلئم إليها فأكون الفاسدة وهما الصالحان، واللئيمة وهما الكريمان؛ فدمي نفسه ببركة الدين يحرسني كما ترى.

قلت: فهذا الرقص. . .؟

قالت: نعم، انه قضى علي أن أكون راقصة، وان التمس العيش من اسهل ثلاث طرق، والينها وأبعدها عن الفساد، وان كان الفساد ظاهرها. أريد: الرقص، أو الخدمة في بيت، أو العمل في السوق. وأنا مطيقة لحريتي في الأولى، ولكني لن املكها في الأخيرتين ما دام علي هذا الميسم من الحسن؛ وكم من امرأةمتحجبة وهي عارية الروح، وكم من سافرة وروحها متحجبة. ان كنت لا تعلم هذا فاعلمه، وليس السؤال ما سالت، بل يجب ان يكون وضعه هكذا: هل ما ترى هو في ثيابي فقط، أو هو في ثيابي ونفسي؟

ها أنت ذا تغلغل نظرتك في عيني إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عيني راقصة؟

قلت: لا والله، ما ارى عيني راقصة، ولكن عيني مجاهد في سبيل الله. . .! فاستضحكت وقالت: بل قل: عيني مجاهد يهزم كل يوم شيطانا أو شياطين.

إني لأرقص وأغني، ولكن أتدري ما الذي يحرزني من العاقبة، ويحميني من وباء هذا الجمهور المريض النفس؟ فاعلم أني لا اشعر بالجمهور، ولا بروح المسرح، إلا كما اشعر بروح المقبرة والمشيعين إليها؛ فهيهات بعد ذلك هيهات! ومن هذا لا أحس بقلوبهم ولا بشهواتهم، وما أنا بينهم إلا كالتي تؤدي عملا فنيا على ملأ من الأساتذة الممتحنين، والنظارة يحكمون لها أو عليها؛ فهي في فكرة الامتحان، وهم لأنفسهم فيما شاءوا. . .

ولست أنكر أن أكثرهم، بل جميعهم يخطئ في طريقة تناوله السيال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا علي، فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأةجميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكريات قديمة، أو نبهت ببعض معانيها بعض معانيه.

قالت الياقوتة: فإنما كما ترى؛ اضطرب وجوها من الاضطراب في جذب الناس ودفعهم

ص: 7

معا. وإذا سلمت المرأة من أن يغلبها الطمع على فكرها سلمت من أن يغلبها الرجل على فضيلتها. وفي النساء حواس مغناطيسية كاشفة منبهة خلقت فيهن كالوقاية الطبيعية، لتسلم بها المرأة من أن تخطر عفتها لغرض، أو تغرر بنفسها لإنسان؛ فانك لتكلم المرأة، وتزين لها ما تزين، وهي شاعرة بما في نفسك، وكأنها ترى ما في قلبك ينشأ ويتدرج تحت عينيها، وكأنه في وعاء من الزجاج الرقيق الصافي تحمله على كفك ويفضح، لا في قلب من لحم ودم تخفيه بين جنبيك فيطوي ويكتم.

وليس يبطل هداية هذه الحاسة في المرأة إلا طمعها المادي في المال والمتاع والزينة؛ فان هذا الطمع هو القوة التي يغلب بها الرجل المرأة، فبنفسها غلبها: وإذا تبذل طمع امرأةفي رجل فهي مومس، وان كانت عذراء في خدرها.

ويا عجبا! إن وجود الطبيعة في النفس غير الشعور بها؛ فليس يشعر المرأة بتمام طبيعتها النسائية إلا الزينة والمتاع وما به المتاع والزينة. فكان الحكمة قد وقتها وعرضتها في وقت معا، لتكون هي الواقعة أو المخطرة لنفسها، فبعملها تجزي، ومن عملها ما تضحك وتبكي. قالت الياقوتة: ولذا أخذت نفسي إلا اطمع في شيء من أشياء الناس، وسخوت عن كل ما في أيديهم؛ فما يتكرمون علي إلا بهلاكي، وحسبي أن يبقى لعيني قلبي ضوؤهما المبصر.

وأنا اعتمد على شهامة الرجل، فان لم أجدها علمت أني بازاء حيوان إنساني، فأتحذروه حذري من مصيبة مقبلة. وإذا جاءني وقح خلق الله وجهه الحسن مسبة له، أو خلقه هو مسبة لوجهه القبيح، ذكرت أني بعد ساعة أو ساعات أقوم إلى الصلاة، فلا يزداد مني إلا بعد وان كان بازائي، فاغلط له واتسخط، واظهر الغضب واصفعه صفعتي.

قلت: وما صفعتك؟

قالت: إنها صفعة لا تضرب الوجه ولكن تخجله.

قلت: وما هي؟

قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة: أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول (الله اكبر) فهل أنت اكبر. . .؟ أأقيم لك البرهان على صغارك وحقارتك، أأنادي الشرطي. . .؟!

تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة، وفي كل يوم تختنق وتنتعش. ولكني لا أزال أقول:

أفي الممكن هذا؟

ص: 8

أفي المترادت شرعاً! رقصت وصلت. . .؟

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌أزمة الكتاب ومصير الكتب

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان القرن التاسع عشر عصر الآلات والاختراعات الصناعية، فحلت الآلة مكان اليد العاملة في معظم الصناعات، وحرم ملايين العمال من العمل اليدوي، وساد البؤس في الطبقات العاملة، واستمر هذا التطور طول النصف الأخير من القرن الماضي حتى استقرت الصناعة أخيراً على قواعدها الجديدة، وحل العمل النفي والآلي مكان العمل اليدوي.

واليوم نشهد انقلابا عظيما آخر في مصير الإنتاج العقلي؛ فقد كان (الكاتب) حتى أوائل هذا القرن أهم وانفس غذاء علي للطبقات المثقفة، وكانت قراءة الكتب المختارة أسمى وأمتع وسائل التربية والتهذيب والرياضية العقلية، ولكن التطورات العلمية والأدبية والاجتماعية التي حدثت منذ الحرب الكبرى كان لها اثر كبير في تطور الذوق الأدبي أو بعبارة أخرى في قيمة الكتب وفي مركز القراءة وميول القراء. وليس من ريب في أن الكتاب قد فقد اليوم كثيرا من سحره وقيمته المادية والاجتماعية، وقل الإقبال كثيرا على اقتنائه وقراءته، ولكن ذلك لا يعني أن منسوب القراءة قد هبط، فالقراءة بالعكس قد كسبت من هذا التطور بصفة عامة، وزاد منسوبها بلا ريب تبعا لازدياد نسبة المتعلمين في مختلف الأمم؛ وإذا كان الذوق الأدبي قد تطور وخسر الكتاب القيم كثيرا من قرائه، فان أولئك القراء تحولوا إلى ألوان جديدة من الأدب الحفيف والى قراءة الصحف والمجلات. والواقع أن الصحافة أول وأقوى العوامل الجديدة التي آثرت في مركز الكتاب ومدى انتشاره. ففي ربع القرن الأخير تقدمت الصحافة تقدماً عظيماً، وغزت كل ميادين التفكير والعلوم والفنون، ولم تبق دوريات خبرية فقط؛ ومعظم الصحف اليومية السياسية، في جميع الأمم، تخصص للأدب والنقد والعلوم والفنون والمسرح والاقتصاد والمالية والرياضة صحفا خاصة حافلة بمختلف البحوث والشذور القيمة، هذا عدا القصة الصغيرة اليومية، وعدا الرواية المسلسلة، وعدا الصور الكثيرة؛ ثم هنالك المجلات الأدبية والعلمية، الأسبوعية والشهرية، وقد بلغت مدى عظيما من التقدم والذيوع، وأضحت مسرحا لأعظم الاقلام، ومعرضا لمختلف البحوث وأهمها. وتمتاز المجلة على الكتاب بتنوع مادتها، فهي تجمع بين الفصول الأدبية والعلمية

ص: 10

والسياسية، والقصة والمسرح والأزياء، ويكاد كل عدد منها يكون كتابا مستقلا بذاته، وهي دائما متنوعة متجددة ترضي مختلف القراء والأذواق بأكثر مما يرضي الكتاب الموحد الفكرة والموضوع، والصحافة الأدبية هي بلا ريب اشد خصوم الكتاب ومنافسيه، واشدها تأثيراً في مركزه ومدى انتشاره لأنها تبدو في بعض ألوان من الكتاب، وتأخذ بالسهل الموجز منها، حتى انك لترى أحياناً موضوعات وبحوثا خطيرة تشغل في الكتاب مجلدا أو مجلدات تلخصها المجلة في فصل لا يتجاوز عدة صفحات، وربما كان ملخصها مؤلف الكتاب ذاته؛ هذا إلى ما تتوخاه المجلة من اختيار الموضوعات الشائقة والأساليب السهلة التي تغري كثيراً من القراء على تفضليها على الكتاب.

هذه المنافسة الأدبية القوية كانت وما تزال شديدة الوطأة على الكتاب، ولم يكن في وسع الكتاب أن ينافسها، لأنها تجري طبقا للعوامل النفسية وطبقا لتطور الظروف الاجتماعية؛ أضف إلى ذلك المسالة الاقتصادية اعني مسالة الثمن، فالصحف والمجلات تعرض بضاعتها الأدبية على الجمهور بأثمان بخسة يستطيع إن يؤديها الملايين، معتمدة في ذلك على كثرة انتشارها وما تجنيه من أجور الإعلانات. ولكن الكتاب القيم لم يستطع حتى اليوم وليس في الإمكان ان ينزل إلى هذا المستوى. نعم حاول كثير من المؤلفين والناشرين أن يسايروا هذا التطور في الذوق الأدبي، فعمدوا إلى إخراج الكتب السهلة الموجزة، والى معالجة الموضوعات العلمية الخطيرة في أساليب خفيفة عادية مما يعرف اليوم بتبسيط العلوم، وهي طرية تعالج بها اليوم اخطر واعقد الموضوعات العلمية في الصحف والمجلات، وان كانت لا تؤديها دائما بما يجب من الدقة والتحقيق، وكذلك عمد كثير من المؤلفين والناشرين إلى إخراج الموضوعات الخطيرة العلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها في ملخصات صغيرة، وفي فصول متناثرة، أو إلى جمع القطع المختارة في كتاب وأحد ليكون له بذلك ما للمجلة أو الصحيفة من التنوع، وعمدوا فوق ذلك إلى إخراج هذه الكتب في طبقات شعبية رخيصة لتكون في متناول جميع الطبقات، ومن المعروف أيضاً أن كثيراً من كتاب القصص العالميين يخرجون اليوم كتبهم في طبعات شعبية عديدة، ويتحرون اختيار القصص والحوادث المثيرة والشائقة، وكثير منهم يفضل كتابة القصص الشرطية، وقطع السينما لأنها تدر عليهم أرباحا حسنة. والخلاصة ان الكتاب اضطر تحت

ص: 11

ضغط هذه المنافسة الشديدة التي شرحناها أن يتطور نوعا وان يساير الذوق الأدبي والظروف الاجتماعية الجديدة. ولكنه مع ذلك لا يزال بعيداً عن أن يسترد مركزه أو يقاوم هذا التيار الجارف الذي يهدد مركزه وقيمته وتقاليده وقد غدت السينما والراديو من اشد خصوم الكتاب، ففي السينما تلخص أو تمسخ أمهات القصص حتى يمكن إخراجها في صور تلائم الجمهور، ولا يقع الجمهور منها إلا على الجانب القصصي، ولا يلمس شيئا من قيمتها الأدبية أو الفنية الهامة، وتذاع فيه ملخصات عن معظم المباحث والموضوعات الخطيرة التي تعني بها الحركة الفكرية، ومزيته في انه ينقل ذلك كله للسامع وهو جالس في مكانه الوثير في المقهى أو المنزل، لا يكلفه عناء القراءة، وخطره على الكتاب والحركة الفكرية في أن الإذاعة الموجزة السهلة تمسخ معظم الموضوعات العلمية والأدبية التي تتناولها، وتصرف بذلك ملايين السامعين عن قراءتها وتتبعها في مصادرها القيمة.

وفي ظل الطغيان السياسي الذي يسود اليوم بعض الأمم المتمدنة تواجه الحركة الفكرية ويواجه الكتاب اشد المخاطر والأزمات، ففي بلاد كإيطاليا وألمانيا وتركيا وبولونيا وروسيا تسودها النظم (الدكتاتورية)، وتخمد الحريات السياسية والفكرية، تصطبغ الثقافة والتفكير بنفس الألوان التي يفرضها الطغيان وتقتضيها مصلحته وغاياته السياسية؛ وحيثما تنعدم حرية الفكر، تخبو حركة التأليف الحر وتغدو الصحافة والمفكرون والكتاب طوعاً أو كرها جنود النظام القائم، ويطارد المفكرون الأحرار، وتطارد كتبهم بلا رافة؛ وفي ظل هذه الأنظمة الطاغية، التي يزعم فيها الطغاة وأعوانهم انهم يعبرون عن رغبات الشعب وأماله وتفكيره، يختفي الإنتاج الفكري القيم ويتحول إلى نوع من الأدب الذليل الخاضع، يشيد جله بالطغاة ونظمهم ومبادئهم وأعمالهم. وقد شهدنا من مناظر هذا الاضطهاد الفكري في العهد الأخير ألوانا شنيعة في ألمانيا، في ظل الطغيان الهتلري، حيث طورد جميع المفكرين والكتاب الذين لم يسايروا الطغيان الجديد ولم يرتضوا فظائعه، ففر منهم من فر خارج ألمانيا، وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل؛ وشرد كثير من أقطاب الأدب الألماني المعاصر، وحظرعلى دور النشر الألمانية أن تتعاقد معهم أو تنشر لهم شيئا، ومنعت كتبهم من التدأول، واحرقت كتب كثيرة في أوائل عهد النازي في شوارع برلين على نحو ما كان يجري في العصور الوسطى على يد محاكم التحقيق؛ والخلاصة إن الإنتاج الأدبي في

ص: 12

ألمانيا قد أصيب في عهد الطغيان الهتلري بضربة مميتة، وأضحت الثقافة الألمانية والأدب الألماني الحاضر والصحافة الألمانية الحاضرة صورة متماثلة مملة للمبادئ والنظريات والآراء التي يفرضها الطغيان السياسي يمر الإنتاج الأدبي دائما بهذا الدور، ويصاب التأليف بمثل هذا العقم والتماثل ويواجه الكتاب اشد المحن.

وهنالك أخيرا روح العصر؛ فعصرنا عصر سرعة ورياضة، والسرعة تدفع كل الناس بلا هوادة، وشغف الرياضة يستغرق اهتمام الشباب وفراغه؛ فلا يجد من الوقت أو الرغبة ما يحمله على التماس القراءة، ولا سيما القراءة الرزينة الهادئة. وإذا أتيحت للشباب فرصة القراءة اليوم فماذا يقرأ؟ الكتب أو المجلات الخفيفة، المبتذلة غالبا، لأنه لا يقرأ وإنما يقرأ للهو فقط، ولا يريد أن يبذل جهودا عقلية في استيعاب كتب الثقافة الرفيعة، وهذه الروح السيئة بلا ريب، من أقوى العوامل في صرف أنظار الشباب عن الكتاب.

وهل نحن بحاجة للقول بان جميع ما قدمنا من العوامل والظروف ينطبق على سير الحركة الفكرية والإنتاج الأدبي في مصر كل الانطباق؟ إن الكتاب يواجه في مصر نفس الأزمة الخطيرة التي يواجهها في جميع الأمم المتمدنة؛ وقد صرفت الصحافة والمجلات الأدبية والقصصية ولا سيما المجلات الخفيفة والماجنة أنظار الشباب عن القراءة الرزينة المفيدة؛ وافسد الأدب المبتذل، ولا سيما الأدب الجنسي ذوق الشباب وعقليته، فأنحط مستوى تفكيره وتقديره؛ وأضحى الكتاب القيم لا يجد بكل أسف بين الشباب كثيرا من الأنصار. أضف إلى ذلك ظرف مصر الخاص وهو انتشار الأمية فيها، وضعف نسبة المتعلمين إلى حد لا يزال يزري بكرامتها، ولولا إن الشعوب التي تتكلم العربية التي نكتب بها في مصر تبلغ زهاء سبعين مليوناً، لكان خطب الإنتاج الأدبية العربي مضاعفاً؛ ومع ذلك فالمعروف أن الكتب العربية القيمة تواجه اشد الأزمات، وان الكتاب الذي لا يطبع منه سوى ألفي أو ثلاثة آلاف نسخة يمكث أعواماً طويلة قبل أن تنفذ نسخه بين السبعين مليوناً من الشعوب التي تتكلم العربية والخلاصة أن الكتب تواجه اشد أزمة عرفتها في العصر الحديث. وقد تتفاقم هذه الأزمة، ويزداد ذيوعه كساداً، ولكن الكتاب لا يمكن مع ذلك أن يختفي أو يموت. ذلك أن الكتاب قد ولد مع المدنية الإنسانية، ولبث مدى العصور اقدس متنفس للذهن البشري، وما دام الذهن البشري ينتج ويعبر عما يجول فيه، فلا بد من التجائه إلى الكتاب،

ص: 13

وقد مر الإنتاج الفكري ومرت الكتب خلال العصور المظلمة بمحن شديدة، ولاذت بالاختفاء أيام الغزوات البربرية في عهد الهون والوندال، ولبثت في الأمم الأوربية مدى قرون تقبع في ظلمات الاديرة، ولم تجد متنفساً وملاذاً إلا في الدول الإسلامية، في ظل المدنية الإسلامية الزاهرة؛ واستمرت محاكم التحقيق (التفتيش) عصورا تجد في مطاردة التفكير الإنساني وفي مصادرة الكتب وحرقها؛ ولكن هذه الخطوب والمحن كلها لم تخمد جذوة التفكير الإنساني، ولم تقض على حياة الكتاب؛ وخرج الكتاب ظافرا من هذه المحن، وجاءت المطبعة في فجر العصر الحديث فاستطاع بعونها أن يغمر العالم؛ ولم تقو عصور الطغيان ونظمه على مغالبة الذهن البشري؛ فإذا كان الكتاب يجوز اليوم أزمة فكرية اجتماعية، نظرا لتطور الحياة والاختراعات العلمية، فتلك أزمة مؤقتة، سوف يتاح للكتاب أن يتغلب عليها متى استطاع أن يهيئ نفسه للسير مع الظروف الجديدة في ألوان لا تغض من قدره ورفيع مكانيه.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 14

‌إبراهيم بك مرزوق ومحمد سعيد بك

بقلم الأستاذ محمود خيرت

نقلت الرسالة في عددها الرابع والخمسين ما دونه المغفور له تيمور باشا من حياة المرحوم إبراهيم بك مرزوق وانه كان شاعرا مجيدا نظم كثيرا من المقطوعات والقصائد. ولكنه مع توسع في ذكر مولده ونشأته وأدوار تقلبه في مناصب الحكومة أوجز كثيرا في حياته الأدبية مقتصرا على ان المرحوم محمد بك سعيد هو الذي جمع ديوانه ونشره في سنة 1387هـ، فلم يتعرض إلى شيء من شعره ليعيطنا صورة ريانة من تلك الحياة.

وقد كنت أود لو أن بين يدي ديوان هذا الشاعر الذي لم اهتد إليه في المكاتب، فاسد هذا الفراغ، ومع ذلك فانه لا يزال عالقا في ذهني منه هذان البيتان:

لم يُرضِني الهجرُ حتى

عُمر الحبيب تقضى

والأرض ضمَّتهُ قبْلي

يا ليتني كنت أرضا (أرضى)

وقد لا يكون هذا القدر القليل كافيا للحكم على هذا الشاعر من حيث ميوله المختلفة في مجموعها وعلاقتها بالبيئة التي عاش فيها، ولكنه على كل حال شاهد صدق على ما كانت عليه نفسه من الرقة وكان عليه أسلوبه من الفخامة والحلاوة والسهولة، فهذان البيتان مع انهما من المجزوء تضمنا قصة بحالها يجول فيها الحب وجناته والهجر وأناته، والموت وأظفاره، والدمع وانهاره، وهو بين الحبيب الذاهب، واليأس الغالب، يعود باللائمة على نفسه التي لم تقنع بالهجر وتجد لذاتها فيه، حتى ضمته الأرض قبل أن تضمنه حنيا قلبه الشجي المحترق، وهو مع كل هذا لا يفوته الحكم الصناعة فيخرج لنا جناسا لا نحس عنده جهدا ولا تكلفاً ولا مللاً، يجمع بين الندم على عدم الرضى، والحسرة على فوز الأرض بالحبيب من دونه.

على أن الذي هداني إلى هذا الديوان وأنا فتى هو نفس المرحوم محمد سعيد بك الذي عنى بجمعه ونشره، فقد كان كثيرا التردد على المرحوم جدي، (وكان صديق أبيه)، وكان من تردده علينا أن حبب إلى نفسي قرض الشعر في ذلك العهد.

ولقد كان محمد سعيد بك واسع الاطلاع غزير المادة فياضا مجيدا. اذكر انه زارنا مرة فوجد معي قريبا جميل الطلعة، فمال علي هامساً في إذن ي ما اسمه؟ قلت مصطفى، وعند

ص: 15

ذلك انفرد بنفسه في ركن من الغرفة، حتى إذا مضت أربع دقائق اقبل علي يقول بصوت خافت: اسمع، ثم أنشدني هذا البيت:

وأعطشني وجدي إلى رشف ريقه

لفرط صبابتي فمذ قال مُصْ طَفَى

ومن شعره رحمه الله في سيدة رثاها:

أيها المغرور بالدنيا اعتبر

فبوعظ كم ينادى الزمن

بينما الإنسان في الدنيا إذا

قائلٌ هذا فلان يدفن

ها هنا درة خدر فارقت

قصرها الزاهي وهذا المسكن

أنشد الرضوان في تاريخها

رحمة الله عليها جلشنُ

وجمل عجز البيت الأخير يعطيك تاريخ السنة التي توفيت فيها تلك السيدة، وإذا علما ان محاولة الحصول على التاريخ عند قرض الشعر من الأمور المعقدة التي لا يمكن فيها الجمع بين التاريخ وحلاوة الشعر أدركنا من هذا الشعر مقدرة هذا الشاعر الكبرى في تذليل هذه الصعوبة، فان إرسال الرحمة في هذه الصيغة التي ألفها الناس وذكر اسم المرثية والحصول مع ذلك على التاريخ المطلوب في شعر من بحر الرمل حلو الألفاظ والمعنى كاف للتدلي على مكانته. ولق بل من مقدرة محمد بك سعيد انه نظم مرة قصيدة من عشرين بيتا كان كل صدر وكل عجز منها تاريخاً، وقد سمعت ذلك من جدي رحمه الله، وكان وقتئذ وكيلا للمطبعة الأميرية، ولعل هذه القصيدة منشورة بالوقائع الرسمية التي كانت تنشر وقتئذ له وللمرحوم الليثي وغيرهما من الشعراء.

وقد روى لي محمد سعيد بك رحمه الله انه هو الذي وضع القطعة الغنائية المشهورة التي مطلعها:

بستان جمالك من حسنه

أبهى وأجمل م البستان

على خلاف ما شاع بعد وفاته من أنها للمرحوم إسماعيل باشا صبري هؤلاء الناس الموفقون في الأدب والشعر قد لا يعلم الناس عن كثير منهم شيئاً، وهكذا يذهبون وتذهب معهم آثارهم. روي لي المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي ان كتبة محكمة الإسكندرية الشرعية كان رئيسهم (الباشكاتب) في وقت ما رجلا نسيت اسمه خفيف الروح جيد الشعر، ولكنه كان مولعا بالشراب. وقد صادفه مرة أحد أصدقائه وهو يحتسي في

ص: 16

حانوت خمار فطلب إليه أن يسايره حيث هو ذاهب (وكان لا يزال في القنينة نحو ثلثها) فأبى قائلاً وبلسانه التواء من اثر السكر.

مضى بها ما مضى من عَقل شاربها

وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي

ولا أدري إذا كان هذا البيت من مقولة أو قديم، ولكنه على كل حال دليل على سرعة ارتجاله أو سرعة خاطره.

ومما يدل على ظرف هذا الرجل أن حضرة القاضي رئيس المحكمة كان معتاداً أن يقبل الموظفون (وهو معهم) يده عند كل صباح. ولكنه بلغه مرة انه مدمن على الخمر، وانه يعترض في الطرقات الفتيات المتجرات بالهوى، فغضب عليه وأسرف في تعنيفه حتى إذا ضاقت نفسه خرج من صمته صائحا ليكن ما بلغ فضيلتك عن صحيحا فمالك وسلوكي في غير أوقات عملي. وعند ذلك جن جنون الشيخ وصرخ فيه ان اخرج من هنا. أنت طالق. أنت طالق. أنت طالق. . .!

وفي صباح اليوم التالي لم يره الشيخ مع باقي الكتبة فتذكر ما كان من أمره معه بالأمس، وأرسل في طلبه، ولكنه أبى أن يحضر فذهب إليه بنفسه، وعند ذلك أسرع صاحبنا فغطى وجهه بطرف ثوبه. . . وفي هذه الحركة من حسن الإشارة ما فيها بعد صدور ذلك اليمين. . .

رحمهم الله جميعاً

محمود خيرت

بقلم قضايا وزارة المالية

ص: 17

‌في ربوع جوته وفرتر

من الرسالة

فرنكفورت - صباح الأحد 8 يونيو سنة 1924

. . . الأسرة التي أقيم فيها مؤلفة من أرملة وأولادها: بنتين وصبيا أصلهم من الريف، من وتسلار حيث كان جوته موظفاً، وحيث عرف شرلوت واحبها، وكتب الأم فرتر - نزحوا إلى فرنكفورت طلبا للعيش، وسأقص عليك الآن قصة كبرى الابنتين، ويبلغ عمرها أربعة وعشرين عاما -

عرف قلبها الحب وهي في السادسة عشرة حينما كانت في وتسلار، وأحاطت بحبها ظروف قاسية اضطرته ان يتزوج من سواها، فلم تطق البقاء في وتسلار فرحلت إلى فرنكفورت تبحث عن وظيفة. . . وتبعها شاب من مواطنيها كان يحبها ولا يجرؤ على التصريح لها بحبه. تبعها ليدرس بالجامعة، واصطحبا وتكتم الحب ثلاث سنوات قضي اثنتين منها في ميدان القتال، فلما انتهت الحرب عاد إلى فرنكفروت ليتم دراسته، وعادت علاقة فلتر بحبيبته تيا

باح لها بحبه وطلب يدها، وظنت هي أنها تحبه فأجابته بالقبول، وتمت الخطبة، ومرت سنتان وهو يستعجل الزواج فتؤجله محتجة بغلاء الأثاث وهبوط قيمة المارك في ذلك الحين، فلما زاد إلحاحاً صارحته برغبتها في فسخ الخطبة، لأنها لا تستطيع أن تجد معه السعادة التي تنشدها، فهي مادية وهو خيالي، هي تحب الرقص ولا تفهم الموسيقى، وهو يحب الموسيقى ولا يعلم الرقص، فكانت بينهما القطعية.

وهنا انقل إليك أيها الصديق قطعا من رسائله التي كتبها بدموعه بل بدماء قلبه، والتي أطلعتني الأم عليها ذات مساء وتركتها لدي ليلة لأقرأها.

يقول فلتر في خطابه الأول: (مهجور! أنا مهجور! وما أطول الليل على مهجور مثلي في هذه المدينة الكبيرة! لو كنت في قرية صغيرة لخرجت إلى الجبال والغابات أشكو إليها حبي وأحدثها عن بؤسي، ولكني في هذه المدينة الكبيرة إذا خرجت لا أجد إلا السكارى وهم عائدون آخر الليل إلى مساكنهم، والنساء الخليعات وهن يتسكعن في زوايا الطرق وعلى مقاعد المتنزهات) وعلم أن (تيا) أخذت ترفض تسلم كتبه، فكتب إلى أمها يقول:

ص: 18

(قول لتيا إنني ساكون من نفسي شخصا آخر كما تحب هي أن أكون. قولي لها إنني تقدمت في دروس الرقص وأصبحت غيري بالأمس. قولي لها تسمح لي بان أراها مرة واحدة، وسوف لا أحداثها عن حبي ولا اذكر لها شيئاً عن الماضي. قولي لي ترحمني فإني بدونها لا يمكنني أن أعيش. اسأليها عن ذنبي لديها، فان كان لي ذنب غير شدة حبي فسأكفر عنه بدمي وحياتي).

وكتب في ثالث: (في مثل الغد ولدت، ولقد تعودت منذ خمس سنوات أن أتناول هديتي من المحبوبة (تيا) قبلة وعهدا على حبنا، قولي لها إنني انتظر هديتها غدا، وان تسمح بالعودة إلى مثل ما كنا. سأحضر بنفسي إليكم وكلي امل، فاستحلفكم إلا تصدموني في كل آمالي).

وعلمت انه لما حضر رفضت تيا أن تقابله فأرغمتها أمها على ذلك، فأساءت لقاءه، فكتب إلى أمها:(قولي لها تجربني شهرا وأحدا، وسولا لا أحدثها عن حبي، غدا تبدأ حفلات بيتهوفن السنوية. ذكريها إنها لما سمعتها لأول مرة، وكانت معي بكت. . . وفي تلك الليلة حدثتها لأول مرة عن حبي. . . لقد اشتركت لها ولي، وسأمر بكم غدا لأرافقها).

ولما بلغه إنها تخطب إلى آخر كتب إلى أمها:

(أني آمل وآمل ولا أستطيع أن أيأس قبل أن يضع القسيس على رأسها إكليل الزواج من غيري، أمل لأن حبي لها لا يفنى، ولأني بدون هذا الشعور لا أستطيع أن أحيا).

وكانت آخر رسائله هذه الكلمات: (سوف تتزوج من غيري! أن هذا يطن في رأسي طنين حلم مروع، وما كنت لأتصور حدوثه يوما من الأيام، وهل هناك أحد في العالم يستطيع أن ينيلها من السعادة ما أستطيع؟. قولي لها أني أتمنى لها الهناء من صميم فؤادي، وان الشيء الوحيد الذي أحذره أن تذكرني يوما من الأيام بالأسف حين لا ينفع الأسف. . . وداعاً إلى الأبد!. . .).

وفي الشهر القادم موعد حفلة زفافها إلى خطيبها الجديد، دميم الخلقة، قصير، أعرج، ولكنه غني، فلقد كان أيام هبوط قيمة المارك يضارب - مع اليهود - على إسقاط عملة بلاده فأثرى وقد سمعتها أمس فقط تقولانها تأسف على فلتر، فصرخت أمها في وجهها تقول (ألم يكن ذلك من قبل؟.) فقلت لهما إنني أتعهد بأن أرده إليهم لأنه معي في الجامعة. فقالت الأم (هذا مستحيل، انك لا تعرفه، أن كبرياءه جرحت بلا شفقة، فلا يمكن أن يعود، انك لا

ص: 19

تعرفه) - والحق يا صديقي انك لو رأيته لما رأيت إلا الكبرياء والعظمة، هو ليس بالجميل. . . طويل القامة كبير الوجه، واسع العينين، تحيط بهما هالة سوداء، بوجهه خطوط كثيرة وتجعدات عميقة، يتكلم بصوت خافت يكاد لا يسمع مع كبر جسمه، واظهر ما يتجلى عليه الكبرياء والتكتم، وقد سألته يوما عما ينوي عمله بعد حصوله على الدكتوراه فقال: انه سوف يرحل إلى أمريكا الجنوبية ليعيش هناك، فقلت له إلا يعز عليك مفارقة أهلك ووطنك؟ فأجاب (لا. ليس هنا أحد يهمه أمري).

ص: 20

‌البغاء

بقلم حبيب المعوشي

لقد كثرت في هذه الأيام الأقاويل وتباينت الآراء في البغاء ومنعه من البلاد، وأقصاء البغايا الأجنبيات عنه عملا بقانون يسن لهذا الغرض. فمن مؤيدين لهذا القانون، ومن معارضين له، ولكل فريق فيما يدعيه حججه وبراهينه. فالذاهبون إلى تحريم البغاء مدنيا يقولون انه آفة الاجتماع ومصدر الفاحشة ومجلبة البوائق، وانه لحائل الكبير دون الزواج وتكوين الأسر، وانه العقبة القائمة في وجه كثرة المواليد إلى غير ذلك من الأدلة.

والقائلون مدنياً بإباحته يؤيدون دعواهم بأنه السور الذي يصون الكثير من شرف المحصنات، والحاجز الذي يخفف - أن لم يقف - الأعداء على شرف العذارى وأعراض الأسر. أما أنا فلست أريد بهذا المقال أن أؤيد رأيا أو أخالف آخر، ولكنني إجابة لطلب بعض الإخوان من الأدباء رأيت أن انشر بإيجاز ما اعرفه من هذا القبيل وما قيل بهذا الشان في العصور الخالية وما كان للبغايا لدى مختلف الأمم من المنزلة والمقام.

كانت البغايا في العهد القديم من بواعث الحمية في الرجال. فكن ينبهن فيهم الحماس البدني والنشاط العقلي ويحملنهم على الدفاع والجهاد والتضحية، والتفاني في سبيل الوطن والعقيدة. ففي حرب شعواء شهرت على قورونتية قامت البغايا في اليونان يشجعن الرجال ليذودوا عن الحمى، فهب الرجال هبة واحدة وخرجوا بحشدهم زمرا وكتائب لمواجهة العدو مستبسلين مستميتين بفضل حض البغايا وأغرائهن. ولم تقف البغايا عند هذا بل قمن وجذذن شعورهن - وكان الشعر في ذلك العهد انفس حلى النساء واجمل أزيائهن - وقدمنها قربانا للزهرة آلهة الجمال كي تساعد الإغريقيين على أعدائهم وتهبهم الفوز والظفر، وبفضل ما أبدينه من ضروب التضحية والحض والتنشيط واستفزاز الهمم انتصر الإغريقيون انتصاراً عظيماً، وعزوا أهم أسباب فوزهم للبغايا، فاكبروا عملهن واعلوا قدرهن - ومثل هذا كان يجري أيضاً في كثير من البلاد الأخرى بحيث خصهن رجال تلك العصور الخالية بالمكان الأول في الاجتماع وقالوا أن التمدين لا يقوم إلا بهن ولا يزداد انتشارا إلى بمعاونتهن، وقد شبههن بعض الكتاب الأقدمين بأريج ذكى يعطر الجو ويولي مستنشقيه الاغتباط ويحرك فيهم الهمة والجرأة والإقدام.

ص: 21

وظل فيهن على هذا حتى ظهر الدين المسيحي فحرمت النصرانية البغاء تحريما مطلقا وجعلت من أهم أسس الكمال في الدين قهر الجسد وكبح الشهوات البدنية، ومنذ العهد الذي انتشرت فيه هذه تعاليم أخذ نجم البغايا في الأفول، وبدأ مجدهن في الزوال، فأرمت كنيسة المسيح بنبذهن من الاجتماع، فأقصين من المجالس، واضطهدن وحقرن، حتى غدون أحط من سقط المتاع وعند ما كانت الأوبئة كالطاعون والهواء الأصفر تتفشى في العالم أو تصيب الأمم نكبات ومجاعات كان الناس ينفون البغايا من البلاد ويرهقونهن بألوان العذاب ويذيقونهن شر الميتات ظنا منهم انهم بما يفعلون يلطفون غضب السماء.

ففي بعض البلاد كان الزواج محرما على البغايا، وفي بعضها كانت البغايا يعزلن في الحظائر شأن المواشي، وفي عهد البابا بولس الرابع أي في القرن السادس عشر كان الشبان الأشراف في إيطاليا يعدون التغاضي عن حرق منازل العهر عارا وفضيحة.

وفي مدينة تولوز في فرنسا كانت البغي التي تجرؤ على اجتياز عتبة أحد الأديرة تعد جانية فيقبض عليها وتلقى في السجن، ثم تساق للمحاكمة فيحكم عليها بأقسى عقوبة.

وفي مدينة بوكير من أعمال فرنسا أيضاً كان يفرض في كل عام على البغايا الجري عاريات في أحد الميادين إلى أن تنقطع أنفاسهن وتسكت دقات قلوبهن، وفي مدينة مانطو في إيطاليا كانوا يوجبون على البغي شراء ما تلمسه من الأشياء لدى مرورها في الأسواق بحجة إنها دنسته بلمسها ولوثته بيدها النجسة الذليلة وأفسدت تجارته على صاحبه. وفي هذه المدينة أيضاً كان يحتم على البغايا تعليق الجلاجل في أعناقهم عندما يطفن في المدينة أسوة بالمصابين بداء الجذام تنبيهاً للمارة كي يبتعدوا وتحذيرا لهم من العدوى.

هذا قليل من كثير مما كان يجري على البغايا في القرون الوسطى، ولكن عندما أخذ التمدين الحديث يتمشى في أنحاء العالم قل اضطهاد البغايا وأبيح لهن مخالطة الناس والظهور في المجتمعات والأندية والمجالس، بل عد البعض وجودهن من عوامل النهوض والارتقاء، وللبلوغ بالتمدين إلى أرقى درجات الكمال. السن هن اللواتي يبتدعن التأنق في المعيشة، ويطلقن الأزياء البديعة في العالم، ويروجن أسواق الحلي الغالية، والملابس الأنيقة، والمنسوجات الناعمة، والمطارف الثمنية، والمفروشات الفاخرة؟ أو لسن هن اللواتي يخرجن من خزائن الشيوخ الأشحاء ما اكتنزوه من تحف، وكدسوه من نفائس،

ص: 22

وخبأوه من أموال، فيغدقنها على الأسواق وينتفع بها المجموع الإنساني.

هذه هي الكلمة التي توخيت نشرها في هذا الباب لعل فيها فائدة، ومنها يرى ان البت في تحريم البغاء أو إباحته يسلتزم كثيرا من التروي والتفكير لمعرفة أيهما افضل وأصلح للبلاد، ولا نخال حكومتنا وهي لم تزل مترددة في سن قانون التحريم إلا مواصلة الفحص والتمحيص حتى تهتدي إلى الأصوب والأنفع فتقره.

وبهذه المناسبة اذكر ما قاله ديموستين كبير خطباء أثينا، من ثلاثة وعشرين قرنا ونيفا - في النساء والبغايا وما يبتغيه الرجال منهن وهذا تعريبه:

(نحن الرجال، بحاجة إلى ضروب ثلاثة من النساء: المرأة الرشيدة المثقفة لنشغل بها العقل ونلهي بها النفس والمرأة البارعة في الجمال لنرضي بها الحواس ونسكن ثورات الجسد.

والمرأة الصالحة الحكيمة لتلد لنا البنين وتدبر لنا المنازل). وقد رأى أن وجود البغايا في البلاد ضروري لاستفزاز همم الرجال إبان الحروب لأن المحصنات قد يحجمن عن ذلك كيلا يعرضن أزواجهن وفلذات أكبادهن إلى الهلاك.

وقال أحد علماء الفرنسيين وكتابهم في البغاء وفي الدفاع عن البغايا ما معناه:

(ينحى الناس باللائمة على البغي التي تبيع جسدها وينبذونها ويصمونها بالعار، ويمطرونها وابلا من السب والثلب، على حين ان الكثيرين منهم يببعون عقولهم وأفكارهم وضمائرهم، فإذا كان العقل في حكم الناس افضل من الجسد وأسمى منه منزلة، فلماذا يحجم عن نبذ ممتهنيه ويغضي عن تعيير بائعيه، بينا ان بيعه اجلب للعار والثلب والاستنكاف من بيع الجسد.؟

ثم لماذا نرانا نجل من الرجال العظام والعلماء الأعلام من باعوا فكرهم وحريتهم وأباحوا عقولهم لقاء الدرهم. أليس هؤلاء ادعى للاحتقار والازدراء والنبذ من البغي التي تبيع جسدها وهو المادة الدنيئة الحقيرة الخاضعة للعقل ودونه قيمة ومقاماً.؟

اجل، ولكن بينا الناس يتخطبون في الخطأ والغواية ويعمهون في كثير من الضلال، وشر الضلال احتقار المرأة البائعة جسدها وإجلال الرجل الذي يسلم للعار عقله وفكره وضميره وحريته الوطنية والأدبية.

فلا مراء أن في هذا الكلام حقائق يحسن النظر فيها وتعاليم يجدر بالعاقلين والنابهين التسليم

ص: 23

بصحتها والاستفادة منها - سدد الله خطواتنا وهدانا سواء السبيل.

حبيب المعوشي

ص: 24

‌مخترع الرقاص منجم مصري

للأستاذ قدري حافظ طوقان

يعتقد كثيرون أن الرقاص (بندول الساعة) من مخترعات العالم الإيطالي الشهير غاليلو (1564 - 1642م)، وان هذا العالم أول من استطاع ان يستعمله ويستفيد منه. وهؤلاء الكثيرون يستغربون إذا قيل لهم أن هذا غير صحيح، وان الفضل في اختراعه يعود إلى عالم مسلم عربي، عاش في مصر ونشأ على ضفاف النيل، وقد سبق غيره في استعماله في الساعات الدقاقة، وبذلك يكون غاليلو مسبوقا بهذا الاختراع بستة قرون. أقول انهم يستغربون وأزيد على ذلك وأقول انهم قد يستهزئون، ولكن ما كان لنا أن نجرؤ فننسب هذا الاختراع الجلي إلى العرب لولا اعترافات المنصفين من علماء الإفرنج، فإذا تصفحت كتاب تاريخ العرب للعالم الفرنسي المنصف سيديو تجد نصا صريحا بأسبقية العرب في اختراع الرقاص:(. . . وكذا ابن يونس المقتفي في سيره أبا الوفاء ألف في رصد خانته بجبل المقطم الزيج الحاكمي، واخترع الربع ذا الثقب، وبندول الساعة الدقاقة). وكذلك يقول (تايلر و (سدويك ان العرب استعملوا الرقاص لقياس الزمن.

من هنا يستنتج أن سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله في الساعات الدقاقة. أنا لا أقول أن العرب وضعوا القوانين التي تسيطر على البندول، ولا أقول انهم وضعوا ذلك بقالب رياضي على الشكل الذي نعرفه الان، ولكني أقول انهم سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله، وفي إيجاد علاقته بالزمن؛ وفوق ذلك كان لديهم فكرة عن قانون الرقاص (قانون مدة الذبذبة). يقول سمث العالم الأمريكي في كتابه تاريخ الرياضيات في ص 973 من الجزء الثاني ما يلي:(ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه ففي معرفة شيء عنه، وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. . .).

يظهر مما مر أن العرب عرفوا شيئا عن القوانين التي تسيطر عليه، ثم جاء من بعدهم غاليلو، وبعد تجارب عديدة استطاع أن يستنبط قوانينه، إذ وجد ان مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل، ووضع ذلك بشكل رياضي بديع وسع دائرة استعماله وجني الفوائد الجليلة منه.

ص: 25

وأخشى أن يختلط الأمر على القارئ فيظن ان كمال الدين بن يونس هو نفسه ابن يونس الذي ذكره سيديو، مع أن هذا خلاف الواقع، فكمال الدين بن يونس كان (علامة زمانه، وواحد أوانه، وسيد الحكماء، قد أتقن الحكمة، وتميز في سائر العلوم). ولد في الموصل سنة 1156م، وتوفى بها سنة 1242م، وتلقى العلم في بغداد في المدرسة النظامية. كان ذا اطلاع واسع على العلوم الشرعية، وتعين مدرسا في الموصل، قرأ الطب والفلسفة (ويعرف من فنون الرياضة من اقليدس، والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطى وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والارثماطيقي بطريق الخطائين، والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرقا لم يهتد إليها أحد. . .).

ولنرجع الآن إلى ابن يونس المصري، فهو مخترع الرقاص، واسمه أبو سعيد عبد الرحمن بن احمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري. كان من مشاهير الرياضيين والفلكيين الذين ظهروا بعد البتاني وأبي الوفاء البوزجاني، ويعده سارطون من فحول علماء القرن الحادي عشر للميلاد، وقد يكون اعظم فلكي ظهر في مصر، ولد فيها وتوفى بها سنة 339هـ - 1009م. ويقول بعض معاصريه انه كان ذا طباع شاذة، يضع رداءه فوق عمامته، إذا ركب ضحك الناس منه لسوء حاله وشذوذ لباسه، (وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة لا يشاركه فيها غيره، وكان متفننا في علوم كثيرة، وكان يضرب على العود على جهة المتأدب). وهو سليل بيت اشتهر بالعلم، فأبوه عبد الرحمن بن يونس كان محدث مصر ومؤرخها، وأحد العلماء المشهورين فيها، وجده يونس بن عبد الأعلى صاحب الأمام الشافعي، ومن المتخصصين بعلم النجوم. وقد عرف الخلفاء الفاطميون قدر ابن يونس وقدروا علمه ونبوغه، فاجزلوا له العطاء وشجعوه على متابعة بحوثه في الهيئة والرياضيات، وقد بنوا له مرصدا على جبل المقطم قرب الفسطاط، وجهزوه بكل ما يلزم من الآلات والأدوات، وأمره العزيز الفاطمي أبو الحاكم أن يصنع زيجاً، فبدأ به في أواخر القرن العاشر للميلاد، وأتمه في عهد الحاكم ولد العزيز، وسماه (الزيج الحاكمي). ويقول عنه ابن خلكان (وهو زيج كبير رأيته في أربعة مجلدات، ولم أر في الازياج على كثرتها أطول منه). ويعترف سيديو بقيمة هذا الزيج فيقول: إن هذا الزيج

ص: 26

كان يقوم مقام المجسطي والرسائل التي ألفها علماء بغداد سابقا. ويقول سوتر الشهير في دائرة المعارف الإسلامية: (ومن المؤسف حقا انه لم يصل إلينا كاملا، وقد نشر وترجم (كوسان) بعض فصول هذا الزيج التي فيها أرصاد الفلكيين القدماء، وأرصاد ابن يونس نفسه عن الخسوف والكسوف واقتران الكواكب). وكان قصده من هذا الزيج أن يتحقق من أرصاد الذين تقدموا وأقوالهم في الثوابت الفلكية، وان يكمل ما فاتهم، وان يضع ذلك في مجلد كبير جامع (يدل على أن صاحبه كان اعلم الناس بالحساب والتسيير). وابن يونس هو الذي رصد كسوف الشمس وخسوف القمر في القاهرة حوالي سنة 1978م، واثبت منها تزايد حركة القمر، وحسب ميل دائر البروج، فجاء حسابه اقرب ما عرف إلى أن أتقنت آلات الرصد الحديثة.

وأصلح ابن يونس زيج يحيى بن أبي منصور، وعلى هذا الإصلاح كان تعويل أهل مصر في تقويم الكواكب في القرن الخامس للهجرة.

وبرع ابن يونس في المثلثات وأجاد فيها، وبحوثه فيها فاقت بحوث كثيرين من العلماء، وكانت معتبرة عند الرياضيين، ولها قيمتها الكبيرة في تقديم علم المثلثات. وقد حل أعمالا صعبة في المثلثات الكروية واستعان في حلها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كل من المستوى الأفقي ومستوى الزوال. وهو أول من استطاع ان يتوصل إلى إيجاد القانون الآتي في المثلثات الكروية:

1 1

جتاس جتاص=_ جتا (س + ص) +__ (س - ص)

22

وكان لهذا القانون قيمة كبرى عند علماء الفلك قبل اكتشاف اللوغارتمات، إذ يمكن بواسطته تحويل عمليات الضرب إلى عمليات جمع، وفي هذا بعض التسهيل لحلول كثير من المسائل الطويلة المعقدة. وفي زمن ابن يونس استعملت الخطوط المماسة في مساحة المثلثات. ويقول سيديو:(ولبث ابن يونس يستعمل في سنة 979 إلى سنة 1008م إضلالاً أي خطوطا مماسة، وإظلال تمام حسب بها جداول عنده تعرف بالجداول الستينية، واخترع حساب الأقواس التي تسهل قوانين التقويم وتريح من كثرة استخراج الجذور المربعة. . .)

ص: 27

وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب، وبندول الساعة الدقاقة، وفوق ذلك فوق كان ينظم الشعر نأتي على بعض منه للتنويع، فمن قوله في الغزل:

أحَملُ نشر الريح عند هبوبه

رسالة مشتاق لوجه حبيبه

بنفسي من تحيا النفوس بقربه

ومن طابت الدنيا به وبطيبه

لعمري لقد عطلت كأسي بعده

وغيبتها عني لطول مغيبه

وجدّد وجدي طائف منه في الكرى

سرى موهناً في خفَية من رقيبه

نابلس

قدري حافظ طوقان

ص: 28

‌ذكرى أدبائنا

بقلم محمد محمد مكين

كتب الدكتور زكي مبارك في البلاغ ينصح أصدقاء شيخ العروبة بجمع ما تناثر من مقالاته وبحوثه وضمها في كتاب، وخشي في نهاية الأمر أن يلحق بشيخ العروبة ما لحق حافظا وإسماعيل صبري من إهمال ونسيان. وكتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مقالاً أرسله من لبنان يذكر فيه انه خجلان لأن إخواننا السوريين يخلدون ذكرى الأمام الشيخ محمد عبدة ونحن نهمله. وكتب الأستاذ احمد حسن الزيات في الرسالة كلمة بكى فيها حظ الأدب والأديب وما يلاقيان من جحود وإنكار. وكتب الأستاذ محمود الشرقاوي كلمة بمجلة الأسبوع عن المنسيين (من الأدباء) قال في ختامها انه يجب على كل أديب ان يعد نفسه كالذبيح ثم يموت مدحورا لا ينال حتى كلمة الذكر.

فهل يا ترى نستخلص من تلك المقالات إننا استيقظنا وتلمسنا تلك الظاهرة المعيبة - ظاهرة عقوق الأدباء وجحود العباقرة. . .؟ أخشى أن تكون اليقظة يقظة الموت.

نعم مات حافظ فلم نوفه حقه ولم نقم بالواجب نحوه، ووالله إن أبناء العروبة في أمريكا لخير منا ألف مرة، فقد قاموا بواجبهم نحو حافظ وشوقي خير قيام.

ومات من قبله الأديب محمد السباعي وذهب كأنه لم يخلق، وكأنه لم يخلق آثاراً أدبية لو كانت أمة غير مصر لصعدت بها إلى الأوج.

وانتقل إلى جوار ربه المرحوم احمد باشا تيمور، وفضله على الأدب والعلم غير منكور، فماذا قدمناه لإحياء ذكراه؟

ورحل المرحوم إسماعيل صبري عن هذه الدار، وما زال شعره متفرقا لم يجمع في ديوان.

تمضي الأعوام فنحي المنفلوطي بطعنات داميات، ونرمي خير الدين يكن بالمروق، ونتهم جبران بالسخف. ثم ننسى البارودي، وصروف، وجورجي زيدان، وحفني ناصف. ولولا وفاء أبناء دار العلوم لذهب شعر عبد المطلب هباءً منثوراً.

اذكر من سنين قليلة أن أدباء مصر أرادوا الاحتفال بذكرى ابن خلدون فتقاعست همهم، وقام أدباء المغرب على ما اذكر بذلك العمل الجليل. واذكر انهم يتحدثون عن الاحتفال بذكرى المتنبي والمعري. فهل تراهم يفلحون؟

ص: 29

ها هو ذا عام 1934 عام حافل بالذكريات. فيه مناسبات كثيرة لإحياء ذكرى أدبائنا وعلمائنا. ففي هذا العام كانت مناسبة صالحة لذكرى قاسم امين، ولكنها ضاعت بكل أسف فلم نفعل أكثر من كتابة مقالات تافهات نشرتها الصحف وذهبت بذهاب الأمس. على إن في ذلك عبرة، هي إن دعوته لما تثمر الثمر الطيب، وإلا لعرفت المرأة المصرية قدر محررها فقامت بواجب غفل عنه الرجل.

أقول أن عام 1934 عام حافل بالمناسبات، ففيه يكون قد مضى خمسة عشر عاما على وفاة جفني ناصف، ويكون قد مضى عشر سنين على وفاة المنفلوطي.

وفي أغسطس القادم يكون قد مضى عشرون عاما على وفاة جورجي زيدان. وفي ديسمبر القادم يكون قد مضى ثلاثون عاما على وفاة أمير الشعراء محمود سامي البارودي.

وفي هذا العام يكون قد مضى حولان على وفاة حافظ وما يزال (يقتضي أصدقاءه المخلص حفلة التأبين وتأليف الكتاب).

فماذا نعد لهذه المناسبات؟ أندعها تمر فنضع رؤوسنا في الرعام ونرمي بأنفسها في وهدة الذل والصغار، أم ننهز هذه الفرصة ولا ندعها تفلت من أيدينا؟

لست ادري ماذا تفعل جماعاتنا الأدبية على كثرتها حتى تهمل ذلك الواجب المقدس؟ أحق عليها ما كتب بمجلة كل شيء في عددها الأخير من إن جماعاتنا الأدبية تقوم على صرح واه لأنها ترمي إلى أغراض تلعب فيها الحزازات الحزبية والمآرب الشخصية الدور الأول!! وانه ينقصها روح التعاون والقدرة على كبح جماح العواطف الشخصية في سبيل الفكرة التي تعمل من اجلها الجماعة. . . إلى جماعة الأدب العربي، وجماع أبولو، والى أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر أتوجه بالرجاء أن يعالجوا ذلك النقص المعيب، فهم خير من يعهد إليهم ذلك الأمر.

وأخيراً اذكر الأدباء قاطبة بان يفوا لأسلافهم حتى يفي لهم إخلافهم. وإلا كان مصيرهم مصير من سبقهم: جحود وإنكار ونسيان.

طنطا

محمد محمد مكين

ص: 30

‌جولة بين أطلال بومبي

للأديب حسين شوقي

كانت بومبي المدينة التي يقصدها سراة روما وعظماؤها للمتعة واللهو، لما توافر فيها من أسباب ذلك، كما يقصد اليوم المترفون من الغربيين ساحل الرفييرا الساحر. . .

وقد يرى المتجول بين أطلال بومبي آثار الطريق التي كانت تصل روما - حاضرة الدولة الرومانية العظيمة - ببومبي. . .

وبومبي اليوم تبعد كيلو مترات قليلة عن البحر، أما في زمانها الغابر فقد كانت تشرف على البحر، كما كانت ترسى في مينائها يخوت أقيال الرومان الأنيقة.

وبومبي التي لم يزد عدد سكانها على خمسة وعشرين ألف نسمة، كان فيها من المسارح والحانات والحمامات العامة وأماكن المصارعة ما يجذب النفس ويستهوي الفؤاد. . .

وكل ذلك باق أكثره على رغم الزلزالين الكبيرين اللذين منيت بهما بومبي من عشرين قرنا خلت. . .

وما اجمل الدور التي شيدها سراة روما في بومبي ليخلوا إليها في أوقات فراغهم للهو اللعب، وقد حليت أرضها وسماؤها بالفسيفساء الملون الرائع، وبالصور الزيتية الجميلة، المنقولة عن الاساطير، وقد شيد أكثر هذه الدور على طراز خليط من الطرازين الروماني والإغريقي. . . لأن الرومان اعجبوا بالحضارة اليونانية، فنقلوا منها إلى بلادهم فنونها، وآدابها، وديانتها. .! وقد بلغ إعجاب القيصر نيرون بالإغريق انه تعلم لغتهم فأتقنها، وكان يشجيه أن يغني بها، وقد وهب صوتاً رخيماً. . .

وقد شيدت هذه الدور على النظام الآتي: باب ضخم على الشارع، يلج منه الزائر إلى دهليز ضيق يوصل إلى فناء فسيح ليس له سقف، سوى سماء نابولي الصافية الزرقاء، وقد زين هذا الفناء بالأزهار النادرة، كما حلى بالتماثيل المرمرية الجملية التي تمثل الآلهة، وبعض هذه التماثيل لا يزال قائما في مكانه وبعضه هدمته الزلازل، والبعض الآخر نقل إلى متحف نابولي. . .

وفي وسط هذا الفناء تقوم نافورة من المرمر، يتفجر منها الماء عذبا سلسالا. . .

وحول جنبات هذا الفناء بنيت حجر الدار، وقد بلغت عناية القوم بأولادهم انهم أنشئوا لهم

ص: 32

حجرا خاصة زينوا جدرانها بالصور الزيتية الفكاهية التي تلائم مزاج الأطفال. . .

كما أن بومبي كانت لها معابد فخمة صدعتها الزلازل فأودت بمعظم عمدانها الكورنتية الأنيقة. . . وقد شيدها القوم زلفى للآلهة حتى يغمضوا أعينهم عما يقترفونه من كبار الآثام الخلقية بين جدران هذه المدينة المتهتكة. . .

كذلك الآلهة المصرية ايزيس، التي ذاع صيتها في العالم القديم وعظم شأنها، لها معبد خاص في بومبي، وقد عبدها الرومان في صورة سيدة رومانية!

وقد شاهدت تمثالها في متحف نابولي. . .

وهناك حي للمتبذلات كن يقبلن من أهل المرح وعودهم بان يدفعوا شيئا. . . وشاهدت في إحدى الحجرات اسما منقوشا على الحائط يتعهد صاحبه بان يدفع الإتاوة في الزيارة المقبلة!

وشوارع بومبي مرصوفة مرصعة بالحجر، وقد وضعوا في مفترقاتها أحجاراً بعلو الأرصفة، ليعبر عنها المارة من الشعب في الأيام الممطرة، أما المترفون فكانوا يسيرون في عربات محمولة على أكتاف عبيدهم. . .

ولكن يلوح لي أن أهالي بومبي قد بالغوا في الاستهتار واقتراف الرذائل، حتى اغضبوا الآلهة عليهم برغم ما شيدوه لهم (رشوة) من معابد، فسلطوا على المدينة جارها الرهيب بركان فيزوف فزلزل أرجاءها، وأخذ يرميها بشواظ من النار السائلة والدخان الكبريتي الخانق، حتى تصدعت قصورها ودورها، وهلك معظم أهلها، وقد رأيت على عتبة إحدى تلك الدور أسرة قد أدركتها القارعة وهي على أهبة الفرار فتحجرت جثثها، وكانوا في فرارهم يحملون حليهم، ففنوا وبقيت هذه الحلي إلى اليوم معروضة في متحف نابولي، شاهدة على حرص الإنسان حتى وهو ملاق حتفه!

أي بومبي! أيتها المدينة الساحرة كنت هوة الأخلاق وبؤرة الرذيلة، فضربتك الآلهة، فأصبحت اليوم مثلا خالدا على الدهر جزاء فجورك، وما انبث في كل شق من شقوقك من دعارة وفساد. . .

أي بومبي! أيتها المدينة الفاتنة، لقد كان ما حل بك من عقاب عدلا، حتى لتجزع الطير من ان تحوم بين أسوارك رهبة وذعرا، على رغم مضى عشرين قرنا على نكبتك!

ص: 33

أي بومبي! أيتها المدينة الخالدة! لا تجزعي على ما أصابك فالدنيا دول، فكم من مدن كانت اعظم منك شأنا، وارفع بنيانا اندثرت كان لم تكن، حتى أن بعضها تلاشى فلا يعرف الآن مكانه. . .!

حسين شوقي

ص: 34

‌أدب الزراعة

للأستاذ محمد محمود جلال

ما زلنا نحس حنينا إلى الأدب، ولو أقصتنا ظروف الحياة عن بيئاته ومجامعه، ويهفو بألبابنا شوق ملح إلى كتبه ورسائله برغم الفارق الظاهر، والحجاب الذي تكاد تسدله شواغل الحياة في الزراعة والمال والاقتصاد. فنتلمس في أجوائنا جهد الطاقة نسيمه المنعش، وهو للروح حاجة كحاجة الزرع للماء.

والأدب في عرفي روح كل كيان، ولا ينقبض بفضله عن أي عمل أو مهنة، وإنما يتلون ويختلف باختلاف الأعمال والبيئات. وهو عنوان الحياة والذوق - فلا يعرض نفسه إلا لراغب الاجتلاء. وعندي انه شيء من التفهم، وحسن النظر يجده المرء ماثلا. ويجد غذاءه دافقا بغير من.

وها هي ذي رحمه الله تقرب البعيد، وتعوض من طرف ما يخال ضنا من طرف آخر. فتبسط لنا يده جل شأنه - فيما تبسط - من صحيفة الحقل قصائد عامرة الأبيات، شجية النغمات. وفي أمثال أخواتنا الفلاحين وإشاراتهم واستعاراتهم قطع من المنثور المليء بالمعاني الدقيقة القيمة، ولكن بالأسلوب الذي يتفق والنشأة، ويتسق مع البيئة.

رافقت مرة أحد مفتشي الجمعية الزراعية متعهدا حقلا للقطن من الزراعة الخاصة، سائرين خلف ناظر الزراعة، نطوف باحثين كل منا بقدر علمه، وعنينا جميعا بالتحقق من خلو الحقل من الآفات. ثم من النبات الغريب، وتدرجنا إلى حالة الزرع ودرجة العناية به. ثم إلى البذرة وانتقائها، والناظر في كل ذلك فخور بنتائج اشرافه، ينتظر الحكم في ثقة وثبات.

ظننا حين هنأناه بحسن عمله، أننا فرغنا وليس لنا إلا أن نعود أدراجنا!! وإذا بالناظر يغير السير، ويتجه إلى أقصى الجهة الشرقية في خطوات متئدة، وفي معان من التوسل للاقتداء به. ثم نظر نظرة هادئة إلى أسفل، أعقبها بإحدى أبعد مدى إلى الغرب، وقال يخاطب المفتش: (أرجو أن تنظر لترى النبات في خطوط لا تشكو عوجا؟ ثم انظر في أي ناحية، إلا تجد النبات في مستوى وأحد في الارتفاع؟

أليس هذا الحقل قصيدة إذن؟ أليست خطوط القطن مفصولا بينها (بالمساقي) المقاطعة لها - أبياتاً من الشعر من صدر وعجز؟

ص: 35

ثم أليس في نغمة الناظر على سذاجتها شاعرية؟

أي والله! ولقد روحت عني هذه الملاحظة كثيرا من العناء، وسرى في جسمي ما يسري عندما اخرج من عملي مكدود الذهن، كليل الخاطر، فاقرأ قصيدة للمتنبي أو مقطوعة لشوقي بك رحمهما الله!

على أني بين مشاغل المادة من مرور وفحص وإرشاد، وبين متعة الأدب الذي خبرت فذكرت، لم أزل بين القطن، ولم اعد الحقل وفيه ريان، وذكرت قول شوقي بك في (باريس):

إن كنتِ للشهوات رياً فالعلى

شهواتهن مُروَيات فيك

ولطالما عز القطن وعز معه زارعوه، فلم تكن تسمع بيننا إلا تنويها بذكره، وتدليلا لاسمه، ففاز من أدب الزراعة بأقشب الأثواب، وأجذب الأسماء والاشارات، فدعى (بذي العين البيضاء) وسمى (أبا الذهب).

حتى إذا دهمت الأزمة، وحلت الكارثة، في سنة 1931 بتدهور اسعاره، لم يبخل عليه أدب الزراعة (بذي القلب الأسود) فإذا تساءلت دهشا أو أنكرت عدم الوفاء لمن سبقت على الفلاح نعمه!! قيل لك: أو ليس بذوره سوداء حقا؟ أو ليست تقع من (اللوزة) في الصميم؟.

تقول هذا مجاج النحل تمدحه

وان ذممت فقل قيء الزنابير

ألم ترى إلى حقل القطن في أواسط شهر أكتوبر، وقد كادت تجف سوقه وقد اشتد سواد لونها، ودنت قطوفها بيضاء تحلى عاطله وتلين من وحشة جفافه. أليست الأولى أشبه بالليل، جاءته الثانية نجوما ذات لألاء تخفف من قساوة ظلمائه، منتشرة بين أعاليه وأسافله وأواسطه هدى للساري.

فإذا حان القطاف، وانتشر في الحقل الصغار يجمعون ثمار عمل طويل الأمد، عوضوا من شدة السوق وآذاها طراوة القطوف لينة طيعة في بياض ناصع خلال سواد قاتم.

يمزج الوصل بالصدود وياما

أعذب الوصل من خلال الصدود!

فإذا انتهى اليوم وقاربت الشمس المغيب، ففي آخر الحقل (الموازين القسط) منصوبة للعاملين، تحدد نتائج أعمالهم. وتحدد لكل ما يستحق من جزاء، ويؤجر الإنسان بقدر عمله. ولقد يمر الصبي وما جمع بأكثر من يد. فهذا ينظر إلى خلو الطقن من طين الأرض، وذاك

ص: 36

يحقق خلوه من الرطوبة (عب الندى)، وآخر ينظر في النظافة عموما، كما يفعل جمهرة الأدباء وصفوة النقاد حين يطالعهم بديوانه شاعر، أو ينشر كتابه ناثر، فكل وذوقه، وكل وما يستسيغ من المعاني، فيرهفون أقلامهم بما يعن لكل منهم، وكل يؤدي أمانته.

بل ان اليوم الواحد في موسم (الجني) ليمثل رواية كاملة للدنيا. فمن جد للسعي، إلى تشعب للعمل، إلى تنافس فيه، إلى اختلاف في النظر والمذاهب، إلى وضع لنظريات الحياة، فينما فريق يجمع بكلتا يديه ما تصلان إليه ايا كان نوعه، إلى فريق ينتقي ويدقق عن يقين بماله ونتائج سعيه، فالأولون يفرحون بالكم، والآخرون يدخرون النوع والدرجة شفيعا إذا نقصت الموازين. في نهاية اليوم ما يشبه تصفية الحياة، والنظر في صحيفتها، فمن مقل مجيد، إلى مكثر مسيء، إلى سابق بالخيرات.

ثم ما هي إلا لحظات حتى لا ترى للازدحام أثراً، وينصرف كل بما افاد، ويتفرق الجمع إلى مختلف الجهات، وتمر أيام قليلة فتجعل من تلك البقاع التي تشبه المناجم الغنية، أحطاباً سمراء مهجورة، ثم تحيلها الأيام هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا.

محمد محمود جلال

ص: 37

‌الرسالة

للأديب احمد علي المكي

كان صدور (الرسالة) فتحا جديدا في الأدب العربي، وخطوة كبيرة في ميدان العلوم والفنون، وهي الآن في شكلها الحاضر تعد آية في غزارة موادها، وحسن طبعها، وأنيق رسمها، وسحر مقالاتها، وبديع منظرها، ومنظر غلافها الرائع.

وإذا أنعمنا النظر إليها من حيث مركزها الأدبي في الوقت الحاضر، نجدها - مع قرب صدورها - قد أصبحت في طليعة المجلات العربية الأدبية، وكونت لنفسها مركزا ساميا، بين كثير من أخواتها التي مع قدمها لا تزال سائرة متطلعة إلى مثل هذه الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة.

وصدورها في (مصر) العربية - التي لها الحق في ان تفتخر وتزهى على بقية الأقطار العربية بكثرة مجلاتها المتنوعة، ووفرة جرائدها المختلفة - لم يكن حاجزا دون انتشار صداها في عموم البلاد العربية وأبنائها، ولم يمنعهم وجود البون الشاسع، والحواجز الطبيعية الجغرافية، وتفرقهم في مختلف الأقطار، من أن يجعلوها (منبرا) عاما لنشر ثمار قرائحهم الوقادة، وعصارة أفكارهم الثاقبة، ونتائج تجاربهم الأدبية والعلمية، وآرائهم القيمة العالية، واقتباساتهم الطريفة الظريفة، من الثقافة العربية لملائمة للذوق العربي الشرقي.

خذ أي عدد من أعدادها الثمينة فلن تجده إلا عنوانا للرابطة الأدبية العربية الوثيقة. فهذه المقالة لكاتب مصري بليغ، وتلك قصيدة منشأة أو مترجمة عن الإنجليزية أو الفرنسية لشاعر في سوريا أو العراق أو الموصل، من غير أن تتعصب لطائفة مخصوصة - شأن كثيرة من المجلات - أو تقديم كاتب وطني على غيره، أو التشدق بالنعرة الوطنية.

هذه الظاهرة الجليلة التي امتازت بها هذه المجلة الغراء تحملنا على أن نسميها بحق: مجلة العالم الأدبي العربي - ولا تتجاوز سياج الحقيقة والواقع، إذا سميت بهذا الاسم أو اتخذته شعارا لها.

وهذه الميزة الواضحة السامية، هي التي ألجأتني وحفزتني إلى كتابة هذه الأسطر، مع إظهار الأسف الزائد إذ لم تقع عيني وأنا أراجع الفهرس للسنة الأولى، وأتتبع إعداد السنة الثانية على اسم كاتب حجازي يكون قد اشترك مع إخوانه وزملائه المعاصرين في الأدب،

ص: 38

على صفحات هذه الصحيفة الغراء، ليساهمهم في هذه النهضة العلمية الفكرية المباركة، وليتعرف إليهم، ويعرفهم بنفسه، وإلا يكون بعيدا عنهم، إذ هو اقرب الناس إلى هذه المجلة الراقية علاقة ورابطة، وأحوجهم إلى الاشتراك في مثل هذه الخدمات الأدبية الجليلة، وباشتراكنا معهم يمكننا أن نؤمل من مديرها المفضال الأستاذ الزيات، إذا أراد أن يشيد بذكر أبناء الرافدين والنهرين إلا ينسى (الحرمين) كذلك.

مكة المكرمة

أحمد علي

ص: 39

‌مهمة الناقد

بقلم نظمي خليل

شغلت الصحف في الأيام الأخيرة ببعض الدواوين الشعرية وانبرى النقاد والكتاب لهذه الدواوين بالعرض والتحليل. وهذا أمر مألوف، فقد اصطلح الناس على أن يتناولوا كل اثر فني جديد يعرضون له تارة في شيء من التقدير والإعجاب، وتارة في شيء من التحقير والسخط، وحجة كل ناقد أو مستوعب لهذا العمل الفني انه يراه كذلك، وان ذوقه الأدبي يوحي له بهذا.

ولست أريد اليوم أن اسلك هذا الطريق أو أتناول ديوانا من هذه الدواوين بالعرض أو النقد. ولكني أريد أن أتساءل في هدوء ما فائدة النقد وما مهمة الناقد؟

لا ارغب من طرح هذا السؤال أن أثير ضجة في ميدان النقد، أو أن أحط من شأن النقاد، ولكني أتساءل مخلصا ما الفائدة الحقيقة التي تعود على الفن من نقد النقاد وتحليلهم؟

لقد انحط فن النقد عندنا حتى صرنا نرى الناقد لا يعدو أحد رجلين: رجل يكيل المدح في كرم وسخاء، وآخر يرمي بالشتائم والهجاء اللاذع المؤلم في غير تحرج ولا استحياء، وليس هذا عمل الناقد الفنان، فما كان النقد في يوم من الأيام مدحا أو هجاء، ولن تكون مهمة الناقد في يوم من الأيام أن يقف من الأثر الفني موقف من يقول انه حسن أو انه قبيح، ولكن الناقد الفنان هو الذي يستوعب ويقف على هذا الخلق الفني سواء في الأدب أو النحت أو التصوير أو الموسيقى، ويقول لماذا هو حسن وأين موضع القبح فيه.

ويجب عليه إلا يبني حكمه هذا على ذوقه الشخصي، فلو اعتمد النقد على الذوق فقط لنالته الفوضى وعمه الفساد. ولكن النقد لابد له من قواعد وأصول تقوم بجانب هذا التحكم الفردي فتخفف من غلوائه وتوقفه عند حده. ولست اذهب إلى ما ذهب إليه تين المؤرخ الفرنسي من أن زماناً معيناً ومكاناً معيناً وجواً معيناً تنتج أدباً خاصاً. فأنا لا أريد أن احشر النقد في زمرة العلوم، ولكني أرى انه لا يمكن أن يكون فنا خالصا يقوم على الذوق، أو علما محضا مرجعه القواعد والأصول.

أعود بعد هذا الاستطراد إلى سؤالي السابق الذي طرحت، والذي شغلني كثيرا ولا سيما في هذه الأيام، إذ لا يكاد ينقضي يوم حتى اقرأ في صحيفة أو أكثر من صحيفة بحثوا

ص: 40

مستفيضة تارة عن ديوان (وراء الغمام) وتارة عن ديوان (الملاح التائه) وهكذا، أتساءل في شيء كثير من الإخلاص ما الفائدة الحقيقية التي عادة على أصحاب هذه الدواوين، ولست اعني بأصحاب الدواوين أشخاصهم ولكني اعني ملكة الإنتاج وقوة الإبداع فيهم.

هل استفاد هؤلاء الشعراء من تلك البحوث المستفيضة؟ هل زادت ثروتهم الفنية؟ هل نجد في آثارهم المستقبلة أثراً لهذه البحوث؟ ليس من شأني أن أتجعل الزمن فاحكم على آثار هذه البحوث ومواضيع النقد التي كتبت وتكتب حول هذه الدواوين. ولكني اعرض لكاتب من كبار كتابنا الذين ظهروا حديثا وهو الأستاذ (توفيق الحكيم) لم يكن هذا الكاتب معروفا لدى القراء قبل عام، ولكنه استطاع ان يتبوأ مكانة سامية بين كبار كتابنا في اقل من أسبوع، إذ ما كاد يذيع باكورة آثاره الفنية الرائعة (أهل الكهف) حتى ذاع صيته وعرف في كل مكان. وهنا ألقى السؤال (هل كانت شهرة الأستاذ توفيق الحكيم آتية من جانب النقاد الذين تناولوا روايته أو قصته التمثيلية في إعجاب وتقدير شديدين؟ أم من تلك المسرحية نفسها وما فيها من فن صاحبها وقدرته على تفهم أصول القصة والمحاورة؟.)

أني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال معلنا رأيي في صراحة أن شهرة توفيق الحكيم استمدت غذاءها من روح فضل أساتذة النقد عليه، فقد شادوا بفضله، ووقفوا الناس على فنان كان أمره مجهولا من الكثيرين.

ولكني أسال ما الذي عاد على فن الأستاذ الحكيم من هذا التهليل والتكبير. قد يكون أساتذة النقد أفادوا الأستاذ كمؤلف يريد أن يتعرف للجمهور ويتحدث عنه الناس ويقبلوا على شراء كتبه. وقد يكون أساتذة النقد أفادوا القراء بما استكشفوه في نتاج توفيق الحكيم من فن رائع وعبقرية كامنة. فأقبل القراء على مؤلفاته متزاحمين مدفوعين على قراءتها بما كتبه هؤلاء الأساتذة عنها. ربما كان في هذا الكلام الصواب كله أو بعضه، فكلنا يعرف أن القراء إنما يقرأون بالتأثير كما يتمغطس بعض المعادن من بعض.

فإذا قرأ القارئ كتابا واعجب به أخذ يبدي هذا الإعجاب لمن حوله فيثير فيهم الرغبة القوية لقراءة هذا الكتاب. وهو لا يقنع بهذا ولا يهدأ حتى يقبل أصدقاؤه على هذا الكتاب، وق يكون الأمر على عكس ذلك، فقد يقرأ قارئ كتابا فيضيق به ويسخط على صاحبه ثم هو لا يبقى على هذا السخط في نفسه بل يخلق المناسبات لإعلانه في المجالس وفي الأندية

ص: 41

والمجتمعات، ثم هو لا يرتاح ولا يستقر حتى يجد من يشاركه هذا السخط والضيق بالعاطفة والشعور سواء أكانت هذه العاطفة جميلة أو غير جميلة. وسواء كان هذا الشعور في جانب صاحب الكتاب أو عليه.

وقد يكتب أحد أساتذة النقد مقالا يتناول فيه كتابا من الكتب بالبحث والتحليل فيستهوى هذا المقال لب قارئ من القراء - وقد يستهوى كثيرين - فيعلن هذا القارئ آراء هذا الناقد في ذلك الكتاب بين أصدقائه وإخوانه وتكون النتيجة أن يتزاحم هؤلاء الأصدقاء على قراءة هذا الكتاب مدفوعين بما سمعوا أو قرأوا عن هذا الكتاب. فيقرأونه وهم تحت تأثير هذا المقال. وأني أسوق إلى القارئ مثالاً على هذا.

كنت منذ أربعة أعوام اكره الشاعر (تنيسون) وأضيق به كلما هممت أن اقرأ شيئا من شعره. كان هذا منذ أربعة أعوام لم اكن قرأت قبلها نقدا أو تحليلا لشعر هذا الشاعر. قضيت على ذلك عامين وأنا اكرهه، بل كنت اقرأ كل من يذكر اسمه أمامي أو يعجب به، حتى كان لي مع الأستاذ (سكيف) أستاذ الدراما وشكسبير بكلية الآداب نقاش شديد حول هذه الكراهية الغربية. فأخذ الأستاذ يبسط لي جمال شعر ذلك الشاعر، ثم كان ان قرأت كتابه الصغير وهو ثلاث محاضرات كتبها مستوعبا بعض قصائده مقدرا فنه. فأخذ رأيي يتغير وأقبلت على قراءة شعر ذلك الشاعر في حب وتقدير عظيمين.

وأني اقف اليوم من الشاعر بروننج ما وقفته بالأمس من الشاعر تنيسون، ولست ادري أوفق إلى أستاذ كذلك الأستاذ أو إلى كتاب كذلك الكتاب يحبب إلى قراءة شعر هذا الشاعر، أو أني سأقبل عليه من نفسي أو أظل على انصرافي عنه بقية أيامي. أعود إلى سؤالي الأول (هل استفاد الأستاذ توفيق الحكيم شيئا من هذه الضجة الكبرى التي آثارها بمؤلفاته الثمينة. أني أرى أن الفائدة الفنية معدومة، ولكني مع ذلك لا أتجاهل فائدة النقاد للقراء وللمؤلف. للقراء كمرشد يأخذهم إلى مواطن الحسن الفني، وينبههم إلى مواضع الضعف ومواطن القبح، وللمؤلف كإعلان عن كتابه وكإشادة بفنه السامي.

ليس في هذا الكلام تعسف ولا مغالاة. وإني أرجو كل من يرى أو يخيل إليه انه يرى أن في هذا إجحافاً بحقوق النقاد إلا يثور ويحنق، بل أرجو منه أن يهدأ ويخلو إلى نفسه يسائلها هل غير الأستاذ توفيق الحكيم شيئا في فنه نزولا على رأي أو تنفيذا لنقد، هل

ص: 42

تفتحت طبيعته عن أشياء كانت أثراً للنقد أو نتيجة لنصائح النقاد. هل زادت ملكة الإنتاج وقويت عنده بعد نشر هذه البحوث وكتابة هذه المقالات. كلا.

أرجو كل من يرى في هذا تطاولاً على النقد والنقاد إلا يحنق ويسخط بل يهدأ ويخلوا إلى نفسه يسائلها ما الفائدة التي عادت على فن شكسبير من مئات الكتب التي كتبت عنه. لقد كتب عن شكسبير ما لم يكتب عن أي إنسان آخر. وانك لترى اختلافاً كبيراً فيما كتب عنه. فمن النقاد من تناول حياة شكسبير الأولى ومنهم من تحدث عن شكسبير شاعر الإنسانية، وشكسبير الممثل، وشكسبير المؤلف المسرحي، وشكسبير المصور المبدع، وشكسبير الفنان وهكذا.

هناك مئات الكتب عن شكسبير وهناك عشرات الكتب كتبت في غرض واحد مثل شكسبير (المؤلف المسرحي) ولكنك لن تجد رأيين يتفقان، ولن تعثر على كاتبين قد سلكا مسلكا وأحدا في بحثهما، ثم أرجو أن تسأل نفسك هذا السؤال: (ما بال أولئك النقاد يصلون لياليهم بأنهارهم صامدين للبحث صابرين على الشدائد في هذه البحوث الطويلة المستفيضة؟ ستقول انهم يريدون أن يحلوا الغاز شكسبير ويشرحوه حتى يعرف الناس من هو شكسبير. ستقول انهم يريدون أن يحللوا مسرحيات شكسبير ويطبقوها على الحياة الواقعية التي نحياها كل يوم. يريدون أن يبرزوا مواهب شكسبير الفنية ودقة فهمه للطبيعة الإنسانية وما فيها من شتى العواطف والأهواء من حب وبغض وحقد وغيرة وحيرة ويأس وأمل وخيبة وخيانة وغدر. انهم يريدون أن يكشفوا عن اثر الطبيعة في فن شكسبير واثر الحياة الطبيعة في شعره.

انهم يريدون هذا وغير هذا، ولكن هل وفقوا إلى شيء من هذا الجواب. لا. لم يوفقوا إلى إزاحة الستار عن سر تلك العبقرية الشاذة وعن ذلك الفن الخالد. لقد كتب كثيرون عن مآسي كتب برادلي كتابه (المأساة عند شكسبير) وهو احسن ما كتب في هذا النوع: حلل في أبطال مآسيه الكبرى عطيل وهاملت والملك لير وماكبث. وكتب كثيرون غير برادلي عن فن شكسبير الدرامي أو التمثيلي. ولكن هل استطاع كاتب من مئات الكتاب ان يكشف الستار عن سر هذه العبقرية وجلالها؟ هل افلح كاتب من مئات الكتاب أن يقدم لنا صورة واضحة لنفسية هاملت الحائر وطبيعته العميقة وفلسفته الغامضة؟ هل استطاع كاتب أن

ص: 43

يحدد لنا غرض شكسبير من مأساته الخالدة (الملك لير) وهل استطاع علم وظائف الأعضاء وعلم النفس الحديث أن يفسرا ظواهر الجنون في الملك لير وهاملت، وغرائز الغدر والخيانة في (ياجو)، والشعور بالغيرة في عطيل، ومطامع الإنسان في ماكبث؟ بل هل استطاع كاتب أو وصاف بارع أن يصف لنا شكسبير شاعر الطبيعة الفذ في كوميدياته:(كما تحبها). (وحلم ليلة في منتصف الصيف)، (والعاصفة) لا. لا. لقد اجهد مئات الكتاب أفكارهم في شرح رجل وأحد وفي تفهم نفسية فرد فلم يفلحوا. بل تشعبت بهم البحوث وتباعدت آراؤهم وتضاربت.

فعلام كان كل هذا الإجهاد والنصب؟ وعلام كان كل الاهتمام؟ لم يأت هذا الإجهاد بثمرة، ولم تكن لاهتمامهم نتيجة، فقد فشلوا جميعا وعجزوا عن تفهم روح الشاعر نفسه، عجزوا عن أدراك سر عبقريته.

فيا ليت شكسبير الذي أبدع كل هذا المسرحيات وجاء بهذه المعجزات الفنية في الشعر أراح أولئك النقاد وأراحنا نحن القراء، فكتب موجزا صغيرا لمآسيه وكوميدياته يشرح فيه فكرته وأغراضه، ولكن شكسبير معجزة الدهر قد أبى أن يقف الناس على أسرار فنه، ومن يدري؟ ربما لم يعرف هو نفسه من أمر فنه شيئا فمات وبقى لغزا لن يحل. فإذا القينا نفس السؤال (هل استفاد فن شكسبير من هؤلاء النقاد الذين يعدون بالمئات؟ كان الجواب بالنفي طبعاً، لأن شكسبير لم يعض حتى يرى هؤلاء النقاد، واغلب الظن انه لم يعن بأمر هؤلاء النقاد ولم يأبه بمعاصريه الذين تناولوا مؤلفاته بالنقد سواء المعجبون المشجعون أو الناقمون الحاقدون. فان شكسبير لم يكتب ليعجب النقاد أو يسخطهم، بل اغلب الظن انه لم يفكر في إغضابهم أو إعجابهم، وهذا شأن الفنان الحر الطليق لا يفكر إلا في نفسه وفي نفه ولا يأبه إلا لرأيه ولا يخلص إلا لفنه.

ولكني مع ذلك لا أنكر إن هذه المئات من الكتب التي كتبت عن شكسبير قد أعانت وستعين كل دارس لشكسبير؛ ستعينه بقدر ما وصل إليه هذا الكاتب من تفهم لروح شكسبير ووقوف على أسرار عظمته الفنية. أقول أعانت القارئ وستعينه، ولكنها لن تقفه على مواطن الإعجاز في شكسبير الأصيل، فلن يعرف قارئ هذه الكتب موطن الإعجاب بهاملت والغرض الأساسي الذي كتبت من اجله، وسيظل البطل هاملت حيرة الألباب والعقول ما

ص: 44

بقى في العالم إنسان مفكر.

فإذا كان هذا أمر النقاد والشراح من الفنانين العظام، ففيم إذن تنحصر مهتمهم؟ هل لهم رسالة يؤدونها كالكتاب؟ في رأيي أن الناقد عالة على الكاتب، أرى أن الناقد شخصية ثانوية تعيش على غيرها؛ فلولا الكاتب لما وجد الناقد، ولولا الخلق والابتكار والإنتاج لما وجد النقد ولما سمعنا صياح النقاد الذي يصم الآذان. فلولا شخص وأحد كشكسبير لما وجد مئات النقاد الذين وان كانوا قد أرشدونا إلى بعض مواطن الحسن والإعجاز في فن شكسبير، إلا أني أرى أن هذه المهمة وإن كانت عظيمة الفائدة في ذاتها، اقل من أن تكون مهمة مئات من الرجل قد استمدوا حياتهم الفنية ووجودهم الأدبي من عبقرية فرد وأحد هو شكسبير.

نظمي خليل

بكالوريوس آداب

ص: 45

‌جواب عن سؤال

الإلياذة والأوذيسة

. . . أشرتم في كتابكم (تاريخ الأدب العربي) إشارة موجزة إلى ديواني الإلياذة والاوذيسة. فهل تتفضلون وانتم. . . بكلمة في الرسالة عن موضوعي هذين الديوانين. . .

(سنغافورة) م. ع. خ

الإلياذة والاوذيسة منظومتان يونانيتان نسبتا إلى هوميروس، واستفاضتا في الشعوب والأجيال تحملان اثر العبقرية الإغريقية، وترددان صدى الحرب الطروادية، وتمدان الآداب العالمية بالغذاء والقوة. موضوع الإلياذة غضب اخيل، وهو حادث بسيط من حوادث حرب طروادة وقع في السنة العاشرة من حصارها، واستغرق وأحدا وخمسين يوما، تبتدئ بشجار اخيل وأغاممنون وتنتهي بقتل هكطور. وتنقسم هذه الملحمة إلى أربعة وعشرين نشيدا تمثلت فيها صور الحياة اليونانية بأساطيرها وعاداتها وآدابها جلية رائعة مؤثرة. وأهم أبطالها من الإغريق أغاممنون ملك أرجوس ومسينا وأمير الجيش، ومينيلاس أخو اغاممنون وملك اسبارطة، واخيل ملك الفذيوتيد، وبتروكل صديق اخيل، ونسطور ملك بيلوس، وأوليس ملك اتيكا؛ ومن الطرواديين هكطور وفاريس ابنا فريام ملك طروادة، واينوس حمو فريام الخ. وللآلهة في الإلياذة شأن خطير واثر كبير: فزحل ومنيرقفا مع الإغريق، وابولون والمريخ مع الطراوديين. فهم يدبرون القتال، ويحمون الأبطال، ويتقارعون فيما بينهم انتصارا لطائفة على أخرى. وملخصها أن أبولون سلط الوباء على معسكر الإغريق، فاعمل فيهم منجله انتقاما منهم على سبيهم بنت كاهنة كريريس. ثم جل الخطب بوقوع الخلاف بين اغاممنون واخيل من اجل سبيه نفسها الأول على الثاني فاستأثر بها دونه من غير حق. ولما عجز اخيل الباسل عن الأخذ لنفسه من امير الجيش اعتزال الحرب وهو يكاد ينشق من الغيظ والحنق، فرجحت كفة الطرواديين باعتزاله، وحالفهم النصر منذ استراحوا من قتاله. ودارت الدائرة على الإغريق فجرح ديوميد وأوليس، وأخذ هكطور يحرق أسطولهم وأحدق بهم الخطر من كل جانب. فلما رأى ذلك بتروكل استعار سلاح اخيل وصمد إلى العدو فأجلاه عن موقفه. إلا أن أبولون أسعف الطرواديين فتصدى للبطل فاسقط خوذته ونزع درعه، حتى امكن هكطور ان يضربه

ص: 46

الضربة القاضية. وجاء نعى بتروكل إلى صديقه اخيل فسارع إلى الخنادق، وما كادت العيون تأخذه حتى وقع الرعب في قلوب الطرواديين، وسرت الحمية في نفوس الإغريق. فاستخلصوا جثة بتروكل، وشق على اخيل أن يطل دم صديقه، فصالح الزعماء وأزمع قيادة الجيش. وأرسل أمه إلى فلكان اله النار تأتيه منه بسلاح ولامة. فلما تسربل بالحديد خاص المعركة فأوقع بالطرواديين وقذف بهم في نهر الاجزنت، والتقى بهكطور فحمل عليه وقتله، ثم شده إلى مركبته وطاف به مسحوبا على وجهه حول جدران طروادة على مشهد من أسرته الضارعة الحزينة. ثم احتفل بعد ذلك بجنازة بتروكل؛ واوحى اله من الآلهة إلى فريام أبي هكطور ان يذهب إلى اخيل يسأله جثة ولده؟ فذهب الشيخ يسترحم البطل المنتصر، ويتوسل إليه بذكرى أبيه حتى رق له ورد إليه أشلاء القتيل.

أما موضوع الاوذيسة فهو مخاطر أو ليس بعد سقوط طروادة ورجوعه إلى اتيكا بعد أن عوقته عن هذه الأوبة أقدار الإلهة المعادين عشر سنين. وتنقسم هذه الملحمة إلى أربعة وعشرين نشيدا أيضاً، وقعت حوادثها في خلال أربعين يوما، وهي دون الإلياذة في الأسلوب والقوة والجاذبية، حتى كان هذا الاختلاف الشديد دليلا من أدلة الأستاذين الناقدين فيكو الإيطالي، وولف الفرنسي، على أن هاتين الملحمتين ليستا من صنع مؤلف وأحد. وملخصها أن أوليس لدى عودته من حصار طروادة حل عليه غضب نبتون اله البحر فأضله بين جزره وسواحله؛ وطال نزوحه عن وطنه حتى ندبه أهله وبكاه قومه، وحتى جرؤ الطغاة من الأمراء على أن يستبيحوا ذماره ويهلكوا ماله، ويكرهوا بنيلوب زوجه، على أن تختار أحدهم لها بعلا. وغضب تليماك ابن أوليس على حداثة سنه لانتهاك حرمته، وإنتهاب ثروته، وابتذال فنائه؛ فخرج في البحث عن أبيه عند رفاقه من أبطال طروادة، ائتماراً بمشورة الآلهة منيرفا. فذهب إلى نسطور في بيلوس، والى منيلاس في اسبارطة، فقص كل منهما عليه ما كابداه في أوبتهما من الأهوال، ونعيا إليه بتروكل واخيل واغاممنون واجاكس؛ اما أوليس فانهما لا يعلمان شيئا عن مصيره.

وكان أوليس في ذلك الحين أسيراً في جزيرة (اوجيجي) عند الحورية جاليبسو، فظفر بالنجاة على ظهر طوف، ولكن عاصفة هوجاء هبت عليه فقذفت به في ساحل جزيرة (الفياسين) على حالة بين الحياة والموت؛ فاقتاده أهلها إلى ملكهم السينوس، فقص عليه

ص: 47

أوليس ما عاناه من الشدائد منذ غادر طروادة، فاعجب الملك بشهامته وفصاحته، واعد له سفينة أقلته إلى اتيكا، فلما وطئت قدمه أرضه تنكر في زي سائل، ونزل عند الشيخ (اوميه) حارس قطعانه؛ واتفق أن رجع تليماك إلى وطنه في ذلك الحين فلقى أباه وعرفه، وأخذ يديران الحيلة معا لهلاك أولئك الأمراء المعتدين بمعونة الخدم المخلصين. وكانت بنيلوب طوال هذه السنين قد نجحت في مماطلة هؤلاء الخطاب الملحفين بان علقت قبولها الخطبة على فراغها من الثوب الذي كانت تنسجه، وهيهات أن تفرغ منه، لأنها كانت تظل النهار كله تنسج فيه، حتى إذا جاء الليل نقضت ما نسجته. فلما طال الزمن وانقطع الرجاء من أوبة الغريب، وكلت الحيلة، وأهلك الخطابة الزرع والضرع، أوشكت ان تذعن لولا أن دخل أوليس متنكرا إلى قصره وفتك بأعدائه، وتعرف إلى زوجه الوفية بنيلوب، وجده الشيخ لابرت، وأخذ يجمع أهبته لمقاومة أهل المقتولين، إلا أن منيرفا حلت في شخص منطور صديق أوليس ومشير تليماك، فضمنت بحكمتها لمملكة اتيكا السلام الدائم والرخاء العميم.

(الزيات)

ص: 48

‌11 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

الشيخ علي الليثي

سيد الندماء

ولد سنة 1236، كما تحققه من بعض أفراد أسرته، كان في ابتداء أمره مقيما بمسجد الأمام الليث، وكان ينزل إلى الأزهر لطلب العلم، ويعود للمبيت هناك، وكان كريما على فقره. ثم ورد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصدا الحج، فاتصل به، وأخذ عنه الطريق وحج معه، ولما عاد إلى مصر لم يفارقه. بل سافر معه إلى جغبوب، وأقام هناك مدة لم يفتأ فيها يطلب العلم ويستفيد. ثم فارقه وعاد لمصر، واتصل بأم عباس باشا الوالي فجعلته شيخا على مجلس دلائل الخيرات عندها. ثم اتصل أيضاً بالأمير احمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا الكبير. فاعتقد فيه، واطلعه على خزانة كتب عنده، فاطلع على ما فيها واستفاد منها. وبسبب سفره إلى جهة المغرب اتهموه بمعرفة الزايرجة والاوفاق، فلما تولى سعيد باشا على مصر، أمر ضابط مصر عبده باشا بجمع من يأكلون أموال الناس بالباطل بهذه الخزعبلات، ونفيهم إلى السودان، فسيق المترجم معهم لما علق به من هذه التهمة، فبقى في السودان إلى أن عفى عنه وعاد لمصر.

ولما تولى إسماعيل باشا على مصر، تلالا نجم المترجم، وبدا سعده، فاتصل به، وقربه هو والشيخ عليا أبا النصر، وجعلهما نديمين له كنديمي جذيمة، وصار لا يصبر عنهما في مجالس انسه، فكانا إذا حضرا تلك المجالس أزاحًا الكلفة وتبسطا معه في القول والتندير، فكانت لهما في ذلك من النوادر ما يملأ الأسفار. وقد بلغ من شغفه بهما ان خصص لهما قاعة بديوانه يجلسان بها كأنهما من المستخدمين فيه. وحدث مرة أن أمر بكتابة ألواح على باب كل قاعة في الديوان، ليعرف من بها، كقلم التشريفات، وقلم التحريرات ونحوها، وسألهما العالم عم يكتبه على قاعتهما، فقال المترجم اكتب عليها: إنما نطعمكم لوجه الله. وبسبب تقرب المترجم من الخديوي قصده الناس في الشفاعات عند الكبراء، ونفع الله به خلقا كثيرا، جزاه الله عز مسعاه خير جزاء.

ص: 49

ثم لما عزل الخديو، وتولى ولده محمد توفيق باشا، شغف أيضاً بالمترجم واحله محله من القبول. حتى كانت الفتنة العرابية وسفر الخديوي إلى الإسكندرية، فانضم المترجم إلى العرابيين اضطرارا أو اختيارا، فلما عاد بعد الفتنة لم يؤاخذه، وصفح عنه، وقابله المترجم بقصيدة مطلعها.

كل حالٍ لضده يتحوّل

فالزم الصبر إذ عليه المعوّل

تبرأ فيها من الفتنة، وأبان عذره في الانضمام إلى العرابيين، فإنه كان إذا سافر إليه كل أسبوعين، ركب من هنا سفينة بحلوان، فانه كان إذا سافر إليه كل أسبوعين، ركب من هنا سفينة بخارية وذهب بها إلى ضيعة المترجم التي بشرق اطفيح، فيقيم عنده يوما ويتغدى فيها، وهو شيء لا يفعله مع غيره. ولهذا السبب اعتنى المترجم بتلك الضيعة، فغرس فيها البساتين والكروم، وبنى قصرا صغيرا لنزول الخديو، وحرمه وحاشيته، ولم يزل هذا شأنه معه حتى مات الخديوي، فلم يكن له حظ مع ولده عباس باشا، كما كان مع أبيه وجده، فجعل أكثر إقامته بتلك الضيعة، يشتغل باستغلالها ومطالعة كتبه، فإذا حضر لمصر نزل بداره التي بجهة باب اللوق، فيقيم بها أياما. ثم يعود، ولم يزل كذلك حتى اعتلت صحته وطال مرضه اشهرا، حتى توفاه الله إلى رحمته في يوم السبت 10 شعبان سنة 1313 عن سن عالية، وقد شبع من الأيام وشبعت منه، ونال من العز والجاه إلى مماته ما لم ينله غيره.

وكان رحمه اله أية في حسن المجالسة، محببا إلى القلوب، أديبا شاعرا، حاضر الجواب، فكه الحديث، إذا عرفه إنسان تعلق به، وكره مفارقته، مع انه كان دميم الصورة، اطلس، ليس في وجهه إلا شارب خفيف، وشعرات على ذقنه. ولما حضر لمصر السلطان برغش ملك زنجبار، فلازمه مدة مقامه بالقاهرة، واعجب السلطان به إعجابا شديدا. ثم لما عاد لبلاده. صار يتعهده بالرسائل والهدايا من العنبر ونحوه كل سنة، فيهدي هو بها أخصاءه وأصحابه وكذلك ما كان ينتج ببساتينه من غرائب الفاكهة، وأصناف الأعناب النادرة، كان موقوفا جميعه على الهدايا لا يبيع منه شيئاً. واقتنى خزانة كتب نفسية اجتمعت لها بالإهداء والشراء، والاستنساخ وغالي فيها، وبذل الأثمان العالية، فجلبت له من الأفاق وعرفه نجار الكتب والوراقون فحصوه بكل نفيس منها. ثم لما مات اقتسمها ورثته، وبقيت إلى الآن

ص: 50

محبوسة تحت أيديهم لا ينتفع بها.

وكان أدباء مصر وفضلاؤها يقصدونه في تلك الضيعة، فينزلهم على الرحب والسعة، ويقيمون عنده الأيام والأشهر، وهو مقبل عليهم بكرم خلقه ولطائفه، ومحاضراته المستحسنة، وقد يقيم الإنسان عنده شهرا أو أكثر، وهو يؤنسه كل يوم بحديث جديد لا يعيده. وبالجملة فقل أن يوجد مثله، أو يجتمع لإنسان ما اجتمع له، مع الورع والتقوى خصوصا في أواخر أيامه رحمه الله رحمة واسعة

ص: 51

‌الشيخ محمد شهاب الدين

المصريّ الشاعر

شريف النسب اشتغل أولا بالقبانة، ثم دخل المحكمة الشرعية تلميذا للتعلم، ومال للأديب، ونظم الشعر، وداخل الأعيان حتى اتصل بعباس باشا والي مصر، وتقرب إليه ومدحه بالقصائد فاحبه وقربه حتى صار كبير جلسائه وندمائه، وجعل له في كل قصر من قصوره حجرة يبيت فيها الليلتين والثلاث إذا كلبه للمجالسة والمنادمة، وأفاض عليه من نعمه، وقبل شفاعته حتى صار له بذلك جاه طويل عريض، وله معه نوادر غريبة، منها ان المترجم كان جالسا في حجرته مرة في أحد القصور، ومعه بعض جلساء الوالي ينتظرون الإذن بالدخول إليه، فقال في عرض كلامه، يقولون إن البغلة لا تحمل، أفلا يكون ذلك بسبب رطوبات أو ما أشبهما تعيق حملها؟ أفلا يكون ذلك بسبب رطوبات أو ما أشبهها تعيق حملها؟ وعند افندينا أطباء كثيرون، فلو انه اطال الله بقاءه أمر بعضهم بالبحث في سبب هذه العلة وأزالتها، فلست اشك في أنها تحمل بعد ذلك. وأسرع بعض العيون، فبلغ عباسا باشا كلامه، فجاءه بعد هنيهة أحد رجال القصر يقول له: يا أستاذ يقول لك أفندينا أننا سنأمر الأطباء بما اشرت، ولكن إذا لم تحمل البغلة ماذا يكون؟ فبهت القوم لنقل المجلس بهذه السرعة إلا المترجم، فانه وقف قال: بلغ أفندينا ان عبده شهابا له كذبتان كل سنة أيام البذنجان، هذه إحداهما.

وكان رحمه الله رقيق المزاج، أنيس المحضر، لا يمل جليسه من نوادره، وتلعق بعلم الموسيقى فبرع فيه، وأخذه عنه كثيرون وجمع فيه كتابا سماه سفينة الملك. وله ديوان شعر طبع بمصر، وكانت وفاته سنة 1274.

الشيخ محمد أبو الفتح الحنفي

مفتي الإسكندرية

ولد في أوائل القرن الثالث عشر، وطلب العلم بالأزهر على الشيخ الصاوي وغيره من شيوخ الوقت، ثم انتقل لرشيد وتزوج بها بنت السيد عباسي من مشهوري رشيد. وكان ملازماً للشيخ محمد البنا الكبير، فلما انتقل الشيخ إلى إسكندرية انتقل المترجم معه وبقى

ص: 52

بها وانتخب أميناً لفتواها، وكان مفتيها إذا ذاك الشيخ الدويري، ثم لما مات الدويري تولى البناء الإفتاء فنقل المترجم لمنصب آخر، ولما مات البناء تولى هو إفتاء الثغر وبقى به إلى ان مات. وكان له شغف زائد بجمع الكتب واقتناء نفاسئها، حتى اجتمعت له خزانة نفيسة بيعت بعد موته بثمن بخس. وكان رأى بناته وزوجته إبقاءها فلم يرض ولده، فذهبت وتفرقت بعد ما عانى أبوه ما عانى في شرائها واستنساخها. وكان له ولع أيضاً بجمع الساعات فجمع منها نوادر وطرفا بيعت بعد موته أيضاً، ولم يترك شيئا من الحطام سوى دار بإسكندرية كان يسكنها في أواخر أيامه وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شهر صفر سنة 1294 ودفن يوم الثلاثاء، ورثاه الشيخ عبد الرحمن الأبياري قاضي إسكندرية بقصيدة مطلعها:

أهذي سيوف الدهر جرّدها الدهر

أما السنة الشهباء جفّ بها الزهر

ومن مؤلفاته كتاب تبويب الأشباه والنظائر لأن نجيم، وشرع في كتاب آخر في الفقه لم يكمله، وكانت له يد طولي في علم الميقات، وهو جد صاحبنا العالم الفاضل الشيخ حسن منصور لامه.

احمد تيمور

ص: 53

‌في الأدب العربي

أبو العتاهية

بقلم عبد الحليم عباس

لا اعرف. ما هو هذا الشيء الذي يجذبني إلى قراءة هذا الشاعر، ومعاودة هذا القراءة الفينة بعد الفينة.

فليست جودة شعره هي كل شيء، فهناك من يفوقه طلاوة لفظ، وصحة أداءه، وسمواً في الشاعرية.

لا لأنه يعيد لنا صورة حقبة رائعة للمجد العربي، والحضارة العربية، التي نما في أحضانها وتقلب في أعطافها، والتي تغذي فينا هذه العزة القومية، التي نشعر أنها مثلومة، كلما رأينا الوطن نهباً مقسما مهيض الجناح. . . هناك غيره من الشعراء، يمثلون أروع الحقب، وأزهى الأزمنة للفتح الإسلامية ثم نحن لا نستطيب احاديثهم، ولا نستملح سيرهم بهذا المقدار. . . ولعل السبب يعود إلى هذه العواطف والفكر، التي يبعثا فيك هذا الشاعر، والى هذا التركيب النفساني، الذي يبعث فيك صدى متضارب النغمات، ومزيجاً من العواطف فيها السخرية المشوبة بالعطف، وفيها الضحكة العالية، تنطلق لتقطعها عواطف الرثاء والرحمة. . . وليس هذا بالقليل، وآية متعة أسر للنفس، واخصب للفكر، من أن تفخر وترثى وتتفكه وتعبث. ثم تستعبر لتعود فتضحك ملء أشداقك. إنها الحياة مصغرة في سيرة شاعر ما أحراها منا بدراسة مستفيضة.

نسب أبي العتاهية وعصره

قوام النقد في العصر الحديث

النقد الحديث يقول أن العبقري ثمرة عصره، غذتها هذه الأصلاب، وهذه البطون تتلقفها، وهي تنسل من الاجيال، وتتمشى ببطء إلى زمنها المقدور وميقاتها المحثم، فللبحث في خصائص العباقرة، يجب أن تتناول قبل كل شيء البحث في أزمانهم، وتحليل هذه العوامل التي تتضافر على خلقهم. ثم مقياس إبداعهم الفني، وما يتركون من آثار، بمقاييس الجمال والفن المتواضع عليها في أزمانهم. . .

ص: 54

ولا مشاحة في أن هذه النظرية ارتفعت بالنقد إلى حيث أصبح مأمون الجانب من عبث الأهواء، وتقلب الميول، وألقت ضياء على هذه الدياجير التي كانت تعتور الباحث، وتتكاءد المنقب؛ بيد إنها من وجهة ثانية جادت على العبقري، ولم تحسب لهذا السر يودع في نفسه حسابا في أبحاثها، فليس الزمن، وليست قوانين الوراثة، هي كل شيء في إيجاد العبقري وتكوين رسالته. وإنما هو سر غامض مستعص حله كغيره من هذه الأسرار التي تحيط بهذا العالم الأكبر والأصغر، والتي يحاول العقل جهده إماطة اللثام عنها، ثم لا يجد غنيمة بعد الكد إلا سلامة القفول. . . وإلا فأي شيء هذا الذي يخلق الاثنين من صلب وأحد، وفي زمن بعينه، ثم تتسامى نفس أحدهما وتفتح أفكاره، فإذا هو يغذي الإنسانية بزاد المعرفة، ويتسامى بها، ويزيد في ذخيرة الخلود. وأما الثاني فيعيش خاملا مغمورا ويندس في سواد الناس. . . فقمين بنا أن نحسب لهذا حسابا في أبحاثنا. . . ثم نحسب لهذا المزاج والتركيب النفسي في الشاعر، وهو اثر من آثار هذه الهبة ألقته القوة المجهولة، في نفس الفنان وركبت أعصابه على مثال خاص، ليتلو رسالته ويهتف بلحنه على نغمة مرقومة ونحو خاص: حسابا عله لا يقل أهمية عن عوامل الزمن وقوانين الوراثة. . .

وما أحرانا ونحن نبحث بحثا مقتضبا عن الشاعر - أبي العتاهية - أن نغفل - ولو إلى حين - عوامل العصر والوراثة لنتكلم عن مزاجه، وحسبنا أن نعلم عن العصر والأصل. . . أن أبا العتاهية تحدر من أصل وضيع، ومن الموثوق انه اشتغل ببيع الفخار، ورافق المخنثين. أما الزمن فيكفينا أن نعلم انه من هذه الأزمان التي كان تنكر كل فضيلة، والتي يطلق عليها كلمة المتشائمة والتي كانت لاشك، والإغراق في المجون اظهر مميزاتها.

مزاج أبي العتاهية

وأول ما يطالعك من مزاج أبي العتاهية هذا التناقص، وهذا الاضطراب، فيما يأخذ ويدع، وفيما ينهج من سبل.

فلقد تجاذبت نفسه طرفي النقيض، وكان يرى الدنيا ويلابس الوجود على هدى نزعتين بينهما من الاختلاف ما بين النقيض ونقيضه. . . فهو آونة مندفع بتيار اللذة مستغرق بهذا المجون، الذي وصل بعصره حد الشناعة، وطورا تتقمصه أرواح الزهاد، فيلبس المسوح ويهجر اللذائذ، وتتملكه تملكا عنيفا فكرة الخوف من الموت. فإذا هذه الدنيا باطل، وإذا هو

ص: 55

موف من الصلاح على الغاية. . . حتى ليحار فيه أهل عصره، وقد تصل بهم الحيرة إلى حد أن يحيلوا أمره إلى العبث، ويرموه بالتدجيل، والحق أن ليس في هذا عبث ولا تدجيل، وان الأمر صادر عن عقيدة خالصة طهور، وهذا التناقض قريب المرد إذا رحنا نستوضح خافيه على ضياء مزاحه، حتى لنرى أن قد تقاربت هذه المتناقضات، فإذا هي تنبع من عين واحدة. . .

فأبو العتاهية - لم يكن مستقيم المزاج وإنما هو مضطربة، وقد طغى فيه الجانب العاطفي، ولم تتح له نشأة صالحة، ولا بيئة هادئة، تخفف من حدة هذا الاضطراب، وتأخذ بزمام هذه العاطفة إلى حيث يتمكلها العقل، ويفرض عليها سلطانه، وقد بلغ من طغيان هذه العاطفة أن أصبح الشاعر عرضة لانفعالات مخيفة مستهجنة في عرف العقل، والعاطفة الصحيحة، كان يتخذ - مثلا - لباسه من قوصرتين يدخل رأسه في إحداهما. ويدخل رجليه في الأخرى، كل ذلك زهادة في الدنيا وكرها لنعيمها، ولكن أية سخرية تتملكن إذا رأيته يلقيهما بعد حين ليتخير على المنى، ويجري مع الغواية، وليسيم سرح اللهو، على أن ينفض يده كرة أخرى من نعيم الدنيا، ويجلس حجاماً لأبناء الفقراء، يبتغي المثوبة، ويطلب الباقيات الصالحات، ثم تكون آخر أمنياته. وقدمه في حياض الموت أن يسمع غناء مخارق.

كل ذلك جائز في عرف هذا المزاج المضطرب وليس بمستغرب منه، وإنما المستغرب ان يمشي وفاق نظام معين، وخطة مقررة. . . وإذا عرفنا هذا من أبي العتاهية، فقد عرفناه ظاهرا وباطنا، وأصبح سيرنا معه مأمون الغرابة. وأصبح لهذه الخطرات المستغربة علتها الأصيلة المعروفة المنبع والمورد. وأصبحنا نرقب منه في كل أمر شذوذا وانحرافا إلى ضده. فإذا رأيناه مثلا ينعى على الناس حرصهم ويقول:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذلَّ الحرص أعناق الرجال

ارتقبنا منه ان يكون نادرة في الحرص.

وإذا نهض ليرى الناس صغارة دنياهم وحقارة بدرهم وأموالهم.

إن مال المرء ليس له

منه إلا حظه الحسن

كل حي عند ميتته

حظه من ماله الكفن

عرفنا انه أعجوبة الزمن، ونادرة العصر، في البخل والتقتير. . . عاتبه صديق له على

ص: 56

هذا البخل المنقطع النظير وقال له: أن الناس يزعمون انك من شدة بخلك، وفرط تكالبك على حطام الدنيا لا تأكل اللحم - أو الأصح تشتريه - إلا في العيدين، فتأوه أبو العتاهية وقال: والله لقد ظلموني. وأني قد اشتريت لحما وتوابل في يوم عاشوراء.

على أننا نرى هذا البخل في حاجة إلى كلمة خاصة، فلقد كان من المنتظر أن يهب أبو العتاهية ولو مرة ليتلف هذا المال ويبذره جريا مع هذا المزاج، ولكنه لم يفعل هذا ولا جال بنفسه: وعلة هذا تعود إلى أمرين، أولهما انه نشأ في صميم الفقر، وذاق غصته، وعرف ان المادة هي كل شيء في قيم الرجال.

ما الناس إلا للكثير الما

ل أو ما دام في سلطانه

وكان سيئ الظن بالناس، يخشى عادية الفقر، ويخشى ان طاح به غدر الزمان ألا يجد أخاً معينا.

أنت ما استغنيت عن صا

حبك الدهر أخوه

فإذا احتجت إليه

ساعة مجك فوه

والسبب الثاني، انه أرضى مزاجه الغريب، بمناضة الناس وشدة حرصه وتكالبه، فكلما عن له ان يتلف ماله ذكر سوء المنقلب. فيندفع غلوا في التقتير.

وابو العتاهية سوداوي المزاج من نوع خاص يميل إلى ما يميلون إليه، ولكن أعصابه ما كانت لتقوى على السير على منهاجهم. فهو يتبرم بالناس وينشد الوحدة.

برمت بالناس وأخلاقهم

وصرت أستأنس بالوحدة

ولكنه لا يقوى على وحشة الوحدة. فيعود ليندفع بشدة في صخب الاجتماع، فهو ضعيف الأعصاب من جهة، ومضطربها من جهة ثانية، واصدق مظهر يدل على ضعف أعصابه ما كان من أمره في شأن الدين. فقد زعم أهل عصره انه كان زنديقا، وقد انتابه الشك في أمر العقائد، وجاراهم في هذه النظرة رجال النقد الحديث، ولكنهم لم يبينوا لنا مدى هذه الحيرة في أمر الدين، ومقدار هذا الشك. فهو قد شك وحار، ولكنه شك الطفل وحيرته، تروعه الأشباح وتتملك وعيه الهواجس، فلا يجد بدا من الاستسلام فيروح يتعلق بالدين تعلق الخائف. ويستسلم إلى خرافاته استسلام العجائز.

إلهي لا تعذبني فإني

مقرُّ بالذي قد كان مني

ص: 57

فمالي حيلة إلا رجائي

لعفوك إن عفوت وحسن ظني

وانظر إليه لتتحقق صدق هذه النظرة وهو يناجي الموت، فما كان ليقف عنده وقفة المعري يسأله ويستوحيه عن أسراره وغوامضه، وإنما هي وقفة الخائف الرعديد، تلجمه روعة الموقف وتأخذ عليه الدهشة مسارب الفكر، فإذا كل ما يهجس بخاطره ويدور بخلده، خشوع عميق، ووصف مقتضب للموت يلوذ بعده، إلى إظهار التوبة والضراعة.

كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح لبنى الدنيا من الدنيا غبوق وصبوح رحن في الوشن وأصبحهن عليهم المسوح نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح ويزيد في رخاوة هذه الأعصاب واضطرابها أن أبا العتاهية لم ينل حظا وافيا من الثقافة، وكان أيضاً ضعيف الخبرة بالدنيا لم يمر عليه من التجارب، ما يصقل هذه العاطفة المستوفزة.

ولمعترض ان يقول: كيف يكون ضعيف الخبرة، قليل التجربة من طفحت بأمثاله كتب الأدب وأسفاره. فهو قد نظم أرجوزة فحسب، أودعها مئات بل آلاف الأمثال والحكم الرائعة، وصحيح هذا، بيد أن هذه الأمثال ونحن نقلبها ونعيد تلاوتها، لا نجدها تدل على علم مستفيض وخبرة واسعة، فكلها في معنى وأحد، وان تجاوزته فإلى معان متشابهة مطروقة، فهو يرى أن الدنيا ما برح مقدورا عليها الفناء، فخير زاد للمرء التقي، أو السمعة الحسنة، ومن يقل غير هذا؟

حسبك مما تبتغيه القوت

ما أكثر القوت لمن يموت

هي المقادير قلمني أو فذر

إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

كأن كل نعيم أنت ذائقه

من لذة العيش يحكى لمعة الآل

وهكذا دواليك من العبر الرخيصة القريبة المتناول، والتي لا تحتاج إلى سعة في العلم ولا سمو في التفكير كالتي تجري على لسان المتنبي مثلاً: وإنما نحتاج إلى هذا اللسان الذرب، والشاعرية السمحة. ومن أولى بها من هذا الذي كان يتناول الشعر من كمه كما يقول الأصمعي، ولعل هذا هو السبب الذي يعود إليه كثرة السقط في شعره.

شرقي الأردن

عبد الحليم عباس

ص: 58

‌أغنية النيل

للشاعر الحضرمي على احمد باكثير

يا جسر إسماعيلْ

بُورِكْتَ من جسرِ

أنت سِوَار النيلْ

رُصِّع بالدُّرِّ!

حلا بهِ وازدَانْ

مِعصمُهُ الناعمْ

كأنَّهُ وسنانْ

بالأملِ الحاِلمْ!

بين المصابيحِ

في نورها الفاِترْ

تُوحِى بما توحى

للمهُلْهَم الشاعرْ

من نجمةٍ وسنى

لنجمة وسنى

قد كسرت جفنا

فأغربت حُسنا!

مَنْ عَلَّم النُّورا

فلسفةَ الكسرِ؟

أَستَلْهَمَ اُلحورا

دقائق السِّحْر؟!

مَنْ عَلَّم النُّورا

ترنيقةَ الطّرفِ؟

أَستلهم الحورا

صناعة اَلحنْفِ؟!

في شطِّهِ قامّتْ

بواسقُ النَّخل

عرائس هامَتْ

بالمَيْسِ والدلِّ

برَزْنَ ممشوقاتْ

ورافعات الهامْ

يُحسَبْنَ - منسوقات -

علامَ الاِسْتفْهِام!

والقمر المحزون

مبتسم النغَّرِ

يبكى لمن يبكون

من عَنَت الدهر

يسامر العاشق

ويسعد الولهان

ويسعف الغارق

في لجج الأحزان

وساخراً يبسمْ

بَسْمَةَ فُولْتيرِ

من هالك ينعمْ

بعيشِ مغرورِ

سخريَّة تعلمْ

بواعث الّسخرِ

ص: 60

من عاَلمٍ يحلمْ

وقَدَرٍ يجرى!

يطوف بالأرض

في سِحْنة الناقم

لسُنَّةٍ تَقْضىَ

فراقَها الدائم

منعكس نورُه

في صفحة الماء

راقصة حُورهُ

بلحن لألاء!

كأنه أحلامْ

أحلام حسناَء

لا تعرف الالأم

تعصف أهواَء!

والنَّسَمُ الهامِسْ

في إذن الليلِ

يَبُلُّ ما لامَسْ

بطَرَفِ الذيلِ

يمسُّ - في رفق -

جسمك مبتلاّ

كصالحٍ يَرقى

بالذكر معتلاّ!!

والزورق الناعِسْ

يغفو على الماءِ

كالبائس اليائس

في وسِطْ نعماءِ!

يرتّل الشِّعرَا

مجدافه اللاغبْ

يشيّع العمرا

ويندب الصاحبْ

يجري فيرعاه

- في ألمٍ - بالى

يهيجُ مسراه

ذكرى الهوى الخالى!

غنّى به الملاّحْ

أغنيّة اُلحبّ!

يكرّر التَّصداحْ

بالنَّغم العذب

يمدّها: يا ليل!

يا ليل! يا عيني!

مناديا بالويل

من ألم البين

يجري على نهرِ

سِماؤه العطفُ

يهفو على مصرِ

وشَدَّ ما يهفو!!

يمشي على هَوْنَ

مشىَ الطواويسِ

من عهد فرعونِ

موسى ورمسيس

ص: 61

يطوي لها البُعدا

شهراً على شهرٍ

من خلف (اوغندا)

في لَهفٍ يجري!

يخترق السودانْ

لأختهِ مِصْرِ

قطُران معدودان

ألدهرَ كالقُطر!

حتى إذا وافى

من بعد ما أعيي

طوّف تطوافا

بكعبة الدنيا!

وراح ينصبُّ. . .

للبحر في اطمئنانْ

كما قضى الصّبُّ

بعد اللّقا جذلانْ!!

ما جشّم النَّهرا

تلك المشقّاتِ؟

علَّ بها سِرَّا

من أجله ياتى

أراحِمٌ يسقى

جُرْد صحاريها؟

أم عاشقٌ يبغي

لثم عذاريها؟!

فَقَطْرَةٌ منهُ

برشفها غَادَهْ

لاهيةٌ عنهُ

تكفلُ إسعادْه!!

أوّاه! هل نجهلْ

ما عرف الماءُ؟

في عزِّها تقُتَلْ

ونحن أحياء!!

يا مصر نفديكِ

نحنُ بنى يعربْ!

آمالنا فيكِ

كالشمس لاتغرب!!

مَنْ ذا يواسيكِ

إن لم نكنْ نحنُ!

لَحْنُ أمانيكِ

لكلّنا لَحْنُ!!

جزيرة العُرب

مصُر لها أُمُّ

عقيدةُ الربّ

تجمع والجِذْمُ

ليس لها عنها

صرفق ولا تحويل

معدودة منها

ما دام يجري النيل!

(فؤاد) يحميها

مليكها العادِلْ

ص: 62

من طامع فيها

مخادعٍ خاتِلْ

وراءه الشَّعبْ

نَسلُ الفراعينِ

تحفزه العُرب

وعِزَّة الدين

مَلْكٌ به باهَتْ

ممالك الدنيا

بفضله نالتْ

رتُبتَها العُلْيا

قَلَّدَها نالتْ

رُبّتَها العُليْا

جدَّدّ أو ردَّا

جلالها الخاِلدْ

في عهده الميمون

ارتقت (الفُصْحى)

إذ كان كالمأمون

لم يأُلها نُصحا

(جامعة) الآداب

و (الدار) و (الأزهرْ)

تهَّيُ الطلاب

للحادث الأكبر!

يختصُّ بالإعظام

وخِالصِ الُحبِّ

جامعةَ الإسلام

ووحدَةَ العُرْبِ

عاشَ و (فاروقا)

لبَيْضة الإسلام

كلأهما يُوقَى

من نُوَب الأيام

للوحدة الحقَّ!

للوحدة العظمى!

مُبلَغةِ الشرق

مكانه الأسمى

يا مصر نفديك!

نحن بنى يعربْ

آمالنا فيك

كالشمس لا تغرب!

مَنْ ذا يواسيكِ

إن لم نكنِ نحنُ؟

لَحْنُ أمانيكِ

لكلّنا لَحْنُ!!

علي أحمد باكثير

ص: 63

‌يا طبيب

// لا تقل يا طبيب إنك ماضٍ

بشحوبي ولوعتي وذبولي

حبذا الضعف والهزال دواءً

لفؤاد المشَرِدَّ المتبولِ

إيه يا لحظة الوداع، لقد جُرْ - تِ على المدنَفِ الطريد العليلِ

قبلاتٌ مسكوبةٌ في سكونٍ

وعناقٌ في ضجَّةٍ وعويلِ

ودموعٌ ممزوجةٌ بدمٍ يجري من القلب، مستفيضِ الهطولِ

وزفيرٌ يكاد يحرق أحشاء المُعَنَّى

من وَقْدهِ والغليلِ

وذراعٌ هوتْ تعانق خصراً

صِيغَ من تربة الضنى والنحول

ويَدٌ في يَدٍ تُسِرَّانِ أشياَء

بِضغطٍ مُحَبَّبٍ وذهولِ

وعيونٌ تَقُصُّ بالنظر الفَاِترِ

أقصوصةَ الغرامِ الجميلِ

وتَنُصُّ الآمال تاجاً من السِحْرِ

على مفرق الزمان الجهولِ!

حين سار القطار طَارَ صوابي

وتمايلتُ في ذهولٍ طويلِ. . .

وطَغَتْ عِلَّتى. وجُنَّ جُنونى

ووَهَتْ قُوَّتى. وضلَّ سبيلي!

لا تقل يا طبيبُ إنك ماضٍ

بشحوبي ولوعتي وذبولي

ثغرُها يا طبيبُ طِبِّى فَعَجِّلْ

بِبَواكِير رِيِقِهِ المعسولِ!

مختار الوكيل

ص: 64

‌في الأدب الإنجليزي

ديكنز وولز

بقلم رشدي ميخائيل السيسي

فترات تقصر أحياناً، وأحياناً تطول وتطول، ليس يعنيني أن اعرف أهي من صفاء الذهن وراحة البال، أم ضجر طارئ وملال، اعكف فيها على القراءة والاطلاع، فأذهب إذا ذاك إلى دنيا غير هذه الدنيا، ويغمرني إحساس غير ما يغمرها من إحساس، وسأخفق أن حاولت أن اظفر بتعليل لهذا العكوف: أتدفعني إليه رغبة الأعراض عن حقائق الحياة خشية الاصطدام بها، أم يغريني به نزوع إلى تفهم هذه الحقائق ونشدان هذا الفهم فيما ضمته صفحات الكتب من عصارة الأذهان؟

لن اظفر بجواب قاطع، ولا يعنيني أن اظفر به، إنما أؤكد انه ليس احب إلى نفسي في مثل هذه الفترات من أن أتناول بيدي أثراً من آثار (ديكنز) معبود الإنجليز ومهبط وحيهم بعد شكسبير، وان اذهب معه في سلسلة من الرحلات نغشى في خلالها رياضا من الأمل الواسع العريض فنستنشق العبير ونتفيأ الظلال، ثم نروح تائهين في صحارى من الشقاء، فنكتوي بلافح الحر وقاسي الهجير، ثم لا نحرم في هذا المدى الترامي من الشقاء القاحل ان نلمح واحة الرجاء من بعيد فنتسابق إليها نتقي وهج الحر ولفح الهجير، ولكنا لا نأمن بين الحين والحين على أقدامنا وجسومنا ان تدميها أشواك من إلياس والخيبة، ثم لا نلبث ان نرتفع على أجنحة الخيال إلى سماء من السعادة والثراء.

وديكنز في هذه الأثناء لا يفتأ يحدثني في لهجة تلين وترق حتى لكأنها حفيف الأشجار وموسيقى الالهة، ثم تعلو وتشتد حتى لكأنها دوى العواصف وقصف الرعود، يروح يحدثني عن القناعة وعن البؤس والبائسين، ويحدثني أيضاً عن التمرد وعن الظلم والظالمين، وكأنه يسكب على جراحات التمرد من نفسي بلسما من القناعة والرضا، ولكنه لا ينى بعد ذلك ان يمزق بيده ما عالج من جراحات في قسوة الحقيقة وعنف الواقع، بينما هو يتحدث إلى في لهجة يفعمها الألم والغضب عن استبداد الغني بالفقير، وعن افتراس القوي للضعيف، ويهيب بي وبقارئيه جميعا في فكر عنيف وفي لفظ ملتهب شديد: ان ارحموا البائسين ودافعوا عن المظلومين!! ذلك هو ديكنز الكاتب الإنجليزي الكبير الذي يملأ عين

ص: 65

القارئ بالدموع وفمه بالضحكات في الفترة الواحدة! والذي يمزج الجد بالهزل، ويخلط الحكمة بالدعابة، ويسوقها جميعا في كتاباته طعمة سائغة فيها تنوع وجدة، وفيها قوة وحق وجمال.

وقد يعلم القارئ إن ديكنز مات عن ثورة كبيرة تبلغ عشرات الألوف، فهو إذن قد ذاق حياة الترف والثراء وتنعم بها، وهو لهذا لم يعجز عن تصوير هذا الضرب من المعيشة تصوير فنان خبير، ولكنك إذ تقرأه وهو يقص تاريخ طفولته الحزينة القاتمة وما لاقاه أبانها من صدمات متتالية ومن متاعب جمة مع شظف العيش والحرمان، لابد ستأخذك رعدة عنيفة من فرط التألم لهذه الطفولة المعذبة الشهيدة، وستعلم السر آنئذ في قدرة ديكنز على التعبير عن الأم البائسين وشقاء الفقراء والمعوزين تعبيرا رائعا مفعما بالحياة.

وليس يخلو مؤلف لديكنز من آهات متوجعة، ومن صرخات حزينة، ومن دموع ملتهبة، يسكبها في غير حرص أو تقتير على مذبح الإنسانية المضطهدة المعذبة، إلا انه لم يكن في كتاباته ناقما عنيفا إلى الحد الذي يثير الفقراء على الأغنياء ويدفعهم إلى إلحاق الأذى بهم، بل كل ما كان يرمي إليه أن يهز النخوة ويلين القلوب ويستدر منها العطف والرحمة والإيثار. . .

ولد ديكنز عام 1812 وعاش ثمانية وخمسين عاما قاسى في العقدين الأول والثاني منها ما قاسى لفقر والديه المدقع ولزجهما في السجن وفاء لديونهما، ولكنه بدأ يرقى سلم المجد منذ استهل العقد الثالث. . . واشتغل في أوائل شبابه بالصحافة فكان مخبرا لبعض الصحف، ثم مندوبا برلمانيا فمحررا، فكان بحكم عمله هذا مضطرا إلى ان يزج بنفسه في كل بيئة، وان يختلط بكل طبقة ويعاشر كل طائفة من الناس، فاكتسب خبرة وافية بمختلفة الشخصيات ومختلف النفسيات بعد دراستها دراسة وافية، فأفاد كل الفائدة بهذه الخبرة، إذ تيسير له ان يوفق إلى أبعد حد في تصويره للشخصيات المختلفة التي تناولها في قصصه ورواياته.

ويشبه ديكنز من هذه الناحية بعض الشبه (ولز) الكاتب الإنجليزي المعاصر الذي اشتغل بالصحافة فأصبح لا يكف عن التعرض لمشاكل العالم الاجتماعية الراهنة والاجتهاد في معالجتها وفرض الحلول المختلفة لها في أسلوب رائع مفيد، بيد أنه على الرغم من هذا لن يكون الخلود من نصيب كتبه، لأن قيمتها موقوفها على الجيل الذي عاش فيه، وان طال

ص: 66

اجلها فلن تتعدى الجيل الذي يليه، إذ سيجد العالم المتطور إذ ذاك إن كل ما جاء بها من نظريات ومبادئ قد تحقق جميعه أو جله، واقتصرت أهميتها على الناحية التاريخية دون غيرها، ذلك (لان النزعة الصحفية في الكاتب إنما تعمل لفنائه لا لخلوده، وهذا الفناء هو في الواقع تضحية الكاتب بنفسه في سبيل جيله) على حد قول بعض كتابنا الاجتماعيين.

وإذا صدق هذا الرأي عند تطبيقه على (ولز) الذي لم يكترث لغير علاج المشاكل الاجتماعية فهو لا يصدق إذا أرسلناه على إطلاقه، وخاصة إذا أردنا تطبيقه على ديكنز.

صحيح أن ديكنز قد كتب معظم قصصه الرائعة للصحف إذ ذاك، ولكنها ستظل خالدة على مدى العصور، خلود ما فيها من قوة ومن حق ومن جمال، ولأنها انتزعت من صور الإنسانية انتزاعا، فملأتها عواطف هذه الإنسانية التي لن تتغير، اجل، وستظل خالدة لأنها صورة من الفن الخالد رسمتها ريشة أديب فنان سيعيش تراثه على مدى العصور، وليست موضوعا اجتماعيا يتغير ويختلف وفقا للحوادث والظروف، ويزداد مقدار ما فيه من الصحة أو يقل تبعا لقدرة كاتبه على وضع الفروض والاحتمالات الصحيحة والاستطراد منها إلى تقرير نتائج يثبت المستقبل القريب أو البعيد صحتها، فولز إذن ليس كاتبا اجتماعيا فحسب، ولكنه كاتب ثاقب البصر بعيد النظر، صادق الفراسة، سليم المنطق والاستدلال. أما ديكنز فأديب فنان ينقل إلينا أحاديث الطبيعة والإنسانية وعواطفها، ويعبر عنها جميعاً اصدق تعبير وأجمله، وهو في مهمته السامية لا يختلف بأي حال عن المصور المبدع أو الشاعر المطبوع. في الحق انه يكفيك أن تقرأ أي كتاب لديكنز حتى تصل إلى هذه النتيجة الصحيحة عنه دون لأي دون إجهاد.

والأديب إذا تناول أي موضوع من المواضيع التاريخية أو الاجتماعية - أو حتى الاقتصادية الجافة - وجعله مادة لكتابته تراه لا يفتأ يرويه بدماء قلبه الحية ويغذيه، ولا يفتأ يسبغ عليه من روحه ونفسه وشتى عواطفه واحساساته، حتى يبعث في الحياة بكل معانيها وصفاتها، ويكفينا إذا أردنا تطبيق هذا القول على ديكنز ومخلفاته الأدبية ان نستعرض كتابه أو بتعبير أدق طرفته الفنية الرائعة (قصة عن مدينتين) فتؤمن بصحته كل الإيمان، نعم! فبالرغم من ان موضوع هذه القصة تاريخي جاف وهو تاريخ الثورة الفرنسية، وبالرغم من انه تاريخ دموي مروع تقشعر منه الأبدان، وأنه غير حديث العهد بنا، فإننا مع

ص: 67

هذا لا نكاد نقرؤه حتى نحس في أعماقنا أن هذه القصة في جوهرها إنما قد كتبت لنا وبيننا، والتعليل المعقول لهذا أن الكاتب قد استمدها من وحي الإنسانية الخالدة غير المتغيرة - الإنسانية التي تؤلف بين جميع المشاعر وشتى الاحساسات - وانه قد استلهمها من معنى الحياة غير الزائلة، التي هي حق للجميع دون استثناء، والتي قد ترك أمر فهمها وإدراكها لهذا (الجميع) كل حسب اجتهاده ومدى تفكيره.

بيد أن هذا لن يكون حال كل اجتماعي مهما علا كعبه ونبه أمره، لأنه إنما يعالج المشاكل الراهنة في عصره التي لابد أن تقتصر أهميتها على العصر الذي كتبت فيه، وهو قد يفرض لها حلولا مختلفة يصدق بعضها أو معظمها كما هو الحال مع ولز في كتابه الذي نشره قبل الحرب الكبرى وقدر فيه احتمالات صدقت فرأسته فيها، حتى لقد اعتبرها البعض من قبيل النبوءات، ولكن بالرغم من صدقها فلن يقدر لها الخلود بأي حال كأي (تراث أدبي فني) من مخلفات ديكنز العظيم.

رشدي ميخائيل السيسي

ص: 68

‌العلوم

فكرة النظام الشمسي عند الكنيسة في العصور الوسطى

بقلم فرح رفيدي

ما هب صرح مدنية روما ينهر بقدوم البرابرة الأوربيين من الشمال حتى انتشرت الديانة المسيحية انتشارا سريعا، وصادفت في قلب الشعب التعس تربة خصبة تنمو فيها، لإفتتانه بوعودها الجميلة، ولأنها واسطة انتقال من حياة ملأى بالمصائب والعذاب إلى حياة السعادة والهناء. فتأسس من معتنقي هذه الديانة الجديدة جماعات أخوية تحت رعاية أحدهم يرشدهم إلى الحياة القويمة، أو يلقنهم دروسا في الحصول على الحياة الأخرى. ومن هذه الجماعات أو رؤسائها تكونت طبقة الاكليروس، وفي يدها أمور الشعب الدينية والمدنية. وكان نظام هذا الاكليروس أشبه بنظام دائرة التامين على الحياة: تتاجر بالنفوس؛ فكان الإنسان يعطى ماله وأرضه ودينه، وحتى عقله للكنيسة، لكي يؤمّن حياته بعد الموت. فان راعى قوانينها أعطى تلك الحياة في الجنة، وان خالفها حرمته من الكنيسة وكان نصيبه جهنم بعد الموت.

لكن الكنيسة لم تنشأ فقط بعقائدها الدينية، ولم يكن الكتاب المقدس دعامتها الوحيدة في بناء صرح نفوذها وتحكمها في الشعب؛ بل كان هناك مع الديانة المسيحية المدنية اليونانية، وهير ثروة كبيرة وتركة ثمينة خلقها الأقدمون، فلم تقدر على إهمالها وطرحها جانبا والاكتفاء بتعاليم المسيح وحدها. ويرجع السبب في هذا إلى إن اثر المدنية اليونانية في قلوب الناس لم يذهب باعتناقهم الديانة الجديدة، وليس من السهل أن يذهب تأثير قرون طوال بقيام نزعة جديدة، وفي أمد قصير؛ دعك مما كان لأرسطو وكتاباته من التأثير الجسيم في العقلية اليونانية أولا وفي الكنيسة ثانيا.

قد نرى هنا الكنيسة بازاء الدين المسيحي والمدنية اليونانية تكاد تقع في مأزق حرج من احتمال تناقض العلم القديم بالدين المقتبس الجديد، وقد ينتج عن رأينا هذا السؤال: كيف تمكنت الكنيسة إذنمن التوفيق بين الاثنين؟ أو كيف قدرت أن تستمسك في تلك النقطة الحرجة؟ الجواب على ذلك هو أن الدين المسيحي والمدنية اليونانية لم يتناقضا قط، وكيف يتناقضان والأول خرج من تأثير الثاني؟ فمثلا لم تكن هناك فكرة واحدة أساسية في أصل الكون عند اليونان، حتى تناقض قصة الخليقة في كتاب التكوين، وأساطير اليونان القديمة

ص: 69

تحتوي على قصص كثيرة مختلفة في أصل الكون؛ فليس من الغريب إذن أن تقتبس شعوب أوربا المتنصرة في ذلك الحين فكرة التوراة عن بدء العالم، وان تطرح خرافاتها القديمة جانبا. فالديانة المسيحية أتت موافقة للتعاليم اليونانية.

فاستمرت الآراء والمعتقدات اليونانية في النظام الشمسي وحركته آراء ومعتقدات للناس في العصور الوسطى. ولم يحدث هناك أي تغيير جديد أو انقلاب أساسي في النظام اليوناني القديم، إلا ما زيد عليه بسبب الدين المسيحي، من إدخال فكرتي الجنة والنار فيه. وذلك ظهر بالنظام الذي تصوره الشاعر الإيطالي دانتي في منتصف القرن الثالث عشر:

تصور دانتي الأرض ثابتة في وسط الأفلاك السبعة، ووراء الفلك السابع أي فلك زحل تصور منطقة البروج مكان النجوم الثوابت، وفوق منطقة البروج ما يسميه بسماء السماوات أو عليين ووضع جهنم في وسط الأرض، وفوق الأرض تحت الأفلاك قسمه إلى طبقات مختلفة العلو، الأولى طبقة الماء من حيث تنزل الأمطار، والثانية طبقة المطهر حيث يطهر غير الواقعين في الخطيئة المميتة، وأخيراً طبقة الجنة الأرضية، وتقع ما بين فلك القمر والمطهر.

هذا النظام دليل بين على مقدار توافق العلم والدين، وامتزاج الاثنين معا بصورة يصعب فيها تميز الواحد من الآخر. ولان دانتي شاعر خيالي يتصور نظاما شمسيا يدلن على عدم سير العلم حينئذ في الطريق الذي يضمن له التقدم الصديد أو الانقلاب إلى ما هو صحيح وغير ذلك، فقد كان الاعتقاد الشديد بان منقطة البروج لها تأثير في جسم الإنسان. فالإثنتا عشر برجا كل وأحد منها له تأثير خاص على عضو خاص في جسم الإنسان، فمنها ما يؤثر على الرأس، ومنها ما يؤثر على القلب، ومنها ما يؤثر على الأطراف وباقي الأعضاء. وقد تخيلوا أيضاً إن بعض الكرات التي تدور عليها السيارات تختلف بحسب نظام خاص في العدد والموسيقى، وان هذه الكرات تحدث في دورانها نغمات متلائمة، لا يحظى بسماعها إلا أناس مخصصون. وهذه النغمات هي ما يسمونه بموسيقى الأفلاك تصعد لتمجيد الله الجالس فوق الأفلاك في سماء السماوات.

وأما لماذا لم يتقدم العلم في العصور الوسطى، فذلك ليس لتناقض العلم والدين، وعدم مقدرة الشعب والكنيسة على التوفيق بينهما، كما قال الدكتور سارطن بل لأن الديانة المسيحية

ص: 70

زادت تأثير المدنية اليونانية على الشعب تأثيرا جسيما، حتى لم يكن عنده شك في صحتها وضرورة الاستسلام إليها. من الأمور الظاهرة أن بعض العلوم اليونانية، بصورتها كما تلقاها أهل العصور الوسطى، لم تكن قابلة للتطور الاساسي، وخصوصاً في علمي الهيئة والنجوم، وذلك لأن الأساس المبني عليه علم الهيئة مثلا كان خطأ محضا. فنظام اليونان الشمسي مهما آتى أهل العصور الوسطى بالبراهين والحجج الدامغة، ومهما زادوا عليه من تفاصيل وشروح، لم يكونوا ليزدادوا إلا تعمقا في الخطأ وبعدا عن الصواب. وبعظم تأثير الكنيسة وارسطو معا على عقول الشعب كثر الاختلاف والتناقض في الآراء والتعابير العلمية والدينية، فعم الغموض وتولد الشك في قلوب الناس في كثير من المعتقدات السائدة. إلا إن الأرض ظلت ثابتة بين يدي الإله أطلس مدى أربعة عشر قرنا إلى أن آتى كوبرنيسك في أواخر القرن الخامس عشر، وحركها من بين يديه. وذلك لأنه رأى الاعتقاد بدوران الأرض حول الشمس اسهل من الاعتقاد بان الكون بجلاله وعظمته وعدد شموسه يدور حول ذرة صغيرة في الفضاء تدعى أرضا.

فرح رفيدي

ص: 71

‌مظاهر الحرارة الباطنة للأرض

بقلم نعيم علي راغب

دبلوم عال في الجغرافية

إذا كان هناك شك وتضارب في الآراء الجغرافية عن ماهية باطن الأرض وحالته التي هو عليها، سائلا كان آم صلبا، فانه ليس هناك أدني شك في ان هذا الباطن حار، تدل على حرارته مظاهر ثابتة منها:

1 -

المناجم والحفر العميقة: من المعلوم أن هواءها اشد حرارة من هواء السطح الخارجي، وكلما زاد العمق ارتفعت درجة الحرارة تبعا لذلك. ففي منجم بالقرب من الذي عمقه 2445 قدما ترتفع درجة الحرارة إلى 94ف يقابلها في الخارج 50ف، كذلك شأن الحفر العميقة، فان الماء يخرج منها في درجة حرارة مرتفعة، وبالقرب من باريس بئر عمقها 1798 قدما يخرج الماء منها في درجة 81. 5 فهرنهايت.

2 -

ينابيع الحارة: وتلك ظاهرة تكاد تكون: عامة في العالم اجمع، وعلى الأخص في المناطق البركانية، ومن أمثلة ذلك تلك الينابيع التي توجد في مدينة وكرلسباد، وشمال غربي اسبانيا، إذ يخرج الماء منها في درجات حرارة عالية 158 ف و167 ف و192 ف على التوالي حسب الترتيب السابق.

3 -

النافورات: وهي عبارة عن ينابيع ساخنة توجد عادة في المناطق البركانية، وتمتاز من الينابيع السالفة في رقم 2 بارتفاع درجة حرارة الماء الخارج منها، إذ قد تبلغ 261ف كذلك بقوة اندفاعه منها إلى علو كبير قد يزيد على 200 قدم ويطلق عليها بعض الجغرافيين أحياناً اسم البراكين المائية.

ويحسن بنا في هذا المقام أن نعرف النافورات وأسباب ثورانها فنقول: - إنها عبارة عن عيون تتصل بباطن الأرض بواسطة قصبة على شكل أنبوبة يتراوح قطرها كثرة وقلة تبعا للنافورة نفسها (في النافورة الكبرى بجزيرة الجليد يبلغ قطر النافورة 8 أقدام ويحيط بها شبه حوض قطره يبلغ 56 قدما وارتفاعه 15 قدما).

ولتفسير أسباب النافورات يجب أن نذكر حقيقة جغرافية وطبيعية وهي أن الماء يغلي عند درجة 212 فهرنهايت أو 100 مئوي تحت ضغط يعادل الضغط الجوي، لذلك إذا زاد

ص: 72

الضغط وجب أن ترتفع درجة الغليان، وعلى هذا فان الماء الذي يوجد في أسفل قصبة النافورة قد تزيد درجة حرارته على درجة الغليان ولكنه لا يغلي عندها لوجوده تحت ضغط عمود الماء الذي يعلوه، إلا أن ارتفاع درجة الحرارة يسبب تمدد الماء ويرفعه إلى مستوى أعلى من المستوى الذي كان عليه في قصبة النافورة، وهذا يسبب تمدد الماء السطحي فيفيض على جوانب الحوض، ولما كان الضغط قد قل بذلك على الماء الموجود في أسفل القصبة فانه يتمكن من الغليان ويتحول جزء كبير منه إلى بخار يدفع طبقات الماء التي تعلوه، ويسمع لمحاولته الخروج إلى السطح العلوي أصوات شديدة كأصوات الفرقعة، وعلى قدر قوة البخر يكون ارتفاع الماء المندفع.

وتوجد النافورات في مناطق ثلاث من العالم هي: -

1 -

أيسلندا: ويوجد بها ما ينيف على 100 نافورة تزدحم منطقة بركانية صغيرة المساحة لا تزيد على ميلين مربعين.

2 -

منطقة يلوستون في الولايات المتحدة وتقع في الغرب منها وفيها بضع مئات من العيون، منها ما يزيد حجما وقوة على النافورات العظمى بأيسلندا واشهرها نافورة دقيقة في مواعيد تفجرها حتى لتكاد تضبط عليها ساعتك، إذ إنها تقذف كل مدة تتراوح بين 60 و80 دقيقة نحو عنان السماء عمودا من الدخان الأبيض إلى ارتفاع 150 قدما مكونا منظرا من اجمل المناظر الطبيعية.

3 -

في نيوزلندا: توجد الجزيرة الشمالية التي تشتهر نافوراتها بعظم مقدار السليكات التي تخرج ذائبة في مائها والتي ترسب حولها وتكون مدرجات كانت إلى ما قبل سنة 1886 مجموعة من اجمل المناظر الطبيعية في العالم حتى حدث أن ثار بركان في نفس السنة هدم الجانب الأكبر منها.

4 -

البراكين: وهي المظهر الرابع لمظاهر الحرارة الباطنة للأرض ومن أهمها ان لم يكن أهمها، ولذا سنترك الكلام عليها إلى مقال آخر يتسع للكلام عنها بالتفصيل اللائق بخطر موضوعها.

نعيم علي راغب

دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافية

ص: 73

‌القصص

من الأدب التركي

فتاة الصحراء

رآها اليوم مرة في صحراء فلسطين فاحبها وتزوجها، ونقلها من تلك الصحراء المقفرة الهادئة، من وطنها العزيز إلى وطنه استنبول، إلى ضوضاء المدن وجلبتها.

عاش الزوج سنين طويلة في البلاد النائية، في الأماكن البعيدة عن وطنه، ثم عاد ومعه كنز حبه، تلك الفتاة التي تشبه زهرة ذابلة، والتي نشأت وترعرعت في الصحراء بجانب نخلة عارية وفوق رمال حارة، عاد بها إلى استنبول تلك البلدة العظيمة التي تجمع أصنافاً من الناس وأنواع من البشر، وتعج بمن فيها من السكان. أراد أن يجد لها في استنبول العظيمة مكانا تعيش فيه هانئة لا تذبل فتنصل ولا تجف فتسقط.

كان متوسط الحال، فهو لا يستطيع أن يقدم إليها في بلد كاستنبول حياة صحراوية، فلابد له ان يجد لها في أقاصي البلدة مكانا هادئا منزويا.

لم يتركا مكانا في أستا بنول ولا محلة إلا بحثا فيها عن دار فلم يجدا ما يوافقهما، وبالأحرى لم تجد الزوجة ما يلائمها وما يلائم روحها الصحراوية، وكانت تظنانها إذا بحثت كثيرا في أنحاء البلدة العظيمة وجدت منزلا في روح الصحراء.

كلما زارا دارا كان ينظر الزوج بطرف عينه إلى زوجته ليرى في عينيها الصافيتين ما ينطبع فيهما من انقباض أو انشراح، إلا إنها كانت بعيدة الغور لا يظهر في عينيها ما يجول في قلبها. وكان زوجها أيضاً يود من صميم فؤاده أن يجد مكاناً ترى فيه فتاة الصحراء ولو شيئاً صغيراً يذكرها بالصحراء وطنها العزيز.

وفي يوم من الأيام نهضا صباحاً ليذهبا إلى دار قيل لهما إنها موافقة لرغائبهما وهي في محلة (السلطان أيوب) فذهبا إليها وتسلقا الهضبة التي قامت عليها تلك المحلة حتى بلغا الدار المقصودة، كانت الزوجة كعادتها لا تبدي اعتراضاً أبداً، بل كانت تمشي بجانبه كآلة صماء، وقد تعبت من البحث عن الدار التي تريدها في تلك البلدة التي لم تر أولها ولم تعرف آخرها.

كانت الدار صغيرة مشرفة على البحر فيها غرفتان وبهو وحديقة صغيرة، وكانت فتاة

ص: 75

الصحراء تنظر إلى كل ذلك بفتور وملل فإذا بشيء يعلق به نظرها، لقد لمعت أمام عينيها شمس الصحراء: هناك في الحديقة الصغيرة شجرة نخل، نعمانها صغيرة هزيلة، ولكنها كانت كافية لأن تمثل لها وطنها العزيز. لقد أثر منظر تلك الشجرة في فتاة الصحراء تأثيراً عظيماً، وأعطى روحها حرارة شمس لطيفة أجرت الدم الذي جمد في عروقها منذ فارقت صحراءها، وفتحت تلك الشجرة الطريق بين عينيها وبين الصحراء النائية عنها: فرأت أباها وأمها واخوتها، وعلى قيد غلوة منهم رأت جملها الذي يغمض عينيه السوداوين الكبيرتين أمام الشمس وهو يمد عنقه إلى الأمام.

لقد جاءتها هذه الشجرة بالصحراء، الصحراء العزيزة عليها، وبكل شيء قد تركته هناك، وألقته في أحضانها فكأنها بجانبه تلامسه ويلامسها.

نظرت إلى زوجها بعينين يلمع فيهما بريق السعادة لأول مرة بعد عدة شهور، كانت تلك النظرة تفيد معنى: إنني وجدت مبتغاي، وإني هنا، هنا فقط أستطيع أن أعيش بجانب هذه النخلة الصغيرة.

لقد حلت تلك الدار المشرفة على مياه الخليج من قلب المرأة محلاً رفيعاً، فأحبتها بعد زوجها، بقدر حياتها، بقدر وطنها. نزلا في الدار وعاشا فيها سنة طويلة.

كانت تعيش هنا بعيدة عن الناس لا تخرج لزيارة أحد كائناً من كأن، بعيدة عن الحياة الغريبة، عن الوجوه الغريبة، في تلك البلدة الغريبة.

لقد زارتها جاراتها يوماً، فلما رأينها لا تبتدئ معهن خطاباً ولا ترد عليهن جواباً إلا بنظراتها الفاترة الحزينة التي تطلب بها الرحمة والشفقة، ذهبن في الحديث عنها مذاهب شتى كل واحدة ترى فيها رأيا، فلما علمن أن بينها وبينهن حاجزاً من الاختلاف في اللغة يمنعها من الاتصال بهن تألمن لها أشد الألم، ثم أخذت تلك الرحمة تستحيل إلى سخرية واستهزاء.

إن أهل المدن فطروا على أن يعدوا أهل الصحراء دونهم في كل شيء، وهكذا كان شأن نساء تلك المحلة، كن يستهزئن بالمرأة المسكينة، وكن يضحكن منها ويقهقهن، لأنها لا تفهم ما يقلنه من الكلمات فيها، وكن يجدن في ذلك لذة عظيمة كما يجد الأولاد القساة لذة في تعذيب الحيوان الذي لا حول له ولا قوة، فشعرت فتاة الصحراء بذكائها الفطري أنهن كن

ص: 76

يضحكن منها، فنفرت منهم ولم تعد تقابلهن.

لقد نسى نساء الحي وجود فتاة الصحراء بينهن، عدا عجوز دردبيس كانت تتردد على نساء الحي فتقص عليهن أحاديثها وجدالها مع كنتها، وتقلق راحتهن بتلك الأحاديث التي لا تعرف الانتهاء، حتى مللنها وسئمن ثرثرتها، فكانت تتردد على فتاة الصحراء فتجلس أمامها وتبدأ حديثها باسم الله وتبقى مدة طويلة تتكلم وتتكلم، ثم تختم القصة بدموع ترسلها من عينيها وتغادر البيت وهي تقول للمرأة التي لم تفهم منها غير دموعها:(إلى الملتقى يا بنيتي لقد أزعجتك بثرثرتي، شرفينا).

كانت العجوز لا تني عن زيارة فتاة الصحراء، وأخيرا شعرت إنها وحدها التي كانت تتكلم طيلة هذه الأيام، فقالت لفتاة الصحراء: ما لك لا تتكلمين يا ابنتاه؟ أبكماء أنت أم ماذا؟

فلما رأت فتاة الصحراء لم تجبها إلا بابتسامة مبهمة ولم تقل إلا برأسها نهضت وغادرت المكان على إلا تعود إليه مرة أخرى.

لم يبق من يطرق باب الدار الصغيرة، ولم يبق من يوقظ شمس الصحراء النائمة هنا من أحلامها، إلا إنها أحياناً كانت تنزل عند إرادة زوجها ورغبته وتذهب معه إلى النزهة، ولكنها كانت تعود إلى بيتها وهي مريضة قلباً لا جسماً، لقد كانت تشبه طائراً صغيراً فارق عشه ليطير، فوهى جناحاه ووقع على الأرض.

إنها لا تكون سعيدة إلا إذا كانت في منزلها منفردة بنفسها أمام شجرة النخل مستغرقة في رؤياها، وفي ذلك الحين فقط تظهر الشمس لعينيها؛ إنها حين تجلس تلك الجلسة، في تلك الساحة التي يبدو لها منها وجه السماء، والتي تشبه في نظرها قصرا من القصور تنسى ذلك الدور الأخير من أدوار حياتها، وتعود بخيالها في غفلة لذيذة إلى تلك البحار الرملية التي تجري فيها بقوة هائلة س يول أشعة شمس بلادها فتغمرها غمرا، وتملأ أرجاءها ونواحيها.

إنها في ذلك الحين حين تجلس إلى تلك النخلة التي تشبهها في محبة الوطن، وتشاركها الأسف والحزن، وترتسم على شفتيها ابتسامة حزن يائسة، لوقوعها بعيدة عن وطنها وعن شمس وطنها وعن سماء وطنها، تجمع تلك الهضاب والتلال التي أمامها بعضها إلى بعض، حتى يغيب عن نظرها ذلك البحر الذي أمامها، وترى أشعة الشمس تغمر تلك الصحراء،

ص: 77

وتبصر ألوف النخيل المنتشرة فيها يسلم بعضها على بعض من بعيد بأغصانها الخضراء العالية الرءوس فإذا رسمت في خيالها هذه الصورة الجميلة، وأتقنت صنعها كل الإتقان، وأعطتها من حسن تمثيلها حياة حقيقية، خيل إليها إن آباها وأمها واخوتها وجملها ذا العينين الواسعتين السوداوين أمامها وتحت نظرها، فخفق قلبها لهم، وحاولت أن تهجم عليهم مسلمة معانقة.

وربما ذهبت بعض الأحيان في النهار إلى الحديقة ووضعت حصيرا تحت النخلة التي لا ترد أغصانها عنها أشعة الشمس واضطجعت عليها، ورفعت عينيها إلى السماء، وسافرت بفكرها إلى أقصى حدود الخيال.

كانت ترى قطع السحب تمشي في السماء على غير انتظام، فهي إذن أما ذاهبة نحو قومها، أو آتية من عندهم؛ فالسحب إذن قد رأت قومها أو سترأهم، فكانت تبتسم لهؤلاء السائحات وتسألهن: ألم يجئنها بسلام من قومها وصحرائها؟ أو تسألهن أن يتركن لها في أجنحتهن مكانا صغيرا يسع خبرا عنها لقومها وأهلها.

في أعقاب خريف السنة التي قضتها في تلك الدار رأت الطيور تطير أسرابا أسراباً في السماء، فاهتمت لذلك وسألت زوجها عنها فقال لها:(إنها ذاهبة إلى بعيد! إلى البلاد الحارة). فقالت في نفسها إنها ستمر إذنبوطنها العزيز. فكانت تضطجع تحت نخلتها وتغني بصوت حزين أناشيد قومها وألحانهم الشجية، مضمنة ذلك شوقها الشديد، متوهمة إن تلك الطيور ستقفل راجعة إليها تحمل إليها أجوبة تلك الألحان والأشواق.

جاء الشتاء بخيله ورجله، وأصبحت فتاة الصحراء لا تقدر على الجلوس تحت نخلتها، والتمتع بظلها، وشم رائحتها، فأخذها من اليأس ما زاد في الأم نفسها، وأصبحت تقعد بجانب نافذتها ساعات فراغها من عمل المنزل غارقة في بحر من الألأم والأفكار، فما يدري ما الذي كان يشغل خيالها ويقلق بالها في ذلك الحين، أمنظر النخلة التي كانت تخشى عليها من البرد القارس، والهواء العاصف؟ أم انتظار الطيور تقبل عليها من ناحية من نواحي السماء المستورة بالغيوم، تنقل إليها أخبار أهلها ووطنها؟

كانت فتاة الصحراء كلما مضى يوم من الشتاء هزلت وضعفت، وأخذ نور عينيها يخبو تدريجا. فلم يخف ذلك على زوجها، فقال لها: (ما بك؟ أراك تخفين عني شيئا يمضك

ص: 78

ويؤلم، لقد سئمت الوحدة وتشوقت لرؤية أهلك وصحرائك) كانت تنكر ذلك، ولكنها كانت شوق زائد إلى رؤيتهم، إنها اشتاقت إلى الصحراء، إلى شمسها، إلى جوها الصافي، إلى نخيلها، إلى والديها واخواتها، إلى جملها، اجل! أشتقات إلى كل هؤلاء، ولكنها كانت كالأطفال تنكر شوقها وتصر على الانكار، ومع هذا كانت تدير وجهها تحت تمثال صحرائها، إلا وهو نخلتها وتنظر إليها بحزن عميق.

اقبل الربيع:

علمت ذلك من زوجها فابتهجت وفرحت: جاء الربيع، كانت تظن انه إذا جاء الربيع. أتاها بتذكار جميل من أهلها ومن قومها، ولكن هيهات، جاءها الربيع بالمصيبة الكبرى: ستباع الدار، وهما مضطران إلى النزوح عنها إلى غيرها.

الدار يبيعها صاحبها: ستفارق إذنفتاة الصحراء حلمها الجميل، ستفارق النخلة، خطر لها خاطر فجائي وهو أن تأخذ معها شجرتها إلى الدار التي ستسكنها، ذكرت لزوجها رأيها فوافقها على ذلك، وقرراً أن يأخذا معهما النخلة سلوتها الوحيدة.

رحلا إلى دار صغيرة مظلمة في حي فقير مظلم فصنعا للشجيرة محلا أمام النافذة ووضعاها فيه وربطاها إلى حديد النافذة.

لقد قنعت فتاة الصحراء بهذه الدار الصغيرة المظلمة، ما كانت ترى في هذه الدر السماء الصافية، ولا الشمس المشرقة، ولا القمر الزاهي، ولا النجوم الزاهرة، ولا الدور الشاهقة، لكنها كانت ترى نخلتها المحبوبة فيسكن قلبها لرؤيتها، فحياتها منوطة بها. تجلس دائما بقرب النافذة واضعة رأسها على يدها، وتنظر إلى رفيقة وطنها بقلب أضناه الشوق وبرحت به الذكرى. ولكن النخلة كانت تذوى كطفل أخذ غصبا من حضن أمه، وفتاة الصحراء تذبل بذبولها كشجيرة انتزعت من مغرسها، فاستحكم الذبول في الاثنتين، فكان يظن الناظر إليهما أن سراج حياتيهما ينطفئ تدريجا.

نهضت يوما من فراشها وذهبت كعادتها إلى نخلتها، ولكنها تراجعت إلى الوراء دهشة، ماذا ترى؟ رأت نخلتها العزيز رفيقتها ومؤنستها قد انكسرت من وسطها حيث الرباط، وسقط رأسها إلى الأرض، فهدت تلك المصيبة من قوة الفتاة، فجلست بجانبها وذرفت دموعا غزيرة خرجت من أعماق قلبها المحطم لفراق الوطن والأهل.

ص: 79

عاد زوجها مساء فألفاها على تلك الحالة باكية حزينة. فسألها قائلا: (ما بك؟ أعلميني أسباب حزنك وكدرك، ما الذي يبكيك؟) فاعترفت لأول مرة قائلة: (لنذهب! لنذهب إلى هناك!) وأشارت بيدها إلى بعيد، إلى ديار أهلها وقومها.

عادت الطيور ولم تأتها بخبر من أهلها، ولكن ما الذي يهمها من ذلك ألان، إنها ذاهبة بنفسها إلى الصحراء، إلى الوطن الذي طالما فكرت فيه أضناها بعدها عنه، وذرفت لذلك دموعا غزيرة. . . لقد ذهبا إلى الصحراء ومضى على ذهابهما زمن طويل. . . فليت شعري، أفتاة الصحراء لا تزال تجلس تحت ظل أشجار النخيل، تغني أناشيدها القومية فرحة مسرورة بالوطن العزيز الذي كانت ترى بجانبه جمال الآستانة قبحا، وماءها ملحا، وهواءها رديئا، وجوها وبيئا، وشمسها قاتمة، ونجومها مغمضة نائمة، أم هي نائمة نوما أبديا تحت أطباق الثرى، وحيدة منفردة وظلال أشجاب النخيل تبكي عليها؟

(حلب)

فتاة الفرات

ص: 80

‌من المسرح الغنائي

1 -

سافو

لأوجييه أميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

مقدمة

ليس الفونس دوديه بمجهول من المشتغلين بالأدب الفرنسي وهو ذلك الكاتب الوجداني الرشيق الأسلوب، السليم الذوق، البارع في وصف الحقيقة، فهو المنبع الصافي، والسهل الممتنع، يأخذك خلال ما يكتب، ويسحرك بيان ما يصور، فلا يلبث أن يشد أعصابك شدا، ويجري دموعك سيولاً، ويلهب مشاعرك إلهابا وأنت ذاهل تشارك بالرغم منك أشخاص قصصه ما يوزعه عليهم من مختلف العواطف المضطربة المتباينة.

وسافو إحدى آياته الكبرى التي جمع فيها بين الشهوة الثائرة، وعاطفة الأمومة الطاهرة، ظهرت في سنة 1884 وهو في الرابعة والأربعين من عمره (لأنه ولد سنة 1840) وقد امتلأ تجربة وخبرة، وشبع شهرة وصيتا، فكانت من القصص الخالدة، حتى إن قطعة سافو التمثيلية الغنائية (أوبرا) التي أخذت عنها دائما متجددة الشباب تمثل في فرنسا إلى الان، وفي مصر بدار الأوبرا الملكية كل موسم تقريبا. وهذه القطعة هي التي غنينا بنقلها (للرسالة) إلى لغتنا العربية الكريمة.

واسم سافو على ما يظهر غير فرنسي، لأنه اسم امرأةإغريقية اشتهرت ما بين القرن السادس والسابع قبل الميلاد بشعرها، كما اشتهرت بخلاعتها واستهتارها، حتى إنها لما ملك اليأس عليها كل سبيل ألقت بنفسها من أعلى صخرة (لوكاد) في اليم.

ولقد وضع برادييه المثال الفرنسي الشهير في سنتي 1848 و1852 تمثالين أولهما من البرونز والثاني من المرمر كأنا محل إعجاب الناس، حتى إن كثيراً منهم حصلوا على نسخ منهما، وقد سماهما باسمها. ولا يمكن أن يكون أراد بهما تخليد تلك القصة الشهيرة التي لم تظهر كما قدما إلا في سنة 1884 لأن أول هذين التمثالين تم ودوديه في الثامنة من عمره، وظهر ثانيهما قبل نشر قصته بنحو اثنتين وثلاثين سنة. ومن هذا يتضح أن برادييه

ص: 81

إنما وضع التمثالين المذكورين تخليدا لذكرى تلك الإغريقية.

وإذا علمنا ان دوديه رجل (شأن كل كاتب) واسع الاطلاع مفروض وقوفه على تاريخ تلك الإغريقية وظروف حياتها، وكذلك علمه بآمر هذين التمثالين جزمنا بأنه ما تب تلك القصة إلا وهو متأثر بهذين الظرفين لقيام وجه الشبه بين هذه المرأة وبين سافو ربيبة قلمه من حيث الحب والخلاعة والاستهتار. ولأن قصته والقطعة الغنائية المأخوذة عنها تناولتا ذكر التمثال المرمري الذي أشرنا إليه.

على ان من العجيب ما لحظناه من انه جعل فتاة قصته مصرية، وان واضع القطعة التمثيلية المنقولة عنها جعلها أندلسية؟

أما الناقل فقد يكون التبس عليه الأمر بين هذه المصرية وبين راقصة أخرى أندلسية جاء ذكرها أيضاً في نفس القصة. ولكن دوديه أكد وصف سافو بالمصرية في أكثر من موضع منها، فلابد إذن أن واضع تلك القطعة تعمد جعلها أندلسية، لأن سافو كما وصفها دوديه امرأةفطرت على الحب العنيف المتقعد، وهي أيضاً كثيرة الأهواء لا تستقر عند حبيب وأحد، ولا تطيب حياتها إلا بالتنقل من حب إلى حب، وكلها صفات تتوافر كثيرا في الأسبانيات، حتى أن بروسبير ميريميه اضطر إلى اختيار (كرمن) في قصته البديعة من بينهن.

ودوديه الكاتب القدير لا يفوته ذلك أيضاً، ولكنه قصد إلى تمصير سافو قصدا، وقد خصها بالإجادة في رقص (البطن) فإذا كان هذا ما أراده فقد التوى عليه قصده، لأن مثل هذا النوع من الرقص ليس من عادات الباريسيات، وقد أراد بقصته وصف تلك العادات، ولأنه كان عليه ما دام هذا قصده إلا يسمى فتاته سافو، لأن سافو الإغريقية لا تعرف مثل هذا الرقص، ولان المصرية لا تتسمى بهذا الاسم.

وعلى كل حال فقد رأى إلا يجعل الخاتمة واحدة في سافو التاريخ وسافو القصة، فغلب هذه على اليأس الذي ذهب بحياة أختها، وأحياها الحياة الكبرى حياة الأم التي تحطم قلبها وتتطهر من أقذار الآثم لتنصرف إلى تربية طفلها. فكان فيما اختار عظيما رائعا، وهو ينزل على حكم الطبيعة، ويساير غريزة التكوين البشري.

محمود خيرت

ص: 82

الرواية

الفصل الأول

(بهو ينتهي إلى مصنع المثال كاوودال. يموج البهو بالمقنعين والعذارى المقنعات، لأن الليلة راقصة، وأما المصنع فتدوي فيه نغمات الآلات الوترية، وسافو (واسمها المستعار فني) ترقص وتغني، والمجتمعون يصيحون من النشوة والطرب. وأخيراً يظهر في البهو كاوودال ولا بودري مقنعين)

كاوودال - انظروا آيها الشبان كيف أصبح الشيوخ أكثر فتوة منكم!

لابودري - إني راحل يا أستاذي

كاوودال - طبعا لأن المجلس لم يعجبك

لابودري - كلا، ولكني لا أستطيع البقاء فوق هذا

كاوودال - بل قل إن هذه الراقصة ذات العيون السود لم تفتنك، إن رشاقة هذه الأندلسية لا تدع عقلا لعاقل، وهي تجتمع دائما هنا بأصحابها، فلم لا تشاركهم هذا الانس؟ (يغني)

يا غضون الشباب

الجميع - يا غضون الشباب

فني (سافو) - إن عذْب القُبل=هان فيه العذاب

وسواد المقل

طاب فيه الجنون

الجميع - يا شباب الغصون

لابودري - مهما كان من الأمر فآني سأرحل

كاوودال - يا عدوّ الملاح

الجميع - ما علينا جناح=فانتظر للصباح

كاوودال - ما أغربك آيها الفتى. تفر من هذا الأنس وتزعم انك شاب

لابودري - وكأني بك في سن العشرين

كاوودال - مع إني في الستين (ثم يخاطب حنا) وأنت لم لا ترقص يا حنا؟ كنت أظنك في مجلي هذا السرور أكثر نشاطا ومرحا

ص: 83

حنا - إنني ما رقصت عمري

كاوودال - ولكن الرقص ينفض عنك تراب القرية. تشجع

لابودري - العبرة بالخطوة الأولى. هيا

كاوودال - ألا تعرف هؤلاء الفتيات الجميلات؟

حنا - لا يا سيدي.

كاوودال - وكيف تراهن

حنا - رائعات

كاوودال - إلا أقدمك إليهن

حنا - أشكرك واعتذر، فقد أكون محل سخريتهن

السيدات - ها ها ها (ضحكات)

لابوردي - (وكأنه يكلم نفسه) ولم؟ ما ابسط هذا الفتى!

كاوودال - تعال معي

حنا - دعني بالله (يمتنع فينصرف كاوودال ومن معه إلى المصنع)

كإنني في حلم. هذه هي السعادة التي يتغنون بها!

(هنا يسمع ضجيج المجتمعين في المصنع وهم يغنون):

نماذجُ المصنَعْ

سافو لها تاجُ

جبينها يسطعْ

كالتّبرِ وهَّاج

سُبحان من أبدع

جماَلها سافو

ماذا اسمع؟ كل شيء في هذا المصنع يشد أعصابي. فأين أنا من قريتي كنز السكون والنور؟ ومن خمائلها يحمل النسيم ارجها فيعطر الأرجاء. لقد كنت في المساء أجوب غاباتها النضرة فتهزني الأحلام، وهواؤها العليل يشدو ومن خلال أوراقها فأنسى قسوة الشتاء. قريتي التي تفيض بالأمل والحب ما أبعدها ألان عني!

(يسمع هرج في المصنع وضحك طويل ثم يخرج بعضهم يتعقب فني)

أحدهم - قلة يا فني

فني - اخسأ

ص: 84

هو - (الذي يتعقبها) قبلة واحدة صدقة عن هذا الحسن. . .

فني - تظهرون الغرامَ لي=في ابتسام مُغرّر

خِدعٌة ليس ينطلي

سبكها في نواظري

إنكم تصدعونني

أنكم تخدَعونني

(تفلت منهم وتسأل كاوودال)

من هذا الفتى الجميل (مشيرة إلى حنا)

كاوودال - لا اعرفه

فني - ولم لا أساله آنا؟

كاوودال - شأنك معه (يبتعد ضاحكا)

فني - (تقترب من حنا) ما اسمك يا صاحبي؟

حنا - حنا جوسين

فني - قروي؟

حنا - نعم

فني - وهل أنت مصور؟

حنا - لا يا سيدتي (مطرقا)

فني - أحسنت. ولكن لم أنت مطرق؟ وماذا رابك مني؟

حنا - بالله لا تسخري مني يا سيدتي

فني - آنا؟ انك بالعكس سحرتني وان كنت غير مصور (يسمع صوت كاوودال ولا بودري يناديان)

الطعام. . . الطعام

فني - (في إذنحنا) إلى الملتقى يا حنا

كاوودال - هيا يا أخواني

الجميع - (داخل المصنع) الغداء! الغداء!

إن لذة الأنام

في تذوق الطعام

الغذاء! الغذاء!

ص: 85

كاوودال - (من الداخل) سافو!

(يحأول حنا الدخول فتمنع مضطربة)

فني - لا تدخل يا حنا. تعال معي

حنا - ولكن. . .

فني - تعال. تعال

حنا - (يخضع) غلبتني مقلتاها=فسبيل قدماها

عقل فني فيك تاها

سهم عينيك رماها

حنا - يا لهيبي!

فني - يا حبيبي!

(يذهبان بينما المصنع في هرج وانس)

(يتبع)

ص: 86