الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 570
- بتاريخ: 05 - 06 - 1944
19 - دفاع عن البلاغة
11 -
التلاؤم في الأسلوب
رأيت معي أن تقطيع المنثور من الكلام جملاً أو فقراً أو فواصل عمل بلاغي تقتضيه حالة النفس وحركة الذهن وطبيعة التنفس. وهذا التقطيع - وإن نشأ في اللغة على مقتضى الطبع - له فلسفة وهندسة وموسيقى هن عناوين علم البلاغة، وبراهين فن البليغ. فأما الفلسفة فقد أشرت إليها في مقالي السابق إشارة توجه أو تنبه. وأما الهندسة والموسيقى فملاكهما التلاؤم بين أجزاء الفقر وفواصلها. فإن كانت الفواصل متعادلة فهو التوازن، وإن كانت متماثلة فهو السجع. مثال الأول: وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم. ومثال الآخر: إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم. فبين المستبين والمستقيم تعادل، وبين نعيم وجحيم تماثل. بله التوازن بين آتيناهما وهديناهما، والكتاب والصراط، والأبرار والفجار
والتوازن ويسمى الازدواج موسقةٌ فطرية في نفوس العرب جعلوا بها النثر أشبه بالنظم في جمال الرصف الأسلوب لا تكاد تنفك عنه في جميع أغراضه ومختلف صوره. وهو في ذلك يخالف السجع فإن للسجع موضوعات ومواضع لا يطلب إلا لها، ولا يحسن إلا فيها: ولذلك يقبل في غرض دون غرض، ويجمل في صورة دون صورة. قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير:(كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، وفصولهم متقابلة. وتلك طريقة الإمام علي ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون والجاحظ). وقال أبو هلال في الصناعتين: (لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً. ولا تكاد تجد لبليغ كلاماً يخلو من الازدواج. ولو استغنى كلام عن الازدواج كان القرآن؛ لأنه في نظمه خارج عن كلام الخلق. وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات فضلاً عما تزاوج في الفواصل منه). وقال في موضع آخر: (واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط. ولا يلزمك فيها السجع. فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد).
فالازدواج على إطلاقه، والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ منذ كان للعرب ذوق وللعربية أدب. فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف وسمجت بالفضول وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله. وإذا أقررناهم على ذوق العصر لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس ومن خلف من بعدهم، فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب وتنسب إلى خصائص اللغة؛ كصحة المقابلة، وحسن التقسيم، وائتلاف اللفظ مع المعنى، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن، واتحاد الفاصلة والفاصلة في الروي
وأقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي أن القرآن وهو (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما. قال شمس الدين بن الصائغ في كتابه: إحكام الرأي في أحكام الآي: (وتتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت منها على نيف وأربعين حكما) نذكر نحن منها على سبيل المثال: تقديم ما هو مؤخر في الزمان نحو: ولله الآخرة والأولى. وتقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد نحو: ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. وتقديم الضمير على ما يفسره نحو: فأوجس في نفسه خيفة موسى. وتذكر اسم الجنس مرة وتأنيثه أخرى نحو: أعجاز نخل متفعر، وأعجاز نخل خاوية. والإفراد في موضع التثنية نحو: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، بدلاً من (فتشقيان). وتغيير بنية الكلمة نحو: طور سينين، بدلاُ من طور سيناء. ووضع اسم المفعول موضع اسم الفاعل نحو: حجاباً مستوراً، بدلاً من ساتراً. . .
كذلك تجد في كلام أفصح العرب وسيد البلغاء مثل ذلك. فقد كان صلى الله عليه وسلم يغير الكلمة لتلائم أختها في مثل قوله: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) وإنما أراد ملمة. أو في قوله: (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وإنما أراد موزورات من الوزر. فلو كان الازدواج نافلة والسجع فضلة لما كان لهما هذه المنزلة من كتاب الله وحديث رسوله. ولقد زهقت صناعة الحريري زهوق الباطل، وذهبت بضاعة الحموي ذهاب
الزبد، فلم يبق حياً قوياً على فشو العجمة وشيوع الجهالة غير هذين النوعين الأصيلين، يجريان على الأقلام الموهوبة مجرى الطبع، ويفعلان بالنفوس الشاعرة فعل السلاف، ويحفظان للأسلوب العربي روحه الذي عاش عليه وفنه الذي خلد به. والناس لا يكرهون السجع لأنه سجع، ولا البديع لأنه بديع، وإنما يكرهون التكلف والتمويه والبهرج وتنميق الألفاظ على المعنى التافه، وترصيع الأسجاع في الكلام الغث، كل يكرهون الزخرف المنمنم على الجدار المنهار، والحلة الموشاة على الجسد المسلول. لكنك إذا تدبرت ما كتبناه في حد البلاغة وتعريف الأسلوب، ووعيت ما قلناه في معنى الأصالة ومدلول الوجازة، وكان لك الطبع الذي صقله الأدب، وجلته الفطنة، وأسعفته الملكة، أمنت الكلمة التي لا تقع في موضعها من الجملة، والصناعة التي لا يقوم على أساس من الطبع والذوق، والحلية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة. وإذن يكون ما تنتج هو الجمال، وما تنتج هو الفن.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مكانة العرب بين الأمم
للدكتور عبد الوهاب عزام
تخلد الأمم على وجه الأرض وتحيا على مر الدهور وتثبت في صفحات التاريخ بأسباب وقوانين. ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المؤاتية والقوانين السارية، قوة وضعفاً، وإبطاء وإسراعاً، وضيقاً واتساعاً. وهي أسباب متصلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض ويمسك بعضها بعضاً. من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس، وعظم التاريخ على مر الدهور
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطناً فسيحاً وسطاً بين المواطن، فياضاً بالخيرات بعيداً من الآفات الطبيعية المدمرة. موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم ومثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر بين نجد إلى إيران وجبال طوروس والبحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط أفريقية. وهو موطن شاسع الأرجاء يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجرى فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة، والبراري والصحارى والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان. وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيداً من طرق المهاجرات فبقى يطبع الأجسام القوية والطباع السليمة، والفطر الخالصة، ثم يمد أجزاء الموطن العربي الكبير، كلما نالت الخطوب من أهلها أو أترفتهم الحضارة. وما يزال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدورة له، ونبتت على عبريه الزروع والأشجار، وحيّت الأمم
ما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل. فإن بليت الأمم فهذه لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين
الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شمسه وهواؤه وأرضه تنمى الأجسام وتطبع الأقوام
وأما الثبات للحوادث الطبيعية والإنسانية، فما دام هذا الوطن العظيم يعرف بعضه بعضاً، ويتصل بعضه ببعض، فستجد كل ناحية في النواحي الأخرى ما يسعفها بمطالبها إن قحطت، وما يدرأ عنها الأحداث إن طغت عليها. ومحال أن تعمها كلها الحوادث إلا أن يكون حادث القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما احتفاظ الأمة بخصائصها فعلى قدر ما في أجسامها وعقولها من قوة، وعلى قدر ما فيها من اعتداد بالنفس وثقة بها، والعرب من أقوى الأمم أجساماً وعقولا، وأكثرها أنفة وإباء وعجباً وفجراً. والعربي منذ العصور الأولى يغلو في الاعتداد بنفسه ويأبى أن يسويها بالأمم، ويربأ من مصاهرتها. وقديماً أبى النعمان أن يزوج كسرى، وحديثاً قال أحد مجاهدي العرب في طرابلس الغرب، وقد عقد صلح بين أهل طرابلس والطليان وامتن هؤلاء على العرب بأن سووهم بأنفسهم في الحقوق. قال هذا العربي المجاهد وهو ليس رئيساً ولا زعيما:(واسوأتا! أأسوّى أنا بالرومي. . . إنه لذل عظيم). بل كان من آفات العرب الغلو في هذه الكبرياء فصعب أن ينقادوا ويسلسوا القياد. فبهذا الشعور بالعلاء والعظمة يعتزون بأنفسهم، ويمتازون بخصائصهم، ويتمسكون بأخلاقهم. وقديماً قال شاعرهم:
وإني لن قوم كأن نفوسهم
…
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقديما وهن حاجب بن زرارة التميمي قوسه لملك الفرس ضماناً لما التزم من خراج. وحارب بنو شيبان الفرس إباء أن يسلموا سلاح النعمان بعد أن قتله كسرى. وقال أبو تمام يمدح بني شيبان:
إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها
…
وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم
…
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
والمثل أكثر من أن تذكر في هذا المقام، وأبين من أن تبين
إذا أحاطت الأمة القوية أنفسها وخصائصها بأخلاق قوية كفلت دفع الخطوب عن حوزتها. ولا سيما الأخلاق الإنسانية العزيزة التي تأبى للأمة أن تخضع فتذل فتفنى. والعربي في
جاهليته وإسلامه أبى حر، يأنف أن يَستعيد أو يُستعيد، وقد أمده الإسلام بفضائل سيرته على وجه الأرض كالنجم لا يضل ولا يكل، وجعلته قانوناً من قوانين الله يسير إلى غايته مسير الشمس والقمر في حبك السماء
وكلما أخرجت الأمة من عمل أيديها، وأظهرت من نتاج عقولها، ونشرت من ثمرات أخلاقها وآدابها، زادتها صناعاتها وعلومها وآدابها رسوخاً على الأرض وثباتاً على مجرى الخطوب. ولا يعرف التاريخ أمة أثرت على وجه الأرض، وشادت في الآفاق وفي الأنفس أكثر من العرب. لا يعرف التاريخ أمة حملته أكثر مما حملوا، أو جملته أحسن مما جملوا، أو سيطرت عليه أعظم مما سيطروا، أو سطرت على صفحاته أجل مما سطروا. فإذا تركنا التاريخ القديم من معين وسبأ وحمير ومن بابل وأشور، فهل يحدثنا التاريخ عن أمة طلعت على العالم بمثل ما طلع العرب؟ همةً ذللت المشرق والمغرب في سنين، ونيةً تريد الخير للناس أجمعين، وعدلاً يسوى بين الجبارين والمستضعفين، بل يمحو من الأرض كل جبار ومستضعف ويقف الناس جمعياً أخوة على سنن من العدل المطلق، والمساواة الكاملة، والأخوة الشاملة.
هل يعرف التاريخ أمة جمعت في سلطانها ما جمع العرب من أمم وأقطار، ثم آخت بينهم وحفزتهم إلى الفضائل والآداب والعلوم والصناعات، فإذا معظم العالم المتحضر متعاون على نسج حضارة واحدة عظيمة، كل أمة على قدر مواهبها وقواها؟ فوصلت ما انقطع من سير الحضارة، وقطعت ما اتصل من سير الجبروت والاستعباد والشر والفساد. وما فعلوا هذا كله إلا ابتغاء وجه الله، وقصداً إلى إصلاح الناس، وعمران الأرض. وقد ربط التاريخ ذكر العرب وتاريخ العرب بهذه المآثر وتلك الفضائل والأخلاق والمكارم، وضمن لهم الخلود ما بقي للناس سيرة في الفضائل والمعالي. لا أقول إن الإسلام صنع العرب فالإسلام صنع الله، ولكن العرب كانوا أول من حملوا هذه الأمانة فحملوها، ودعوا إلى هذه المعالي ففقهوها، وكلفوا نشرها فنشروها، فكأنما خلقت لهم أو خلقوا لها، وكانوا أحق بها وأهلها، وللأمم الإسلامية بعد هذا فضل لا ينكر. ثم أدب العرب هل يعرف العالم أعظم منه سعة رقعة، وطول مدة، وحمالاً وجلالاً؟
إذا ثبتت الأمم بنيانها على كر العصور بالسير المجيدة، والمثل العالية، فعند العرب سير
رجف بها الزمان، وأقر لها الحدثان. وإن مكنت الأمم لأنفسها بالصناعات والعلوم والآداب فعند العرب ما يكفل لهم التمكن في الأرض والخلود في سجل التاريخ. وحسب المجادل أن يسير فكره بين هضب إيران وبحر الظلمات وجبال البرانس وغابات أفريقية، ويعبر التاريخ في هذه المواطن كلها أربعة عشر قرناً ليرى مجد العرب ويبصر حجة العرب
ولا نقول إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا، ولكنا نقول إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة. والأمم تدل على فضلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق. وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطى جماد، والنبات يأخذ قليلاً ويعطي قليلاً. وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم يصح الاعتبار ويطرد القياس
تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكيناً في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل وتخلى لها سبيلها في الحياة
وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعى بين الأمم مشكور، إلا من ضل به الهوى أو جار به الحسد. وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم. ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق. ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيراً للبشر وسلاماً للناس أجمعين
ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة والإحساس المرهف، والإدراك النافذ، لغة كاملة معجبة عجيبة تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس. تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظاً غير ما وضعته لشبيهه إدراكا للفرق الدقيق بينهما. فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلاً كلمة واحدة وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم. وإذا دلت اللغات على صفات
الوجه الإنساني مثلاً بكلمات مركبة لكل صفة، دلت العربية على كل حلية في الإنسان وكل صفة في عينيه وحاجبه وأنفه وفمه وأسنانه وغيرها بأسماء خاصة. وليس هذا مقام التمثيل والتفضيل
ثم هذا الإحساس الحاد الدقيق المتمثل في المفردات يتجلى في التركيب مدهشاً. فكل كلمة لها في الجملة مكانة يحس بها المتكلم أو تحس بها الكلمة نفسها فتعطى صوتاً مكافئاً لهذه المكانة. فالكلمة الأصيلة لها أقوى الأصوات وهو الضم، والأخريات لها الفتح والجر، وما أرى هذا إلا ضرباً من الحياة في الألفاظ والتركيب يبين عن أدق الإحساس وألطفه
وإذا اشتملت اللغات على كلمات هي مادتها، ففي اللغة العربية مادة وقوالب يستعملهما صاحبها حين الحاجة، فيها مادة ووزن. فخذ المادة أو استعرها من لغة أخرى، ثم صبها في قالب من قوالب الأسماء. والأفعال وصورها بالقوالب أو الأوزان ما تشاء. فلغتنا تدل بالمادة والوزن وبالصيغة والهيئة. فمن سمع فاعلا أو مفعولا أدرك أن هذا الوزن في حركاته وسكناته له معنى يلازمه في المواد كلها. وبهذا حدت اللغة واستبانت خصائصها، حتى نفت عن نفسها كل كلمة أجنبية ما لم تخضع لأوزانها وقوانينها. للأسماء أوزان والأفعال أوزان، فما لا تزنه هذه الأوزان فهو أجنبي. وبهذا بقيت على الدهر المتطاول خالصة نقية، صحيحة قوية
قيل إن لغتنا صعبة بهذه المفردات وبهذه التراكيب والأوزان، وإنها تكاد تأبى على دارسها، وتعجز طالبها. وهذا حق لا تدفعه، وإن عيباً فلا ننكره. ولكنه ليس من نقصان في خلقها أو اختلال في بنيتها أو عجز في موادها وأوزانها. ولكنه نتيجة التطور الكامل والنمو التام. فأدنى الأشياء في هذا العالم أيسرها وأقلها تركيباً. والكمال يصحبه التركيب والتفصيل والأشكال والإعضال. اعتبر هذا في النبات والحيوان، في الحيوان ذي الخلية والواحدة بالإنسان، ثم انظر المراتب بينهما. واعتبر هذا في البداوة والحضارة وفي أنواع الحضارات تجد النقص بساطة ويسراً، والكمال تركباً وصعوبة. الكمال في هذا العالم لا ينال إلا بتطور تلده الأحقاب بعد الأحقاب، وتنوء به العزائم بعد العزائم، فلغتنا صعبة، ولكنها كاملة حية دقيقة مواتية، حية حساسة موسيقية متلائمة
وقد امتحنت هذه اللغة الحضارة الواسعة، واختبرها التاريخ الطويل، فلم تعجز ولم تضق
بكل ما أدركه الإنسان من علم، وثقفه من صناعة، بل وسعت حضارة القرون المتطاولة والأمم المختلفة غير كارهة ولا مكرهة
وقد أراد الله لها أن تكون لغة كتابه وترجمان وحيه، وبلاغ رسالته، فاشتملت على العالم الحسي والعقلي مصورا في كلمات وآيات، وجزيت على هذا خلوداً ما خلد للإنسان عقل وقلب، وما استقام له إحساس وإدراك. وتقلب الزمن، وتوالت المحن، وثارت الفتن وهي ثابتة ناضرة رائعة ثبات قوانين الله وروعة كواكبه. خمسة عشر قرناً محت لغات وخلقت لغات، وبدلت لغات وحرفت لغات، والعربية هي العربية لم تمح ولم تغير ولم تبدل، وما آية الخلود بعد هذا؟
ولم تبق هذه العربية لغة العرب وحدهم بل ثقفتها الأمم الأخرى، وأولتها من الحفاوة والعناية أكثر مما أولت لغاتها أحياناً، فصارت لغة العلوم والآداب للعرب وغير العرب حقباً طويلة ما بين أقصى المغرب وأقصى المشرق. ولا تزال على تبدل الأحوال وتوالي الغير لغة أدب وعلم في الأمم الإسلامية غير العربية. ولا تزال هذه اللغات مترعة بألفاظها ولا تزال تستمد العربية
وقد حوت على مر العصور أدباً لا تحويه لغة أخرى. أدب موطنه ما بين الصين إلى بحر الظلمات، وزمانه أربعة عشر قرناً، ولا نعرف في آداب العالم قديمها وحديثها أدباً اتسعت به المواطن هذا الأتساع، وامتدت به الإعصار هذا الامتداد
فالعربية بأهلها وموطنها وخصائصها وآدابها وتاريخها، والعربية بقرآنها، خالدة باقية على الخطوب والعصور لغة دين وعلم وأدب وحضارة وإنسانية. فهل تنصرها همم أبنائها وتستجيب لها عزائمهم؟
عبد الوهاب عزام
مصر الإسلامية
للدكتور محمد مندور
ليس من شك في أن الحضارة المصرية القديمة قد خلفت رواسب بعقليتنا الراهنة، ولكننا نتركها الآن ما دام مظهرها العام اليوم أننا أمة عربية، ونقف عند مصر الإسلامية، ونعني بها تاريخياً مصر منذ الفتح العربي إلى الحملة الفرنسية، ولهذه الفترة أهميتها في كل محاولة جادة لإدراك مقومات حياتنا الثقافية، وذلك لأن دراستها ستنتهي بنا إلى حقيقة كبيرة، هي أن مصر المعاصرة ليست استمراراً لمصر الإسلامية. وبيان ذلك هو أن الحضارة العربية والثقافة العربية لم يطرد تقدمهما ببلادنا ولا اطرد جانب الخلق فيهما، بل غلبت عليهما المحاكاة والصنعة بدلاً من الإبداع والأصالة، حتى أنه عند بدء الحملة الفرنسية نستطيع أن نقول إن مصر الإسلامية كانت تحتضر في معظم نواحي نشاطها الروحي بل والمادي. ولم يكن بد عندئذ إذا أريد لبلادنا أن تنهض من أن تقوم نهضتها على أساسين جديدين: هما بعث التراث العربي القديم الذي خلفه صدر الإسلام ببلاد الشرق العربي من جهة، والأخذ عن الحضارة الأوربية مباشرة أو عن طريق الترجمة من جهة أخرى
وظاهرة اضمحلال الثقافة العربية بمصر في تلك الفترة من الظواهر التاريخية الكبيرة التي تستحق الدرس. ونحن لا نريد اليوم أن نقف عند تقلب الحكم ببلادنا بين العباسيين والطولونيين، والأخشيديين والفاطميين، والأيوبيين والمماليك، والأتراك العمثانيين وما كان في عهد كل منهم من ضعف بلادنا السياسي أو قوتها، وتأثير ذلك في حياتها الروحية، وإنما نريد أن نفسر الظاهرة على أساس ثقافي بحت
والذي يبدو لنا هو أن هذا التفسير لا يمكن أن يستقيم إلا إذا حددنا العلاقة بين الثقافة العربية في مصر والثقافة العربية في جزيرة العرب والعراق والشام حيث نبتت تلك الثقافة
وثمة حقيقة عامة في تاريخ الثقافة العربية لها نظائرها في تاريخ الثقافات الأخرى القديمة، وهي أن تلك الثقافة قلما ازدهرت إلا حيث توجد السلطة السياسية ويوجد الأمراء الذين يرعون تلك الثقافة
ومصر في عهدها الأول بالحكم العربي لم تكن منفصلة عن الخلافة لا في عهد عمر
وعثمان وعلي، ولا في عهد الأمويين أو العباسيين، بل كانت تابعة تبعية محكمة؛ ولهذا لم تقم بها سلطة سياسية مستقلة تستطيع أن ترعى الحياة الأدبية والعقلية ببلادنا وتحوط نفسها برجال الأدب والفكر كما كانت تفعل الخلافة. ومن هنا لم تنشأ ببلادنا بيئة ثقافية قوية كما نشأت ببلاد الشرق. وهناك مثل بسيط ولكنه دال على هذه الحقيقة هو مثل الليث ابن سعد، فقد نبغ هذا العالم الكبير في علوم الدين حتى شهد له الإمام الشافعي بالتفوق على الإمام مالك نفسه، ومع هذا لم يستطيع عالمنا المصري أن يكون مذهباً. ولقد علل الشافعي ذلك بقوله:(إن أصحاب الليث لم يقوموا به) وفي الحق أن التفسير الصحيح هو نشأة الليث بمصر وتبعية مصر عندئذ لبلاد الشرق العربي وعلماء الشرق العربي، وعدم استقلالها سياسياً وروحياً
وفي القرن الثالث الهجري انفصل الطولونيون بمصر، وأخذت بلادنا تستقل بحياتها الروحية، كما استقلت بحياتها السياسية وكان من المنتظر أن تنشأ عندنا حضارة إسلامية لها طابعها الخاص أو على الأقل لها قوتها على الأصالة والخلق. ومع ذلك نستطيع أن نقول بوجه عام إن هذه الظاهرة أيضاً لم تتحقق
والسبب في ذلك هو أن وقت انفصال جاء مع الوقت الذي أخذ فيه الأدب العربي ينقلب انقلاباً خطيراً نحو المحاكاة والصنعة بدلاً من الابتكار والطبع، وجارت مصر هذا التيار العام الذي انتهى بتجفيف ينابيع الخلق الأدبي الأصيل في بلاد الشرق العربي وفي بلادنا على السواء
وانقلاب الأدب العربي نحو المحاكاة والصنعة ابتداء من القرن الثالث الهجري من الظواهر التي أفقرت الأدب العربي، وكان لها في تاريخ الأمم العربية كلها أسوأ الآثار
فالذي نلاحظه هو أنه منذ ذلك التاريخ أخذ علماء اللغة والنقاد ينظرون إلى الأدب الجاهلي والأموي وأدب الصدر الأول من العباسيين نظرة تقديس دفعهم إليها دخول الأعاجم بين العرب وتطرق اللحن إلى اللغة وشعورهم بالحاجة إلى المحافظة على صحة تلك اللغة حتى لا يدب الفساد في لغة القرآن والحديث أو تنحرف مدلولاتها عن وضعها الأول. وطغت نظرة العلماء والنقاد على الأدباء والشعراء فاضطروا أن يحاكوا القدماء لا في اللغة فحسب، بل وفي موضوعات القول وبناء القصائد، وهكذا استقرت ظاهرة المحاكاة حتى
أصبح هؤلاء الشعراء وأولئك الأدباء عبيداً للقديم وكأني بهم يرقصون في السلاسل
وإلى جانب هذا التيار العام - تيار محاكاة القديم المسمى في تاريخ الأدب العربي بتيار عمود الشعر - أخذ يظهر تيار آخر معظم رجاله من الشعراء الأعاجم حاولوا أن يجددوا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتحرروا تحرراً تاماً؛ فحافظوا على بناء القصائد كما حافظوا على موضوعات القول ولم يجددوا إلا في الصياغة وكونوا مذهباً هو المعروف بمذهب البديع أي المذهب الجديد. ورأس مذهبهم هو مسلم بن الوليد وبشار وأبو نواس وأخيراً أبو تمام فهو الذي وصل بمذهبهم إلى غايته
مذهب البديع هو مذهب الصنعة. ومن هنا لم يلبث هذا اللفظ أن تطور فأصبح يدل على علم بذاته هو علم المحسنات اللفظية كما فصل موضوعاته أو هلال العسكري في كتابه المعروف (بالصناعتين) صناعة الشعر وصناعة النثر
والصنعة في الشعر والنثر من أخطر الآفات التي تهدد الفكر والإحساس عند التعبير عنهما، حتى لأخالها تعمي الرأي وتذهب بصدق الإحساس، وذلك لأمر بين هو أن الشاعر أو الناثر الصانع المتكلف بفكر ويحس مرتين: مرة ليدرك الإحساس أو الفكرة، ومرة ليحتال عليهما حتى يسكنا إلى اللفظ وفي هذا إفساد لهما
وهكذا ظهرت المحاكاة كما ظهرت الصنعة في الأدب العربي، وصادف ذلك بدء نشوء أدب مصري مستقل، فغلبت المحاكاة وغلبت الصنعة على أدبنا نحن أيضاً كما قلنا؛ واستمرت الأمور تسوء برغم فترات الانتعاش التي اهتزت فيها بلادنا بأحداث ضخام بددت المحاكاة أو مزقت الصنعة لوقت ما كالدعوة العلوية أيام الفاطميين والحروب الصليبية أيام الأيوبيين
وجاء حكم الأتراك العثمانيين بما صحبه من ظلمات ومظالم جففت منابع الحياة الروحية ببلادنا، حتى إننا عند بدء الحملة الفرنسية نبحث عن أدب مصري عربي فلا نجد إلا شعراً متكلفاً سخيفاً أو نثراً مسجوعاً يدعو إلى الضحك، أو كتابة مهلهلة كتاريخ الجبرتي الذي تكاد لغته تمس اللغة العامية
وانتهت الحملة الفرنسية وجلس محمد علي على عرش مصر فأدرك بفطرته السليمة أنه لابد لإنهاض هذه البلاد من أن يقطع التيار؛ فيعود إلى التراث العربي القديم يبعثه، كما يتجه ببعثاته إلى أوربا حيث كانت الحضارة الحقة كما سنرى
محمد مندور
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
الفن والإصلاح
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كلما ثار الجدل في مصر حور تقدير الفن وإطلاق حريته أو تقييدها بقيود صالح الجماعة والمحافظة على دعائم حياتها، استحضرت في نفسي صوراً من الطبيعة ومن حياة الأمم التي تمثل النزعتين لأجد القول الفصل الذي يقرب نفسي من الصواب؛ فإني أرتاح دائماً إلى أحاديث الطبيعة الأستاذة، وإلى أحكام الحياة الصادقة الناجحة، وأتخذهما أساسين لصحة الأفكار والأعمال غير عابئ بعد ذلك بما يرسله المنطق اللفظي والجدل النظري
وأنا الآن بسبيل تحكيم هذين الأساسين في القضية التي أثارها الأستاذ الكبير أحمد أمين بك، وجادلها وعلق عليها الكاتب الفنان توفيق الحكيم، هي: الفن للفن؟ أم الفن للحياة؟
فأما الطبيعة توهي أستاذتنا التي أورثتنا عقولنا وعلومنا وفنوننا وتجاربنا، وعرضت لنا نفسها عرضاً مكشوفاً لنراها ونعرف أسرار علم بارئها وفنانها الأعظم. . . فقد أرشدتنا - لو كنا نسترشد بها - إلى أن الفن فيها إنما هو وسيلة للنفع والمصلحة لا للترف ولا لإطلاق عبقرية الخلق والتجسيم والتكشيل والتلوين على هوى طليق غير منسجم مع الاتجاه العام في الطبيعة كلها
وقد أرشدتنا كذلك إلى النسبة التي يجب أن يكون الفن بها في الحياة وإلى ترتيب وجوده وظهوره في كائناتها. والذي لا شك فيه أن في كل شئ في الطبيعة عملاً ضرورياً وعملاً فنياً. والعمل الضروري هو الذي يضمن حسن إخراجه، ولفت الأنظار إليه وحمل الأحياء على الانتفاع به والمحافظة على استمرار نوعه وحمايته. ومن وراء ذلك الظاهر الفني نظرة علمية دقيقة مدركة لغاياتها ووسائلها جادة مقتصدة غيرها هازلة ولا مسرفة فوجود (الكيان) المادي (وتجسيمه) وإقامة (هياكله) الضرورية وتهيئة أسباب نفعه واستمرار وجوده هي محاور العمل الطبيعي الدائم في عالم الجماد والنبات والحيوان، وهي الجهد المبذول في دؤوب واستمرار في جميع الفصول والمواسم، ثم يأتي بعد ذلك دور التجميل والإخراج
فالجذور في النبات مثلاً لا جمال فيها ولا زينة وإنما هي عاشقة للظلمات والعفونات،
ساربة أبداً بين الصخور والعقبات، جاهدة باحثة عن الضروريات. فهي تقوم بأعظم العمليات وأدومها وأشقها وأنفعها لحياة الشجرة. ومع ذلك لا تخطى من تقدير السطحيين من الناس بما تخطى به زهرة خادعة فانية محدودة النفع والعمر من الزهرات التي هي من فن تلك الشجرة والتي هي في الواقع خدعة من خدع تلك الشجرة لجلب اللقاح وتكثير النوع وحفظه
ولا جدال في أنه خير للشجرة ولصاحب الشجرة أن يحافظ على جذرها الأعوج القبيح ساكن الظلام ليحفظ أوليات حياتها ويرفدها بعوامل النماء، من أن يعني بكثرة زهرها الجميل في فترة من فترات حياتها ويهمل جذرها حتى يمرض ويصيبه العجز والكلال عن السعي لغذائها. فإن بقاء الجذر صحيحاً عاملاً كفيل ببقاء الأمل في حياتها واستمرار وجودها وإنتاج ثمارها وأزهارها. وإن في الأشجار منافع كثيرة قد يكون جمال الأزهار أقلها عند من يقدرون العناصر الأساسية للحياة. واسألوا جانيات الشوك وجامعي الأحطاب من البراري والقفار والوديان: أليسوا يمرون على الأزهار البرية الجميلة الفواحة العطر لا يعبئون بها كما يعبئون بالأشواك والأحطاب يجمعونها ليوقدوا النيران ويقيموا الجدران، طلباً للدفء والمأوى بين الأهوال القاسية التي تهدد حياتهم الضرورية؟
كذلك البؤساء مادياً ومعنوياً، المجهودون المنهوكون من السعي في سبيل القوت والحق والعدالة يمرون بالتحف الفنية والآثار الأدبية التي أنتجت للترف العقلي وألاعيب الذكاء وإزجاء حياة الفارغين الهانئين كما تمر جانيات الشوك وجامعو الأحطاب بالأزهار البرية التي لا توقد ناراً ولا تقيم مأوى!
وينبغي ألا تجعل هوايات المترفين مادياً أو عقلياً مقياساً للأحكام حين نتحدث عن المسائل الكبرى التي تمس إصلاح مجتمع لا تزال أكثر آلامه ناشئة من التفاوت الفاحش مادياً وعقلياً بين طبقتيه العالية والسافلة، المترفة وهي قلة، والمجهودة المنهوكة وهي الكثيرة؛ فإن الإنصاف يقضي أن تكون المقاييس منتزعة من حياة الكثرة التي هي أشد التصاقاً بضروريات العيش، وأرهف إحساساً بمشكلاته، وأعظم تعرضاً لآلامه ونكباته، وأقوى اضطلاعاً بخدماته
ومن هنا أخطأ الأستاذ توفيق الحكيم حين هون من شأن الجهود الأدبية الإصلاحية لما
وازنها بالآثار الفنية الخالصة متخذاً حجته من ضياع كثير من نتاج الأولى وبقاء كثير من الثانية في ذاكرة الزمان، وحين قرر أن الأدب الأوربي لم يبلغ مبلغه العظيم بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، وإنما بفضل قيمته الفنية، وأن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناناً أو أديباً لأنه مصلح، ولكنها قد تحرم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً، وأنه ينبغي للنقاد والمصلحين أن يملوا على الفن اتجاهاً بعينه ولا يجوز لهم أن يوصوه بالحكمة والإصلاح إلا أن يشاء هو ويرضى. لأن الفنان صانع المصلح، ومصلح المصلح. . . وحين قرر مع الأستاذ الكبير العقاد أن اتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية وقرر أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً
إن المصلح هو الذي يمهد للجماعة أن تحيا وتستكمل عناصر نموها وكمالها حتى يكون فيها فنانون وعلماء وقادة وصناع وزراع. . . حتى يكون فيها جذور الحياة وثمارها وأزهارها. . . وعمله هو السابق المهيأ لنضج الملكات الفنية والكفايات الأدبية التي ترد في عهود الجمود والجهالة موارد محدودة ومشارع آسنة. ولا جدال في أن الكفاية الفنية والأديب تتسع وتعمق كلما كثرت أمامها منابع الوحي وجداول الأفكار والأعمال والمشاهد. ومن الذي يهيأ لها هذا كله غير المصلح الذي تستهوي نفسه دائماً حياة النفع العام التهذيب العام والكمال العملي، ويأخذ نفسه من نفوس أمته ويتسع قلبه لمؤثرات الحياة والاجتماع ويدرك أكثر أسرارها؟
وقد يكون الفنان - وهو في الغالب محدود الهواية - يهوى جانباً معيناً من الحياة ويغلبه وجدان واحد يستولي عليه ويصبغ إنتاجه بصبغة واحدة، فلا يستطيع أن يدرك جوانب الحياة الأخرى إلا إذا كان فناناً عبقرياً موسوعياً واسع الثقافة متعدد الأوتار؛ فإنه حينئذ يلتقي بالمصلح بل يكون هو المصلح. . . إذ أن المصلح في واقع الأمر فنان ولو لم ينتج أثاراً فنية. بل هو أعظم من فنان. . . هو (مخرج) يخرج حياة أمته وينسقها وينظم شؤونها ويعرضها عرضاً جميلاً. والمخرج كما يعلم الأستاذ الحكيم أصبح الآن هو الكل في الكل في إبراز الفنون العليا في الحياة الحاضرة. ولولاه لم يستطع الفن أن يغزو الحياة الآن هذا الغزو الشامل، ولم يكن لكثير من الفنانين الفرعيين إلا ذكر ضئيل
المصلح هو رائد (فن الحياة) وهو لا شك أعظم الفنون! لأن الحياة يجب أن (تعاش) أولاً
في طمأنينة وسعادة وعدالة يشعر بها الجميع. ثم يأتي بعد ذلك دور (فلسفتها) التي تحلو للمترفين عقلياً من الفلاسفة والفنانين والأدباء الطلقاء الفارعين
وللمصلح بما له من هذه الوصاية الشاملة أن يقول للفنان: إنك (نشاز) في جوقة أمتك. . . أو هادم لوحدتها، أو خارج على حدود مجتمعها، أو مفسد لمثلها الأعلى، أو مبلبل لخواطرها. وله أن يقترح عليه عملاً بعينه يراه لازماً لكمال الإخراج في حياة أمته، وله أن يقتضيه (الضريبة الأدبية) في مستوى معين ليردها على الفقراء في الإحساس الذاتي بالفن والجمال
إن حياة الاجتماع الإنساني شأن عظيم! بل هي أعظم شؤون الإنسان: فمنها تفجرت ينابيع فكره ولغته وراحته وعلومه وفنونه وصناعاته، ومنها أدرك قوة نفسه بين غمرات القوى العمياء، بل منها أدرك (فرديته) وحريته وحقوقه، ومنها ظهرت تفاعلات نفسه مع جنسه هذا التفاعل الذي أخرج كوامن نفسه وخصائص جنسه. فليس من الحق أن تهدر حقوقها في سبيل حقه ولو كان فناناً. . . وليس من الصحيح أن يقرر أن الإنسان سائر من الاجتماعية إلى الفردية حتى في الفن إلا أن يكون هذا انتكاساً. وليس من الصحيح أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعله حيواناً. وأنه بالتالي كلما كثر الإحساس بالجماعة في جماعة ما، كان هذا دليلاً على أنها أدنى إلى الحياة الحيوان. . . كلا! هذه أحكام لا أدري كيف أرسلها الأستاذ الحكيم؟!
فالواقع أن نسبة الغيرية والإيثار والإحساس بالجماعة وبالجنس البشري كله والتضحية بالنفس في سيبلهما - وهي دعائم الاجتماع - تنمو نمواً عظيماً. وليس من هذه الصفات شئ في جماعات الحيوان إلا في حدود الغريزة الضيقة في الأمومة والأبوة في بعض الحيوانات العليا، ولم تنتج حياة الاجتماع في جماعات الحيوان نتائج تزيد على حاجات هذه الغريزة المحدودة. بينما تنتج حياة الاجتماع في الإنسان نتائج كثيرة جداً جعلت أمام العالم الطبيعي عالماً آخر صناعياً، وجعلت الوعي الاجتماعي في الفرد مبنياً على عقل الفرد وفلسفته لا على غريزته وحدها. إن الجماعة البشرية سائرة من الفردية في الأمة إلى الجمعية الدولية، وبوادر هذا واقعة الآن في هذه الحرب. وبذورها وجدت من قبل في المجموعات السياسية الكبرى. ولا شك أن هذا يستتبع كتباً للنوازع الفردية في كل أمة من
الأمم التي تشترك في هذه المجموعات، ونزولاً عن بعض خصوصياتها وحرياتها وحقوقها التي كانت لها وهي فريدة، كما استتبعت حياة الجماعة في الأمة الواحدة نزول الأفراد عن كثير من حقوقهم وحرياتهم التي كانت لهم قبل حياة الجماعة. فالقانون واحد مطرد: وهو السير من فردية الأسر إلى اجتماعية القبيلة ثم إلى الأمة ثم إلى الإمبراطوريات واتحاد الولايات. ومن هذه إلى جمعية الأمم التي هي أمل العالم
وليس ذلك في السياسة وحدها، فإن ما في السياسة ينتقل إلى الثقافة والفن الذي ثار حوله هذا الجدل. فالآثار الفنية الأولى في الأدب العربي مثلاً لم تكن غير مقطوعات شعرية غنائية هاج بها وجدان قائلها في مناسبات الحب والفراق والفخر والحماسة والمدح والرثاء وغيرها من أغراض الشعر الغنائي، وهو لا شك شعر فردي يستجيب للأحاسيس والوجدانات الخاصة. ثم أخذت هذه المقطوعات تطول وتتسع للأغراض الاجتماعية فتذكر فيها الحروب والوقائع والمفاخر العامة للقبيلة حتى انتهت بالمطولات والمعلقات التي اهتم بها غير قبيلة قائلها من العرب. ثم ابتدأ ذكر الأمة العربية كلها يسطع في الشعر العربي حين وضعها الإسلام وضعاً واحداً أمام الأمم الأخرى التي احتكت بها في النضال والفتوح. أفلا يقال بعد ذلك إن الفردية في الفن العربي كانت تقل نسبتها تبعاً لنمو الوعي الاجتماعي بين العرب؟
(للكلام بقية)
عبد المنعم خلاف
رسائل التعليقات للرصافي
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن أحب إلي من أن أكتب عن الرصافي الشاعر الذي أحبه كما أحب هذه النخبة الكريمة من شعراء العراق الشقيق، لا الرصافي الفيلسوف الذي يدعونا إلى دين جديد!
ولم يكن أحب إلي من أن أترك القلم للصديق الأعز، أخي الدكتور زكي مبارك، لأن القضية قضيته، والموضوع موضوعه، وهو الذي فتح علينا باب هذه الفلسفة الجديدة التي أخذ الرصافي يدعونا إليها من دار السلام
لكن الدكتور زكي مبارك يخاصم الزيات اليوم تلك الخصومة التي لا سبب لها، ويخاصم الرسالة تلك الخصومة التي لا سبب لها كذلك. . . إنه مخاصم الزيات ومخاصم الرسالة لأنهما أطلقا العنان لحرية النشر وحرية الفكر وحرية المجادلة، وأرادا أن يسجلا هذه الصفحة الخالدة من صفحات حرية البحث التي كان الدكتور علماً من أعلامها، بما أثبت في كتبه الكثيرة الجريئة من أفكار وآراء، وهي أفكار وآراء تمس ديننا وتمس لغتنا، بل هي تخوض فيهما خوضاً. . . أفأن رأى أحد مفكرينا من ذوي الغيرة على الدين واللغة أن بعض هذه الآراء قد جار عن القصد، وجاء مالئا يديه بالبرهان وبالدليل، أو بما يؤمن هو أنه البرهان وأنه الدليل، على بطلان ما ذهبنا إليه، غضبنا. . . وتركنا مجادلنا يقول كل شئ، ولا نقول نحن شيئاً؟
إن الدكتور زكي مبارك غاضب لأنه لم يكن ينتظر أن يهاجم في ميدانه الذي هو الرسالة. . . ولقد كنت أغضب مثله حينما أراني أهاجم، بل أتهم، في الرسالة التي أعدها ميداني. . . وكانت حجة الأستاذ صاحب الرسالة أنه كثيراً ما نادى بأن الرسالة:
تعبر بإخلاص عن روح النهضة المصرية
وتجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية
وتصور مظاهر العبقرية للأمة العربية
وأن مجموعة أعدادها ديوان العرب المشترك، وكتاب الشرق الجديد، وسجل الأدب الحديث، ودائرة معارف عامة. . .
وأنه لذلك يؤثر أن تكون الرسالة دائماً سجلاً صادقاً لاحتراب الأفكار في مصر وفي الشرق
العربي بحيث يجد فيها مؤرخو العالم بعد ألف سنة صورة حقيقية لما كان يجري في هذه الأقطار من جدل يدل على الحياة، ونضال يثبت الشخصية. . . وكانت حجة الزيات الأخرى أن الرسالة تناولت بالنقد كل كتابها الأماثل، وأن الدكتور زكي مبارك نفسه كان أحد مغاوير هذا النقد، فلم يكد يسلم من قلمه أحد ممن لهم في تحرير الرسالة الجهاد المشكور. لكن النقد الذي كان الدكتور يشب ناره لم يكن نقداً يمس الدين ويمس العقائد، كهذا النقد الذي وجهه إليه أخيراً أحد الكتاب الأفاضل الغير. والذي كان سبباً في تنكر الدكتور للرسالة ولصاحب الرسالة
ويعد. . . فحسبنا خروجاً على موضوع هذه القضية التي تسبب في إثارتها الدكتور زكي مبارك بكتابيه العظيمين اللذين لم يؤلف مثلهما كثيراً لا في مصر، ولا في الشرق العربي ألا وهما:
1 -
في التصوف الإسلامي
2 -
النثر الفني
ولعلي لا أثير سخط أحد بوصف هذين الكتابين بالعظمة، وبالرغم مما يحملانه من أوجه النقص التي أشار إليها غير واحد من الكتاب والتي وصفتها لأخي الدكتور زكي مبارك أول ما لقيته بالقاهرة في العهد الأخير بأنها - أي أوجه النقص هذه (بقع!) كبيرة كان يحسن بالأستاذ أن يتحاشاها حتى لا تقلل من قيمة كتابيه الجليلين. . . وكان هذا قبل عامين على ما أذكر. على أنه ليس هنا - أو ليس الآن - موضع التحدث عن آيات الخلود في هذين الكتابين. . . لأننا نكتب هذا الكلام بمناسبة ذلك الكتاب المفاجئ الذي وصل إلى مصر من العراق الشقيق، والذي ألفه الشاعر الفاضل معروف الرصافي، وسماه:(رسائل التعليقات)(مطبعة المعارف ببغداد سنة 1944) وجعل ثلثيه في نقد كتابي الدكتور زكي مبارك في التصوف الإسلامي والنثر الفني. . . والعجيب أن الدكتور زكي لم يطلع بعد على الكتاب الذي ألف في نقده، ولو لم أكن مشغولاً بقراءته ومناقشة ما فيه لدفعت إلى صديقي ليسمعنا رأيه فيما رماه به شاعر العراق من تهم أشهد بين يدي الله أنه برئ منها، وإن خانه التعبير فكتب ما يشتم منه هذا الذي أخذه عليه ناقدوه
وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي نعلن أننا نقدس حرية الفكر ما لم ترم إلى شر، وما
لم تكن نتيجتها بلبلة أفكارنا والعصف بمعتقداتنا، وهدم المعايير الأخلاقية الكريمة التي زودنا بها ديننا الذي هو أعز علينا وأكرم من فلاسفة العالم
وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي نعلن أننا نؤمن بالله هذا الإيمان الفطري الساذج الذي قذفه الله في قلوبنا، وأنار به بصائرنا. وأن الله هو خالق تلك الأكوان كلها، فالله شئ والأكوان كلها شئ آخر. وليس الله مجموعة من القوانين الطبيعية كما يقول الفلاسفة. وإيماننا هذا الساذج الفطري هو الذي يصحبنا في تفكيرنا دائماً وهو لسهولته ويسره لا يشغلنا كثيراً، ولا يقذف بنا في تلك المهامه التي تورث الخبال، ولا تثمر إلا الضلالة، وهو لسهولته ويسره يصرفنا إلى ما هو أجدى من أمور هذه الحياة التي يملأها الجد. . . ونحن بهذا الإيمان الساذج الفطري الذي نطيع به الله ونحب به رسوله، والذي ندعو الله أن يزيده في قلوبنا رسوخاً أكثر تمدينا من الذين يرموننا بالجمود، فما أرسل الله رسله إلا لمحاربة الجمود وهداية الناس إلى الحق واليقين
وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي أيضاً، نذكر ما أخذ على الأستاذ من الجرأة في العقيدة، والتحلل مما جاء به النبيون أو تأويله بما يلائم أفكاره، ولا يزال القراء يذكرون هذا الذي نشرته الرسالة عن عقيدته سنة 1935 (8 يوليو العدد 105 - السنة الثالثة) نقلاً عن الأستاذ أمين الريحاني الذي يقول:
(إن للرصافي رأياً في الوحي الشعري غريباً: هو لا يؤمن بالوحي، أو بالحري الوحي المنزل، إنما يعتقد أن القوة الشعرية في الإبداع، تتعلق بقوة الباه في الجماع! وأن الضعف الذي يعتري القوة الواحدة يتصل بالأخرى، إذن لابد من التوازن بينهما. . . بل هو ضروري. . .
(. . . ثم ذكر (أي الرصافي لأمين الريحاني) النبي محمداً وهو في نظر معروف شاعر عظيم. . . على أن أجمل قصائد النبي، أي أجمل السور القرآنية، إنما هي التي جاء بها في عهد الاعتدال الجنسي، يوم لم يكن له غير خديجة زوجاً، أما بعد وفاة خديجة، فقد أصبح محمد مزواجاً، وكانت قصائد - السور - في هذا العهد مثل نسائه، أي دون ما تقدم ومنهن
(فقد كتب الرصافي سيرة النبي محمد، وأطلعني عليها مخطوطة بيده، في سبعة دفاتر من
الدفاتر المدرسية، فما أدهشني منها ما فيها من العلم والتحقيق، لأن مصادر الموضوع متوفرة لمن شاء معالجته، وأحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقم بغير الإيمان والجرأة والصراحة مع الاتكال على العقل والعلم فيهما
(فقد استخدم في سيرته المصباح الذي استخدمه العلماء الأوربيون في نقد التوارة - أي مصباح النقد الأعلى الذي ينير العلم بنور العقل والمقارنات التاريخية. ومما يزيدك إعجاباً بالرصافي أنه لا يحسن لغة أجنبية، فقد ركن في كل ما حلل وأول واستخرج واستنتج إلى اجتهاده الخاص، وإلى علومه الواحدة العربية
(وإنك لتدرك الروح في مصنفه هذا إذا علمت رأيه بالله، فقد قال لي مرة: إن الآية: لا إله إلا الله، لا معنى لها، ويجب أن تبطل، أو تبدل بالآية: لا إله إلا الوجود، أي أن الكون هو الله، هي عقيدة البانيتزم، أي الحلول، وهو فيها على اتفاق والزهاوي. وقد يهمل وينسى كثير من شعر الرصافي في المستقبل، وتظل سيرته النبوية من الكتب التي تقرأ وتكتنز
وقد علقت الرسالة على هذا اللغو تعليقاً كريماً، فذكرت أن حكومة العراق صادرت كتاب الريحاني لمثل هذا الهتر، وأن الرصافي قد يقول شيئاً من هذا الكلام في ساعة لهوه ليطوى في بساط الشراب، لا لينشر على الناس في كتاب. . . الخ)
لقد تعمدنا أن نطيل الاقتباس لأن الرصافي عاد فردد هذه الأراجيف في كتابه الجديد الذي لم يصادر، وينبغي ألا يصادر، فالمصادرة سلاح رث لا يجمل استعماله في هذا العصر الذي يأخذ بحرية الفكر. . . وسترى كيف تبطل هذا اللغو بعد عرض آراء الأستاذ الكبير. . .
(يتبع)
دريني خشبة
من اقتصاديات ما بعد الحرب
مستقبل القطن المصري
للأستاذ زكريا بك حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه
1 -
تأثير السعر على الإنتاج
تأثير السعر في الإنتاج الزراعي - شواهد من الماضي - خطورة انكماش الأسعار - الدعوة إلى تثبيت أسعار السلع الزراعية في الحرب والسلم - مقترحات لتسهيل ذلك - اقتراح إنشاء صندوق للقطن.
مشكلة الإنتاج الزراعي هي مشكلة السعر؛ فكل منها يتأثر بالآخر تأثراً كاملاً دائماً. والخطأ في تدبير مشكلتهما في دولة ما قد يفضي إلى خرابها، ولقد أطاحت هذه المشكلة في إنجلترا قبل الحرب الحالية بثلاثة وزراء للزراعة
وتذبذب قيم واضطراب الأسعار كانا السبب المباشر للتدهور الزراعي الذي مني به العالم بين سنتي 1920، 1940، إذا استثنينا الفترات القصيرة التي تحسن الإنتاج فيها لعوامل عارضة قصيرة الأجل
ومثل تلك الحالة ما وقع بعد الحروب النابوليونية، وما حدث غب الحرب الأمريكية الأهلية (1873 - 1880)
ونصيب مصر من ويلات تدهور الأسعار فيما بين الحربين الماضية والحاضرة كان نصيباً كبيراً. فقد كانت أسعار بعض المحاصيل المصرية لا تفي بنفقات زراعتها، وكان بعضها يظل ملقى في الحقل حتى يدركه التلف ولا يجد من ينقله إلى الأسواق لأن تكاليف النقل كانت - على ضآلتها - تثقل المنتج وتجر عليه خسارة محققة
وما زالت في الأذهان ذكريات قاسية عن التدهور الذي أصاب أسعار القطن في موسم 1931 - 1932 والقمح والذرة في سنة 1932 والبصل في سنة 1937
عاش الفلاح خلال تلك الفترة معيشة ضنكا، وأصبح المار بالقرى لا يكاد يرى الجنيه إلا مع آحاد، بل لقد حدث بعضهم صادقاً أنه إبان اشتداد الأزمة سنة 1931 لم تقع عينه على
أية عملة مدة ثلاثة أشهر
وقد ثقل على الفلاح دفع ضرائب الأطيان، وآدته الديون، فانتزعت منه المصارف والمرابون أطيانه، وبيعت بالمزاد الجبري مواشيه وآنية بيته؛ ولولا صدور تشريعات صيانة الثروة العقارية لوقع أغلب فلاحينا في الإفلاس التام
وكان من جراء ذلك أن ضعفت القوة الشرائية لدى الفلاح وهو الذي يكون 80 في المائة من مجموع الشعب، فكسدت أسواق المطالب الزراعية من آلات وأسمدة وغيرها، وخلت أسواق الملابس والحاجيات البيتية من روادها الفلاحين الذين كانوا يفيضون عليها الحياة. فنضب النشاط التجاري، وتعطلت بالتالي الأيدي العاملة، ومن ثم انتشر الفقر، وفاض القلق والاستياء في النفوس. وتطلع الناس إلى إصلاح النظم الاجتماعية أو تبديلها. وفي غمرة العوز والسخط ود بعضهم لو اشتعلت الحرب لعلها تأتيهم بخير، أو لعلها تكون أرحم بهم ذبحاً، أو لعلها تأكل الناس جملة فيستريحوا.
وحالة انخفاض الأسعار أو انكماشها أو إقامة النقد على قاعدة الذهب تقع غالباً كلما وضعت الحروب أوزارها
فالفلاح إبان الحروب يشتري ما يلزمه من بذور وأسمدة وآلات ووقود بأسعار مرتفعة جداً هي وليدة التضخم النقدي وهو يدفع أجور الأيدي العاملة على هذا الأساس، وإذا اقترض أموالاً فإن فوائدها - على الأرجح - تكون مرتفعة تبعاً للحالة
فإذا دخلت الدول المتحاربة في السلم هبطت أسعار المحاصيل هبوطاً بالغ الشدة حتى لتعجز عن تعوض بعض مصاريف الإنتاج
فلو أن فلاحاً مصرياً اقترض مثلاً في سنة 1944 مبلغ 1200 جنيه لكفاه وقت الاقتراض للوفاء بهذا الدين 150 قنطاراً، ولكن هذا القدر من القطن لن يفي بالدين إذا جاءت السلم، بل قد لا يفي ضعفه؛ وهنالك يعمد الفلاح إلى إنقاص الأجور، ويعمل على خفض قيم الإيجار. يفعل ذلك ابتغاء تفادي الخسارة أو تخفيفها، ولكن عبثاً ما يحاول، إذ يتقرر عندئذ زيادة قيمة العملة إلى ما يوازي ضعف أو ثلاثة أمثال قيمتها في وقت الحرب فيتلاحق التدهور، ويقع الفلاح في أزمات عصبية تهدم كيانه المالي، ولا يجد سبيلاً إلى سداد ديونه التي تكون قيمتها الشرائية قد زادت كثيراً عما كانت عليه وقت الاستدانة
هذه الحالة الخطيرة يجب أشد الوجوب اتقاؤها حتى لا ينخفض مستوى المعيشة بعد الحرب، وتقع في حالة الانكماش التي بسطنا آنفاً مظاهرها السيئة. والذي أعتقده أن لابد لذلك من وضع نظام تثبيت الأسعار للسلع الزراعية في الحرب والسلم على السواء بحيث تكون مجزية للفلاح، أي بحيث تكفل له الربح المعقول، على أن يقترن هذا النظام بحماية الإنتاج الأجنبي أسوة بما يصنع غيرنا من الدول من مثل إنجلترا التي ظلت تحمي صناعة سكر البنجر زمناً غير قصير حتى أمكن وقوف هذه الصناعة على قدميها بلا سند
وبالنسبة للقطن المصري بالذات أقترح أن تضمن الدولة لمنتجه سعراً يحقق له الربح المناسب. ولإمكان ذلك يجب العمل على زيادة الصناعات القطنية، وذلك بتشجيعها وحمايتها من الصناعات القطنية الأجنبية كما ذكرت، مع تخفيف الضرائب عنها تخفيفاً يطرد باطراد الزيادة في الإنتاج، أي مع مراعاة (القلة التصاعدية) في فرض الضرائب
وظاهر أن هذه الحماية ستكفل امتصاص مقدار وفير من قطننا في مصانعنا، ولذلك أثره الأدبي والاجتماعي الباهر في حياتنا. بيد أن الأخذ بهذه المقترحات لا بد له من رأس مال يكفي لتمويل ثلث المحصول على الأقل، فكيف السبيل إلى هذا المال وأبواب الصرف في ميزانيتنا تكاد تلتهم كل ما يجئ من أبواب الإيراد؟
أقترح أن ينشأ لهذا المشروع صندوق خاص يدعى صندوق القطن على نمط صندوق الفرنك الذي أنشئ في فرنسا عام 1928، وتؤدي إلى صندوق القطن هذا كل المبالغ التي تمت إلى هذه السلعة بأية صلة، مثل أموال التأمين الإجباري على القطن، وجملة الرسوم الجمركية على الأقطان المصدرة، وضريبة الأرباح الاستثنائية التي تحصل من المغازل المحلية ومن بيوت التصدير، وفروق أسعار الاستيلاء على البذرة. . . الخ.
وأرى أن تبادر وزارة المالية بإنشاء هذا الصندوق من الآن ورب معترض يقول إن تدبير المال اللازم للأخذ بهذه الفكرة ليس بالأمر الهين، فنجيب هؤلاء بأن لا ضير أبداً من توفية ما يستلزمه الصندوق من مبالغ مهما تكن الوسيلة. ذلك أن الأمر أمر المحصول الأول للبلاد الذي هو عماد الاقتصاد فيها والمال - على غير ما كان يظن الاقتصاديون القدامى - يجب أن يسخر لخدمة المصالح الاقتصادية وليس العكس. وما النقد - كما يعبر - إلا خادم للبشرية وليس سيدها
ومما يفيد كثيراً في حماية الأسعار من الانخفاض اتباع نظام الإنتاج والبيع التعاونيين. وقد أخذت بهذا النظام فعلاً بعض الجمعيات التعاونية فجنت منه ثمرات طيبة
هذا التثبيت لأسعار القطن - لو تم - رواج الفلاحين، ومن ورائهم باقي الأمة، وعندئذ سيجد الفلاح السبل المادية والمعنوية لزيادة إنتاجه من القطن، والمضي في تحسين نوعه، حتى يفي بحاجات الصناعة القطنية الرفيعة ومن ثم تزداد قيمة المحصول فتزداد البلاد خيراً
(2)
تصريف القطن
اقتراح قيام الحكومة بوضع نماذج للقطن المصري - فوائد
وضع هذه النماذج
تدع مصر منذ قديم مهمة تصدير القطن إلى بيوت التصدير التي تتولى الاتصال بالمغازل الأجنبية، وعرض نماذج الأقطان عليها. ولسنا نعدو الحق إذا قلنا إن المنتج المصري قد يغبن كثيراً بسبب الصلات المعنوية والمادية بين هذه البيوت وتلك المغازل، ولاعتبارات أخرى غير خافية
ورأيي أن تقوم الحكومة نفسها بوضع نماذج لكل نوع من أنواع القطن المصري وفق ما تستلزمه حاجات الصناعة، ملاحظةً في ذلك درس الخصائص الإقليمية للمناطق الزراعية المختلفة في مصر ودراسة خصائص قطن كل منطقة من الناحية الصناعية أيضاً، وسيعينها على الدراسة الأخيرة أن في بلادنا الآن مغازل يستطاع بوساطتها تعرف حاجات صناعة الغزل وإجراء مختلف التجارب
وسيفيد وضع هذه النماذج في تحديد القيمة الصناعية للقطن المصري بالضبط، وسيتيح للمنتجين أن يبيعوا أقطانهم بأسعار موحدة لا غبن فيها، وسيرد عليهم هم أنفسهم النفع الذي كان يجنيه الوسطاء، وسيرفع عن القطن المصري الآصار التي كان هؤلاء يضعونها عليه. وفوق هذا فسيجلو للمصانع حالة الأقطان المصرية ويسهل عليها الحصول على حاجاتها المنوعة من مختلف الأقطان، وسيكشف الغطاء عن أسرار طلبات المغازل، تلك الأسرار الخافية إلا على بيوت التصدير الأجنبية
وأرى ألا تسمح الحكومة بإنتاج أصناف من القطن تخالف النماذج التي تضعها، أي أن تمنع إنتاج أي نوع لا يستوفي مطالب المغازل. وتحقيقاً لذلك لا بأس - إذا اقتضت الحال - من قصر الزراعة القطنية عندنا على بيئات معينة.
(البقية في العدد القادم)
زكريا حجاج
الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة)
ألغاز منثورة
لم تسلك الألغاز سبيلها إلى النثر الفني كغرض من أغراضه إلا في عصور الأدب المتأخرة عندما انحط الشعر والنثر جميعاً. فخاض الأول مجارى ضحلة من الأفكار والأخيلة والأساليب، وتهافت إلى معان ضئيلة ليس أدل على مبلغ ضؤولتها من أنهم لم يكونوا يصوغونها في أكثر من أبيات لا تتجاوز في تحديدها (البضع)؛ يضمنونها من متكلف التورية ومستكره الطباق والتجنيس ما قد يكون توفر لديهم في لحظات تفكيرهم الآلي، واعتكافهم الطويل على تصيد الألفاظ من معجماتها. فاقتحم النثر على الشعر حرمه وقد زايلته قداسته، وشاركه سائر فنونه وأغراضه. ولم يبق إلا أن يجوس معه خلال مجاهل الألغاز التي حلا لأكثر الشعراء المتأخرين أن يلتاثوا فيها. . . وهكذا نجد الألغاز المنثورة منحصرة في هذا النوع المريض الدنف. . . المتحامل على سندٍ واه من أغراب لفظ، أو لي تركيب، أو تعمية إعراب، أو تصحيف أو تحريف أو عكس أو قلب أو غير ذلك
ومن أمثلته قول الصاحب بن عباد لأبي العباس الحارث في يوم قيظ: ما يقول الشيخ في قلبه؟ أراد قلب (الشيخ) وهو (خيش)
ومن طريف الألغاز المنثورة قول العماد الكاتب للقاضي الفاضل: (سر فلا كبا بك الفرس) فهذا الكلام إذا قوى معكوساً - بالابتداء من آخر أحرف الفرس - حصلنا منه على العبارة بنصها! ويناظره جواب القاضي الفاضل على دعاء العماد بقوله: (دام علا العماد)
ومن رسالة لفضل الله بن عبد الرحمن بن مكانس ملغزاً في الورد: ما عاطل تتحلى به المجالس، ويتفكه به المجالس، تحمر وجناته من الشرب، وتحمد آثاره في البعد والقرب. . . إن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمراً بالشراب، وإن فعلت كذلك في ثانيه رأيت ما بقى يؤكد المحبة بين الأصحاب. و (وَرّ) إن حذفت آخره كمن ورَّى، وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج (درا). . .
وكتب بدر الدين بن الدماميني من لغز في (روضة): ما قول مولانا أبقاه الله تعالى. . . في دار ينعم بها الجاني، وتطرب في مرابعها الألحان المغنية عن المثالث والمثاني. . . طالما تحركت بها السواكن وهاجت البلابل، ونهر من سأل عنها فاستعذب نهرها السائل. . . إن عرف لفظها كان علماً لمحل لا يطرقه محل، ولا ينكر تأنيثه فحل. يحدث المصري بحلاوته، ويخبر عن لطفه وطلاوته. وإلا فعلم على جملة يعرفها الطالب ويستحسن ارتكاب المهالك لينال ما فيها من المطالب. قد فتحت لأرباب المقاصد أبوابها، ومنحت الأفهام الضالة هديها وصوابها. . . الخ
ونحن لا نطيل بإيراد الأمثلة من هذا الباب وإنما نترك للقارئ أن يطلب المزيد منها - إن شاء الله - في مظانها ومواطن طلبها من مجاميع الأدب المتأخرة. . .
تتمة في الملغزين وبعض تصانيفهم
نختم هذا البحث بذكر بعض من كانت لهم شهرة الاختصاص بالألغاز وسمة البراعة والحذق فيها، دون من ألموا بها غير مكثرين، في أشعارهم أو تصانيفهم، كأكثر الذين أشرنا إليهم. فمن برزوا في هذا الفن: الحسين بن علي المعروف بالنديم قال ياقوت: (كان أديباً كاتباً شاعراً له اليد الطولى في حل الألغاز العويصة)، ومن طريف أمره أنهم وضعوا له أبياتاً على صورة الألغاز ولم يلغزوا فيها - يختبرون بذلك فطنته - فقالوا له:
وما شئ له في الرأس رجلٌ
…
وموضع وجهه منه قفاه
إذا غمَّضت عينك أبصرته
…
وإن فتحت عينك لا تراه
ونظموا له أيضاً:
وجارٍ وهو تيار
…
ضعيف العقل خوار
بلا لحم ولا ريش
…
وهو في الرمز طيار
بطبع بارد جداً
…
ولكن كله نار
فقال عن الأول إنه طيف الخيال وعن الثاني إنه الزئبق؛ وعلل إجابته في ذلك بكلام مقنع!
وبرع في هذا الفن أيضاً محمد بن أحمد الهاشمي الملقب أبي العبر، له فيه طرائف أورد ياقوت كثيراً منها في معجمه وذكر أيضاً عن محمد بن سعيد الموصلي أنه كان (ذكياً فهماً إماماً في استخراج المعمي والعروض)، ووصف ابن عنين الدمشقي بقوله: (لغوي أديب. .
برع في الشعر وحل الألغاز)
وممن اشتهر بالألغاز في مصر تاج الدين محمد بن أحمد الدشنائي (646 - 722). ذكره تلميذه كمال الدين الأدفوى في الطالع السعيد فقال: (كان لشيخنا تاج الدين يدٌ جيدة في نظم الألغاز والأحاجي وحلها) ثم أورد بعض ألغازه شعراً. وتحدث أيضاً عن الشريف فتح الدين علي بن محمد القنائي (المتوفي سنة 708) فقال: (وله يد عليا في حل الألغاز وله فيها نظم كثير. كان شيخنا تاج الدين الدشنائي يكتب إليه بالألغاز ويحلها، وكذلك علم الدين يوسف بن أبي المنا) وذكر عن هذا الأخير - وقد توفى عام 728هـ - أنه كان ذا (معرفة جيدة بحل الألغاز والأحاجي، ونظم فيها أشياء كثيرة) ثم أورد له شيئاً من كلامه
وممن لهم تصانيف في الألغاز أشارت إليها المصادر الأديبة - وإن لم يصلنا أكثرها -: ثابت بن قرة مؤلف رسالة السبب الذي لأجله ألغز الناس في كلامهم؛ وأبو الحسن بن كيسان النحوي صاحب كتاب (المعمى)؛ ومحمد بن أحمد ابن طباطبا صاحب كتاب المدخل في معرفة المعمى من الشعر؛ ومحمد بن أحمد الكاتب المعروف بالمفجع، وله كتاب: الترجمان في الشعر ومعانيه، يشتمل على ثلاثة عشر حداً آخرها حد للغز. وللحسن بن أسد الفارقي كتاب في الألغاز؛ والزمخشري صاحب الكشاف وأساس البلاغة معروف أيضاً بكتابه: الأحاجي النحوية. وقد قام الإمام السخاوي (أبو الحسن علي ابن محمد) بشرح هذا الكتاب. قال السيوطي في بغية الوعاة: وله من التصانيف - يعني السخاوي - شرح أحاجي الزمخشري النحوية، من أجل الكتب في موضوعه، والتزم أن يعقب كل أحجيتين للزمخشري بلغزين من نظمه
إلى هنا نقف الحديث. ونحن لا نحاول أن نستوعب أو تستقصي في مثل هذا المبحث المستفيض؛ وإنما نضع أمام القارئ خلاصة نرجو أن تكون وافية ملمة من الموضوع بأكثر أطرافه. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
560 -
أغذية السوء كالذنوب
أبو القاسم السميسر:
يا آكلا كلَّ ما اشتهاه
…
وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني
…
فانتظر السقم عن قريب
يجتمع الداء كل يوم
…
أغذية السَّوء كالذنوب
561 -
الخليفة يدعو لطبيبه النصراني في عرفات
(عيون الأنباء): قال اسحق بن علي الرهاوي في كتاب (أدب
الطبيب): عن عيسى بن ماسة أن يوحنا بن ماسويه أخبره أن
الرشيد قال لجبرئيل بن بختيشوع وهو حاج بمكة: يا جبرئيل،
علمت مرتبتك عندي؟ قال: يا سيدي، وكيف لا أعلم؟! قال له
دعوت لك (والله) في الموقف دعاء كثيراً. ثم التفت إلى بني
هاشم فقال: عيسى أنكرتم قولي له، فقالوا: يا سيدنا، ذمى،
فقال: نعم، ولكن صلاح بدني وقوامه، وصلاح المسلمين بي.
فصلاحهم بصلاحه وبقائه. فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين
562 -
وما ننفض من حولك
كان أحمد بن أبي خالد وزير المأمون فاضلاً مدبراً جواداً ذا رأي وفطنة، إلا أنه كانت أخلاقه سيئة
قال له رجل يوماً: والله لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله
فقال: والله لئن لم تخرج مما قلت لأعاقبنك
قال: قال الله تعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك)
وأنت فظ غليظ القلب، وما ننفض من حولك
563 -
فيم اقتحامك؟ - أريد بسطة كف
دخل الشيخ عبد الرزاق الشيبي على الحسن بن أبي نمي شريف مكة يستأذنه في السفر وركوب البحر، فأنشده الشريف قول الطغرائي:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه
…
وأنت تكفيك منه مَصّة الوشل؟
فأنشده الشيخ على البديهة من القصيدة:
أريد بسطة كف أستعين بها
…
على قضاء حقوق للعلي قبلي
فأمر له الشريف بقضاء دينه، وأمر له بألف أحمر، وترك الشيخ السفر
564 -
مشيت في مكرمة
في (تاريخ بغداد) بينا أبو السائب المخزومي (عبد الله ابن السائب) في داره سمع رجلاً يتغنى بهذه الأبيات:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
…
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
حسبي بأن تعلمي أن قد أحبكم
…
قلبي وأن تجدي بعض الذي أجد
ألقيت بيني وبين الحب معرفة
…
فليس تنفد حتى ينفد الأبد
وليس لي مسعد فامنن على به
…
فقد بليت وقد أضناني الكمد
فخرج أبو السائب من داره يسعى خلفه، فقال له: قف، أنا مسعدك، إلى أين تريد؟ قال: إلى خيام الشعف من وادي العرج، فأصابتهما سماء شديدة فجعل أبو السائب يقرأ:(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)
ثم رجع إلى منزله وقد كادت نفسه تتلف، فدخل عليه أصحابه وإخوانه فقالوا له: يا أبا السائب، ما الذي تصنع بنفسك؟ قال: إليكم عني، فإني مشيت في مكرمة، وأحييت مسلما، والمحسن معان. . .
جمال وشوك
(إلى أخي الصابر الراضي الأستاذ محمد سعيد العريان)
للأستاذ محمود الخفيف
ياَ حُسْنَها تُعْجِبُ مَنْ ينظُرُ
…
صَبَّارَةٌ يا طُولَ ما تَصْبِرُ!
ظَامِي الْحَصَى مَنْبِتهُا مُقْفِرُ
…
لَا نَبْعَ يُرْجَى حَوْلهَا أو يُرَى
إلا لَمِاماً عَارِضٌ مُمْطِرُ
لولَاهُ ما إِنْ عَرَفَتْ مَوْرِدا
…
قَدْ حُرِمَتْ في القَفْرِ حتَّى النَّدَى
عَزِيزةٌ تحْيا بِرَغْم الصُّدى
…
كَمْ أَشْبَهَتُ في عَيْشِها حُرَّةً
العارُ تَأْبَاهُ وَتَرْضى الرَّدى
مُحْصَنَةٌ ما داعَبَتْها الرِّياحْ
…
ولَا ثَوَى في فَرْعِها ذو جَنَاحْ
لها مِن الشَّوْكِ رهيبُ السِّلَاحْ
…
كأنما العِفّةُ لم تَكْفِها
فاتّخَذَتْ أُهْبَتَها للِكفِاَحْ!
واعَجَباَ! أَغْصاَنُهاَ كالنِّصاَلْ
…
لَكنما رَفَّ عَلَيْهاَ الجَماَلْ
ما شاَبَ هذا الحُسْنَ قَطُّ ابِتذَالْ
…
فَماَ تَراهاَ العَيْنُ مَيَّاسَةَ
تَأَوَّدَتْ في نَزَقٍ أو دَلَالْ
وحِيدَةٌ أَفْرَدَهاَ الموْلِدُ
…
يَتِمَةٌ ماَ هَدْهَدَتْهاَ يَدُ
بالْيُتْمِ لَا تَشْقَى ولَا تَسْعَدُ
…
ماَ عَرَفَتْ في قَفْرِها راعِيًا
أَو أَسْخَطَتْها عِيشَةٌ أَرْغَدُ
نَعْماَؤُها أَنْ تَجهَلَ الأَنْعُماَ
…
وغايَةُ الشِّقَوةِ أَنْ تَعْلَماَ
مَنْ عَيْشُهُ الحِرْمَانُ لَنْ يُحْرَما
…
ومَنْ يَعُبُّ الماَء في وفْرَةٍ
كانَ حَرِيَّا أَنْ يُحِسَّ الظما
وحْشيّةٌ ما اتخَذَتْ مِن حُلىً
…
إلا التي تَنْسِبُها للِعُلى
ياَ رُبَّ حُسْنٍ إذ يُرَى عاطِلا
…
أَصالةُ السِّحْرِ به أَبْرَزَتْ
جَمَالَهُ فَهْوَ يُرَى أَجْمَلَا
في غَيْرِهاَ إِنْ رَفَّ خُلْوُ الزَّهَرْ
…
أَو لَاحَ لِلْعًيْنِ شَهِىُّ الثّمَرْ
أَذْهَلَ هَذَا عَنْ سِوَاهً البَصَرْ
…
كم زينةٍ في العَيْنِ بَرّاقةٍ
زاغَتْ بها الأبصارُ عَمَّا استَتَرْ
صَبَّارَتي شَقّتْ عَلَيكِ الحياة
…
لَكِنّما جُنِّبْتِ أَيدِي الجُناةْ
في وحْشَةِ البِيدِ أَطيلي الصَّلَاة
…
زاهِدَةَ الصَّحْرَاءِ لا تحْزَني
ياَ رُبَّ بُؤْسٍ كان فيه النَّجاةْ
يا شَوْكةَ الصَّحْراءِ لَنْ تَعْدِمي
…
رِعايةً مِنْ رَبِّكِ الأكْرَمِ
في كَنَفِ البارِيْ لَمْ تَيْتَمِي
…
الخالقُ الرزَّاقُ لوذي بهِ
في عُزْلَةِ الصحراء واسْتَعْصِمِي
كم رَاعَني فِيكِ صَريمُ الإبَاءْ
…
وتُضْرَةُ العوِد برَغْمِ الشَّقَاءْ
وبَسْمَةٌ فيها الرِّضا والرَّجاءْ
…
وَرَوعةُ الحُسْنِ وزَهْوُ الصبَاَ
والطُّهْرُ والعِصْمَةُ والكبرياءْ
صَوَّرْتِ ياَ صَبَّارَتي الناضرةْ
…
إِنسِيَّةً كالظبْيَة النَّافِرة
قاَسِيَةٌ شَوْكاتُها زاجِرَه
…
رَيَّانةَ العًودِ عَلَى بُؤْسها
ضاحكةً رائعةً ساحِرَه
في نَشْوَةِ المُبْتَهل الزاهد
…
وفي خُشُوع الرَّاكعِ السَّاجِدِ
جَلَسْتُ في الصَّحرْاءِ كالعابد
…
أَرنو إلى زاهِدَةٍ سبّحَتْ
لله في محرابه الخالد
يا حُسْنهَاَ كم تُعْجِبُ الناظرين
…
صَبَّارَةٌ: لَفْظٌ ومعنى مبين
ذكّرْتِ يا عصماءُ قلبي اليقين
…
ما أًنتِ يا صَبَّارَتي صُورَةٌ
أَنتِ خَيَالُ الصَّبْر للموقنين
البريد الأدبي
على هامش الشعر الجديد
اطلعت في (568) من الرسالة على كلمة للأستاذ الفاضل حبيب الزحلاوي، يعلق بها على قصيدة للدكتور بشر فارس، نشرت في مقتطف مايو. قال الأستاذ:(قرأت القصيدة ثم قرأتها مرات، ثم أعدت قراءتها في أوقات متفاوتة. وكنت عقب كل قراءة، أعود بالخيبة من عدم الفهم؟!. . .). ثم قال إنه يشرك قراء الرسالة معه في قراءة هذه القصيدة، ويتعهد بجائزة مالية. . . ولا يستثنى قراء العربية في سوريا ولبنان وفلسطين والحجاز والعراق. . . الخ.
ولقد طمعت في الجائزة، فأكببت على القصيدة، ممعناً فيها، مقلباً فيها النظر ساعات بعد عاسات؛ فكنت أبوء بالخيبة بعد كل محاولة. ولا غرو أن تنبو العقول عن مثل هذا التخليط والعبث!
ثم إني قلبت صفحات العدد نفسه من الرسالة، فإذا أنا أمام قصيدة عنوانها:(من خريف الربيع) - وما أكثر أمثالها! - فتلوتها، ثم تلوتها، ثم تلوتها، فوجدتني أكاد أكون في مثل موقف الأستاذ الزحلاوي من قصيدة بشر فارس فقلت: فألجأ أنا أيضاً إلى قراء العربية فأستعين بهم؟
فليتفضل منهم متفضل، فيشرح لي هذه القصيدة شرحاً تلتئم به أجزاؤها، وتتجمع أوصالها، وتتكشف به غرائب مجازاتها، وعجائب استعاراتها، وبدائع أسرارها؛ حتى تعود كوناً متماسكا ذا قوام.
إني إلى هذا لشديد العطش.
(ا. ع)
جائزة الزحلاوي
رصد الأستاذ الزحلاوي جائزة مقدارها خمسة جنيهات مصرية لمن يفسر له قصيدة كان الدكتور بشر فارس قد نشرها في المقتطف، وقد أغرتني قيمة الجائزة ودفعتني إلى محاولة تفسير القصيدة لأنال جنيهات الزحلاوي، والحق أنني وقفت أمام القصيدة طويلاً وما
استطعت - علم الله - أن أظفر منها بمعنى مفهوم أو خاطر واضح. القصيدة كلام يوهم أنه ذو معان فلسفية عميقة، وليس بها معان على الإطلاق، إلا ما كان من المعاني الفردية للكلمات
(القاهرة)
مصطفى علي عبد الرحمن
(الشعر الجديد) لا (شعر الشباب)
معاذ الله أن يكون الشباب هدفاً مقصوداً في هذه المعركة، وإنما هو الشعر الجديد شباباً كان قائلوه أو شيباً. وما علاقة العمر بقديم الشعر وجديده؟ وهل اخترم طرفة وأبو تمام إلا وشبابهما في عنفوانه؟
ولو أنك رجعت إلى كلمات الأستاذ الكبير (ا. ع) في هذا الموضوع لوجدت عنوانها (الشعر الجديد)، وكذلك عنوان مقالي في العددين 568 و569 من الرسالة
نعم إن الأستاذ الكبير قال في إحدى كلماته: (ولكنهم كلهم - أو جلهم - أحداث أو أشباه أحداث). ولكنك لو تدبرت هذه العبارة لم تجد فيها ما يفهم أن شعراء الشباب كلهم - أو جلهم - مجددون، وأسارع إلى الاحتراس فأقول:(على النحو الذي فصله الأستاذ في كلماته عن مذهبهم في التجديد)، ثم إن الأستاذ يقول أيضاً:(وهل في كلامي ما يشير أو يدل على أني أجحد شعراء الشباب عامة؟ لا يا سيدي. إني حكمت على فئة كبيرة تسنى لها بعوامل مختلفة أن تنشر شعرها بين ظهرانينا. وهو شعر هزيل في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه؛ فليس معنى هذا ألا يكون من بين شعر هؤلاء الشباب ما يستجاد أو يستملح. . . الخ.)
إذن فمن الذي أقحم لفظ (الشباب) في هذه الأحاديث؟ إنهم أنصار الشباب أنفسهم، فهم الذين كتبوا (شعراء الشباب والأستاذ الجليل) و (حول شعراء الشباب) و (شعراء الشباب) و (لقد ظلموا شعراء الشباب) و (حول شعراء الشباب) و (حول شعر الشباب). وغير ذلك
لسنا ننكر أن أكثر النظامين لهذا الشعر الجديد من شباب الشعراء، ولكننا لا ننكر أيضاً أن من الشباب من لم يفتنهم هذا التجديد المزعوم، بل إن من هؤلاء المجددين أنفسهم من ينزع عنه - طوعاً أو سهواً - في بعض الأحيان ثوب التجديد الخادع، وحينئذ ترى من شعره ما يروقك ويعجبك. وهذا هو الذي أشرنا إليه في حديثنا عن بعض مواضع الحسن في قصيدة الشاعر علي شرف الدين، وإذن فليس للأستاذ البشبييشي على حجة إذ يقول:(. . . إذا أخطئهم النسج القوى وصفتم شعرهم بالسخف والفتور؛ وإذا راعكم منهم البيان الجزل قلتم: هذا من الشعر القديم)
ومن العجيب أن أنصار هذا الشعر يقحمون في ثبت شعرائه أسماء لا تمت إلى جديدهم بصلة، بل إننا لنقرأ شعرهم فنستعذ به ونستملحه كما نستعذب ونستملح شعر المجيدين من القدماء
أما الغموض الذي أخالف فيه أستاذي، وأما (معنى التجديد) الذي يتساءل عنه ولده الأديب (حسين) فحقهما التفصيل في بحث قريب إن شاء الله
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
اللهجة المصرية وصلتها باللهجات المغربية
بين اللهجات المغربية واللهجة المصرية وجوه شبه في أصوات الحروف، فالثاء في الأولى تبدل تاء كما يبدلها المصريون في ثلج وثوب وثوم وثور وكثير. ومثلها الذال إذ يحول إلى دال مهملة في نحو الذهب ويذوب ويذوق. كذلك الظاء فإنها، تنقلب إلى ضاد كما في نطق المصريين الظهر وظفر ونظيف
وبعض القبائل العربية في المغرب تتلفظ بالقاف على النحو المعروف في صعيد مصر، وقد تمكن هذا النطق في اللهجات المحلية الأخرى حتى تأصل فيها
وكما أن معظم المصريين يبدلون القاف همزة، فكذلك يصنع سكان المدن المغربية مع تفاوت في الصوت، أي الترقيق والتفخيم
والجيم المصرية لها أيضاً نصيب من الانتشار في الأقاليم المغربية؛ إلا أن دائرة انتشارها محدودة لا تتعدى بضع مفردات من جملتها: يجازي ويجوز وجوز وجزار. وأصل هذا النطق يمنى يحتمل أن يكون قد انتقل إلى مصر عن طريق الخزرج الذين وفدوا إليها من المدينة يؤيد هذا ما رواه ابن دريد من أن اليمنيين يقولون للرجل ركل وللجمل كمل
أما كيفية انتقال طريقتهم في النطق إلى المغرب فهي أن فريقاً منهم استوطن مدينة سرقسطة بعد فتح الأندلس ثم توالت هجراتهم إلى عدوة المغرب حيث خلفوا أثرهم إلى اليوم
والملحوظ في لغة المصريين أنهم يقدمون حرفاً ويؤخرون حرفاً في قليل من الكلمات، كما في يفحر ويجوز وأنارب واتغاظ، فأصلها يحفر ويزوج وأرانب واغتاظ، ومثلهم تصنع فئة من المغاربة في السجادة وبلهاء ودجاج؛ يقولون: السداجة وبهلاء وجداد
وفي الأحاجي الشائعة بين القبائل في جبال أوراس غربي الجزائر ذكر لمصر والنيل مثل
ما جاء في أحجية المرارة:
سجرتنا سجرة النيل ونابتة في هواها،
لا سطحها الريح ولا شربت ماءها
وأحجية الخرشوف:
على سجرتنا سجرة النيل نابتة في هواها
أولادها ستة وستين يرضعوا في قناها
وأحجية المطمورة:
بغلتنا مصرية (أي كبيرة) ترفد مائة صاع (حمل) بلا حوية (بردعة)
على أن اللهجة المصرية لم تخل من تأثير مغربي فيها، فأهل الإسكندرية يضيفون النون إلى أول الفعل في حالة المفرد المتكلم، فيقولون:(نسافر) بدلاً من أسافر؛ ثم يتبعون الفعل بالواو إذا تحدثوا عن أنفسهم، فيقولون (إحنا بنسافرو)
وهذا النهج في التعبير من خصائص اللهجة المغربية والأندلسية، لعل المهاجرين من أهل الربض في عهد الحكم أو الفاطميين من بعدهم حملوها معهم. ومن هذا القبيل لفظتا (الكسكسي) و (البلغة) فإن لهما شهرة في المجتمع المصري غنية عن التعريف.
أحمد مدينة
ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول