الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 571
- بتاريخ: 12 - 06 - 1944
السطحيون أو الكتعاء
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني في البريد مقال مطول قال مرسله إنه نشره في بعض المجلات نقداً لكتابي عن عمرو بن العاص في سلسلة أعلام الإسلام
وخلاصة المقال بعد كلمات لا تقدم ولا تؤخر أن مؤلف عمرو بن العاص (غلب على العرض عنده أسلوب الصحافة، والاكتفاء بالاسترسال دون التحري والتحقيق، وأن مراجعه محدودة، وأن بعض أحكامه يعوزها التحري، وأن السطحية وقلة العناية بالتحقيق تبدو في مواضع غير قليلة من الكتاب) إلى آخر هذه التهم التي تتردد بتوكيد ليس بعده توكيد وثقة ليس من ورائها ثقة، واطمئنان يفوق كل اطمئنان
ولغير دليل يقال هذا كله اللهم إلا الأدلة التي من قبيل قول هذا العميق الكثير المراجع حيث يقول: (يرى القارئ الاختصاصي في تاريخ الإسلام أن المؤلف أخطأه التوفيق في مواقع، وأن مراجعه محدودة، وأن بعض أحكامه يعوزها التحري. مثال ذلك ما كتبه في تردد عمر بن الخطاب في تسيير عمر ولفتح مصر، فقد زعم المؤلف أن عمر لا يرى داعية للحرب إلا درءاً لخطر أو قصاصاً من عدوان، وهذا غير صحيح. فليس معروفاً أن فتوحات العرب كانت للدفاع أو للانتقام فقط. وإلا فأين الجهاد لإعلاء كلمة الله؟ وأين الأسباب الاقتصادية البحتة التي تتجلى في بعض ما كتبه المؤرخون العرب؟ ففي فتوح البلدان للبلاذري قالوا لما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيه الجيوش إلى الشام فكتب إلى مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستفزهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم فسارع الناس إليه من بين محتسب وطامع وأتوا المدينة من كل أوب. . .)
فالعلامة العميق، الكثير المراجع، قد حسب أنه وقع على المراجع التي لم يقع أحد عليها لأنه قرأ في فتوح البلدان ذلك الكلام، وقد حسب أن أحداً من الناس لا يعلم أن أبا بكر استنفر المسلمين للجهاد بغير هذا المرجع الفريد الوحيد البعيد عن كل قارئ مستفيد
ونحن أيضاً قد فاتنا هذا كما فات كل قارئ مستفيد
فاتنا أن نعلم أن أبا بكر استنفر المسلمين للجهاد ونحن نؤلف كتاباً في تاريخ محمد عليه
السلام، وكتاباً في تاريخ الصديق، وكتاباً في تاريخ عمر، وكتاباً في تاريخ علي بن أبي طالب، وكتباً أخرى في تاريخ صدر الإسلام. فلم يفتح الله علينا بكتاب واحد في أثناء ذلك كله يقول لنا إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قد استنفر المسلمين للجهاد. . . ولهذا نحن سطحيون قليلو المراجع. . . وحضرة الناقد بفتوح بلدانه وحدها عميق يعلم ما لا يعلم إلا بالجهد الجهيد
حضرة الناقد العميق إذن مسئول، وله الفضل والكرامة، أن يدلنا على كتاب واحد - واحد فقط - تلقيناه عن تاريخ صدر الإسلام ولم يذكر هذا الذي ذكره واستدل به على كثرة مراجعه وقلة مراجعنا. . . نحن المساكين السطحيين
نعم كتاب واحد لم يذكر هذا الذي ظنه كنزاً مخفياً لا يعثر به العاثرون إلا بعد فك الأرصاد وإطلاق البخور والتنقيب في كل رف مسحور وكل سرداب مطمور
وما قول صاحبنا بعد هذا في رسائل الصديق نفسها وهي تدل على مكان الغنائم من ترغيب المسلمين في الجهاد؟
قال في رسالة (سارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه، ولتحسن نيتكم فيه، فإنكم إلى إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة)
ولكنه قال في رسالة أخرى: (فاستتموا موعد الله إياكم، وأطيعوه فيما فرض عليكم، وإن عظمت فيه المثوبة، واشتدت فيه الرزية، وبعدت فيه الشقة، وفجعتم في ذلك بالأموال والأنفس، فإن ذلك يسير في عظيم ثواب الله!)
فهي أسباب اقتصادية بديعة تلك التي نتقدم عليها الفجيعة في الأنفس والأموال وتعظم فيها المثوبة وتثقل الرزايا!
وأيا كان غرض الجهاد مع هذا فليس الأمر موضع شك في فريضة الجهاد على المسلمين، وليس في السامعين باسم الإسلام من يجهل أن الجهاد مفروض على المسلم في حالة من الأحوال، بل المبالغة التي أربت على كل مبالغة في حديث الأقوام عن الإسلام أنه دين السيف كما يقولون
إنما المسألة هي موضع الجهاد لا وجوب الجهاد في بعض الأحوال، والذي ننكره كل الإنكار أن المسلمين يقاتلون لغير ضرورة ويحملون السيف في غير موضع السيف، ولسنا
نحيل صاحبنا العميق إلى مراجع الرف المسحور أو السرداب المطمور، ولا إلى ما كتبناه في وصف عمر أو وصف الصديق، ولسنا نكلفه شيئاً أكثر من فهمه للكتاب الذي ينقده بل للفصل الذي يشير إليه، بل لأول جملة فيه، حيث نقول:(كان الصدام بين العرب والدولة الرومانية قضاء موعوداً منذ اللحظة التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية وكتب لها البقاء. لأن الإسلام رسالة تتجه إلى أسماع الناس وقلوبهم، والدولة الرومانية سلطان قائم يحول بين رسالته وبين الأسماع والقلوب، فلا مناص من التقائهما يوماً من الأيام، على سلام أو على خصام، وهما إذا التقيا على خصام أو على سلام دخل الإسلام مصر مدافعاً أو غير مدافع، ويفتح الإسلام مصر على كلتا الحالتين: فتح رضوان أو فتح تسليم)!
فنحن إذن يا شاطر يا عميق! لسنا بسطحيين إلى هذه الدرجة، وفتوح بلدانك يا شاطر يا عميق ليست بالمرجع الذي نحتاج إليه أو يحتاج إليه أحد ليعلم ما يعلمه جميع المنصفين إلا أمثالك من العمقاء الكثيري المراجع!! وهو أن الجهاد واجب إذا اضطر إليه المسلمون، وليس بواجب ولم يجب قط في غير هذه الحال
وهل نحن سطحيون قليلو المراجع لهذا دون غيره أيها القراء؟
معاذ الجهل والجهلاء والكتاعة والكتعاء
بل نحن سطحيون قليلو المراجع لأن العميق صاحب المراجع الكثيرة يقول عنا: (فترى مثلاً أن المؤلف يصحح أرطبون إلى أريطون. . . والظاهر أن المؤلف يتأثر هنا بتلر في كتابه فتح العرب لمصر، والصواب أطربون كما فطن إلى ذلك دي جويه في تعليقاته على الطبعة الأوربية لتاريخ الطبري، والواضح أن كلمة أطربون تعريب اللاتينية وهي رتبة من رتب القيادة الرفيعة عند الروم)
فواضح بالله كيف؟
وصواب يا أخانا بأي دليل؟
هكذا (وبس). . . واضح وصواب!! ونحن غلطانون (وبس) لأننا اعتمدنا على بتلر وأنت لم تعتمد على شيء؟
أما نحن فنعترف أننا عولنا كثيراً على بتلر في كتابه فتح مصر، ونقرر أننا لم نعرف في تاريخ هذه الفترة من هو أولى منه بالتعويل عليه، ونحيل صاحب المراجع إلى الهامش
الذي فيه أن أبا المحاسن ذكر الاسم الصحيح وهو أريطيون
فعلام يعول صاحب المراجع الكثيرة في الجزم بتخطئة بتلر وضبط الاسم على أرطبون دون أريطيون؟
أيكفي أن تكون في الدولة الرومانية وظيفة يقال لصاحبها (تريبوناس) ليكون واضحاً وصواباً أن حاكم بيت المقدس اسمه أرطبون؟
إن كان هذا كافياً فلله در المتهكم الساخر الذي قال إن شيكسبير من أصل عربي أندلسي هاجر إلى الجزيرة البريطانية وأصل اسمه الشيخ زبير فصحفت إلى شيكسبير!
ولم يكون واضحاً وصواباً بالله؟ الشيخ زبير اسم من أسماء العرب، والمسلمون قد هجروا الأندلس إلى كل مكان، والإنجليز يبدلون الكاف بالخاء في كثير من الأسماء. فما أقرب التصحيف بعد هذا من شكسبير إلى الشيخ زبير رحمه الله؟
أما نحن فما كنا متهكمين ساخرين لأن الله خلقنا سطحيين غير محققين، ولهذا رفضنا تصحيف (تريبوناس) إلى أرطبون وعللنا ذلك بأسباب تليق بالسطحيين المتعجلين
(أول) هذه الأسباب أنه على كثرة التصحيف في نقل الألفاظ الأعجمية لا نزال نرى أن المسافة بعيدة بين أرطبون وتريبوناس
و (ثاني) هذه الأسباب أننا نريد أن نعرف لماذا لم تصحف ألقاب أخرى مع أن اللغة اللاتينية زاخرة بالألقاب ولقب التريبوناس يطلق على غير واحد من الناس
و (ثالث) هذه الأسباب - وهو أسخفها وأضعفها - في نظر السطحيين المتعجلين أن وظيفة التريبوناس كانت ملغاة إلغاء باتاً منذ قرون في نظم الدولة الرومانية على عهد قسطنطين
و (رابع) هذه الأسباب - وهو أسخف وأضعف - أن الذي يجزم بهذا اللقب عليه أن يذكر اسم صاحبه الأصيل وأن يثبت وجود الوظيفة واللقب في ذلك الحين
كل خذا أخذنا به لأننا سطحيون قليلو المراجع، ولو كنا عمقاء كثيري المراجع كصاحبنا لما حفلنا بشيء من هذه الأشياء ولكان حسبنا أن يقول (صواب وواضح) بغير عناء
ولا تنتهي سطحيتنا نحن السطحيين المساكين عند هذا الذي قدمناه أيها القراء
كلا. نحن سطحيون جداً والعياذ بالله. نحن من السطحية نكاد نتجاوز سطح الأرض إلى أجواز السماء
نحن سطحيون جداً، لأننا بالغنا في إجمال الكلام على حريق مكتبة الإسكندرية، (فجاء عرضنا للمسألة مبتورا لا يغنى كثيراً، والمسألة خطيرة الشأن ووثيقة الصلة بسيرة عمرو)
أي والله معشر القراء!
إن مسألة المكتبة وثيقة الصلة بسيرة عمرو بن العاص!. . . عمرو بن العاص الذي لا يعدو في هذه المسألة أن يكون على حال من حالين: إما أن المكتبة لم تحرق وحينئذ لا صلة على الإطلاق، وإما أنها أحرقت بأمر الخليفة وحينئذ لا صلة له بها على الإطلاق غير صلة التنفيذ والطاعة، وليس هنا إذن موضع الإطالة في هذا الموضوع
فهمنا هذا لأننا سطحيون متعجلون، فأطلنا القول على حريق المكتبة في (عبقرية عمر) وشغلنا به بضع عشرة صفحة من ذلك الكتاب. ولم نر أن نعيد هذه كله في موجز عن تاريخ ابن العاص الذي لا يقال عنه هنا إلا إنه أمر فأطاع، إن كان قد أمر بشيء وهو لم يؤمر قط بشيء!
سطحيون يا معشر القراء
سطحيون متعجلون، فماذا يصنع معنا أولئك العمقاء المتريثون، الذي يقرئون فتوح البلدان وما شاء الله كان!
وإن السطحيين المتعجلين أيها القراء لا تحتمل منهم إطالة أكثر من هذه الإطالة في مساجلة العمقاء المتريثين. . . فكفاية هذا. . . ولا حاجة إلى مزيد من السطحية وقلة المراجع وكثرة المعاذير!
عباس محمود العقاد
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
2 -
الفن والإصلاح
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لا يجوز لنا ونحن في أول عهد النهضة الذي مر بمثله الغربيون قبلنا بما يقرب من خمسمائة سنة تقريباً أن نرجو من أدبنا الحالي أن يرمي إلى القيمة الفنية والمزايا الأدبية وحدها كما يرمي إليها الأدب الأوروبي الحاضر. لأن الأدب الأوروبي ثمرة عوامل اجتماعية وأدبية وسياسية عدة هي التي عملت فيه وكونته وأنضجته وجعلته أقرب إلى الكمال
وإن الغلطة التي نرتكبها ونكررها في مجالات السياسة والأدب والاقتصاد هي أننا دائماً ننسى الفارق التاريخي العظيم بيننا وبين الأوروبيين، ونحاول أن نطبق على بيئتنا القاصرة المتخلفة مقاييس الحياة الأوروبية الحاضرة غروراً منا بالمدينة الصناعية الآلية التي أمكننا نقل كثير من مظاهرها إلى حياتنا في السنوات الخمسين الماضية وغفلةً منا عن أن نقل المكان دائماً من حضارة لأخرى أسهل وأسرع من نقل السكان؛ لأن نقل السكان يستلزم المرور بدرجات من النضج العصبي والثقافي والسياسي والأدبي لا يمكن أن يتحقق إلا في أطوار وأدوار تاريخية، وبخاصة إذا كان الانتقال لم يتخذ طريق الطفرة والثورة وإنما اتخذ طريق النضج البطيء على نار هادئة كثيراً ما يطفئها أعداء الإصلاح فترة، ويعوق عملها الاستعمار والوصايات السياسية الجائرة
فيحسن بنا أن نطرح جانباً الآن قصة الموازنة بين أدبنا الحالي وأدب الغربيين الحالي فإنها موازنة مثبطة
فما كان الأدب الأوروبي الحاضر ليبلغ مبلغه من الازدهار والقيمة الفنية والمزايا الأدبية لو لم تسبقه تلك الحركات الإصلاحية والثورات. وهي ثورات وحركات ساهم فيها أدباء النهضة بجهود عظيمة. وما كان يمكن أن يصل الأدب الأوروبي بمعناه الموسوعي ولا بمعناه الفني الضيق إلى ما وصل إليه الآن لو لم تقم حركات تحطيم قيود الجهالة والجمود فتحطم الأغلال عن العقل الأوروبي
فإذا نادى الأستاذ أحمد أمين بك أن يكون بجوار أدبنا الفردي والفني الخالص أدب
اجتماعي يعرض مشكلات حياتنا ويصور أمانينا ورغباتنا في الإصلاح، ويوقظ أفكارنا الراقدة ويثيرها إلى مطالب المجد والشرف والصلاح والحرية، فلن يكون في طلبه هذا اعتداء من النقد على الفن ولا تقييد له ولا حمل له على السير في طريق آداب الأمم الديكتاتورية الحالية، وإنما هو طلب معتدل لا يرضي الغلاة من محبي الإصلاح السريع الذين قد يرون من الواجب في حياة أمة مثل أمتنا لم تحقق جميع ضروريات حياتها الاجتماعية والسياسية ولم تتحرر تحرراً كلياً من وصايات جائرة أن يكون معظم أدبها وفنها موجهاً وموحياً بالكفاح في سبيل حريتها، وتصحيح أوضاعها الأساسية في السياسة والاقتصاد والأخلاق، وأن يرسم لذلك المنهج الذي يصح أن يكون في هذا الدور، فإن الجهاد للأحياء الأشقياء العبيد الذين لم يدركوا بعد حقوق الحياة ومبادئها الأولية أولى من الجهاد للفن الخالص على ما فيه من لذة وانطلاق وفلسفة وشعر وترف
إننا نكون أناساً غير طبيعيين حين نفرط في الاستمساك بحقوق الحياة والحرية ونتهاون فيها، ثم نأبى إلا الاستمساك بحقوق الفن في حريته وانطلاقه.
نكون كالفرنسيين الذين جنت عبادتهم للفن وآثاره على كرامتهم السياسية والقومية حين أخذهم الذعر على مدينتهم باريس، فسلموا للألمان حين وصلوها إبقاء على ما فيها من مخلفات الفن وآثاره. وكلما وازنت بين صنيعهم هذا وصنيع الإنجليز بتعريض لندن لجماعات الطير الألمانية تفجؤها بالهدم صباح مساء في أسلوب جديد من الحرب المطلقة المجنونة التي لا عهد للناس بها، فلم يبالوا بما أصاب كنوزها الفنية وآثارها التليدة والطارفة من الهدم والحرق في سبيل إنقاذ حريتهم وكرامتهم وشرفهم القومي، وفي سبيل سلامة الروح من التعبد لغير الحرية والتغذية - أقول كلما وازنت بين صنيع هؤلاء وهؤلاء أدركت الفرق العظيم بين روح الأمتين. وبين العقلية الأنجلوسكسونية واللاتينية على العموم
فالعقلية الأول عقلية أحسنت التلقي عن الطبيعة في تقويم الحقائق والأشياء، فهي تحافظ على آلات الحياة الأصلية التي تكفل حق العيش وحق الحرية قبل المحافظة على أي شأن آخر. وقد نسيت في ساعة المحنة والشقاء والجد هوايات الترف والكماليات، وضحتها خوف أن تضحي ما هو أعظم منها. . . هدمت لندن لتنقذ ما هو أعظم من لندن، وهي
الروح الإنجليزية! وهو درس عظيم أعطته إنجلترا للعالم جميعه في هذه الحرب. . . أعطته لأعدائها وأصدقائها على السواء فانتفعوا به ولن ينسوه!
أما العقلية اللاتينية في دورها الحاضر الذي ابتلى المصريون بجوارها فيه وذيوع ثقافتها فيهم. فهي عقلية لم تحسن التتلمذ على الطبيعة في تقدير لباب الأشياء، بل تستهويها حياة القشور المزوقة والثرثرة والجدليات والاستعراضات المسرحية والانطلاق وراء النوازع والشهوات، والتحلل من قيود الاجتماع بحجة الحرية الفكرية. وإنما هي في الواقع حرية طباع لا حرية أفكار. فهي عقلية يسهل استهواؤها واستفزازها وزعزعتها، لأنها لم تستند إلى طبع ركين يستمد من الطبيعة أسلوبها في تقويم الأشياء وتقديرها، وتقديم الأنفع على النافع، وتضحية الفروع محافظة على الأصول. . .
ذلك هو تقدير الطبيعة والحياة الصادقة الناجحة للفن وآثاره. وهو تقدير موزون ليس فيه تقتير ولا إسراف. هو تقدير في الواقع خاضع للمنفعة والجد في خدمة الأغراض الأصلية للحياة. لا للترف ولا للهزل، ولا لإرسال قوة الخلق على هوى طليق أو جموح.
وليس الفن البشري كله مع الأسف سائراً مع هذا الاتجاه. بل منه ما هو سائر معه، وهو أسمى درجاته. ومنه ما يفسد غايات الحياة ويشترك في تعطيلها وتقويض كيانها في النفوس، وهو أحط دركاته. . . ومنه ما لا فساد معه ولا ضرر منه، وهو ما يفيض لإرضاء عبقرية الخلق المودعة في الإنسان، أو لإظهار المهارة والذكاء، أو لتزجية الفراغ وتسلية المجتمع. وهذا فن لا بأس من كثرته في الأمم التي فرغت من إقامة حياتها على دعائم العدالة والقوة والحق
وإذ ثبت أن الحياة الجماعة من القيمة والاعتبار ما تستحق معهما حياطتها والمحافظة عليها من عوامل الهدم والبلبلة والانتكاس التي تسببها النزعات الفردية والاستبدادية في السياسة - وهي فن الحكيم - فلا جدال حينئذ في أن للجماعة الحق في فترة من فترات حياتها أن توجه الفن بلسان النقد إلى الوقوف عند حد ما فيما ينتجه، حتى يكون منسجماً مع منطق الطبيعة، أو أن تلزمه على الأقل الوقوف دون حدود الفساد، والضر الذي يبلبل الأفكار ويشوش على الإحساس الصادق بالحياة.
وإن قوة السخرية في نفس فنان أو تشاؤمه أو إباحيته أو شذوذه قد توحي إليه بصور فنية
تثير دهش الناس وعجبهم، ولكنها قد تزلزلهم وتفسد عليهم ألفتهم بالحياة، وائتناسهم بمثلهم العليا، أو تأخذهم إلى حياة اللذة والجموح الذي لا تحتمله الحياة العملية، أو تبحث لهم عن الصور الشاذة في الحياة، أو تخلق لهم تلك الصور وتحملهم على تقليدها بطريق الإيحاء.
ومن هنا يجب التيقظ للأعمال الفنية، لأنها أخطر أنواع الثقافة وأشدها تأثيراً، وأوسعها حيلة في استهواء الناس، وأعظمها انتشاراً بين الجماهير
والفنان الكامل لا بد أن يكون في فنه نوعان من الإنتاج: نوع فردي يجري فيه على طبعه المتفرد الخاص المعتدل وذاتيته الممتازة، ونوع اجتماعي يجاوب فيه الأصداء الاجتماعية التي تتداول سمعه وسمع الناس في عصره. وبخاصة إذا كان مجتمعه مشوشاً ناقصاً يحتاج إلى تكميل وتنظيم، وما يد أن يكون هذان النوعان من الإنتاج في آثاره. وليس في هذا إعنات من المجتمع له وإنما هو تنبيه له وتوجيه إلى الآفاق التي يستمد منها عوامل كمال فنه يؤدي منها ضريبته الأدبية
وليس بصحيح أن الأثر الفني الذي أنتج في مناسبة اجتماعية بعينها وكان مستوفياً شروطه الفنية في الصياغة والحبكة والإخراج يفقد تقديره ووقعه بزوال مناسباته وانقضاء عصر أشخاصه، كما توهم الأستاذ توفيق الحكيم حين قال عن إبسن إنه كاد يهزأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع لولا فنه، وأنه قد مات فيه المصلح وبقى الفنان
ليس هذا بصحيح لأن (التاريخ) له خطه في التقدير، ولأنه يظل تاريخاً حياً كل العصور ما دام الفن قد استطاع أن يضفي عليه من الحركة والحياة ما يضمن لشخصياته الوجود الخالد في ذهن القارئ وخياله. وليس لصحة الآراء أو خطئها باختلاف العصور أثر كبير في التقدير ما دام الشرط الأساسي وهو بلاغة الفن قد تحقق
فلن يغمط حق الفنان المصلح الذي جرد نفسه لخدمة مجتمعه وأراد قيادته نحو الكمال ولو تغير عهد الناس ورأيهم في آرائه الإصلاحية إلا إذا ذهب التقدير الفني للتاريخ الخالص، وإلا إذا أهدرت قيمة جهاد الطفولة البشرية وخطواتها المتعثرة الأولى نحو الرشد ونشدان الكمال
وإذا كان الفنان يملك قوة الإنتاج الذي يهدي أمته ويسددها نحو الكمال ويأخذ بيدها في عهد الانتقال. ويملك أيضاً قوة الإنتاج في الأدب الإنساني الخالص، ثم يعرض عن النوع الأول
سعياً وراء الخلود الواسع والشهرة العريضة بالإنتاج في النوع الثاني؛ فإنه لا شك ذو عقوق بأمته وبخل عن أداء (الضريبة الأدبية) الواجبة لها في فنه
وسيحسب هذا لدى النقد الصحيح نقصاً في طبيعته الفنية التي لم تستجب لنداء بيئتها، وبلادة في طبيعته الاجتماعية التي لم تحركها عوامل البؤس أو الجهل أو الاستبداد، لم تعطفها عواطف الرحم التي يجب أن تكون بينه وبين مجتمعه
على أننا لا نسلم أيضاً بأن الأدب الخاص بمجتمع ما، والذي يعالج مشكلة من مشكلاته أو يعرض مشهداً من مشاهد حياته لا يروق أذواق غيره من المجتمعات ما دام ذا ذخيرة موفورة من العواطف والأفكار والغرائز والمواقف والمفاجآت البشرية المشتركة. وتلك ذخيرة لا يخلو منها عمل فني يستحق الخلود، حتى لدى المجتمع الذي أنتج فيه. فالطبع البشري واحد الجوهر في كل مكان وزمان وإن اختلفت أعراضه اختلافاً ما، وهانحن أولاء نرى فيما نقرؤه ونشاهده في السينما من آداب الأمم وفنونها الخاصة مصداقاً لما نقول، فهي كثيراً ما تعالج مشكلات خاصة بالوسط الذي أنتجت فيه. ومع ذلك تجد فينا نحن الشرقيين الأسيويين أو الأفريقيين تذوقاً وفهماً لمراميها وأشخاصها
والتاريخ البشري متشابه الموجات، وأمراض المجتمعات البشرية في دور تكوينها واحدة تقريباً، ووسائل كفاح الاستبداد والجهالة والبؤس واحدة أو متشابهة
فلا يتوهمن فنان أن دائرة شهرته وخلوده تضيق بضيق المجتمع الذي يعالجه أو يصوره، فإن النماذج البشرية التي تعرض في حذق وبراعة أبداً خالدة؛ تلتقي في فهمها وتقديرها عقليات الأمم. والبشرية المتفرقة الآن صائرة حتما إلى لقاء: لقاء في الفكر والقلب والعلم والفن. . . وطلائع هذا المستقبل المأمول مقبلة بل هي حاضرة في دراسة كل أمة لآثار عبقريات كل أمة، وفي اقتناء مخلفاتها وترجمة روائع آدابها والتعرف إلى خصوصيات روحها. والدليل على ذلك يا صديقي الأستاذ الحكيم أن أدبك القومي ترجم كله؛ فقد أخبرتنا أن (عودة الروح)(ويوميات نائب في الأرياف) ترجما. . . أما أدبك الذي يدور حول الرموز والأساطير العالمية، فالنسبة في ترجمته أقل من هذا
فابحث في قومك ومجتمعك القريب عن ينابيع لوحيك وصنعتك البارعة، فإن قومك أولى وأحوج إلى الإيقاظ والتحرير والإصلاح. ولا عليك من الخلود وذيوع الصيت، فانهمالك ما
احتفظت بصنعتك
إنك شغلت نفسك بالأدب العالمي الذي يدور حول الأسرار والرموز والأساطير والقضايا الفلسفية التي تتصل بها النخبة الممتازة في كل أمة. وأنتجت في هذا إنتاجاً هو لا شك مفخرة للأدب العربي بين آداب العالم وللعقل المصري بين عقول الأمم. ولكن اسمح لي أن أقول لك بصراحة إن (الشعب) المصري لم ينتفع بما أنتجت إلا انتفاعاً يسيراً جداً بالنسبة إلى إنتاجك المبارك، فليس لك في السينما الشعبية إلا (رصاصة في القلب) وهي على ما فيها من بعض المواقف التهذيبية لم تعالج عقدة هامة من عقد الحياة المصرية الكثيرة، ولم تثر في أذهان الجماهير ثورة ما على الأوضاع السيئة التي تضيع حياتهم الراهنة. وإنما هي لون من ألوان أدب الفكاهة والمتعة في قوم لا ينقصهم من ألوان الفكاهة والتهريج وإزجاء الفراغ شيء. . . بل قد استحالت حياتهم إلى أضاحيك ومباذل. . . أما رواياتك الكبرى فلن تتسع لها الآن حوصلة المسرح المصري أو السينما، ولن يهضمها جمهوره إذ أنها تعالج قضايا فلسفية ورمزية فوق المستوى العام. وأحسبها وضعت للقراءة العميقة لا للتمثيل والتجسيم، فإن أحاديث شخصياتها تحتاج إلى سامعين مثقفين دارسين. وقد شهدت ذلك بنفسي في (أهل الكهف) حينما مثلت في أول عهدها
لقد تركت أنت وأمثالك لغيركم من المؤلفين التجاريين أن يمدوا بنتاجهم شركات السينما وهيآت المسرح التي كأن بينها سباق في قتل روح هذه الأمة وفي تشويه سمعتها في الأقطار العربية بما ينتجه أكثرها من فنٍ فجٍ رخيص مهرج داعر يسرق البقية الباقية من أخلاق الشرف والقوة في الأمة، ويفسد ذوقها ويحطم رجولتها ويديل عفاف نسائها، ولا يرتفع بها - إلا في النادر - إلى مستوى أعلى ولا يثيرها وينبهها إلى أوضاعها السيئة في السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع
وإن تبعة المسئولين عن توجيه الثقافة الفنية العامة لهذا الشعب تبعة ثقيلة فادحة! فقد أطلقوا لتجار الغناء والمسرح والسينما أن يفعلوا ما يحلو لهم. وما يحلو لهم هو الربح والثروة بأي الطرق، وكثير منهم لا يفهمون روح هذا الشعب لأنهم ليسوا منه. . . ولا يبالون مصالحه ولا يقدرون ظروف الانتقال الخطيرة التي يمر بها. ولا يعلمون ما يحتاجه الآن لتدعيم بنائه الاجتماعي وتقوية روح النضال والكفاح فيه حتى لا ينسى ولا يفنى بين غمرات
الحياة الجديدة العجيبة
لقد أصبحت أوقن أن قادة هذا الشعب الحقيقيين هم زمرة المسرح والسينما والغناء، ففتيان الشعب وفتياته ونساؤه وأطفاله على معرفة تامة بتفصيلات حياة الممثلين والمغنين والممثلات والمغنيات، وعلى إلمام تام بمواقفهم وأحاديثهم وأغانيهم ومراقصهم ومباذلهم. بينما هم على جهل تام بحياة الأبطال والمصلحين والخدام الحقيقيين لمصالحهم وسعادتهم، وما أظن حياة الأغلبية لهؤلاء الممثلين والممثلات تصح أن تكون قدوة تقود الفتيان والفتيات
عبد المنعم خلاف
2 - رسائل التعليقات للرصافي
للأستاذ دريني خشبة
أشرنا في العدد السابق إلى بعض آراء الرصافي القديمة، مما له علاقة بآرائه الحديثة التي طلع بها على الناس فجأة تعليقاً على كتابي الدكتور زكي مبارك: التصوف الإسلامي والنثر الفني. . . إلى القراء الآن بعض هذه الآراء:
1 -
يؤمن الرصافي بوحدة الوجود، وأن لا إله إلا هذا العالم الأعظم الكلي، وأن قولنا لا إله إلا الله معنى لها (أنظر العدد السابق)، وخير أن يقال لا إله إلا الوجود. . . (إن البحث والتفكير قد ألجآني إلجاء لا محيص عنه إلى الإيمان بوحدة الوجود (ص 11) وأن الله هو الوجود المطلق اللانهائي (ص 13) - وقد فسر الظاهر والباطن في سورة الحديد بأن (الظاهر الذي نراه بأعيننا وندركه بحواسنا، والباطن الذي لا نراه ولا ندركه)(ص13). ويدعى أن كل شيء في هذا العالم جزء من الله، أو أن المخلوقات (مظاهر للوجود الكلي، كمظاهر الأمواج لماء البحر المائج (ص 15)). ولا يصح لأحد أن يقول أنا الله، كما قال الحلاج، لأنه جزء من كل، وإلا كفر (ص 16)
2 -
ويؤمن بأن محمداً، بما أوتى من الكمال النفسي، والفكر القدسي هو سيد العارفين بهذه الحقيقة (ص14)، وإن يكن قد أخفاها عن أصحابه، ولم يلمح بها إلا لأبي بكر:(ولا نعلم أحداً كان يقول بها (بوحدة الوجود) من أصحاب رسول الله اللهم إلا أبا بكر. . . فلا يبعد أن يكون قد أخذ عنه هذه الفكرة بالتلقين، أو يكون قد عرفها من القرآن بالتدبر والتفكير (ص 84))، (وآخر ما نقوله في هذا إنه لم يكن في زمن البعثة من يمثل فكرة وحدة الوجود سوى رسول الله، وأصدق الظن يجيز أن يجعل أبا بكر من عارفيها، كما مرت الإشارة إليه (ص 72))
3 -
ولا يعترف بأن القرآن هو كلام الله، ولكنه كلام محمد، فإذا ذكر شيئاً من القرآن قال: يقول محمد في القرآن، (ص 13)، ولكنه يعتذر لمحمد بأنه كان يفني في الله - أو في الوجود الكلي - فناء كاملاً، ولذا جاز له أن يقول هذا القرآن ويزعم أنه يقول الذي يقوله الله، ويفعل الشيء ويؤمن بأن الله هو الذي يفعل (ص 14)
4 -
ويعتقد أن كل ما يقع في العالم إنما يقع حسب قوانين لا يمكن الإفلات منها (سنة الله
ولن تجد لسنة الله تبديلاً) - ويؤمن بالجبر (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)(ص 23) والإنسان دابة، وأخذه بناصيته، أي جعله تحت قهره وسلطانه واستيلاؤه عليه (ص 24)
5 -
وهو لهذا ينكر الأدعية (والصلاة من الأدعية طبعاً)، لأنها لا يمكن أن تغير شيئاً مما لا بد من وقوعه:(. . . لأن الدعاء لا يصح في المعقول أن يكون سبباً لهلاك الظالم، أو لشفاء المريض، أو لقضاء حاجة المحتاج، فإن ذلك خروجاً عن سنة الله. فأن قلت: (فما معنى الاستجابة التي وردت في القرآن (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قلت: إن الاستجابة تكون بمعنى أن الله (تعالى) يهيئ أسباب هلاك الظالم، وشفاء المريض على وجه موافق لسنة الله، تهيئة غير مسببة عن الدعاء ولا مترتبة عليه. . . الخ (ص 76) وأن هذه الآية واردة مورد التمثيل الذي هو كثير في القرآن (ص 77) ويستدل على أنه لا معنى للدعاء بالحديث (إن الله لا يعجل لعجلة أحدكم) فعبارة هذا الحديث (وحديث غيره) تدل بصراحة ووضوح على أنه لا معنى للدعاء ولا للاستجابة على الوجه الذي يقولونه ويتصورونه (ص78). وإنما فائدة الدعاء هي في التسلية لنفس الداعي عما أصابه، والتنفيس لكربه. . . الخ ص 78
6 -
وينزلق الرصافي من هذا ما ينزلق إليه بعض المتصوفة من القول بأن الأدعية (ومنها الصلاة)(هي من الأمور التابعة لظاهر الشريعة، فهي لعامة الناس دون خاصتهم من العارفين (ص82 - 83))
7 -
وهو يؤمن بأن كل ما يقع في الوجود فهو حق، وأن الباطل هو المحال. وهو في ذلك يأخذ برأي محيي الدين بن عربي. . . (كل ما وقع في هذه الكائنات فهو حق، إذ لو كان باطلاً لما وقع، وإذا كان كل ما وقع في هذه الكائنات حقاً، تساوت المتضادات بحكم الضرورة، فالضلال كالهدى، والعصيان كالطاعة، والتقوى كالفسق والفجور، والشر كالخير، والحسن كالقبيح. . . الخ (ص 23) ويؤيد هذا بالآية الكريمة: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك، فقناعذاب النار)
8 -
وما دامت قد استوت المتضادات في نظره: (. . . فعلى الصوفي أن يأخذ نصيبه من الدنيا كما يشاء، وأن يقرع جبهته بالكأس الروية من لذاتها بقدر ما يستطيع! (ص 83) كيف لا، وهو الذي خلق كل نفس فألهمها فجورها وتقواها، وهو الذي إلى نجديها من الخير
والشر هداها! (ص 86)
9 -
والتصوف عنده (ليس زهداً وعبادة، وإنما هو فكرة ونزاهة، يتساوى فيه الترهب والخلاعة، ويتلاقى فيه التزمت والدعارة، لأن الله في مذهب وحدة الوجود يعرف بكل ما في الكون، وأن كل ما في هذا الكون حق عند أهل وحدة الوجود، فلا أدل عليه من آثاره، ولا أهدي إليه من ساطع أنواره، وليس وضع الرجل جبهته على الأرض ساجداً لله، بأدل على الله من انكبابه على حليلته (بحروفه من ص 85). وأكثر من هذا، إذا رأى الصوفي في أي نوع من لذات الدنيا وشهواتها ما يفتح له باباً من أبواب المعرفة لم يتأخر أن يطرق بابها، ويفك عيابها، ويلبس ثيابها. . . كيف لا وقد استوت عنده المتضادات، واجتمعت الملذات بالمذلات، وإنما الأعمال بالنيات؟! وكيف يذمون الدنيا وقد أودع الله حبها في الغرائز، وساوى في محبتها بين الشواب والعجائز. (بحروفه وثمة أشد منه ص 84)
10 -
وهو يكفر البعث، وربنا آمن بالتناسخ - أو عودة الكائنات بأمثالها لا بأعيانها - ولكنه مع ذلك يعترف بفائدة الإيمان بالبعث، وما يتصوره المؤمن من الحساب، فيمتنع عن الشرور ويقبل على الخيرات. (والذي أراه (في البعث أنه معتقد صرف لا يقوم إلا بالإيمان، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يخفى أن الإيمان بالغيب يتسع لأكبر منه وأبعد، ولم تقم لنا عليه في الحجج الدينية حجة أعظم من قياسه على النشأة الأولى، ولا يخفى أنه قياس مع الفارق بعيد جداً، لأن النشأة الأولى إنما وقعت على وجه من أسباب النشوء موافق لسنة الله في خلقه، وليس كذلك النشأة الأخرى. نعم! نحن في عالم الكون والفساد ومن الممكن عقلاً أن تعود الأشياء الفاسدة أو الهالكة في هذا العالم إلى كونها الأول، ولكن بأمثالها لا بأعيانها، فإن عودتها بأعيانها مستحيل، ومن العبث إقامة الأدلة العقلية على أمور لا تقوم إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا إيماناً بالعيب، كما جاء في القرآن (يؤمنون بالغيب)، فالإيمان بالغيب هو أساس الأديان كلها (!)(ص 36)
(وكما ينكر الرصافي البعث على الصورة التي نؤمن بها، فكذلك ينكر الثواب والعقاب، ما دام الله - أو الكون الكلي - هو الأخذ بناصية كل شيء، وما دام كل ما يقع في الوجود إنما يقع حسب قوانين لا يمكن الإفلات منها (الجبر المطلق!) وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى
للثواب والعقاب، بل لا معنى ليوم القيامة! إلا أنه يعترف بفائدة الإيمان بهذا كله كما قدمنا - وهذه مسألة أخرى - ومع أنه يؤمن بالجبر، يؤمن بأن الإنسان مكلف! لأنه عاقل (وحيثما كان التكليف كان الثواب والعقاب 22 ص 39 إلا أنه يجعل الثواب بعد الموت بالاندماج في الوجود الكلي) ويجعل العقاب بالألم أو الندم الذي يحيق بالمسيء في الدنيا، فإذا مات المسيء وتساوى هو والمحسن في الاندماج بالوجود الكلي، وهو في ذلك يؤمن بما وسوس به الجيلاني. . . (لأن تساوي الطائع والعاصي عند الله لا يكون إلا بعد الرجوع إلى الله أي بعد الاندماج في الوجود الكلي المطلق، فهناك لم يبق للطاعة ولا للعصيان أثر ما!!) ص 32 - 33
وبعد فهذا بعض ما في ذلك الكتاب وموعدنا العدد القادم إن شاء الله
دريني خشبة
مستقبل القطن المصري
للأستاذ زكريا بك حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(3)
دفاع عن الأقطان ذات التيلة الطويلة
طول التيلة في بعض أنواع أقطاننا ميزة منفردة لا يجوز
إهمالها - مأساة القطن السكلاريدس وملابساتها وكونها
مقصورة على هذا الصنف بالذات وليست تمس كل قطن
طويل التيلة - استنباط أقطان جديدة طويلة التيلة - ميزة هذه
الأصناف - فلنعمم في غير خشية زراعة الأقطان طويلة
التيلة.
ويشترك القطن المصري مع أقطان البلاد الأخرى في بعض الميزات، ولكن له ميزات خاصة أتاحتها له طبيعة مصر، فطول التيلة مثلاً في بعض أنواع أقطاننا ميزة متفردة، وليس من الحصافة الاقتصادية إهمال هذه الميزة، ومحاولة منافسه البلاد الأخرى في إنتاج أقطان قصيرة التيلة، ولا سيما وأن في الوسع - بجهود سنشير إليها - توزيع أقطاننا ذات الميزات المفضلة بشروط مناسبة.
نعم لقد اقترن إنتاج السكلاريدس وهو ممتاز بطول تيلته بتضحيات عظيمة، إذ كان يكلف الفلاح نفقات كبيرة لم يكن يعوضها السعر، لأن إنتاج الفدان منه كان ضئيلاً نسبياً، وتصافي حليجه كان دون المائة
وما منع الناس وقتئذ عن ترك زراعته إلا الأمل في تحسن أسعاره، وعدم وجود أقطان مماثلة تكون أضمن وأكثر ربحاً
وفي الثلاث أو الأربع السنوات التالية للحرب الماضية مباشرة استطاع الفلاح بفضل اليسر الذي خلفته سنوات هذه الحرب أن يواجه تلك التضحيات، ولكن لما عاد النقد إلى قاعدة الذهب لم يجد فائضاً يضحي به، فما لبث أن رهن أطيانه
وقد زاد المسألة حرجاً أن غلات الأطيان المرهونة قدرت قيمتها على أساس الأسعار في وقت التضخم النقدي، ولم تقدر بسعرها العادي. هذا إلى توالي النقص فيما ينتجه الفدان من قطن السكلاريدس نتيجة لانحطاط الفصيلة وللتلقيح الطبيعي والخلط الزراعي وقلة التسميد وضعف العناية بالوسائل الزراعية الصحيحة
وكان طبيعياً، وقد تدهور سعر السكلاريدس وهو سيد الأقطان المصرية أن تتدهور أسعار الأصناف التي تقل عنه تنفيذاً لقانون النسبية الظاهر الآثار في كل مناحي الحياة. فهبطت الأسعار جميعها إلى أدنى مستوى وأتيح لمحترفي المضاربة أن يلعبوا على مسرح الاقتصاد المصري أدواراً أكسبتهم على حساب المنتج كسباً كبيراً
لذلك ليس غريباً أن تثير الدعوة إلى زراعة الأقطان طويلة التيلة أشد الانزعاج. ولكن المأساة - إذا نفذنا في حقائق الأمور - مأساة صنف السكلاريدس بالذات وليست مأساة كل قطن طويل التيلة. وليس يصح منطقياً أن يسوء حظ كل الأقطان طويلة التيلة لأن أحدها كان سيئ الحظ لظروف خاصة
ساءت أسعار السكلاريدس في المدة من سنة 1922 إلى 1932 إلا فترات قصيرة ارتفع فيها السعر نسبياً. وقد اختتمت هذه الفترة بهبوط السعر هبوطاً مزعجاً إذ بلغ في شهر يونيو سنة 1932 تسعة ريالات
لذلك جد المهتمون بالأمر في استنباط أصناف أخرى يكون لها من وفرة الإنتاج ما يضمن الربح لمنتجها؛ فاستنبط في سنة 1934 صنفا النهضة والجيزة 7، وكان الأول قصير العمر فمات، فأما الثاني فما زال يعيش
وتوالى الاجتهاد فيما بين سنة 1934 ووقتنا هذا، فاستنبط الوفير وهو متوسط التيلة ثم الكرنك والملكي اللذان يعدلان السكلاريدس في طول تيلته، وأخيراً صنف جيزة 39 أو شرييني
وفي هذه الفترة الأخيرة (من سنة 1934 إلى الوقت الحاضر) لم يصب الأقطان طويلة
التيلة كساد. بل - على العكس - صادفت هذه الأصناف إقبالاً طيباً جداً. من المصانع على الرغم من ظروف الحرب التي حدت من التصدير
وإذا كنا متفقين مع المستر هانكوك خبير القطن بوزارة الزراعة فيما ينادي به من أن الصناعة لا تتطلب طول الشعرة فحسب، بل هي تتطلب أيضاً متانة الشعرة ودقتها، فإننا لنغتبط إذ نؤكد أن الصنفين المصريين المستنبطين أخيراً وهما الملكي والكرنك يجمعان إلى مزية طول التيلة مزيتي المتانة والدقة
إن مناطق زراعة القطن في أمريكا وآسيا وأفريقيا - إذا استثنينا بعض جهات أمريكا - لا تنتج إلا أقطاناً قصيرة التيلة. ومن المقطوع به أن البيئة الأولى لإنتاج القطن ذي التيلة الطويلة هي أرض الكنانة التي أكرمتها العناية الإلهية بطبيعة جوية معتدلة ويد عاملة رخيصة مجتهدة
فلنعمم - في غير خشية - زراعة الأقطان طويلة التيلة ما دامت توائم طبيعة أرضنا، ولا سيما وقد استنبطت منها أصناف وفيرة الإنتاج عالية التصافي
على أن الغبن في زراعة القطن السكلاريدس لم يكن مرجعه في الحق إلى نوعه، ولكن إلى ملابسات بيعه، فالمنتج كان ينشد الربح، أو على الأقل الفرار من الخسارة؛ والمغزل كان يستكثر السعر، فكان يؤثر الرخيص من الأنواع ولو كان قصير التيلة. ولو استطاعت المصانع شراء السكلاريدس بما يزيد 20 % على أسعار القطن الأمريكي لفعلت راضية
وقد كان بيع القطن المصري يخضع لعوامل توجدها الآلة البورصية؛ فهي كانت تسجل بحساسية شديدة كثرة العرض عند بدء الموسم، ويظل ذلك التسجيل حتى يخرج أغلب المحصول من أيدي المنتجين
هذا إلى الملابسات التي أوضحناها قبلاً، وإلى عوامل أخرى كانت تتآمر على خفض أسعار ذلك القطن
على أن النسبة الآن بين سعر القطن المصري طويل التيلة وبين سعر القطن الأمريكي ليست عالية. فالقطن (المدلن) الأمريكي يساوي الآن 20 دولاراً، أي يوازي 660 قرشاً باعتبار أن الدولار يساوي 33 قرشاً، فلو أضيف إلى هذا السعر 20 % منه، أي ما يعادل 132 قرشاً، لكان السعر ثمانية جنيهات مصرية تقريباً، وهو ما يقرب جداً من سعر القطن
الكرنك المصري محلوجاً
هذه هي النسبة، والظروف ظروف حرب حدت من تصدير قطننا المصري ودعت إلى عدم التعامل عليه في البورصات. فكيف في الظروف العادية حين ينطلق قطننا من كل قيد؟
(4)
- وسيلة التبادل
فساد نظام المعدنين النفيسين - نظام التبادل التجاري المرجح
الأخذ به بعد الحرب - اقتراح الأخذ بهذا النظام في مصر
أن عناصر الغنى في أمة من الأمم هي مقدرتها على الإنتاج الزراعي أو الصناعي، ووفرة اليد العاملة والآلات فيها. وليس النقد في حقيقة أمره إلا أداة للاستبدال ووسيلة للمقارنة بين القيم. ولقد ظل الذهب والفضة طويلاً مقياس الغنى في الأمم، ولكنهما مقياس أفسده سوء الاستعمال. وما مثل هذين المعدنين في تقدير الثروة العامة للأمم إلا كميزان مختل في حانوت بدال، لا يلبث أن يؤدي إلى إفلاس صاحبه
إنه ليس من العدل أن ينقسم الأفراد إلى فريقين: أحدهما وهو الفريق الأكبر يقضي حياته في الإنتاج الزراعي أو الصناعي، ومع ذاك يعاني الكثير من البؤس والبطالة، والثاني وهو فريق الأقلية يتحكم في الفريق الأول، يعطي ويمنع لأن بيده المال
هذا النظام ينبغي أن يستبدل به نظام آخر يحقق العدالة لأفراد الأمة، ولا يدع للمال كل ذلك السلطان الضخم، بل ينصب الإنتاج نفسه حاكماً اقتصادياً بدلاً من الحاكمين الحبيسين: الذهب والفضة
والظن أن العالم يتجه بالفعل هذا الاتجاه، وأن نظام التبادل التجاري فيما بعد الحرب سيحمل كثيراً من الدول على التخصص في إصدار سلع معينة مقابل استيراد ما يلزمها من الدول الأخرى على نحو قريب من نظام المقايضة فليكن القطن طويل التيلة سلعتنا التي نحصل بها على حاجاتنا من الخارج
وبهذه المناسبة نذكر أن عندنا الآن كميات من هذه الأقطان ينبغي ألا يساورنا القلق على تصديرها، لأنه عندما يستقر السلام سنستطيع أن نجيب بها مطالب البلاد المجاورة التي
ستعوزها يقيناً هذه الأصناف
(5)
- نظام تمويل المصارف للقطن
نقد نظام التمويل في مصر - إرهاقه للمنتج - النظام المنشود
إن نظام أعمال المصارف في مصر - فيما يختص بتمويل المنتج الزراعي عامة، ومنتج القطن بصفة خاصة - يخالف نظام المصارف الوطنية في بلدان العالم جميعاً. وكأنما وضع خصيصاً لهذا البلد السيئ الحظ
يقدم الفلاح إلى المصرف إنتاجه القطني فيقدِّر المصرف للسلعة ثمناً بخساً، وبذلك يكون (الغطاء) الواجب أداؤه عالياً، ثم يرفع المصرف سعر الفائدة، ويقيد المنتج بالتزامات ثقيلة تؤوده وتعجزه عن الوفاء بها، فلا يلبث المصرف أن يقذف إلى البورصة بمئات الألوف من قناطير القطن دفعة واحدة فيهبط السعر بطبيعة الحال، وكأن المصرف بما فعل قد سهل للأقطان الأجنبية والصناعة القطنية الأجنبية منافسة أقطاننا وصناعتنا
ولسنا نرى في ذلك غرابة، فالمصارف الأجنبية التي لدلينا إنما تمثل وترعى المصالح الاقتصادية والصناعية لبلادها وحملة أسهمها
لا جرم إذن أن هذا النظام المصرفي هو من عوامل اختلال اقتصادياتنا وانحطاط مستوى معيشة المنتج المصري. ولقد عاش هذا النظام طويلاً دون أن ننتبه لمساوئه. فلنعمل جاهدين على درء هذه المساوئ كلها أو بعضها، وليكن ذلك عاجلاً بقدر المستطاع
إن النظام المصرفي الذي ننشده في مصر يجب أن يكون نظاماً يشجع الإنتاج ويحميه من الكساد المصطنع ويحافظ على الثروة الوطنية، ويدفع عنها كيد المتلاعبين، ويكون منطوياً على روح مصرية صميمة تعني بالصالح المصري أولاً وأخيراً
(6)
الطموح إلى نهوض بيوت مصرية بتصدير القطن
المصري
وكذلك يجب أن تكون الروح في تصرفات بيوت تصدير القطن مصرية، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت وطنية. ولئن قيل إن بيوت التصدير الأجنبية لها من خبرتها الطويلة بحاجات المغازل ما لم يتح لبيوت مصرية، فإن هذه الخبرة لن تكون كل شيء في تصريف إنتاجنا
حين تضع الحكومة - طبقاً لاقتراحنا - نماذج للقطن المصري كله
والواقع أنه ليس في التجارة أو الصناعة سر يستغلق على العنصر المصري، وكل ما يستلزمه نهوض المصريين بتصدير أقطانهم هو مزيد من النشاط والمثابرة والجد وممارسة عملية تبصرهم بما خفي عليهم طويلاً. إن المصريين حين يقومون هم أنفسهم بتصدير أقطانهم قد يواجهون مصاعب جساماً، ولكن لنتخذ من هذه المصاعب دروساً نافعة، وكل صعب يهون في سبيل أمنية عزيزة كتمصير بيوت التصدير ذلك التمصير الذي يساعد على إتمام استقلالنا في ناحية اقتصادية لها أهميتها
زكريا حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه
النصاح والوعاظ على أبواب الخلفاء
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الحكم في الإسلام لم يبن على الاستبداد ولم يقم على الانفراد، بل أقيم على الشورى وبنى على الرأي. ولقد قال تعالى لنبيه عليه السلام:(وشاورهم في الأمر). وما كان أغنى النبي عن نصح الناصح ومشورة المشير، لمكان فضله، ومقام علمه. ولكن المبادئ الصحيحة لا تحابي مقاماً ولا مكاناً، ولا تعرف عصراً ولازماناً
فلقد حدث حماد بن زيد بن هشام عن الحسن قال: (كان النبي يستشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به)
وكان عمر على شدته ينتفع بأهل الرأي والمشورة ويستمع إلى قولهم، وروى عنه قوله (الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة خيط مرار لا يكاد ينتقض) وطبيعي أن حكاما ذلك شأنهم في قبول المشورة وتلقي الرأي كانوا يستمعون إلى الناصح المبتدئ بنصحه، المتفضل برأيه، فيفتحون له قلوبهم وآذانهم، أو يعطونه الأمان أن يقول ما يشاء في صراحة وحرية. وفي كتب التاريخ والأدب من ذلك طرائف وأشتات
وكان خلفاء الرسول أكثر الناس اهتداء بهديه واقتداء به فلم يصدر عنهم من الأحكام ما فيه مخالفة لسنته وحيد عن طريقته. ولهذا لا تجد على أبوابهم مزدحماً من الناصحين والوعاظ، لأن الوعظ لا يكون إلا عند ما تدعو إليه الحاجة وتشتد الضرورة. وقل أن تجد في عصر الخلفاء الراشدين إلا مذكراً يذكر الخليفة في عبارة موجزة وإشارة قصيرة. كما حدث لعمر ابن الخطاب فقد دخل عليه سعد بن عامر وقال:(إني موصيك بكلمة من جوامع الإسلام ومعالمه. قال: أجل. قال: اخش الله في الناس ولا تخش الناس في الله، ولا يخالف قولك فعلك. فإن خير القول ما صدقه الفعل. وأحبب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك. وخص العناية بالحق حيث علمته، ولا تخف في الله لومة لائم)
ولقد كان عمر يصغي إلى نصح الناصح، ولقد يبلغ به التأثر حتى يبكي فتخضل لحيته كما صنع مع خولة بنت حكيم
أما في العصر الأموي فنجد الخلافة قد انقلبت ملكاً. ونجد الخلفاء قد صدر عنهم من الأعمال ما يعده المؤمنون بعداً عن السنة، وتجافياً عن المعالم. وهنا يكثر الوعظ ويفشو
النصح بأبواب الخلفاء. ونجد جماعة من هؤلاء النصاح يقفون على أبواب الخلفاء لا يبغون جزاء. ولكن يطلبون رضى الله ولو أسخط المنصوح. ولا يبالون بكلمة الحق يعلنونها صريحة في وجوه الحكام على قلوبهم تلين وتخضع
فلقد ذكر ابن طلحة في (عقد الفريد) حادث وفود أبي بكرة على معاوية ناصحاً مذكراً في كلمات بليغة وعبارات فصيحة، ومعاوية يستمع إلى رجل في حسن إقبال، والرجل يذكره بالدنيا الفانية والمتاع القليل والدار الباقية. ويقول في نص عبارته:(اعلم أنك في كل يوم يمضي عنك وفي كل ليلة تأتي عليك، لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً. وعلى أثرك طلب لا تفوته، وقد نصب لك حد لا تجوزه. فما أسرع ما تبلغ الحد، أو ما أوشك ما يلحقك الطالب. وأنا وأنت وما نحن فيه كلنا زائل، وسنصير إلى ما هو باق في الآخرة)
وما أكثر ما وقف النصاح بباب سليمان بن عبد الملك. وكان هو نفسه يسأل عنهم ويطلبهم إلى مجلسه ويبدؤهم بالسؤال، ويفسح لهم المجال، فلا يقف بينه وبينهم حراس، ولا يذودهم عنه حجاب. حدثوا أنه حج، ولما أتم المناسك دخل المدينة وسأل عن جماعة ممن أدركوا أصحاب رسول الله. فأتوا له بأبي حازم التابعي. فقال له الخليفة يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟ فقال: عمر تم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. . . وما وال الرجل يصف هول الحشر حتى بكى الخليفة. وسأل واعظه قائلاً: كيف السبيل إلى صلاح الأعمال: قال: تقسمون بالسوية، وتعدلون في القضية، وتراعون أمر الرعية
ولما طلب الخليفة منه أن يذكر حاجته، طلب الناصح منه أن يزحزحه عن النار ويدخله الجنة. . .! وهو طلب ليس في يد الخليفة تحقيقه. فاعترف بعجزه. . .!
ولقد روى المدائني أن رجلاً من عبد القيس بن قصي دخل على سليمان بن عبد الملك طالباً الكلام. فأذن له، فقام وهدد الخليفة بالغلظة في كلامه، ورجا منه أن يحتمله على كره، فإن وراءه للخليفة نفعاً وللأمة خيراً. فأذن له بالاستمرار. فأخذ يطلق لسانه في الخليفة بما خرست عنه الألسن قبله، وأخذ يلوم الخليفة على سوء اختياره لبطانته، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، وهم لن يألوا الأمانة تضييعاً، والأمة عسفاً وخسفاً. وأخذ يحمل الخليفة مسئولية
ما اجترحوا من سيئات ويذكره بخسارة الصفقة وفساد التجارة لمن يريد إصلاح دنياه بفساد آخرته
ومن عجب أن رواة هذه الأخبار لم يصلوا بنا إلى نهاياتها. . . بل كثيراً ما كانوا يضيعون الواعظ في الزحام. . . فلا يوقف له على أثر. . . كل حدث مع واعظ الخليفة المنصور الذي لقيه ليلاً في الطريق فدعاه إلى المسجد فأخذ الرجل يعظه بكلام شديد وحديث طويل وبعد الصلاة طلب الرجل فلم يوجد. . .!
وأكثر ما تكون الحاجة إلى النصح حين تسوء الأفعال ويكثر الانحراف من الحكام. ولكننا نلاحظ في كتب الأدب والتاريخ أن الوعاظ لا يزدحمون إلا على أبواب الصالحين من الخلفاء. . . وعلة ذلك أن الحاكم الصالح أكثر قبولاً للنصح واستماعاً للوعظ من غيره. فالطريق إليه ميسر، والباب إليه مفتوح، والعاقبة مأمونة، والمغبة محمودة. لأنه لا يثور ولا يسخط ولا يغضب حتى ولو أغلظ الناصح في نصحه
وهكذا ليس من الغريب أن نجد جماعة من الوعاظ يزدحمون على باب عمر بن عبد العزيز، ويجدون في ظلاله أمناً. فهو يفرح بهم ويهش لهم ويتلقى الكتب منهم ويحتفظ بها ويشير إليها في مجالسه. فقد كتب إلى طاووس الواعظ كتاباً يسأله عن بعض ما هو فيه. فكتب إليه طاووس:(سلام عليك يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى أنزل كتاباً؛ وأحل فيه حلالا، وحرم حراما، وضرب فيه أمثالاً، وجعل بعضه متشابهاً، فأحل يا أمير المؤمنين حلاله، وحرم حرامه. وتفكر في أمثال الله تعالى واعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، واعتبر بأمثاله والسلام عليك). وطريقة طاووس في هذا الكتاب هي طريقة الفقيه لا الواعظ. وإن كانت تؤثر عنه مواقف ومقامات لم يخش فيها حاكماً ولا مسلطاً. وكثيراً ما حاول الأمراء تقريبه إليهم فكان يعرض عنهم ولا يزداد إلا جرأة في النقد وصراحة في القول. . .
ومواعظ طاووس تجدها في شكل كتب ورسائل يرسلها ولا يلقيها أمام الموعوظ، لأنه كان من أبعد الناس عن مصاحبة الملوك والقرب منهم، وكان واحداً من ثلاثة رجال اجتنبوا السلطان ولم يتصلوا به، والاثنان الآخران هما أبو ذر الغفاري وسفيان الثوري
وكثيراً ما وقف محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر ابن عبد العزيز ينصحه ويعظه، وقد يشتد في النصح وعمر لا يضيق صدره ولا يخرج عن حلمه ويقول الواعظ: (إن الدنيا
سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرهم) فيطرب عمر لهذا الكلام
ويقول الواعظ: - يا أمير المؤمنين! افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم. فيطرب عمر لهذا الكلام ولسان حاله يقول: - اللهم إني ما أغلقت دون أحد من المسلمين باباً، ولا ألقيت بيني وبينهم حجاباً، ولا رأيت مظلوماً إلا أخذت له الحق من ظالمه. . .
ودخل عليه زياد العبد مولى ابن عباس. فقال: - يا أمير المؤمنين: أخبرني عن رجل له خصم ألد كيف حاله؟ قال سيئ الحال. قال فإن كانا خصمين ألدين؟ قال ذلك أسوأ الحالة. قال فإن كانوا ثلاثة؟ قال لا يهنيه عيش! قال والله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد إلا وهو خصم لك عند الله تعالى! مطالبك إن قصرت في حقه. فبكى عمر حتى رق له الحاضرون.
ومن خلفاء بني أمية الذين استمعوا إلى نصح الناصحين هشام بن عبد الملك. وكان على شحه حليماً واسع الصدر. فقد حدثوا أن خالد بن صفوان المشهور بابن الأهتم دخل عليه فحدثه عن ملوك الأعاجم وزوال ملكهم بعد تمكن الأمر لهم، فبكى هشام، وأجزل العطاء للناصح على ما كان من بخله وحرصه
وفي أول العصر العباسي بقيت بقية من هؤلاء الوعاظ، وقد وجدوا بباب المنصور منفسحاً. ولهذا تجد في كتب الأدب طائفة من أخبارهم معه. وكان الرجل منهم يشتد في الكلام ويقسو على الخليفة ويعنف على البطانة، ويصف الأدواء في صراحة. حتى لقد بلغ من بعضهم أن قال له:(هل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح). وهذه الموعظة طويلة. ولعلها أطول ما روى في الوعاظ والنصاح، ولا يدانيها في طولها إلا نصيحة الأوزاعي للمنصور أيضاً، ولكن الأخير كان أخف نقداً وألطف مدخلاً من الأول الذي أوردنا جملة من مواعظه ولم نعرف اسمه، لأن المصادر التي رجعت إليها لم تذكر اسمه، بل جعلته رجلاً عابراً! يظهر في المسجد ويصلي مع المنصور، ثم يطلب فلا يوجد
ويلاحظ أن الوعاظ من أهل العلم والفقه لا يغلظون في النصح كما يفعل أهل الزهادة والتقشف، فطاووس الفقيه أميل إلى الفقه والأحكام منه إلى التعنيف والإيلام، وكذلك
الأوزاعي إمام الشام
وما أكثر حاجة عصرنا هذا إلى رجال من طراز هؤلاء النصاح الشجعان الذين لا يعجبهم فساد الزمان ولا يرضيهم إلا رضى الديان
محمد عبد الغني حسن
رسالة الشعر
وحي لقاء
للأستاذ سيد قطب
هذا اللقاء كأنه ذكرى
…
مكنونة في عاَلمِ النفس
وكأنه وهمٌ أُجسّمه
…
لا حادثٌ في عالًم الحسَّ
هذا اللقاءُ الخاطفُ الواجفْ
…
رتلفُّتُ الأنظار في حذر
كثمالةِ الأحلام، كالذكرى
…
في رِعشةِ اللفتات والصور
أختاه. وأعجباً لنا! عدنا
…
في هذه الدنيا غريبين
عدنا إذا ما خلسةٌ سنحت
…
نمضي على حذر كلصين!
ألقاكِ مثل الطيفِ عابرةً
…
وكأن ما قد كان ما كانا
وكأنما الأيام ما شعرَتْ
…
أنَّا عَمَرْنا قطُّ دُنيانا!
وتفكرين كأنما افترقتْ
…
من مَطْلع الدنيا طريقانا
وتذكِّرين كأنما اجتمعتْ
…
في خاطرِ الأيام ذِكرانا!
ما أنتِ؟ إني لم أجدْ أبداً
…
أني كشَفتُكِ قطّ في النور
ما أنتِ إلا فكرةٌ شردت
…
ما أنتِ إلا طيفُ مذعورِ!
وشقيَّةُ الخطوات عاثرةٌ
…
في حيثما اتجهتْ لمأمولِ
وكأنما تمضي مُرَوّعةً
…
وضميرُها يُضفي لمجهول!
أيها الحب!
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
(ننشر هنا الجزء الأول من ملحمة كبرى عنوانها (الحب) تقع
في عشرة أجزاء)
أيها الحب الذي يُظمئُني
…
لمزيد، كلما جَرَّعني!
اسقني خمرك حتى أنتهي
…
أنتَ يا منْ للردى يُسْلمني
اسقني: فالموتُ عندي غايةٌ
…
لكَ عُلْيا نحو من أَوجدني
وأَنِلْ للدود جسمي ثم طرْ
…
بحياتي. . . حُرَّةً عن بدني
أيها الحب الذي أخضعني
…
لقواه وهو يغزو مهجتي
تلك نيراُنكَ. . . ما أعذبها
…
حينما تحرق مني قوْتي
جاذبُ أنت فؤادي مرةً!
…
دافعٌ أخرى، لتُذكي لهفتي
وأنا نهْبٌ لما يا حُبُّ قد
…
شِئته من رحمة أو قسوةِ
أيها الحبُّ تسامَى وانحَدَرْ
…
جنة كنت لدينا أم سَقَرْ
أنت ريٌّ خالدٌ ما ذاقه
…
أحد إلا سما فوق الفِكَرْ
عانقت روحيَ روحاً فيك، ما
…
حَلُمَتْ إلا بها أنقى الصُّور
فاستبح ما شئت قلبي ودمي
…
أنا حي بك من دون البشر
إن تكن قيداً، فما أكرمه!
…
فهو لي طوق إلى حريتي
فنيتْ ذاتيَ في شرعك - إذ
…
عشقتْ - لكن لتُحيي يقظتي
وتُريني فِتناً أبصرُها
…
خَلَل الإغراق في محبوبتي
وتُريني صوراً في الغيب ما
…
نصعت إلا لتنسي مهجتي
أيها الحبُّ لك التقديسُ يا
…
صفةَ الربِّ ويا سرَّ الحياهْ
إن لمست الصخر لمساً ينتفضْ
…
كائناً يسعى مُدِلاَّ بقواه
تجنحُ النفسُ إلى ظلِّك في
…
لهفة الناسك تدعوه الصلاه
وتغني الروحُ من أحلامها
…
لكَ لحناً هو زُلْفى للاله
أنتَ في كل شروق وغروب
…
تمزج الظلمة بالنور الحبيب!
أنتَ تنسابُ مع الماء إلى
…
برعم الزهرة في الوادي الخصيب
ثم في الزهرة لَمَّا ترتجي
…
بلبلاً يطربها حتى تغيب
ثم في الموت، وفي البعث: مُنًى
…
تنشأ الأنفسُ منها والقلوبْ
أيها الحبُّ الذي قامتْ على
…
أصله الدنيا ودارَ الفلَكُ
وارتمى النور على أقدامه
…
وجثا بين يديه الحَلَكُ
أنتَ في الربح إلى الغاب إذا
…
أخذت أغصانها تشتبك
ولقد عشنا بمعناك، وفي
…
دينك الحقِّ الأنامُ اشتركوا
معبدٌ أنتَ لأبناء الحياء
…
تسجد الألباب فيه والجباه
قد سرى فيه بخورٌ عابقٌ
…
باحتراق في الحنايا والشفاه
يغنم الراكع في ساحته
…
نعمةَ الإيمان تستهوى دماه
معبدٌ أنتَ ولا يَجْحَدُه
…
غير كفَّار بأشواق الحياه
اللقاء الأول
للأستاذ أحمد مخيمر
ولما تلاقينا لأولِ مرة
…
ورف فمي الصادي على فمك العذبِ
وجدت لينبوع الحياة تدفقاً
…
بنفسي، وموسيقى تغلغل في قلبي
وأحسست أني من جديد على الذّرا
…
أُطلُّ إلى الأجيالِ، والزمن الرحبِ
هنالك جيث النورُ طلقٌ مجدَّد
…
سمعتُ أغاريد السمواتِ والغيبِ
يغنى بها سرْبٌ من الحور هائم
…
فناهيكِ من شدوٍ وناهيكِ من سرب
وأبصرتُ أمسي في الحياة، وحاضري
…
وبانَ غدي المرجوُّ من خلل الحجْب
وحينَ رنتْ عيناكِ، والحلمُ فيهما
…
وظِلُّ الكرى مُلقى على طرف الهدب
ذهبتِ بأحلامي إلى مَشَرع المنى
…
وَرُحتِ بأشواقي إلى منهل الحبِّ
وأَدنيتِني للخلدِ حيناً، فلم تزلْ
…
تطالعهُ عيناً فؤادي على قُربِ
ولما وقفنا للوَدَاع، وأوشكتْ
…
تفيضُ بناتُ العين غرباً إلى غربِ
وهبَّتْ نُسيماتُ الأصيلِ رقيقةً
…
أرقَّ من النجوى وأحلى من العتْبِ
يَهجنَ دواعي الشوق بين جوانحي
…
فيلمعنَ في أغوارها لُمعةَ الشُّهبِ
أهبتُ بقلبي: قد خُدعتَ بما ترى
…
من الثمر المنضودِ والغُصُن الرَّطْب
أغرَّك أن الوِرْدَ دَانِ، وأَنها
…
قريبٌ، وأنَّ النور في وجهها يَسْبي!
لعلك لو فتشت عنها وجدتها
…
أحابيلَ للدنيا تظلُّ بها تُصْبى
غداة غدٍ أَخشى إذا ما تكشَّفتْ
…
تُقلِّبُكَ الآلامُ جنباً إلى جَنْبِ
فقال فُؤادي: كلُّ حبّ لقيتُه
…
فَزادٌ يعينُ السالكين على الدَّرْبِ
إذا ما بدَا الحبُّ الكبيرُ لناظري
…
نفضتُ يدي مما عرفت من الحبِّ
وهَبنْي سَمعتُ اليوم صوتاً أجبتُه
…
فما لَكَ من عَتْبٍ، وما لي ذَنبِ
البريد الأدبي
في اللغة
جاء في كلمتي في (57) من الرسالة ما يأتي: (ولا غرو أن تنبو العقول عن مثل هذا التخليط العبث)، وكانت العبارة في الأصل الذي أنفذته إلى الرسالة هكذا:(ولا غرو من أن تنبو. . .)
ويظهر أن المصحح ظن أن (من) من الخطأ، أو من سبق القلم، فحذفها
ولكن إثبات (من) صحيح كحذفها، ففي (الأساس) (لا غرو من كذا: أي لا عجب)
(ا. ع)
تعليقات قرشية مكية
(1)
تثور اليوم على صفحات الرسالة الغراء وفي (بريدها الأدبي) الشائق معركة نقدية هائلة أخالها لا تزال بعد في مرحلتها الأولى.
أما الحملة فمثيرها الأستاذ الكبير (ا. ع) ولقد كان في رأيي - محقاً فيها - وموفقاً إلى حد كبير؛ فآفة الشعر العربي - في النظرة الصحيحة العادلة - هاته البعثرات والقشور يزوقها ويبهرجها من لا يستفظع أن يجعل من روحانية الشعر العربي وموسيقاه الرفيعة معرضاً للسخرية الأدبية والزراية الصاخبة في شكول هي غاية في بلادة التذوق وتحجر الإحساس. ولكن الأستاذ الكبير (ا. ع) رأى أن يجعل من هذا العراك - حداً فاصلاً، وكأنه لم يقتنع بنجاح عمليته في دورها الخطير - فانبرى للشعراء الشباب عامة بالتهكم العارم والنقد اللاذع، وكنا نود لو ترفق الأستاذ رعاية لعهد الشعر في ذاته! فلا مكابرة في أن الشعر العربي اليوم هو في أزهر عصوره الذهبية وأزهاها - إذا استثنينا بعض المشاركات المتشاعرة فيه. وحسبنا تدليلاً على هذا ما تزخر به دواوين الشعر الحديث وسجلاته. ومالي لا أحيل القارئ الكريم على (مجموعات الرسالة العالية)، وما حوته من جيد الشعر ورائعه في جميع سنيها الخالدة. على أننا - ونحن بصدد الحديث عن هذه المعركة الجديدة - نجد لزاماً علينا التنويه بفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) الذي تكرم فأثار هذا الجدل، كما أن
من فروض الشكر تقدير مجهود النقاد الرشيق الأستاذ (دريني خشبة) والشاعر المفضال الأستاذ (محمد عبد الغني حسن) على نبله وقصده، أما الأستاذان (سيد قطب وحبيب الزحلاوي) فمن حق القارئ أن يوجه إليهما عتباً لطيفاً على هذا التجني لا يحسن أن يبدر من مثليهما!
(2)
لم يقتصر الأستاذ الجليل العقاد على عبقرياته الرفيعة الأربع فراح يجلو للعالم من حيوات أبطال الإسلام وساداته وعالماته صحائف وضاءة تتجلى بين سطورها ذكريات طيبة حبيبة؛ فثمة (الصديقة بنت الصديق) وثم (عمرو بن العاص) وسيصدر له، إن لم يكن صدر أخيراً ولم يردنا بعد، الكتاب الشائق (عبقرية خالد بن الوليد)، كما التفت ذهن العقاد الشاعر إلى شعر العرب الفني وتراثهم فانبرى يبسط لنا من هيولاه ما يسر ويبهر عن مذهبي الشاعرين الغزليين العظيمين (عمر بن أبي ربيعة) و (جميل بثينه) ومسلكيهما فتكشفت لهما - بفضله - مدرستان عتيدتا الصبغة عما ذخر الباحث وعدة الأديب
أما مجموعة العقاد الأخيرة (عرائس وشياطين) التي انتخب فيها نتفاً وطرفاً من مذخور الأدب ما بين عربية وشرقية وغربية والتي يترجمها في مقدمته: (مجموعة وحي العرائس ذوات الشياطين أو من وحي الشياطين ذوي العرائس تلقيناها من هؤلاء وهؤلاء وجمعناها هدية للقراء) فأقرب وصف لها - عندنا - يزاوج بين وضعها وحقيقتها أن نقول إنها حديقة فيحاء ذات أفنان مزهوة ملونة في خمائل شهدية الجني عطرية الشذى منغومة الصدى تتخطر فيها عرائس (هنريك هيني) و (شارل ماكي) و (توماس هاردي) معتنقات مع شياطين (ابن المعتز) و (ابن سهل) و (الشريف الرضي)، وغير أولئك وهؤلاء من الأرواح المرحة المجنحة التي أباحها العقاد ورضى لها أن تتهامس وتتلاقى وتتخالس في حديقته الناضرة المريعة (عرائس وشياطين)
(3)
وهاهو الزمن يسعف ويفي فنقرأ للزيات الحكيم الشاعر، قطعة عتيدة عن المعري الحكيم الشاعر! قطعة رائعة تزخر بالمعاني الخوالد، وتفيض بالألفاظ البارعة، في بيان مشرق
زاهر، وإحساس دقيق مرهف، هو بيان الزيات.
لقد أعدت قراءة المقال مرات ومرات، فكان يتجلى لناظري ونفسي أنني أطالع مجلداً ضخماً عن الشاعر الخالد، لا مقالاً موجزاً فيه الفكرة العابرة والنظرة السريعة
الواقع أنني لا أدري - والله - بماذا أصف هذه الفقرات البليغة النابضة: (. . . كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر. ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء، وأنشأ عواطفه وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه! ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله؛ فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس، وقوة الحفظ ودقة التخيل). . .
(صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فنقلب إلى داره نافضاً كفيه من دهر لا رجية له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه!)
(كأن أبو العلاء في شبيبته نسيم زحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا وتغير رأيه في الناس!) أأصف هذا بسحر التعبير، وبنصاعة التدليل، وبدقة الملاحظة، أم أصفه ببراعة المنطق، وعمق التحليل، وبهر الإحاطة، أم أنعته بتلون - الاتساق، وإشعاعات العبقرية ومقدرة الفنان؟!
(مكة المكرمة)
حسن عبد الله القرشي
الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
في الأسبوع الماضي انتقل إلى جوار الله شيخ من شيوخ الأدب، وعلم من أعلام الصحافة، هو الأستاذ (عبد الرحمن البرقوقي) منشئ مجلة (البيان)، وصاحب المؤلفات القيمة في الأدب والتاريخ. فجأته المنية وهو مشغول بإعداد الجزء الثالث من كتابه (الذخائر) فأسكتت قلباً كان ينبض بأنواع المعرفة، وأسكنت قلماً كان يجري بمعاني الجمال. والأستاذ البرقوقي
كان ثمرة مبارك من ثمار الشيخ محمد عبده، تأثر به في الناحية الأدبية، فكتب في علوم البلاغة، وشرح بعض كتب الأدب. وكان من خير أعماله إصداره مجلة (البيان) في عهد لم يكن للأدب فيه نفاق، فلقي في سبيل ذلك ما يلقى المجاهدون الأولون من الجهد والمشقة في تذليل مصاعب الطريق، وارتياد مجاهل الأرض. جزاه الله على اجتهاده وجهاده خير الجزاء، وعوض أمته وأسرته من فقده خير العوض
إلى الأستاذ محمد عبد الغني حسن
يسرني أن أبدي على صفحات الرسالة إعجابي بما تكتبون، وتقديري لما تحققون، ولا ينقص من قدر ذلك الإعجاب، أو يغض من قيمة هذا التقدير، أن يقع في تعقيبكم على كتاب (الوعي القومي) مما يقتضي التعقيب في زعمي
لقد ذكرتم أن الواو بعد النفي والاستثناء في قول المؤلف (وما من أحد يلمس الحياة العربية الحاضرة إلا ويشعر) لا لزوم لها والفصيح تركها
فهل تقصدون إلى تلك القاعدة التي تقول: (إن الجملة الماضوية الواقعة حالاً بعد إلا يتعين ربطها بالضمير ويمتنع ربطها بالواو)، كما في قوله تعالى:(وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون)؟
أعتقد أنكم لا تقصدون إلى ذلك ولا تريدونه؛ لأن الجملة في عبارة المؤلف مضارعية مثبتة لا ماضوية
لم يبق إلا أنكم قد عمدتم إلى التنبيه على ما في عبارة المؤلف من الخروج على القاعدة التي تضمنها بيتا ابن مالك
وذات بدء بمضارع ثبت
…
حوت ضميراً ومن الواو خلت
وذات واو بعدها انو مبتدأ
…
له المضارع اجعلن مسندا
ولكني ألاحظ أنكم قصرتم القاعدة على جملة الحال المضارعية المثبتة الواقعة بعد النفي والاستثناء، مع أنها عامة تنتظم ما وقع بعدهما وما لم يقع، فأني لحضرة الأستاذ هذا التخصيص؟
أحمد مصطفى طاحون
الكتب
الشيرازي يغني
سمعنا قبل ثلاث عشرة سنة على شبابة الدكتور عبد الوهاب عزام تناغيم فارس، فلقد غنى هذا الأديب الكبير أناشيد الفردوسي بلغة الضاد ونشر (الشاهنامة) عن المخطوطات التي سلك الأسفار للتنقيب فيها والحصول عليها. فأتم الترجمة النثرية التي أثرت عن (قوام الدين البنداري). ولست بسبيل الفردوسي والدكتور عزام فلهما فينة إطراب وإعجاب سيأتي بها الكتاب، وإنما هذه استهلالة يمر عليها القلم تلقاء كتاب جديد لشاعر فارس أخرجه للناس الدكتور إبراهيم أمين الشواربي المدرس بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول، وإنه لترجمة غزل لحافظ الشيرازي كتب مقدمته الدكتور طه حسين بك، فأوفي على الغاية من تحليل أدب الشيرازي كدأبه في مقدماته للكتب القيمة التي يحملها بيده إلى الجمهور لتحل بينه في المقام الكريم. وكتب الأستاذ الفاضل مترجم (أغاني شيراز) توطئة لسيرة الشاعر الفارسي وضح فيها نهج غزله، وفتح الطريق سالكة أمام القارئين، وحقق بعد ذلك في كل منسوخة أثرت لديوان الشاعر على الطريقة الجامعية في تحري المصادر وتنقية الأقوال من تصحيف الناسخين وتحريف الطابعين؛ ثم اندفع في ترجمة عربية نقية يخيل إلى قارئها أنه يرف بروحه على الأبيات لا تعتوره عقبة ولا تصدمه عقدة. إنها مقطوعات اختار لها المترجم بحوراً مزدوجة من كل جانب، ولقد كان منه هذا الازدواج أغنى للكلام في بيت وأوفر للسياق في شطر
يالها غزليات منسوجة بالصوفية كما زعم بعض النقاد، معطرة بالخمرة كما قال الشراب. وقد حار الناس في شعراء الخمر الفارسيين، إذ عرفوا عمر الخيام يسكب على نفسه الخمرة حياً وميتاً، ويشرب الصهباء بكأس من التراب ربما كانت جوانبها من فم امرأة ويدها يد إنسان، فقالوا: صوفي يشطح الشطحات. ولم يقيد الشيرازي قراءة ففتح لهم باب معانيه على مصراعيه، فمن كان منهم صوفي النزعة فهمها على هواه، ومن كان غير ذلك فهم المعنى دون لباس التصوف، وكيفما دار الأمر فإن أشعار الشيرازي خلقت للناي والمزمار، سواء أديرت بها الأذكار، أم لثمت بها الأقمار
إنها لتحفة جديدة في الأدب العربي المعاصر ضمها كتاب قيم زين بصور فنية أبدعت
بعضها ريشة المثال الموهوب الأستاذ محمد بديع
(القاهرة)
زكي المحاسني
1 -
الوميض
عدلت الكاتبة الفلسطينية المهذبة هدية عبد الهادي في قضية الرجل والمرأة عدلاً تاماً في هذا الكتاب الجميل الذي أذاعت معظم أحاديثه من محطة الشرق الأدنى للاذاعة العربية. ولقد قرأنا الكتاب كله فحمدنا للكاتبة الفاضلة حسن إشاراتها إلى المرأة العربية عامة، والمرأة المصرية بوجه خاص، كما بهرنا الحديثان القيمان عن باحثة البادية وقاسم أمين. . . إن كتاب الوميض، صيحة حق تجهر بها سيدة مسلمة تعترف في صراحة بما للمرأة وبما للرجل من حقوق وواجبات، ونحن يسرنا أن يذيع هذا الكتاب في مصر خاصة ليتم التجاوب المنشود بين الأوساط النسائية في العالم العربي العزيز. وبالكتاب محاولات قصصية بارعة نرجو أن تصلها المؤلفة الأدبية حتى تتم منها مجموعة مستقلة لتساهم في قضية تجديد الأدب العربي على خير وجه. وإن كان لنا أن نلاحظ شيئاً على أسلوب الكتاب فرجاؤنا أن تضاعف الكاتبة عنايتها باستدراك الهفوات القليلة التي لا تنقص من قيمة جهدها المشكور شيئاً
2 -
من النقد الفرنسي
أحسن الأستاذ روحي فيصل كل الإحسان في جمع بحوثه الجميلة هذه التي لخصها عن ثلاثة من أئمة الأدباء والمفكرين الفرنسيين، ونشرها في ذلك الكتيب الصغير بحجمه الجم الفائدة بموضوعه. . . إنها دروس حميدة في النقد، عالجت الشعر، والحاجة إلى الشعر (لبول فاليري) والعاطفة في الأدب، والبيان (لغوستاف لانسون) والحياة والشعر (لآبل بونار)، وقد وفق الأستاذ روحي كل التوفيق في تلخيصه هذه البحوث الجيدة التي أكسبها أسلوبه الطريف طلاوة وحلاوة. والكتيب هو الحلقة الثانية من سلسلة (اليقظة) السورية التي تنسج على منوال (اقرأ) المصرية، والتي نتمنى لها الرواج الذي تستحقه
3 -
عرفت ثلاثة آلاف مجنون
هذا الكتاب مؤلم في حياة المجانين وأحوالهم، ألفه الدكتور آر. سمول، وعربه الدكتور فائق شاكر، والأديب حافظ جميل (مطبعة التفيض - بغداد) وهو يحوي ثمانية عشر فصلاً في أخبار المجانين وأسباب الجنون، وطرق ترويضهم ونوادرهم المشجية، في قصص شائق وتحليل سيكولوجي فريد. والكتاب لا يستغني عنه الطبيب ولا المربي ولا المراهق ولا كاتب القصة ولا المشتغل بالتحليل النفسي. ولا عيب في الكتاب إلا فوضى الأخطاء المطبعية التي يجب تداركها في الطبعة الثانية
4 -
رسالة الغفران بالإنجليزية
لا ندري لماذا آثر الأستاذ ج. براكنبري أن يقدم رسالة الغفران لبني وطنه - أو بني لغته - الإنجليز على هذا النحو الذي لم يألفوه في أدبهم. . . لقد كنا نفضل أن ينقل خلاصة لها طويلة على نسق الخلاصة التي كتبها المرحوم الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي مثلاً، والموجودة في بعض أجزاء النظرات. لأن المقصود من نقل الروائع الأدبية هو إعطاء صورة من روحها وموضوعها، لا من شكلها، ولا سيما إن تعرضت تلك الروائع للمشكلات اللغوية ومعضلات النحو والصرف، مما لا يهم إلا أصحاب اللغة نفسها. وما دام الأستاذ المترجم قد نقل الرسالة عن النسخة المحررة التي وضعها الأستاذ كامل كيلاني، فلم تكن مندوحة عن اتباع طريقة الأستاذ المنفلوطي، ولكن على صورة أوسع، ولم تكن ثمة ضرورة في ترجمة الأشعار العربية تدعو إلى الارتباط باللفظ، بل كان يكفي أن يعطي المترجم صورة متماسكة من روح البيت أو القصيدة، مع تقريب المعاني إلى الذوق الإنجليزي بما يناسب طبيعة هذا الذوق نفسه، وهذا ما نفضله نحن في ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية. وما دام الكتاب مقصوداً به أن يقدم للقراء الإنجليز، فلم يكن ثمة داع إلى إثبات هذا القدر الكبير من الشعر العربي - باللغة العربية - في صلب الرسالة. إلا إن كان غرض المترجم هو إضفاء ثوب علمي على عمله. أو أن ينتفع المستشرقون مثلاً بجهده المشكور، فإن كان قد قصد إلى شيء من ذلك، فنحسب أن عامة القراء من الإنجليز لا يزالون في حاجة إلى شيء آخر من رسالة الغفران، لم نقدمه لهم بعد
وفي الترجمة أخطاء يسيرة في نقل معاني الشعر العربي لا يتسع المجال لاستعراضها هنا
5 -
مباحث في فلسفة الأخلاق
كتاب صغير، إلا أنه جم الفائدة، ألفه الأستاذ الفاضل محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين، فاستطاع أن يضغط فيه فصولاً قيمة في الخلق وتكوينه، والسلوك، والضمير والمثل الأعلى، والقياس والمقاييس الخلقية. . . الخ في عبارة جيدة، وعرض جميل. . . ولولا مغالاة الأستاذ المؤلف في ضغط هذه البحوث حتى أصبحت بالبحوث المدرسية أشبه منها بالبحوث الحرة لكان الكتاب خيراً مما هو. ولعل هذه الإشارة تحفز الأستاذ إلى إطرافنا بتوسيع كتابه ليخلص لنا منه سفر قيم. والأستاذ محمد يوسف موسى من المؤلفين المعروفين بحسن اطلاعهم على الفلسفة الإسلامية خاصة، وكتابه: فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية، هو من أمتع الكتب في موضوعه، وهو آية على اجتهاد الأستاذ وحسن فهمه لما يكتب. وكتابه الثالث: تاريخ الأخلاق آية ثالثة على مقدار ما ساهم به في التأليف الفلسفي في نهضتنا الفكرية الحديثة
(د خ)