الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 574
- بتاريخ: 03 - 07 - 1944
العلم والعلماء
في رعاية الإسلام والعربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
إن الذين يعيشون في حماية القانون وحراسة الشرطة ورقابة القضاء، الذين يعيشون في الحضر بين جدرانه وأبوابه وشوارعه ودروبه، يحسبون أن جماعة لا يسيطر عليها سلطان قاهر ولا يقهرها قانون نافذ ولا يقوم بين أفرادها قوامون من الشرط والجنود هي جماعة مسلمة للقتال والنهاب، يبطش قويها بضعيفها، ويفتك المسلح فيها بالأعزل، ولكنا نرى جماعات بادية تعدل بينها سنن العيش، وتمسك بها دون العدوان الرغبة والرهبة، ويقوم عليها عرف عادل مسلط. وربما يظفر فيها الفرد من الحرية ورعاية الحق والواجب بما لا يظفر به إنسان الحضر، ويقيده العرف بأكثر مما تقيد الحضري سلاسل القانون
وكذلكم يحسب الذين يعيشون في هذا العصر، يرون ضروبا من دور التعليم تتداول الناشئ منذ الطفولة إلى أن يبلغ الثلاثين أو يجاوزها، ويرون وزارات للمعارف تسيطر وتدبر وتنفق، ويبصرون سننا شتى ونظما مختلفة لتلقين العلم وتفقيه المتعلم، ويسمعون دوياً مستمراً في التعليم والتربية، وجدالا متماديا في وضع القوانين ونقضها وخط الخطط وتغييرها - يحسب الذين يشهدون هذا ويسمعونه أن جماعة ليس فيها وزارة للمعارف تضع القوانين وتنشئ المعاهد وتنفق الأموال ليس لها من العلم نصيب، ولكنا نرى في تاريخ الأمم كلفا بالعلم ودأباً عليه وتبحراً فيه. ونقرأ عن العلماء النابغين في كل علم والصناع الماهرين في كل صنعة، ولم يقم على هذه العلوم والصناعات وزارة للمعارف ولا حشر لها ما نعهد اليوم من الموظفين والقوانين والأموال والأعمال
وفي تاريخ الإسلام ما يحير القارئ من الحث على العلم والدأب على تحصيله والولع به واحتمال المشقة في سبيله والرحلة إلى الأقطار البعيدة من أجله، والتنافس فيه، فقد جاء الإسلام داعياً إلى العلم حاثاً على النظر في ملكوت السموات والأرض وسمي دستوره الكتاب والقرآن، وكانت أول كلمة نزلت من القرآن (اقرأ). وحمل العرب أمانة الإسلام، ورعوا سنن القرآن، فاجتمعت الأمم في رعايتهم على حب العلم وطلبه، والكد فيه والدأب عليه حتى صار العلم الإسلامي كله كمدرسة واحدة يجد معلموها ومتعلموها في التعليم
والتعلم. ويقوم عليها خلفاء وأمراء وكبراء يبذلون من جاههم ومالهم لأولى العلم. وقد بلغ الخلفاء بالعلم والعلماء منزلة التقديس. وأثرت عنهم في هذا سير لا يعرف الزمان نظائرها ولا يعي التاريخ أشباهها. هذا هرون الرشيد يصب الماء على يد عالم ضرير ويقول إنه يفعله إكراما للعلم، وولداه الأمين والمأمون يتنافسان في تقديم النعلين لأستاذهما الكسائي. والخليفة المعتضد بالله، كان يوما يطوف في بستانه وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني، فجذبها دفعة وخلاها، فقال ثابت ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يديك والعلم يعلى ولا يعلى عليه
وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون والفاطميون وملوك بني أمية بالأندلس وأمراء العرب جميعاً، ثم الملوك المسلمون من بعدهم على سنن واحدة في نشر العلم والحث عليه وإعزاز أهله والبذل لهم، وبناء المدارس وخزائن الكتب وبلغوا في هذا غاية ليس وراءها غايات
وما ظنك بأمة تدون القرآن ثم لا تعتمد على مصاحفه وحدها فتحفظه وتتلقاه بالرواية الشفوية لا تشذ منه كلمة ولا حرف، ثم لا تكتفي بهذا بل تروي طرائق النطق به على اختلاف اللهجات، فتحفظ للكلمات طرقا للأداء تخلدها في الصحف وتحفظها بالمشافهة على مر العصور؟ ثم ما ظنك بجماعة جمعت من أفواه الناس في المشرق والمغرب أحاديث الرسول وقد مضت عليها عشرات السنين غير مدونة. بهذه الهمة سار المسلمون في هداية شرعة الإسلام الواسعة، وأخوة الإسلام الجامعة، وفي رعاية العرب الأحرار وملوكهم الأخيار
طلب المسلمون العلوم الدينية واللغوية والعقلية في كل مكان، بكل الوسائل وعلى كل الأحوال، وكانت البلاد الإسلامية كالبلد الواحد يرحل طلاب العلم فيه والعلماء من جهة إلى أخرى ويقطعون الفيافي البعيدة كما ينتقل أهل القطر الواحد من جانب فيه إلى جانب، حتى صارت الرحلة سنة بين العلماء، فمن لا يرحل ولا يرحل إليه لا ينال بينهم مكانة عالية. وكم تغلغل علماء اللغة والأدب في البوادي يتلقون عن الأعراب جيلاً بعد جيل
وحسبنا مما تفيض به أخبار العلماء هذه المثل:
الحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق المتوفى سنة 571 طلب العلم في مكة، والكوفة، وبغداد، وأصبهان، ومرو الشاهجان، ونيسابور، وهراة، وسرخس، وأبيورد، وطوس،
والري، وزنجان، وقد عد شيوخه ألفا وثمانمائة، منهم نيف وثمانون امرأة
والخطيب التبريزي اللغوي الأديب. يقول فيه ابن خلكان: (وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهر في عدة مجلات لطاف. وأراد تحقيق ما فيها وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري. فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة. ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل. وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب)
وأبو القاسم سليمان بن مطر اللخمي الطبراني الشامي المتوفى سنة 360، رحل في طلب الحديث إلى العراق والحجاز واليمن ومصر والجزيرة الفراتية، ولبث في الرحلة ثلاثاً وثلاثين سنة وعدد شيوخه ألف
وتاج الإسلام أبو سعد التميمي السمعاني نقل ابن خلكان أنه وصل في طلب الحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وسافر إلى ما وراء النهر وخرسان عدة دفعات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها. . . وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ
وانظر هذا المثل في الحرص على العلم إلى النفس الأخير. روى ياقوت عن بعض العلماء قال: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً مسألة كذا وكذا؟ فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها
غير العلماء الذين رحلوا لرؤية البلاد والأمم ووصفها عن عيان، كالمسعودي الذي رحل إلى بلاد الفرس والهند وأطراف الصين وبلاد السودان وزنجبار، فضلا عن البلاد العربية وقال:
نطوف آفاق البلاد فتارة
…
إلى شرقها الأقصى وطورا إلى الغرب
وغير الراحلين المعروفين كابن جبير وابن بطوطة وابن سعيد
ولم يكونوا في هذا الجمع كحاطب ليل بل كانت سنتهم في أخذ العلم التثبت والإسناد.
التزموا هذين في الحديث ثم أشاعوهما في العلوم الأخرى فصار ديدنا لكل عالم ومتعلم. وكان من تثبتهم أنهم لم يكتفوا بما يكتب وحده وسموا من يعتمد عليه صحفياً. والتزموا السماع من المشايخ الموثوق بهم والقراءة عليهم، والاستجارة منهم، فلم تقبل رواية شفوية أو مكتوبة إلا بسند مقبول ولم تقبل الكتب إلا بنسب يصلها بمؤلفيها. لم يقصروا عنايتهم على كتب الدين، بل نالت كتب الأخبار التي لم تمت إلى الدين بصلة أو التي يتحرج منها المتدينون كأخبار الشعراء والمغنين، كثيرا من عنايتهم. وحسبنا كتاب الأغاني. وكثيراً ما نجد دواوين الشعراء في نسخ عليها سماع يصحح نسبتها إلى أصحابها. وقد وضعوا للسماع أصولاً التزموها واهتدوا بها. ومن عجيب ما روى من التثبت في الرواية أن أبا علي القالي البغدادي الذي رحل إلى الأندلس وأدب الحكم المستنصر ولي عهد عبد الرحمن الناصر، أعار تلميذه الحكم كتابا من كتبه فأبقاه الحكم عنده مدة طويلة فلما رده إلى أستاذه أسقط الرواية به وقال: لا آمن من أن يكون لحقه تغيير وهو عند الحكم
هذا وقد كان التعليم في أكثر مقاصده يراد به وجه الله وحفظ الدين وما يتصل به أو تكميل النفس، والاستجابة لنزوعها إلى المعرفة. ولم يكن موصولاً بالمناصب والمرتبات كما نرى في هذا العهد. لم يكن أهل العلم مضيعين ولم يكونوا محرومين من الجزاء الحسن، ولكن لم يكن طلب العلم مرتبطا بالشهادات والدرجات ارتباطه في هذا العصر، بل اختلف علماؤنا في جواز أخذ الأجر على التعليم، واستقبحوا أن يطلب العلم للمال والجاه ونحوهما
وسنذكر بعد ما قاله بعض العلماء حينما أنشئت المدارس ورتبت فيها الوظائف لطلاب العلم
دور العلم
كان طلب العلم في المساجد وفي دور العلماء أحيانا، وكانت خزائن الكتب مباءة درس كذلك. ثم أنشئت مدارس للتعليم خاصة
فأما المساجد فقد كانت دور علم في البلاد الإسلامية على اختلافهما في هذا ولاسيما المساجد الجامعة. فالجامع العتيق في مصر وهو المعروف اليوم بجامع عمرو كانت فيه دراسة متصلة. وكان به في بعض العصور أربعون حلقة للدرس لا تبرحه، وبهذا الجامع درس الشافعي وتلاميذه، وبه أملي الطبري ديوان الطرماح. وفيه نشئ أبو تمام، وغشى حلقاته المتنبي
وجامع ابن طولون وهو أكبر جوامع القاهرة وأقدمها كانت تدرس به العلوم الدينية كما يدرس الطب والميقات، وكذلك كان الجامع الأموي. قال ابن جبير:(وقد أجري فيه كل يوم لأكثر من خمسمائة إنسان). وكذلك كان جامع قرطبة في الأندلس وجامع الزهراء، وفيه أملي القالي كتاب الأمالي. ولا تزال المساجد حتى اليوم موضع درس
وأعظم المدارس صيتا في التعليم في عصرنا الجامع الأزهر بمصر، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين بفاس
ثم أنشئت دور للتعليم خاصة، من أقدمها بيت الحكمة الذي بناه الرشيد فيما يظهر، وكان للترجمة والتعليم. روى القفطي في أخبار بني موسى بن شاكر أن المأمون أوصى بهم أسحق ابن إبراهيم المصيصي وأثبتهم مع يحيى بن أبي منصور في بيت الحكمة. . . إلى أن قال: فخرج بني موسى بن شاكر نهاية في علومهم، وكان أكبرهم وأجلهم أبو جعفر محمد، وكان وافر الحظ من الهندسة والنجوم عالما بأقليدس والمجسطي وجميع كتب النجوم والهندسة والعدد والمنطق
وفي القرن الثالث الهجري أراد المعتضد بالله العباسي أن يبني ببغداد جامعة. روى المقريزي أن الخليفة المعتضد لما أراد بناء قصره في الشماسية ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك فذكر أنه يريد ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه، ولم يكن رأي المعتضد عجبا في ذلك العصر الذي أولع فيه الناس بالعلم ومهدت وسائله، ولم يكن جديداً فيه إلا جمع الناس في مكان واحد
ثم أنشئت جامعة القاهرة التي سميت دار العلم في القرن الرابع. أنشأها الحاكم بأمر الله، وفتحت للناس يوم السبت عاشر جمادي الآخر سنة 395، وحملت الكتب إليها للنسخ والقراءة، ودرس بها القراء والنحويون والأطباء والمنجمون ودرس الحساب والمنطق
قال المقريزي: وأباح ذلك كله للناس على اختلاف طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها. . . وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج إليه الناس من الحبر والأقلام والورق
والمحابر
(للحديث بقية)
عبد الوهاب عزام
الأخذ عن أوربا
للدكتور محمد مندور
يردد بعض الناس هنا وهناك أن الشرق غير الغرب، وأنه لا سبيل لالتقائهما، ونحن في الحق لا نعرف قولا أكذب من هذا وبخاصة في مجال الثقافة، حيث يشهد التاريخ أن التيارات الفكرية لم ينقطع لها مدد بين شطري العالم، وإن كان من الصحيح أن لكل من هذين الشطرين خصائص مميزة إلى جانب ما يجتمعان فيه حقائق إنسانية عامة
والناظر في تاريخ الحضارات يلاحظ أنها لم تتوقف قط عن التأثر ببعضها البعض، ولئن كان من الثابت أن الشرق قد كان مهد الحضارات؛ فإن الغرب لم يلبث أن أخذها عنه واتجه بها وجهات جديدة فنشر في الروح مبادئ العقل واتجه بالنظر إلى العمل، وبذلك وسع من أسس الحياة الروحية كما مكن للإنسان من استخدام المادة والسيطرة عليها
ولقد سبق للعرب أن اتصلوا بالحضارة الإغريقية القديمة، وأخذوا عن تلك الحضارة ما أمكن أخذه مما يصح عند العقول كافة كأصول التفكير الرياضي والفلسفي، وأما ما يتصل من تلك الحضارة بمقومات الحياة الاجتماعية والعاطفية، وهو ما تتميز به الحضارات، فلم يستطيعوا بداهة فهمه ولا قبوله أو نقله، ومن هنا لم يترجموا إلى لغتهم شيئاً من شعر الإغريق وإن كانوا على العكس من ذلك قد ترجموا من أشعار الفرس كالشاهنامه وغيرها. وربما كان ذلك لأن حياة الفرس التي يصورها ذلك الشعر كانت أقرب إلى حياة العرب من حياة الإغريق، ثم إن الدين قد لعب في هذه المفارقة دورا حاسماً، فالفردوسي شاعر مسلم وهوميروس وثني
ولقد تجردت نفس الظاهرة ببلادنا منذ أن ننقل عن أوربا في أوائل القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، فالشعر بل والنثر الأدبي بمعناه الضيق كان آخر ما أخذنا في نقله، بينما اتجهت جهود بعثات محمد علي وخريجو مدرسة الألسن إلى نقل العلوم أولاً، ولهذا الاتجاه سبب مزدوج، فوالي مصر العظيم محمد علي كان رجلا ذا طموح عملي، ولقد رأى الأوروبيين يسيطرون بعلومهم التي تمكنهم من القوة المادية، ولهذا أرسل معظم أعضاء بعثاته للتخصص في تلك العلوم كالهندسة والكيمياء والطب وصناعة السفن والفنون الحربية المختلفة، والسبب الثاني هو ما سبق أن أشرنا إليه من بعد الكتابات الأدبية شعراً ونثراً عن
محيط حياتنا في الشرق واتصالها الوثيق بنوع الحياة والإحساس الغريين
هذا، إلى ما في نقل الأدب من مشقة، بل من استحالة في بعض الحيان وبخاصة الشعر
وبعد: لقد سبق فرأينا أن نهضتنا الحالية تقوم على أساسين: بعث التراث العربي القديم ثم الأخذ عن أوربا. ولا مراء في أن البعث لا يثير بيننا جدلاً، وكلنا مجمعون على وجوبه بدافع قومي وثقافي معاً. وليس كذلك أمر الأخذ عن أوربا فهنا يجب أن نميز بين نوعين مما نأخذ: أخذ مبادئ العلوم المادية والعقلية وهذه لا نظن أن صوتا جديا يرتفع لمقاومتها. وهي في الحق ليست ملكا للعرب ولا للشرق، بل ولا من السهل أن نقول أين نبتت وأين نمت، ومثلها مثل السيل يجتمع من جداول لا حد لها تأتيه من كافة الآفاق، وعلى العكس من ذلك أخذ الأدب؛ فهنا ترتفع الخصومة ويشتد الصخب، ولتلك الخصومة ما يبررها وهي حقيقة بأن ننظر فيها عن قرب، وذلك لما للأدب من خطورة لا يدانيها شئ؛ فالأدب وعاء لتقاليد الأمة الاجتماعية والأخلاقية، بل والدينية، وفيه تتركز روحها بحيث يعتبر بحق مرآة حياة الأمم، ثم أنه من أخص المجالات التي تظهر فيها أصالة الشعوب في الخلق والحساسية وإدراك مواضع الجمال والقبح، ومن الطبيعي أن تحرص كل أمة على مقومات حياتها كما تحرص على أصالتها
ولكننا نلاحظ برغم ذلك أننا قد أخذنا في الربع قرن الأخير ننقل عن أوربا أدبها شعراً ونثراً؛ فهل في هذا حقيقة ما يهدد كياننا القومي أو يمس أصالتنا كشعب شرقي له مميزاته التي رسبت عن السنين الخالية، حتى استقرت بروحه؟
ذلك ما لا نراه. فحياتنا الراهنة قد تأثرت بما نقلنا عن أوربا من علوم وتطبيقات لتلك العلوم أكبر التأثر حتى أصبحت اليوم بلا جدال أقرب إلى الحياة الأوروبية منها إلى حياة البداوة الأولى. ونحن اليوم نجاهد شعبا وحكومة لنشر هذا النوع الجديد من الحياة بأقصى وسعنا. وهذا شيء من السهل أن يفسره العقل، فبمواصلة الطرق لا بد أن تصبح حداداً. بل أنك لتستطيع أن تصل إلى الإيمان ذاته بالمواظبة على شعائره وحركاته الخارجية، فما بالك بالأثر الخطير الذي تحدثه مظاهر الحياة المادية في نوع الحياة اليومية التي نحياها؟ ومن هنا لا يستطيع أحد أن يزعم أن مقومات حياتنا لا تزال بعيدة عن أن تجد في الأدب الأوروبي ما يعبر عنها بل ويغذيها. وليس من شك في أن هناك الكثير من مبادئ الأخلاق
والاجتماع، بل ومن مبادئ الدين التي نتفق عليها مع الغربيين بحيث لا نكاد نتبين مواضع الخطر على حياتنا القومية في النقل عن أوروبا. ونحن بعد لا نجهل أن هناك جوانب من الحياة الاجتماعية نخشى محاكاتها بغير حذر واستنارة. وأهم تلك الجوانب مشكلة العلاقة بين المرأة والرجل، وتلك مشكلة تمد الأدب في الشرق والغرب أكبر المدد. ولكننا وأن كنا مجمولين بطبعنا على وجوب التبصر إلا أننا نلاحظ أن الأدب العربي ذاته قد وصل في تصوير تلك العلاقة إلى حد من الحرية بل والإباحة لا نحتمله نحن اليوم، بل ولا يجرؤ عليه شعراؤنا، وفي قصائد امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس من ذلك الشيء الكثير. وبالرغم من هذه الحرية وتلك الإباحة لم تثر ثائرة العرب ولا قوضت أركان حياتهم ولربما كان في الأدب متنفس أهون ضرراً من الكبت والتزمت. ثم إن الهيئة الاجتماعية بوجه عام تأخذ الأدباء وبخاصة الشعراء منهم في جميع بلاد العالم بشيء كثير من التسامح حتى لنلاحظ أننا في مصر نفسها كثيرا ما نقرأ للشعراء ما لا يجرؤ ناثر أن يقوله. ولقد سبق لروسو عند مناقشته للدور الذي يلعبه المسرح في الحياة أن أنكر قدرته على تقويم معوج أو إصلاح فاسد، لأن الناس لا يذهبون إليه لتلقي درس في الأخلاق والاجتماع بل لمجرد التسلية أو المتعة العقلية وفي هذه التسلية وتلك المتعة ما يكفي لأنها تهون علينا حمل الحياة. والأمر في الأدب عامة كالأمر في المسرح
وأما عن الأصالة في خلق الأدب والمحافظة علة خصائصه المميزة، فهنا أيضاً لا نرى من المحاكاة، بل نراها على العكس المدرسة الأولى للأصالة، ومن ناشئة الأدب من يظنون مخطئين أن الأدب يخلق من العدم، وأن الموهبة في غنى عن القراءة والتحصيل والاستيحاء، بل والمحاكاة أحياناً، مع أن تاريخ كبار المؤلفين وكتبهم تشهد بنقيض ذلك. فلافونتين قد أخذ (حكايته) عن إيزوب اليوناني ولابرويير ابتدأ (صوره الأخلاقية) بالنقل عن تيوفراست، بل وشكسبير نفسه قد استقى موضوعات رواياته من (بلوتارخ) و (ناسيت) و (جيرالد دي سنتيو) وغيرهم. ومع ذلك لم يقل أحد إن هؤلاء الكتاب الكبار قد فقدوا أصالتهم. ولقد يقول قائل فليكن. ولكن لم نحاكي الأوربيين ونستلهمهم ولدينا تراثنا القديم الخليق بأن يمدنا بما نريد وجوابنا على ذلك هو أننا لا نريد أن نقصر الأخذ على أوربا. ولقد قلنا في المقال السابق إن في الأدب العربي، بل وفيما نظن أنه قد مات منه ما
لا يزال ولن يزال حياً أبد السنين كالجنين إلى الديار، وذلك لضربه في الشعور الإنساني بأعراق عميقة، ولكننا مع ذلك نلاحظ أنه ما دامت حياتنا قد تغيرت، وما دام الأوربيون قد استحدثوا من الأدب أنواعا لم يعهدها أدبنا العربي، فإنه من الحمق أن نزج بالاعتبارات القومية في هذا المجال ونحرم أنفسنا من أنواع الثقافة والغذاء الروحي. لو أن الأوربيين كانوا مكاننا لما أحجموا عن الإفادة منها، ولقد سبق لهم أن نهبوا تراث الشرق قبل أن يغزوه بأسلحتهم. فما بالنا نتقاعد الكسالى الذين يحتجبون خلف نمرة باطلة ليخفوا ما هم فيه من عجز عن اللحاق بقافلة العالم التي تسير حثيثة الخطى.
محمد مندور
الرصافي، والحر، ووحدة الوجود
للأستاذ دريني خشبة
الدنيا حر! والكلام في الفلسفة، وفي وحدة الوجود كما يفهمها الأستاذ الفاضل، معروف الرصافي، يزيد رهق هذا الصيف القاهري القائظ، والناس لهذا السبب محتاجون إلى ما يسليهم لا إلى ما يكربهم، ويؤجج الدنيا من حولهم، ويزيدها سموماً إلى سموم. . .
إلا أننا مع ذاك لا نرى بدا من العودة إلى هذه القضية، قضية الأستاذ الفاضل، معروف الرصافي، أو قضية وحدة الوجود، مكرهين، بعد إذ حسبنا أننا قلنا فيها الكلمة الأخيرة، أو كلمتنا نحن الأخيرة على أقل تقدير. . .
فأستاذنا الفاضل المحبوب (نقولا الحداد) يتفضل فيشرف هذه القضية بالاشتراك فيها، في حيز خاص، ويلاحظ أننا لم نورد تعريفا لنظرية وحدة الوجود، ولا اقتبسنا هذا التعريف عن كتاب الرصافي (إن كان الرصافي قد عرفها) ثم قال حفظه الله إن مقالنا الثالث زاد النظرية غموضاً، بل جعلها (تغيب وراء سحب تلك الفلسفات السفسافية التي يعجز القارئ عن أن يحصل منها معنى معقولا). ثم أخذ الأستاذ الجليل يفيض علينا بعد ذلك من علمه الغزير الذي طالما انتفعنا به، شارحاً رأيه، أو رأى العلم الحديث، في نشأة الخليقة، مما لا نعرض له هنا بخير أو شر. . . لأن الدنيا حر، كما بدأنا هذه الكلمة، ولأن الرجل الذي لا يعترف بالوجود إلا للمادة، ويقرر أنه ليس وراء الطبيعة شيء. . . وأنها - أي الطبيعة - هي كل شيء وأنه يعتبر مسألة نسبة الله إلى الوجود، أو نسبة الوجود إلى الله مسألة فقهية لاهوتية لا يتعرض لها بتاتا. . . ذلك الرجل الفاضل الذي يقول هذا جازماً به غير متردد فيه، لا بد أن يكون بطل هذا الموضوع. والبطولة في هذه الموضوعات الشوائك تفتح أبوابا ليس في فتحها خير لأحد، لأنها تفضي إلى مجادلات فارغة، وتولد خصومات مرة. بل ربما أحدثت فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة
ونحب أن نوضح موقفنا في هذه القضية التي ابتلانا بها الأستاذ الفاضل معروف الرصافي، كي يقتصد بعض كتابنا الإجلاء، وأدبائنا المحترمين، فلا يحرفوها عن مواضعها، ولا يبعدوا بها عما أردنا أن نحصرها فيه. فقد ألف الأستاذ الرصافي كتابه تعليقاً على كتابي صديقنا الأعز الدكتور زكي مبارك: التصرف الإسلامي والنثر الفني، ثم تعليقا على كتاب
لمستشرق إيطالي يدعى (لئونا كايتاني) سماه (التاريخ الإسلامي)، والتعليقات على الكتابين الأول والثالث تعليقات من وجهة نظر تعد إسلامية بحتة، وقد ذكرنا شيئا كثيراً عن معتقدات الأستاذ الرصافي الذي لا يفهم معنى للآية: لا إله إلا الله. . . ويرى الصحيح أن يقال: لا إله إلا الوجود. وينكر الوحي على الصورة التي يؤمن بها المسلمون، وينكر أن القرآن كلام الله. ويكرر عبارة. . . قال محمد في القرآن، في معظم صفحات كتابه، ثم ينكر البعث على صورته الإسلامية، وينكر الحساب والثواب والعقاب، ويؤولها تأويلاً سخيفاً مضحكاً أشرنا إليه فيما كتبنا من قبل. ويؤمن - كما ننقله بحروفه من مقالنا الثاني (العدد 571) - بوحدة الوجود فيقول:(أن البحث والتفكير قد ألجآني إلجاء لا محيص عنه إلى بوحدة الوجود (ص11)، وأن الله هو الوجود المطلق اللانهائي (ص13)، ويدعي أن كل شيء في هذا العالم جزء من الله، أو أن المخلوقات (مظاهر للوجود الكلي) كمظاهر الأمواج لماء البحر المائج، (وقد فاتنا أن نذكر هذا التشبيه ليس من اختراع الرصافي، بل إنه من أخذه عن شيخه التلمساني أحد القائلين بهذا الإفك - ولا يؤاخذنا الأستاذ زكريا - (كتاب الحجج النقلية والعقلية للعلامة ابن تيمية ص79)، وهذه هي وحدة الوجود التي يؤمن بها الرصافي، الله هو العالم والعالم هو الله، وأن ممن قال ذلك في القرآن في سورة الحديد:(هو الأول والآخر والظاهر والبطن وهو بكل شيء عليم)؛ فإن هذه الآية تدل بمفهومها دلالة صريحة على أن لا موجود إلا الله. . . هو الأول الذي ليس له بداية، والآخر الذي ليس له نهاية، وليس معنى هذا إلا أنه هو السرمدي اللانهائي، وهو الظاهر الذي نراه بأعيننا وندركه بحواسنا، (أي نراه ونشمه ونسمعه ونذوقه ونحسه، ولا أدري ماذا أيضا!) والباطن الذي لا نراه ولا ندركه، وليس معنى هذا إلا أنه هو كل شيء، وأنه لا موجود غيره. ونحن إذا أخذنا صفو المعنى من عبارة الآية قلنا بأن الله هو الوجود الكلي المطلق اللانهائي، وأنه لا موجود غيره. هذه هي وحدة الوجود التي هي أساس مذهب التصوف وهذا منشؤها) (بحروفه من الرسائل ص13)
وقد فرع الرصافي من هذه النظرية كل ما ذهب إليه من إنكار من صميم العقائد الإسلامية التي تخرج منكرها من حظيرة الإسلام، ثم فرع منها تساوي المتضادات، فالخير مثل الشر، ومصيرهما واحد، والتقى مثل الدعارة، والكفر مثل الإيمان، والأبيض مثل الأسود،
والعقل مثل الجنون، وتفكير العلماء مثل تخريف الجهلاء المخرفين، ولا فرق بين فضيلة ورذيلة. والمغفل لهذا السبب، هو الذي يحرم نفسه من لذة أتيحت له، سواء أتاحها له الرحمن أو هيأها له الشيطان. . .
والأستاذ الفاضل معروف الرصافي، يدعونا في آخر كتابه إلى الأخذ بآرائه هذه، ويعزو غفلة المسلمين وتأخرهم إلى التمسك بحرفية الإسلام وعدم تأويله كما تزخرف له الأباطيل التي فرعها عن تلك النظرية. وقد ذكرنا في مقالنا الأول، كما ذكرنا في مقالنا الأخير أنه لولا هذه الدعوة لأهملنا الرد على ترهاته إهمالا تاما. . . لأننا لسنا موكلين بإفهام الناس، ولا جعلنا الله قوامين على حرية الفكر
من هذا يرى أستاذنا الفاضل المحبوب نقولا الحداد أن القضية قضية إسلامية، زعم الرجل المسلم الذي أثارها - أنها من تفكير رسول المسلمين، وأن متصوفة المسلمين هم الذين أذاعوا بها ونشروها، مما اضطرنا إلى نقض هذا الزعم بإثبات وجودها في الفلسفة اليونانية. . . في ذلك المقال الذي لا أدري والله كيف زاد النظرية غموضاً
ومن هذا يرى أستاذنا الفاضل المحبوب نقولا الحداد، أننا قوم مسلمون، قام فينا رجل ينقض لنا معتقداتنا، ويزعم لنا أن الحمير والبغال والجمال والحمام والبط والإوز والهوام والضفادع وكل ما يدخل فيها ويخرج منها هو جزء من الله الذي نعبده ونؤمن به. . . وأننا نستطيع أن ندرك هذا الإله فنراه ونشمه ونتذوقه ونسمعه ونحسه ونأكله ونشربه ونلفظه ونبني به بيوتنا غرفها وجميع (مرافقها!) فننام فيه ونخرج منه - ولا نخرج منه إلا إليه! - ثم يأتي يوم فنهدمه!
أفأن زعم لنا هذا الرجل تلك المزاعم، وزعم لنا أن رسولنا الكريم هو صاحب هذا اللغو. وأن ما نؤمن به من إله قدير خلق هذا العالم ولا يعقل أنه هو. . . أو هو إياه! - باطل أوقعنا فيه قصر نظرنا. ثم غلا بعد ذلك فهدم المعايير الأخلاقية بقوله في تساوي المتضادات. . . فهل يوافق أستاذنا الجليل المحبوب، (نقولا حداد) على ترك هذا الإفك، يسمم عقول المسلمين، وإغفال تلك الأراجيف تعبث بالفضائل التي يحثنا عليها ديننا الكريم القويم؟!
لست أدري لماذا أوجه هذا الحديث كله إلى الأستاذ نقولا الحداد، ولا أوجه شيئا منه إلى
الكاتب الأديب الفاضل الأستاذ زكريا إبراهيم (الليسانس في الآداب والفلسفة بدرجة الشرف الأولى) الذي طالما أثنيت على رقائقه الجميلة لأستاذنا الزيات، شفاه الله وعفاه، وحفظه للأدب والدين، وإن أنكر الرصافي المغوار فائدة الصلوات والأدعية
لست أدري لماذا لا أوجه شيئا من هذا الحديث إلى أخينا الأستاذ زكريا؟! ألكونه جعلنا في كلمته الطيبة من العوام الذين يرمون الناس بالإلحاد ويمنحونهم ألقابه التي لا تكلفهم شيئا؟ أم لكونه جعلنا نكرة حيث تفضل علينا بتلك الإشارة العظيمة الكيسة التي سوف تكسبنا الخلود! لا هذا ولا ذاك. . . فنحن مع ذلك نعترف بقيمة ما قرأناه لهذا الأديب المفكر المهذب، ولكننا بالرغم من حسن رأينا فيه، نصر على توجيه السؤال التالي إليه:
أيؤمن حضرته بأن هذا العالم غير موجود؟ وبما انتهى إليه ابن عربي من أن العالم متوهم ما له وجود حقيقي، لأنه ليس ثمة غير حقيقة واحدة لا تتكثر ولا تتغير، وهذه الحقيقة الواحدة هي الله أو الحق، وأنه ما ثم إلا الله الواجب الوجود، الواحد بذاته. . . الخ؟
أيؤمن حضرته بأن هذه الأرض التي نعيش فوقها وهي تسبح بنا في السموات وهم في وهم، وأن الشمس التي تنير لنا ظلمات البر والبحر، وهم في وهم، وأن كل شيء من هذه المدركات وهم في وهم، حتى الأستاذ زكريا نفسه وهم في وهم، وأن ليسانسيه الآداب والفلسفة بدرجة الشرف الأولى التي حصل عليها بعد أن أذاب بصره وصهر مخه وهم في وهم، وأن أساتذته المحترمين المبجلين وهم في وهم، وأن البطيخ اللذيذ البارد الذي يطفئ حر الظمأ في هذا الصيف القائظ وهم في وهم، وأن باعة هذا البطيخ الذين يشتطون في ثمنه هذه الأيام وهم في وهم؟!
أيؤمن حضرته بأن جدار غرفته التي يقرأ فيها كتب فلسفاته وهم في وهم، وأنه لو نطح برأسه هذا الجدار لما سال الدم منه لأن الجدار وهم في وهم، ولأن رأسه وهم في وهم، وحتى لو فرض أن سال الدم، فالدم وهم في وهم؟! ما هذه الفلسفة يا عالم؟! ولماذا يعز عليكم أن نصف هذه الفلسفة بأنها إفك وأنها تنطوي على كثير من الأراجيف؟ ولماذا يكون من قلة الإنصاف أن نحكم على الفلسفة باسم الدين، ما دامت هذه الفلسفة كما رأى الأستاذ زكريا تحاول نقض ديننا الكريم القويم، ومادامت هذه الفلسفة تدعونا إلى ذلك التدهور الأخلاقي والتحلل من جميع الآداب؟ أيؤمن الأستاذ الفاضل زكريا إبراهيم بتساوي
المتضادات كما يؤمن الرصافي؟ أيؤمن بأن الدعارة كالتقي، وإن إكباب المرء على حليلته لا يقل عن سجوده بين يدي الله؟ أم أن هذا هو حكمنا على الفلسفة باسم الدين، وهذا قدر ذلك الحكم من الخطأ والمجازفة والتعسف؟
وما رأي أستاذنا الفاضل المحبوب نقولا الحداد في هذه الفلسفة التي لا تعترف بالعالم، أو بالطبيعة التي لا يؤمن حضرته بما عداها؟!
يا عالم. . . الدنيا حر، ونحن موجودون. . . فكونوا أنتم وهماً في وهم. . . ودعوا لنا ديننا الفطري الجميل الساذج. . . فالعالم يجد وأنتم تلهون.
دريني خشبة
على هامش النقد
عرائس وشياطين
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ سيد قطب
(هذه الصفحات نخبة مجموعة من وحي العرائس ذوات
الشياطين، أو من وحي الشياطين ذوي العرائس. تلقيناها من
هؤلاء وهؤلاء وجمعناها هدية إلى القراء. وكل ما توخيناه
فيها أن نتجنب التكرار كما نتجنب الإسفاف والإطالة
(فهذه قصائد من الشعر العربي أو العالمي، يكثر فيها الإيجاز ويقل الإسهاب، ويندر فيها المشهور المتكرر على جميع الأسماع. . .
(وحسبنا منها شرط واحد نرجو أن يتحقق لها جميعا في رأي قرائها، وذاك أنها - وهي من وحي العرائس والشياطين - خير ما يقرب الإنسان إلى قلب الإنسان)
عباس محمود العقاد
جد لي رأيان متناقضان في هذه المجموعة، هما اللذان أستعرضهما هنا مع القراء: ففي أثناء القراءة الأولى السريعة، ولم أنته بعد من المجموعة، ولم أتبين مواقع قصائدها ومقطوعاتها في نفسي. قي هذه القراءة التي يلتفت فيها الذهن إلى أكثر الأشياء التماعا ويلتفت فيها الحس إلى أشد الأصوات تصدية. . . عندئذ قلت: أن الشعر العربي يستطيع أن يقف على قدميه أمام الشعر العالمي
وحينما انتهيت من قراءة المجموعة وخلوت إلى نفسي أتبين موقع كل قطعة وكل قصيدة، وألمح وراء الألفاظ والمعاني، ما ترسمه من ظلال إنسانية وما تصوره من حالات نفسية. عندئذ قلت: إن هذه المجموعة صحيفة اتهام للشعر العربي! فأي الرأيين هو الخطأ، وأيهما هو الصواب؟
مرجع الحكم في هذا هو طريقة إحساسنا بالحياة، وحقيقة مطلبنا من الشعر. فأما أنا فلا أتردد في القول بأن الحياة في صميمها إن هي إلا انفعالات واستجابات، وعواطف وحالات نفسية، وأن الأفكار والمعاني إن هي إلا بلورات صغيرة على سطح الحياة، وكثيراً ما تكون معوقات لجريان الحياة، وإن كانت في أحيان قليلة تساعدها على التعمق والنفاذ
وليس (الإنسان) الراقي هو الذي تستهويه المعاني المجردة والأفكار المبلورة، - كما يعتقد الكثيرون - ولكنه الإنسان الذي يتعمق حسه أدق المشاعر وأجلها، والذي يدرك نبضات الحياة وانفعالاتها، والذي يتخذ من ذلك كله غذاء لحسه وفكره جميعاً
والشعر هو نبضة قلب قبل أن يكون لمعة فكر؛ وهو خفق حياة، قبل أن يكون فكرة ذهن، وهو حالة نفسية قبل أن يكون قضية فكرية؛ وهو ظلال إنسان قبل أن يكون التماع أفكار، ووسوسة أفئدة قبل أن يكون رنين ألفاظ
فإذا نحن نظرنا إلى الشعر العربي بهذه العين في مجال الشعر وجدناه فقيراً في الظلال الإنسانية والحالات النفسية بمقدار ما هو غني بالأفكار والمعاني والاستجابات الحسية المباشرة التي لا تتعمق النفس الإنسانية إلى مدى بعيد
والتعبير العربي - وبخاصة في الشعر - تعبير مباشر أقرب ما يكون إلى الاستجابة الحسية، فهو يؤدي الفكرة أو المعنى، ثم لا تلمح وراءه مخلوقا إنسانياً. إنك تلمح ولاشك فكراً وحساً، ولكن المخلوق الإنساني الذي يشتمل الفكر والحس ويشتمل بجوارهما حياة آدمية كاملة قلما تلمحه وراء التعبير العربي
ولقد خيل إلي مرة أن هذه اللغة نبتت في الظهيرة على صحراء مكشوفة. فهي لا تلقي حولها ظلا. ليس هناك ما يسمونه (بين السطور) كل لفظ وكل تعبير يقابله معنى أو فكرة، ثم لا شيء وراء المعنى ووراء الفكرة. لا ظل. لا صورة. لا رؤى في الضباب غير مميزة الملامح بينما تثير في النفس شتى التخيلات وشتى الاهتزازات
وبمقدار الغنى في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي، كان الفقر في الرؤى والأحلام، وفي الصور والظلال، وفي الحالات النفسية، والملامح الإنسانية؛ وهذا هو مفرق الطريق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في مجموعة (العرائس والشياطين)
حتى شعر الغزل عند العذريين وغير العذريين، قلما تجد فيه وراء اللفظ إلا المعنى، ووراء
التعبير إلا الفكرة. قلما تلمح الحالة النفسية والملامح الإنسانية، قلما تتسمع الوسوسة والهينمة التي لا تعرف مصدرها، ولا تدل عليها الألفاظ بذاتها، ولكن تدل عليها الظلال التي تلقيها الألفاظ وتتوارى خلف التعبيرات.
إن بيتين ساذجين بسيطين كقول مسلم بن الوليد (فيما أذكر) وقد حضرته الوفاة وهو وحيد غريب وليس حوله إلا نخلة بجرجان يناجيها فيقول:
ألا يا نخلةً بالسّفحِ
…
مِن أكناف جُرْجان
ألا إني وإياك
…
بجرجان غريبان
إن هذين البيتين لهما نموذج راق في الشعر العربي، وهو نموذج متواضع بالقياس إلى الشعر العالمي، ولكنه كذلك نموذج نادر!
فماذا في هذين البيتين الساذجين. فيهما أن المعنى والفكرة يتواريان ليفسحا المجال للصورة الإنسانية والحالة النفسية. صورة الإنسان الغريب المفرد تقربه الغربة من كل مخلوق، ويرهفه الانفراد إلى الأنس بكل كائن، وخلع الحياة عليه ومعاطفة القريب للقريب
وعلى هذا النحو ينبغي أن ننظر إلى الشعر، على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس، وما يرسم لخيالنا من صور، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة المحدودة، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة. وذلك فيما اعتقد واجب شعراء الشباب
ولكن حذار أن نفهم من هذا ما يفهمه بعضهم من تلك الفوضى. إن الشعر - مع هذا - ليس تهيؤات مخبول، ولا تهاويل مذهول. والحالات النفسية المطلوب تصويرها، ليست هي خلط المجانين، وتداخل الاستعارات وتراقص التعبيرات. إن بين الشعر وبين هذه التهيؤات والتهاويل لبعداً سحيقاً، فإذا لم يكن بد من هذا البلاء فلا، والشعر العربي القديم بحسيته وتجريده أقوم وأهدى، وأخلد فناً
وإلى القراء بعض الأمثلة الحاسمة بين المعاني والأفكار، وبين الحالات النفسية والصور الإنسانية في قطعة من مجموعة العرائس والشياطين، للشاعر الإنجليزي الحديث (هوسمان) بعنوان (إلى السوق أول مرة) وليست هي بأغنى ما في هذه المجموعة من هذا الرصيد
يوم أنشأت أذهب إلى الأسواق، أوائل عهدي بالأسواق
كانت الدراهم في الكيس جد قليل
وكم طال بي النظر وكم طال بي الوقوف
على أشياء في السوق لا تنال
تغير الزمن اليوم، فلو أردت الشراء لاشتريت
هنا الدراهم في الكيس، وهناك أشياء الأمس في السوق
ولكن أين يا ترى ذلك الفتى المحروم؟
(طالما شكا قلب الإنسان، لأن (اثنين واثنين: أربعة)
لا هي ثلاثة كما نودها حيناً. ولا هي خمسة كما نودها بعد حين
وأحسبه سيشكو إلى آخر الزمان
فبقياس الأفكار والمعاني، هذه المقطوعة لا شيء! إن معانيها قريبة قريبة، فهي لا تزيد عن قولهم:(كل ممنوع محبوب) و (كل ما تملكه اليد تزهده النفس) و (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)
ولكن أين هذا من تلك الأحاسيس الإنسانية الخالدة الغامضة التي تثيرها هذه المقطوعة في نفس كل (إنسان) عانى ما عاناه الشاعر من (أن اثنين واثنين أربعة لا هي ثلاثة، كما نودها حيناً ولا هي خمسة، كما نودها بعد حين) وأحس بحلاوة التشهي وزهادة المشتهى بعد حين. واضطرب بين واقع الحياة الذي يحتمه المنطق ولا مفر منه ورغائب النفس التي لا تستند إلا للشوق المجهول الذي ينكر المجهول الذي ينكر المنطق المحتوم!
ليس المعنى هنا هو المهم، إنما هو المخلوق الآدمي الذي تحس دبيب انفعالاته ووسوسة وجداناته، وليست الفكرة التي تحويها المقطوعة هي المهمة، وإنما هي الصورة المترائية بين الظلال الشفيفة
ثم طريقة تناول الموضوع واستعراض الصورة واحدة بعد الأخرى وتسلسل الصور الحية المتخيلة، كل هذا له شأنه وله قيمته في استثارة الأحاسيس. لا إلقاء المعنى مبلوراً مجرداً كأنه قذيفة!
وسنعود إلى استعراض بعض المقطوعات الأخرى في هذا الصدد الذي يستحق في اعتقادي أن نعود إليه مرة ومرة لتصحيح الفكرة السائدة بيننا عن الشعر والشعور
أما الآن فنقول: إن العقاد قد أحسن إلى الأدب العربي بهذه المجموعة، وإنها لمحسوبة له كأي كتاب من كتبه، وإننا لفي حاجة إلى غيرها من المجموعات. وإذا لم يكن لها من فضل إلا إثارة مثل هذه التفسيرات للشعر وتصحيح مقاييسه تصحيحاً عملياً، فإن هذا وحده يكفي
والطريقة التي اتبعها في التعريف بكل شاعر وعصره وطريقته ومنزلته تجعل للمجموعة هدفا آخر غير المادة التي احتوتها. ذلك هو التعريف السريع المفيد لعدد من الشعراء في العالم لا يتسنى للكثيرين أن يتعرفوا إليهم بمثل هذا الوضوح.
سيد قطب
1 - فساد الطريقة
في كتاب النثر الفني
(عدم الدقة)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
أردنا بما قدمنا من أمثلة لتناقض صاحب الكتاب أن ندل على فساد تفكيره. وورود مثله في أي بحث بل في أي كلام كاف في إسقاطه، فلا يقام له وزن في ميزان الحق والصواب. لكنا لا نريد أن نقف عند هذا، بل نريد أن ندل أيضاً على فساد طريقته، لأنه قد جمع فساد الطريقة إلى فساد التفكير
وسنبدأ من عيوب طريقته بعيب يمت إلى سوء التفكير بسبب وثيق، ذلك العيب هو عدم الدقة. وصاحب الكتاب يعلم أن الدقة أول شروط البحث، وأن مراعاتها أول ما يجب على الباحث. وما أظنه إلا قد اجتهد أن يكون دقيقاً: دقيقاً في التفكير، دقيقاً في التعبير، دقيقاً في الفهم، دقيقاً في الاحتياط لما يظنه الحق. لكن أخطأه التوفيق أو أعوزته المقدرة في كل هذا، فلم تنجه محاولة الدقة في التفكير من الوقوع في التناقض الذي رأيت، وأسلمته محاولته الأخرى إلى ما سترى
وسأبدأ من الأمثلة بمثل جامع أو شبه جامع لعدم الدقة في كل هذا. ذلك أن صاحب الكتاب أراد أن يحكم في مسألة الشعر والنثر أيهما أفضل فقال من صفحة 25
(أحب أن أدون رأيي في الفرق بين منزلة الشعر ومنزلة النثر، وهو رأي لم أسبق إليه: رأيي أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة؛ فهناك مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر. والبليغ الموفق هو الذي يفهم سياسة الفطرة في مثل هذه الشئون)
وأراد أن يضرب مثلا يوضح معناه. فهل تظنه جاء بشعر لا يصلح لموضوعه النثر، أو بنثر لا يصلح لموضوعه الشعر؟ لا هذا ولا ذاك، بل جاءك بمحاورة بينه وبين المسيو مرسيه في مغزى عدول معاوية رضى الله عنه عن سجعه كان أملاها على كاتبه، فأخطأ كلاهما الصواب كما سنبينه في موضعه، وأخطأ هو في الاستطراد. ثم قال تماما للتوضيح:
(ولو تتبعنا آثار الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر لرأيناهم يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغني فيها النثر شيئاً؛ فبديع الزمان يمضي في رسائله ومقاماته ناثراً، ثم ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد. وقد رأينا عبد العزيز بن يوسف يراسل الصاحب بن عباد فيبدأ خطابه ناثراً، ثم يميل إلى النظم ولا يفوته أن يعلل ذلك فيقول: ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا وفي نفسي إتمامه نثراً فمال طبعي إلى النظم، وأملي خاطري على يدي ما كتبت ونعم المعرب عن الضمير مضمار الفريض:)
هذا اقتباس طويل، أليس كذلك؟ لكن لا بأس بطوله ما دام يعين على ما نحن بصدده من ضرب المثل لعدم الدقة عند صاحب الكتاب في أكثر من ناحية
وأول ما يلفت من كلامه هذا هو بعد ما بين أوله وبين آخره، أو ما بين رأيه وبين استشهاده على ذلك الرأي، فرأيه عبر عنه بصيغة القصر والحصر:(مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر). . . (يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغنى فيها النثر شيئاً). . . فهو هنا لم يدع لاشتراك النثر والشعر موضعاً، لكنه فيما استشهد به يخبرك عن بديع الزمان في رسائله ومقاماته إنه (ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد) فهل كون الشعر عندئذ أقرب إلى ما يريد بديع الزمان معناه أن النثر لا يغني شيئاً عن الشعر في ذلك الموضع؟ أم معناه، أن النثر قريب إلى ما يريد البديع ولكن الشعر أقرب، حتى في رأي صاحب الكتاب؟ فرأي صاحب الكتاب في الآخر غير رأيه في الأول، أو دعواه على بديع الزمان في الآخر تقصر عن دعواه في الوسط وعن تفرقته بين ما لا يصلح له إلا الشعر وما لا يصلح له إلا النثر في الأول. ولا أريد أن أسمي هذا تناقضاً، ولكنه تقصير في الفهم وتقصير في التعبير، فيما يتعلق ببديع الزمان وفيما يتعلق بعبد العزيز بن يوسف
ومع ذلك قد نفى صاحب الكتاب في صفحة 26 عن عبد العزيز بن يوسف أن يكون جيد الشعر (والقطع التي وصلت إلينا من شعره باردة الأنفاس) في قول صاحب الكتاب، مع أنه قد أدخله قبل في (الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر)، كما رأيت. وإذن فقد استشهد به، على علات تلك الشهادة، ثم كر عليه بما يبطل شهادته في صلاحية الشعر حيث لا يمكن
أن يصلح النثر. فماذا تسمي هذا من صاحب الكتاب؟ إن لم يكن تناقضا فهو على الأقل عدم دقة في الفهم والتفكير
ولعلك لاحظت أن صاحب الكتاب حين أراد أن يحكم بين الشعر والنثر في المنزلة بادعائه مواطن للقول لا تصلح إلا لأحدهما دون الآخر، لم يتمم التقسيم من ناحية، ولم يبين تلك المواطن من ناحية أخرى. لكن يظهر أنه ترك بقية التقسيم لفطنة القارئ، وإن كان هو ليس عنده من الفطنة ما يتجنب به إبطال شهادة ثاني شاهديه؛ أما مواطن كل من الشعر والنثر، فقد عاد إلى تبيينها بقوله من صفحة 26:(قلنا أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة، فلنعد إلى ذلك بكلمة حاسمة فنقول: إذا كان موضوع القول متصلاً بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب، لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلا بأعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب، لأن لغته أقدر على الشرح والإيضاح والإفهام والتبيين والإقناع). وتلاحظ أنه هنا قد عدل عن صيغة القصر إلى صيغة التفضيل، فهو يبيح لكل من النثر والشعر أن ينوب عن صاحبه، وإن لم يسد مسده ويغن غناءه، لكنك تلاحظ أيضاً أن كلمته الحاسمة هذه، وإن كانت أرخى زماماً من كلمته الأولى التي لم يسبق إليها، قد أخرجت الشعر من مجال العقل وأخرجت النثر من مجال القلب من حيث السبق في الإجادة والصلاحية للتعبير؛ فالسبق دائما للشعر في مجال القلب، وللنثر في مجال العقل من غير نظر إلى الشاعر ولا إلى الكاتب. أي أنه لم يعر شاعرية الشاعر ولا كاتبية الكاتب أي التفات: فعنده أن المواضيع المتصلة بالقلب يجب أن يتناولها صاحبها بالشعر؛ فأن لم يكن شاعراً لم يكن له أمل في النبوغ. ومثل هذا يقول طبعاً في المواضيع المتصلة بالعقل. ولسنا ندري - ولا نظنه يدري - من أين له هذا الحكم النظري البحث، وإن ادعي له الحسم. كما لا ندري ما رأيه في مثل معلقة الحارث بن حلزة، وهي خطبة جدلية في قصيدة. لكن الأهم من هذا وذاك أنه وهو يبحث ويأتي بالحاسم من الرأي لم يرد داعياً لأن يحدد الاتصال بالمشاعر والعواطف والقلوب ما نوعه وما مداه، إذ غير معقول أن يكون كل ما اتصل بالشعور أولى به الشعر، ولا كل ما اتصل بالفهم أولى به بالنثر، وإن كان الثاني أقرب إلى المعقول من الأول. فالحارث بن حلزة ألقي خطبة شعرية والجدل منها أكبر النصيبين، ولم يمنعه ذلك أن يذكر بها مدى الدهر.
والخطب الوعظية أو الحماسية في الصدر الأول، وبعد الصدر الأول، لها من القلب والشعور أكبر النصيبين، ولم يمنعها ذلك أن تؤثر ويذكر بها أهلها مدى الدهر، فأين هو ذلك الحسم الذي ادعاه صاحب الكتاب لكلمته تلك؟ إنها كلمة مبهمة، لا حسم فيها ولا فصل، فهي مثل للتقصير في النظر، وعدم الدقة في التفكير وفي التعبير
على أننا سنفرض أن صاحب الكتاب أراد بذلك الذي سماه اتصالاً بالمشاعر والعواطف والقلوب، على أقل تقدير علاقة الحب. فهل تظنه حتى في هذا كان أدنى إلى الدقة في بحثه والاحتراس في التعبير، فلم يسو بين النثر والشعر في هذا الباب؟ إن كنت تظن هذا فاقرأ له ما كتب في صفحة 157 في فصل النسيب:(وفي القرن الرابع يظهر الغزل في النثر ظهوراً رائعاً بحيث يمكن مقارنة الرسائل الغرامية بأقوى قصائد التشبيب، ولا يمكن الارتياب في قدره كتاب القرن الرابع على إجادة هذا الفن وتفوقهم فيه وتصرفهم في ضروبه تصرف المبدعين). فأين ذهبت إذن تلك الكلمة الحاسمة وذلك الرأي الذي لم يسبق صاحب الكتاب إليه؟ أم هو مجرد كلام يثبت باسم البحث في صفحة 26 وينفي باسم البحث أيضاً في صفحة 157؟ وإذ كان صاحب الكتاب لا يستطيع الاحتراس والتزام الدقة حتى في أضيق الدوائر وأظهرها وأقربها إلى ما ألف وألف الناس، فمتى يرجى منه أن يقوم بما يوجبه البحث من الدقة والاحتراس والاحتياط؟ ولا تنس أن عبارته هذه قد كتبها وهو يبحث عن خصائص النثر الفني في القرن الرابع، أو هكذا على الأقل قد ترجم للباب الثاني من الجزء الأول من كتابه، فلا يمكن أن يعتذر له عنها بالمبالغة أو بالتحمس كما يعتذر للناشئين، لأن النثر الفني في القرن الرابع هو موضوع بحثه الأصيل، وما عدا ذلك فهو ملحق به محشور فيه. فإذا كان هذا الرجل جاداً في بحثه، يعتقد بما يقول وما يقرر، فلماذا لا يطبقه؟ وإن كان يطبقه فلماذا لا يتعلم كيف يحسن التطبيق؟
محمد أحمد الغمراوي
إعجاز القرآن
في كتاب النثر الفني
للدكتور زكي مبارك
انتهت مقالات الغمراوي في الثورة على آرائي في إعجاز القرآن، الآراء المبثوثة في كتاب النثر الفني، انتهت مقالاته بأسرع مما كنت أتوقع، ففي كتاب النثر الفني آراء في إعجاز القرآن أخطر من الآراء التي تحدث عنها بإسهاب، ولو كنت أستظرف هذا الرجل لدللته على تلك الآراء، فهو في أشد الاحتياج إلى أن يعلن عن نفسه بتكفير الدكتور زكي مبارك، كما أعلن عن نفسه أعواماً بتكفير الدكتور طه حسين
لقد أشقى نفسه، وأشقى المطابع، وأشقى باعة الورق، ليخرج كتاباً ضخم الحجم في نقد كتاب الشعر الجاهلي، وهو اليوم يصوم ليدخر ما يطبع به كتاباً أضخم وأفخم في نقد كتاب النثر الفني
أعانك الله يا أيها الأستاذ المفضال على نفسك، فما بعد شقوتك شقوة، ولا بعد ضياعك ضياع
وأنا مع هذا أعطف عليك، لأنك من قراء كتاب النثر الفني، وبقراءته ستدخل الجنة بغير حساب، فهو تميمة لنجاتك من تكفير المؤمنين بلا دليل ولا برهان
وإذا صح زعمك الأثيم باني أحارب القرآن فلن يسمع الله لك، ولن تجد من يستريح إلى بهتانك، يا كاتباً يؤذي الرجال باسم الدين، وهو أجهل من أن يفهم أسرار الدين
إن مقالاتك في مجلة الرسالة كانت وبالاً عليك، فقد صورتك بصورة من لا يفهم حرفاً واحداً من حروف القرآن، وهي أيضاً شهدت عليك بالعجز عن الصراحة في مجادلة رجل قضى شبابه في الاعتصام بالرأي الصريح
أنت تعرف جيدا أن إدارة الرقابة بوزارة الداخلية لا تسمح بنشر المجادلات الدينية، ومن هنا كان طغيانك، وإلا فما الذي أسكتك عن نقد آرائي في إعجاز القرآن وقد ظهر كتاب النثر الفني قبل عشر سنين؟
لا يؤذيني أن تزعم أني ملحد، ولا يؤذيني أن يتفق الناس جميعاً على أنني ملحد، فأنا أصافي الله وحده، ولا أقيم لبني آدم أي ميزان
ولو أن الله أنعم عليك بإيمان مثل إيماني لكان لك من الوجود الذاتي ما يعصمك من الافتراء على الرجال
هل يعرف القراء هويتك يا أيها الأستاذ المفضال؟
استخبرت عنك فعرفت أنك أستاذ كيمياء بكلية الطب فما الذي ابتكرت في علم الكيمياء؟
أرجع إلى المعمل كما يعبر المصريون، أو المختبر كما يعبر العراقيون، واحبس نفسك هناك لتصل إلى شيء، يا شخصا يستر تقصيره في عمله بالتطاول على الرجال
لن تفلح أبدا، يا هذا الشخص، ولن يكون لك من المجد العلمي أو المجد الأدبي نصيب، وإصرارك على الإفك بتكفير الدكتور زكي مبارك لن يزيد في إيمانك، وهل يكون لمثلك إيمان؟
أنا الملحد في زعمك لم أستعن بغير الله، ولم أستنصر بغير الله، ولم أحول وجهي إلى وجهة ينكرها الله، وقد صرحت مرات ومرات بأني لا أخاف الله إلا تأدباً مع ذاته العلية، فكيف أخاف الناس؟
سهمك مردود إلى صدرك، يا هذا الفلان، وستموت مسلولاً بفضل حقدك، فارحم نفسك من الحقد لتعيش
بيدي - بعد استئذان الأقدار - حياتك أو موتك، فانظر ما الذي تختار لنفسك، يا هذا الفلان!
لم تكن أول كاتب يدعو إلى تشكيك الناس في إسلامي، وقد اندحر من سبقوك إلى اتهامي، فلتندحر أنت أيضاً، وستحق لعنتي عليك فيكون اسمك محمد احمد الغمراوي
ولن أعاتب الأستاذ الزيات بعد اليوم على أن ينشر لك ما تريد في الغض من أقدار الباحثين، فقد عرفت أن مجلة الرسالة تعبت من تلوم بعض من القراء على إكثارها من الأبحاث المتسمة بالحرية الفكرية، فهي تنشر مقالاتك لتقول إنها حديقة تجمع بين الأزهار والحشائش، وبين الأسود والثعابين
وأنت لجهلك فرحت بمخاصمتي لمجلة الرسالة، فهل كنت تنتظر أن أخاصم مجلة الرسالة من أجلك إلى أخر الزمان؟
إن قراء الرسالة سألوا عني حين غبت، ولن يسأل عنك سائل حين تغيب
ومن أنت حتى يسأل القراء عنك؟
بضاعتك تنحصر في تكفير المؤمنين
وأما مع هذا أعطف عليك، لأنك من قراء النثر الفني، والله عز شأنه سيتفضل فيرفع من يقرأون كتاب النثر الفني
ولكن كيف؟
أفترع الجواب فأقول:
آرائي في إعجاز القرآن بكتاب النثر الفني آراء تقنع المستنيرين بإعجاز القرآن، وهم الفئة التي تخاف عليها من الارتياب في إعجاز القرآن
لا خوف من إلحاد العوام، فإيمانهم لن يتعرض لأي زلزال، ولكن الخوف من إلحاد الخواص، وقد أقنعتهم في كتاب النثر الفني بصحة إعجاز القرآن
هؤلاء الخواص كانوا في بالي وأنا أؤلف كتاب النثر الفني، فأشبعتهم إيماناً بإعجاز القرآن، ولن يرضيهم كلام غير كلامي
ثم ماذا؟
ثم أترك محاسبتك على حقدك، ولا أرجو الله أن يغفر لك، فما لمثلك مكان في فردوس الغفران
وإن بدا لك أن تعاود الإصرار على اتهامي في إسلامي فسأقول بعبارة صريحة إن إسلامك مدخول، وإنك تستر جهلك بدعوى الغيرة على الدين الحنيف
وما غرامك بأن تفهم قراء الرسالة أني أحارب القرآن؟
ما هذا الغرام الأثيم بإيذاء المؤمنين يا هذا الشخص المسلم بالصورة لا بالوجدان؟
إن آرائي في إعجاز القرآن شرحت صدور الألوف من المسلمين، وأقنعتهم بأن القرآن قوة روحية لا قوة لفظية، وأن روحانيته هي السر في ظفره بالخلود
إن مجلة (الرسالة) غير مسئولة عما تصنع بنفسك، ولو نشرت لك ألف مقالة لبقيت حيث وضعك القدر العادل أستاذ كيمياء لم يبتكر شيئاً في علم الكيمياء
اترك تكفير الدكتور زكي مبارك وتكفير الدكتور طه حسين يا هذا الفلان، واشغل نفسك بمصيرك، يا شخصا لن يكون له مصير، ولو اعتصم بالخيوط الفانية مما ينسج السراب
أنا أقنعت المثقفين بإعجاز القرآن، فماذا صنعت أنت؟
أما بعد فهذا جوابي لقرائي، وهو جواب رجل يقال إنه ملحد، رداً على مفتريات يذيعها عني جهول يدعو إلى اتهامي في إسلامي
لك الويل يا هذا الفلان، فلن أترك الرد عليك ما دامت مجلة الرسالة ترى أنك أهل لنشر ما تسوق من المفتريات
رأي هو الرأي، ويكفيني مجداً وشرفاً أني أقنعت المثقفين بإعجاز القرآن، وعند الله جزائي، وما عند الله أخلد من الخلود
زكي مبارك
وحدة الوجود
بين الفلسفة والدين
للأستاذ محمد يوسف موسى
تناول في هذا الأيام مذهب وحدة الوجود بعض كتاب الرسالة وقرائها النابهين الأفاضل، بمناسبة (رسائل التعليقات للرصافي) ونقدها للأستاذ دريني خشبة، وكل عرض لهذا المذهب من الناحية التي يراها جديرة بالاهتمام. وقد رأى أحدهم، وهو الأستاذ زكريا إبراهيم المعروف باصطناع الدقة في التعبير والحكم، أن من التعسف والخطأ والمجازفة أن يقال عن هذا المذهب إنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف وإنه لا يتفق وعقائد الدين الحقة
لذلك أرجو أن يكون لي التقدم بهذه الكلمة؛ لعلها تكشف بعض الحقيقة، أو تساعد على الوصول إليها
الذهاب إلى الفكرة (وحدة الوجود) ليس إلا أحد الحلول أو الإفهام التي حاول بها المفكرون والفلاسفة في القديم والحديث أن يحلوا أو يفهموا مسألة صلة الله بالعالم، وفد أنتج التفكير في هذه المسألة كثيراً من المذاهب التي وعاها الزمن وسجلها تاريخ الفلسفة
ومحي الدين بن عربي من زعماء القائلين بهذه الفكرة، وكان له من أجل ذلك أنصار وخصوم؛ هؤلاء يقذفونه بالزندقة والكفر، وأولئك يجعلونه الشيخ الأكبر وأحد أولياء الله وأصفيائه، ولكل أمارات ودلائل، ولا يتسع المقام لذكر ذلك أو الإشارة إليه. إلا أني أشير إلى أن عبد الوهاب الشعراني، وهو من أكبر أنصار الشيخ، حاول أن يوفق بين الشريعة وبين ما ورد في مؤلفات الشيخ مما لا يتفق والدين، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً، فلجأ أخيراً إلى حذف ما لا يتفق وما عليه أهل السنة والجماعة من كتاب الفتوحات، كما يروي ذلك بنفسه في مختصره لهذا الكتاب، وتلك لعمري خطة إثمها أكبر من نفعها!
ولكن، ما معنى هذه الفكرة (وحدة الوجود) التي تؤدي إلى التكفير في رأي كثير من الناس؟ هي، كما تبين من كتب ابن عربي نفسها، القول بأنه ليس هناك إلا وجود واحد هو الله والعالم كله مظاهر له، أو بعبارة أخرى ليس جميع الممكنات إلا مظاهر للحق (الله) يتجلى فيها ولولاه لكانت عدما
ومعنى هذا أن الحقيقة التي هي الوجود الحق هي ذاته تعالى: وهي في عالم الحيوان حيوان، وفي عالم النبات نبات، وفي عالم الجماد جماد؛ فالله منبت في كل شيء من سماء وأرض وشجر وحيوان، وما إلى ذلك كله مما خلق حتى عجل بني إسرائيل هو بعض مجالي الله ومظاهره، ولهذا صح لموسى عليه السلام أن يقول للسامري:(وانظر إلى إلهك)
هكذا يقول ابن عربي ويتناسى تتمة الآية: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرفنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً) مما يدل دلالة واضحة لا تختل الجدل والمكابرة على ما في خطاب موسى عليه السلام للسامري من تهكم به وبما صنع!
وليست هذه النصوص متفردة في مؤلفات ابن عربي، إنها مليئة بكثير أمثالها الدالة على هذه النظرية الغامضة الصعبة التصور والعسيرة الفهم، والبعيدة عن العقل والدين فيما أرى، ويرى كثير غيري إنها لا تتفق مع الدين الذي يرى وجود موجودين - الله والعالم - متباينين في كل شيء ومنفصلين تمام الانفصال، أحدهما وجوده رهن بإدارة الآخر، ولا تتفق كذلك معه بحال ما، ما دام الدين ينزه الله عن أن يكون أشرف مخلوقاته مجلى ومظهراً له، فكيف بعجل بني إسرائيل وما دونه
ولا تتفق كذلك مع العقل الذي يرفض أن يؤمن بشيء يعجز عن إدراكه على أي نحو كان، كما أنه لا يرى ضرورة للإيمان بها في سبيل فهمه الله والعالم والعلاقة بينهما
ولعل رفض العقل والشرع لفكرة وحدة الوجود هو الذي جعل بعض المفتونين بابن عربي يبرئونه من القول بها أو الذهاب إليها؛ أمثال السراج البلقيني والسيوطي والشعراني وعبد الغني النابلسي، ولكن كيف يمكن هذا، والفتوحات والفصوص قاما على هذا المذهب ولا يستطاع تأويلها جميعاً!
قد يقبل الإغماض في عبارة يجري بها لسان صوفي أخذه الوجد، وارتفع به الحال، وشاهد ما لا نشاهد، فقال في لحظة من لحظات التجلي والمشاهدة: أنا الحق - مثلاً! - ولكن ليس من المقبول الإغماض في نظرية قام عليها مذهب، وامتلأت بها كتب، وسجلها صاحبها وهو هادئ النفس يحس بما يقول ويقدره قبل أن ينطق به!
لقد أبنت رأيي بوضوح وتفصيل في ابن عربي - معتمداً على مؤلفاته - من الناحية الدينية والأخلاقية، في كتابي الذي ذكرته بالهامش، وأتبعت ذلك برأي ابن تيمية فيه وفي
أمثاله، وفعلت ذلك للعلم وحده ولتوفية ما يجب للدراسات العلمية من أمانة وعدم تعصب، ولا أريد هنا أن أذكر شيئاً مما ذكرته هناك في هذه الناحية
ولعل الأخ الفاضل الأستاذ زكريا إبراهيم لا يرى تعد هذا أن من التعسف والخطأ والمجازفة وصف مذهب وحدة الوجود بأنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف، بل لعله يرى أن هذا الوصف فيه غير قليل من الاعتماد!
وأما القول بأن (من دأب العامة أن تتمرد على كل ضرب من ضروب الامتياز)، ولهذا (ليس أيسر على الناس من أن يقرفوا الفلاسفة والمفكرين بالكفر والإلحاد)، فلن يصرف من يرى الحق أن يصدع به، ومع هذا، ليت شعري أكان الغزالي وأمثاله من العامة؟ على أني أرى أن نتشدد جميعاً ونقتصد اقتصاداً كبيراً في الحكم بالتكفير والزندقة والإلحاد ونحو هذا مما يتصل بالعقيدة والدين.
محمد يوسف موسى
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
570 -
إن الكفاف لراهب أو زاهد
أبو القاسم عامر بن هشام القرطبي:
قالوا: الكفاف مقيم. قلت: ذاك لمن
…
لا يستخف إلى بيت الزراجين
ولا يبليله هب الصبا سحرا
…
ولا يلطفه عرف الرياحين
ولا يهيم بتفاح الخدود ورمان (م)
…
الصدور وترجيع التلاحين
571 -
فأصلح الأمر أن يبقوا مفاليسا
الحسن بن شاو المعروف بابن النقيب:
في الناس قومٌ إذا ما أيسروا بَطِروا
…
فأصلحُ الأمر أن يَبقَوا مفاليسا
لا تسألِ الله إلا في خمولهم
…
فهم جيادٌ إذا كانوا مناحيسا
572 -
ما تطاق في الشعر يا أصمعي!
أسحق الموصلي: سأل الرشيد عن بيت الراعي:
قتلوا ابن عفاف الخليفةُ محرماً
…
ودعا فلم أر مثله مخذولا
ما معنى (محرما)؟ فقال الكسائي: أحرم بالحج. فقال الأصمعي: والله ما كان أحرم بالحج، ولا أراد الشاعر أنه أيضاً شهر حرام فيقال: أحرم إذا دخل فيه كما يقال: أشهر إذا دخل في الشهر، وأعام إذا دخل في العام. فقال الكسائي: ما هو غير هذا. فقال الأصمعي: ما أراد عدي بن زيد بقوله:
قتلوا كسرى بليل محرما
…
فتولى لم يُمتع بكفن
أي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد فما المعنى؟ فقال: كل من لم يأت شيئاً يوجب عليه عقوبة فهو محرم لا يحل منه شيء. فقال الرشيد: ما تطاق في الشعر يا أصمعي!
573 -
ليس عدو بين أضلاعه إلا معدته
قال أبو الفرج الأصبهاني: وجدت في كتاب الشاهيني: أنشد أبو الحارث حميد قول العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داع
…
يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا
…
كان عدوي بين أضلاعي
إن دام هجرك لي يا مالكي
…
أوشك أن ينعاني الناعي
فبكى ثم قال: هذا شعر رجل جائع في جارية طباخة مليحة، فقيل له: من أين قلت ذاك؟ فقال: لأنه بدأ فقال: (قلبي البيت)، وكذلك الإنسان يدعوه قلبه وشهوته إلى ما ضره من الطعام والشراب فيأكله فتكثر علله وأوجاعه، وهذا تعريض ثم صرح فقال:(كيف احتراسي: البيت)، وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلا معدته، فهي تتلف ماله، وهي سبب أسقامه، وهي مفتاح كل بلاء عليه، ثم قال:(إن دام لي: البيت). فعلمت أن الطباخة كانت صديقته، وأنها هجرته ففقدها وفقد الطعام، فلو دام ذلك عليه لمات جوعا، ونعاه الناعي
الطبيعة في الصيف
جلاد الضلال. . .
(الهجير)
(الجزيرة في هاجرة الصيف)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
دعوها على راحاته الخضر ترتمي
…
فقد شفها برح الهجير المسمم
رمت فوقه أشجانها وتنفست
…
إليه بشكوى عابر لمخيم
ولاذت به مفطورة، فظلالها
…
أسارير وجه اليائس المتهجم
وأدواحها ركبانَ دور أحالهم
…
ضلال الفلا أصنام دير مهدهم
تناجت بصمت أيقظت هجساته
…
يمامات طهر صاحيات كنُوَّم
هَففنَ، وذرَّفنَ التغني صبابةً
…
فخطَّفنَ إحساسَ الغصون المكتم
وأغفت على حضن من الموج نائم
…
بَخيل الرُّؤَى إلا على كل ملهم
هو النيل رباها على الحب والهوى
…
وعانق شطيها عناق المتيم
وطوق جنبيها فلاحت غريبة
…
على ساعديه من أسى البين تحتمي
وتحكي له أشجانها، وحديثها
…
يغني بلا عود، ويشكو بلا فم
تضوع غراما وانتظاراً وحيرة
…
وشعراً إلى غير الهوى كم يُنغم
يمر على محرابها الناس غُفَّلاً
…
كما مر بُوِذيٌّ على دار مُسلم
وتسرى حواليها السفائن خشعاً
…
سُرَى تائب في كعبة الله مُحرم
نشق عباباً مات هسهاس موجه
…
فلاح كمشتاق إلى نفسه ظمى
ولولا خطا تياره لحسبتها
…
تماثيل طير في سراب مدوم
لها شرع بيض الحواشي متونها
…
كأعلام جيش مستجير مُسلم
سكون ولكن في حنيات صدره
…
بقايا لُهاث الشد في قلب مجرم
وأقعي على الأسوار قيظ رأيته
…
يطل بوجه الحانق المتندم
يلوح كجلاد الطلال وهذه
…
سياط اللظي منه طوال التضرم
يكدنُ يحلن الَظل وهماً وغصنه
…
تهافت مفزوع عميق التوهم
تشاكي من التعذيب فرع وطائر
…
وعشب فكان الروض إيحاء مأتم
وأوقف نعش الريح لَا كفُّ لَاحد
…
ولا خطو بَكَّاءٍ كثير الترحم
تَعَّرى عن الأستار، فهو مكَّفنٌ
…
بضوء على الأغصان حيران مُحجم
شواظ ولا نار، ونار ولا لظى
…
ورؤيا لهيب في خيالي وفي دمي
وموقدُ عبَّادين مات لهيبهُ
…
وشبت أغانيه سعيراً بأعظمي
وكنت أرى والنار لم تبد سجدة
…
مجوسية قامت على كل مجثم
وركباً من التهيد تخفي وجوهه
…
وتنظر من وجه الأثيم الملثم
وحائرة من عالم الزهر أطرقت
…
حداداً على عطر الصباح الململم
مقيدة، ملهوفة، ذات آهة
…
مقيدة تبدو كطيف مجسم
تمد يدها للغدير، وقلبه
…
إلى عودها يجري بكوب محطم
أظمآي تنادي ظامئاً؟ من رآى الأسى
…
يُغيثُ الأسى في الخاطر المتألم؟!
لقد بُحَّ صوت الجو برحاً ولهفة
…
كما بَحَّ سر الغيث صوت المنجم
وهاجرةُ يشوي بها الظل مثلما
…
يقلب في الأشواق قلب المتيم
لها وهوهات في الربى خلت أنها
…
فحيح أفاع من زوايا جهنم
رميت بها حران أحكي حكاية
…
عن الصيف لم أنبس ولم أتكلم
ولكني أروي عن الوحي كيفما
…
روي لي بأطياف الخيال المهمهم
لنفسي أحكيها، ومن هول سحرها
…
طلاسم سمعُ الغافلين المَختَّم. . .
رأيت جحيماً لم تُباركه فارس
…
بعباد نار من بنيها مزمزم
ولم يرن طواف إلى قباسته
…
بقلب من التسبيح شاد مرنم
ولا حدثت عنه الخرافات أهلها
…
ولا خط عنه الوهم حرفاً بمرقم
له وهجُ يصلي الوجوه بحره
…
ويفهق كاليحموم في مسرب الدم
وألسنة بيض لَهُنَّ رطانة
…
بمثل لغاها كاهن لم يتمتم
كأن عفاريت الظهيرة طنبوا
…
خياماً على هذا البساط المضرم
تنادوا بألفاظ صداها وساوس
…
سمعت معانيها بآذان أعجم. . .
وجو غضوب الذر يكظم نقمة
…
ويكتم غيظ الساخط المتبرم
شممت به ريح المعاصي سخينة
…
محملة الأنفاس من كل مأثم
يفحُّ كجراع الشكوك هواجساً
…
لهن دبيب السم في رأس أرقام
وألحد صوفي النخيل، فما أرى
…
به هِزة كانت إلى النسك تنتمي
لقد كان رعاش الأيادي تبتلاً
…
إلى الله لم يدنس، ولم يتأثم
ولم يجن ذنباً يبتغي عنه توبة
…
مع الناس يدعوها بكف ومعصم
أما قام في الفجر الرطيب مؤذناً
…
يصيح بتكبير على العقل مبهم
فما باله أصغي وأصغت ظلاله
…
كمنتظر حكم القضاء المحتم!
وألقي على الأفق المصفد نظرةً
…
كأصفاد عيسى والتفاتات مريم
وأزهق إحساس الطبيعة، فاغتدت
…
كخزن على كتم الشكايات مرغم
كأن ثكالي مخرسات على الرُّبى
…
شليلات همس الروح والجسم والفم
وقفن عليها ينتظرن معزياً
…
وطرف المعزي عن طريق الأسى عمى
طرحن مناديل الظلال على الثرى
…
وكاد بهن العود كالظل يرتمي
وأطرق فيها كل شيء فما بها
…
سوى طيف مصلوب وإيماء مسقم
كأن القصور الشامخات بأرضها
…
محاريب جن في مزار محرَّم
يطن حواليها الهجير كأنه
…
تخافت عار حول عرض مَثَّلم
وينفخ كالحداد ناراً شرارها
…
تناهش خزى في ضمير مذمم
مشيت بها حيران أشبه خاطراً
…
بقلب ملول جازع اليأس مظلم
أفتش عن سحر الربيع وعطره
…
كأني نقَّابُ بأحشاءِ منجم
لقد مات! واغتالت مغانيه بغتة
…
كما اغتال عصف الشك أحلام مغرم
ألا أين هفهاف النسيم بأيكها
…
وأين مزامير الضحى المبتسم؟
وأين أغاني الموج والموج شاعر
…
وإن لم يُذِع شعراً ولم يترنم
وأين الهوى إني حملت ربيعهُ
…
بقلب من الأشواق عات مدمدم
وهمت على صيف الجزيرة شارداً
…
بحبي كسرٍ في حشاها مطلسم
أحب لياليها، وأهوى تُرابها
…
وأهوى غروب الشمس في أفقها الظمى
فقدت أليف الروح بين شعابها
…
وعدت بحزن المستطار المتبم
كأني هجير تائه فوق أرضها
…
يغني بناي من أسى النفس ملجم
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
حمد وشكر
أسرة الرسالة تحمد الله على ما أسبغ من نعمة العافية على رئيس تحريرها. وتنوب عنه في شكر الأمم العربية قاطبة، أفراداً وجماعات لما طوقته به من كريم رعايتها وجميل برها ونبيل عواطفها، وسؤالها المتصل عنه أثناء مرضه، مما كان له أطيب الأثر في تخفيف ألمه وسرعة إبلاله. وإن لم يكن بد من أن تخص بالشكر أحداً فهي تقدمه خالصاً موفوراً إلى صديقها الفاضل الدكتور عبد الله الكاتب بك الذي أجرى العملية للأستاذ الزيات بمستشفى الروضة، وتولاه بعنايته حتى تماثل للشفاء.
ثم تخص بالشكر وزراء مصر ونوابها وعلماءها، وكل من تفضل بالسؤال عن الأستاذ بحضوره إلى المستشفى أو بإرسال البرقيات والرسائل، وتبتهل إلى الله اللطيف أن يتم للأستاذ من كمال الشفاء ما هو أمنية أصدقائه ومحبيه، إنه سميع مجيب.
البستان
أهدي الأديب الكبير والأستاذ الجليل إسعاف بك النشاشيبي مجموعة من مؤلفاته إلى صديقه الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن. ومنها كتاب (البستان) الذي هو مجموعة من الشعر والنثر أحسن الأستاذ الجليل فيها الاختيار. فكتب إليه الشاعر هذه الأبيات:
بستانك الناظر في حسنه
…
لله ما أبهى وما أفتنا!
أمتعتني منه بما يَسْتَبي
…
ويخلبُ الألبابَ والأعينا
آويتني منه إلى روضةٍ
…
آنست منها الظلَّ والمجتَنَي
في كل سطر منه تغريدهٌ
…
يوشك منها العقلُ أن يُفتنا
جمعت فيه كلَّ أصل زكا
…
ورُمتَ فيه كل فرع دنا
واخترتَ من نظم ونثرٍ به
…
ما جوَّدَ المنشئ أو أتقنا
ما كنتَ فيه كاتباً منشئاً
…
بل كنتَ فيه راوياً محسناً
ورب شعر أنت أحييته
…
وكاد بالنسيان أن يُدفنا
هذا اختيارٌ فيه من عقلكم
…
ما قد رأيناه عياناً هُنا
في فندقٍ ذكرانا (بابلاً)
…
قد بَلْبَلَ الله به الألسنا
في موطن العجمة منْ حية
…
صادَفتِ (الضادُ) لها موطنا
أيامَ ما انحلَّ لكم مجلسٌ
…
صبحاً ولا انفض لكم موهنا
تُديرُ فيه القولَ مستوعباً
…
وتنشُدُ الأشعار مستحسنا
تلك الليالي البيضُ يا سيدي
…
لم يبق منها غير حُلو المنى
تكرار (بين) بين الاسمين الظاهرين
تفضل الأستاذ دريني خشبة فأصدر مقاله القيم في الرسالة عدد 569 معنوناً على هذا الوجه: بين (إناث حائرة) وبين (قيس ولبنى)، فجاءت (بين) مكررة بين الاسمين الظاهرين، كما جاء في الرسالة العدد 273 ص 1574 في البريد الأدبي بعنوان:(وزير المعارف يحكم بيننا وبين لجنة إنهاض اللغة العربية)، جاء تحت نفس العنوان ما يأتي:
(وصنيع الأستاذ هيكل باشا هو الفرق بين وزير يقرأ ويقضي وبين وزير آخر يسمع ويمضي)، ونعتقد أن الصواب هو عدم جواز تكرار (بين) بين الاسمين الظاهرين
وكنت قد قرأت للمؤرخ واللغوي العراقي المنسي المرحوم (رزوق عيسى) صاحب مجلة (المؤرخ) البغدادية رأيا في هذه القضية وجدته في بعض المسودات من تراثه الأدبي القيم أرغب في عرضه على أنظار حضرات أساتيذ اللغة ليبدوا رأيهم في ذلك وإليكم النص عنه:
(من أوهام فريق كبير من كتاب العربية أنهم يوسطون (بين) بين الاسمين الظاهرين المتعاطفين فيقولون مثلا: (الحرب قائمة على ساق وقدم بين اليابان وبين الصين)، والصواب: بين اليابان والصين، لأن (بين) تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، ولإثبات صحة ما نحن بصدده ننقل بعض ما جاء في كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص) للحريري:(ويقولون المال بين زيد وبين عمرو) بتكرير لفظة (بين) فيوهمون فيه. والصواب أن يقال: (بين زيد وعمرو)، كما قال سبحانه وتعالى:(من بين فرث ودم)، والعلة فيه أن لفظة (بين) تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، كقولك:(المال بينهما والدار بين الأخوة). . . قال الشيخ الرئيس أبو محمد - رضى الله عنه -: وأظن الذي وهمهم لزوم تكرير لفظة (بين) مع الظاهر ما رأوه من تكريرها مع المضمر في مثل قوله عز وجل: (هذا فراق بيني وبينك)، وقد وهموا في
المماثلة بين الموطنين، وخفى عليهم الفرق الواضح بين الموضعين، وهو أن المعطوف في الآية قد عطف على المضمر المجرور الذي من شرط جواز العطف عليه عند النحويين من أهل البصرة. تكرير الجار فيه، كقولك: مررت بك وبزيد. قال أبو القاسم المرتضى:
بيني وبين عواذلي
…
في الحب أطراف الرماح
أنا خارجي في الهوى
…
لا حكم إلا للملاح
وقد جوز بعضهم إعادة (بين) بين اسمين ظاهرين، ومنهم السيد أحمد شهاب الدين الخفاجي، ولكنه مذهب ضعيف يناقض ما ورد في الفرقان العظيم من الآيات البينات في عدم إعادة (بين) مع الاسمين الظاهرين. قال ابن بري: إعادة (بين) هنا جائزة على جهة التأكيد، وهو كثير في الكلام العرب، كقول الأعشى:
بين الأشج وبين قيس باذخ
…
بخ لوالده وللمولود
وقال عدي بن زيد: بين النهار وبين الليل قد فصلا. وقال ذو الرمة
بين النهار وبين الليل منعقد
…
على جوانبه الأوساط والهدُب
وقد علق (الخفاجي) على هذا في كتابه (شرح درة الغواص في أوهام الخواص) ص94 قائلاً: فمن هنا يعلم أن إعادة (بين) لا تفسد نظماً ولا معنى كما توهمه المصنف - أي (الحريري) -
وجاء بحث مفصل عن (بين) في كتاب (كشف الطرة عن الغرة) للسيد محمود شهاب الدين الالوسي ص136 ومن قوله: (ومن أوهام أنهم يوسطون (بين) بين الاسمين الظاهرين المتعاطفين فيقولون: (المال بين زيد وبين عمرو).
والصواب: (بين زيد وعمرو) بترك التوسط والتكرير، لأن (بين) تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، كقولك:(المال بين الأخوين، والدار بين الأخوة).
هذا ما أردنا بيانه، والمرجو أن نقع على الصواب الذي يراه أساتذة اللغة الكرام
(بغداد)
ضياء الدين أبو الحب
أغلاط
قرأت في عدد الرسالة 573 قصيدة عنوانها (السراب) للدكتور ناجي، وهي من عيون الشعر الحديث، غير أني مررت فيها بهنات أحببت أن يعلمها الشاعر الكبير وقراء الرسالة:
1 -
القصيدة من بحر الخفيف وأجزاؤه: (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، وقد تصير فاعلاتن فعلاتن أو مفعولن، وقد تحول مستفعلن إلى متفعلن، ولكن البيت:
اسمك العذب أروع الأسماء مهما تعددت أسماء لا يوافق هذا البحر، ولا تحول إليه أجزاؤه، فهو بيت مكسور
2 -
لا أعرف في اللغة (صدفة) ولا (هناء)، وإنما أعرف مصادفة وهناءة، وكذلك لفظ (الأبد) يعرفه اللغويون بمعنى الزمن، ولكن الشاعر يقول:
أبد لا يحد للعين قد ضا
…
ق فأمسي والسجن هذا الفضاء
ولا يفوتني أن أقول إن الشاعر عبد الغني حسن له قصيدة في نفس العدد وفيها: (تتلاشى على الرمال وتنثر)، ولا أعرف في اللغة (تتلاشى) هذه، فلعل الشاعرين يدلاني وقراء الرسالة على مصدر صحة هذه الكلمات
3 -
العواصف الهوجاء وأمواجه السوداء عبارتان مغلوطتان، وصوابهما:(الهوج) و (السود)
4 -
ولست بدار الفرق بين سنة مقفرة وسنة خالية، وهما متقابلتان في شعر الدكتور
هذا وللشاعر الكبير تقديري واحترامي
محمد حسن
مدرس في الأزهر