الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 575
- بتاريخ: 10 - 07 - 1944
مسألة الجنسين
للأستاذ عباس محمود العقاد
في مقالنا الماضي عرضنا لقرار الحكومة الروسية الذي أمرت فيه بفصل الصبيان والبنات في بعض مراحل التعليم، لأن الذكور والإناث يختلفون في استعداد النمو ما بين العاشرة والسابعة عشرة، فيبطئ تكوين الذكور ما بين العاشرة والرابعة عشرة ويسرع تكوين الإناث، ثم يبطئ تكوين الإناث ما بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة ويسرع تكوين الذكور
وهذا مع اختلاف الإعداد للمستقبل بعد انتهاء الدراسة. فالذكور يعدون للجندية والإناث يعددن للأمومة، وكلتا الوظيفتين تدعو إلى تعليم خاص لا يشترك فيه الجنس الآخر ولا يفيده أو يفيد الأمة أن يشترك فيه
وقد قلنا في التمهيد لذلك: (إن الفارق إذا وجد في البنية لا يوجد في زمن ويختفي بعد ذلك أو قبل ذلك في أزمان. بل هو موجود في دخائل البنية وأعماقها، وإن تفاوتت درجات ظهوره بين حين وحين)
وهذا الذي نريد أن نتوسع فيه بعض التوسع في هذا المقال. لأن الاختلاف بين العاشرة والسابعة عشرة ما كان ليظهر في هذه السن لو لم يكن هناك اختلاف مستقر في أجزاء البنية جميعاً من ساعة الميلاد بل من قبل ساعة الميلاد. فالبنية قبل العاشرة كانت مختلفة في خلاياها ودقائقها ما في ذلك أقل ريب، ولولا ذلك لما نشأ الاختلاف في الاستعداد حين نشأت دواعي ظهوره
كذلك يظل الاستعداد العقلي والجسدي مختلفاً بعد السابعة عشرة وإن تواري بعض التواري في بقية أدوار الحياة. لأنه لا يختلف عبثاً ومصادفة بل يختلف لغرض باق هو المقصود لا شك بالاختلاف في مدى تلك السنوات
وهذه حقيقة يستطيع العلم أن يفسرها ولكنه لا يستطيع أن ينفيها ويمنعها بحال من الأحوال. لأن نفيها أو منعها من وراء سلطان العلم والعلماء
فالاختلاف بين الجنسين في الطاقة والملكة موجود من زمن قديم، ونتائج هذا الاختلاف في الحياة العامة والحياة الخاصة موجودة كذلك منذ زمن قديم، وغاية ما ينتظر من العلم أن يفسر لنا أسباب هذا الاختلاف أو يفسر لنا دلالاته ومعانيه، ولكنه ينقض نفسه حين ينفي
وجوده أو يعترف بوجوده ثم ينفي دلالته في الماضي ووجهته في المستقبل، فليس للعلم ولا للعلماء هذا السلطان
على أن اختلاف الجنسين في الطاقة والملكة سابق لاختلافهما في نوع الإنسان. فلا مساواة في الحيوانات العليا بين الذكور والإناث، وليست حقوق الإناث مساوية لحقوق الذكور في تلك الحيوانات، إن صح التعبير هنا بكلمة الحقوق. ولم تشاهد قط جماعة من الحيوانات الاجتماعية تقودها أنثى أو تحتل منها محل الزعامة كما تفعل الذكور، ولم تشاهد قط أنثى تستتبع لها طائفة من الذكور، لتختار منها ما تشاء حين تشاء
والعلم لا يستطيع أن ينكر هذا ولا يستطيع أن يجرده من الدلالة، ولا يستطيع بعد هذا وذاك أن يزعم أن الحيوان يحتاج إلى التنوع في وظيفة الجنسين ولا يحتاج إليها الإنسان.
على أن العلم قد أخذ منذ سنوات قليلة في كشف هذه الحقيقة من مكامنها الأولى التي تبين لنا أن الاختلاف في القدرة الإنشائية كان من أبدأ البداءات بين خلايا التذكير وخلايا التأنيث، ونحسب أن العلماء واصلون إلى فصل الخطاب في هذا الباب بعد بضع سنوات، فيبطل يومئذ محال الدعاة الذين يعمون أو يتعلمون عن المحسوس لأنهم يسخرون حقائق الحياة لمذاهبهم العوجاء، بدلاً من تسخيرهم هذه المذاهب لحقائق الحياة
وحسبنا أن نقرر هنا ما أثبته الباحثون في (فزيولوجية الجنس) من تجارب الخلايا في كلا الجنسين. فهذه التجارب تثبت أن عوامل الذكورة إنشائية، وأن عوامل الأنوثة سلبية تابعة أو هي على وجه من الوجوه بمثابة اختفاء عوامل الذكورة. فالجزء الذي تستأصل منه خصيته يضمر ولا تنبعث فيه دواعي النماء، ولا يحدث مثل هذا في أنثاه إذا نزع منها المبيض ولو من أوائل الطفولة، لأن نموها الأنثوي لا يحتاج إلى عامل مضاف من عوامل الإنشاء
ومع هذا لا نحسب أن الأمر يلجئنا إلى الميكرسكوب والخلايا لنعلم أن طبيعة الذكورة تقتضي الإرادة الإيجابية وأن طبيعة الأنوثة تقتضي المطاوعة والمتابعة وما يمتزج بهما من الخلائق والنزعات
فالذكور في جميع الحيوانات هي المجتهدة الطالبة والإناث في جميع الحيوانات هي الملبية المطلوبة، وإن اشترك الجنسان في رغبة التناسل واستبقاء النوع
وقد خلق الذكور، نفوساً وأجساماً، بحيث يريدون تحقيق رغباتهم الجنسية ويستطيعون تحقيقها كرهاً إذا بدا لهم الإكراه، ولم تخلق هذه المزية للأنثى في نوع من الأنواع، وليس إمكانها بمعقول
ولا عبث في هذه التفرقة بين مزية الجنسين، لأن الأنثى ليست بها ولا بالنوع حاجة إلى تسليط إرادتها بعد الحمل الذي يشغلها عدة شهور. فمن العبث أن تعطي الإرادة لتعطل وظائف الذكور في خلال هذه الشهور، ومن مصلحة النوع أن تكون مزية الإرادة والسيطرة للرجل ومزية الطاعة والتلبية للمرأة. وهكذا شاءت حكمة الخليقة سواء عندها من يشاء من اللاغطين ومن لا يشاءون
وكما قضت حكمة الخليقة بالإرادة والسيطرة للرجال قضت بفارق آخر بين الجنسين يجعل التدبير وبعد النظر خاصة للرجال لا يرزقها النساء
فكثيرا ما تلام المرأة، لأنها أسيرة لميولها الحاضرة، تندفع معها ولا تفكر في عواقب الأمور ولا يفلح معها الإقناع ولا الوعيد في تحويلها عن تلك الميول
ويفوت اللائمين أن نسيان العواقب ضرورة فزيولوجية لتحقيق فريضة النوع من جانب النساء، فلو كان من طبع المرأة أن تبالي بالعواقب وتوازن بينها وبين الميول الحاضرة لتعاظمت أمامها متاعب الحمل والولادة والحضانة وما فيها من أخطار قد تودي بالحياة ومن منغصات قد تبغض الإنسان في أقدس الواجبات
فهذه ضرورات الخلقة التي لا كلام فيها لعلم عالم ولا لتحليل محلل قد ميزت الرجل بالسيطرة والإرادة في صميم الفارق بين الذكورة والأنوثة، وقد جعلت وظيفة الرجل وظيفة لا يناقضها التدبير والنظر البعيد، كما يناقضان وظيفة المرأة
وحكمة الخليقة هنا يؤيدها المشاهد المحسوس، فإذا علمنا أن تكوين النساء لا يتيح لهن جملة أن يساوين الرجال في مزايا الإرادة والعزيمة والتدبير والنظر البعيد؛ فكل كلام عن تشابه الملكات بعد ذلك محض هراء
نعم تعرف للمرأة مزاياها التي لا يشابهها فيها الرجال، وهي مزايا يفيد فيها التخصيص والتوزيع، ولا مناص فيها كما قدمنا من التباين والافتراق في مراحل التعليم وفي مراحل العمل والمعيشة، هذا الذي نعنيه ونخشى أن يغفل عنه المتعجلون والمغربون في انتحال
المذاهب واتباع الدعوات
ونعيد هنا ما قدمناه في مقالنا السابق حيث نقول: (إن المسألة التي نحن بصددها ليست مسألة تقدير للمنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين)
فلا يضير الناس أن يقال ما يقال عن تساوي الأقدار وتعادل المراتب بين النساء والرجال ما فهموا حقيقة الاختلاف بين استعداد هؤلاء وهؤلاء، وما وكلوا لكل منهما عمله الذي يحسنه ولا يعطل فيه ملكاته التي توارثها من أول عهد التاريخ، بل من أول عهد الأحياء بالاختلاف بين التذكير والتأنيث
وهذه مسألة تثار الآن كما تثار جميع المسائل في أوقات الحروب والثورات. فإن كلمة حقي وحقك وحقوقهم وحقوقنا هي أول ما يسمع في الدنيا عندما يتسع فيها ميدان النزاع والتنافس والمغالبة على حظوظ الحياة، وقد سمعنا الكثير عن حقوق العمال وحقوق الجنود وحقوق الشيوخ والأطفال، وسمعنا الكثير عن حقوق الضعفاء المحكومين وحقوق الأقوياء الحاكمين، وسنسمع الكثير غير هذا حين تقترب ساعة الفصل بين جميع هذه الحقوق. فلا عجب أن تتردد بيننا وبين الأمم الأخرى كلمات الداعين والداعيات إلى حق المرأة في كل شئ حتى ما ثبت للرجال كل الحق فيه
لا عجب في ذلك ولا مدعاة فيه للتشاؤم والإنكار. إذ لا شك أن التنبه الخاطئ بغير فهم وسداد أنفع من الجمود الخاطئ بغير فهم وسداد، وقد جمدت المرأة زمناً طويلا؛ فلها اليوم أن تأخذ كفايتها من اليقظة كما أخذت كفايتها من الجمود، ولها في هذه اليقظة أن تخطئ ثم تخطئ حتى تصيب طائعة أو ترد إلى الصواب بحكم الحوادث التي تنفرد أبدا بالحكم الأخير
والذي نحن على يقين منه أن المرأة ستظفر بكل حق هي قادرة عليه ومحتاجة إليه، أو هي به في حدود الأنوثة التي أقيمت لها حدودها قبل المذاهب والقوانين، وستبقى لها حدودها بعد المذاهب والقوانين
ستظفر المرأة كل حق من هذه الحقوق، ولكنها ستعدل بمشيئتها عن تلك المطالب التي لا تريدها لأنها قادرة عليها أو محتاجة إليها، بل تريدها لأنها (زي جديد) كتلك الأزياء الجدد
التي يشغف بها بنات حواء
وسيأتي اليوم الذي يصبح فيه هذا الزي الجديد قديماً؛ فإذا هو منبوذ غير مطلوب، وفوات المدة هو كل ما يلزم لمناقشة هذه الدعاوي وتنفيذ تلك الآراء. إن صح أنها آراء
عباس محمود العقاد
محو الأمية في مصر
المشروع الجليل الذي تضطلع به وزارة الشئون الاجتماعية
للأستاذ دريني خشبة
ليس أخزى لأمة من الأمم أن تشيع فيها تلك الأمة الذميمة على الصورة التي تشيع بها في مصر. وبالنسبة العالية التي ترتفع إلى 85 % في بلادنا. . . وأي خزي ألا يكون في مصر من الملمين بالقراءة والكتابة أكثر من مليونين وربع المليون وأن يكون بها من الأميين أكثر من أثني عشر مليونا وثلاثة أرباع المليون!
أي خزي أن تكون هذه حالنا بالرغم من الملايين العشرة من الجنيهات التي شرعنا ننفقها على التعليم سنويا؟
وكيف أغمضنا عيوننا على هذه الحال كل تلك السنين الطوال، والمسألة تتعلق بكرامتنا وقوميتنا واستقلالنا وحياتنا وبكل ما هو عزيز علينا؟
وإذا عددنا أدواءنا الاجتماعية، فأي داء وبيل يكون أقسى على المجتمع المصري من تلك الأمية الذميمة المتفشية في طبقاته على هذا النحو، وبتلك النسبة العالية؟
وإذ عددنا أمراضنا المتوطنة، فأي مرض فتك بنسبة تزيد على اثنين بالمائة أو سبعة بالألف من سكان مصر، كما تفتك تلك الأمية الوبيلة بثمانمائة وخمسين من كل ألف مصري عزيز؟
وماذا يصنع التيفود والتيفوس والملاريا والرمد والأنكلستوما والبلهرسيا أشد مما تصنعه تلك الأمة بإخواننا المساكين المصريين من فلاحين وعمال وصناع وتجار وجنود وشرطة؟
إن هذه الأوبئة التي ذكرنا، وغيرها مما لم نذكر، ليس مصدرها الميكروب كما يزعم الأطباء، وإنما مصدرها تلك الأمية التي تغشي عقول هذه النسبة العالية من إخواننا المصريين البائسين
إن الفلاح الذي يشرب من البركة الراكدة، والفلاحة التي تغتسل في تلك البركة، إنما يصنعان ذلك بعامل الأمية التي حالت قسوة الأمة ونومها الطويل الذي نامته دون إنقاذ غالبية الشعب من براثينها
وإن المرابي الذي يغتال أموال الفلاحين وغير الفلاحين من طبقات الشعب، إنما يغتالهم من
طريق أميتهم التي رانت على أبصارهم، وناءت على عقولهم، وحجبت عنها النور بتلك الطبقة الكثيفة من السذاجة والغفلة والجهل المبين
إن اضطلاع وزارة الشئون الاجتماعية بمهمة محو تلك الأمية الذميمة هو أشرف الأعمال التي تضطلع بها وزارة من الوزارات بل هو أجل خدمة تؤديها للوطن، الوزارة التي أنشئت لخدمة المجتمع المصري، وانتشاله من تلك الوهدة التي تتردى فيها غالبيته المسكينة البائسة التي لا تنتفع من ملايين التعليم العشرة إلا بأزهد مقدار وأضأله، وبطرق بعيدة غير مباشرة
وإن مهمة محو الأمية في مصر لعمل تنوء به وزارة واحدة، ويجب لهذا أن يعد خدمة وطنية عامة تعبأ له جهود الشعب كلها، بحيث يكون مرتكباً لجريمة الخيانة الوطنية الكبرى كل مصري يستطيع أن يساهم في هذا العمل ثم يحجم عن المساهمة، أو يتراخى في القيام بنصيبه فيه
إن هذه النسبة العالية من إخواننا وآبائنا وأمهاتنا وأخواتنا وأبنائنا المصريين، المحرومين من نعمة القراءة والكتابة، هم في الحقيقة محرومون من النور، بل من الحياة، بل من الكرامة الإنسانية. وإن من الأنانية التي ليست وراءها أنانية أن تنتفع نسبة ضئيلة من سكان البلاد بمائة مليون من الجنيهات أو تزيد كل عشر سنوات، دون أن تنتفع غالبية الشعب بشيء من هذه الملايين
فالمسألة جد أذن، ونحن منها إزاء خطر وطني يجب أن تتضافر الجهود على التغلب عليه. . . لقد أنشأنا وزارتي التموين والوقاية المدنية من الغارات الجوية لأسباب لو اجتمعت كلها ومعها عشرة أضعافها، لما بلغت أسباب هذه الأمية بعللها وآثامها وعقابيلها الوخيمة، لأنها أضل العلل، ولو أنصفنا هؤلاء الإثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون من إخواننا المصريين الأميين التعساء لأنشأنا لهم وزارة لمكافحة تلك الأمية التي تنحط بهم إلى مراتب الحيوانات بين أسماعنا وأبصارنا، نحن إخوانهم المتعلمين الأنانين!
فإذا نهضت وزارة الشئون الاجتماعية لهذا الأمر، وجب ألا تضطلع به وحدها، بل واجب على كل وزارة أن تعاضدها فيه، بل وجب على جميع المصريين، أفراداً وجماعات، أن يقدموا لها معونتهم الصادقة المثمرة، بحسبان أن هذه المعونة خدمة وطنية عامة، وفرض
مقدس في عنق كل مصري أن يضطلع بنصيبه فيه
ولعل وزارة المعارف هي أولى الوزارات التي ستقدم لوزارة الشئون النصيب الأوفى من المعونة الصادقة، وستقدمه شاكرة ذاكرة معترفة بالجميل، لأن قيام وزارة الشئون بهذا الأمر دون وزارة المعارف فيه معنى من أنبل معاني التضامن الوزاري في الحكم الصالح، لأن أحداً لم يقل إن وزارة المعارف قادرة على كل شئ، بل إن أحداً لم يقل إن أية وزارة من الوزارات قادرة على القيام بالعمل كله الذي أنشئت من أجله، بل إن أية وزارة من الوزارات لعاجزة أتم العجز عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها ما لم تعاونها في ذلك معظم الوزارات، بل كل الوزارات. . . فإذا اعترض أحد بأن مكافحة الأمية هو أول الأعمال التي أنشئت من أجلها وزارة المعارف، قيل له إن كل الأعمال التي أنشئت من أجلها وزارة الشئون الاجتماعية كان مفروضاً أن تقوم بها وزارة المعارف، فلما أنشئت وزارة الشئون كان إنشاؤها إتماماً لوزارة المعارف، وتركيزاً للأعمال والواجبات، والخدمات العامة التي تنوء بها وزارة واحدة، على أن نصيب وزارة المعارف من هذا المشروع الجليل سيكون أكبر الأنصبة كلها وأوفاها، فهي التي ستقدم مدارسها كلها للتعليم الليلي، وهي التي ستقدم مدرسيها في جميع فروع التعليم، الأولى منه والابتدائي والثانوي والخاص والعالي والجامعي، لتعليم إخواننا المصريين البائسين مبادئ القراءة والكتابة والحساب. . . وهي ستفعل هذا عالمة أن أساتذتها من التعليم الإلزامي إلى التعليم الجامعي، لن يشق عليهم أن ينتدبوا لهذه الخدمة الوطنية الكبرى، لأنها دين مقدس في أعناقهم للوطن المرزوء بتفشي الأمية في طبقاته، بل إن أستاذ الجامعة سوف يشعر وهو يقوم بتلك الخدمة الوطنية أنه لم يؤد لبلاده خدمة أجل منها من قبل. . . وهانحن أولاء نرى بين صفوف الجنود الحليفة بيننا أطباء ومهندسين وحاملي درجات جامعية رفيعة يعمل كل منهم برتبة جاويش بسيط، أو عسكري لا يحلى ذراعه غير شريط واحد، وهو مع ذلك يشعر أنه يؤدي واجبه المقدس لبلاده أولاً، وللمدنية المضرجة بالدماء ثانياً، وهو مع ذلك يشعر أن قيمته قد ازدادت، وأن ضميره قد استراح، وأن درجته العلمية لم تنقص. . .
ستفعل وزارة المعارف ذلك، وستعبئ كل رجالها وكل جهودها في هذه السبيل، وستفعله شاكرة ذاكرة معترفة بالجميل لوزارة الشئون الاجتماعية، وستحذو جميع الوزارات حذو
وزارة المعارف في معاضدة وزارة الشئون، فتساعدها وزارة الصحة في مكافحة الأمية الصحية بين طبقات الفلاحين والعمال والصناع والتجار ومن إليهم من سائر طبقات الشعب. . . وتساعدها في مكافحة الأمية الصحية بين الأمهات والآباء يبث أطبائها ومفتشيها في القرى والمدن والمساجد والأسواق لتنظيم الاجتماعات للتنوير، ولتبصير الآباء والأمهات بما لا بد من تبصيرهم به من معضلات الصحة والوقاية من الأمراض العامة، وسيفعل الأطباء ذلك راضين متواضعين شاعرين أنهم يقومون بنصيبهم في هذا الجهاد المشترك والخدمة الوطنية العامة الكبرى
وتساعدها وزارة الدفاع الوطني بتعليم جنودها مبادئ القراءة والكتابة تعليما إجباريا تخصص له ساعات قليلة من ساعات العمل والتدريب العسكري
وتساعدها وزارة الداخلية بمثل ما تساعدها به وزارة الدفاع، فلا تقبل شرطياً أمياً بين شرطتها، ولا خادماً أمياً ولا خفيراً أمياً بين خدمها وخفرائها، وبذلك تضطرهم إلى تعلم مبادئ القراءة والكتابة اضطراراً وتحملهم عليه حملا. وكذلك سائر الوزارات
وتساعدها وزارة الأوقاف أكبر المساعدة بوضع مساجدها ودور أوقافها المعطلة تحت تصرفها. . . وبتعبئة الأئمة والخطباء والوعاظ ورجال الدين للقيام بنصيبهم في التدريس ومكافحة أمية الخرافات والشعوذة. . . وبهذه المناسبة نشير إلى ما ينبغي أن يساهم به الأزهر والأزهريون من نصيب موفور مشكور، فهم أقرب إلى نفوس العامة ويتمتعون بينهم بالثقة والمحبة، ومثل هذا يقال عن رجال الأديان الأخرى المحترمين
وتساعدها وزارة الزراعة بمكافحة الأمية الزراعية بين طبقات الفلاحين، ولا بد أن تصنع وزارة الزراعة ذلك جادة غير عابثة، فالفلاح الذي لا يجيد زراعة غير محصولات ثلاثة، وهو مع ذلك يجهل آفاتها، هو فلاح أمي جدير بالرثاء خليق بالتنوير. ولقد آن الأوان الذي يجب فيه التفكير في مستقبل هذا الفلاح إذا ألغيت زراعة القطن تحت ضغط الحرير الصناعي وصوف اللبن. . وسيكون مستقبل هذا الفلاح المسكين أشد تعاسة إذا لم نكافح أميته الزراعية منذ الآن. وإذا لم نكافح هذه الأمية مكافحة فنية على أحدث أصول التربية الزراعية
هذا واجب الوزارات. . . أما واجب الأفراد والجماعات فهو عندي أعلى وأسمى. . . إننا
محتاجون إلى بث الدعوة الواسعة العريضة لمكافحة الأمية بين طبقات هذا الشعب المسكين، حتى يصبح وجوب مكافحتها عقيدة، بل أيماناً. . . وهذا يقتضي تضافر الجهود كلها، وخاصة جهود الكتاب والخطباء والرؤساء والصحافة على نطاق واسع. . . فالصحيفة أو المجلة التي تصدر دون أن تطرق هذا الموضوع تنسى مهمتها الأولى المقدسة، وتؤثر الخوض في السفساف على التمرس بالجد. . . والهيئة التي تستطيع أن تساهم في هذا المشروع بنصيب موفور مشكور، ثم تقصر في المساهمة هي هيئة تفر من صفوف الجيش الوطني في ساعة الخطر. فهي جديرة بالازدراء بل بالعقاب
وفق الله وزارة الشئون الاجتماعية في إنجاز أشرف الواجبات الوطنية لخدمة الجيل الجديد. . . ووفقها الله في تنظيم هذا المشروع العظيم وتوقيته ووضع خطته وتدبير ماله، إنه سميع مجيب.
دريني خشبة
على هامش زكي المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
الآن يستعد العالم العربي للاحتفال بالعيد الألفي للفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري، فرأيت أن أميط اللثام عن شخصية معاصره ومناظره (المؤيد داعي الدعاة) بعد أن ظل مجهولا طوال هذه السنين، بالرغم من أنه كان رجلاً له خطره وشأنه يرجف الناس باسمه في القرن الخامس الهجري، خشي بأسه الخليفة العباسي ببغداد، وأبو كاليجار البويهي وطغرلبك التركماني، وخشيه المعري في مناظراته، هذا الرجل الذي وصفه المعري بقوله:(لو ناظر أرستطاليس لجاز أن يفحمه، وأفلاطون لنبذ حججه). فمن الغريب حقاً أن تظل شخصية هذا الداعي غامضة مجهولة بالرغم من المحاولات العديدة التي قام بها جماعة من المستشرقين للبحث عنه، ولو لم أعثر على نسخة خطية لسيرته كتبها بنفسه عن نفسه ما كنت أستطيع معرفة شئ عن هذا الداعية الداهية
عرف هذا الداعي في التاريخ بلقبه (المؤيد في الدين)، واسمه هبة الله بن موسى بن أبي عمران، ويكنى بأبي نصر، ولد بشيراز في أواخر القرن الرابع من الهجرة، وأرجح أنه ولد حوالي سنة تسعين وثلاثمائة من أسرة تدين بمذهب الفاطميين، وكان أبوه داعي دعاة هذا المذهب في فارس، وقد عثرت على جزء من رسالة من أبيه إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي يطلب فيها من الحاكم أن يعترف بالمؤيد داعي الدعاة بعده، ولكن الحاكم أجابه بشيء من الجفاء والغلظة، لأن أمر الدعوة لا يورث، ومع ذلك استطاع هبة الله أن يصل إلى مرتبة أبيه، وأن يصبح حجة جزيرة فارس، (وهذا بالاصطلاح الفاطمي ومعناه داعي دعاة إقليم فارس). أما كيف ومتى وصل إلى هذه المرتبة فهذا ما لم نوفق لمعرفته إلى الآن، وكل الذي وصلنا أنه نجح في اجتذاب عدد كبير من الناس لدعوته، وأنه كان محبوباً عند جمهور أهل مذهبه حتى قالوا عنه لوزير أبي كاليجار البويهي سنة 429:(إنهم يتخذون هذا الرجل أباً لهم وأخاً وصاحباً ومحلًا لكل سر ومفزعاً في كل خير وشر).
نحن لا نعرف من أمر المؤيد قبل سنة 429 شيئاً إلا أنه كان مضطهداً من جمهور أهل السنة لتمذهبه بمذهب الفاطميين، وأن العلماء أغروا به السلطان البويهي، ورموه هو
ومذهبه بكل موبقة، حتى أن السلطان أبا كاليجار ما كان يطيق سماع شئ عنه لشدة مقته له، مع أنه لم يعرفه معرفة شخصية، ولما ضاق السلطان ذرعاً بما كان يسمعه على المؤيد أمر بإخراجه من شيراز في رمضان سنة 429، وأمهل المؤيد عدة أيام ليخرج فيها من المدينة، على أن يظل في داره لا ينتقل منها ولا يقابل فيها أحداً، فكبر ذلك عند شيعته وأثاروا فتنة شعواء في المدينة بين السنة والشيعة، فاضطر الوزير إلى أن يسمح للمؤيد بعقد مجالسه، وأن يفتح بابه لزائريه، كما هدد علماء أهل السنة بالقتل والتشريد إن هم أثاروا مرة أخرى مسألة الخلافات المذهبية؛ فركن الجميع إلى الخضوع على كره وبقيت حزازات النفوس كما هي
أما المؤيد فقد عمد إلى الدهاء والمكر حتى استطاع أن يقابل السلطان أبا كاليجار، بل استطاع بقوة حجته وفصاحة منطقه أن يكسب عطفه وأن يجوز إعجابه ورضاه، حتى أمره السلطان بأن يحضر المجلس السلطاني متى شاء كما سمح له بمناظرة مخالفي مذهبه، وكانت هذه المناظرات إما كتابة يطلع عليها السلطان بنفسه أو كانت شفاهاً على مسمع من السلطان، والمؤيد قوي الحجة بليغ في مناظراته مجادل له خطره فكان يخرج من مناظراته منتصرا دائماً مما أبهر السلطان وازداد به إعجاباً حتى قال له يوماً:(إني أسلمت نفسي وديني إليك وإنني راض بجملة ما أنت عليه) وهكذا اعتنق السلطان أبو كاليجار البويهي مذهب الفاطميين ودخل دعوتهم على يد المؤيد، ولكنه اعتنق هذا المذهب سراً فلم يجرؤ على الخطبة باسم الخليفة الفاطمي، ولم يستطع أن يعلن بين الناس تحوله عن مذهبه واعتناقه مذهب التشيع، إنما كان دخوله في الدعوة الفاطمية أمراً أخفاه إلا عن أستاذه المؤيد الذي خصص للسلطان مساء كل خميس لتلقينه أصول المذهب وجرت هذه الدروس بأن تبدأ بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم؛ ثم بباب من كتاب (دعائم الإسلام) للقاضي أبي حنيفة النعمان بن حيون المغربي، ثم يناقشه السلطان في بعض ما أشكل عليه من أمر المذهب، ثم يختم المؤيد دروسه بالحمد والدعاء للخليفة الفاطمي، ثم للسلطان أبي كاليجار البويهي
على أن أمر هذه المجالس الليلية سرعان ما عرفه الناس، وانتشر خبرها بين جمهور أهل السنة ولكنهم لم يستطيعوا أن يحركوا ساكناً، وإن كان بعض المقربين إلى السلطان نصحوه
بالابتعاد عن المؤيد؛ والسلطان لا يزداد إلا تقرباً منه وتعلقاً به، وكلما مرت الأيام ازداد السلطان حباً لأستاذه وإعجاباً به، حتى قال الناس إن السلطان لا يقطع بأمر إلا بعد استشارة المؤيد؛ واعتقد المؤيد نفسه أن السلطان أصبح طوع أمره وأنه لا يخالفه في شئ فانتهز المؤيد هذه الفرصة وأخذ في تهجين الشراب والخلاعة للسلطان فأغضب ذلك جماعة الندماء الذين حول السلطان فانضموا إلى أعداء المؤيد وأجمعوا أمرهم على الإيقاع به والعمل على إبعاده عن السلطان حتى لا يستأثر به من دونهم، فأخذوا يحيكون الدسائس ويدبرون المؤامرات حتى نجحوا في مكائدهم وأظهر السلطان موجدته على المؤيد فأمر بقطع المجالس الليلية، وعدم السماح للمؤيد بدخول المجلس السلطاني. في هذا الوقت أي في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة تولى أبو منصور هبة الله الفسوي الوزارة لأبي كاليجار، وكان هذا الوزير الجديد من أشد الناس بغضاً للمؤيد، ومن أشد الناس نقمة على الشيعة عامة والمذهب الفاطمي خاصة، فكسب أعداء المؤيد بهذا الوزير الجديد ركناً مكيناً يأوون إليه وعضداً قوياً يعتمدون عليه في الإيقاع بالمؤيد؛ فالتفوا جميعاً حول الوزير يتلقون منه ما يحيكون به الشراك للمؤيد حتى كانت قصة مسجد الأهواز التي استغلها هؤلاء الأعداء في اقتلاع المؤيد من فارس بأسرها، أما هذه القصة فتلخص في أن المؤيد سافر إلى الأهواز لزيارة شيعته ورجال دعوته، وهناك احتوى على مسجد مهدم فأمر أتباعه بتجديد عمارته وكتب على محرابه اسم النبي الكريم (ص) وأسماء الأمة الفاطميين من علي بن أبي طالب حتى اسم المستنصر بالله وأمر دعاته بالأذان (بحي على خير العمل) ولم يكتفي بذلك بل أقام الخطبة باسم المستنصر الفاطمي. فأثار عمله هذا ثائرة الناس بالأهواز وقامت ضجة بالمدينة من أنصاره المهللين وأعدائه المستنكرين والناس في عجب من أمر هذا الرجل الذي استطاع أن يقيم دعوته ظاهرة مكشوفة في بلد يدين بمذهب يخالف مذهبه حتى أن قاضي الأهواز اضطر إلى أن يرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد ينعى الخلافة العباسية، وينعى مذهب الجماعة والسنة وهول في القضية إن ترك المؤيد طليقاً حراً، ووجه لوماً عنيفاً للسلطان أبي كاليجار لأنه احتضن هذا الرجل مدة من الزمان، وفي ختام خطاب القاضي نصيحة للخليفة العباسي بأن يداهن أبا كاليجار حتى يسلمه المؤيد وإلا حلت الدعوة الفاطمية بالبلاد بدلاً من الخلافة العباسية
وهنا نرى مقدار ما وصلت إليه الخلافة العباسية من الضعف حتى لم يبق للخليفة العباسي إلا الخطبة باسمه على المنابر، أما السلطة الحقيقية فكانت في أيدي البويهيين والوزراء إذ لم يستطع الخليفة العباسي القائم بأمر الله أن يفعل شيئاً عندما بلغه قضية مسجد الأهواز إلى أن يرسل رسولاً من قبله إلى أبي كاليجار ومعه بعض الهدايا والخلع نظير السماح للرسول في القبض على المؤيد، فاشتد بذلك ساعد أعداء المؤيد وأشاعوا في البلاد أن الخليفة أهدر دمه وانتهزوا فرصة وجود رسول الخليفة في شيراز وأقاموا مظاهرات صاخبة في أيام ركوب السلطان يلهجون بمدح السلطان الذي نقم على المؤيد ويرمون المؤيد ومذهبه بكل نقيصة حتى أحرج السلطان نفسه ولم يدر ماذا يصنع بعد فرط حبه وإعجابه بالمؤيد، وأخيراً أمر المؤيد أن لا يخرج من داره
أما رسول الخليفة؛ فكان يخشى المؤيد ويتجنب التعرض لذكره خوفاً من الشيعة، وخاصة من الديلم الذين دخلوا الدعوة الفاطمية، فلم يستطيع إلا أن يكتب للمؤيد يحذره من الاندفاع في عصيانه وخروجه عن الستر إلى الجهر، وأخذ يحبب إليه ترك المذهب الفاطمي والدخول في سلك الجماعة ويمنيه الأماني الطيبة من مراكز سامية في الدولة وأموال تغدق عليه؛ فكان رد المؤيد على ذلك بأنه لن يترك ما هو عليه، وأنه سيمضي في دعوته جهراً ولو أدى ذلك لموته لاعتقاده أنه على الحق وأن غيره على الباطل، فلم يسع رسول الخليفة إلا الرجوع إلى بغداد، أما السلطان فخرج إلى الصيد وبقى المؤيد بين أعداء ألداء فخشي على نفسه بغتة من بغتاتهم فرأى أن يخرج لزيارة شيعته ولكنه خشي أن يغتال في الطريق ولا سيما بعد شاع في الناس أن الخليفة أهدر دمه ولذلك خرج خفية، وكان في طريقه يلتمس الطرق الموحشة ولا يطرق الأماكن الآهلة، ومع ذلك كان يسمع من حين لآخر أن السلطان فعل به كيت وكيت، أو أنه قتل وقطع إرباً إرباً، وأن بغلته مزقت إلى غير ذلك من هذه الأقاويل التي كان يروجها الناس عنه وما بالك بمن يسمع بنفسه عن نفسه مثل هذه الأقاويل!
وانتهى به الطواف إلى الأهواز مرة أخرى وهناك قابل أنصاره فدهش الناس من وجوده بينهم، وعلم السلطان بوجوده في الأهواز، فأقسم لينتقمن منه لمخالفته أمره بالبقاء في داره، ولأن جماعة الندماء أدخلوا في روع السلطان أن المؤيد فر إلى الأهواز لينظم ثورة ليقلع
السلطان عن عرشه، وكان للمؤيد عيون في مجلس السلطان أبلغوه نقمة السلطان وغضبه وألحوا عليه في الخروج من الأهواز، لأن السلطان في طريقه إليها؛ فخرج المؤيد إلى حلة منصور في ضيافة أميرها الحسين ابن منصور الذي استمع لقصة المؤيد فوعده الأمير بالتوسط لدى أبي كاليجار لتعود المياه إلى مجاريها الأولى، وبالفعل قام هذا الأمير ليصلح بين السلطان والمؤيد وكادت تنجح مساعيه لولا أن توفي أبو طاهر البويهي ملك بغداد، وطمع أبي كاليجار في ملك بغداد، وذلك لا يتأتى إلا برضاء الخليفة العباسي، وهذا ناقم على المؤيد وناقم على أبي كاليجار بسبب المؤيد، فلم ير أبو كاليجار إلا أن يصانع بدوره الخليفة العباسي ووزراءه، وأن يضحي بالمؤيد في سبيل الوصول إلى ملك بغداد، وجرت مكاتبات عديدة بين السلطان والمؤيد وبين السلطان والأمير الحسين ابن منصور وأخيراً رجحت كفة الهوى على كفة العقل واصبح محالاً أمر التوفيق بين مطامع السلطان وعودة المؤيد إلى داره، فاضطر المؤيد إلى أن يغادر حلة منصور وإلى أن يرحل إلى قرواش بن المقلد وهو أمير العرب إذ ذاك. ولكن قرواش كان يتلاعب بالخلفاء، ينضم إلى العباسيين إذا أغدقوا عليه نعمهم وعطاياهم ويستجيب للفاطميين طمعاً في خلعهم وألقابهم، ويصانعه البويهيون خوفا من سطوته وقوته، فلما وجده المؤيد إلى هذا الحال تركه واتجه إلى مصر حيث إمامه الفاطمي ومقر الدعوة الفاطمية.
(يتبع)
الدكتور محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة
الأحلام
للأستاذ عبد العزيز جادو
الأحلام - كما درسها بعض العلماء - تبين اشتغال الشعور الباطن، وتقيم الدليل على تلك المشكلة التي طالما حير الإنسان فهمها. والحلم حالة نفسية يشتمل على ما نراه في نومنا من صور وتمثلات غريبة في الترتيب عجيبة في الظهور. وهذه لا تتكون دائماً من الأشياء والشئون المعلومة لدينا في اليقظة، بل قد تكون أشياء وأموراً نجهلها تماما. وللأحلام معنى مهم يتعلق بتوازن حياتنا اليقظة وليس اللاشعور مجرد نظرية، ولكنه جزء من الطبيعة البشرية التي يمكن أن تظهر بواسطة الأحلام. فلكي نفهم الحلم علينا أن ندرك معنى اللاشعور. الشعور هو جزء صغير فقط من شخصيتنا. أما اللاشعور - الذي يتألف غالباً من التأثيرات، والنزعات الموروثة والمكتسبة، والرغبات الجنسية المكبوحة - فيكون الجزء الأكبر من الذات الحقيقية
فإذا كانت هذه الحياة اللاشعورية غير منسجمة مع الذات الشعورية فإنها ستستولي علينا بالتدريج وتتلف فهمنا للحياة. هذا من حيث إمكان مساعدة الأحلام لنا
إننا جميعاً نرغب في أكثر مما نملك. ولما كان الطموح هو ينبوع الحياة، فإن النزعات المكبوتة يمكن أن تقلب حياتنا المنتعشة إلى حياة خاملة. فالأحلام تمهد السبيل للتهرب من الحقيقة، وفي الأحلام يقوم الناس بما قد يكون مستبهماً عليهم في عالم الحقيقة
كثير من الأحلام يأخذ صورة إرضاء الرغبة - والرغبة يمكن أن تميَّز بسهولة، ولكن هناك كثيراً من الرغبات الغامضة. وهذه الرغبة الغامضة هي التي تسبب معظم القلق. وفي اللاشعور يكتمن الكثير من الرغبات الغريزية التي لا يمكن أن تكون مرضية في الحياة العادية من غير ما تناقض مع الدستور الاجتماعي للفرد، واحترامه الذاتي
وهكذا نرى أن الميول التي نرضيها ونشبعها أثناء النهار لا تحتاج إلى إرضاء في الأحلام
والأحلام ربما تكون في أصل جنسية، سواء أكانت الذكري من الطفولة المبكرة أم من الكبت الحالي، أو ربما تكون متعلقة بذوي القربى في صورة رغبة لا شعورية لموتهم أو لبعدهم؛ أو ربما تكون أيضاً شهوة للقوة. هذه الأمثلة غالباً ما تكبح ولا يسمح بظهورها، لأنها متناقضة مع الحياة اليومية، الحياة الواعية الشعورية، ولأن الرقيب من جهة أخرى
يمنعها من الظهور بضغطه عليها. ولكنها قادرة على إظهار نفسها أثناء النوم عندما تتعطل الحواس وتنقطع عن العمل، وتكون الرقابة الأخلاقية على العقل الواعي مسترخية عندئذ يدأب اللاشعور في عمله فينسج لنا حياة أخرى يعيش المرء فيها غاطً في احساساته وتصوراته وانفعالاته وآماله المكبوتة التي لم يتمكن من تحقيقها، فتتجسم إذ ذاك تلك الاحساسات والتصورات، وتتوالد وتظهر منها سلسلة وقائع قد تكون من الغرابة بمكان. إلا أن هذى الرغبات لا تجرؤ على الظهور بمظاهرها الحقيقية حتى ولا في الأحلام، بل تتستر وراء أشكال ورموز ظاهرها برئ
وهذا هو السبب في أن أكثر الأحلام من الماضي والحاضر، ومجموعة مختلفة من الناس؛ وهذه التمثلات تتلون غالباً بصور معاني ما اختزنه الإنسان في عقله الباطن في حالة صحوة ويقظته. كما أن الأفكار والرغبات وآثار الأعمال، وما يُلقَّن عن الغير من صفوف الإيحاء قد تكون مادة الأحلام وأشكالها
ومن هنا تنشأ الفكرة بأن الأحلام ما هي إلا صحيفة أخرى من صفحات حياتنا الكثيرة، ومظهر آخر من مظاهر فعالية النفس
ويهمنا هنا أن نعرف أن الحلم - إذا حاولنا استعادته عند استيقاظنا من النوم - كثيرا ما يمحى منه أثر أشياء كبيرة الأهمية، ويحل محلها عند اليقظة عمل آخر للرقيب، بواسطته يُنسى الجزء المكبوت من الحلم
وإذا ترسّم الحالم ارتباط عدة أحلام فلا ريب في أنه سيجد أنها جميعاً تتجه إلى نقطة واحدة في حياته، هي مركز الكبت، نقطة البداية لميله الحالي
هذى هي الأحلام التي تتعلق باللاشعور، والتي تمدنا بالدليل على تناقضنا. إلا أن هناك عناصر معروفة تنشأ عنها الأحلام العادية هي:
1 -
التأثيرات التي تأتينا من الداخل كامتلاء المعدة، وسوء الهضم، أو عدم انتظام الدورة الدموية وارتباك المخ. وهذه كلها أو بعضها يسبب في الغالب أحلاماً مزعجة نسميها بالكابوس
2 -
الذكريات المحفوظة في أعماق اللاشعور. بيد أن هذه الذكريات تتولد منها أفكار أخرى تناسبها فيتوسع النطاق فيبني صروح أحلام شامخة
3 -
التهيج والانفعال النفسي الذي ينعكس إلى مراكز الدماغ فيجعله في حالة عمل متواصل، ويحصل العمل غالباً في تداعي الأفكار، وهي توضح لنا سبب تنوع الأحلام واختلاف مناظرها وحادثاتها
ومن تلك العناصر نرى أن أكثر الأحلام مصدرها الحادثات اليومية الواقعة في حياتنا. وقد تتركب هذه الحادثات فتنشأ منها قصة أو واقعة غريبة
وللأحلام نوع آخر لا يقل رتبة عن الإلهام ندع الكلام فيه لمقال تال.
عبد العزيز جادو
اتجاه الأدب العربي
بعد الحرب القائمة
للأستاذ منصور جاب الله
قيل إن أبا بكر الخوارزمي وقف بباب الوزير الصاحب بن عباد فقال له الآذن: إن سيدي قد ألزم نفسه ألا يلج بابه إلا من كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فأجاب الخوارزمي على الفور: هذا القدر من شعر الرجال أو من شعر النساء؟. . . وإذ علم الصاحب بجواب الخوارزمي قال: دعه فإنه الخوارزمي!
إنما كان ذلك رأياً قديماً في الأدب العربي، إذ كان القدامى يعدون الأديب أديباً بكثرة حفظه، على حين أن كثرة الحفظ لا تجعل من الإنسان أديباً وإنما تخلق منه (راوية). وليس أدل على ذلك من أن الخوارزمي الذي صدرنا بحكايته هذا الفصل قد هزم هزيمة نكراء حيال بديع الزمان الهمذاني، وهو الشاب الحدث، هزيمة اختصرت حياته فخانه العمر ولم يأت عليه إلا ما دون العام حتى كان في عداد الثاوين
الحق أن معنى كلمة (الأدب) قد لقي تحولاً كبيراً في سائر اللغات، ومع أننا ما برحنا ننظر إلى معنى كلمة الأدب نظرة رجعية، لا نستطيع أن نغفل التحول الكبير الذي طرأ على الأدب العربي بعد الحرب العالمية الماضية، فقد كانت لأدبنا مظاهر نحب أن نناقشها ونفحصها حتى تتكون على ضياء البحوث النضيجة عناصر الأدب الجديد بعد انقضاء الحرب الناشبة وعودة الأمور إلى مجاريها
لقد كان من مظاهر الأدب العربي فيما بعد الحرب الماضية أن اتجه الأدباء إلى الترجمة والنقل عن اللغات الأجنبية، حتى عد عدم التمكن من إحدى اللغات نقصاً لا يغتفر في الأديب، ورأي الكثيرون أن اللغة العربية وحدها لا تكفي في تكوين الأديب العربي. وكان من جراء ذلك أن ذهب الأدباء مذاهب عدة، فكانت هناك النزعة (اللاتينية) والنزعة (السكسونية) ولكل من النزعتين أنصار وخصوم، حتى لقد بصرنا بأدباء يكتبون بالعربية على حين أن أحدهم لا يطالع كتاباً عربياً مهما تكن قيمته العلمية، ومن ثم لم يكن (أدب ما بعد الحرب) أدباً إنشائياً ذا نزعة استقلالية، وإنما كان عالة على سواه من الآداب الغربية، حتى لقد صدق كاتب محدث بوصفه الأدب عندنا بأنه (مستعمرة!) فالنقل عندنا هو كل
شئ؛ فإذا شئنا التحرر من ربقة النقل الصريح فزعنا إلى (الاقتباس) والمحاكاة، ومن هنا كان الكاتب ينقل القصة - مثلاً - عن كاتب غربي ثم يحور أسماء الأشخاص والأماكن، ويغير طابع الرواية بعض التغيير، ثم يخرجها إلى الناس قصة مصرية!
وحالنا في هذا تحاكي الحال التي آل إليها الأدب في العصر العباسي حين كان الكتاب لا يقرأ إلا إذا نص عليه بأنه منقول عن الفارسية، وقيل في هذا الشأن إن عبد الله بن المقفع وضع كتاب (كليلة ودمنة) وضعاً، ثم نحله إلى الهند وفارس ليقرأه الناس ويجدوا فيه متاعاً!
ولما كان الشيء بالشيء يذكر؛ فإن كاتب هذه السطور يذكر أنه كان محرراً بإحدى الصحف اليومية المصرية، وكان صاحب الصحيفة من المولعين بالترجمة؛ فكان لا يسيغ مقالاً من إنشاء المحرر، ولو ضرب به المثل في البلاغة ونصاعة البيان، بيد أنه كان يتطاير طرباً كلما بصر بمقال مترجم عن كاتب أوربي مهما تكن قيمته! ومن هنا كان كل محرر منا يبذل الجهد الجهيد في كتابة مقال، فإذا شاء أن يحظى بتقدير صاحب الجريدة نسبه إلى التيمس أو الطان - مثلاً - رحمة الله وغفر لنا وله!
هذا مثال لسنا مغرقين فيه علم الله، يدل على مقدار ما بلغه الأدب عندنا من التدهور. . . وعلى ذلك يقتضينا الأمر أن نفك الأغلال التي ناء بها أدبنا حتى يكون أدب ما بعد الحرب الراهنة أحسن حالاً من أدب ما بعد الحرب الماضية
نريد أن يكون أدب ما بعد الحرب أدباً ذاتياً مستقلاً يصدر عن أحاسيس ذاتية وخوالج نفسية صحيحة، وليس معنى ذلك أن نخنق (الترجمة) ونقضي على المنقول من اللغات الأخرى، وإنما نريد أن نتخير من كل حسن أحسنه، ثم يكون النتاج أخيراَ أدباً عربياً خالصاً فلا يضطرب المزاج ولا يطغي عنصر على عنصر. ولا نريد أن نسهب في هذه النقطة فسنفرد لها بحثاً خاصاً إن شاء الله
ولقد عابوا على الأدب العربي خلوه من القصص، على حين أنه يفهق بالقصص، وإنا لنكتب هذه الكلمة وبين أيدينا كتاب (مجمع الأمثال للميداني)، وهو كتاب لو نسق على الطريقة الحديثة لكان من أروع كتب القصص في سائر اللغات. وحتىلو سلمنا جدلاً بخلو الأدب العربي من القصص، فإن ذلك إنما يكون طبيعة مزاجية فيه، لا نقصاً يحسب عليه،
على أن العرب ليس لهم أن يشكوا خلو أدبهم من القصص بعد الحرب الحاضرة، فقد خاضوا غمراتها واشتركوا في ملاحمها، ولا مشاحة في أن هذا الصراع العالمي يخلق فيهم روح (القصة)، إذ كانت الحرب السالفة مادة لا يستهان بها في القصص الغربي
ولقد استطاع كتاب قلائل من المحدثين أن يخلقوا القصة (المصرية)، ولكنه بقي علينا أن نكتب القصة (العربية)، وهذا ما نحاول العمل في سبيله الآن
ولقد كان الأدب العربي فيما بعد الحرب الماضية إقليمياً أو محلياً إلى حد بعيد، فضعفت الصلة بين الأدباء المصريين والسوريين والعراقيين وغيرهم، فالكاتب المصري قل أن يعقد صلة أدبية مع كاتب آخر في سوريا أو العراق مثلاً، والصحف المصرية لا تنشر في الغالب سوى مقالات الكتاب المصريين أو مقالات الكتاب الغربيين المترجمة، ولذا لا نحسب قارئ الصحف العادي يعرف أحداً من كبار الكتاب العرب خارج مصر، ونحن المصريين لا نخلي أنفسنا من تبعة هذا القصور، ولا نحاول دفع التهمة إلا بإزالة أسبابها
وهنا يؤدي بنا الكلام إلى التعريج على (الفكرة الإسلامية) و (الفكرة العربية) وأيهما أولى بالتفضيل. ونحن هنا في مصر نمزج الفكرتين ولا نجد فرقاً بينهما. أما في البلاد العربية الأخرى فيأخذون على المصريين تمسكهم بهذا المزج. ويرون في ذلك ضرباً من التعصب الديني. ولا نحسب الأمر على هذا التصوير يصيب الحقيقة المجردة. ذلك لأن الفكرة (الإسلامية) أعم من الفكرة (العربية)، فكان من الطبيعي أن تطوي أولاهما أخرهما وتحتويها، ولقد سفه الإسلام النعرة العنصرية والجنسية
وهنا نقول أيضاً إن الشقة بعدت بين الكتاب المصريين ورصفائهم العرب بسبب النزعتين (الفرعونية) و (العربية) ثم (الشرقية) و (الإسلامية)، وقد ذهب أحد الزعماء المصريين إلى لبنان مصطافاً قبل بضعة عشر عاماً وأقيم له حفل خطب فيه زعيم لبناني معروف فقال (نريد أن تكونوا معنا عرباً لا شرقيين ولا فراعنة) والحق أن المصريين لا يستطيعون أن يجردوا أنفسهم من ميراثهم الفرعوني القديم، ولكن هذا لا يحملهم على الازورار عن القافلة العربية والتخلف عن الركب الإسلامي العظيم، ولا نستطيع أن نفرق بين النزعتين العربية والإسلامية، فقد كان الإسلام على فطرته وبساطته يوم كانت الإمبراطورية الإسلامية عربية خالصة، ولم تدخل المذاهب الملية المعقدة إلا حين دالت
دولة العرب وخرج الأمر عن أيديهم، وكان العرب كذلك أعرف الناس بالتسامح الديني لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فلما آل الأمر إلى الأعاجم جهلوا معنى التسامح فكانت الحروب الصليبية الغاشمة
فإذا صحح الكتاب المصريون نظرتهم إلى (الفرعونية) تحتم على الكتاب العرب في الأقطار الأخرى أن يصححوا نظرتهم إلى الفكرة (الإسلامية العربية) على اعتبار أنها وحدة لا تتجزأ
بقي بعد ذلك أن يعالج الأدب مسائل الإصلاح الاجتماعي علاج الباحث المحقق، فكلنا ما برح في مثل هذه المسائل كحاطب ليل، على حين أنها من صميم الأدب الحديث.
ولعل اتجاه الأدب العربي بعد الحرب القائمة يكون منصرفاً إلى الدعوة إلى زيادة الإنتاج القومي والأخذ بأسس الاقتصاد الصحيح. وهذه كلها نقاط مجملة نرجو أن تسمح لنا الظروف بعلاجها في شئ من التفصيل.
(الرمل)
منصور جاب الله
7 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)
(قرآن كريم)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
طلع زكي مبارك بمقاليه كما يطلع الشيطان بقرنيه. لا يستجيب إلى خير، ولا يبصر هدى، ولا يدعوا إلى رشد، ولا يأتي إلا بإثم أو إفك أو ضلال
وبضاعة زكي مبارك كلام يلقيه لا يدري أعليه يكون أم له، بل يلقيه بظن أنه له فإذا هو عليه، وهذا من خذلان الله له، ومن يحارب الله مخذول.
إن كان أحد عدو نفسه فذلك زكي مبارك. يبلغ منها بجهله وغروره ما لا يبلغ الخصم بعقله. يريد أن يخفي معايبها فيدل عليها، ويريد أن يدرأ عنها فيبدي عن مقاتلها
لقد كتب يدافع عن نفسه فأمكن منها في كل موقف من مواقف الدفاع: أمكن منها حين صاح مرتين يستغيث بالدكتور طه حسين، وماذا يملك له الدكتور طه وهو يجمع على نفسه من الاعترافات ما يوبق أقله ويهلك
وأمكن منها حين اعترف متطوعاً مختاراً بأن في كتابه آراء في أعجاز القرآن أخطر من الآراء التي رويناها له. وهو يعلم أي آراء روينا، ويعلم أن ما كشفناه للناس من آرائه قد هدمه وهده، ولا زال يمضه ويقض منه المضاجع. فأي نفع له في أن يقول إن هناك في كتابه ما هو شر وأخطر، اللهم إلا أن يكون أراد أن ينسب غيره إلى الغباوة، فنسب نفسه إلى الغباوة والحمق معاً. فإن الغبي الأحمق هو وحده الذي يريد أن يدفع عن نفسه فيعترف عليها اعترافاً كهذا فيه كل التأييد لما قال الخصم، وفيه بعد ذلك مزيد
وأمكن من نفسه حين أكد هذا الاعتراف بقوله إنه لو شاء لدل الخصم على تلك الآراء التي هي شر وأخطر! ونحن نعرف من كتابه كل ما يخاف كما قد أنذرناه، ومع ذلك فما الحاجة إلى تلك الآراء وقد دمغته أخواتها دمغة سيعرف بها ما عاش؟ ألا يكفيه من الوسم ما بلغ العظم؟ ألا يكفيه من الغل ما أحاط بالعنق؟ أم هو يريد غلاً يأخذ منه بالمخانق حتى يكتم منه الأنفاس؟ لينتظر فسيرى أنا نعرف منه ومما كتب ما لا يخطر له ببال.
وأمكن من نفسه حين زعم لنفسه الشجاعة والصراحة ونفاها عن غيره. وأي صراحة يدعي أو أي صراحة يبغي بعد الذي كان؟ لقد صار حناه رأينا فيه، وأنصفناه إذ لم نقتصر على الادعاء كما يفعل هو مع الناس، بل جئنا على الدعوى بالدليل لنمكنه من إبطال الدليل إن استطاع. واجهناه وجابهناه بالتهمة ودليلها وهو حي يرزق يستطيع أن يدفع عن نفسه: بالحق إن كان لديه، أو بالباطل كما يفعل الآن. ألا يقارن هذا بما فعل هو مع الشيخ مصطفى القاياتي رحمة الله؟ زعم في بعض ما كتب ما لم يكن ليجرؤ على زعمه لو كان الشيخ القاياتي حياً، وما ليس يصدقه فيه أحد، من أنه كان - أي زكي مبارك - وهو تلميذ يحضر لمصطفى القاياتي محاضراته وهو أستاذ! ثم لا يستحي زكي مبارك بعد هذا أن يحشر نفسه في عداد الصرحاء الأشراف!
هكذا أمكن زكي مبارك من نفسه، كما أمكن منها حين سمي ظهوري عليه بالحجة طغياناً، وحين علل هذا الطغيان بعلمي أن الرقابة تمنع نشر المجادلة الدينية! أما إنه الحق يطغي على الباطل ولؤمه، لا الحق يمنع من ظهوره الرقيب. ومع ذلك فما حاجة زكي مبارك إلى المجادلة مطلقاً إن كان رأيه في القرآن وإعجازه رأي المسلمين من لدن عصر النبي الكريم إلى اليوم؟ ما حاجته إلى المجادلة الدينية التي يمنع منها الرقيب، إن كان يمكنه التوفيق بين النصوص التي أوردناها عليه من كلامه وبين عقيدة المسلمين في القرآن؟ إن أحداً لا يعرف أن الرقابة تمنعه من تأويل كلامه إلى ما يطابق عقيدة المسلمين ويوافق إجماع علمائهم. أما الجدل الذي يراد به تبرير إنكار إعجاز القرآن أو إثبات أن القرآن من كلام البشر فنعم منع الرقابة منه، ونعم عقاب القانون عليه. فهل هذا هو الجدل الذي كان يريد زكي مبارك والذي لا يجد إليه السبيل؟ إذن فقد أراد أن يعتذر عن نفسه فاعترف عليها حين أراد أن يحتمي هذا الاحتماء بالرقيب
ومع ذلك فالمسألة بيننا هي رأي زكي مبارك في القرآن لا دليل زكي مبارك على ذلك الرأي. فإذا كانت الرقابة تمنعه من الجدال عن رأيه بالدليل فذلك شهادة منه ومن الرقابة أن رأيه ليس مما يجوز عنه الدفاع، كما لا يجوز الدفاع مثلاً عن رأي زاعم لو زعم أن مصر لا يحق لها الاستقلال
إن هذا الغبي الأحمق لا يستطيع لأن يفهم أنه ينال من نفسه أكبر النيل بدفاعه عنها هذا
الدفاع. إنه كالغريق في الحمأة لا يزيده جهاده للخلاص منها إلا غوصاً فيها حتى يلتئم سطحها فوق رأسه، وكان خيراً له ألا يقربها، فإذا قاربها فقد كان أنجى له ألا يتورط فيها
ومحاولة الرجل الخلاص بالكذب أو بالمكابرة أو بالمغالطة والمهاترة لا تنفع ولا تجدي. فليس ينفعه مثلاً أن يلجأ إلى حيلته القديمة التي نبهنا إليها في التمهيد، فيسمي الأشياء بغير أسمائها أو بضد أسمائها، كما يفعل من تسمية العلم جهلاً والجهل علماً، أو الإسلام إلحاداً والإلحاد إسلاماً وإيماناً. فهذه الحيلة التي قد تجوز على الناس عند انبهام الأمر، لا يمكن أن تجوز على أحد في البسائط الواضحة والبديهات المسلمة
وموضوع الخصومة بيننا وبين هذا الآفك هو في دائرة البسيط البديهي؛ دائرة المسلَّم المعروف من الدين بالضرورة؛ دائرة الأموال التي هي فصل بين الإسلام وغير الإسلام، بين المسلم وغير المسلم: دائرة إعجاز القرآن، وأن القرآن كلام الله لا كلام البشر، وأن الأنبياء والرسل ليس لهم من الدين إلا تبليغه، وأن وحي الله إليهم ليس كهذا الذي يسميه الشعراء والمفكرون إلهاماً. هذه الأصول المسلمة عند المسلمين كافة، المعلومة من الدين بالضرورة هي موضوع الكلام بيننا وبين زكي مبارك، وموضوع الخصومة. وهو ينكرها ويكابر فيزعم أننا نفتري عليه الإلحاد
المسلمون كافة يقولون إن القرآن معجز، ويفهمون من إعجازه إعجاز الأسلوب قبل كل شئ، وهو يقول إن القرآن غير معجز وإن أسلوبه أسلوب عادي يقدر عليه جميع الكاتبين. ثم يزعم أنه قد أقنع المثقفين بإعجاز القرآن!
إن إنكار إعجاز الأسلوب يستتبع حتماً إنكار إعجاز المعنى إلا في المواطن التي يكون فيها المعنى من النبوءات التي تحققت بالفعل، أو يكون من العلميات التي يحققها البحث العلمي على مر الزمان. فكثير مثلاً من قصص القرآن كان معروفاً، إن لم يكن للعرب فللنصارى واليهود في التوراة والإنجيل. ومن السهل على المكابر أن يدعي أن محمداً درس أو أن محمداً سمع. وقد قيل ذلك بالفعل. قالوا فيما حكي الله عنهم:(لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين). حتى لو لم يكن القصص معروفاًُ لسهل على المكابر بعد معرفته أن يدعي أنه كان غير مجهول، بل لصعب جداً على غير المكابر أن يطمئن إلى أنه لم يكن معروفاً من قبل، ولاستحال إثبات ذلك إثباتاً يرتفع معه كل شك، إن لم يكن في عصر النبي
ففي ما بعد عصر النبي من العصور. فما الذي حال بين المنصفين من العرب في زمن النبي صلوات الله عليه وبين مثل هذا الشك في إعجاز القرآن وفي رسالة النبي؟ إعجاز الأسلوب! إعجاز الأسلوب حال بينهم وبين الشك
إن المعنى بعد أن صار معروفاً لهم كان يمكنهم التعبير عنه بالطبع، ولكن لا بأسلوب القرآن ولا بشيء يشتبه بأسلوب القرآن. وهذا بعض وجه الحجة عليهم في مثل قوله تعالى:(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). وسنعود فيما نستقبل من الكلمات إلى موقف صاحب الكتاب من هذه الآية بالذات كمثل ناطق بسوء فهمه وخلطه وإحالته حين يعرض للقرآن. أما الآن فيكفي أن ننبه إلى أن التحدي في الآية الكريمة بقوله تعالى (مثله) وفي غيرها من الآيات إنما هو تحد بالأسلوب قبل كل شئ، لأنهم بعد أن سمعوا بعض السور وعرفوا معناها كانوا يستطيعون أن يزعموا أن المعنى ملك للجميع، أخذوه هم كما أخذه محمد، ويعبرون عن المعنى بأي أساليبهم يرون أنه يقوم لأسلوب القرآن. ولو فعلوا وكان ذلك ممكناً لسقط التحدي به إلى الأبد. لكنهم لم يفعلوا ولم يكونوا ليفعلوا، لأنهم كانوا إزاء أسلوب لا يمكن تحديه، لا كما يزعم هذا الأفاك الأحمق إنه أسلوب في مقدور جميع الكاتبين
فالذي ينكر إعجاز الأسلوب مثل صاحب النثر الفني يلزمه حتماً أن ينكر إعجاز بعض القرآن على الأقل كالقصص القرآني أو بعضه، أسلوباً ومعنى، لأنه يستحيل عليه وقد أنكر إعجاز الأسلوب القصصي أن يزعم أن القصص نفسه معجز بالمعنى أو بالروح، كما يزعم أنه أقنع المثقفين بهذا النوع من الإعجاز في القرآن. وإذا سقط التحدي بقصص القرآن سقط التحدي بسورة من مثل القرآن، لأن كثيراً من قصص القرآن سور بأسرها، أو في قدر سورة من غير القصص، وإذن يسقط التحدي بالقرآن بأسره، لأن الله سبحانه حيت تحدي عباده بسورة من مثل القرآن لم يقيدهم بأي قيد في اختيار السورة. فلو اختاروها سورة قصص، أو جاءوا بقصص في قدر سورة ولو قصيرة من غير القصص، وكان ما جاءوا به يلتبس بالقرآن من حيث الأسلوب، لكانوا قد كسروا التحدي وبطلت معجزة القرآن بين العرب، فضلاً عمن جاء بعدهم ممن ليس له بصرهم بالفصاحة والبيان
فالنظر في هذا وتأمله جيداً وحكم عقلك ومنطقك ما شئت، تجد أن إنكار إعجاز الأسلوب
يؤدي حتماً إلى إنكار الإعجاز كله في القرآن كله؛ فإذا تبين لك هذا فاحكم حكمك على صاحب النثر الفني، منكر إعجاز أسلوب القرآن ومدعي إقناع المثقفين بإعجاز القرآن من ناحية الروح!
إن الرجل يلعب ويلهو بالخطير العظيم من الحق، ويكذب ويأفك على الناس وعلى الله رب الناس. لكن لا عجب فهو يخبرنا أنه لا يخاف الله إلا تأدباً، فهو لا يستشعر خوفاً حقيقياً منه سبحانه. فماذا يمنعه من الكذب والافتراء على الله؟
على أننا لم نفرغ بعد من هذا الأفاك
محمد أحمد الغمراوي
بضاعة القلم
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا جدال أن بضاعة القلم هي البضاعة التي تصدر خاماً من منجم الدماغ الإنساني، وتتحول إلى مصنع الحافظة للقيام بمهمة فرزها وضروب حياكتها. وما مصنع الحافظة سوى مستودع يعج بمفردات اللغة وشواردها، ومسبك يصب ألفاظها وتعابيرها. والملهمون وحدهم يحسنون خلق هذه البضاعة وإبداع نسجها، لأنها فريدة صعبة المراس، تقدر بالجودة لا بالكثرة.
فكم فص من الماس لا يساويه ألف فص، وكم قلادة من قلائد اليراع لا يعادلها ألف قلادة. فالثرثرة إذاً ليست أدباً، وحوشي اللفظ ليس بياناً، وانتحال أفكار الغير لا يعد نتاجاً، واجترار أقوالهم لا يعتبر فناً. إنما الأدب والبيان والفن نتاج يرتكز على دعائم الابتكار في المعنى، والبلاغة في المبني، والجزالة في الأسلوب، والإيجاز في التعبير
أما الابتكار في المعنى وهو بيت القصيد، فلا يبدعه غير الموهوبين. والموهوبون أنفسهم لا ينتجونه طريقاً إذا لم يستثمروا مناجم أدمغتهم، ويغرزوا في أعماق تلافيفها ومطاوي أغوارها معاول تفكيرهم ومهاميز جهادهم ليكشفوا عن مستغلق أرواحهم، وعن كل ما تلبد في مستودع أذهانهم، وتستر في مكنون طباعهم وخفايا غرائزهم. وأدباء العربية أحوج الأمم في هذا العصر إلى استغلال مناجم أدمغتهم. فهي ما تزال بكراً لم يستثمر منها غير اليسير الذي لا يروي غلة ولا يبل ظمأ
ومن العار أن تظل حياتنا الأدبية والعلمية مقصورة على معارف الجدود، أو مستمدة من نتاج أدمغة الغربيين نأخذ منهم ولا نعطيهم، ونتمتع بمستحدثاتهم العلمية وروائعهم الأدبية والفنية، ولا نبادلهم علماً يستحق الذكر، أو أدباً جديراً بالتقدير، أو فناً خليقاً بالإعجاب
إن العاجز يمثل دور الطفيلي ويعيش عيلاً على غيره. أما نحن فلسنا بالعاجزين. نحن أبناء أمة عريقة، لنا من ماضيها الزاخر بغرر الفكر، ومن تاريخها الحافل بجليل المآثر، ما يؤهلنا لمماشاة أرقى الأمم حضارة وعلماً، وما يذكي فينا روح المساهمة الواجبة علينا إزاء العالم، في حلبة الإبداع والتجدد.
وليس يعوزنا غير التضلع في العلوم والفنون والصناعات، والاطلاع على طارفها وتالدها،
والتعمق في درسها وتمحيصها لاستجلاء كنوزها. ثم التمرن على أشغال الذهن ومواصلة التفكير لبعث ملكة الاستنباط الراقدة في حنايا أدمغتنا البكر، وهذا كله في متناول أيدينا. فجامعاتنا ومدارسنا ومكتباتنا كلها تزخر بمختلف المعارف الإنسانية، ينهل منها الطالب ما يشاء، ويثقف نفسه ما شاء لها من التثقيف.
ولكن هل من السهل إجهاد الذهن لاستخراج ما فيه من الدرر واللآلئ؟ إنه لعمري إجهاد عنيف لا يضاهيه إجهاد الغواص لاستخراج لآلئ البحر، يتطلب علماً وجلداً وخبرة في الحياة، ويستدعي جهداً خارقاً في التفكير، ورهفاً دقيقاً في الملاحظة، وإنعاماً خالصاً في الروية، تتعاون كلها على بعث اليقظة في الحواشي والوعي في البصيرة. والحواشي المستيقظة والبصيرة الواعية مصراعا الدماغ، لا ينفذ إلى دخائله دونهما، ولا تستخرج درره الكامنة في أغواره إلا بهما.
فلا شئ في هذا الكون يجني عفو الخاطر، بل بشق النفس وإجهاد الجسم والعقل
فالعلم الذي نستوعبه بحول، هو نتاج كفاح الأجيال. والكتاب الذي نتصفحه بساعة هو نتيجة جهاد الأعوام. والصناعات التي نتمتع بأدواتها المدهشة، قد صرف مبدعوها العمر كله لإيجادها. والأدوية الناجعة التي نفزع إليها عند الحاجة، ونتناولها ساعة نشاء، قد بذل في سبيل تحضيرها واكتشافها دماء القلب وعصارة الروح
فارتقاء الإنسان إذاً مصدره الفكر. ولولا أعمال الفكر الشاقة، لما كانت الحضارة ومستحدثاتها ولا العلم ونواميسه. فكل جليل وجميل في الكون تمخض فكراً في الذهن قبل أن تجسم كتاباً، أو تحول آلة أو تقمص فناً
فمن شاء الخلق والإبداع فليفكر. وألا يمل من التفكير. فمن لا يزرع لا يحصد، ومن لا يواصل التفكير لا يخلق ولا يبدع
إن الجسم لا تقوى عضلاته بلا مواصلة العمل والرياضة. . . هكذا الدماغ وهو خير ما في الجسم من عضل وخلايا لا تتفتح مواهبه الخالقة، وتشتد قواه المبدعة إلا بقوة المران والتفكير المستمر. ولا يغرب عن البال أن الثقة بالنفس هي أساس الفكر، فمن وثق بنفسه فكر بدماغه دون أن يتوكأ على أدمغة الآخرين. وما الإحجام والخمول والتواكل سوى قيود مرهقة للنفس. يتحتم علينا أن نتحرر منها ليتسع أفق تفكيرنا ونتاج عقولنا
أما البلاغة في المبني فمزيتها خلوها من الحشو والتكلف، وبعدها عن الإبهام والتعقيد، وحرصها على الوضوح والطلاوة ومجيئها عن محض الشعور والسجية. هكذا الأسلوب لا يعتبر جزلاً إلا إذا كان سهلاً ممتعاً، مؤدياً المعنى بلغة صحيحة، وعبارة رشيقة، ولفظ متلائم
أما الإيجاز في التعبير، فهو من أهم لزوميات هذا العصر الخاطف، الذي جعل الناس يتنقلون من قطر إلى قطر بسرعة تبز جوارح الطير، ويرسلون أصواتهم وأفكارهم من قطب إلى قطب، كما ترسل الصواعق
لقد مضي عهد المداورات والمترادفات، وتصرم زمن الاستغراق في الكنايات والاستعارات، وجاء العهد الذي يستدعي الكاتب النفاذ إلى لب الموضوع بسرعة توازي سرعة العصر الذي نعيش فيه
فالمعاني التي تستوعب بصفحة من خطل الرأي أن نعبر عنها بصفحات. والفكرة التي توضح بجملة من الخطأ أن نمدها في كثرة الجمل. فالكتاب الشائق في هذا العصر هو الكتاب السهل المأخذ، الغني بروي البيان والفكر والتعبير الموجز
أما المطولات فقد تصرم عهدها وطوتها الرفوف
إني أوثر اليوم أن تنسج بضاعة القلم على هذا النحو، فلكل عصر بضاعة كما لكل عصر رجال.
(بيروت)
توفيق حسن الشرتوني
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
574 -
فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه
في السياسة الإلهية لابن تيمية:
سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو. أحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى
فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه. وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين. يُغزى مع القوى الفاجر
575 -
قارئ عجيب
في (الحوادث الجامعة في المئة السابعة) لابن الفوطي: في سنة (637) توفي الشيخ علي بن حازم القارئ المعروف بالأبله، كان آية في حفظ القرآن المجيد، وتجويد قراءته، يقرأ كل سورة شاء معكوسة، واختير له مرة على سبيل الامتحان سورة (الرحمن والقمر والجن) فقرأ ثلاث السور معكوسة دفعة واحدة من كل سورة آية، وكان يقرأ من كل سورة شاء آية من أولها وآية من آخرها ويختمها في وسطها. ومع هذا كله كان عنده بله، وميل إلى اللعب مع الصغار والتشبه في أفعالهم مع علو سنه
576 -
يأكل ليعيش لا يعيش ليأكل
في (رسائل أبو بكر الخوارزمي): حق على العاقل أن يأكل ليعيش، لا يعيش ليأكل، وكفى بالمرء عاراً أن يكون صريع مأكله. وقتيل أنامله، وأن يجني ببعضه على كله، ويعين فرعه على أصله، فكم من لقمة أتلفت نفس حر، وكم من أكلة منعت أكلات دهر، وكم من حلاوة تحتها مرارة الموت، وكم من عذوبة خلفها بشاعة الفوت. ومن غلبت شهوته على رأيه شهد على نفسه بالبهيمية وانخلع عن ريقة الإنسانية
577 -
لم يكن من يجور
(المحاسن والمساوئ) لإبراهيم بن محمد البيهقي:
لولا من يقبل الجوار لم يكن من يجور
578 -
لا تحسن أن تقول كقوله
في (الصبح المنبي): حكي صاحب المفاوضة قال: كان سيف الدولة يميل إلى أبي العباس النامي الشاعر ميلاً شديداً إلى أن جاء المتنبي فمال عنه إليه، فغاظ ذلك أبا العباس، فلما كان ذات يوم خلا به وعاتبه وقال:
الأمير لم يفضل عليَّ المتنبي؟ فأمسك سيف الدولة عن جوابه فلج وألح وطالبه بالجواب، فقال: لأنك لا تحسن أن تقول:
يعود من كل فتح غير مفتخر
…
وقد أغذ إليه غير محتفل
ملحمة السراب.
. .!
القسم الثاني
للدكتور إبراهيم ناجي
ما بقائي وأجمل العمر ولّى
…
وانتظاري حتى يحين الشتاء
تعست حقبة تغير وجه ال
…
كون فيها وحالتِ الأشياء
يطلع الفجر مرهَقاًُ شاحب النو
…
رعليه الكلال والإعياء
وأرى الصبح في المشارق يحبو
…
ما به نضرةٌ ولا لأَلاء
قد علا طلعةَ النهار شحوبٌ
…
واصفرار واعتلّت الأضواء
وبنفسي دب المساء وحلْ اللي
…
ل من قبل أن يحين المساء
عُدْتني كالربيع في موكب الزه
…
ر له روعة وفيه رُواء
ولك الوجه أومض السحر فيه
…
والتقي الحسن عنده والذكاء
وشحوب كَظل راحٍ وللنَّد
…
مان تجلو شحوبها الصهباء
ولك الكرم ذو العناقيد رفّت
…
وتهادت فروعه الملساء
ولك الجيد أتلعاً أودع الصا
…
نع فيه من قدرة ما يشاء
قُدْ من مرمر وشعشعه الفج
…
ر بورد وصُب فيه الضياء
ولك المقلة التي يشرئب السه
…
م من لحظها ويغضي الحياء
ولك اللفظة التي تبعث الها
…
مد حيَّا كأنها كهرباء
وأنا الطائر الذي تصطبي نف
…
سي السموات والذّرا الشماء
راشني صائدٌ رماني فأدماني
…
وولَّى الجاني وعاش الداء
كلما مرت الليالي يزيد الجرح
…
غوراً والطعنة النجلاء
طُويتْ رحلتي وودعتُ أح
…
لامي فنفسي من الأماني براء
كثرت حَيْرَتي وزادت تباريحي
…
وشكي وما لحزني انتهاء
مرحباً بالهوى الكبير فإن يب
…
ق وإن تسلمي بطب لنفسي البقاء
فهو القمة التي تهزم المو
…
ت ولا يرتقي إليها الفناء
إبراهيم ناجي
مزامير!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ليتني كنتُ صلاةً
…
في كهوف الناسكينا
أتلاشى في طريق الل
…
هـ شوقاً وحنيناً. . .
ليتني كنت غِناءً
…
تائهاً فوق الصحاري
هزَّني طيرٌ غريبٌ
…
فوق رُكبان حيارَى
لَيتني كنت شعاعاً
…
في ليالي الحائرينا
أسكب السُّلوان للدم
…
ع وأغتال الأنينا. . .
ليتني كنت سكوناً
…
خاشعاً بين الجبال
تَتَلَاقى فِيَّ آيا
…
ت وجودي بالزوال
ليتني كنت غداً لا
…
تعلم الأقدار سرَّهْ
أو نشيداً ضنَّ شادي
…
الغيب أن يعزف نبرهْ
ليتني كنتُ على لُجِّ (م)
…
البحار الخضر زورقْ
كيفما شاءت بي الريح (م)
…
على الأمواج تخفِقْ
ليتني كنت حفيف ال
…
غاب في آذان بيدِ
يسمع الليلُ صبابا
…
تي ويُصغي لنشيدي
ليتني كنت صفير الح
…
ب من نايِ الرُّعاةِ
تشرب الوديان والقط
…
عان خمراً من لهاتي
ليتني كنت عصاً
…
في كف أعمى لا يراها
هي تهديه ولكن
…
مَن إلى النور هداها!
ليتني كنت غراماً
…
بين جنبَيْ عاشقْينْ
سًمِعا إنشادَ نِيرا
…
ني. . . فظلا خاشعيْنْ
ليتني كنت رياحاً
…
تهتفُ الآبادُ منها
أنا أهواها. . . ولكن
…
رغم أنفي لم أكُنْها
محمود حسن إسماعيل
البريد الدبي
الوجود المادي
1 -
أشكر عظيم الشكر لحضرة اللوذعي المفضال الأستاذ دريني خشبة تفضله عليَّ (بالفاضلية والمحبوبية) وهو بهما أجدر مني وأليق
2 -
أرجو من حضرته ألا يزجني في معركة وحدة الوجود لأني لا أصلح جندياً فيها. وما تعرضت لها في العدد السابق من الرسالة إلا لأنني كنت أود حقيقة أن أعلم ماذا يراد بوحدة الوجود
3 -
أرجو من الأستاذ دريني أن يراجع ما قلته في مقالي السابق لكي يتحقق جيداً أني لم أقل إن مقاله الثالث زاد النظرية غموضاً: بل قلت بكل وضوح وصراحة لا تقبل التأويل، إن ما سرده من نظريات فلاسفة اليونان زاده غموضاً لأنها سلاسل سخافات كنشوء الكون من الرطوبة الخ. فهي لا تستحق أن يستشهد بها ولا يستفاد منها شئ لتعريف وحدة الوجود. لذلك أرجو منه أن يصحح عبارته لكيلا يفهم القراء أني نسبت إليه قولاً لم يقله
4 -
فهمت من كلمة (الوجود) الكون المادي، لأن ما استشهد حضرته به من أقوال فلاسفة اليونان يدل دلالة صريحة على أن هؤلاء الفلاسفة عنوا بالوجود أصله المادي لا غير. كذا فهمت. وهو واضح من قولي (إذا كان المراد بوحدة الوجود أن الكون كله من ذرات وأجسام نشأ من هيولي واحدة الخ. فهو ما أثبته العلم الحديث الخ). فعن الوجود المادي تكلمت، وهو الذي عنيت، وطبيعته قصدت. ولذلك لا أسلم بهيولي أخرى غير هيولاه ما دمت لا أحس بهيولي أخرى. ففي عقيدتي أن كل ما أحس به بإحدى حواسي هو من طبيعة هذا الوجود الهيولي ولا غيره. وما وراء الطبيعة لا أحس به إذن فليس هو من الوجود المادي. ولذلك قلت إنه لا شئ وراء الطبيعة المادية. أما إذا كان وراء الطبيعة شئ آخر وهو الروح فهو وجود غير مادي، غير طبيعي. ولذلك تنصلت من التعرض له
5 -
أما قول أستاذنا الفاضل دريني إن القضية قضية إسلامية فأقول بشأنه أني لم أنازع في هذه القضية ولن أنازع على الرغم من أن قضية نسبة الوجود إلى الله (رب العلمين) ليست إسلامية بحتة بل هي قضية عالمية ولا تحتكرها أية أمة دون أخرى. على أني لا أتعرض لها بأي حال
6 -
وهو موضوع خرج من دائرة قصدي فيما كتبت وإنما استدرجني إليه أستاذنا دريني بقوله أخيراً: ما رأى الأستاذ نقولا الحداد في هذه الفلسفة التي لا تعترف بالعالم أو الطبيعة الخ. رأيي أني لا أستطيع أن أعتقد بأن ما أحس به بحواسي الخمس هو وهم كما حاول الفلاسفة التصوريون أن يقنعونا وكبيرهم الفيلسوف بركلي في أواخر القرن السادس عشر على الرغم من مقدرته المنطقية في الإقناع. إن حواسي بنات أفعال المادة في جسدي فلا أقدر أن أكذبها أو أقول إنها تخدعني. وهذا موضوع عويص جداً أتهيب أن أتصدى له.
نقولا الحداد
الجائزة الأدبية
كنت في مجلس ضم عشرة من الأدباء، فيهم ثلاثة من الأقطاب، أي إذا ذكر الأدب في مصر أو في العالم العربي كان هؤلاء من المتقدمين
جرى الحديث في القصيدة بشر فارس والجائزة الأدبية التي لم يفز بها واحد من الأدباء، فحمل واحد من هؤلاء الأقطاب (ولا أسميه الآن) على شعر بشر فارس حملة تؤيد الغرض الذي رميت إليه في وضع الجائزة، وتؤيد أيضاً رأي الأستاذ الجليل (أ. ع) في أنها غير مفهومة لا يمكن شرحها ولا معرفة غرض ناظمها
ثم بلغني من رجل صادق الرواية، أن ذاك الأديب القطب الكبير قال للشاعر بشر فارس، إن قصيدته وعنوانها:(إلى زائرة) واضحة مفهومة، وأنه شرح لي ستة أبيات من ثمانية أبيات هي كل القصيدة ففهمتها، وقال أيضاً إن العيب ليس في شعر بشر فارس بل المرض في فهم من لا يفهمون هذا الضرب من الشعر ولا يفطنون إلى بدائعه!
لا يسعني، وقد بلغتني الرواية كما وقعت، إلا مطالبة الأستاذ الأديب القطب الكبير ببعث شرح الأبيات الستة التي قال أنه شرحها لي ففهمتها، إلى الرسالة ليعرض على القراء، وإني أنقده أجراً على ذلك عشرة جنيهات لا خمسة.
حبيب الزحلاوي
حول وحدة الوجود أيضاً
علمتنا الفلسفة أن البطل لا يصير حقاً بكثرة منتحليه، والحق لا يستحيل باطلاً بقلة
معتقديه. فلئن كثر الناقمون على وحدة الوجود من كتاب (الرسالة)، إلا أن هذا لن يصرفنا عن تبرئة أصحاب هذه المقالة مما ينسب إليهم. فأما القول بأن وحدة الوجود تدعو إلى التدهور الأخلاقي والتحلل من الآداب، فهذا قول باطل مردود، وليس أدل على فساد هذا الحكم من أن ابن عربي نفسه - وهو أمام أصحاب هذا المذهب - كان (يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات)، كما شهد بذلك ابن تيمية نفسه. وأما القول بأن عبارة ابن عربي القائلة بأن العالم ما له وجود حقيقي (وهي تلك العبارة التي جعل منها الأستاذ دريني خشبة محوراً لرده، واتخذها ذريعة للسخرية من الفلسفة) عبارة فاسدة تنبو على العقل، وتند على المنطق، فهذا قول مرفوض منقوض، لأن ابن عربي لا يعني بالوجود هنا، ذلك الوجود المحسن الملموس، بل يعني الوجود الحقيقي الذي لا يتطاول إليه الوهم، ولا يرقي إليه العقل الإنساني القاصر. فكل ما تدل عليه هذه العبارة، هو أن وجود المحدثات المخلوقات ليس بوجود حقيقي، لأنه وجود عارض يلحقه التغير، ويتوقف على وجود غيره؛ في حين أن وجود الله الذي لا يثبت كونه إلا بعينه، وجود واجب لا يعرض له التغير والإمكان، ولا تلحقه الإضافة والتقييد بحال
أما تلك الأحكام السريعة المبتسرة التي يطلقها البعض على مذهب فلسفي عميق كمذهب وحدة الوجود، من غير تثبت أو تحقيق، ومن دون بحث أو تدقيق؛ فهذا ما لا نعني أنفسنا بالرجوع إليه وإدامة النظر فيه - وحسبنا أن نقرر هنا ما لمذهب وحدة الوجود من نزعة واحدية تتفق مع اتجاه العلم الحديث (وهو ما أظهرنا عليه أرنست هيكل عند حديثه عن هذا المذهب في كتابه (لغز الكون))، وما ينطوي عليه هذا المذهب من تنزيه بالغ استحال معه العالم إلى موجود متوهم ما له وجود حقيقي وأصبح الله وحده هو الموجود!
هذه كلمة ثانية أكتبها دفعاً لكل شبهة، ولن أردفها بأخرى مهما بدا للأستاذ الفاضل دريني خشبة أن يقول. فإن مثل هذه المسائل المعقدة قد لا تحتملها أعصاب القراء الفائرة في هذا القيظ!
زكريا إبراهيم